ﰡ
[سورة الصافات]
فاتحة سورة الصافات
لا يخفى على ارباب الصفوة من المنجذبين نحو الحق المنكشفين بانبساط وحدته الذاتية حسب شئونه وتطوراته المنتشئة من أسمائه وصفاته الذاتية على صفائح المظاهر والمجالى الغير المحصورة والعكوس والاظلال الغير المتناهية ان الوحدة الحقيقية الحقية لما أرادت ان تتجلى بالتجلى الحبى لإظهار الكمالات المندمجة في ذاتها المقتضية للظهور والجلاء والاستجلاء تنزلت أولا من مرتبة الاحدية والعماء الذاتي الذي لا يتصور فيها الشعور والإدراك مطلقا الى الواحدية ثم منها الى ما شاء الله فظهرت المراتب والكثرات فأول كثرة ظهرت منها هي الأسماء الحسنى والصفات العليا الغير المنحصرة الموسومة عند ارباب الأذواق بالملائكة المهيمين الوالهين بمطالعة وجهه الكريم الصافين حول عرشه العظيم ثم ظهرت من تلك الأسماء والصفات كثرة الآثار والاظلال المنعكسة منها ثم ترتبت على تلك العكوس والاظلال اللوازم والعوارض والإضافات والتعلقات الفائتة للحصر والإحصاء وبعد ما قد بلغت الكثرة نهايتها تكونت الطبائع والهيولى والجواهر والاعراض وحدثت الفتن والأمراض واختلفت المذاهب والأغراض وتشعبت الطرق والأحزاب وتكثرت الملل والنحل وتزاحمت الأفكار والآراء وتعارضت الأماني والأهواء فحينئذ اقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والقوانين وتحميل التكاليف الشافة على العباد وتشريع الطاعات والعبادات عليهم وإرسال الرسل والأنبياء المؤيدين من عند الله بالكتب المنزلة الفارقة بين الحق والباطل من السبل والاحكام المبينة للأمم براهين التوحيد وحجج اليقين ليتميز المحق من المبطل والموحد من الملحد والمؤمن العارف من الكافر الجاهل ولهذا المطلب العلى والمقصد السنى الذي هو التوحيد الذاتي اقسم سبحانه بأعظم مخلوقاته وأقربها الى صرافة الذات ألا وهم الملائكة الصافون حول الذات الاحدية المهيمون عند سرادقات العز والجلال بمطالعة الجمال فقال تبارك وتعالى مفتتحا بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على ملائكته الحافين لذاته الصافين حول عرشه العظيم الرَّحْمنِ عليهم بعموم فيضه وشمول رحمته الرَّحِيمِ لهم يأمرهم بعكوف بابه ويقربهم عند جنابه
[الآيات]
وَالصَّافَّاتِ اى وحق الأسماء والصفات الإلهية الصافين حول الذات الاحدية المنتظرين لشئونه وتجلياته إذ هو سبحانه في كل آن في شأن ولا يشغله شأن عن شأن صَفًّا مستقيما مستويا بحيث لا يتحولون عنه أصلا بل هم هائمون دائمون والهون مستغرقون منتظرون بماذا يأمرهم ربهم من التدبيرات المخزونة في حضرة علمه المحيط والتصويرات المثبتة المكنونة في لوح قضائه المحفوظ ومتى تعلق ارادته بمقدور من مقدوراته ومراداته المأمورة إياهم وهم حينئذ زاجرات
فَالزَّاجِراتِ المدبرات على الفور لما يأمرهم الحق من التدبيرات المتعلقة بنظام الكائنات غيبا وشهادة زَجْراً تاما وتدبيرا كاملا حسب المأمور والمقدور بلا فتور وقصور وبعد ما صدر امره سبحانه وجرى قضاؤه بقوله كن فهم حينئذ التابعات الطالبات لامتثال الأمر المقضى بلا فترة وتسويف
فَالتَّالِياتِ التابعات لإنفاذ قضائه سبحانه القارأت المبلغات ذِكْراً منه ووحيا من لدنه سبحانه لمن أمرهم الحق بتبليغه إياهم ألا وهم الأنبياء والرسل المؤيدون بالوحي والإلهام المصطفون من بين البرايا والعباد
إِنَّ إِلهَكُمْ الذي أظهركم وأبدعكم من كتم العدم ولم تكونوا ايها العكوس المستهلكة في شمس الذات شيأ مذكورا لا حسا ولا عقلا ولا خيالا ولا وهما لَواحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك في الوجود ولا نظير في الظهور والشهود فهو بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته
رَبُّ السَّماواتِ العلى وَالْأَرْضِ السفلى وَما بَيْنَهُما من الكوائن والفواسد الممتزجة الى ما لا يتناهى لا مربى للمذكورات سواه ولا مظهر للكائنات الا هو وَكيف لا وهو سبحانه رَبُّ الْمَشارِقِ اى الاستعدادات القائلة لشروق شمس ذاته المتأثرة من اشعة أسمائه وصفاته وبعد ما ثبت وحدة ذاتنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ولاهوتنا وجبروتنا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى لكم ايها المكلفون حيث ترون ما فيها بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ اى برينة هي الكواكب او بدل على كلتا القراءتين بتنوين وبلا تنوين تحلية وتزيينا تبتهجون بها حين تنظرون إليها وتتأثرون منها سعدا ونحسا إقبالا وإدبارا
وَجعلناها حِفْظاً اى بعد ما قد زينا السماء بها صيرناها صائنة حفظا لها مِنْ وصول كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن اطاعة الله مائل عن توحيده كي
لا يَسَّمَّعُونَ اى مردة الشياطين ولا يصغون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى اى الى الاذكار والاستغفار وسائر السرائر والأسرار الجارية على ألسنة الملائكة إذ هم اى الشياطين والجن أشبه المخلوقات الى الملائكة وانما منعهم سبحانه عن الإصغاء إليهم لأنهم من غاية عداوتهم مع بنى آدم يعكسون عليهم ما يسمعون فيضلوهم عن الصراط المستقيم إذ يدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم ويحتجون بما يستمعون من الملائكة ترويجا وتغريرا ويلبسون الأمر على ضعفة الأنام فيحرفونهم عن جادة التوحيد والإسلام وَلذلك يُقْذَفُونَ ويطرحون أولئك الماردون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السموات وآفاقها
دُحُوراً طردا بليغا وزجرا شديدا وَمع ذلك الطرد والزجر لَهُمْ اى الشياطين عَذابٌ نازل مستمر في النشأة الاخرى واصِبٌ مؤبد دائم لا ينفك عنهم في حين من الأحيان
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ اى يطردون الماردون حتى لا يستمعوا الا من اختطف منهم فاختلس من الملائكة الخطفة على سبيل الاستراق فَأَتْبَعَهُ اى تبعه ولحقه على الفور حين اختطافه واختلاسه شِهابٌ ثاقِبٌ اى كوكب مضيء كجذوة النار يثقب الجنى فيقتله او يحرقه او يخبله. والقول بان الشهاب من الأشياء الكائنة في الجوّ لا من الكواكب قول تخمينى ابتدعها الفلاسفة من تلقاء نفوسهم لا يعضده عقل ولا يوافقه نقل فاما قولهم في خبط الحركات الفلكية والاجرام العلوية وتقويم الكواكب والبروج وتقدير الأشكال والصور الى غير ذلك من الأمور المنتهية الى الحس ربما يؤدى الى اليقين واما في طبائع المكونات وحقائق الموجودات وكيفية تراكيب الماهيات وغير ذلك من الأمور الحقيقية التي لا مجال للحس فيها ولا للعقل ما هو الا تخمين زائل وزور باطل إذ لا يعرف كنه الأشياء الا خالقها ومظهرها لا يسع لاحد ان يتفوه عنها وعن كيفيتها وكميتها وكيفية التيامها على ما هي عليه وتركيباتها الحقيقية وهم اى مردة الشياطين بمجرد تلك الخطفة المختلسة يضلون كثيرا من الناس الى حيث يستعبدونهم ويأمرونهم بالاطاعة والانقياد الى أنفسهم والعبادة إياهم باتخاذهم اولياء وآلهة من دوننا جهلا
فَاسْتَفْتِهِمْ اى
بَلْ عَجِبْتَ أنت وعجبت انا على القرائتين منهم أمثال هذا مع انهم مجبولون على فطرة الدراية والشعور موهوبا لهم العقل المفاض المشير لهم الى التوحيد وتصديق البعث والحشر وجميع الأمور الاخروية وَهم مع هذا يَسْخَرُونَ بك مهما سمعوا منك الاخبار والآيات الواردة في امر البعث والحشر بل
وَهم من شدة قسوتهم وغاية عمههم وسكرتهم في غيهم وغفلتهم إِذا ذُكِّرُوا ووعظوا بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة المتعلقة للآخرة لا يَذْكُرُونَ ولا يتأثرون ولا يتعظون ولا يقتصرون على عدم القبول والتذكر بل
وَإِذا رَأَوْا اى علموا وسمعوا آيَةً معجزة نازلة في شأن البعث والنشور يَسْتَسْخِرُونَ بها ويستهزؤن بك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا
وَقالُوا من شدة بغضهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل ومع كتابك إِنْ هذا اى ما هذا الذي قد جاء به هذا المدعى مفتريا على ربه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ اى سحرية ما جاء به ظاهرة وهو في نفسه ساحر ماهر لكن كلامه زور باطل
أَنبعث ونحيى إِذا مِتْنا وانفصل عنا روحنا سيما وَقد كُنَّا تُراباً وَعِظاماً بالية رميمة أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ما صرنا كذلك
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الأقدمون يبعثون ويحشرون هيهات لما توعدون ان هي الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في انكار البعث واستحالة نشأة النشور نَعَمْ تبعثون أنتم ايها الضالون المنكرون والى ربكم تحشرون وعن أعمالكم تسئلون وعليها تحاسبون والى جهنم تساقون وَأَنْتُمْ فيها داخِرُونَ داخلون دائمون صاغرون مهانون وكيف تنكرون قدرتنا على البعث وقيام الساعة فَإِنَّما هِيَ اى الساعة والبعث بعد ما تعلقت مشيتنا زَجْرَةٌ واحِدَةٌ اى صيحة واحدة ناشرة منشرة لهم من قبورهم سائقة زاجرة لهم نحو المحشر زجر الراعي الصائح للغنم وبعد ما سمع الأموات الصيحة اى النفخة الثانية في الصور فَإِذا هُمْ قيام يَنْظُرُونَ حيارى وسكارى تائهين والهين
وَقالُوا بعد ما قاموا كذلك
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ والقضاء بالعدل الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ايها الضالون المنكرون المصرون على التعنت والعناد. ثم امر سبحانه للملائكة المترصدين لأمره القائمين بحكمه
احْشُرُوا وسوقوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية واجمعوهم للمحشر وَأَزْواجَهُمْ اى أشباههم وأمثالهم وقرناءهم الذين اقتدوا بهم واقتفوا أثرهم معهم وَاحضروا معهم ايضا ما كانُوا يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وعدوانا اى معبوداتهم الباطلة تتميما لإلزامهم فَاهْدُوهُمْ اى قدموهم ودلوهم جميعا إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وبالجملة سوقوهم بأجمعهم عابدا ومعبودا الى نيران الطرد وسعير الخذلان
وَقِفُوهُمْ واحبسوهم في الموقف ساعة إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أعمالهم التي جاءوا بها في نشأتهم الاولى محاسبون عليها وبعد ما سئلوا وحوسبوا جوزوا عليها بمقتضاها ثم سوقوا الى النار والسر في السؤال والحساب والله اعلم تسجيل العذاب عليهم وتنصيصه إياهم لئلا ينسب سبحانه الى الظلم والعدوان ظاهرا ولئلا يجادلوا معه سبحانه إذ كان الإنسان المجبول على الكفر والنسيان اكثر شيء جدلا ثم قيل لهم من قبل الحق توبيخا وتقريعا
ما لَكُمْ اى ما شأنكم وأى شيء عرض عليكم ايها الضالون المضلون لا تَناصَرُونَ اى لا ينصر بعضكم بعضا اى معبوداتكم لا تنصركم ولا تشفع بتخليصكم مع انكم اتخذتموهم أولياء واعتقدتموهم آلهة شفعاء فلم لا ينصرونكم ولا ينقذونكم من عذابنا ولم لا يمكرون ولا يحيلون بأنواع الحيل والخداع ولم لا يعتذرون بالأعذار الكاذبة لإنقاذكم من عذابنا كما كنتم تزعمون في النشأة الاولى وهم حينئذ من شدة الهول هائمون حائرون
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون ومن اشتداد العذاب عليهم خائفون خاشعون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ حين يساقون نحو النار يَتَساءَلُونَ ويتخاصمون ويتلاومون حيث
قالُوا اى السفلة الضعفاء منهم لرؤسائهم إِنَّكُمْ ايها الضالون المضلون قد كُنْتُمْ من شدة شغفكم وحرصكم على تضليلنا ومنعنا عن تصديق الرسل وقبول دعوتهم تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ اى عن أقوى جوانبنا او عن أقوى الطرق الموصلة الى مطلوبكم منا ألا وهو المال وحطام الدنيا فتعطوننا منه وتحرفوننا عن طرق السلامة وسبل الاستقامة
قالُوا اى الرؤساء في جواب الضعفاء ما قولكم هذا الا افتراء منكم علينا ومراء كيف يتيسر لنا ويتأتى منا ان نؤثر نحن في قلوبكم بحيلنا ومكرنا واعطائنا المال إياكم والإحسان عليكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مع ان الأيمان انما هو من افعال القلوب بل لم تكونوا في انفسكم مؤمنين مصدقين فتميلون على ما كنا وكنتم عليه طبعا وهواء فتفترون اليوم علينا فرية ومراء
وَان ادعيتم اكراهنا إياكم حينئذ فقد كذبتم إذ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ استيلاء وغلبة سيما على قلوبكم الى حد تخافون أنتم عن قهرنا وإهلاكنا إياكم لو لم تكفروا بَلْ قد كُنْتُمْ في انفسكم كما كنا قَوْماً طاغِينَ قد طغيتم وبغيتم على الله كما طغينا وبغينا وبالجملة انا وإياكم تابعا ومتبوعا لفي ضلال مبين
فَحَقَّ اى لزم وثبت وجرى عَلَيْنا وعليكم قَوْلُ رَبِّنا وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه المحفوظ في
فَأَغْوَيْناكُمْ عن الايمان والتوحيد إِنَّا كُنَّا ايضا غاوِينَ أمثالكم فلحق بنا ما لحق بكم الى متى تعيروننا وتخاصموننا وبعد ما تمادى وتطاول بينهم جدالهم وتخاصمهم قيل لهم من قبل الحق
فَإِنَّهُمْ بأجمعهم ضالا ومضلا تابعا ومتبوعا يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُشْتَرِكُونَ كما قد كانوا مشتركين في أسبابه وموجباته في النشأة الاولى وبالجملة
إِنَّا من غاية قهرنا وجلالنا كَذلِكَ اى مثل الفعل الهائل المهول الذي هو سوقهم جميعا الى النار نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ اى بعموم المتخذين لنا شركاء من دوننا الخارجين عن ربقة عبوديتنا بالالتفات والتوجه الى غيرنا وكيف لا نفعل مع المجرمين المشركين كذلك
إِنَّهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم قد كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ تذكيرا وتنبيها لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد هم يَسْتَكْبِرُونَ ويعرضون عن كلمة التوحيد ومقتضاها ويمتنعون عنها وعن معناها
وَيَقُولُونَ حينئذ من غاية تعنتهم وإصرارهم على الشرك على سبيل الإنكار والاستبعاد أَإِنَّا مع كمال عقلنا ورشدنا لَتارِكُوا آلِهَتِنا الذين قد كنا نحن وآباؤنا وأسلافنا لها عابدين عاكفين سيما لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يتكلم بكلام المجانين بمجرد ما قد جاءنا بأباطيل من تلقاء نفسه مشتملة على أساطير الأولين يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثم لما تمادوا في طعنه والطغيان وبالغوا في القدح في الرسول والقرآن وإنكاره رد الله عليهم على ابلغ وجه وافصح بيان فقال سبحانه على سبيل الإضراب عن قولهم
بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ داعيا على الحق هاديا الى الحق وَعلامة حقيته وصدقه انه قد صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ المنزلين من عندنا على الحق اليقين وبالجملة
إِنَّكُمْ ايها الضالون المكذبون به صلّى الله عليه وسلّم وبكتابنا المنزل اليه من عندنا لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ المعد لكم ولأمثالكم في قعر الجحيم
وَاعلموا انكم ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى ما عملتم واقترفتم لأنفسكم بلا زيادة عليه ولا نقصان منه عدلا منا وقهرا على من انحرف عن جادة توحيدنا
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ على الايمان والأعمال الصالحة خالصا لوجه الله الكريم
أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله المرضيون لديه سبحانه لَهُمْ من فضل الله عليهم ولطفه معهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ معد معين من عنده سبحانه صوريا ومعنويا علميا وعينيا كشفيا وشهوديا على مقتضى ما عملوا من صالحات الأعمال والأخلاق والحالات بل لهم تفضلا منا عليهم ومزيدا لتكريمهم
