تفسير سورة النحل

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة النحل من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سورة النَّحل
(مَكِّيَّة)
ما سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهنَّ نزلنَ بين مكة والمدينة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(١)
(أَمْرُ اللَّهِ) ما وَعَدهم الله به من المجازاة على كفرهم من أصناف
العذاب، والدليل على ذلك قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)
أي جاء ما وعدناهم به، وكذلك قوله: (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا)
وذلك أنهم استعجلوا العذاب واستبطأوا أَمْرَ الساعة، فأعلم اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن ذلك في قُرْبهِ بمنزلة ما قد أتى، كما قال: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)
وكما قال: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).
وقوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
معناه تنزيهه من السوء، كذلك جاء في الحديث عن النبي - ﷺ - وكذلك
فسَّره أهل اللغة، قالوا: معناه تنزيه اللَّه م@ت السو@و، وبراءة الله من السوء.
قال الشاعر:
أقول لما جاء في فخره... سبحان من علقمة الفاجر
أي براءة منه.
* * *
وقوله: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
ويقرأ: تُنَزَّلُ الملائكةُ، ويجوز فيها أوجه لا أعلمه قرئ بها: ينَزِّل
الملائكة، وُينْزِلُ الملائكةَ، وتَنَزَّلُ الملائكةُ بالروح - والروح - واللَّه أعلم -
كان فيه من أمر الله حياة للنفوس والِإرشاد إلى أمر اللَّه، والدليل على ذلك
قوله: (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).
المعنى أنْذِرُوا أهلَ الكفْر والمعَاصي بأنَّه لا إله إلاَّ أنا، أي مروهم
بتوحيدي، وألَّا يشركوا بي شيئاً.
ثم أعلم ما يَدُل على توحيده مما خلق فقال:
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
ارتفع عن الذين أشركوهم به، لأنهم لاَ يَخْلُقُون شيئاً وهما يُخْلَقون.
* * *
وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
اختصر ههنا، وذكر تقلبَ أحْوال الِإنْسانِ في غير مكان من القرآن.
* * *
وقوله: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥)
نصب الأنعام على فعل مضمر، المعنى خلق الأنعام خلقها، مفسِّر
للمضمر، والدفء ما يُدْفِئُهمْ من أوبَارِهَا وأصْوَافِهَا.
وأكْثَرُ ما تستعمل الأنعام في الِإبل خاصة، وتكون للِإبل والغَنَم والبقر، فأخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في الأنعام ما يدفئنا، ولم يقل لكم فيها مَا يُكِنُّكُمْ ويدفئكم من البرد، لأن ما ستر
(١) قال السَّمين:
قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الملائكة﴾: قد تقدَّم الخلافُ في «يُنَزِّل» بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة. وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم «تَنَزَّلُ» مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ، «الملائكةُ» رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك، إلا أنه خَفَّف الزايَ. وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم «تَنَزَّلُ» بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل، والأصلُ: «تَتَنَزَّل» بتاءَيْن. وقرأ ابنُ أبي عبلة «نُنَزِّلُ» بنونينِ وتشديدِ الزايِ، «الملائكةَ» نصباً، وقتادةُ كذلك إلا أنه بالتخفيف. قال ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ» ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك، ووجهُه: أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ، وتخريجُه على الالتفات.
اهـ (الدر المصون).
من الحرِ سَتَر مِنَ البَرْدِ، وما ستر من البردِ ستر من الحرِّ، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - في موضع آخر: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فعلم أنها تقي البرد أيضاً، وكذلك إذا قيل: (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ) علم أنها تستر من البرْدِ، وتسَترٌ من الحرِّ.
وقوله: (وَمَنَافِعُ).
أي ومنافعها ألبانها وأبوالها وغير ذلك.
(وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
الإراحة أن تروح الإبل من مراعيها إلى الموضع الذي تقيم فيه
(وَحِينَ تَسْرَحُونَ)، أي حين تُخَلونها للرعْي، وفيما ملكه الإنسان جمال " وزينة - كما قال عزَّ وجلَّ: (المَالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا)، والمال ليس يخص الوَرِق والعينَ دونَ الأمْلَاك، وأكثر مال العرب الِإبل، كما أن أكثر أمْوال أهل البصرة النخَلُ.
إنما يقولون مال فلان بموضع كذا وكذا يعنون النخل.
* * *
وقوله: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٧)
(أَثْقَالَكُمْ) (إِثْقَالَكُمْ)
تقرأ بالفتح والكسر، أي لو تكلفتم بلوغه على غير الِإبَل لشَقَّ عَليكم ذلك.
وقوله: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(٨)
أي وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب، وكثير من الناس يقولون إنَّ
لحومَ الخيلِ والبِغَالِ والحَمِيرَ دَلَّتْ عليه هذه الآية أنها حرام، لأنه قال في الإبل
(وَمِنْهَا تأكُلُونَ.... وَلتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجةً في صدُورِكم)
وقال في الخيل (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً)
ولم يذكر فيها الأكل. وقال قوم لو
كانت حرمت بهذه الآية لم يحرم النبي - ﷺ - لحومَ الحُمرُ الأهلية، ولكفاه ما دَلَّ عليه القرآن. وهذا غلط لأن " القرآن قد دَلَّ على أن الخَمْرَ حرام، وقال النبي - ﷺ - حَرمَتْ الخمرَ بعينها. فذكر النبي - ﷺ - ما حُرِّمَ في الكتاب بأنه حرام.
توكيداً لَهُ وزيادةً في البيان.
ونصب (وزينةً) مفعول لها، المعنى وخَلَقَها زِينَةً.
* * *
وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
(٩)
أي على الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحججَ والبراهين
وقوله: (وَمِنْهَا جَائِرٌ).
جائر أي من السبل طرق غير قَاصِدَةٍ للحق.
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).
أي لو شاء اللَّه لأنزل آيةً تَضْطَرُ الخلْقَ إلى الإيمان به، ولكنه عزَّ وجلَّ: يهدي من يشاء ويدْعو إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
* * *
وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠)
المعنى أنه ينبت الشجرَ التي تَرْعَاهَا الإبِلُ، وكلُ ما أنْبِتَ على الأرْ ض
فهو شجر.
قال الشاعر يصف الخيل:
نعْلُفُها اللحمَ إذا عزَّ الشَجر... والخيل في إطْعَامِها اللحمَ ضَرَر
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجْدَبَتِ الأرض.
وقوله: (فيهِ تُسِيمُونَ).
أي تَرْعَوْنَ، يقال: أسَمْتُ الإبلَ إذا رعيتها، وقد سَامَت تسوم وهي
سائمة إذَا رعَتْ، وإنما أخدْ ذلك من السُّومَةِ، وَهِي العَلَامَةُ وتأويلها أنها تؤثر
في الأرض برَعْيِها علامات.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
(وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ).
معنى (مَوَاخِرَ فِيهِ) جواري تجري جرياً، وتشق الماء شَقا.
* * *
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(١٥)
(رواسيَ) جِبَالاً رواسي ثوابت، (أَنْ تَمِيدَ) معناهُ كَرَاهةَ أنْ تميد ومعنى تميد
لا تستقر، يقال ماد الرجل يميد ميداً، إذَا دِيرَ به والمَيْدَى: الذين يدار بهم إذا ركبوا في البحر، و (أَنْ تَمِيدَ) في موضع نصب، مفعول لها.
(وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا).
المعنى وجعل فيها رَوَاسيَ وأنهاراً وسُبُلاً، لأن معنى ألقى في الأرض
رواسي جعل فيها رواسي، ودليل ذلك قوله: (وَالجِبَالَ أوْتَاداً).
* * *
وقوله: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
النجم والنجوم في معنى واحدٍ، كما تقول: كثر الدرهَمُ في أيدي
الناسِ وكثرت الدراهم، خلق اللَّه - جل ثناؤه - النجوم لأشياءَ
منها أنها جُعِلَتْ زينةً للسماء الدنْيَا، ومنها أنها جعلت رُجُوماً للشياطين
ومنها أنها يُهْتَدى بِهَا، ومنها أنها يعلم بها عدد السنين والحساب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)
ويقرأ (تدعونَ من دون اللَّه) بالتاء والياء.
(لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
يُعنَى به الأوثانُ التي كانت تَعْبُدُهَا العَربُ.
* * *
(أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
أي وهم أموات غير أحياء.
وقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ).
