مكية. وهي سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما في خاتمتها من تعظيم الرسول – عليه الصلاة والسلام – وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله في هذه :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾، قوله فيما قبلها :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٦٤ ].
ﰡ
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ * ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ تبارك ﴾ أي : تكاثر خيره وتزايد، أو : دام واتصل. وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله، والمستعمل منها الماضي فقط، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات، التي من جملتها : تنزيل القرآن، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية، أي : تعاظم ﴿ الذي نَزَّلَ الفرقانَ ﴾ أي : القرآن، مصدر فرق بين اثنين، إذا فصل بينهما. سمي به القرآن ؛ لفصله بين الحق والباطل، والحلال والحرام، أو : لأنه لم ينزل جملة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً، ألا ترى إلى قوله :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ].
أنزله ﴿ على عبده ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده - عليه الصلاة والسلام - بذلك العنوان ؛ لتشريفه، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبداً للمُرسل ؛ رداً على النصارى. أنزله ﴿ ليكون ﴾ العبد المنزل عليه، أو الفرقان ﴿ للعالمين ﴾ من الثقلين، زاد بعضهم : والملائكة، أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه، حيث لم يقف مع مقام ولا حال، ويقتبسوا من أنواره، وهو حكمة الإسراء، وقيل : حتى إلى الحيوانات والجمادات، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به، وبتعظيمه - عليه الصلاة والسلام - وهذا كله داخل في العالمين ؛ لأن ما سوى الله كله عالم ؛ كما تقدم في الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه - عليه الصلاة والسلام -. ﴿ نذيراً ﴾ أي : مخوِّفاً، وعدم التعرض للتبشير ؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة، ولا بشارة لهم.
وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم، ومن العروج بروحهم، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم، حتى يكونوا مع مراده، لا مع مرادهم، لا يريدون إلا ما أراد، ولا يشتهون إلا ما يقضي، قد تحرروا من رقِّ الأشياء، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء، يُعرج بأرواحهم، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به بين الحق والباطل، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه ؛ قال تعالى :
﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]. وبالله التوفيق.
﴿ وخَلَقَ كلَّ شيء ﴾ أي : أحدث كل شيء وحده، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي : أظهر كل شيء ﴿ فقدَّره ﴾ أي : فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به، ﴿ تقديراً ﴾ بديعاً، لا يقادر قدره، ولا يُبلغ كنهه ؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، والدلائل المختلفة، على وجود الصانع. أو : فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّاً ما كان، فالجملة تعليل لما قبلها، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه، كيف يتوهم أنه ولد لله سبحانه، أو شريكٌ له في ملكه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم، ومن العروج بروحهم، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم، حتى يكونوا مع مراده، لا مع مرادهم، لا يريدون إلا ما أراد، ولا يشتهون إلا ما يقضي، قد تحرروا من رقِّ الأشياء، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء، يُعرج بأرواحهم، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به بين الحق والباطل، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه ؛ قال تعالى :
﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ]. وبالله التوفيق.
﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ واتخذوا ﴾ أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين، اتخذوا لأنفسهم ﴿ من دونه ﴾ تعالى ﴿ آلهة ﴾ ؛ أصناماً، يعبدونها ويستعينون بها، وهم ﴿ لا يَخْلُقُون شيئاً ﴾ أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، ﴿ وهم يخْلَقُون ﴾ كسائر المخلوقات. والمعنى أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق، والملك والتقدير، عباداً عجزة، لا يقدرون على خلق شيء، وهم مخلوقون ومصورون. ﴿ ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً ﴾ أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم ؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة، وهؤلاء لا يقدرون على شيء البتة، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم، أو ضرر من لم يعبدهم ؟ !
﴿ ولا يملكون موتاً ﴾ أي : إماتة ﴿ ولا حياةً ﴾ أي : إحياء ﴿ ولا نشوراً ﴾ ؛ بعثاً بعد الموت، أي : لا يقدرون على إماتة حي، ولا نفخ الروح في ميت، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك. وفي إيذان بغاية جهلهم، وسخافة عقولهم، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من ركن إلى غير الله، أو مال بمحبته إلى شيء سواه، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه، فقد خاب مطلبه ومسعاه ؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره ؟ وفي الحِكَمِ :" لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً ؟ ! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً ؟ ".
قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير الله فهو في غرور ؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. ه. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود ؛ أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دُون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، وإلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماوات من يده، وأسخت الأرض من تحته، ولا أبالي في أي وادٍ هلك. ه. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ * ﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ * ﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ * ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ أي : تمردوا في الكفر والطغيان. قيل : هم النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضاهاهم.
وقيل : النضر فقط، والجمع ؛ لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا :﴿ إنْ هذا ﴾ ؛ ما هذا القرآن ﴿ إلا إفكٌ ﴾ ؛ كذب مصروف عن وجهه ﴿ افتراه ﴾ ؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه، ﴿ وأعانه عليه ﴾ أي : على اختلاقه ﴿ قومٌ آخرون ﴾، يعنون : اليهود، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل : هم عدَّاس، ويسار، وأبو فكيهة الرومي، كان لهم علم التوراة والإنجيل. ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى :﴿ فقد جاؤوا ﴾، وأتوا ﴿ ظُلماً ﴾ أو : بظلم، فقد تستعمل ( جاء ) بمعنى فعل، فتتعدى تعديته، أو بحرف الجر، والتنوين للتفخيم، أي : جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً ؛ حيث جعلوا الحق البيِّن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إفكاً مفترى من قول البشر، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق ؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية، والأمور الغيبية، بحيث لا يناله عقول البشر، ولا تفي بفهمه الفهوم، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. ﴿ و ﴾ أتوا أيضاً ﴿ زُوراً ﴾ أي : كذباً كثيراً، لا يُبْلَغُ غايتُه ؛ حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه.