فَواكِهُ كثيرة يتلذذون بها حسب ما يشتهون وَبالجملة هُمْ مُكْرَمُونَ عند ربهم متنعمون
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المشتملة على الرزق الصوري والمعنوي متكئين كل منهم مع قرينه عَلى سُرُرٍ رفيعة حسب رفعة درجاتهم في الايمان والعرفان والكشف والعيان مُتَقابِلِينَ متواجهين كل منهم مع قرينه
يُطافُ عَلَيْهِمْ تشويقا لهم وتجديدا لذوقهم وحضورهم بِكَأْسٍ مملو مِنْ مَعِينٍ هو عبارة عن خمر الجنة سميت به لأنها قد عانت ونبعت من بحر اللاهوت وترشحت من عين الحياة المنتشئة من حضرة الرحموت
بَيْضاءَ يعنى في غاية الصفاء والضياء بحيث لا لون لها حتى يدركها النظر ويخبر عنها الخبر لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ اى لذيذة للعارفين المتعطشين بزلال التوحيد وبرد اليقين لا يدرك
لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة خمار وصداع يترتب عليها كما يترتب على خمور الدنيا وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون الى حيث تذهب عقولهم وتفسد أمزجتهم وتختل خواطرهم وينسون مطالبهم ويضلون عن مقاصدهم كما في خمر الدنيا بل يزيد منها شوقهم وذوقهم ويتكامل طلبهم
وَعِنْدَهُمْ من الأزواج المزدوجة معهم المقبولة عندهم قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم مقصورات النظر إليهم لا يلتفتن الى غيرهم عِينٌ حسان الأعين متناسب الحواجب والأجفان والاماق
كَأَنَّهُنَّ في صفاء البدن وبياضه بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ عن الغبار مخلوط بادنى صفرة كلون الفضة وهو احسن ألوان جسد الإنسان وبعد ما يشربون من المعين وشملتهم الكيفية أخذوا يتحدثون
فَأَقْبَلَ والتفت بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ويتقاولون عما جرى عليهم في نشأة الدنيا وكذا عما ادخروا فيها للنشأة الاخرى من المعارف والحقائق والأعمال والأحوال والمواجيد والأخلاق والعبر والأمثال
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ على سبيل التذكير والتحاكى عن انكار المنكرين ليوم البعث والنشور إِنِّي قد كانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا منكر لهذه النشأة وانا معتقد لها منتظر لقيامها
يَقُولُ لي يوما على سبيل النصح مستنكرا مستبعدا أَإِنَّكَ ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ المعتقدين الموقنين
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً تعتقد أنت وتصدق أَإِنَّا لَمَدِينُونَ اى مجزيون بأعمالنا التي قد كنا نعمل مسئولون عنها محاسبون عليها كلا وحاشا ما حياتنا الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين في النشأة الاخرى ثم
قالَ لقرنائه في الجنة مستفهما عن حال قرينه المنكر للبعث هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يعنى هل أنتم تريدون وتطلبون ايها المسرورون في الجنة ان تطلعوا على حال ذلك القرين في النار قالوا له أنت أحقنا بالاطلاع على حاله منا إذ هو مصاحبك وقرينك
فَاطَّلَعَ هو بعد ما نظر وابصر من الكوى التي فتحت في الجنة نحو النار فَرَآهُ اى قرينه المنكر مطروحا فِي سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه معذبا بأنواع العذاب والنكال
قالَ له بعد ما رآه في النار مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يعنى والله انك ايها الجاهل المفرط قد قاربت من إهلاكي باغرائك واغوائك ونصحك الى وتذكيرك على بما يدل على انكار البعث وتكذيب يوم الجزاء واستدلالك على استحالته
وَبالجملة لَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي وتوفيقه إياي بالعصمة والثبات على عزيمة الايمان والتوحيد لَكُنْتُ مثلك مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في وسط الجحيم يعنى كنت انا ايضا من جملة اهل النار مثلك ثم أخذ يباهى ويفتخر على قرينه بالنعيم المقيم واللذة المستمرة بلا طريان موت وعروض عذاب فقال مستفهما
أَتعلم ايها المفسد المفرط انا في الجنة مخلدون منعمون فَما نَحْنُ ابدا بِمَيِّتِينَ مائتين متحولين عنها بل لا موت لنا فيها ابد الآبدين
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي قد متنا عن الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أصلا أمثالكم
إِنَّ هذا الخلود والتنعم والسرور بلا طريان ضد عليه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم الجسيم من الله العلى الحكيم إيانا ثم قيل من قبل الحق ترغيبا للمؤمنين على الطاعات وحثا لهم على الإتيان بالأعمال الصالحات وتطييبا لقلوبهم بترتب هذه الحسنات على أعمالهم وأخلاقهم ومواجيدهم وحالاتهم وبالجملة
لِمِثْلِ هذا الفوز العظيم والنوال الكريم فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ في النشأة الاولى لا للحظوظ الفانية واللذات الزائلة الدنياوية المستتبعة لانواع الآلام والحسرات. ثم قال
أَذلِكَ المذكور من الرزق المعلوم واللذة المستمرة والنشوة الدائمة بلا صداع ولا خمار والحياة الابدية والمسرة السرمدية خَيْرٌ نُزُلًا لأهل الجنة العلية أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لأهل النار ألا وهي ثمرة شجرة مرة كريهة الرائحة والطعم يستكرهه طباع اهل النار ألا انهم يتناولون منها للضرورة ثم لما عبر سبحانه عن نزل اهل الجحيم بالزقوم فسمعها كفار مكة قالوا كيف يكون في النار شجرة وثمرة ومن شأنها إحراق ما يجاورها فاستهزءوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فأدخلهم ابو جهل في بيته فقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فرد الله سبحانه قولهم واستهزاءهم بقوله
إِنَّا جَعَلْناها اى الشجرة المذكورة فِتْنَةً وابتلاء لِلظَّالِمِينَ وسببا لازدياد العذاب واشتداد النكال عليهم إذ هم يتقاولون فيها ويحملونها الى لغة اخرى ويتخذون لها محملا جيدا ويستهزؤن بها مع النبي صلّى الله عليه وسلم فيستحقون أسوأ العذاب والعقاب ويطعمون منها حين دخولهم في النار وبالجملة
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ وتنبت فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ اى منبتها في قعرها وأغصانها في دركاتها
طَلْعُها اى ثمرتها التي تطلع منها وتحصل كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في القبح والهجنة هذا من قبيل تشبيه المحسوس بالمتخيل كتشبيه الطيور الحسنة بالملائكة يعنى تستكره من رؤيتها الطباع استكراهها من رؤس المردة من الجن المصورة على أقبح الصور وأهولها
فَإِنَّهُمْ اى أولئك المنكرين المستهزئين وجميع من في النار من الكافرين لَآكِلُونَ مِنْها إذ لا مأكول لهم فيها سواها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ اى يملؤون بطونهم منها لشدة الجوع او يجبرون ويكرهون لأكلها زجرا عليهم وتشديدا لعذابهم إذ هي احر من النار وأبرد من الزمهرير
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ بعد ما ملئوا بطونهم منها إذ لا مأكول مع كمال حرارتها واشتداد العطش عليهم عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ اى خلطا ومزجا من ماء حار في غاية الحرارة بعد ان تخرجهم الخزنة من الجحيم وتوردهم إليها ورود البهائم الى الماء فيشربون منها فيقطع أمعاءهم
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد ما اصدرتهم الخزنة وأخرجتهم من الماء لَإِلَى الْجَحِيمِ البتة إذ لا مرجع لهم سواها وانما ابتلوا بما ابتلوا به من العذاب المؤيد والعقاب المخلد
