ﰡ
وإنَّما مَنَّ الله علينا بأنْ خلقَنا من نفسٍ واحدة ؛ لأن ذلك أقربُ إلى أن يَعْطِفَ بعضٌ على بعضٍ، ويَرْحَمَ بَعضُنا بعضاً لرجوعنا في القرابةِ إلى أصلٍ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ أي وخَلَقَ من نفسِ آدمَ زوجَها حَوَّاءَ ؛ خلَقَها من ضِلْعٍ من أضلاعه اليُسرى وهي القُصْرَى بعدَ ما ألْقِيَ عليه النومُ فلم يُؤْذِهِ، ولو آذاهُ لَمَا عَطَفَ عليها أبداً. قال ﷺ :" إنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أعْوَجٍ، فَإنْ أرَدْتَ أنْ تُقِيْمَهَا كَسَرْتَهَا، وَإنْ تَرَكْتَهَا وَفِيْهَا عِوَجٌ اسْتَمْتَعْتَ بهَا عَلَى عِوَجٍ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ﴾ ؛ أي بَشَراً وفِرَقاً، وأظهرَ من آدمَ وحوَّاء خَلْقاً كثيراً من الرِّجال والنسَاء. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ﴾ ؛ أي اتَّقُوا معاصيَ اللهِ، ﴿ #١٦٤٩; لَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ ﴾ أي يتساءَلُ بعضُكم بعضاً من الجوارحِ والحقُوق ؛ يقولُ الرجل للرجُلِ : أسألُكَ باللهِ افْعَلْ لِي كذا.
قرأ أهلُ الكوفة :(تَسَاءَلُونَ) مخفَّفاً، وقرأ الباقون بالتشديدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالأَرْحَامَ ﴾ قرأ عامَّة القُرَّاء بنصب (الأَرْحَامَ) على معنى : واتَّقُوا الأرحامَ أن تقطعُوها.
وقرأ النخعيُّ وقتادةُ والأعمش وحمزة بالخفضِ على معنى : وبالأرحامِ على معنى : تساءَلُونَ باللهِ وبالأرحامِ ؛ فيقول الرجلُ : أسألُكُ باللهِ وبالرَّحِمِ. والقراءةُ الأُولى أفصحُ ؛ لأن العربَ لا تعطفُ بظاهرٍ على مُضْمَرٍ مخفوض إلاَّ بإعادةِ الخافض، لا يقولونَ : مررتُ به وزيدٍ، ويقولونَ : بهِ وبزيدٍ، وقد جاءَ ذلك في الشِّعر، قال الشاعرُ : قَدْ كُنْتَ مِنْ قَبْلُ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا فَاذْهَبْ فَمَا بكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ ؛ أي حَفِيظاً لأعمالكم، وَالرَّقِيْبُ هو الحافظُ، وقال بعضُهم : عَلِيْمَاً ؛ والعَلِيْمُ والحافظُ متهاديان ؛ لأن العليمَ بالشيء حافظٌ له.
وإنََّما سَمَّى اللهُ تعالى البالغَ يتيماً، ولا يُتْمَ بعدَ البلوغِ استصحاباً بالاسم الأوَّل، كما قالَ تعالى :﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾[الأعراف : ١٢٠] ولا سِحْرَ مع السُّجود، ولأنه قريبُ عَهْدٍ بالْيُتْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ أي لاَ تبذِّروا أموالَكم الحلالَ وتأكلُوا الحرامَ من أموالِ اليتامَى. قالَ سعيدُ بن المسيَّب والنخعيُّ والزهريُّ والسدي والضحَّاك :(كَانَ أوْصِيَاءُ الْيَتَامَى وَأوْلِيَاؤُهُمْ يَأْخُذُونَ الْجَيِّدَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ، وَيَجْعَلُونَ مَكَانَهُ الرَّدِيْءَ، وَرُبَّمَا كَانَ أحَدُهُمْ يَأَخُذُ الشَّاةَ السَّمِيْنََةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ، وَيَجْعَلُ مَكَانَهَا الْمَهْزُولَةَ، وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ الْجَيِّدَ وَيَجْعَلُ مَكََانَهُ الزَّيْفَ وَيَقُولُ : دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ ؛ فَذلِكَ تَبْدِيْلُهُمْ، فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ).
وقال مجاهدُ :(مَعْنَى الآيَةِ : لاَ تَجْعَلْ رزْقَكَ الْحَلاَلَ حَرَاماً ؛ تَتَعَجَّلُهُ بأَنْ تَسْتَهْلِكَ مَالَ الْيَتِيْمِ، فَتُنْفِقَهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَتَحَرَّ فِيْهِ لِنَفْسِكَ وَتُعْطِيْهِ غَيْرَهَ، فَيَكُونَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ حَرَاماً خَبيْثاً، وَتُعْطِيْهِ مَالَكَ الْحَلاَلَ، وَلَكِنْ آتوهُمْ أمْوَالَهُمْ بأعْيَانِهَا). وفي هذا دليلٌ على أنه لا يجوزُ لولِيِّ اليتيمِ أن يستقرضَ مالَ اليتيم ولا أن يستبدلَهُ من نفسهِ، وقيل : معنى ﴿ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ﴾ أي لا تجعلِ الزيف بدلَ الجيِّد ؛ ولا المهزولَ بدل السَّمين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ ؛ كقوله تعالى :﴿ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾[آل عمران : ٥٢] أي مَعَ اللهِ، وقيل معناه : لا تأكلُوا أموالَهم مُضِيْفِيْنَ إلى أموالِكم ؛ لأنَّهم كانوا يَخْلِطونَ أموالَ اليتامَى بأموالِهم حتى يصيرَ دَيْناً عليهم، ثم كانوا يبيعونَها مع أموالِهم ويربحونَ عليها ويَسْتَبدُّونَ بتلك الأرباحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ ؛ أي إثْماً عَظِيْماً، وفيه ثلاثُ لغاتٍ : قراءةُ العامَّة :(حُوباً) بالضمِّ وهي قراءةُ النبيِّ ﷺ وهي لغةُ أهلِ الحجازِ، وقراءة الحسنِ (إنَّهُ كَانَ حَوْباً) بفتح الحاء وهي لغةُ تَميم، وقراءةُ أبَيِّ بن كعبٍ :(حَاباً) على المصدر مثلُ القَالِ، ويجوزُ أن يكون اسْماً مثلُ الزادِ، ويقالُ للذنب : حُوبٌ وَحَوْبٌ وَحَابٌ.