- أي ما يشعرون متى يبعثون، و (أَيَّانَ) في موضع نصْبٍ بقوله (يُبْعَثُونَ) ولكنه
مَبني غيرُ منونٍ، لأنه بمعنى الاستفهام فلا يعرب كما لا تعرب كم ومتى وكيف وأين، إلَّا أن النون فتحت لالتقاء السَّاكنين.
فإن قال قائل: فهَلَّا كُسِرتْ؟
قيل الاختيار إذا كان قبلَ الساكن الأخير ألف أن يفتح، لأن الفتح أشبه بالألف وأخفْ معها.
وزعم سيبويه والخليل أنك إذا رَخَّمْتَ رجلًا اسمه أسْحَار، قلت يا أسْحَارَّ - بتشديد الراء - أقبل، ففتحت الراء لالتقاء السَّاكنين، - وكذلك تختار مع المفتوح الفتح، تقول إذا أمَرْت من
غُضَّ: غضَّ يا هذا..
* * *
وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
معنى (لَا جَرَمَ) حق أن اللَّه يعلم، ووجب، وقوله: " لا " رَد لفعلهم.
قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طَعْنَةً... جَرَمَتْ فَزَارةَ بَعدهَا أَن يغضبوا
المعنى أحقت فزارة بالغضب.
* * *
وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
" ما " مبتدأ، و " ذا " في موضع الذي. المعنى ما الذي أنزل ربكم.
وأساطير مرفوعة على الجواب، كأنهم قالوا: الَّذِي أنْزَلَ أساطير الأولين.
أي أكاذيب الأولين، واحدها أسْطورة.
* * *
وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
هؤلاء كانوا يصدون مَنْ أرَادَ اتبَاع النبي - ﷺ - وإذا سُئِلُوا عما أتَى به - قالوا الذي جاء أساطير الأولين، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم يحملون بذلك آثام الذين كفروا بقولهم.. ولا يُنْقِصُ ذلك من إثم التابع.
وقوله: (ألَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
" ما " في موضع رفع، كما ترفع بنعم وبئس، المعنى ساء الشيء
وِزْرُهم، هذا كما تقول: بئسِ الشيءِ.
* * *
وقوله: (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٦)
أي من أساطين البناء التي تعْمِده.
(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).
يروى أن ذلك في قصة نَمْرُودَ بنِ كنعانَ، بنى صَرْحاً يَمْكُرُ بِهِ فخر
سقفه عليه وَعَلى أصْحَابِه، وقال بعضهم: هذا مثل، جعلت أعمالهم التي
عملوها بمنزلة الباني بناء يسقط عليه فمضرة عملهم عليهم كمضرَّةِ الباني إذا
سقط عليه أبناؤه.
* * *
وقوله: (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
(٢٧)
و (تُشَاقُّونِ فِيهِمْ) بكسر النونِ، وقد فسرنا مثل هذا، وإنَّما... شركائي
حكاية لقولهم، واللَّه - جل ثناؤه - لا شريك له.
المعنى أين الذين في دعواكم أنهم شركائي
* * *
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨)
(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ).
أي ألقوا الاستسلام، وذكر السَّلَمَ، والسَّلَمَ الصُّلحْ، - لذكره المُشَاقةَ.
وبإزاء المشاقة والمعاداة الصلح.
(مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ).
أي قالوا: ما كنا نعمل من سوء.
* * *
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠)
" ما " و "ذا " كالشيء الواحد، والمعنى أي شيء أنزل ربكم.
(قَالُوا خَيْرًا).
على جواب " ماذا " المعنى أنزل خَيْرًا.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ).
جائز أن يكون هذا الكلام ذُكِرَ ليَدُل عَلَى أن الذي قالوه اكتسبوا به
حسنة، وجائز أن يكونَ تفسيراً لقولهم خيراً، وحسنة، بالرفع القراءةُ. ويجوز " للذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَةً "، ولا تقرأنَّ بها، وَجَوازُهَا أن معناها أن " أنزل خيراً " - جعل للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةً، أي جَعَلَ لَهُمْ مكافأةً في الدنْيَا قَبْلَ الآخرة.
وقوله: (وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ).
المعنى، ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة، ولكن المبيّنَ لقوله (دار المتقين)
هو، قوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)
وهى مرفوعة بإضمار " هي " كأنك لما قلت، ولنعم دار المتقين على
جواب السائل أيْ دَارٌ هي هذه الممدوحة، فقلت: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا).
وإن شئت رفعت على الابتداء، ويكون المعنى: جناتُ عَدْنٍ نعمَ دارُ
المتقين.
* * *
وقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣)
أي: لقبض أرواحهم، أو يأتي ما وَعَدَهُمُ اللَّهُ به من عذابه.
وقوله: (كَذَلِكَ فَعَل الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ).
أي كذلك فعلوا فأتاهم أمر اللَّه بالعذاب، (فَأصَابَهُمْ سَيئَاتُ مَا عَمِلُوا).
* * *
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
هذه الآية وأشباهها فيه تنازع وينبغي أن يقف أهل القرآن والسنة على
حقيقة تفسيرها لأن قوماً زعموا أن من قال هذا فقد كفر وأن من قال من العباد أن لا يفعل إلا ما شاء الله فقد كفر، وهذا تأويل رَديء، وإنما كفر أولئك وكذبوا، لأنهم كانوا يقولون: لو شاء اللَّه ما عبدنا من دونه من شيء علىِ جهة الهزؤ، والدليل على ذلك أنَّ قوْمَ شعيب قالوا لشعيب:
(أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧).
فلو قالوا له هذا معتقدين لكانوا مؤمنين، وإنما قالوه مستهزئين.
وقد اتفقت الأمَّةُ على أن الله لو شاء ألا يُعْبَدَ غيرُه مَشِيئَةً اضطرار إلى ذلك لم يقدر أحد على غير ذلك، ولكن اللَّهَ جل ثناؤه تَعَبَّد العبادَ وَوَفَقَ من أحبَّ تَوْفيقه، وأضل من أحب إضْلَالَه، وهؤلاء قالوا هذه مُحقِّقِينَ ما قيل لهم أنهم مكذبون إذ كان الِإجماع على أن اللَّه - عزَّ وجلَّ - يقدر على أن يجْبُرَ العبادَ على طاعته وأعلم اللَّه أنهم مكذبون كما كذبَ الذين من قبلهم فقال:
(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
أي الإبْلاغ. الذي يبَينُونَ مَعَهَ أنهم أنبياء.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
فأَعلم اللَّه أنهُ بَعَثَ الرسلَ بالأمْر بالعِبَادةِ، وهو من وراء الإضلال
والهداية، فقال:
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
فهذا يدل على أنهم لو قالوا ذلك معتقدين لكانوا صادقين، ثم أكدَ ذلك
فقال:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٧)
وقُرئت فإن اللَّه لا يُهدَى من يُضِل، كما قال: (من يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ
له). وَفيها وجه ثالث في القراءة.. " لَا يُهْدِي مَنْ يَضل " وهو أقلُّ الثلاثة.
* * *
وقوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨)
(وَعْدًا) منصوب مُؤكد، المعنى بلى يبعثهم اللَّه وعداً عليه حقاً، (لِيُبَيْنَ لَهُمَ
ائذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ).
فهذا على ضربين، جائز أن يكون معلقاً بالبعث، ويكون المعنى: بلى
يبعثهم الله لِيُبيَّنَ - لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، وجائز أن يكون
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) معلقاً بقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) لِيُبَيِّنَ لهم اختلافهم، وأنهم كانوا مِن قبله على ضلالة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
القراءة الرفع، وقد قرئت بالنصب، فالرفع على فهو، ويكون على
معنى ما أراد اللَّه فهو يكون، والنصب على ضربين
أحدهما أن يكون قوله فَيَكونَ عَطْفاً على (أنْ نَقُولَ فيكونَ).
ويجوز أن يكون نصباً على جواب (كن) فـ (قَوْلُنَا) رفع بالابتداء.
وخبره (أن نقول)، المعنى إنما قولنا لكل مرادٍ قولنا كن، وهذا خوطب العباد فيه بِمَا يعْقِلُونَ وما أراد اللَّه فهو كائن على كل حال
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿لاَ يَهْدِي﴾ قرأ الكوفيون «يَهْدِي» بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله، أي: لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه، ف «مَنْ» مفعولُ «يَهْدِي» ويؤيده قراءةُ أُبَيّ «فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ، ولِمَنْ أضلَّ»، وأنه في معنى قولِه: ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦].