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى قد صادفوا ووجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ منحرفين عن سبل السلامة وجادة الاستقامة التي هي التوحيد والإسلام
فَهُمْ اى هؤلاء الأخلاف الأجلاف بعد ما وجدوا أسلافهم كذلك عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون على الفور ويعملون مثل عملهم تقليدا لهم بلا تدبر وتأمل
وَبالجملة لَقَدْ ضَلَّ وانحرف عن جادة العدالة قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السالفة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ بعد ما ضلوا وأضلوا عن صراط الحق وجادة توحيده مُنْذِرِينَ مثل ما أرسلناك الى هؤلاء الضالين المنصرفين عن الطريق المستبين بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فلم يفدهم انذاراتهم كما لم يفد إنذارك الى هؤلاء المسرفين المفرطين فأخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة
فَانْظُرْ ايها المعتبر المستبصر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ بعد ما انذروا بالإنذارات البليغة الواصلة إليهم من الرسل ولم يتنبهوا منها الى الطريق المستبين بل التزموا الضلالة جاسرين فانقلبوا صاغرين
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين تنبهوا منها الى الصراط المستقيم بل تفطنوا الى الحق اليقين فصرفوا عن العذاب الأليم الى النقيم المقيم لذلك انقلبوا بنعمة من الله وفضل عظيم. ثم أخذ سبحانه في تعداد اهل
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ حين أردنا إهلاك قومه بالطوفان نداء مؤمل ضريع لاستخلاصه واستخلاص من آمن معه من قومه فأجبنا له فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لأوليائنا المخلصين
وَلهذا نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ اى من آمن معه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ اى من الغم الذي لحقه دائما من أذى قومه وضربهم ومن انواع زجرهم وشتمهم إياه او من كرب الطوفان
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ اى من تناسل منه ومن ابنائه هُمُ الْباقِينَ الى قيام الساعة. روى انه مات بعد ما نزل في السفينة من كان معه من المؤمنين ولم يبق الا هو وبنوه وأزواجهم فتناسلوا الى انقراض الدنيا كما قال سبحانه
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى أبقينا عليه ذكرا جميلا وثناء جزيلا فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم المتخلفة عنه فهم يذكرونه بالخير ويقولون تكريما وترحيبا
سَلامٌ اى تسليم وتكريم من الله ومن خواص عباده عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ اى في النشأة الاولى والاخرى
إِنَّا بمقتضى لطفنا وجودنا لخلص عبادنا كَذلِكَ اى مثل ما جزينا نوحا على إحسانه وإخلاصه نَجْزِي جميع الْمُحْسِنِينَ من عبادنا لما أنابوا إلينا وتوجهوا نحونا على وجه الإخلاص وكيف لا نبقى له ذكرا جميلا ولا نجزيه جزاء جزيلا
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المتوكلين علينا المفوضين أمورهم كلها إلينا المخلصين في عموم ما جاءوا به من الأعمال والأفعال
ثُمَّ انا بمقتضى لطفنا فعلنا معه ما فعلنا من الانعام والإحسان ونجيناه عن كرب الطوفان قد أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى كفار قومه واستأصلناهم الى حيث لم نبق منهم أحدا على وجه الأرض سوى اشياعه واصحاب سفينته اى المؤمنين به ومن تشعب وتناسل منهم
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ اى من جملة من شايعه في التوحيد والايمان بل من اجلة من تابعه في اصول الدين ومعالم التوحيد واليقين لَإِبْراهِيمَ المتصف بكمال العلم والحلم والمعرفة وان طال الزمان بينهما قيل كان بين نوح وابراهيم عليهما السلام الفان وستمائة وأربعين سنة اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم عن جميع الميول الباطلة والآراء الفاسدة واذكر ايضا وقت
إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل صلوات الله عليه وسلامه لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين انكشف بالتوحيد الإلهي وتمكن في مرتبة الشهود العيني والحقي مستفهما على سبيل الإنكار والتوبيخ غيرة على الله وإظهارا لمقتضى الخلة ماذا تَعْبُدُونَ اى لأي شيء تعبدون هذه الأصنام الباطلة العاطلة عن لوازم الألوهية والربوبية ايها الجاهلون بتوحيد الله وبكمال أوصافه وأسمائه
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ اى أتريدون ايها المعاندون ان تثبتوا آلهة متعددة سوى الله الواحد الأحد الصمد القيوم المطلق المستحق للالوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا ووصفيا على سبيل الإفك والمراء والكذب والافتراء
فَما ظَنُّكُمْ وزعمكم ايها الجاهلون المكابرون بِرَبِّ الْعالَمِينَ أتظنون ان له شريكا في الوجود اوله نظيرا في الشهود او سواه موجودا والله ما ظنكم هذا الا الخيال الباطل والزيغ الزائل وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا انصرفوا عنه وأنكروا عليه وعلى ربه فأراد عليه السلام ان يكايدهم في أصنامهم ويخادع معهم في كسرها وقد قرب حينئذ يوم عيدهم وكان من عادتهم الإتيان بالقرابين والهدايا عند أصنامهم ومعابدهم فيتقربون بها ويتخذون منها أنواعا من الأطعمة فيطبخونها عندها في ليلة العيد ثم يخرجون صبح العيد الى الصحراء فيتعيدون فيها بأجمعهم ثم ينصرفون منها فينزلون الى معابدهم وعند أصنامهم ويمهدون موائد كثيرة من الأطعمة المهيئة فيأكلون منها ويتبركون بها وكان عادتهم كذلك ثم لما اجتمعوا في المعبد عند الأصنام
فَنَظَرَ ابراهيم عليه السلام حينئذ نَظْرَةً فِي دفتر النُّجُومِ وهم قد كانوا يعملون بالاحكام النجومية يومئذ ويعتقدون لها وهو عليه السلام مشهور بضبطها
فَقالَ لهم اليوم إِنِّي سَقِيمٌ الآن او سأسقم عن قريب بالطاعون وهم قد يفرون من المطعون فرارهم من الأسد
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ وانصرفوا من بعد ما سمعوا منه القول الموحش مُدْبِرِينَ رهبة ورعبا فخرجوا من الغد الى الصحراء ولم يخرج عليه السلام معهم ثم لما بقي محل الأصنام خاليا عن الخدام وقد طبخ عندها انواع من الطعام
فَراغَ اى مال وانصرف إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أولا على سبيل التهكم والاستهزاء أَلا تَأْكُلُونَ ايها المعبودون عن هذه الأطعمة المطبوخة المرغوبة المهياة عندكم. ثم قال
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ اى ما عرض ولحق لكم ما تتكلمون ايها الآلهة المستحقة للعبادة والرجوع إليكم في المهمات وبعد ما استهزأ عليه السلام مع هؤلاء الأصنام الصم البكم الجامدين بما استهزأ
فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال إليهم وذهب نحوهم فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ اى بشدة القوة والغلظة فكسرها تكسيرا وفتت اجزاءها تفتيتا ثم لما أخبروا بانكسار أصنامهم وانفتاتها حين كانوا في الصحراء ظنوا بأجمعهم بل جزموا انه ما فعل بآلهتهم هذه الفعلة الا ابراهيم
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ عازمين جازمين على تمقيته وانتقامه يَزِفُّونَ اى يعدون ويسرعون ويتبخترون ثم لما وصلوا اليه حصروا عن التكلم معه من غاية غيظهم ونهاية زفرتهم فسبقهم عليه السلام بالتكلم حيث
قالَ مقرعا عليهم أَتَعْبُدُونَ ايها الجاهلون الضالون ما تَنْحِتُونَ وتصنعون بأيديكم وتعتقدونه الها خالقا موجدا مظهرا لكم من كتم العدم وتعبدونه ظلما وزورا فمن اين لهؤلاء الجمادات العاطلة الباطلة لوازم الخلق والإيجاد والإظهار أفلا تعقلون بل
وَاللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية قد خَلَقَكُمْ بالإرادة والاختيار وَخلق ايضا عموم ما تَعْمَلُونَ اى جميع أعمالكم وأفعالكم التي صدرت عنكم ومن جملتها صنعكم ونحتكم للأصنام والأوثان ومن هنا ظهر ان جميع افعال العباد مثل ذواتهم مستندة الى الله أولا وبالذات ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ثم لما سمعوا منه عليه السلام ما سمعوا انصرفوا عن مكالمته ومقاولته وهموا العزم الى قتله ومقته
وقالُوا اى بعضهم لبعض حين كانوا مشاورين في كيفية قتله بعد ما قر رأيهم عليه ابْنُوا لَهُ بُنْياناً واملئوه بالنار فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ والسعير المسعر حين تنتقمون عنه فبنوا حائطا من الحجر سمكه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون وملؤه من الحطب واوقدوا فيه نارا فنفخوا فيه بالمنافخ حتى تسعرت وتلهبت ثم طرحوه بالمنجنيق فيها وبالجملة
فَأَرادُوا بِهِ وقصدوا لمقته كَيْداً لينتقموا عنه مستعلين عليه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين الخاسرين الخائبين بما فعلوه به عناية منا وتفضلا وامتنانا عليه حيث جعلنا ما سعروه بردا وسلاما عليه فانقلبوا لما رأوا نجاته صاغرين محزونين وبعد ما خرج الخليل صلوات الله عليه وسلامه منها اختار الجلاء والخروج من بينهم بوحي الله إياه والهامه
وَلهذا قالَ حين خروجه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي والى كنف حفظه وجواره وسعة رحمته سَيَهْدِينِ بلطفه الى منزل يمكنني التوجه فيه اليه ويطمئن قلبي فيه فذهب الى الشأم بالهام الله إياه وتوطن في الأرض المقدسة وبعد ما توطن ناجى مع الله وطلب منه سبحانه الولد الخلف له المحيي لاسمه فقال
رَبِّ يا من رباني
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ هو إسماعيل عليه السلام حَلِيمٍ ذي حلم كامل وتصبر تام على متاعب العبودية وشدائد الاختبارات الإلهية ثم لما ولد له إسماعيل عليه السلام ورباه الى ان ترقى من مرتبة الطفولية وظهر منه الرشد الفطري والفطنة الجبلية الى ان بلغ سبع سنين او ثلاث عشرة وهي أول الحلم وعنفوان الشباب وبالجملة
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ للحوائج والمهمات المتعلقة لأمور المعاش وصار يذهب ويجئ مع ابنه الى الاحتطاب وسائر الاشغال وكان أبوه ينتصر به في الأمور ويستظهر وكان مشفقا له عطوفا عليه بحيث لا يفارقه أصلا من كمال عطفه ثم لما بالغ ابراهيم في عطف ولده وارتباط قلبه به مع انه متمكن في مقام الخلة مع ربه قد غار عليه سبحانه فاختبر خلته حتى رأى في المنام بإلقاء الله في متخيلته ان الله يأمره بذبح ولده إظهارا لكمال خلته واصطبار ولده على بلاء الله واظهار حلمه عند المصيبة فانتبه عن منامه هولا من رؤية الواقعة الهائلة فخيلها من أضغاث الأحلام فاستغفر ربه وتعوذ نحوه من الشيطان ثم نام فرأى ايضا كذلك ثم استيقظ كذلك خائفا مرعوبا ثم استغفر ونام فرأى ثالثا مثل ما رأى فتفطن بنور النبوة انه من الاختبارات الإلهية فأخذ في امتثال المأمور خائفا من غيرة الله وكمال حميته وجلاله يعنى كيف يطيق احد ان يتخذ محبوبا سواه ويختار خليلا غيره سيما من اختار الله لخلته واصطفاه لمحبته فأمر ابنه بان يأخذ الحبل والسكين ليذهبا الى شعب الجبل للاحتطاب كما هو عادتهما فذهبا وقد اشتعل في صدره نار المحبة والخلة الإلهية فشرع يظهر رؤياه لابنه ليختبره كيف هو قالَ يا بُنَيَّ ناداه وصغره تحننا عليه وتعطفا إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ بأمر الله إياي تقربا منى اليه سبحانه وهديا نحوه فَانْظُرْ أنت يا بنى وتأمل ماذا تَرى اى اىّ امر تفكر وتفتي في هذه الواقعة الهائلة أتصبر أنت على بلاء الله أم لا وبعد ما سمع من الرؤيا ما سمع قالَ معتصما بحبل التوفيق راضيا بما جرى عليه من قضاء الله مستسلما نحوه ومقبلا عليه مناديا لأبيه لينبئ عن كمال أطاعته وانقياده لحكم ربه يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به من قبل الحق فاذبحنى في سبيل الله تقربا منك نحوه وطلبا لمرضاته ولا تلتفت الى لوازم الأبوة والنبوة وكن صابرا لبلاء الله بذبح ولدك بيدك باذنه سبحانه وفي سبيله سَتَجِدُنِي ايضا إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلق ارادته بان اصبر على بلائه الذي هو ذبح ابى إياي بيده مِنَ الصَّابِرِينَ المتمكنين على تحمل المصيبات الآتية من قبل الحق وبعد ما تشاورا وتقاولا فوضا الأمر اليه سبحانه وانقادا لحكمه ورضيا بقضائه طوعا ورغبة
فَلَمَّا أَسْلَما اى سلما واستسلما اى كل منهما سلم امره الى ربه ووصلا الموقف والمنحر توجه الخليل نحو الحق ناويا التقرب اليه سبحانه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ اى صرع ابنه على شقه الأيمن امتثالا لأمر ربه مثل صرع الضحايا عند الذبح وشد بالحبل يده ورجله فأخذ الشفرة بيده فامرّها على حلق ابنه فلم تمض ولم تعمل فأخذ حجر المحد فأحدها ثم امرّها ولم تمض ايضا وهكذا فعل مرارا فلم تعمل شيئا فتحير عليه السلام في امره قال له ابنه حينئذ يا أبت أكبنى على وجهى فاذبحنى من القفا لئلا يمنعك من ذبحي رؤيتك وجهى ففعل كذلك فلم تمض
وَبعد ما قد جربناهما ووجدناهما على كمال التصبر والرضاء بما جرى عليهما من القضاء نادَيْناهُ من مقام عظيم جودنا إياه ولطفنا معه أَنْ يا إِبْراهِيمُ اى بان قلنا له مناديا يا ابراهيم المختص بخلتنا الراضي لمصيبتنا
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وامتثلت بالمأمور ورضيت بذبح ولدك لرضانا واختبرناك
إِنَّ هذا الأمر المأمور به لإبراهيم الاواه الحليم من ذبح ولده في طريق الخلة مع ربه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الظاهر صعوبته وشدته على عموم المكلفين وبعد ما قد عزم على أمرنا بالعزيمة الصادقة الخالصة واقدم على امتثاله من محض الاعتقاد وصميم الفؤاد بحيث لو لم نمنع مضاء شفرته مع انه قد بالغ في امراره بقوة تامة واحدها مرارا لذبحه البتة
وَبعد ما ظهر إخلاصه لدينا قد منعناها وبعد ما منعنا مضاء شفرته قد فَدَيْناهُ اى الذبيح الذي هو ابنه بِذِبْحٍ اى بما يذبح به ليتم تقربه إلينا وينال من لدنا ما نعدله من التواب والجزاء المترتب على تقربه عَظِيمٍ اى عظيم القدر إذ ما يفديه الحق لنبي من الأنبياء أعظم البتة مما يفديه الناس قيل بعد ما سمع ابراهيم عليه السلام نداء الهاتف التفت فإذا هو جبريل عليه السلام ومعه كبش أملح اقرن فقال له هذا فداء ابنك بعثه الله إليك فاذبحه وتقرب دونه وهذا الكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا لتلك المصلحة فأخذ ابراهيم الكبش واتى به المنحر من منى فذبحه عنده وفاز بمبتغاه من الله ما فاز عاجلا وآجلا مما لا مجال للعبارة والإشارة اليه
وَمن جملة ما جزينا على ابراهيم عاجلا انا من كمال خلتنا معه قد تَرَكْنا عَلَيْهِ وأبقينا له فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم الذين يلون ويأتون بعده الى قيام الساعة ثناء حسنا وذكرا جميلا حيث يقولون دائما
سَلامٌ وترحيب منا وبركات من الله ورحمة نازلة دائما مستمرا عَلى إِبْراهِيمَ ثم قال سبحانه حثا للمؤمنين
كَذلِكَ اى مثل ما جزينا ابراهيم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ ان أحسنوا وأخلصوا في نياتهم وحسناتهم وكيف لا نجزى خليلنا
إِنَّهُ مِنْ خلص عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا
وَبعد ما قد ابتليناه أولا بذبح الولد وفديناه عن ولده عناية منا إياه والى ولده ثانيا قد بَشَّرْناهُ ثالثا بولد أخر مسمى بِإِسْحاقَ وجعلناه نَبِيًّا من الأنبياء معدودا مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ لمرتبة الكشف واليقين
وَبالجملة بارَكْنا عَلَيْهِ اى كثرنا الخير والبركة على ابراهيم وَكذا عَلى ابنه إِسْحاقَ وَكثرنا نسلهما الى ان جعلنا مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في الأعمال والأخلاق والأحوال ذو نفع كثير على عباد الله وفقراء سبيله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ اى تارك لحظوظ نفسه من الدنيا مطلقا مُبِينٌ ظاهر مبالغ في الترك الى حيث يمنع عنها ضرورياتها ايضا منجذبا الى عالم اللاهوت منخلعا عن لوازم الناسوت مائلا نحو الحق بجميع قواه وجوارحه طالبا الفناء فيه والبقاء ببقائه ومنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمرتضى كرم الله وجهه وابناه وأولادهما بطنا بعد بطن صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين إذ لم يلتفتوا الى حطام الدنيا ومزخرفاتها الا مقدار سد جوعة ولبس خرقة خشن
وَمن ذريتهما المكرمين المؤيدين من لدنا موسى وهارون لَقَدْ مَنَنَّا ايضا عَلى مُوسى وَهارُونَ أخيه منة عظيمة
وَذلك انا قد نَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما اى من آمن لهما من بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
وَنَصَرْناهُمْ اى هما وقومهما على فرعون وملائه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ عليهم بعد ما صاروا مغلوبين منهم
وَبعد ما صيرناهم غالبين آتَيْناهُمَا اى موسى وهارون الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وهو التورية الذي هو أبين الكتب وأوضحها في ضبط الاحكام الإلهية المتعلقة بنظام الظاهر
وَهَدَيْناهُمَا ايضا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل الى الحق اليقين في مراتب التوحيد
وَمن كمال تكريمنا إياهما قد تَرَكْنا عَلَيْهِما وأبقينا ذكرهما بالخير فِي الْآخِرِينَ اللاحقين لهما من الأمم حيث يقولون في حقهما عند ذكرهما
سَلامٌ من الله وتحية منا عَلى مُوسى وَهارُونَ وذلك من جملة امتناننا عليهما وتكريمنا إياهما
إِنَّا من كمال جودنا ولطفنا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المخلصين في حسناتهم وجميع حالاتهم وكيف لا نجزيهما خير الجزاء وأحسنه
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المصدقين لاستقلالنا واختيارنا في ملكنا وملكوتنا
وَإِنَّ إِلْياسَ ابن ياسين من أولاد هارون أخ موسى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة بالظلم على عباد الله والخروج عن مقتضيات حدوده أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المفسدون المفرطون في الإشراك بالله والدعوة الى غير الله
أَتَدْعُونَ ايها الجاهلون بَعْلًا اى صنما مسمى به وترجعون نحوه في المهمات والملمات وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اى تتركون الدعوة والرجوع الى الحق الحقيق بالاطاعة والانقياد المستحق للعبودية والرجوع اليه في الخطوب والملمات
اللَّهَ بالرفع على الاستيناف وبالنصب على البدل وكذلك رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بنصب البائين ورفعهما على الخبر والبدل على القرائتين اى مربيكم ومظهركم من كتم العدم ومربى اسلافكم ايضا أفتعدلون عن عبادته وتعبدون الى ما لا ينفعكم ولا يضركم ظلما وزورا وبعد ما قد سمعوا منه دعوته الى التوحيد ورفض عبادة آلهتهم وقدحه إياها
فَكَذَّبُوهُ تكذيبا بليغا ولم يلتفتوا الى قوله ودعوته بل طروده وعزموا ان يقتلوه فَإِنَّهُمْ بشؤم تكذيبهم رسول الله وإبائهم عن دعوته الى التوحيد واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة دون الله شركاء معه في استحقاق العبادة والرجوع اليه في الوقائع لَمُحْضَرُونَ في العذاب الأليم مؤبدون في نار الجحيم ابد الآبدين
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ منهم المبادرين الى الايمان والتصديق بعد ما سمعوا دعوة الرسول بلا ميل منهم الى الإنكار والتكذيب
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على الياس ايضا ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ حيث يقولون حين ثنائهم عليه وتكريمهم إياه
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ وهو لغة في الياس كجبرين في جبريل
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المستحفظين على عموم حدودنا وأحكامنا ومقتضيات أوامرنا ونواهينا وكيف لا نجزيه احسن الجزاء
إِنَّهُ مِنْ جملة عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المتمكنين في مقر التوحيد واليقين الفائزين بمقام الكشف والشهود
وَإِنَّ لُوطاً ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الفائزين بمرتبة حق اليقين اذكر يا أكمل الرسل المعتبرين من المؤمنين وقت
إِذْ نَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ اى أولاده واهل بيته أَجْمَعِينَ
إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته قد بقيت فِي زمرة الْغابِرِينَ الهالكين بالعذاب المنزل عليهم لشؤم فعلتهم الشنيعة المتناهية في القبح والشناعة
ثُمَ
بعد ما نجيناه واهله دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
من قومه وأهلكناهم أجمعين
وَإِنَّكُمْ
يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على اطلالهم ومنازلهم المنقلبة عليهم بشؤم فعلتهم وقت ترحالكم الى الشأم وهي على متن الدرب مُصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ
ان كنتم سائرين في أيامكم يعنى ان سرتم ليلا تصبحون عندها وان سرتم نهارا تمسون دونها وبالجملة هي على طريقكم ايها المجبولون على العبرة والعظة أَفَلا تَعْقِلُونَ
تتفكرون وتتأملون فيما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسل الله لتعتبروا منهم ومن اطلالهم ورسومهم المندرسة المنكوسة حتى لا تفعلوا مثل أفعالهم
وَإِنَّ يُونُسَ
ابن متى ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ أَبَقَ
وهرب من نزول العذاب الموعود على قومه حين دعاهم الى الايمان والتوبة فلم يقبلوا منه دعوته ولم يجيبوا له فدعا عليهم وبعد ما قرب حلول العذاب عليهم خرج من بينهم هاربا حتى لا يلحقه ما لحقهم فلما وصل البحر ركب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
المملوّ من الناس والأحمال والأثقال فاحتبست السفينة على أهلها فاضطروا فقال البحارون ان في السفينة عبدا آبقا فبادروا الى القرعة على ما هو عادتهم في أمثاله وبعد ما خرج القرعة باسم واحد من أهلها طرحوه في الماء فأخذت السفينة في الجري والذهاب
فَساهَمَ
اى قارع حينئذ أهلها فخرج باسم يونس فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
المغلوبين المغرقين بمقتضى القرعة وبعد ما خرجت القرعة باسمه تفطن يونس عليه السلام انه من الاختبارات الإلهية فقال انا العبد الآبق فرمى نفسه في الماء خوفا من غضب الله ومن شدة غيرته وحميته وتوطينا لنفسه على مقتضى قضاء الله مفوضا امره اليه سبحانه وبعد ما وصل الى جوف الماء
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ بالهام الله إياه على الفور وابتلعه وَهُوَ حينئذ مُلِيمٌ نفسه نادم على فعله الذي فعله بلا نزول وحى من ربه لذلك أخذ حينئذ يسبح ربه عما لا يليق بشأنه وبالجملة
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ المنكشفين بوحدة الحق وبكمال تنزهه عن سمة الكثرة مطلقا