قال تعالى :﴿ وقال الظالمون ﴾ وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي : قالوا للمؤمنين :﴿ إن تتبعون ﴾ ؛ ما تتبعون ﴿ إلا رجلاً مسحوراً ﴾ ؛ قد سُحر فغلب على عقله.
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ * ﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ * ﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ * ﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ * ﴿ لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾ * ﴿ قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً ﴾ * ﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾
قلت :( جنات ) : بدل من خيراً، و( يجعل )، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط، ومن رفعه فعلى الاستئناف، أي : وهو يجعل لك قصوراً، ويجوز عطفه على الجواب ؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم، كما هو مقرر في محله.
يقول الحق جل جلاله :﴿ تبارك ﴾ أي : تكاثر وتزايد خيره ﴿ الذي إن شاء جَعَلَ لك ﴾ في الدنيا ﴿ خيراً ﴾ لك ﴿ من ذلك ﴾ الذي اقترحوه ؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها ؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة، ﴿ جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ ﴾، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار، كما اقترحوا، ﴿ ويجعل لك قصوراً ﴾ ؛ وغرفاً في الدنيا، كقصور الآخرة، لكن لم يشأ ذلك ؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز ؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير ؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أُوتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً، لكنه نادر.
وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور ؛ لشدته وفظاعته، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها، فلا غاية لها، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ، فيضعُها على حاجبيه، ويسحبُها من خلفه، وذُريتُهُ من بعده، وهو يقول : يا ثُبُوراه، وهم يجاوبونه : يا ثُبُورهم، حتى يَقِفُوا على النار، فيقال لهم : لا تدعوا ثبوراً واحداً. . . " ١.
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ﴾ * ﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم نحشرهم ﴾، أو : يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة، فيحشرهم ﴿ وما يعبدون من دون الله ﴾ ؛ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي : الأصنام ؛ يُنطقها الله، وقيل : عام في الجميع. و( ما ) : يتناول العقلاء وغيرهم ؛ لأنه أريد به الوصف، كأنه قيل : ومعبودهم. ﴿ فيقول ﴾ الحق جل جلاله للمعبودين، إثر حشر الكل ؛ تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً :﴿ أأنتم أَضْلَلْتُمْ عبادِي هؤلاء ﴾، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم، ﴿ أم هم ضلُّوا السبيل ﴾ أي : عن السبيل بأنفسهم ؛ بإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل : أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل ؛ لأن السؤال ليس عن نفس الفعل، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له، فلا بد من ذكره، وإيلائه حرف الاستفهام ؛ ليعلم أنه المسؤول عنه. وفائدة سؤالهم، مع علمه تعالى بالمسؤول عنه ؛ لأن يجيبوا بما أجابوا به ؛ حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فتزيد حسرتهم.
﴿ قالوا ﴾ في الجواب :﴿ سبحانك ﴾ ؛ تعجيباً مما قيل، لأنهم إما ملائكة معصومون، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء، أو : قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، ثم قالوا :﴿ ما كان ينبغي لنا ﴾ أي : ما صح وما استقام لنا ﴿ أن نتخذ من دونك ﴾ أي : متجاوزين إياك، ﴿ من أولياء ﴾ نعبدهم ؛ لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك، فضلاً أن يتخذونا أولياء، أو : ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك، ﴿ ولكن متَّعتهم وآباءهم ﴾ بالأموال والأولاد وطول العمر، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها ﴿ حتى نَسُوا الذّكر ﴾ أي : غفلوا عن ذكرك، وعن الإيمان بك، واتباع شرائعك، فجعلوا أسباب الهداية ؛ من النعم والعوافي، ذريعة إلى الغواية. ﴿ وكانوا ﴾، في قضائك وعلمك الأزلي، ﴿ قوماً بوراً ﴾ ؛ هالكين، جمع : بائر، كعائذ وعوذ.
﴿ فما يستطيعون ﴾ ؛ فما يملكون ﴿ صَرْفاً ﴾ ؛ دفعاً للعذاب عنكم ﴿ ولا نصراً ﴾ أي : فرداً من أفراد النصر. والمعنى : فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء، أي : فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم، ولا نصر أنفسكم.
ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال :﴿ ومن يَظْلِمْ منكم ﴾ ؛ يشرك ؛ بدليل قوله :
﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] لأن الظلم : وضع الشيء في غير محله، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً. أي : ومن يظلم منكم أيها المكلفون، كدأب هؤلاء الكفرة، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد، واستمروا على الملاججة والفساد، ﴿ نُذقْهُ ﴾ في الآخرة ﴿ عذاباً كبيراً ﴾ لا يقادر قدره، وهو الخلود في النار، والعياذ بالله.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾
قلت : كُسرت ( إنَّ ) ؛ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد ( إلا ) : صفة لمحذوف، أي : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف ؛ اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الصافات : ١٦٤ ]، أي : وما منا أحد. وقيل : هي حال، والتقدير : إلا وأنهم ليأكلون.
يقول الحق جل جلاله : في جواب المشركين عن قولهم :﴿ مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الأَسْوَاقِ ﴾ [ الفرقان : ٧ ] ؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا ﴾ وَصِفَتُهُمْ ﴿ إِنهم لَيأْكُلون ﴾ ؛ بشر يأكلون ﴿ الطعامَ ﴾، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، ﴿ ويمشون في الأسواق ﴾ في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، ﴿ وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً ﴾ أي : محنة، وهو كالتعليل لما قبله، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الأسواق لطلب المعاش ؛ ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاءً لبعض ؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. ه.