والثاني: أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ، أي: لا يَهْدِيْ المُضِلَّون، و «يَهْدِي» يجيءُ في معنى يهتدي. يقال: هداه فَهَدَى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله «يَهْدِي» بتشديدِ الدالِ المكسورةِ، فَأَدْغم. ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس. والعائدُ على «مَنْ» محذوفٌ: ﴿مَن يُضِلُّ﴾، أي: الذي يُضِلُّه اللهُ.
والباقون: «لا يُهْدَى» بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول، و «مَنْ» قائمٌ مَقامَ فاعِله، وعائدُه محذوفٌ أيضاً.
وجَوَّز أبو البقاء في «مَنْ» أن يكونَ مبتدأً و «لا يَهْدِي» خبره، يعني: مقدَّمٌ عليه. وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو: «زيدٌ لا يَضْرِبُ»، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل.
وقُرِئ «لا يُهْدِيْ» بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ» قال الشيخ: «وإذا ثَبَتَ أنَّ» هَدَى «لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم، فالمعنى: لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ». اهـ (الدر المصون).
وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا - السَّمَاوَات والأرْض - في قدر لمح البصر لقدر عَلَى ذلك ولكنَّ العباد خوطبوا بما يعقلون، فأعلمهم الله
سهولة خلق الأشياء عليه قبل أن تَكُونَ، فأعلم أنه متى أراد الشيء كان، وأنه إذا قال كن كان. ليس أن الشيء قبل أن يخلق كان موجوداً.
إنما المعنى: إذا أردنا الشيء نقول من أجله " كن " أيها المُرادُ فيكون على قدر إرادة اللَّه، لأن القَوْمَ أعنِي المشركِين أنكروا البعث، (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ).
وهو معنى قوله: (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ)
أي كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون.
ولقد جاء في التفسير أن الحنثَ الشرْكُ لأن من اعْتَقَدَ
هذا فضلاً أن يحلف عليه فهو مشرك. فقال جلَّ وعلا.
(بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا).
أي بلى يبعثهم وعداً عليه حقاً، و (حَقًّا) منصوب مصدر مؤكد لأنه إذا قال
يبعثهم دل على " وعد بالبعث وعداً ".
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
هؤلاء قوم كان المشركون يعذبونهم على اعتقادهم الإيمان منهم صهيب
وبلال، وذلك أن صُهَيباً قال لأهل مكة: أنا رجل كبير، إن كنت معكم لم
أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم، خذوا مالي وَدَعُوني فأعطاهم ماله
وهاجر إلى رسول اللَّهِ - ﷺ - فقال له أبو بكر الصديق: رَبِحَ البيع يا صُهيب، وقال عمر: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، تأويله لو أنه أمن
عذابه وعقابه لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية لأمنه العذاب.
ومعنى (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً).
أي: لأنهم صاروا مع النبي - ﷺ - ودخلوا في الإسلام وسمعوا ثناء اللَّه عليهم.
* * *
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٤٣)
و (نوحِي إليهم)، وُيوحِي إليهم. أما القراءتان الأوليان فجيدتان والثالثة
ضعيفة لذكره أرسلنا. فأنْ يكون اللفظ على نوحِي ويوحَى أحسن، لأن نوحي يوافق اللفظ والمعنى، ويوحى إنما هو محمول على المعنى، لأن المعنى: وما أرسل اللَّه إلا رجالًا يوحى إليهم.
وإنما تجيل لهم لأنهم قالوا لولا أنزل عليه ملك أو جاء مع نذير، فأَعلم اللَّه - جل وعز - أن الرسل بشر إلا أنهم يوحى إليهم.
ثم أعلم كيف يستدل على صحة نبُوتهِمْ فقال:
(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
أي بالآيات والحجَج، والزبُرُ الكُتُب، واحدها زَبُورٌ، يقال زَبَرْتُ
الكتابَ وذَبَرْتُه بمعنى واحد، قال أبو ذؤيب:
عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا... ةِ يَذْبُرُها الكاتِبُ الحِمْيَري
وقَوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
فيها قولان، قيل فاسألوا أهل الكتب أهل التوراة والإِنجيل وأهل جميع
الكتب يعترفون أن الأنبياء كلهم بشر.
وقيل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي فاسْألُوا مَنْ آمَنَ من أهل الكتاب.
ويجوز واللَّه أعلم - أن يكون قيل لهم اسألوا كل
من يُذْكَرُ بعلم وافق أهل هذه الملة أو خالفهم.
والدليل على أن أهل الذكر أهل الكتب قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وقوله: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ).
* * *
وقوله: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٤٥)
أي أفأمنوا أنْ يَفْعَلَ بهم ما فَعَل بقوم لوط، والذين أهلكوا من الأمم
السالفة بتعجيل العذاب في الدنيا.
(أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ).
عطف على: (أَنْ يَخْسِفَ).
(أوْيا٤ خُذَهُمْ في تَقَفبِهِمْ) أي فِي تَصَرفِهِم في أسفارهم، وَسَائِرِ مَا يَنْقَلِبُونَ
فِيه.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦)
أي أو يأخذهم بعد أن يخيفهم، بأن يهلكَ فرقة فَتخافَ التي تليها.
وقيل على تخوف على تنقص، ومعنى التنقص أن ينتقصهم في أموالهم
وَثمَارِهِمْ حتى يهلِكَهُمْ.
ويروى عن عُمَرَ قَال: ما كنت أدري ما معنى أو يأخذهم على تخوف
حتى سمعت قول الشاعر:
تَخَوَّفَ السَّيْرُ منها تامِكاً قَرِداً... كما تَخَوَّفَ عودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ
يصف ناقة وأن السير تنقص سنامها بعد تمكنه واكتنازه.
وقوله: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
أي من رحمته أن أمهل فجعل فسحةً للتوبةِ.
* * *
وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨)
وتقرأ تتفيأ ظلاله.
(سُجَّدًا) منصوب على الحال.
(وَهُمْ دَاخِرُون).
ومعنى (دَاخِرُونَ) صَاغِرُونَ، وهذه الآية فيها نظر، وتأويلها - واللَّه
أعلم - أن كل ما خلق اللَّه مِنْ جِسْم وعظم ولحم ونجْم وشَجَرٍ خاضع لله
ساجد، والكافر إن كَفر بقلبه ولسَانه وقصْدِه فنفس جسمه وعظمه ولحمه
وجميع الشجر والحيوان خاضعة لِلَّهِ ساجدة.
والدليل على ذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ).
روي عن ابن عباس أنه قال: الكافر يسجد لغير الله، وظلُّه يسجُدُ للَّهِ.
وتأويل الظلِّ تأويل الجسم الذي عنه الظل.
وقوله: (وَهُمْ دَاخِرُونَ).
أي هذه الأشياء مجبولة على الطاعة.
* * *
وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)
المعنى ولله يسجد ما في السَّمَاوَات من الملائكة وما في الأرض من دابة
والملائكة، أي وتسجد ملائكة الأرض، والدليل على أن الملائكة في الأرض
أيضاً قوله تعالي: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨).
وقوله: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) كِرَامًا).
وقوله: (وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
أي يخافون ربهم خوف مُخْلِدِين مُعظمين.
(وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).
وصفهم بالطاعة وأنهم لا يجاوزون أمراً له ولا يتقدمونه.
* * *
وقوله: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا).
قيل معناه دائماً، أي طاعة واجبة أبداً، ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون
(وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا) أي له الدين والطاعة، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يَرْضَ، وسهل عليه أو لم يسهل، فله الدين وإن كان فيه الوَصَبُ.
والوَصَبُ شدَّةُ التعب.
ثم قال: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ).
أي أَفَغَيْرَ اللَّهِ الذي قد بَانَ لكم أنَّه وحده، وأنه خالق كل شيء، وأن ما
بكم من نِعمةٍ فمن عنده، وأنه لو أراد إهلاككم حين كفرتم وألَّا يُنْظِرَكم إلى
يوم التوبة لقدَرَ، وأعْلَم أنه مع إقامته الحجج في أنه واحِد، وأنه أمر ألا يُتخَذَ معه إله عبدوا غيره، لأنهم قالوا عنْ الأصنام: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يَعبد
غيره، وَإن قَصَد التقِربَ بالعبادة لِلَّهِ وحده، فقال - جلَّ وعلا -:
(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ).
فذكر اثنين توكيداً لقوله إلهَيْن، كما ذكر الواحد في قوله: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
* * *
وقوله: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
(٥٣)
دخلت الفاء، ولا فعل ههنا لأن الباء متصلة بالفعل، المعنى ما حل
بكم من نعمةٍ فمن اللَّه، أي ما أعطاكم الله من صحة جسم أوسعة في
رِزْقٍ، أو متاع بمال أو ولد فكل ذلك من اللَّه.