ومعناها : إنْ خِفْتُمْ أنْ لاَ تعدِلُوا في أموالِ اليتامَى ؛ فَخَافُوا في النِّساءِ إذا اجتمعنَ عندَكُم أن لا تعدلُوا بينهنَّ، فَتَزَوَّجُوا ما حَلَّ لكم من النِّساءِ، ولاَ تَنْكِحُوا إلاَّ ما يُمكنكم إمساكهُنَّ : ثِنْتَانِ ثِنْتَانِ ؛ وَثَلاَث ثلاث ؛ وأربع أربعِ، ولا يزيدُوا على أربعِ حرائر. وقيل : معنى الآية : إنْ خِفْتُمْ أن لا تعدِلوا يا معشرَ الأولياءِ في اليتامَى إذا تزوجتُم بهِنَّ ؛ فانْكِحُوا ما حلَّ لكم من النساء غيرهنَّ. وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : إنْ خِفْتُمْ فِي ولاَيَةِ الْيَتَامَى إيْمَاناً وتَصْدِيْقاً ؛ فَخَافُوا فِي الزِّنَا، وَانْكِحُوا الطَّيِّبَ مِنَ النِّسَاءِ).
وقال بعضُهم : كانوا يَتَحَرَّجُونَ عن أموالِ اليتامى، ويترخَّصون في النساءِ، ولا يعدلونَ فيهنَّ ويتزوجُون منهنَّ ما شاءُوا فربما عدلوا، وربَّما لم يعدلوا، فلما سألُوا عن أموالِ اليتامى، أنزلَ اللهُ تعالى﴿ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾[النساء : ٢]، وأنزلَ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى ﴾[النساء : ٣]، أي كما خِفْتُمْ أن لا تُقْسِطُوا في اليتامى وهَمَّكُمْ ذلكَ ؛ فخافُوا في النساءِ أن لا تعدلُوا فيهنَّ ؛ ولا تزوَّجوا أكثرَ مما يُمكنِكم إمساكهنَّ والقيامُ بحقِّهنَّ ؛ لأن النساءَ كاليتامَى في الضَّعْفِ والعَجْزِ، فما لكم تُرَاقِبُونَ اللهَ في شيء، وَتَعْصُونَهُ في مثلهِ، وهذا قولُ سعيدِ بن جبير وقتادةَ والربيعِ والضحَّاك والسديِّ، وروايةٌ ابنِ عبَّاس.
والإقْسَاطُ في اللغة : الْعَدْلُ، يقال : أقْسَطَ ؛ إذا عَدَلَ، وَقَسَطَ ؛ إذا جَارَ، وإنَّما قال :(مَا طَابَ) ولم يقل مَنْ طَابَ ؛ لأن (ما) مع الفعلِ بمنْزلة المصدر، كأنهُ قالَ : فانكحُوا الطيِّبَ، يعني الحلالَ من النساء. وقرأ ابن أبي عبلةَ :(مَنْ طَابَ) ؛ لأن (ما) لِما لا يعقلُ و (من) لمن يعقل، إلاّ أنَّ عامَّة القُرَّاء والعلماءِ يقولون : إن العربَ تجعلُ (ما) بمعنى (مِن) ؛ و (مِن) بمعنى (ما)، وقد جاءَ القُرْآنُ بذلكَ : قال اللهُ تعالى :﴿ وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾[الشمس : ٥]، وقال تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾[النور : ٤٥]، وقال تعالى :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء : ٢٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ بدل مِنْ (طَابَ لَكُمْ) وهو مما لا ينصرفُ، لأن ﴿ مَثْنَى ﴾ معدولٌ عن اثنين وذلكَ نكرةٌ، و (ثُلاَثَ) معدولٌ عن ثلاثةٍ.
وذهبَ بعض الرَّوَافِضِ إلى استحلالِ تِسْعِ استدلالاً بهذه الآية، ولَيْسَ ذلِكَ بشَيْءٍ، فإنَّ الواوَ هنا بمعنى (أو)، " وروي عن قيسِ بن الْحَارثِ : أنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ ثَمَانِي نِسْوَةٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يُمْسِكَ أرْبَعاً وَيُفَارقَ أرْبَعاً، وَقَالَ ﷺ لِغَيْلاَنَ حِيْنَ أسْلَمَ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ :" أمْسِكْ مِنْهُنَّ أرْبعاً ؛ وَفَارقْ سَائِرَهُنَّ ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نِحْلَةً ﴾ قال قتادةُ :(فَرِيْضَةً وَاجِبَةً)، وقال ابن جُريج :(فَرِيْضةً مُسَمَّاةً)، وقال الكلبيُّ :(عَطِيَّةً وَهِبَةً)، وقال أبو عُبيدة :(عَنْ طِيْب نَفْسٍ)، قال الزجَّاج :(تَدَيُّناً). وقيل : معناهُ : عطيَّةٌ من اللهِ تعالى للنَّساءِ حيث جَعْلِ المهرَ لَهُنَّ، ولم يوجب عليهنَّ شيئاً من القومِ مع كون الاستِمْتَاع مشتَركاً بينهنَّ وبين الأزواجِ. وقيل معنى (نِحْلَةً) : دِيَانَةً، فانتصبَ (نِحْلَةً) على المصدر، وقيل : على التفسيرِ.
وروي عن رسول الله أنه قال :" مَنِ ادَّانَ دَيْناً وَهُوَ يَنْوِي أنْ لاَ يُؤَدِّيَهُ لَقِيَ اللهَ سَارقاً، ومَنْ أصْدَقَ امْرَأةً صِدَاقاً وَهُوَ يَنْوِي أنْ لاَ يُوَفِّيَهَا لَقِيَ اللهَ زَانِياً " وقال ﷺ :" إنَّ أحَقِّ الشُّرُوطِ أنْ تُوَفُّوا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بهِ الْفُرُوجَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ ؛ أي إنْ أحْلَلْنَ لَكُم عن شيءٍ من المهرِ، وإن وَهَبْنَ لكم منه شيئاً. ونصب (نَفْساً) على التَّمييزِ إذا قيلَ (طِبْنَ لَكُمْ) لم يُعلم في أيِّ صنفٍ وقعَ الطيبُ، فكأنه قالَ : إن طَابَتْ أنفسُهن بهِبَةِ شيءٍ من المهر فكلُوا الموهوبَ لكم هنيئاً لا إثْمَ فيه، مَرِيئاً لا مَلاَمَةَ فيه. قال الحضرميُّ :(إنَّ نَاساً كَانُواْ يَتَأَثَّمُونَ أنْ يَرْجِعَ أحَدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَاقَ إلَى امْرَأتِهِ). قال اللهُ تعالى :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾ من غيرِ إكراهٍ ولا خَدِيْعَةٍ ﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ أي شافياً طَيِّباً.
وقيل معناهُ : فكلوهُ دواءً شافياً، وقيل : الْهَنِيءُ : الطَّيِّبُ الْمُسَاغُ الَّذِي لاَ يَغُصُّهُ شَيْءٌ، وَالْمَرِيْءُ : الْمَحْمُودُ الْعَاقِبةِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ وَلاَ يُؤْذِي، تقول : لا تخافونَ في الدنيا منهُ مطالبةً، ولا في الآخرة بتبعةٍ، يقال : هنأني لِي الطعامُ وَمَرِّأنِي، فإذا أفْرِدَ يقال : أَمْرَأنِي ولا يقال إهْنَأنِي، وَهَنِيْئاً مصدرٌ.
وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه أنهُ قالَ :(إذا كَانَ أحَدُكُمْ مَرِيْضاً فَلْيَسْأَلِ امْرَأتَهُ دِرْهَمَيْنِ مِنْ مَهْرِهَا تَهَبْ لَهُ بطِيْبَةِ نَفْسِهَا ؛ فَلْيَشْتَرِ بذلِكَ عَسَلاً، وَيَشْرَبُهُ مَعَ مَاءِ الْمَطَرِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ الْهَنِيءُ وَالْمَرِيءُ وَالشِّفَاءُ وَالْمَاءُ الْمُبَارَكِ). لأنَّ اللهَ تعالى سَمَّى المهرَ هَنِيْئاً مَرِيْئاً إذا وَهَبَتْهُ المرأةُ لِزَوْجِهَا ؛ وسَمَّى العسلَ شِفَاءً ؛ وسَمَّى المطرَ مُبَاركاً، فإذا اجتمعتْ هذهِ الأشياءُ يُرْجَى له الشِّفاء.
وقال مجاهدُ :(نَهَى الرِّجَالَ أنْ يُؤْتُوا النِّسَاءَ أمْوالَهُمْ وَهُنَّ سُفَهَاءُ ؛ كُنَّ أزْواجاً، أوْ بَنَاتٍ أوْ أُمَّهَاتٍ). وعن الضحَّاك :(النِّسَاءُ مِنْ أسْفَهِ السُّفَهَاءِ) يدلُّ على هذا التأويلِ قولهُ ﷺ :" ألاَ إنَّمَا خُلِقَتِ النَّارُ لِلسُّفَهَاءِ - قَالَهَا ثَلاَثاً - ألاَ إنَّ السُّفَهَاءَ النِّسَاءُ إلاَّ امْرَأةٌ أطَاعَتْ قَيِّمَهَا "
وعن أنسٍ رضي الله عنه قَالَ :" جَاءَتِ امْرَأةٌ سَوْدَاءُ جَرِيئَةُ الْمَنْطِقِ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ : بأَبي وَأمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ بَلَغَنِي أنَّكَ تَقُولُ فِيْنَا كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ :" أيُّ شَيْءٍ قُلْتُ فِيْكُنَّ ؟ " قَالَتْ : سَمَّيْتَنَا السُّفَهَاءَ، قَالَ :" اللهُ تَعَالَى سَمَّاكُنَّ السُّفَهَاءَ فِي كِتَابِهِ " قَالَتْ : وَسَمَّيْتَنَا النَّوَاقِصَ، قَالَ :" فَكَفَى نَقْصاً أنْ تََتْرُكَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ الصَّلاَةَ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ أيَّامٍ لاَ تُصَلِّي فِيْهَا " - يَعْنِي أيَّامَ حَيْضِهَا - ثُمَّ قَالَ ﷺ :" أمَا يَكْفِي إحْدَاكُنَّ إذا حَمَلَتْ كَانَ لَهَا كَأَجْرِ الْمُرَابطِ فِي سَبيْلِ اللهِ، وَإذا وَضَعَتْ كَانَتْ كَالْمُتَشَحِّطِ بدَمِهِ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَإذا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بكُلِّ جُرْعَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ، فَإذا سَهِرَتْ كَانَ لَهَا بكُلِّ سَهْرَةٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ، وَذلِكَ لِلْمُؤْمِنَاتِ الْخَاشِعَاتِ الصَّابرَاتِ اللاَّتِي لاَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيْرَ " فَقَالَتِ السَّوْدَاءُ : أيَا لَهُ فَضْلاً لَوْلاَ مَا تَبعَهُ مِنَ الشُّرُوطِ ".
وروي : أنَّ امْرَأةً مَرَّتْ بعَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ لَهَا شَارَةٌ وَهَيْئَةٍ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ عُمَرَ :(وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ). وقال معاويةُ بن مُرَّةَ :(عَوِّدُوا نِسَاءَكُمْ (لاَ)، فَإنَّهُنَّ سَفِيْهَاتٌ، إنْ أطَعْتَ الْمَرْأةَ أهْلَكَتْكَ).
وعن أبي موسَى الأشعريِّ قالَ :(ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ فَلاَ يَسْتَجِيْبَ لَهُمْ : رَجُلٌ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ أعْطَى سَفِيْهاً مَالَهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾ أيِ الْجُهَّالَ بَمَوَاضِعِ الْحَقِّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ﴾. قرأ ابنُ عمر (قَوَاماً) بفتح القافِ والواو، وقرأ عيسَى بن عمر (قِوَاماً) بكسر القاف وهما لُغات. وقرأ الأعرجُ ونافع وابنُ عامر (قيماً) بكسر القاف من غير ألف. وقرأ الباقون (قِيَاماً) بالألف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾ ؛ أي أطْعِمُوا النساءَ والأولادَ واكسُوهم من أموالِكم. ﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ ؛ أي عُدُّوهُمْ عُدَّةً حَسَنَةً، نحوَ أن يقولَ الرجلُ : سأفعل كذا إن شاءَ اللهُ، وقيلَ : رُدُّوا عليهم رَدّاً جميلاً، وقولوا لَهم قَوْلاً لَيِّناً تطيبُ به أنفسُهم. والرِّزْقُ من اللهِ تعالى : الْعَطِيَّةُ غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ، ومن العبادِ الشيءُ الموظَّف لوقتٍ محدود. وإنَّما قال (فِيْهَا) ولم يقل : مِنْهَا ؛ لأنه أرادَ : اجعلوا لَهم حَظّاً فيهَا أي رزْقاً فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ﴾ ؛ أي لا تأْكُلُوا أموالَ اليتامَى بغيرِ حَقِّ. والإسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ ؛ أي لِيَتَوَرَّعْ بغِنَاهُ عن مالِ اليتيم، ولا يُنْقِصْ شيئاً من مَالِهِ، والْعِفَّةُ : الامْتِنَاعُ عَمَّا لاَ يَحِلُّ فِعْْلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ اختلفُوا في معنَى ذلكَ، قال عمر بن الخطاب وسعيدِ بن جُبير وعبيدةُ السَّلمانِيُّ :(مَعْنَاهُ : فَلْيَأْخُذْ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، فَإذا أيْسَرَ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ). وهكذا روَى الطحَّاويُّ عن أبي حنيفةَ، فمعنى قولِه تعالى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ بالْقَرْضِ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾[النساء : ١١٤] أي أو قَرْضٍ.
وقال مكحولُ وعطاء وقتادةُ :(إنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيْمِ أنْ يَأْخُذ مِن مَالِ الْيَتِيْمِ قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيَسُدُّ جُوعَتَهُ لاَ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ). قال الشَّعبيُّ :(لاَ يَأْكُلُ إلاَّ أنْ يَضْطَرَّ إلَيْهِ كَأَنْ يَضْطَرَّ إلَى الْمَيْتَةِ). وقال بعضُهم :(فَلْيَأْكُلْ بالْمَعْرُوفِ) أي يأكل من غيرِ إسرافٍ، ولا قَضَاءٍ عليهِ فيما أكلَ.