فالحكمة في فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم ؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم ؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً ؛ لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا. ه.
قال في الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس : مؤمن وكافر، بمعنى : أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغني، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك ؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم ؛ فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم :﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ [ المؤمنون : ١١١ ]. والحاصل : أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك ؛ فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال :﴿ وكان ربك بصيراً ﴾. ه.
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل، والوليد بن عتبة، والعاص، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً، وغيرهم من فقراء المسلمين، قالوا : أنسلم ؛ فنكون مِثل هؤلاء ؟ فنزلت الآية، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر ؟ ه.
قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم ؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى خصياً في مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال : بل نصبر، ربّنا. ه.
قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. ه. وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ [ طه : ١٣١ ]، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر١. ه.
﴿ وكان ربك بصيراً ﴾ ؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به، أو : بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل ؛ لصبره الجميل، مع مزيد تشريف له - عليه الصلاة والسلام - ؛ بالالتفات إلى اسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. ه.
الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا، إلا قدر الحاجة، بعد التوقف والاضطرار، ابتداءً وانتهاء، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، في وسق من شعير. وعادته تعالى، فيمن سلك هذا المسلك، أن يُديل الغنى في عقبه، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وَصَف به الحق تعالى رسله ؛ من كونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، هو وصف للأولياء أيضاً - رضي الله عنهم - ؛ فيمشون في الأسواق ؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه : عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا.
وكان شيخ أشياخنا - سيدي علي العمراني - يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. ه. فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط ؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة ؛ فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون ؛ ابتداء، قبل دخول بلاد المعاني، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء ؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء، أهل الأحوال ؛ مجاهدةً لنفوسهم، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ تشريفاً لأهل الأحوال، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله :﴿ مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. . . ﴾.
ومن آداب الداخل في السوق : أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل - عليهم السلام. وفي قوله تعالى :﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ﴾ : تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيا أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ * ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ * ﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ * ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾
قلت :( وقال ) : عطف على :( وقالوا مال هذا الرسول. . . ) إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله - عز وجل -.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي : لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة.
والحاصل : أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل : لا يخافون لقاءنا ؛ لأن الرجاء في لغة تهامة : الخوف، قالوا :﴿ لولا ﴾ ؛ هلا ﴿ أنزل علينا الملائكةُ ﴾ رسلاً دون البشر، أو : يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، ﴿ أو نرى ربَّنا ﴾ جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك ؛ عناداً وعتوّاً.
قال تعالى :﴿ لقد استكبروا في أنفسهم ﴾ أي : أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو : عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، ﴿ وعَتَواْ ﴾ أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان ﴿ عُتواً كبيراً ﴾ ؛ بالغاً أقصى غاياته، أي : إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم ؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم :
﴿ وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ. . . ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٠، ٩٢ ]. ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة ؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام : جواب قسم محذوف، أي : والله لقد استكبروا. . الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى ؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ | إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ |
تذلَّلْ لَهُ ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ | فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ |
وفي قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ... ﴾ الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم :" إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السماوات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه، واضربوا به وجهه ؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء، أنا ملك الرحمة، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد ؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسماوات١. انتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
﴿ ويقولون حِجْراً محجوراً ﴾ على ما ذكر من الفعل المنفي، أي : لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي : يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب : حِجْراً محجوراً، أي : منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً. والمعنى : أنهم يطلبون نزول الملائكة - عليهم السلام - ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل : هو قول الملائكة، أي : تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم : حِجْراً محجوراً، أي : حراماً محرماً عليكم البشرى، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و( الحجر ) : مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ ؛ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً : لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا : موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطي على " حِجْراً " ؛ فلعله الأوجه له.
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى ؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ | إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ |
تذلَّلْ لَهُ ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ | فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ |
وفي قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ... ﴾ الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم :" إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السماوات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه، واضربوا به وجهه ؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء، أنا ملك الرحمة، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد ؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسماوات١. انتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى ؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ | إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ |
تذلَّلْ لَهُ ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ | فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ |
وفي قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ... ﴾ الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم :" إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السماوات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه، واضربوا به وجهه ؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء، أنا ملك الرحمة، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد ؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسماوات١. انتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
﴿ وأحسن مَقِيلاً ﴾ : مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقيلاً ؛ على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس.
وقرأ هذه الآية. ه. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ].
قال أبو السعود : وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف. والتفضيل المعتبر فيهما : إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي : هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله :﴿ أذلك خير. . . ﴾ الآية. ه.
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى ؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ | إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ |
تذلَّلْ لَهُ ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ | فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ |
وفي قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ... ﴾ الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم :" إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السماوات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه، واضربوا به وجهه ؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء، أنا ملك الرحمة، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة، فيقول الملك : ردوه ؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد ؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسماوات١. انتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً ﴾ * ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ * ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾ * ﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ﴾ * ﴿ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾
قلت :( المُلْكُ ) : مبتدأ، و( الحق ) : صفته. و( للرحمان ) : خبر، و( يومئذٍ ) : ظرف للاستقرار.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم تشَقَّقُ ﴾ أي : تنفتح، فمن قرأ بالتخفيف : حذف إحدى التاءين، وأصله : تتشقق. ومن شد : أدغم التاء في الشين، أي : تنشق ﴿ السماءُ بالغمام ﴾ أي : عن الغمام، فتنزل ملائكة السماوات في تلك الغمام ؛ ليقع الفصل بين الخلائق، وهو المراد بقوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملاَئِكَةُ ﴾ [ البقرة : ٦٥ ]. قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم.
