تفسير سورة العنكبوت

معاني القرآن
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

قوله :﴿ ألم أَحَسِبَ الناسُ أَن يُتْرَكُواْ٢ ﴾
﴿ يُتركوا ﴾ يقع فيها لام الخفض، فإذا نزعتها منها كانت مَنْصوبةً. وقلّما يقولون : تركتك أن تذهب، إنما يقولونَ : تركتكَ تذهب. ولكنها جُعلت مكتفِية بوقوعِها على الناس وحدهم. وإن جعلتَ ﴿ حَسب ﴾ مَكرورة عليها كان صَوَاباً ؛ كأنّ المعْنى :﴿ أَحَسِبَ الناسُ أَن يُتْرَكُواْ ﴾، أحسِبُوا ﴿ أَن يَقُولُواْ آمَنا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾.
وقوله :﴿ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ١٢ ﴾ هو أمر فيه تأويل جزاء، كما أن قوله ﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ نَهي فيه تأويل الجزاء. وهو كثير في كلام العرب.
قال الشاعر :
فقلتُ ادعِى وأَدْعُ فإنَّ أندى لصَوتٍ أن يُنادىَ داعيانِ
إراد : ادعِى ولأَدْعُ فإِن أندى. فكأنه قال : إن دعوتِ دعوتُ.
وقوله :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ١٣ ﴾
يَعْنى أوزارهم ١٤٢ ا ﴿ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ يقول : أوزار مَنْ أضَلّوا.
وقوله :﴿ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانا وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً١٧ ﴾
( إنَّما ) في هذا الموضع حرفٌ واحدٌ، وليست على معنى ( الذي ) ﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ﴾ مردودة على ( إنّما ) كقولك : إنما تفعلونَ كذا، وإنما تفعلون كذا. وقد اجتمعُوا على تخفيف ﴿ تَخْلُقُونَ ﴾ إلاّ أبا عبد الرحمن السُلَمِيّ فإنه قرأ ( وتَخَلّقُون إفْكا ) ينصِب التاء ويُشدّد اللام وَهما في المعْنى سَواء.
وقوله :﴿ النَّشْأَةَ٢٠ ﴾
القراء مجتمعُونَ على جزم الشين وقَصْرها، إلا الحسن البصريّ فإنه مدّها في كل القرآن فقال ( النشَاءة ) ومثلها مما تقوله العرب الرأْفة، والرآفة، والكَأْبة والكآبة كلّ صواب.
وقوله :﴿ وَما أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّماء٢٢ ﴾
يقول : القائل : وكيف وصفهم أَنهم لا يُعجزون في الأرض ولا في السماء، وليسُوا من أهْل السَّماء ؟ فالمعنى - والله أعلم - ما أنتم بمعجزينَ في الأرض ولا مَن في السَّماء بمعجزٍ. وهو من غامِضِ العربيّة للضمير الذي لم يظهر في الثاني.
ومثله قول حَسَّان :
أمَن يهجو رسولَ الله منكم ويمدحُهُ وينصرهُ سَوَاء
أراد : ومن ينصره ويمدحه فأضمر ( مَنْ ) وقد يقع في وَهْم السَّامِع أن المدح والنصر لَمْن هذه الظاهرة. ومثله في الكلام : أكرِم مَن أتاكَ وأتى أباكَ، وأكرم مَن أتاك ولم يأت زيداً، تريد : ومَن لم يأتِ زيدا.
وقوله :﴿ وَقَالَ إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ٢٥ ﴾
نصبها حَمزة وأضافَها ؛ ونصبها عاصم وأهل المدينة، ونوَّنوا فيها ﴿ أَوْثَانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ﴾ ورُفعَ ناسٌ منهم الكسائي بإضافة. وقرأ الحسَن ( مَوَدّةٌ بَيْنَكُمْ ) يَرفع ولا يضيف. وهي في قراءة أُبَيّ ( إنَّما مَوَدَّةُ بَيْنهِمْ في الحياة الدُّنْيَا ) وفي قراءة عَبْدِ الله ( إنَّما مَوَدَّةُ بَيْنِكم ) وهما شاهدان لمنْ رَفع. فمَن رفعَ فإنما يرفع بالصفة بقوله ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ وينقطع الكلام عند قوله ﴿ إِنَّما اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانا ﴾ ثم قال : ليست مودّتكم تلك الأوثان ولا عبادتكم إيَّاها بشيء، إنَّما مودّة ما بينكم في الحياة الدنيا ثم تنقطع. ومَن نصب أوْقع عَليها الاتّخاذ : إنما اتّخذتموها مَوَدّةً بينكم في الحياة الدنيا. وقد تكون رفعاً على أَن تجعَلها خبراً لِما وتجعَل ( ما ) على جهة ( الذي ) كأنك قلت : إِن الذينَ اتخذتموهم أوثانا مودَّةُ بينكم فتكون المودَّة كالخبر، ويكون رفعها على ضمير ( هي ) كقوله ﴿ لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعةً مِنْ نَهارٍ ﴾ ثم قال ﴿ بَلاَغٌ ﴾ أي هذا بلاغ، ذلك بلاغ. ومثله ﴿ إنَّ الذينَ يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ﴾ ثم قال ﴿ مَتَاعٌ في الدنيا ﴾ أي ذلك متاع في الحياة الدنيا وقوله ﴿ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ : يتبرّأ بعضكم من بعضٍ والعابد والمعبود في النار.