واختلفوا في كيفيَّة هذا بالمعروفِ، فقالَ عكرمةُ والسُّدِّيُّ :(يَأْكُلُ وَلاَ يُسْرِفُ فِي الأَكْلِ وَلاَ يَكْتَسِي مِنْهُ). وقال النخعيُّ :(لاَ يَلْبَسُ الْكِتَّانَ وَلاَ الْحُلَلَ، وَلَكِنْ مَا يَسُدُّ الْجُوْعَةَ وَيُوَاري العَوْرَةَ). وقال بعضُهم : معنى :﴿ فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ هو أن يأكلَ من تَمْرِ نخيلهِ ولَبَنِ مَوَاشِيهِ بالمعروفِ ولا قضاءَ عليه، فأمَّا الذهبُ والفضَّة إذا أخذ منه شيئاً ردَّ بَدَلَهُ. قال الضحَّاك :(الْمَعْرُوفُ رُكوبُ الدَّابَّةِ وَخِدْمَةُ الْخَادِمِ، ولََيْسَ لَهُ أنْ يَأْكُلَ من مالهِ شيئاً).
وعن ابنِ عبَّاس :(أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إنَّ فِي حِجْرِي أمْوَالَ أيْتَامٍ ؛ أفَتَأْذنُ لِي أنْ أُصِيبَ مِنْهَا ؟ فَقَالَ : إنْ كُنْتَ تَبْغِي ضَالَّتَهَا، وَتَهْنَا جَرْبَاهَا، وَتَلُوطَ حَوضَهَا فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بالنَّسْلِ وَلاَ نَاهِكٍ فِي الْحَلْب). عنِ ابن عبَّاس روايةٌ أخرى أنَّ معنى الآيةِ :(فَلْيَأكُلْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بالْمَعْرُوفِ حَتَّى لاَ يُصِيْبَ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ شَيْئاً).
وعنِ ابن مسعُودٍ رضي الله عنه أنهُ قال :(لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ قَرْضاً وَغَيْرَهُ) وهذا قولُ أبي حنيفةَ. وروى بشْرُ عن أبي يوسف أنه قال :(لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيْمِ إذا كَانَ مُقِيْماً، فَإنْ خَرَجَ فِي تَقَاضِ دَيْنٍ لِلْيَتِيْمِ أوْ إلَى ضِيَاعٍ لَهُ، فَلَهُ أنْ يُنْفِقَ وَيَكْتَسِي وَيَرْكَبَ، فَإذا رَجَعَ رَدَّ الثِّيَابَ وَالدَّابَّةَ إلَى الْيَتِيْمِ).
ومعناه : للرجالِ حظٌّ مِمَّا تركَ الولدانِ والأقربونَ، وللنساءِ كذلكَ أيضاً، مما قَلَّ مِن المالِ أو كَثُرَ، ﴿ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ أي مَعْلُوماً مقدَّراً، فأرسلَ النبيُّ ﷺ إلى قتادةَ وعَرْفَطَةَ :" أنْ لا تَقْرَبَا من مالِ أوْسٍ شَيْئاً، فإنَّ اللهَ قدْ أنْزَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيْباً، ولَمْ يُبَيِّنْ كَمْ هُوَ، أنْظُرُكُمْ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ " فأنزلَ اللهُ بعد ذلكَ ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ إلى قولهِ ﴿ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ فأرسلَ النبيُّ ﷺ إلى قتادةَ وعرفطةَ :" أنِ ادْفَعَا إلَى أمِّ كُجَّةَ ثُمْنَ جَمِيْعِ الْمَالِ إدْفَعَا إلَيْهَا لِبَنَاتِهَا الثُّلُثَيْنِ وَلَكُمُ بَاقِي الْمَالِ ".
وانتصبَ قَوْلُهُ تَعَالَى (نَصِيْباً) لِخروجِهِ مخرجَ المصدرِ كقول القائلِ : عِنْدِي حَقّاً ؛ ولك معي درهمٌ هبةً.
وعنِ ابن عبَّاس روايَتَان ؛ إحدَاهُما :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ) وهو قولُ عطاءٍ ومجاهدُ والزهريُّ وجماعةٌ، حتى روي عن عبيدةَ السَّلمانِيِّ :(أنَّهُ ذَبَحَ لِلأَقْرِبَاءِ شَاةً مِنْ أمْوَالِ الْيَتَامَى وَأعْطَاهُمْ ؛ وَقَالَ : إنِّي أُحِبُّ أنْ يَكُونَ ذلِكَ مِنْ مَالِي لَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ). وعنِ ابن سِيْرِيْنَ أنَّهُ فعلَ مِثلَ ذلكَ. وقال قتادةَ عنِ الحسنِ :(لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ شَحُّواْ وَبَخِلُوا، وَكَانَ التَّابعُونَ يُعْطُونَ الأَوَانِي وَالشَّيْءَ الَّذِي يُسْتَحْيَا مِنَ قِسْمَتِهِ).
والرواية الثَّانيةُ :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بآيَةِ الْمَوَاريْثِ) وهو قول سعيدِ بنِ المسيَّب والسديُّ وأبي مالكٍ وأبي صالحٍ والضحَّاك ؛ لأنَّها لو كانت واجبةً مع كَثْرَةِ قسمةِ المواريثِ في عهدِ النبيِّ ﷺ والصَّحابَةِ ومَن بعدَهم لَنُقِلَ وجوبُ ذلك واستحقاقهُ لهؤلاءِ كما نُقِلَتِ المواريثُ للزومِ الحاجَة إلى ذلكَ، لكن يستحبُّ ذلكَ في حقِّ الوَرَثَةِ لحضور البالغين. وحديثُ عبيدةَ السَّلمانِيُّ محمولٌ على أنَّ الورثةَ كانوا بَالِغِيْنَ ؛ فَذبحَ الشاةَ من جُملةِ المال بإذنِهم.
" روي عن رسولِ اللهِ ﷺ : أنَّهُ دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ يَزُورُهُ، فَقَالَ سَعْدٌ :" يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنِّي ذُو مَالٍ وَلَيْسَ لِي إلاَّ بنْتٌ وَاحِدَةٌ، أفَأُوْصِي بالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ :" لاَ " قَالَ : فَبالشَّطْرِ ؟ قَالَ :" لاَ " فَبالثُّلُثِ ؟ قَالَ :" وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ، إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْراً مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ".
قال بعضُ المفسِّرين : هذه الآيةُ خطابٌ لِمن يتصرَّف بأموالِ اليتامى ؛ معناهُ : وَلْيَخْشَ الذينَ يخافُونَ الضَّيَاعَ على وَرَثَتِهِمْ الضعافِ بعدَ موتِهم، فلا يفعلون في أموالِ اليتامَى إلاَّ بما يُحبُّونَ أنْ يُفْعَلَ في أولادِهم مِن بعدِ موتِهم. والقولُ السَّدِيْدُ : هو الذي لا خلافَ فيه مِن جهةِ الفساد، مأخوذٌ من سَدِّ الثُّلْمَةِ، وهو الْعَدْلُ والصَّوَابُ مِن القولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ ؛ أي سَيَصْلَوْنَ النارَ في الآخرة ويلزمونَها، والصَّلاَءُ : مُلاَزَمَةُ النَّار لِلاحْتِرَاقِ وَالإنْضَاجِ. قرأ العامَّة :(وَسَيَصْلُونَ) بفتحِ الياء أي يدخلونَها كقولهِ تعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ﴾[الصافات : ١٦٣] وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأَشْقَى ﴾[الليل : ١٥].