﴿ ونُزِّلَ الملائكةُ تنزيلاً ﴾ عجيباً غير معهود. رُوي أن السماوات تنشق سماءً سماءً، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام، وفي أيديها صحائف أعمال العباد، فيفصل الله بين خلقه، ولذلك قال :﴿ الملكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمان ﴾.
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ | فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ |
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ | تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ |
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا | إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ |
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ | خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا |
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها | فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا |
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شأنهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ | لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ |
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا، | وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ |
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى | بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ |
هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى | واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ |
هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ | فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ |
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي | فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي |
يوافقني في كل أمر أحبه | ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي |
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه | فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ |
وفائدة التقييد، مع أن الملك لله في الدنيا والآخرة ؛ لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق ؛ مجازاً، ويكون له تصرف صوري، بخلاف يوم القيامة، تنقطع فيه الدعاوي، ويظهر الملك لله الواحد القهار، ﴿ وكان يوماً على الكافرين عسيراً ﴾ أي : وكان ذلك اليوم، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة، ﴿ عسيراً ﴾ أي : صعباً، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث : أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة، صلَّوْهَا في الدنيا. ففي حديث أبي سعيد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾، قلت : يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة، يصليها في الدنيا١ ".
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ | فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ |
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ | تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ |
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا | إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ |
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ | خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا |
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها | فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا |
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شأنهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ | لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ |
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا، | وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ |
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى | بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ |
هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى | واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ |
هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ | فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ |
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي | فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي |
يوافقني في كل أمر أحبه | ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي |
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه | فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ |
والمراد بالظالم : إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفر وصنع طعاماً، فدعا إليه أشرف قومه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُرِّب الطعام، قال النبي صلى لله عليه وسلم :" ما أنا بآكل من طعام، حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ". فقال عقُبة : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فأكل النبي صلى الله عليه وسلم طَعَامه، وكان أُبي بن خلف غائباً فلما أُخبر، قال له : صَبأتَ يا عُقبة ؟ فقال : لاَ، والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم، فَشَهِدْتُ لَهُ، فطعم، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ، وتَطَأَ عُنقه، فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم سَاجِداً، فَفعَل ذَلِكَ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا ألْقَاكَ خَارجاً من مَكَّةَ إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيفِ ". فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ صبراً. وأما أُبيُّ فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده، يوم أُحُد، في المبارزة، طعنه في عنقه، فمات بمكة١.
وعن الضحاك : لما بَصَقَ عقبة - بأمر أبي - في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، رجع بُصَاقُهُ في وجهه، وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل في وجهه حتى قتل، وقتله علي ببدر بأمره صلى الله عليه وسلم بقتله. ه. وقال الشعبي : كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أُبيّ : وجهي من وجهك حرام، أنْ تابعت محمداً، فارتدَّ ؛ لرضا صاحبه، فنزلت الآية. ه.
وإمَّا جنس الظالم، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً.
﴿ يقول يا ليتني ﴾، الياء لمجرد التنبيه، من غير تعيين المنبّه، أو : المنبه محذوف، أي : يا هؤلاء ﴿ ليتني اتخذت ﴾ في الدنيا ﴿ مع الرسول ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ سبيلاً ﴾ أي : طريقاً مُنجياً من هذه الورطات، وهي طريق الإسلام، ولم أكن ضالاً، أو : طريقاً إلى الجنة.
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ | فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ |
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ | تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ |
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا | إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ |
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ | خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا |
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها | فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا |
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شأنهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ | لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ |
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا، | وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ |
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى | بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ |
هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى | واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ |
هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ | فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ |
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي | فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي |
يوافقني في كل أمر أحبه | ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي |
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه | فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ |
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ | فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ |
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ | تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ |
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا | إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ |
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ | خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا |
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها | فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا |
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شأنهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ | لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ |
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا، | وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ |
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى | بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ |
هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى | واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ |
هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ | فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ |
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي | فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي |
يوافقني في كل أمر أحبه | ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي |
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه | فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ |
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ | فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ |
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ | تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ |
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا | إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ |
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ | خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا |
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها | فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا |
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها ؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شأنهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ ؛ فإِنهُمْ | لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ |
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا، | وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ |
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى | بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ |
هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى | واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ |
هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ | فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ |
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي | فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي |
يوافقني في كل أمر أحبه | ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي |
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه | فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ |
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ﴾ * ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾
قلت :( وقال الرسول ) : عطف على :( وقال الذين لا يرجون. . )، وما بينهما : اعتراض ؛ لبيان قبح ما قالوا، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الرسولُ ﴾ ؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده بعنوان الرسالة للرد في نحورهم، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم، أي : قال، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان، شاكياً إلى ربه - عز وجل :- ﴿ يا ربِّ إِن قومي ﴾، يعني : قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع، ﴿ اتخذوا هذا القرآنَ ﴾، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب، ﴿ مهجوراً ﴾ أي : متروكاً بالكلية، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، وهو من الهجران، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن ؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ تَعَلَّم القُرْآن ؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ، يَقُولُ : يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ ".