وقوله: (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).
أي إليه ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، يقال: جأر الرَّجُل يَجأرُ جُؤاراً.
والأصوات مبنية على فُعَال وفَعِيلٍ، فأمَّا فُعال فنحو الصُّراخ، والجُؤَارُ.
والبُكاء. وأما الفَعِيل فنحو العويل والزئير، والفُعَالُ أكثر.
* * *
وقوله: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
هذا خاص فيمن كفر به.
وقوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
أي ليكفروا بأنا أنعمنا عليهم، أي جعلوا ما رزقناهم وأنعمنا به عليهم
سبباً إلى الكفر كما قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).
ويجوز أن يكون (ليكفروا بما آتيناهم) أي ليَجْحَدُوا نعمة الله في ذلك، كما قال: (أفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
وَقَوله: (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).
لم يأمُرْهُمْ الله جلَّ وعلا أن يتمتعوا أمْرَ تَعَبُّدٍ، إنما هو لفظ أمْرٍ ليهدِّدَ
كما قال: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لَا تُؤمِنُوا) أي فَقَدْ وَعَد اللَّه وأوعَدَ وأنذر وبلَّغت
الرسُلُ فمن اختار بعد ذلك الكفر والتمتع بما يباعد من اللَّه فسوف يعلم عاقبة أمره.
وقد بين اللَّه عاقبة الكفر والمعصية بالحجج البالغة والآيات البينات.
* * *
وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
هو معنى قوله تعالى: (فقالوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لشُرَكَائِنا)
فجعلوا نصيباً يتقربون به إلى الله تعالى، ونصيباً يتقربون به إلى الأصنام
والحجارة.
وقوله: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).
أي تاللَّه لَتُسْأَلُنَّ عنه سؤال توبيخ حتى تعترفوا به على أنْفُسِكُمْ.
وتُلْزِمُوا أنفسَكُم الحجة.
* * *
وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (٥٧)
لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللَّه.
(سُبْحَانَهُ) معناه تنزيه له من السُّوءِ.
(وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ).
(ما) في موضع رفع لا غير، المعنى سبحانه ولهم الشيءُ الذي يشتقون
كما قال: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ).
فإن قال قائل لم لا يكون المعنى (ويجْعَلُونَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)؟
قيل العربُ تستعملُ في هذا الموضع: جعل لِنَفْسِهِ
ما يشتهي، ولا يقولون جَعَل زيد له ما يَشْتَهِي، وهو يعني نفسه.
ثم أعلم أنهمْ يَجْعَلُونَ للَّهِ البنات. فقال:
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)
فيجعلون لمن يعترفون بأنه خالقهم البنَاتِ اللاتِي مَحَلهُن منهم هذا
المحل. ومعنى (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)، مُتَغيَراً تَغَيُّرَ مَغْمُوم.
ويقال لكل من لقِي مكروهاً: قد اسود وجهه غمًّا وحُزْناً.
ومِنْ ذلك قولك سوَّدْت وجه فُلَانٍ.
* * *
وقوله: (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٥٩)
قيل كان الرجل في الجاهلية إذا حزبَ امرأتَهُ المخاضُ توارى لكي يعلم
ما يُوَلَدَ لَهُ، فإن كان ذَكراً سُرَّ به وابْتهج، وإن كانت أنثى اكْتَأبَ بها وحَزِنَ، فمنهم من يَئدُ ولَدَهُ يَدْفِنُها حَية، أو يمسكها على كراهة وهَوَانٍ.
فقال اللَّه تعالى: (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
أى ألَا سَاءَ حُكْمُهُمْ في ذلك الفِعْلِ وفي جعلهم للَّهِ البناتِ وجعلهم
لأنفسهمْ البنين، ونسْبِهم للَّهِ اتخاذ الوَلَد.
* * *
وقوله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ
(٦١)
معنى (عليها) على الأرض، ودل الِإضمار على الأرض لأن الدَوَابَّ إنما
هي على الأرْض.
وقوله: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى).
جاء في التفسير أنه، قوله: لا إله إلا اللَّهُ، وتأويله أن اللَّه - جل ثناؤه -
له التوحيد، ونفي كل إله سواه.
* * *
وقوله: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
أي يجعلون لِلَّهِ البنات اللاتي يكرهَونَهُن.
وقوله: (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى).
(أَنَّ) بدلٌ من (الكذب) المعنى وتصف أَلسنتهم أنَّ لهم الحُسْنَى، أي
يصفون أن لهم - مع فعلهم هذا القبيح - من اللَّه جل ثناؤه - الجزاء
الحسن.
وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ).
" لَا " رد لقولهم. المعنى - واللَّه أعلم - ليس ذلك كما وصفوا، جرم أن
لهم النَّارَ، المعنى جَرَبمَ فعلُهم هذا أن لَهُم النارَ، أي كسب فعلهم أن لهم
النارَ.
وقيل إنَّ " أنَّ " في موضع رفع، ذكر ذلك قطرب، وقال المعنى أن لهم
النار.
(وَأنهُم مُفْرَطُونَ).
فيها أربعة أوْجُهٍ: (مُفْرَطُونَ) بإسكان الفاء وفتح الراء، ومُفَرَّطُونَ بفتحِ
الفاء وتشديد الراء وبفتحها، ومُفْرِطُونَ - بإسكان الفاء وكسر الراء، ومُفَرِّطُونَ بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها.
فأمَّا تفسير (مُفْرَطُونَ) و (مُفَرَّطُونَ) فجاء عن ابن عباس، متروكون وقيل
عنه: مُعْجَلُونَ. ومعنى الفَرْط في اللغة: التَقدم، وقد فرط إليَّ منه قولٌ أي
تَقَدَّمَ، فمعنى مُفْرَطُونَ مُقَدمُونَ إلى النار، وكذلك مُفَرطُون، ومن فسَّرَ
متروكون فهو كذلك، أي قد جُعِلُوا مُقَدَّمِين في العذاب أبداً متروكين فيه.
ومن قرأ مُفَرِّطُونَ، فالمعنى أنه وَصْف لهم بأنهم فَرطُوا في الدنيا فلم
يعملوا فيها للآخرة وتصديق هذه القراءة قوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ).
وَمَنْ قَرأ مُفْرِطُونَ، فالمعنى على أنهم أفْرَطُوا في مَعْصِيةِ اللَّه، كَما
تقول: قد أفرط فلان في مكروهي.
وتأويله أنه آثر العجْزَ وقدَّمه (١).
* * *
وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
بِنَصْب (رَحمَةً) المعنى: وما أنزلنا عليك الكتابَ إلا هُدى ورحمةً، أي
ما أنزلنَاهُ عليك إلا للهداية والرحمة، فهو مفعول له.
ويجوز: وهدى ورحَمْةً في هذا الموضع، المعنى: وما أنزلنا عليك الكتاب إِلًا لِلْبيَانِ رهو - مع ذلك - هدى ورحْمَةٌ.
* * *
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
وتقرأ (نَسْقِيكم) (٢) ويقال سَقيتُهُ وأسْقَيْتُهُ في مَعْنى وَاحد.
قال سيبويه والخليل سقيته كما تقول نَاوَلْتُه فشرب. وأسقيتُهُ جعلت له سقياً، وكذلك قول الشاعر يحتمل المذهبين:
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ﴾ قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ، فالمعنى: أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى. فأفْعَلَ هنا قاصرٌ. والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه، وفيه معنيان، أحدُهما: أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي، أي: تركتُه ونَسِيْتُه، حكى الفراء أنَّ العرب تقول: أَفْرِطْتُ منهم ناساً، أي: خَلَّفْتُهم، والمعنى: أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار. والثاني: أنه مِنْ أَفْرَطْتُه، أي: قَدَّمْتُه إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قال الشيخ، وأنشد للقطامي:
٢٩٨٩ - واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا... كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فَجَعَلَ «فَرَط» قاصراً و «أفرط» منقولاً. وقال الزمخشري: «بمعنى يتقدَّمون إلى النار، ويتعجَّلون إليها، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء»، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل، والقولان محتملان، ومنه «الفَرَطُ»، أي: المتقدم. قال عليه السلام: «أنا فَرَطُكم على الحوض»، أي: سابِقُكم. ومنه «واجعله فَرَطاً وذُخْراً»، أي: متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين.
وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - «مُفَرِّطون» بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا: أي: قَصَّر، وفي روايةٍ، مفتوحةً، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف، أي: تَقَدَّم وسَبَقَ. اهـ (الدر المصون).
(٢) قال السَّمين:
قوله تعالى: ﴿نُّسْقِيكُمْ﴾: يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة، كأنه قيل: كيف العِبْرة؟ فقيل: نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً. ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ، أي: هي، أي: العِبْرَةُ نُسْقيكم، ويكون كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه «.
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر»
نَسْقيكم «بفتح النون هنا وفي المؤمنين. والباقون بضمَّها فيهما. واختلف الناس: هل سَقَى وأَسْقى لغتان، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور. فقيل: هما بمعنىً، وأنشد جمعاً بين اللغتين:
٢٢٩٠ - سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى... نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب. و»
نُمَيْراً «هو المفعول الثاني: أي: ماءٌ نُمَيْراً. وقال أبو عبيد:» مَنْ سَقَى الشِّفَةِ: سَقَى فقط، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ. أَسْقَى، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها: أَسْقَى فقط «. وقال الأزهري:» العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام، ومن السماء، أو نهرٍ يجري، أَسْقَيْتُ، أي: جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟، فإذا كان للشَّفَة قالوا: سَقَى، ولم يقولوا: أسقى «.
وقال الفارسي:»
سَقَيْتُه ختى رَوِيَ، وأَسْقَيْتُه نهراً، أي: جَعَلْتُه له شِرْباً «. وقيل» سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه، ولا يُقال مِنْ هذا: أَسْقاه.
وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيْكم» بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: هو الله تعالى، الثاني: أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ، أي: نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا. وقُرئ «تًسْقيكم» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطية: «وهي ضعيفةٌ». قال الشيخ: «وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في» تِسْقِيْكم «. اهـ (الدر المصون).
سَقَى قوْمِي بني مَجْدٍ وأسْقى... نمَيراً والقبائل من هلال
وهذا البيت وضعه النحويونَ على أنَّه سَقَى وأسْقَى بمعنى واحد، وهو
يحتمل التفسير الثاني.
والأنعام لفظه لفظ جمع، وهو اسم للجنس يذكر ويؤنث، يقال هو
الأنعام وهي الأنعام. نسقيكم مما في بطونه.
وفي موضع آخر (مما في بطونها). فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن في إخْراجه اللبَن (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ) دَلِيلًا على قدرةٍ لا يقدِر عليها إلا الله الذي ليس كمثله شيء (١).
* * *
وقوله عَز وجل: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
أي فيما بيَّنَّا علامة تدل على توحيد اللَّه.
وقالوا في تفسير قوله: (سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) إنه الخمرُ من قبل أن تحرمَ.
والرزق الحسَنُ يؤكل من الأعناب والتُموُرِ.
وقيل إن معنى السكر الطعم
وأنشدوا:
جعلت أعراض الكرام سَكَراً
أي جعلتَ دَمَهُم طُعماً لك. وهذا بالتفسير الأولِ أشبَهُ.
المعنى جعلْتَ تتخمًرُ بأعراضِ الكرام، وهو أبين - فيما يقال: الذي يتبرك. في أعراض الناس.
(١) قال الإمام فخر الدين الرازي:
قوله: ﴿مما في بطونه﴾ الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها، وذكر النحويون فيه وجوهاً: الأول: أن لفظ الأنعام لفظ مفرد وضع لإفادة جمع، كالرهط والقوم والبقر والنعم، فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو التذكير، وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو التأنيث، فلهذا السبب قال ههنا ﴿فِي بُطُونِهِ﴾، وقال في سورة المؤمنين: ﴿فِى بُطُونِهَا﴾ [المؤمنون: ٢١].
الثاني: قوله: ﴿فِي بُطُونِهِ﴾ أي في بطون ما ذكرنا، وهذا جواب الكسائي.
قال المبرد: هذا شائع في القرآن.
قال تعالى: ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بازغةً قَالَ هذا رَبّى﴾ [الأنعام: ٧٨] يعني هذا الشيء الطالع ربي.
وقال: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٤، ٥٥] أي ذكر هذا الشيء.
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي، أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً، فلا يجوز، فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب، ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة.
الثالث: أن فيه إضماراً، والتقدير: نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن.
أهـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ٢٠ صـ ٥٢ - ٥٣﴾
وقال السَّمين:
وذَكَّر في قوله ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين». قلت «وضَعْفُها عنده من حيث المعنى: وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام.
قوله: ﴿مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ يجوز أن تكونَ»
مِنْ «للتبعيض، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية. وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشري:» ذكر سيبويه الأنعامَ في باب «ما لا ينصرف» في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم: ثوبٌ أَكْياش، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً، وأمَّا «في بطونها» في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع. ويجوز أن يُقال في «الأنعام» وجهان، أحدهما: أن يكون تكسير «نَعَم» كأَجْبال في جَبَل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [كَنَعم]، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ «نَعَم» في قوله:
٢٩٩١ - في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ... يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان: أنه تكسير «نَعَم»، وأنَّه في معنى الجمع «.
قال الشيخ: أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في:»
هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه: «وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول: أَقْوال وأقاويل، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع. وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ». ثم قال: «وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل، كما تقول: جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول: أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ. وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد، مِنَ العرب مَنْ يقول: هو الأنعام: قال الله عز وجل ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ﴾. وقال أبو الخطاب:» سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول: هذا ثوبٌ أكياش «.
قال:»
والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ: «أُتِيّ» بضمِّ الهمزة، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول: «هو الأنعامُ»، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال:
٢٩٩٢ - تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى... وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه: «وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد» فقوله «قد يقع للواحد» دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ، فقولُ الزمخشري: «أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال» تحريفٌ في اللفظ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه. ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة: «وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع». قال: «فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة».
قلتُ: الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه، ولم يُحَرِّفْ لفظَه، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه.
وقيل: إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام. وقال الكسائي: «أي في بطونِ ما ذَكَرَ». قال المبرد: «وهذا شائعٌ في القرآن، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ [عبس: ١١١٢]، أي: ذَكَر هذا الشيءَ. وقال تعالى: ﴿فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، أي: هذا الشيءُ الطالعُ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ، لا يجوز: جاريتُك ذهب». قلت: وعلى ذلك خُرِّج قوله:
٢٩٩٣ - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ... كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي: كأنَّ المذكورَ. وقيل: جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة، ومن الأولِ قولُ الشاعر: /
٢٩٩٤ - مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ... وقيل: أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ، فإنه يَسُد مَسَدَّه «نَعَم»، و «نَعَم» يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه:
٢٩٩٥ - وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن، ومثلُه قولهم «هو أحسنُ الفتيان وأجملُه»، أي: أحسنُ فتىً، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه.
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ. والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ، فأصلُ اللبنِ [ماءُ] الفحلِ قال: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ. فإن قال: أراد الجنسَ فقد ذُكِر». يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على «فَحْل» المرادِ به الجنسُ. قلت: وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير. اهـ (الدر المصون).
وقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨)
وبِيوتاً. فمن قرأ بُيُوتاً بَالضم فهو القياس، مثل كعب وكُعُوب وقلْب
وقُلُوبُ، ومن قرأ بِيُوتاً بالكسر فهذا لم يذكر مثله أحَد من البَصْريينَ لأنهم لا
يجيزون مثله. ليس في الكلام مثل فِعُل ولَا فِعُول، والذين قرأوا به قلبوا
الضمة إلى الكسرة من أجل الياء التي بعْدَها.
ومعنى الوحي في اللغة على وجهين يرجعان إلى معنى الإِعْلامِ والإفهَام
فمن الوحي وَحْيُ الله إلى أنبيائه بما سمعت الملائكة من كلامه، ومنه الإلهام
كما قال اللَّه: (وَأخْرَجتِ الأرْضُ أثْقَالَهَا) إلى (بأن رَبَّكَ أوْحَى لَها)
معناهُ ألْهمَهَا. فاللَّه أوحى إلى كل دابَّة وذِي رُوح في التماس منافعها واجتناب مضارهَا، فذكر من ذلك أمر النحل.
وواحدُ النحْلِ نحلة، مثل نخل ونخلة - لأن فيها من لطيف الصنعة وبديع الخلق ما فيه أعظم معتبر بأنْ ألهمها اتخاذَ المنازل والمساكن، وأن تأكل من كل الثمرات على اختلاف طعومها..