وقرأ أبو رجَاءٍ والحسنُ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصم بضمِّ الياء على معنى : وسَيَدْخُلُونَ النَّارَ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ، ونظيره﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾[المدثر : ٢٦] و﴿ فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ﴾[النساء : ٣٠]. وقرأ حمزةُ بن قيسٍ :(وَسَيُصَلَّونَ) بتشديد اللاَّم من التَّصْلِيَةِ لكثرةِ الفعلِ ؛ أي مَرَّةً بعدَ مرةٍ، نظيرهُ﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾[الحاقة : ٣١] والكلُّ صوابٌ، يقال : صِلْتُ شِيَاءً إذا شَوَيْتُهُ. وفي الحديثِ :(أتِيَ بشَاةٍ مَصْلِيَّةٍ) وَأَصْلَيْتُهُ : فِي النَّار، وصَلَّيْتُهُ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
السَّعِيْرُ : النَّارُ الْمَسْعُورَةُ أي الْمَوْقُودَةُ. قالَ ﷺ :" رَأيْتُ لَيْلَةَ أسْرِيَ بي قَوْماً لَهُمْ مَشََافِرُ الإبلِ ؛ إحْدَاهُمَا قَالِصَةٌ عَلَى مِنْخَرِهِ، وَالأُخْرَى عَلَى بَطْنِهِ، وَخَزَنَةُ النَّار يُلَقِّمُونَهُمْ جَمْرَ جَهَنَّمَ وَصخْرَهَا ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ أسَافِلِهِمْ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيْلُ مَنْ هَؤَلاَءِ ؟ قَالَ : الَّذِيْنَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾ ؛ أي إنْ كان الأولادُ نساءً أكثرَ من اثنتين ليس معهُنَّ ذكَرٌ ؛ ﴿ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾ ؛ مِن المالِ، والباقِي للعَصَبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ ؛ قَرَأَ العامَّة بالنصب على خبرِ كَانَ، وقرأ نافعُ وَحْدَهُ بالرفعِ على أنَّ معناهُ : وَإنْ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ ؛ فحينئذٍ لا خبرَ لهُ، وقراءةُ النصب أجْوَدُ، وتقديرهُ : فإن كانت المولودةُ واحدةً.
فإنْ قيل : لِمَ أعْطَيْتُمُ الْبنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وفي الآيةِ إجَابُ الثُّلُثَيْنِ لأكْثَرَ مِنَ الابْنَتَيْنِ ؟ قِيْلَ : فِي فحوَى الآيةِ دليلٌ على أن فَرْضَ الابنتين الثُّلُثَانِ ؛ لأنَّ في أوَّلِها ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾، فَيقتضِي أنَّ للابنةِ الواحدة مع الابن الثُّلُثُ، فإنْ كان لها معهُ الثُّلُثُ كانت تأخذُ الثُّلُثَ مع عدمهِ أولَى، فاحْتَجْنَا إلى بيانِ حُكْمِ ما فوقَ الأُنثيين ؛ فذلك نصٌّ على حُكْمِ ما فوقِهما، ويدلُّ عليه أنهُ اذا كانَ للابنِ الثُّلُثَانِ، وللابنةِ الثُّلُثُ دلَّ أن نصيبَ الأُنثيين الثُّلُثَانِ بحالٍ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للذكرِ مثلُ حَظِّ الأُنثيين.
وجوابٌ آخر : أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ للأُخت من الأب والأمِّ النصفَ في آخرِ هذه السورة، كما جعلَ للابنة النصفَ في هذه الآيةِ، وجعلَ للأُختينِ هناك الثُّلُثَيْنِ، فأعطينَا الاثنين الثُّلُثَيْنِ قياساً على الأُختين في تلكَ الآيةِ ؛ وأعطينَا جُمْلَةَ الأخواتِ الثُّلُثَين قياساً على البناتِ في هذه الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ﴾ ؛ أي لأَبَوَي الميِّت كنايةً عن غيرِ المذكور لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ ؛ ﴿ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ ؛ أو وَلَدُ ابنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ ﴾ ؛ أي إن لَم يكن للميِّت ولدٌ ذكَرٌ ولا أنثى، ولا وَلَدَ وَلَدٍ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقِي للأب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ﴾ ؛ أي مِمَّا تركتُم أيُّها الزواجُ من المالِ، ﴿ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ ﴾ ؛ ذكرٌ أو أنثى أو وَلَد ابن منهنَّ أو غيرهن ؛ ﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ﴾ ؛ ذلك، ﴿ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ ؛ قضاءُ دَيْنٍ عليكم، إوْ إمضاءُ وصيَّة أوصيتم بهَا من الثُّلُثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ ﴾ ؛ الآيةُ وإن كان رجلٌ، أو امْرأةٌ يورَثُ ﴿ كَلَالَةً ﴾ وهو نُصِبَ على المصدر، وقيلَ على الحالِ، وقيلَ : على خبرِ ما لَم يسمَّ فاعلهُ ؛ تقديرهُ : وإنْ كانَ رجلٌ يوَرثُ مالهُ كَلاَلَةً، قاله ابنُ عبَّاس. وقرأ الحسنُ :(يُورثُ) بكسرِ الراء ؛ جعلَ الفعل لهُ.
واختلفُوا في الكَلاَلَةِ، قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ مَنْ لاَ وَلَدَ لَهُ وَلاَ وَالِدَ). وعن ابنِ عبَّاس وعمرَ وجابر وأبي بكرٍ وقتادةَ والزهريِّ :(الْكَلاَلَةُ اسْمٌ لِمَا عَدَا الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ). وقال الشعبيُّ :(سَمِعْتُ أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ فِي الْكَلاَلَةِ : أقْضِي فِيْهَا، فَإنْ كَانَ صَوَاباً فَمِنَ اللهِ تَعَالَى، وَإنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللهُ بَرِيْءٌ مِنْهُ : هُوَ مَا دُونَ الْوَالِدِ وْالْوَلَدِ، يََقُولُ كُلُّ وَارثٍ دُونَهُمَا كَلاَلَةٌ). قالَ :(فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ بَعْدَهُ، قَالَ : إنِّي أسْتَحِي مِنَ اللهِ أنْ أخَالِفَ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، هُوَ مَا خَلاَ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ). وقال طاوُوس :(هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ) وقال الحكمُ :(هُوَ مَا دُونَ الأَب).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ﴾ ؛ إنَّمَا لم يقل ولَهُما ؛ لأن مِن عادةِ العرب أنَّ الرجُلَ والمرأةَ ربَّما أضافت إليهما، وربما أضافت إلى أحدِهما، وكلاهُما جائزٌ، ومعنى : وَلَهُ أخٌ أوْ أخْتٌ من أمٍّ، وفي قراءةَ أبَيِّ وسعدِ بن أبي وقَّاص :(وَلَهُ أخٌ أوْ أخْتٌ مِن أمٍّ)، ﴿ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ﴾ ؛ مما ترك الميتُ من المالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُثِ ﴾ ؛ أي أكْثَرَ من واحدٍ فَهُمْ كلُّهم سواءٌ في الثُّلُثِ لا يفضَّل الذكرُ على الأُنثى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ﴾ ؛ قد تقدَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ مُضَآرٍّ ﴾ ؛ نُصِبَ على الحالِ ؛ أي يوصي بها الميتُ غير مُضَارٍّ في حالِ وصيَّة بأن يزيدَ على الثُّلُثِ، ويفضَّل بعضُ الورثةِ على بعضٍ. قال ﷺ :" إنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهٌ ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارثٍ إلاَّ أنْ يُجِيْزَهَا الْوَرَثَةُ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدر ؛ ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ ؛ عَلِيْمٌ بما دبَّره من هذه الفرائضِ ؛ حَلِيْمٌ على مَن عَصَاهُ بأن أخَّرَهُ وقَبلَ التوبةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ؛ نُصِبَ على الحال أي نُدْخِلُ المقدَّرين للخلُودِ فيها. ﴿ وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ؛ أي النُّجاةُ الوافرةُ فازُوا بها في الجنَّة.