وقيل : هو من هجر ؛ إذا هذى، أي : قالوا فيه أقاويل باطلة، كالسحر، ونحوه، أو : بأن هجروا فيه إذا سمعوه، كقولهم :﴿ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] ؛ أي : مهجوراً فيه.
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى، فإن الأنبياء - عليهم السلام - إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب، ولم يُنظروا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ يعني : قريشاً، وهم القائلون :﴿ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾ [ الفرقان : ٢١ ]، والتعبير عنهم بعنوان الكفر ؛ لذمهم، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم، قالوا :﴿ لولا نُزِّل عليه القرآنُ ﴾، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ، وإلا كان متدافعاً ؛ لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة، أي : هلاَّ أنزل القرآن، حال كونه ﴿ جملةً واحدةً ﴾ أي : دفعة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل مفرقاً في سنين ؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد ؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها، ودليل كونها من عند الله، إعجازُها، وأما القرآن الكريم، فبينة صحته، ودليل كونه من عند الله نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً، على أن له فوائد أخرى، قد أشير إلى بعض منها بقوله :﴿ كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك ﴾ ؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى ؛ لرد مقالتهم الباطلة، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود. أي : أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين ؛ لنثبت به فؤادك، ونقوي به يقينك، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب، وازداد اليقين، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل - عليه السلام - بالرسالة في كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجبَ ؛ لسكون قلبه، وكمال رَوْحه، ودوام أُنْسه، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً. ه.
وقال القرطبي بعد كلام : أيضاً : لو أنزل جملة، بما فيه من الفرائض ؛ لثقل عليهم، وأيضاً : في تفريقه تنبيه لهم مرة بعد مرة، وهو أنفع لهم، وأيضاً فيه ناسخ ومنسوخ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه، وهو لا يصح. ه. وقال النسفي : لنقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. أو : لنُثبت به فؤادك عن الضجر ؛ وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول ؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب. ه.
﴿ ورتلناه ترتيلا ﴾ أي : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً، أي : قدرناه آية بعد آية ووقفة عقب وقفة، وأمرنا بترتيل قراءته، بقولنا :﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ [ المزمل : ٤ ] أو : فصلناه تفصيلاً، أو : بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبت.
ونزلت الآية لَمَّا قالوا : إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً. وقيل : المعنى : إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال، ومكانه حقير، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً، وأضل سبيلاً. والله تعالى أعلم.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ﴾ * ﴿ فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب ﴾ ؛ أُنزل عليه جملة، ومع ذلك كفروا وكذبوا به، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ [ القصص : ٤٨ ]، فكذلك هؤلاء، لو نزل جملة، كما اقترحوا، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك. ﴿ وجعلنا معه أخاه هارونَ وزيراً ﴾، فأخاه : مفعول أول لجعل، و( وزيراً ) : مفعول ثان، أي : جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً. والوزير : من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه، من الوزَر، وهو الملجأ.
والوزارة لا تنافي النبوة ؛ فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً. أو : يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً.
﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ * ﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً ﴾ * ﴿ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾
قلت :( وقوم ) : منصوب بمضمر يدل عليه ( دمرناهم )، أي : ودمرنا قوم نوح، و( عاداً وثموداً ) : عطف على ( قوم نوح ).
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ دمرنا أيضاً ﴿ قومَ نوحٍ ﴾، وذلك أنهم ﴿ لمَّا كذَّبوا الرسلَ ﴾ ؛ نوحاً، ومن قبله شَيْثاً وإدريس، أو : لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع ؛ لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام، ﴿ أغرقناهم ﴾ بالطوفان، ﴿ وجعلناهم ﴾ أي : وجعلنا إغراقهم أو قصتهم ﴿ للناس آية ﴾ : عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها.
﴿ وأَعْتَدنا ﴾ ؛ هيأنا ﴿ للظالمين ﴾ أي : لهم. وأظهر في موضع الإضمار ؛ للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم، أو لكل ظالم ظلم شرك، فيدخل كل من شاركهم، كقريش وغيرهم، أي : هيأنا ﴿ عذاباً أليماً ﴾، أي : النار المؤبدة عليهم.
وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه ؛ بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
وقال سعيد بن جبير وغيره : قوم كان لهم نبي، يقال له : حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل، يقال له : فتخ، مَصْعَدُه في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه، وهي كأعظم ما يكون من الطير، وفيها من كل لون - وسموها العنقاء ؛ لطول عنقها - وكانت تنقض على الطير فتأكلها، فجاعت ذات يوم، فانقضت على صبي فذهبت به، - وسميت عنقاء مغرب ؛ لأنها تُغرِّبُ ما تأكله عن أهله فتأكله - ثم انقضت على جارية قد ترعرعت، فأخذتها فطارت بها، فشكوا إلى نبيهم، فقال : اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة، فاحترقت، فلم يُر لها أثر، فصارت مثلاً عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكم الله. وقال مقاتل والسدي : هم أصحاب بئر إنطاكية، وتسمى الرس، قتلوا فيها حبيباً النجار، فنُسبوا إليها، وهم الذين ذُكروا في ( يس ). وقيل هم أصحاب الأخدود الذين حفروه، والرسُّ في كلام العرب : كل محفور ؛ مثل البئر، والقبر، والمعدن، وغير ذلك، وجمعها : رساس. وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر.
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود، وذلك أن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره، ويبيعه، ويأتيه بطعامه، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ.
فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذا نام فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ، ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده. وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ، ومات ذلك النبي، فقال - عليه الصلاة والسلام - :" إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة٢ "، يعني من قومه. ه. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها، إلا أن يكون أحدثوا شيئاً بعد نبيهم، فدمرهم الله.
وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أن أصحاب الرسّ : السحّاقات، قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ، والنساءُ بالنساءِ٣ "، وذلك السحاق، ويقال له أيضاً : المساحقة، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره : أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط، حتى استغنوا عن النساء، فبقيت النساء معطلة، فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة، وهي الوَلِهات بنت إبليس، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل، وخسفاً من آخر الليل، وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم بقية. ه.
﴿ وقُُروناً ﴾ أي : دمرنا أهل قرون. والقرن سبعون سنة، وقيل : أقل، وقيل : أكثر، ﴿ بين ذلك ﴾ أي : بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف، ﴿ كثيراً ﴾، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير.
وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه ؛ بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ١٩/١٤ وابن كثير في تفسيره ٣/٣١٨..
٣ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٠/٢٨٢ والهيثمي في مجمع الزوائد ٧/٣٢٣..
وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه ؛ بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه ؛ بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ﴾ * ﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ * ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾ * ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإِذا رَأَوْكَ ﴾ أي : مشركو مكة ﴿ إِن ﴾ ؛ ما ﴿ يتخذونَك إلا هُزُواً ﴾ أي : مهزوءاً بك، أو محل هزء، حال كونهم قائلين :﴿ أهذا الذي بعثَ الله رسولاً ﴾، ورسولاً، حال من العائد المحذوف، أي : هذا الذي بعثه الله رسولاً، والإشارة ؛ للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة، مع كونهم في غاية الإنكار لهما ؛ على طريق الاستهزاء، وإلا لقالوا : أبعث الله هذا رسولاً.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾ * ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً ﴾ * ﴿ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً ﴾ * ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم تَر ﴾ يا محمد ﴿ إلى رَبّكَ ﴾ أي : ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام -، لتشريفه وتبجيله، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته، ﴿ كيف مَدَّ الظِّلَّ ﴾ أي : بسطه حتى عمَّ الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس، في قول الجمهور ؛ لأنه ظل ممدود، لا شمس معه ولا ظلمة، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل : مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار ؛ من شجر، أو مدر، أو إنسان، ثم قبضها وردها إلى المشرق. ﴿ ولو شاء لجعله ساكناً ﴾ أي : دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس، أو : لا ينتقص بسيرها. ﴿ ثم جعلنا الشمسَ عليه ﴾ أي : على الظل ﴿ دليلاً ﴾، لأنه بالشمس يُعرف الظل، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل، ولا ظهر له أثر، فالأشياء تُعرف بأضدادها.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
وهذه الآية، مع دلالتها على قدرته تعالى، فيها إظهار لنعمته تعالى ؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة - المشبهين بالموت والبعث - عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
[ الأنفال : ١١ ] وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل : طهور في نفسه، مبالغة في الطاهرية، فالطهور في العربية يكون صفة، كما تقول : ماء طهور، واسماً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" التراب طهور، والمؤمن طهور "، وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة، كقولك : تطهرت طهوراً حسناً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" لا صلاة إلا بطهور١ " ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك ؛ ليكون أبلغ في النعمة، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته، أي : أنزلناه كذلك.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى :" أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ ؛ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ١ ". فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار٢ ". والله تعالى أعلم.
ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ".
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ ولقد صرفناه بينهم ﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٤٠٣..
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ﴾ * ﴿ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً ﴾ أي : رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك ؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى :﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾
[ الفرقان : ١ ] ؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، ﴿ فلا تُطع الكافرين ﴾ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة ؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
﴿ وجاهِدْهُمْ به ﴾ أي : بالقرآن ؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ، وذكر أحوال الأمم الهالكة، ﴿ جهاداً كبيراً ﴾ ؛ عظيماً موقعه عند الله ؛ لما يتحمل فيه من المشاق، فإن دعوة كُلِّ العالمين، على الوجه المذكور، جهاد كبير، أو :( جاهدهم به ) ؛ بالشدة والعنف ؛ من غير مداراة ولا ملاينة، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف، كقوله :﴿ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾ * ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾
قلت : أصل المرج : الخلط والإرسال، ومنه قوله تعالى :﴿ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [ ق : ٥ ]، وقوله صلى الله عليه وسلم :" كيف بك يا عبدَ اللهِ إذا كنت في حُثَالةٍ من الناس، قد مرجتْ عهودهُمْ وأماناتهمْ، وصاروا هكذا، وشَبَّكَ بين أصابعه١ ". يقال : مرج دابته وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى. ومنه قيل للروضة : مرج.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وهو الذي مَرَجَ البحرين ﴾ أي : أرسلهما، وخَلاَّهُمَا متجاورَيْن متلاصقَيْن غير متمازجَيْن. ﴿ هذا عذبٌ فُرَاتٌ ﴾ أي شديد العذوبة، قامع للعطش ؛ لعذوبته، أي : برودته، ﴿ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ﴾ : بليغ الملوحة، أو هذا عذب لا ملوحة فيه، وهذا ملح لا عذوبة فيه، مع اتحاد جنسهما، ﴿ وجعل بينهما برزخاً ﴾ ؛ حائلاً بقدرته، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ؛ لئلا يختلطا، ﴿ وحِجْراً محجوراً ﴾ أي : وستراً ممنوعاً عن الأعين، كقوله :﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٥ ]، أي : جعل بينهما حاجزاً خفياً ؛ لئلا يغلب أحدهما الآخر، أو : سداً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان، ولا يفسد الملحُ العذبَ، ولو خَلاَّ الله تعالى البحر الملح، ولم يلجمه بقدرته، لفاض على الدنيا، واختلط مع العذب وأفسده.
وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا | فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ |
﴿ وكان ربك قديراً ﴾ ؛ حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً ذا نوعين، ذكراً وأنثى، أو : حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفةٍ وطباعٍ متباعدة، وجعله قسمين متقابلين ؛ ذكراً وأنثى.
وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا | فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ |
وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا | فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ |
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ * ﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ إلا مبشراً ﴾ للمؤمنين ﴿ ونذيراً ﴾ للكافرين.
وقيل : الاستثناء متصل، أي : لا أسألكم عليه أجراً، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه تعالى، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة، حسبما أدعوكم إليهما. فَصوّر ذلك بصورة الأجر ؛ من حيث أنه مقصود الإتيان به، واستثناه منه ؛ قطعاً لشائبة الطمع، وإظهاراً لغاية الشفقة عليهم، حيث جعل ذلك، مع كون نفعه عائداً إليهم، عائداً إليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ﴾ * ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾ * ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموتُ ﴾ في الاستكفاء عن شرورهم، والاغتناء عن أجورهم، أي : ثق به ؛ فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً، فإن الله كافيك. قرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. ﴿ وسَبَّحْ ﴾ أي : ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه، ﴿ بحمده ﴾ أي : بتوفيقه الذي يوجب الحمد، أو : قل سبحان الله وبحمده، أو : نزهه عن صفات النقصان، مثنياً عليه بنعوت الكمال، طالباً لمزيد الإنعام، ﴿ وكفى به بذنوب عباده خبيراً ﴾ أي : كفى الله خبيراً بذنوب عباده، ما ظهر منها وما بطن، يعني : أنه خبير بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم.
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب الزيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة : القناعة، فيقنع بالحاصل، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب، وهو مقام التجريد، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ؛ ثقةً منه بوعد ربه، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا : الموافقة ؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك ؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال ؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف. هـ.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان العارف : والظاهر : أن الخبير هو الله، أي : أسأل الله الخبير بالأشياء، الأعلم بخفاياها، والتقدير : فسل بسؤالك إياه خبيراً. وإنما استظهرنا هذا القول ؛ لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه. والمراد : فسل الله الخبير بالرحمان ووصفه. انظر تمام كلامه.
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب الزيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة : القناعة، فيقنع بالحاصل، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب، وهو مقام التجريد، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ؛ ثقةً منه بوعد ربه، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا : الموافقة ؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك ؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال ؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف. هـ.
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب الزيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة : القناعة، فيقنع بالحاصل، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب، وهو مقام التجريد، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ؛ ثقةً منه بوعد ربه، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه : التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا : الموافقة ؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك ؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال ؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب ؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف. هـ.
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ * ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ تبارك ﴾ أي : تعاظم ﴿ الذي جعل في السماء بُروجاً ﴾ وهي البروج الاثنا عشر : الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وهي منازل الكواكب السبعة السيارة، لكل كوكب بيتان، يقوي حاله فيهما، وللشمس بيت، وللقمر بيت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زُحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هي القصور العالية ؛ لأنها، لهذه الكواكب، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة البحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه، فإن بيت القمر - وهو السرطان - مائي، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر :" وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ. . . " إلخ. قاله في الحاشية.
واشتقاق البروج من التبرج، الذي هو الظهور ؛ لظهورها، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج : النجوم الكبار ؛ لظُهورها.
﴿ وجعل فيها سِرَاجاً ﴾ أي : الشمس، لقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ اْلشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ]. وقرأ الأَخَوَان :" سُرُجاً ". ويراد : النجوم الكبار والشمس، ﴿ وقمراً منيراً ﴾ أي : مضيئاً بالليل.
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : فاتتني الصلاةُ الليلةَ، فقال : أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة ﴿ لمن أراد أن يذَّكَّر ﴾. ه. أي : يتذكر آلاء الله - عز وجل -، ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف :" يَذْكُرَ " أي : يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما، ﴿ أو أراد شكوراً ﴾ أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما، فيجتهد في عمارتهما بالطاعة ؛ شكراً. وبالله التوفيق.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ * ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ولا يزنون. . . ﴾.
قلت : و( عباد ) : مبتدأ، و( الذين ) وما بعده : خبر. وقيل :( أولئك يُجزون ).
و( هوناً ) : حال، أو : صفة، أي : يمشون هينين، أو مشياً هونا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وعبادُ الرحمان ﴾ أي : خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمان، ﴿ الذين يمشون على الأرض هوناً ﴾ أي : بسكينة وتواضع ووقار، قال الحسن : يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر، في سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور المَرِح، الذي يختال في مشيه. وقال ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفهم عليهم حلَموا. و " الهَوْن " في اللغة : الرفق واللين. ومن قوله صلى الله عليه وسلم :" أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا. وأبْغِض بَغِيضَكَ هَوْناً مَا، عسى أنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا١ ".
﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون ﴾ أي : السفهاء بما يكرهون، ﴿ قالوا سلاماً ﴾ ؛ سداداً من القول، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا. أو : سلمنا منكم سلاماً، أو : سلموا عليهم سلاماً، دليله قوله تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، ثم قالوا :﴿ سلام عليكم ﴾. قيل : نسختها آية القتال، وفيه نظر ؛ فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة، فلا ينسخ. وكان الحسن إذا تلا الآيتين قال : هذا وصف نهارهم، ثم قال تعالى :﴿ والذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً ﴾ : هذا وصف ليلهم.