وقوله :﴿ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلَى رَبِّي٢٦ ﴾ هذا من قِيل إبراهيم. وكان مهاجَره من حَرَّان إلى فِلسطين.
وقوله :﴿ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا٢٧ ﴾ الثناء الحسن وأن أهل الأديان كلّهم يتولَّونه. ومِنْ أجره أن جُعلت النبوَّة والكتاب في ذُرّيته.
وقوله :﴿ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ٢٩ ﴾ قَطْعه : أنهم كانوا يعترضُونَ الناسَ منَ الطُرُق بعملهم الخبيث، يعنى اللوَاطَ. ويقال : وتقطُعونَ السَّبِيلَ : تقطُعونَ سَبِيلَ الوَلَد بتعطيلكم /١٤٢ ا النساء وقوله ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ في مجالسكم. والمنكر منه الخَذْف، والصفير، ومَضْغ العِلْك، وحَلّ أزرار الأقبية والقُمُصِ، والرمي بالبُنْدُق. ويقال : هي ثماني عشرة خَصْلةً من قول الكلبيّ لا أحفظها. وقال غيره : هي عشرٌ.
وقوله :﴿ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ٣٨ ﴾ في دينهم. يقول : ذوُو بصَائر.
وقوله :﴿ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً٤١ ﴾ ضربه مثلاً لمن اتّخذ من دون الله وليّاً أنه لا ينفعه ولا يضرّه، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرّاً ولا بَرْداً. والعنكبوت أنثى. وقد يُذكِّرها بعض العرب. قال الشاعر :
على هَطّالهم منهم بيوتٌ كأنَّ العنكبوت هو ابتناها
وقوله :﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهي عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ٤٥ ﴾
يقول : ولذكر الله إيّاكم بالثواب خير من ذكركم إيّاه إذا انتهيتم. ويكون : إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وأحَقّ أن يَنْهى.
وقوله :﴿ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ٤٧ ﴾ بمحمَّدٍ صَلى الله عليه وسلم. ويقال : إنه عبْد الله بن سَلاَم
﴿ وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ يعنى الذين آمنوا من أهل مَكَّة.
وقوله :﴿ وَما كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ٤٨ ﴾ من قَبْل القرآن ﴿ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ ولو كنت كذلكَ ﴿ لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ يعنى النصارى الذينَ وجَدُوا صفته ويكون ﴿ لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ أي لكَانَ أشدّ لِريبة مَنْ كذَّب من أهل مكَّة وغيرهم.
وقوله :﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّناتٌ٤٩ ﴾ يريد القرآن وفي قراءة عبد الله ( بل هي آياتٌ ) يريد : بل آيات القرآن آيات بَيِّنات : ومثله ﴿ هَذَا بَصَائر لِلناسِ ﴾ ولو كانت هذه بصَائر للناس كان صَوَاباً. ومثله ﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ﴾ لو كان : هذه رحمة لجاز.
وقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى٥٣ ﴾
يقول : لولاَ أن الله جَعَلَ عذاب هذه الأمّة مؤخّراً إلى يوم القيامة - وهو الأجل - لجاءهم العذاب. ثم قال ﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ﴾ يعنى القيَامة فذكَّر لأنه يريدُ عذابَ القيَامة. وإن شئت ذكّرته على تذكير الأجَل. ولو كانت ﴿ وَلَتَأْتِيَنَّهُمْ ﴾ كان صَوَاباً يريد القيامة والسَّاعة.
وقوله :﴿ وَيِقُولُ ذُوقُواْ٥٥ ﴾ وهي في قراءة عبد الله ( ويقال ذوقوا ) وقد قرأ بعضهم ( وَنَقُولُ ) بالنون وكلّ صَواب.
وقوله :﴿ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ٥٦ ﴾ هذا لِمُسلمة أهل مَكَّة الذينَ كانوا مقيمينَ مع المشركينَ. يقول ﴿ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾ يعنى المدينة أي فلا تُجاوروا أهْل الكفر.
وقوله :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ٥٨ ﴾
قرأها العوام ﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ﴾ وحدَّثني قيس عن أبى إسْحاق أن ابن مسعود قرأها ( لنُثْوِيَنَّهُمْ ) وقرأها كذلك يحيى بن وثَّاب وكلُّ حسن بَوَّأته منزلاً وأثويته منزلاً.
وقولوا :﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ٦٠ ﴾ نزلت في مؤمني أهلِ مكَّة، لما أُمروا بالتحوّل عنها والخروجِ إلى المدينة قالوا : يا رسول الله ليسَ لنا بالمدينة منازل ولا أموال فمِنْ أين المعَاش ؟ فأنزل اللهُ ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَها ﴾ لا تدّخر رزقها ولا تجمعه، أي كذلكَ جميع هوامّ الأرض كلّها إلاّ النملة فإنها تدَّخر رزقها لسَنَتها.
وقوله :﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ٦٤ ﴾ حياة لا موت فيها.
وقوله :﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ٦٥ ﴾ يقول : يُخلصونَ الدعاء والتوحِيد إلى الله في البحر، فإذا نجَّاهم صاروا إِلى عبادة الأوثان.
وقوله :﴿ وَلِيَتَمَتَّعُواْ٦٦ ﴾ قرأها عاصم والأعمش على جهة الأمر والتوبيخ بجزم اللام وقرأها أهل الحجاز ﴿ وَلِيَتَمَتَّعوا ﴾ مكسُورة على جهة كي.
Icon