وإنَّما كان هذا قبلَ نزولِ الحدود ؛ كانتِ المرأةُ في أوَّل الإسلام إذا زَنَتْ حُبسَتْ فِي البيتِ حتَّى تَموتَ، وإنْ كان لَها زوجٌ كان مهرُها لهُ، حتى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾[النور : ٢] فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" خُذُوا عَنِّي ؛ خُذُوا عَنِّي : قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبيْلاً، الثَّيِّبُ بالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ، وَالْبكْرُ بالْبكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ " فَنُسِخَتْ تلكَ الآيةُ بعضَ هذه الآيةِ، وهو الإمْسَاكُ في البُيُوتِ، وبقي منها مُحْكَماً وهو الإشْهَادُ.
وكان في هذا النَّسْخِ نَسْخُ القُرْآنِ بالسُّنَّةِ، ثُم تغريبٌ في البكرِ بقولهِ تعالى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾[النور : ٢] لأن ظاهرَ تلكَ الآية يقتضِي أنَّ الْجَلْدَ بَيَانٌ لجميعِ الحكم المتعلِّق بالزِّنا، إذ لو لم يجعل ذلكَ كذلك لكانَ قُصُوراً في البيانِ في مواضع الحاجةِ، ونُسِخَ جلدُ الزِّنا المحصنِ الثَّيِّب بحديثِ مَاعِزٍ :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ رَجَمَهُ وَلَمْ يَجْلِدْهُ ".
وعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ :(لَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ ؛ لَكَتَبْتُ فِي حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ). وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ :(جَلْدُ الثَّيِّب الْمُحَصَنِ مَنْسُوخٌ، وَتَغْرِيْبُ الْبكْرِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ)، وعند داوُدَ ومَن تابعَهُ من أصحاب الظَّواهِرِ :(لَيْسَ بشَيْءٍ مِنْهُمَا مَنْسُوخٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ ﴾ ؛ أي فإنْ تَابَا عن الزِّنا واصلحَا العملَ بعد التوبةِ فأعرِضُوا عنهما ؛ لا تَسُبُّوهُما ولا تعيِِّرُوهما. " وعن أبي هُريرة رضي الله عنه :(أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَقَال أحَدُهُمَا : إقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَقَالَ الآخَرُ : أجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ وَأذنْ لِي أنْ أتَكَلَّمَ، قَالَ :" تَكَلَّمْ " فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذا - أيْ أجِيْراً - فَزَنَا بامْرَأتِهِ، فًَأخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ على ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ، وَإنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأتِهِ! فَقَالَ ﷺ :" أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَابِ اللهِ، أمَّا غَنَمُكَ وَجَاريَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ] وَجَلَدَ ابْنَهُ بمِائَةٍ وَغَرَّبَهُ عَاماً، وَأمَرَ أنَيْساً الأَسْلَمِيَّ أنْ يَأتِيَ امْرَأةَ الرَّجُلِ ؛ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ﴾ ؛ أي لَم يَزَلْ مُتَجَاوزاً عن النَّاسِ رَحِيْماً بهم بعد التوبة.
واختلفُوا في قولهِ :﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾. قال مجاهدُ والضحَّاك :(الْجَهَالَةُ الْعَمْدُ). وقال الكلبيُّ :(لَمْ يَجْهَلْ أنَّهُ ذنْبٌ، ولَكِنَّهُ جَهِلَ عُقُوبَتَهُ). قال سائرُ المفسِّرين :(يَعْنِي الْمَعَاصِي كُلَّهَا، فَكُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ). وقال قتادةُ :(أجْمَعَ الصَّحَابَةُ أنَّ كُلَّ مَن عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ عَمْداً كَانَ أوْ خَطَأً). وقال الزجَّاج :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ بِجَهَالَةٍ ﴾ : اخْتِيَارُهُمُ اللَّذةَ الْفَانِيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :(ثُمَّ يَتُوبُونَ مَنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ثم يَتُوبُونَ قَبْلَ إصابتهم بأسْبَاب الْمَوْتِ، سَمَّى ذلك قَرِيْباً لأنَّ كلَّ ما هوَ آتٍ قريبٌ ؛ لأنَّ المرءَ لا يأْمَنُهُ في كلِّ وقتٍ وساعة، وكلُّ ما يكون هذا صِفَتُهُ فهو موصوفٌ بالْقُرْب.
قال ﷺ :" مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَنَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَ قَالَ :" إنَّ السَّنَةَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بشَهْرٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهٍ " ثُمَّ قَالَ : إنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيْرٌ، ثُمَّ قَالَ :" مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمُعَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ :" إنَّ الْجُمُعَةَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بيَوْمٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ :" إنَّ الْيَوْمَ لَكَثِيْرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بسَاعَةٍ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَالَ :" إنَّ السَّاعَةَ لَكَثَيْرٌ، مَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أنْ يُغَرْغِرَ نَفْسُهُ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ".
وقال الكلبيُّ :(قولهُ :﴿ مِن قَرِيبٍ ﴾ الْقَرِيْبُ مَا دَامَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ الْمَرَضِ وَالْمَوْتِ). وقال أبو موسَى الأشعريُّ :(هُوَ أنْ يَتُوبَ قَبْلَ مَوْتِهِ بفُوَاقِ نَاقَةٍ).
وذهب الربيعُ إلى أنَّ المرادَ بالذين يعملون السيئات : المنافِقُون، ثم عَطَفَ الكافرين الْمُجَاهِريْنَ بالكفرِ على المنافقين. وحاصلُ هذه الآيةِ أنَّ مَن وقعَ في النَّزعِ وقالَ : إنِّي تُبْتُ الآنَ، فحينئذ لا يُقبَلُ مِن كافرٍ إيْمَانُهُ، ولا مِن عَاصٍ توبتُه، وقولهُ : وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مَوْضِعُ خَفْضٍ.