ثم سهل عليها سبيل ذلك فقال جلَّ وعزَّ: (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
أي قد ذللها اللَّهُ لك وسهل عليك مَسَالكَها.
ثم قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ).
فهي تأكل الحامض والمرَّ وما لا يُوصَف طعمه فيُحِيلُ الله ذلك عَسَلاً
يخرج من بطونها إلا أنها تلقيه من أفواهها ولكنه قال: (مِنْ بُطونهَا) لأن
استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطون فيخرج بعضها من الفم كالريق الدائم
الذي يخرج من فم ابن آدم، فالنحل تخرج العسلَ من بطونها إلى أفوَاهِهَا.
(فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ).
في هذا قولان، قيل إِن. الهاء يرجع على العَسَل، المعنى في العَسَلِ
شفاء للناس. وقيل إن الهاء للقرآن، المعنى في القرآن شفاءٌ للناس وهذا
القول إذا فسَّرَ علم أنه حَسَنٌ، المعنى فيما قصصنا عليكم من قصة النحل في
القرآن وسائر القصص التي تدل على أن اللَّه واحد شفاء للناس.
والتفسير في العَسَل حسن جدًا.
فإن قال قائل: قد رأينا من ينفعهُ العسلُ ومن يضره العسل، فكيف
يكون فيه شفاء للناس؟
فجواب هذا أن يقال له الماء حياة كل شيء فقد رأينا
من يقتله الماء إذا أخذه على ما يصادف من علة في البدَنِ، وقد رأينا شفاء
العسل في أكثر هذه الأشربة، لأن الجَلَّاب والسكنجيين، إِنما أصلهما
العَسَلُ، وكذلك سائر المعجونات.
وهذا الاعتراض في أمر العَسَلِ إنما هو اعتراض جهلة لا يعرفون قدرة في النفع، فأمَّا من عرف مقدار النفع فهو وإن كان من غير أهل هذه الملةِ فهو غير رافع أن في العَسَلِ شفاء.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
أي منكم من يكبر وُيسِن حتى يذهب عقله خَرَفاً فيصير بعدَ أنْ
كَانَ عَالماً جاهلاً، والمعنى - واللَّه أعلم -
(لكيلا يَعْلم بعد علم شيئاً) أي ليريكم من قدرته أنه كما قدر على إمَاتَتِه وإحْيَائِه أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهْلِ.
وأعلم - عزَّ وجلَّ - أن الموتَ والحياةَ بيدِه، وأن الإنسان قد
يَتَغَذًى بالأغذية التي يَتَعَمَّد فيها الغاية في الصلاح والبقاءِ، فلا يقدِرَ أن
يزيدَ في مقدار مُدته شيئاً.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
أي قد فضل الله الملَّاكَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ، فجعل المملوك لا يقدر عَلَى
مِلْكٍ مع مولَاه وأعلم أن المالك ليس يَرُدُّ على مملوكه من فضل ما في يده
حتى يستوي حالهما في المُلكِ.
وقيل لهم: إنكم كلكم من بني آدم، وأنتم لا تسوون بينكم فيما ملكت أيمانكم، وأنتم كلكم بَشرٌ.
فكيف تجعلون بعض الرزق الذي رزقكم اللَّه له، وبعضَهُ لأصنامكم، فتشركون بينَ اللَّهِ وبين الأصْنَامِ، وأنتم لا تَرْضَوْنَ لأنفسكم فيمن هو مثلكم بالشركَة.
وقوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
فيها وجهان: يجوز أن يكون "، أفَبِانْ أنْعَمَ الله عليكم اتًخَذْتُمْ النعم
لتجحدوا وتشركوا به الأصنام. وجائز أن يكون (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ)
أفبما أنعم اللَّه عليكم بأن بَين لكم ما تحتاجون إليه تجحدون.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
جاء في التفسير أن الله خلق حَواءَ مِنْ ضِلع من أضلاع آدم، فهو معنى
جعَل لكُمْ من أنْفُسَكُمْ أزواجاً أي من جنسكم.
وقوله: (وَجَعَلَ لكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وحَفَدَة).
اختلف الناس في تفسير الحَفَدَة، فقيل الأولاد، وقيل البنات وقيل
الأختان، وقيل الأصْهَارُ، وقيل الأعْوَانُ.
وحقيقة هذا أن اللَّه عزَّ وجلَّ جعل
من الأزواج بنين وَمَنْ يعاوِنُ على ما يحتاج إليه بِسُرْعَةٍ وطاعةٍ، يقال حَفَدَ
يَحْفِدُ حَفْداً وحَفَداً وحَفَدَاناً إذا أسْرع.
قال الشاعر:
حَفَدَ الولائدُ حولهن وأَسلمتْ... بأَكُفِّهِنَّ أَزمَّةَ الأَجْمالِ
معناهُ أسْرَعُوا في الخِدْمة.
* * *
وقوله: (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤)
أي لا تجعلوا لِلَّهِ مثلاً لأنه واحد لا مثل له، جلَّ وعزَّ، ولا إله إلَّا
هُوَ - عَز وَجَل. ثم ضرب لهم المثل فقال:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٧٥)
فأَعلم اللَّه - جلَّ وعزَّ - أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما
مقتدراً على الإنفاق مالكاً والآخر عاجزاً لا يقدر على أنْ ينفق لا يستويان.
فكيف بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تَعْقلُ وَبَيْنَ الله عزَّ وجلَّ الذي هو على
كل شيء قديرٍ، وهو رازقٌ جميع خلقه، فبين لهم أمْرَ ضلالتهم وبُعْدِهم عن
الطريق في عبادتهم الأوثان، ثم زاد في البيان فقال جلَّ وعزَّ:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
والأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يُبْصِر ولا يَعْقِل، ثم قال:
(وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ).
أي على وَليِّه
(أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أي هل يستوي القَادر التام التمييز والعاجز الذي لا يحس ولا يأتي
بخير، فكيف يسوون بين اللَّه وبين الأحجار.
* * *
وقوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
ومعناه - واللَّه أعلم -: وَلِلَّهِ عِلْمُ غيبِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ
(وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ).
والساعةُ اسم لإمَاتَةِ الخَلق وإحْيائِهِمْ.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن البَعْثَ والإحْيَاءَ في قدرته ومشيئته (كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس يريد أنَّ الساعةَ تأتي في أقربَ من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
و (إِمَّهَاتِكُمْ) - بالكسر -، والأصل في الأمَّهَاتٍ " أُمَّاتٌ، ولكن الهاء زيدت مُؤَكدةً كما زادوا هاء في قولهم أهْرَقْتُ الماءَ، وإنما أصله أرقت الماء.
والأفئدة جمع فؤاد مثل غراب وأغربة.
ولم يجمع فؤاد على أكثر العَدَدِ، لَمْ يُقَلْ فِئْدان، مثل غُرْابٍ، وَغِرْبَانٍ.
ثم دلهم - سبحانه - على قُدْرَتِه عَلَى أمْرِ السَّاعَةِ بما شاهدوا من تدبيره
فقال -:
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
(جَوِّ السَّمَاءِ) الهَوَاءُ البعيدُ من الأرض، وأبعد منه من الأرض السُكاكُ.
ومثل السُّكَاكِ اللوح، وواحد السُّكَاكِ سُكاكة.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠)
أي مَوْضِعاً تسكُنُونَ فِيه.
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا).
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم
وقوله: (تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ).
معنى تستخفونها، أي يخف عليكم حَمْلُها فيْ أسفاركم وإقَامَتِكُمْ.
ويقرأ (يومَ ظعنِكُمْ)، وظَعَنِكُمْ.
(وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ).
الأوبار للِإبل، والأصواف للضأنِ، والأشعار للمعزِ.
والأثَاثُ متاعُ البيتِ، ويقال لمتاع البيت أيضاً، الأهَرَة، ويقال: قد أثَّ يئيث أثًّا إذا صار ذا أثَاثٍ.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
أي جعل لكم من الشجر ما تَسْتَظِلونَ بِه
(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا).
واحد الأكنان كِن، على وَزْنِ حِمْل وأحْمَال، ولا يجوز أن يكونَ
واحدها كناناً، لأن جمع الكنان أكنة. أي جعل لكم مَا يُكنِكمْ.
(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ).
كل ما لَبسْتَه فَهو سربالٌ. من قميص أو دِرْع أو جَوْشَنن أو غيرِه، قال
الله عزَّ وجلَّ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)، وقال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ولم يقل تقيكم
البردَ لأن ما وَقَى من الحر وَقى من البردِ.