لَلَبِثَ واستقر فِي بَطْنِهِ اى بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وصار بطن الحوت له كالقبر لسائر الأموات وبالجملة لا نجاة له من بطنه ابدا ثم لما كان يونس عليه السلام من اهل التسبيح والتقديس ومن المنكشفين بوحدتنا واستقلالنا في شئوننا وتطوراتنا
فَنَبَذْناهُ وطرحناه من بطنه بِالْعَراءِ اى البادية الخالية عن مطلق الغطاء والغشاء الذي يظله من شجرة وغيرها عناية منا إياه ونجاة له وذلك بان ألهمنا الحوت أولا حين سقوطه في البحر بالتقامه فالتقمه بلا لحوق ضرر من الماء ثم الهمناه ان يخرج رأسه من الماء حتى يتنفس هو في بطنه الى ان يبلغ الساحل قيل لبث في بطنه يوما او بعض يوم وقيل ثلاثة ايام او سبعة وعشرين او أربعين فلما بلغ الساحل أخرجه الحوت من بطنه ولفظه الموج الى الساحل العاري عن الظل والشمس في غاية الحرارة وَهُوَ حينئذ سَقِيمٌ ضعيف قد صار بدنه كبدن الطفل حين يولد
وَبعد ما لم يكن له متعهد وليس هناك مظلة ولا شيء يحفظه من الحر والذباب قد أَنْبَتْنا عَلَيْهِ في الحال من كمال رحمتنا إياه وعطفنا معه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وهي شجرة تنبسط على وجه الأرض ولها أوراق عظام بلا ساق تقوم عليه قيل هي الدباء فغطيناه بأوراقها وربيناه بظلها إذ ظلها من احسن الاظلال وأكرمها هواء وألهمنا ايضا الى وعلة وهي المعز الوحشي حتى جاءت وحضرت عنده صباحا ومساء وهو يشرب من لبنها الى ان قوى وتقوم مزاجه على الوجه الذي كان عليه
وَبعد ما ربيناه كذلك أَرْسَلْناهُ مرة اخرى إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ اى في بادى الرأى والنظر يعنى قد حكم الناظر عليهم على سبيل الظن والتخمين بأنهم مائة ألف او اكثر وهؤلاء الذين قد أرسل إليهم أولا وهرب منهم وهم اصحاب نينوى هي قرية
فَآمَنُوا له وقبلوا منه دعوته بعد ان أرسل إليهم ثانيا فَمَتَّعْناهُمْ مؤمنين مصدقين موحدين إِلى حِينٍ اى الى انقضاء آجالهم ثم لما اثبت مشركوا مكة خذلهم الله المنزه عن مطلق الأشباه والأنداد ولدا بل أوضع الأولاد وأدناها وهي الأنثى ونسبوا الملائكة الذين هم من اشرف المخلوقات وأكرمها المنزهون عن لوازم الأجسام مطلقا الى الأنوثة التي هي من أخسها وأدونها وهم ابعد بمراحل عنها حيث قالوا ان الملائكة بنات الله ولم يكن له ابن وتمادوا على هذا الى حيث اتخذوا هذه العقيدة مذهبا وبالغوا في ترويجه رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستفتاء والاستفسار عن قولهم هذا ونسبتهم هذه فقال
فَاسْتَفْتِهِمْ وسلهم اى كفار مكة يا أكمل الرسل واستخبرهم على سبيل التوبيخ والتقريع أَيثبتون لِرَبِّكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد الْبَناتُ اى أوضع الأولاد وأردئها وَلَهُمُ الْبَنُونَ اى لأنفسهم أكرمها وأحسنها تعالى سبحانه عما يقولون
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ اى أيظنون ويعتقدون انا قد خلقنا الملائكة الذين هم من سدنة سدتنا السنية وخدمة عتبتنا العلية إِناثاً وَهُمْ حين خلقناهم شاهِدُونَ حاضرون ليشهدوا انوثتهم ويبصروها مع انها لا مجال للعقل الى الاطلاع بانوثتهم ولم ينقل منا احد من الرسل والأنبياء هذا مع ان الحواس الاخر معزولة عن دركها مطلقا سوى البصر ومن اين يتأتى لهم الحضور معهم حتى يبصروا انوثتهم. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والاستبعاد
أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بوحدة الله وبوجوب وجوده وتقدسه عن لوازم الإمكان مطلقا إِنَّهُمْ اى أولئك الضالين المغمورين في الجهل والطغيان مِنْ غاية إِفْكِهِمْ ونهاية غيهم وطغيانهم وعدوانهم لَيَقُولُونَ
وَلَدَ اللَّهُ الواحد الأحد المستغنى لذاته عن الأهل والولد قولا باطلا ظلما وزورا وَبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم ما يقولون وينسبون الى الله المنزه عن أمثاله مطلقا مقصورون على الكذب المحض بلا مستند عقلي او نقلي
أَصْطَفَى الْبَناتِ اى اتعتقدون ايها الجاهلون بقدر الله ووحدة ذاته المستغنية عن مطلق المظاهر والمجالى فكيف عن لوازم الحدوث والإمكان الذي هو من امارات الاستكمال والنقصان انه سبحانه مع كمال تعاليه وتقدسه قد اصطفى واختار لنفسه البنات المسترذلة الدنية عَلَى الْبَنِينَ الذين هم اشرف بالنسبة إليهن وأكمل خلقا وخلقا كمالا وعلما رشدا ويقينا
ما لَكُمْ اى ما شأنكم وما لحق بكم ايها المفسدون المفرطون كَيْفَ تَحْكُمُونَ على الله ما لا يرتضيه العقل ولا يقتضيه النقل
أَفَلا تَذَكَّرُونَ لا تتذكرون فانه سبحانه منزه عن اشرف الأولاد فكيف عن اردئها
أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ حجة وبرهان نقلي مُبِينٌ واضح لائح في الدلالة على مدعاكم هذا
فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ
النازل عليكم من قبل الحق المثبت لدعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
وَمن افراطهم في حق الله وجهلهم بكمال ذاته وصفاته وأسمائه قد جَعَلُوا واثبتوا بَيْنَهُ سبحانه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الذين هم مخلوقون من النار نَسَباً اى نسبة بالمصاهرة ويزعمون العياذ بالله انه سبحانه قد تزوج منهم امرأة فحصلت منها الملائكة وَالله لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ ايضا إِنَّهُمْ اى أولئك المفترين على الله بأمثال هذه المفتريات البعيدة عن جنابه سبحانه المستحيلة بذاته مراء وافتراء لَمُحْضَرُونَ في العذاب المخلد والنكال المؤبد بقولهم هذا ونسبتهم هذه وبالجملة
سُبْحانَ اللَّهِ وتقدس ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به هؤلاء المهاندون الجاهلون
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
فَإِنَّكُمْ ايها المعزولون عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي وَكذا ما تَعْبُدُونَ من دون الله من الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة
ما أَنْتُمْ وآلهتكم عَلَيْهِ سبحانه بِفاتِنِينَ اى مفسدين معرضين صارفين عموم الناس عن عبادته وأطاعته سبحانه باغوائكم واغرائكم ضعفة الأنام وتغريركم إياهم بعبادة الأصنام
إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ اى الا المفسدين الذين قد حق عليهم القول من لدنه وجرى حكمه سبحانه ومضى قضاؤه بأنهم من اصحاب النار واهل الجحيم لا بد لهم بان يصلوها ويدخلوها بلا تردد وتخلف يعنى ما يفيد اضلالكم واغراؤكم الا هؤلاء المحكومين عليهم بالنار في أزل الآزال دون المجبولين على فطرة الإسلام والتوحيد ثم لما اتخذ بعض المشركين الملائكة آلهة واعتقدوهم بنات الله وعبدوا لهم كعبادته سبحانه رد الله عليهم حاكيا عن اعتراف الملائكة
وَكيف يليق بنا ان نرضى بما افترى المشركون علينا من استحقاق العبادة والشركة في الألوهية إذ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ في العبودية والتوجه نحو الحق مَعْلُومٌ معين مقدر من عنده سبحانه لا يسع له ان يتجاوز عنه بلا اذن منه سبحانه بل يلازم كل منا مقامه المقدر له بتقدير ربه متوجها اليه سبحانه منتظرا لأمره وحكمه بلا غفلة وفترة
وَإِنَّا معاشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ على الاستقامة حول عرش الرحمن صفوف الناس في المساجد والعساكر عند السلطان لا يسع لاحد منا ان يتعدى مستقبلا او مستدبرا
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزهون المقدسون لله الواحد الأحد الصمد عن توهم الكثرة والشركة مطلقا الراسخون المتمكنون في مرتبة التنزيه والتقديس فكيف يتأتى منا ان نرضى بمفتريات اهل الزيغ والضلال بنا. عصمنا الله وعموم عباده عن زيغ الزائغين وضلالهم واضلالهم