فَكَانُواْ يَفْعَلُونَ ذلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ أبو قَيْسِ بْنِِ الأَسْلَتِ، وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ كَبْشَةَ بنْتِ مَعَنِ الأَنْصَاريَّةَ، فَقَامَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهَا يُقَالُ لهَ حُصَيْنُ بْنُ أبي قَيْسٍ ؛ فَطَرَحَ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا فَوَلِيَ نِكَاحَهَا ثُمَّ تَرَكَهَا وَلَمْ يَقْرَبْهَا وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا فَضَارَّهَا بذلِكَ لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بمَالِهَا، فَأَتَتْ كَبْشَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ أبَا قَيْسٍ تُوُفِّيَ وَوَرثَ ابْنُهُ نِكَاحِي ؛ وَقَدْ أضَرَّنِي وَطَوَّلَ عَلَيَّ، فَلاَ هُوَ يُنْفِقُ عَلَيَّ، وَلاَ هُوَ يُخْلِيَ سَبيْلِي، فَقَالَ ﷺ :" أقْعُدِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَأْتِينِي فِيْكِ أمْرُ اللهِ " فَانْصَرَفَتْ، وَسَمِعَ بذلِكَ نِسَاءُ الْمَدِيْنَةِ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ عليه السلام فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئَةِ كَبْشَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
ومعناهَا : يا أيُّها الذينَ أقَرُّوا وصَدَّقُوا لا يَحِلُّ لكم أنْ تَرِثُوا النساءَ جَبْراً ؛ ﴿ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ ؛ أي لاَ تَمْنَعُوهُنَّ تَخْلِيَةَ سبيلهنَّ حتى يَفْتَدِيْنَ ببعضِ ما لَهُنَّ ؛ ﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ ؛ فَحِيْنَئِذٍ يحلُّ لكم ضِرَارُهُنَّ ليفتدينَ منكُم، وهو أنَّها إذا زَنَتِ المرأةُ جازَ لزوجِها أن يسألَها الْخُلْعَ.
قال عطاءُ :(كَانَ الرَّجُلُ إذا زَنَتِ امْرَأتُهُ أخَذ مِنْهَا مَا يُسَاقُ إلَيْهَا وَأخْرَجَهَا، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بالْحُدُودِ). قال قتادةُ والضحَّاك :(الْفَاحِشَةُ النُّشُوزُ ؛ يَعْنِي إذا نَشَزَتِ الْمَرْأةُ حَلَّ لِزَوْجِهَا أنْ يَأْخُذ مِنْهَا الْفِدْيَةَ). وقَوْلُهُ تَعَالَى :(مبَينَةٍ) ؛ بخفضِ الياء أي مُبَيِّنَةِ فُحشِها.
قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف والأعمشُ :(كُرْهاً) بضمِّ الكاف هُنا وفي التوبةِ، وقرأ الباقون بالفتحِ وهُما لغتان. وعن الضحَّاك :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الرَّجُلِ يَكُونُ فِي حِجْرِهِ يَتِيْمَةٌ ؛ فَيَكْرَهُ أنْ يُزَوِّجَهَا لِمَالِهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا لأَجْلِ مَالِهَا، أوْ يَكُونَ تَحْتَهُ عَجُوزٌ، وَنَفْسُهُ تَتُوقُ إلَى شَابَّةٍ فَيَكْرَهُ فِرَاقَ الْعَجُوز وَيَتَوَقَّعُ مَوْتَهَا لِيَرِثَهَا وَهُوَ يَعْزِلُ فِرَاشَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ أمَرَ للأزواجَ بعشرةِ نسائِهم بالْجَمِيْلِ، وهو أن يُوَفِّيَهَا حقَّها من المهرِ والنَّفقةِ والمبيت وتركِ أذاها بالكلام الغليظِ، والإعراضِ عنها والعُبُوسِ في وجهِها بغيرِِ ذنبٍ منها.
قولُهٌ تَعَالَى :﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ؛ فيه بيانُ أنَّ الخيرَّة ربَّما كانت للعبدِ في الصَّبر على ما يكرههُ ؛ يقولُ : لعلكم أيُّها الأزواجُ أنْ تكرهُوا صُحْبَتَهُنَّ ويجعلُ الله في ذلك خيراً كثيراً بأن يَرْزُقَكُمْ منهنَّ الأولادَ، فتظهرُ بعد ذلك الأُلْفَةُ والموافقةُ، وتنقلبُ الكراهة صُحْبَةً ؛ والنفورُ ميلاً.
وقال جماعةٌ من أهلِ التَّفسيرِ :(إذا كَانَ مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، جَامَعَهَا أوْ لَمْ يُجامِعْهُا فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ. وعنْ زُرَارَةُ بن أوفَى أنه قال :(قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمهْدِيُّونَ : أنَّهُ مَنْ أغْلَقَ عَلَى امْرَأةٍ بَاباً، أوْ أرْخَى سِتْراً، وكَشَفَ خِمَاراً فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ). وذكرَ الفرَّاءُ :(الإفْضَاءُ هُوَ الْخُلْوَةُ وَإنْ لَمْ يَقَعُ دُخُولٌ) كَأَنَّهُ ذهبَ إلى أن الإفضاءَ مأخوذٌ من الفضَاءِ، وهو المكانُ المتَّسعُ الذي ليسَ فيه بناءٌ ولا حاجزٌ عن إدراكِ ما فيه، فسمِّيت الخلوةُ فضاءً لحصولِ الزوج إلى جميعِ ما يقصدُه من الوطئِ، والدُّخولِ في موضعٍ لا مانعَ فيه من ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ أي عَهْداً وَثِيْقاً وهو ذكرُ المهرِ في النِّكاح، وقيل : هو ما أشْرَطَ اللهُ تعالى للنِّساءِ على الرجلِ من إمساكٍ بمعروفٍ أو تسريحٍ بإحسان. وقال الشعبيُّ وعكرمة والربيعُ :(هُوَ قَوْلُ النَّبيِّ ﷺ :" أخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللهِ ؛ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ "
فَصْلٌ : فيما وردَ من الأخبار في الرُّخصة في الْمُغَالاَةِ بالمهور، قال عطاءُ :" خَطَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ابْنَتَهُ أمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ مِنْ فَاطِمَةَ بنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنَّهَا صَغِيْرَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" إنَّ كُلَّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ نَسَبي وَصِهْرِي " فَلِذلِكَ رَغِبْتُ فِي هَذا، فَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ : فَإنِّي مُرْسِلُهَا إلَيْكَ حَتَّى تَنْظُرَ إلَى صِغَرِهَا، فَأَرْسَلَهَا إلَيْهِ، فَجَاءَتْهُ فَقَالَتْ : إنَّ أبي يَقُولُ لَكَ هَلْ رَضِيْتَ هَذِهِ الْحُلَّةَ ؟ فَقَالَ : قَدْ رَضِيْتُهَا، فَأْنْكَحَهُ عَلِيٌّ ؛ فأَصْدَقَهَا عُمَرُ أرْبَعِينَ ألْفَ دِرْهَمٍ " وعنْ نافعِ عن ابن عمرَ رضي الله عنه :(أنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ الْمَرْأةَ مِنْ بَنَاتِهِ عَلَى عَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ). وتزوَّج ابنُ عبَّاس امرأةً على عشرةِ آلاف دِرْهمٍ.