وقوله: (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ).
أي جعل لكم دُرُوعاً تَتقُون بها في الحروب مِنَ بأسِ الحَدِيد وَغيره.
وقوله: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ).
أكثر القراء تُسْلِمُونَ، ويقرأ لعلكم تَسْلَمُونَ، أيْ لعلكُم إذَا لبستم
الدروع في الحرب سَلِمْتُمْ من الجِرَاحِ، ثم قالَ بَعْدَ أنْ - بيَّنَ لهم الآيات:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
أي عليك أن تبلغ الرِسالة وتأتي بالآيات الدالة على النبوة.
* * *
وقوله: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)
أي يعرفون أن أمر النبي - ﷺ - حق ثم ينكرون ذلك.
* * *
وقوله: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦)
أي لما رأى الذين أشركوا ما كانوا يشركون باللَّه غيْر نَافِعهِمْ وجحَدَتْهُمْ
آلِهَتُهُمْ كما قال الله جلَّ وعزَّ: (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢).
* * *
وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
روِي في التفسير أن الَّذِي زيدوا عقاربُ لها أنيابٌ كالنَحْلِ الطِوَالِ.
وقيل أيضاً: إنهم يخرجون من حَرِّ النار إلى الزَمْهَرِير، فَيُبَادِرونَ من شدة برده
إلى النَّارِ.
* * *
وقوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
كل نبي شاهدٌ عَلَى أمَّتِه، وهوأعدل شاهِدٍ عليها.
وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
تبيان: اسم في معنى البيان، ومثل التِّبْيَان التِّلْقَاء، وَلَوْ قُرِئَتْ تَبْياناً على
وزنِ تَفْعَال لكانَ وجهاً، لأن التَبيانَ في معنى التَبْيِينَ، ولا تجوز القراءة به لأنه
لم يَقْرا به أحَد من القُراء.
* * *
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١)
(وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا).
يقال: وكَدتُ الأمْر، وأكَّدْتُ الأمْرَ. لغتان جَيِّدَتَانِ، والأصل الوَاوُ.
والهمزة بدل منها.
* * *
وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
(أنْكَاثاً) منصوب لأنه في معنى المصْدَرِ لأن معنى نكثت نقَضْتُ، ومعنى
نقضت نكثت، وواحد الأنقاض نِكث وهو ما نُقِضَ بعْدَ أن غزل.
قال الشاعر:.
ترعيَّةً تعرفُ الأرباعَ ضجعَتُه... له نِكَاث مِنَ الأنجادِ والفضلِ
وقوله: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ).
أي غِشا بينكم وَغِلًّا. و (دَخَلًا) منصوب لأنه مفعول له.
المعنى: تتخذون أيمانكم للغش والدَّخَل، وكل ما دَخلهُ عيبٌ قيل هو مَدْخول، وفيه دَخَل.
وقوله: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ).
لتغتز إحْداهمَا بالأخرى، وأربى مأخوذَ من رَبَا الشيء يَرْبُو إذا كثر.
* * *
وقوله: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
يقال نفِد الشيء ينْفَدُ نفاداً ونَفَداً إذا فَنِيَ.
وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
قيل لَنَرْزُقنه حلَالاً، وقيل (حَيَاةً طيبةً) الجنةُ.
وَمَوضع: (أرْبى) رَفْع. المعنى: أن تكون أمة هِيَ أكثرُ مِنْ أمةٍ.
وزعم الفراء أن موضع (أرْبَى) نصب و " هِيَ " عمادٌ، وهذا خطأ، " هي " لا تدخل عماداً ولا فَصْلاً مع النِكرات.
وشبههُ بقوله: (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا).
و" تجدوه " الهاء فيه معرفة، و (أمَّة) نكرة.
* * *
وقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
معناه إذَا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ باللَّهِ من الشَيطَان الرجيم، ليس
معناه استعذ باللَّهِ بعد أن تقرأ، لأن الاستعاذة أمِرَ بها قبلَ الابتداء، وهو
مستعمل في الكلام، مثله إذا أكلت فقل بسم اللَّه، ومثله في القرآن:
(إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فالهيئة قبل الصلاة، والمعنى إذا أرَدْتُم ذلك فافعلوا.
* * *
وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)
أي: إذا نسخت آية بآيَةٍ أخرى عليها فيها مَشَقة.
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ).
أي قالوا قد كذبتنا.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥)
أي: إنما يفتري الكذب الذِين إذا رَأوُا الآيَاتِ التي لا يقدِرُ عليها إلا اللَّهُ
كذبُوا بها، فَهؤلاء أكذَبُ الكَذَبَةِ.
* * *
قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(١٠٦)
(مَنْ) في موضع رفع على البدل مِنَ الكاذِبينَ ومُفَسِّر عن الكاذبين.
ولا يجوز أن يكون (مَنْ) رَفعاً بالابتداء، لأنه لا خبر ههنا للابتداء، لأنَّ قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
ليس بكلام تام، وبعده:
(وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ).
فقوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) خبَرُ (مَنْ) التي بعد (لكن).
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ نبيَّه - ﷺ - ما يقولونه بينهِم.
وقوله: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ).
ويُقْرأ " يَلْحِدُونَ "، أي لِسَانُ الذي يميلُون القَوْلَ إليه أعجمي.
وقيل هذا غُلَام كان لحُويطب اسمُهُ عَايِش، أسلم وحسن إسْلاَمُه.
(وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).
يقال: عَرَبَ الِإنسان: يَعْرُبُ عُروبيَّةً وَعَرابةً وعُروبةً.
وقوله: (مُبِينٌ).
وصفه بالبيان كما وصفه بأنًه عَرَبِيٌّ، ومعنى عربيّ أن صاحبه يتكلم
بالعَربية وَمَعْنَاهُ مُعْربٌ: (مُبِينٌ).
* * *
وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٠٩)
" أنَّ " يصلح أن تكون في موضع رَفِع على أنَّ " لَا " رَدٌّ للكلام، والمعنى
وجب أنَّهُمْ، ويجوز أن تكون " أن " في موضع نَصْبٍ على أن المعنى جَرَمَ
فِعْلُهُمْ هذا أنهم في الآخرةِ همُ الخَاسِرُونَ. ومعنى جَرَمَ كَسَب، والمجرم
الكاسِبُ، وأكثر ما يستعمل للذنوب.
* * *
وقوله: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
أي من بعد الفَعْلِةِ التي فعلوها. وهذه الآية في قصة عمَّا ربن ياسِر
وأصحابه حين عذبَهُمْ أَهْلُ مَكًةَ فأَكْرَهُوهم على أن تركوا الإيمان، وكفروا
بألسنتهم وفي قُلُوبهم ونيَّاتهم الإيمانُ، ثم هربوا منهم وهاجروا إلى النبي - ﷺ - فلحقهم جمع من أَهل مكة فقاتلوهم حتى نجَّاهم الله منهم، وصبروا على جهادهم.
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١١١)
(يوم) منصوب على أحدِ شيئين، على معنى (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، يَوْمَ تأتي)
ويجوز أن يكون بمعنى اذْكر لأن معنى القرآن العِظَة والِإنْذَارُ والتذكِير.
أي اذكر يوم تأتي كل نفس أي كل إنسانٍ يُجَادِلُ عن نفسه.
ويروى أنه إذا كان يومُ القيامة زَفَرَتْ جهنَّمُ زَفْرةً فلا يبقى ملك مقَرَّبٌ
ولا نبى مُرْسَلٌ إلا جَثَا عَلَى رُكبَتَيه، وقال يا رب نَفْسِي نَفْسِي، وتصديق هذا قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥).. الآية.
* * *
وقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
المعنى - واللَّه أعلم - وضرب الله مَثَلاً مثلَ قريةٍ كانت آمنَةً مطْمئنةً.
(يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ).
أي وَاسِعاً من كل مكان.
الذي جاء في التفسير أنه. يعني بها مكة، وذلك أنهم كانوا قد أمنوا
الجُوعَ والخوفَ لأن اللَّه جل ثناؤه جَعَلَ أفْئِدَةً من الناس تهوي إليهم.
فأرْزَاقُهُمْ تَأتيهم في بلدهم وكان حَرَماً آمِناً ويُتَخَطف الناس من حولهم.
(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).
وقد جاعوا حتى بلغوا إلى أن أكلوا الوبر بالدَّم، وبلغ منهم الجوع
الحال التي لا غَايَةَ بعْدَها. وأنْعُم جمع نعمة، وقالوا شِدَّة، وأشُدّ.