وَإِنْ كانُوا اى قد كان أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال يعنى كفار قريش خذلهم الله لَيَقُولُونَ على سبيل التمني والتحسر تشنيعا وتعييرا على من مضى من الأمم السالفة
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ونزل علينا ذِكْراً كتابا مِنَ الْأَوَّلِينَ من جنس كتبهم اى كتابا سماويا من عند الله مثل كتبهم
لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أخلصنا العبادة له ولا نتجاوز عن مقتضى ما جاءنا من عنده في كتابه ولا نتعدى مطلقا عن حكمه وحدوده وأحكامه ولا نهمل شيأ عن عظته وتذكيراته بل نعتبر من قصصه وأمثاله وبالجملة نعامل معه احسن المعاملة كمعاملة سائر اصحاب الكتب مع كتبهم ثم لما نزل عليهم من عند الله ما هو أكمل الكتب مرتبة ورشدا وهداية وأشملها حكما وأتمها فائدة وأبلغها حكمة وبرهانا وأوضحها بيانا وتبيانا
فَكَفَرُوا بِهِ وأنكروا عليه وعلى نزوله ومنزله وعلى من انزل اليه واعرضوا عنه وعن أحكامه واستهزؤا بمن انزل اليه وكذبوا رسالته وبالجملة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ آجلا وعاجلا جزاء ما يفعلون ويستهزؤن ويذوقون وبال ما ينكرون ويعرضون الا انهم هم المفسدون لأنفسهم ولكن لا يشعرون فسيعلمون اى منقلب ينقلبون
وَكيف لا يعلمون ولا يذوقون العذاب أولئك المسرفون المفرطون لَقَدْ سَبَقَتْ اى قد حقت وثبتت وصدرت على سبيل الوجوب منا كَلِمَتُنا المشتملة على الوعد والنصر لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ وهي قوله سبحانه كتب الله لأغلبن انا ورسلي وقوله ايضا
إِنَّهُمْ اى الرسل والأنبياء لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ المقصورون على النصر والغلبة على الأعداء البتة القاهرون
إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
القاهرون على جنود الأعداء وأحزابهم المسلطون عليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل مضمون وعدنا على عموم الأولياء من الرسل والأنبياء
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى كفار قريش واعرض عن مما رأتهم ومخاصمتهم حَتَّى حِينٍ الى حين حلول العذاب الموعود المعهود من لدنا إياهم وَأَبْصِرْهُمْ العذاب إذا نزل عليهم عاجلا وهو عذاب يوم البدر فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ آجله في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم عاجلا
أَينكرون قدرتنا على العذاب الآجل مع نزول العذاب العاجل عليهم يوم بدر فَبِعَذابِنا الآجل في يوم الجزاء يَسْتَعْجِلُونَ ويقولون متى هذا بعد ما سمعوا فسوف يبصرون آجله زيادة في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم مع ان سوف للوعيد لا للبعيد اما يستحيون من الله فيستعجلون عذابه ولم يتفطنوا مما جرى عليهم وعلى أمثالهم عاجلا ولا يخافون من نزوله وحلوله بغتة
فَإِذا نَزَلَ وحل العذاب الآجل الموعود لهم بِساحَتِهِمْ وفناء دارهم وعرضتها وهذا كناية عن قربه وإلمامه بغتة فَساءَ وبئس الصباح حينئذ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ إذ أصبحوا معاجلين على انواع العذاب والنكال فلم يستعجلون بها أولئك الحمقى الجاهلون الهالكون في تيه الضلال والطغيان
وَبعد ما قد تمادوا في الغفلة والعدوان وبالغوا في العتو والعصيان تَوَلَّ عَنْهُمْ وانصرف عن مكالمتهم يا أكمل الرسل حَتَّى حِينٍ اى حين إلمام العذاب الموعود
وَأَبْصِرْ إياهم بعد ما الم ونزل بساحتهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ اى شيء يترتب على انكارهم وتكذيبهم يوم الجزاء أولئك الضالون المسرفون وانما كرره سبحانه تأكيدا ومبالغة في التهديد والتوعيد وتسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذ سبحانه في التنزيه على نفسه مضافا الى حبيبه فقال
سُبْحانَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وتنزه ذاته عن مقتضيات التشبيه مطلقا وما نسبوا اليه سبحانه من امارات الإمكان وعلامات النقصان وكيف ينسبون الى رَبِّ الْعِزَّةِ والقدرة والغلبة والكبرياء والاستقلال التام والاستيلاء العام المنزه ذاته عن الاحاطة وصفاته عن العد والإحصاء تعالى عن التحديد والتوصيف سيما عَمَّا يَصِفُونَ به أولئك المسرفون المفرطون من اثبات الولد والإيلاد والاستيلاد
وَسَلامٌ من الله وبركاته عَلَى عباده الْمُرْسَلِينَ من عنده لتبيين توحيده وتقديسه وتعاليه عن احاطة مطلق المدارك والعقول
وَالْحَمْدُ والثناء من ألسنة جميع من يتأتى منه الحمد والثناء حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد المنزه عن اتخاذ الأهل والولد رَبِّ الْعالَمِينَ يعنى الذين ظهروا من شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته ورباهم ايضا على حسبها اظهار الكمال قدرته وعموم احاطته. وعن المرتضى الأكبر المتحقق بمقام التسليم والرضا كرم الله وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه عن مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
خاتمة سورة الصافات
عليك ايها السالك المتحقق بجلال الحق وبكمال كبريائه واستغنائه عن عموم مظاهره ومصنوعاته واستيلائه على جميع ما ظهر وبطن من الأمور الكائنة المنعكسة ببروق تجلياته حسب أسمائه وصفاته المندرجة في شمس ذاته ان تلاحظ شئون الحق على هياكل الموجودات وتطالع ظهور كمالاته على
[سورة ص]
فاتحة سورة ص
لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق واحاطته وشموله على عموم ما لاح عليه بروق شئونه ولوامع تجلياته الغير المحصورة ان الحقيقة الحقية المنزهة عن لوث التعينات وشوب الإضافات مطلقا وذلك انه لما أراد سبحانه ان يتجلى لذاته بذاته ويطالع أسماءه الحسنى وصفاته العليا التي قد اتصف بها ذاته على التفصيل حتى ينقلب ويصير حضوره شهودا وعلمه عينا تنزلت من مرتبة الاحدية المستهلكة دونها الكثرات مطلقا المتلاشئة عندها الإشارات والإضافات رأسا فالتفتت نحو العدم بعد ما أفاضت عليه خلعة الاستعداد والقبول فانعكس فيه من شئون الحق واشعة أنوار شمس ذاته ما لا يتناهى ابد الآباد من الصور والآثار الغير المتكررة فيتراءى هذا النظام المشاهد المحسوس من تلك الآثار والاظلال المنعكسة من شمس الذات وانبسط عليها بالاستقلال التام بلا مشاركة ولا مظاهرة فيوجد الكل به وله وفيه ويرجع الكل اليه رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر فمن خرج عن ربقة عبوديته بعد ما سمع كيفية ظهوره فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا وما ذلك الا بسبب جهلهم وضلالهم وما الباعث على خروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بينهم بالوضع الإلهي المنبه به على السنة الأنبياء العظام والرسل الكرام الا من استكبارهم وتغررهم الحاصل لهم بتغرير سلطان اماراتهم عليهم وتضليلها إياهم وتلبيسها عليهم لذلك اقسم سبحانه بكتابه المجيد المنزل من عنده المشتمل على فوائد الكتب السالفة المنزلة من لدنه بان كفرهم وانكارهم بتوحيد الله وتصديق رسله وكتبه انما نشأ من استكبارهم في أنفسهم واستعلائهم على عباد الله وتفوقهم عليهم عدوانا وظلما ابتلاء من الله إياهم وافتتانا لهم على مقتضى أسمائه المقتضية للاذلال والإضلال إظهارا للقدرة الكاملة والحكمة الباعثة على وضع التكاليف المستلزمة للثواب والعقاب والإحسان والخذلان والانعام والانتقام فقال مخاطبا لحبيبه الذي اختاره لرسالته الى كافة البرايا بالدعوة العامة والتشريع التام الكامل للكمل المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المتعلقة لسلوك طريق التوحيد بعد ما تيمن باسمه العظيم الجامع لجميع الأسماء والصفات بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى لحبيبه صلّى الله عليه