سورة الفرقان
مكية. وهي سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما في خاتمتها من تعظيم الرسول – عليه الصلاة والسلام – وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله في هذه :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾، قوله فيما قبلها :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٦٤ ].
سورة الفرقان
مكية. وهي سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما في خاتمتها من تعظيم الرسول – عليه الصلاة والسلام – وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله في هذه :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾، قوله فيما قبلها :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٦٤ ].
ومنه : الغريم ؛ لملازمته غريمه، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا ؛ إيذاناً بأنهم، مع اجتهادهم، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم.
سورة الفرقان
مكية. وهي سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما في خاتمتها من تعظيم الرسول – عليه الصلاة والسلام – وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله في هذه :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾، قوله فيما قبلها :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٦٤ ].
[ الإسراء : ٢٩ ] الآية. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. ومثله في سنن ابن ماجه١ ؛ مرفوعاً. قال القشيري : الإسراف : أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس، ولو فلساً، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف، ولو ألفاً. والإقتارُ : ما كان ادخاراً عن الله، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس ؛ منعاً لها عن اتباع الشهوات، ولتتعود الاجتزاء باليسير، فليس بالإقتار المذموم. ه.
سورة الفرقان
مكية. وهي سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : ما في خاتمتها من تعظيم الرسول – عليه الصلاة والسلام – وما افتتحت به من تعظيمه أيضا ؛ لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله في هذه :﴿ الذي له ملك السماوات والأرض ﴾، قوله فيما قبلها :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٦٤ ].
الثاني : العباد والزهاد أهل الجد والاجتهاد، أهل الصيام والقيام، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، أقامهم الحق تعالى لخدمته، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث : الصالحون والأبرار، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله، من غير سرف ولا إقتار. الرابع : عامة الموحدّين من أهل اليمين، المجتنبون لكبائر الذنوب، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب، فقال :
﴿. . . وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومن يَفْعَلْ ذلك ﴾ أي : ما ذكر، كما هو دأب الكفرة المذكورين، ﴿ يَلْقَ ﴾ في الآخرة ﴿ أثاماً ﴾ ؛ وهو جزاء الآثام، كالوبال والنكال ؛ وزْناً.
ومعنى، ﴿ يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامة ﴾ أضعافاً كثيرة، كما يضاعف للمؤمنين جزاء أعمالهم كذلك، ﴿ ويخْلُدْ فيه ﴾ أي : في ذلك العذاب المضاعف، ﴿ مهاناً ﴾ ؛ ذليلاً حقيراً، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني.
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ | ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ |
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات، قيل : من ؟ قال : الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات١ " ﴿ وكان الله غفوراً ﴾ للسيئات، ﴿ رحيماً ﴾ يُبَدِّلُها حسنات.
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ | ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ |
فنزلت :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر. . . ﴾ إلى قوله :﴿ إلا من تاب. . . ﴾ إلخ. والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة ؛ لعموم قوله :﴿ إلا من تاب ﴾، وهو قول الجمهور. وقيل : إن هذه منسوخة بآية النساء، وهو ضعيف. والله تعالى أعلم.
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ | ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ |
﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ * ﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ * ﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ والذين لا يشهدون الزورَ ﴾ أي : لا يقيمون شهادة الكذب، أو لا يحضرون محاضر الكذب ؛ فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه، أي : يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين، فلا يقربونها، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله. وفي مواعظ عيسى - عليه السلام - : إياكم ومجالسَ الخطَّائين. ﴿ وإِذا مَرُّوا باللغو ﴾ أي : بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح، والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به ﴿ مَرُّوا كراماً ﴾ معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن التلوث به، كقوله :
﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، وعن الباقر : إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها، وقال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا.
وإنما قال :" أعين " ؛ بلفظ القلة، دون عيون ؛ لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم. والمعنى : أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً، عُمَّالاً لله، يسرون بمكانهم، وتقر بهم عيونهم، قيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس :( هو الولد إذا رآه يكتب الفقه ).
﴿ واجعلنا للمتقين إماماً ﴾ أي : أئمة يقتدى بنا في الدين، فاكتفى بالواحد ؛ لدلالته على الجنس، أو : واجعل كل واحد منا إماماً ؛ أي : من أولادنا إماماً. والظاهر : أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد ؛ إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماماً، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير ؛ قصداً إلى الإيجاز، كقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ]. وأبقى إماماً على حاله من الانفراد. قيل : وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني.
وقيل : ما يعبأ : بمغفرة ذنوبكم، ولا هو عنده عظيم، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء، كقوله :﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٧ ]، قاله الضحاك. ثم قال : فظاهره : أن " ما " : استفهامية، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً. انظر بقية كلامه.
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان، أي : ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم، ﴿ فقد كذبتم ﴾ بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب، ﴿ فسوفَ يكونُ ﴾ العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم ﴿ لِزاماً ﴾ ؛ لازماً لكم ؛ لا تنفكون عنه، حتى يكبكُم في النار. فالفاء في قوله :﴿ فقد كذَّبتم ﴾ استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكرٍ ؛ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، وأنه مما لا تفي العبارة به.
وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر، وأنه لُوزِمَ بين القتلى. وفي المشارق : اللزام : الفيصل، وقد كان يوم بدر. ه. والله تعالى أعلم.