وقال قطرب: جائز أن يكون جمع نُعْم وأنْعُم، مثل بُؤْس وأَبْؤُس.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣)
عَذبهمُ اللَّهُ بالسيف والقَتْلِ.
(١) قال السَّمين:
وقوله: ﴿بِأَنْعُمِ الله﴾ أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ «بِنِعَمِ الله» جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
و «أنْعُم» فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ «نِعْمةٍ» نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: «جمعُ» نِعمة «على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع». وقال قطرب: «هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال:» هذه أيامُ طُعْم ونُعْم «. وفي الحديث:» نادى مُنادي رسولِ الله ﷺ بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا». اهـ (الدر المصون).
وقوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (١١٦)
في الكذب ثلاثة أوجه (١)، قُرئت الكَذِبَ، وقرئت الكُذُبُ، وقرِئَتِ
الكذبِ، فمن قرأ - وهُوَ أكثرُ القِرَاءَةِ - الكذِبَ فالمعنى: ولا تقولوا لوصفَ ألسنتكم الكذِبَ: (هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ).
ومن قرأ الكذبِ كان رَدًّا على مَا المعنى: ولا تقولوا لِوصْفِ ألسنَتِكُمُ الكذب. ومن قرأ الكُذُبُ فهو نعتُ للألسنة، يقال لِسَان كذُوبٌ وألْسِنَة كُذُوبٌ.
وهذا إنما قيل لهم لِمَا كانوا حَرمُوه وأحَلوه، فقالوا: (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا).
وقد شرحنا ذلك في موضعه.
* * *
وقوله: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
المعنى مَتاعهم هذا الذي فعلوه متاعِ قليل.
ولو كان في غير القرآن لجاز فيه النَّصْبُ: متاعاً قليلاً، على أن المعنى يَتمتعُونَ كذلك مَتَاعاً قليلاً.
* * *
وقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(١٢٠)
جاء في التفسير أنه كان آمَنَ وَحْدَهُ، وفي أكثر التفسير أنه كان مُعلِّماً
للخير وإمَاماً حَنِيفاً قيل أخِذَ بالخِتَانَةِ.
وحقيقته في اللغة أن الحنيف المائل إلى الشيء لا يزول عنه أبداً، فكان عليه السلام مائلاً إلى الِإسلام غير زائل عنه.
وقالوا في القانِتِ هو المطيع، والقانِتُ القائم بجميع أمر الله - جلَّ وعزَّ -.
وقوله: (وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ).
(لَمْ يَكُ) أصلها لم يكن، وإنما حُذفَتِ النونُ عند سيبويه لكثرة استعمال
هذا الحرف، وذكر الجلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، وأنها عبارة عن كل ما يَمْضي من الأفعال وما يُستَانَفُ، وأنها مع ذلك قد أشبهت
(١) قال جار الله الزمخشري:
وانتصاب ﴿الكذب﴾ بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ﴿مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا﴾ [الأنعام: ١٣٩] من غير استناد ذلك الوصف إلى وحي من الله أو إلى قياس مستند إليه، واللام مثلهافي قولك: ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام.
وقوله: ﴿هذا حلال وهذا حَرَامٌ﴾ بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم، فتقول هذا حلال وهذا حرام.
ولك أن تنصب الكذب بتصف، وتجعل «ما» مصدرية، وتعلق ﴿هذا حلال وهذا حَرَامٌ﴾ بلا تقولوا: على ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب، أي: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قول ساذج ودعوى فارغة.
فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟
قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصوّرته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال.
وعينها تصف السحر.
وقرىء: «الكذب» بالجرّ صفة لما المصدرية، كأنه قيل: لوصفها الكذب، بمعنى الكاذب، كقوله تعالى ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨] والمراد بالوصف: وصفها البهائم بالحل والحرمة.
وقرىء: «الكذب» جمع كذوب بالرفع، صفة للألسنة، وبالنصب على الشتم.
أو بمعنى: الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذاباً، ذكره ابن جني.
اهـ (الكشاف. ٢/ ٦٤٠ - ٦٤١)
وقال السَّمين:
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب﴾: العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ. وفيه أربعةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه «تَصِفُ» و «ما» مصدريةٌ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله ﴿هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ﴾ و ﴿لِمَا تَصِفُ﴾ علةٌ للنهي عن القول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ.
الثاني: أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ، ويكون قوله: ﴿هذا حَلاَلٌ﴾ بدلاً مِنَ «الكذب» لأنه عينُه، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ، أي: فيقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ، و ﴿لِمَا تَصِفُ﴾ علةٌ أيضاً، والتقديرُ: ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم. وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ، وذلك: أن القولَ يَطْلُبُ «الكذب» و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، أي: ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ.
الثالث: أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على «ما» إذا قلنا: إنها بمعنى الذي؛ التقدير: لِما تصفُه، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء. الرابع: أن ينتصبَ بإضمار أعني، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا معنى عليه.
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ «الكذبِ» بالخفضِ وفيه وجهان، أحدُهما: أنه بدلٌ من الموصولِ، أي: ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو. والثاني: ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل «ما» المصدرية. ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ، لا يُقال «يعجبني أن تخرجَ السريعُ» ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية.
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال، ورفعِ الباءِ صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف، أو جمع «كِذاب» نحو: كِتاب وكُتُب.
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك، إلا أنَّه نصب الباءَ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، ذكرها الزمخشري. أحدُها: أن تكونَ منصوبةً على الشتم، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب، يعني أنها مفعولٌ بها، والعامل فيها: إمَّا «تَصِفُ»، وإمَّا القولُ على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ. الثالث: أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك «كَذِب كِذاباً» يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتاب، وقد قرأ الكسائيُّ: ﴿وَلاَ كِذَاباً﴾ بالتخفيف كما سيأتي في النبأ. اهـ (الدر المصون).
حُرُوفَ اللين لأنها تكون عَلَامةً كما تكون حروف اللين عَلامةً، وأنها غُنة
تخرج من الأنف. فلذلك احتملت الحذف.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
الكلام يَدُل على أنهم ألزموا آيَة نبوة موسى عليه السلام.
وجاء في التفسير أنه حرمَهُ بعضُهم وأحلَّه بَعضُهم.
وهَذَا أدَلُّ ما جاء من الاختلاف في السبت، وقد جاء كثير في التفسير أنهم أُمِرُوا بأن يَتَّخِذُوا عِيداً فخالفوا وقالوا نريد يوم السبت لأنه آخر يوم فرغَ فيه من خَلْق السَّمَاوَات والأرض، وأن عِيسَى أمر النصارى أن يَتَخِذوا الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدُنا إلا بَعْدَ عِيد إليهودِ فجعلوه الأحَدَ، واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(١٢٥)
جاء في التفسير: (الْحِكْمَة) النبوة، و (الموعظة) القرآنُ.
(وَجَادِلهُمْ بالتي هِي أحْسَنُ).
أي جادلهم غير فَظ ولَا غَليظِ القَلْب في ذلك. ألِنْ لَهُم جَانِبَكَ.
* * *
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)
سُمِّيَ الأولُ عقوبةً، وإنما العقوبة الثاني - لازدواج الكلام لأن الجنسين
في الفعل معنى واحد. ومثله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثاني ليس بِسيئَةٍ
ولكنه سُمِّيَ به ليتفق اللفظ، لأن معنى القتل وَاحِد وقد بَيَّنَّا نظير هذا في سورة آل عمران في قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ).
وجاء في التفسير أن المسلمين هَمُّوا بأن يمثِّلوا بالمشركين، لأنهم كانوا
قد مَثَّلوا بهمْ، فَهَمَّ المسلمون بأن يزيدوا في المُثْلَةِ، فأمروا بأن لا يزيدوا
وجائز - واللَّه أعلم - أن يكون معنى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
أي من فُعِلَ به ما يَجِبُ فِيه القِصَاصُ فلا يُجَاوِز القِصَاصَ إلا بِمثلٍ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
هو مثل قوله: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).
* * *
وقوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)
ضَيْق، في معنى ضَيِّق مخَفَف، مثل مَيْتَ وميِّتٍ. وجائز أن يكون
بمعنى الضِّيقِ، فيكون مصدراً لقولك ضاق الشيء يضيق ضَيْقاً.
* * *
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
أي إن اللَّهَ نَاصِرُهُمْ، كما قال: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
فقد وَعَدَ في هذه الآيَةِ بالنَّصرِ.
Icon