فَصْلٌ : في أقلِّ المهرِ. رويَ عن عمرَ رضي الله عنه : أنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ ؛ فَحَمَدَ اللهَ تَعَالَى وأثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ :(ألا لاَ تُغَالُواْ فِي صِدَاقِ النِّسَاءِ ؛ فَإنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرَمَةً فِي الدُّنْيَا، أوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أوْلاَكُمْ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم). مِنْ يُمْنِ الْمَرْأةَ أنْ يَسَّرَ صِدَاقَهَا وَأَنْ يَسَّرَ رَحِمَهَا. وعن أبي هُريرة قال :(كَانَ صِدَاقُنَا مْنْذُ كَانَ فِيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَشْرُ أوَاقٍ أرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ :[أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَزَوَّجَ أمَّ سَلَمَةَ عَلَى عَشْرَةِ دَرَاهِمَ).
واسمُ النِّكَاحِ يقعُ على العقدِ والوطئ جميعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ معناه إلا ما قد سلف في الجاهليَّة من نكاحِ منكوحةِ الأب كان ذلك مَعْفُوّاً لكُم لا تؤاخَذُون به. وقال قُطْرُبُ :(هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ؛ تَقْدِيْرُهُ : لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ فَدَعُوهُ فَاجْتَنِبُوا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً ﴾ ؛ يعني أنَّ نكاحَ امرأةِ الأب كان فاحشةً فيما سلفَ ؛ لأنَّهم كانوا يسمُّونه في الجاهليِّةِ (نِكَاحَ الْمَقْتِ) وكان المولودُ يقال له الْمَقْتِيُّ، فأعلَمَهُم اللهُ تعالى أنَّ هذا الذي حَرَّمَ عليهم لم يزل مُنْكَراً في قلوبهم مَمْقُوتاً عندَهم، وَالْمَقْتُ : هُوَ الْبُغْضُ عَلَى أمْرٍ قَبيْحٍ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ، وقيل الْمَقْتُ : هُوَ أشَدُّ الْبُغْضِ، والفاحشةُ اسمٌ لِما يرتفعُ ذكر قَبيحَتِهِ فيما بين الناس. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي نكاحُ امرأةِ الأب طريقُ سوءٍ ؛ لأنه يؤدِّي إلى جهنَّمَ، و ﴿ سَبِيلاً ﴾ ؛ نُصِبَ على التمييزِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ ؛ قال ﷺ :" يَحْرُمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَب " وَقَالَ ﷺ :" تُحَرِّمُ الْجُرْعَةُ وَالْجُرْعَتَانِ مَا يُحَرِّمُ الْحَوْلاَنِ الْكَامِلاَنِ "
" وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : أنَّ أفْلَحَ أخَا أبي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَاب وَكَانَ عَمُّهَا مِنَ الرِّضَاعَةِ ؛ قَالَتْ : فَأَبَيْتُ أنْ آذنَ لَهُ حَتَّى أخْبَرْتُ النَّبيَّ ﷺ فقالَ :" لِيَلِجَ عَلَيْكِ ؛ فَإنَّهُ عَمُّكِ " فَقَالَتْ : إنَّمَا أرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ، ولَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ! فَقَالَ ﷺ :" لِيَلِجَ عَلَيْكِ فَإنَّهُ عَمُّكِ "، وَكَانَ أبُو القُعَيْسِ زَوْجَ الْمَرأةِ الَّتِي أرْضَعَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس وعطاءُ وسعيد بن جبير :[إنَّ أمَّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ ابْنَتِهَا بنَفْسِ الْعَقْدِ]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبَائِبُكُمُ الَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ ؛ لا خِلاَفَ بينَ أهلِ العلم أنَّ كونَها في حُجُورهِ لا يكونُ شرطاً في تحريْمِها وإنَّما ذكرَهُ اللهُ تعالى على عادةِ الناسِ أنَّ الرَّبيْبَةَ تكونُ في حِجْرِ زَوْجِ الأُمِّ، فخرجَ الكلامُ على وفْقِ العادة دونَ الشرطِ، وهذا كقولهِ :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾[البقرة : ١٨٧] ومعلومٌ أن المعتكفَ لا يحلُّ له الجماعُ وإن كان قد خرجَ من المسجد لحاجةٍ، إلاَّ أنَّ الغالبَ مِن حالِ العاكفِ أن يكون في المسجدِ، فَقَرَنَهُ بذكرِ المسجدِ.
وأما قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّن نِّسَآئِكُمُ الَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ فمِنَ الناسِ مَن رَدَّ هذا الشرطَ على قوله ﴿ مِّن نِّسَآئِكُمُ ﴾ وعلى قوله ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ فَشَرَطَ الدخولَ بالنِّساءِ في المسألتين في بيوت التحريمِ المذكور في الآيةِ ؛ على معنى أنَّ اللهَ عَطَفَ حُكماً على حكمٍ وعقَّبهما بشرطِ الدُّخول بقوله :﴿ الَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ﴾ وهو قولُ بشْرِ بن غيَّاث ؛ إلاّ أنَّ هذا لا يَصِحُّ ؛ لأنَّ قولَه ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ ﴾ جملةٌ مستقلةٌ بنفسِها.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَبَائِبُكُمُ ﴾ بما فيه من شرطِ الدُّخول جملةٌ أخرى مستقلة بنفسِها فلم يَجُزْ بناءُ إحدى الجملتين على الأُخرى، ولو جعلنَا شرطَ الدخولِ راجعاً إلى الأوَّل، لَخَصَّصْنَا عمومَ اللفظِ الأول بالشَّكِّ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الصحابَة وهو أبَيُّ بن كعبٍ، وأنسُ وجابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ :(أنَّ الأَمَةَ إذا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِ مَوْلاَهَا إلَى مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ ؛ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا بأَيِّ سَبَبٍ خَرَجَتْ) حتى رُويَ عن ابنِ عبَّاس أنهُ قالَ :(طَلاَقُ الأَمَةِ يُثْبتُ طَلاَقَهَا وَبَيْعَهَا وَهِبَتَهَا وَمِيرَاثَهَا وَسَبْيَهَا وَصَدَقَتَهَا).
وأنكرَ ذلك عَلِيٌّ وعمرُ وعبدُالرحمنِ بن عوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ؛ وقالوا :(إنَّمَا نَزَلَتِ الآيَةُ فِي السَّبَايَا خَاصَّةً بِدَلِيْلِ مَا رُويَ أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيْرَةَ وَأعْتَقَتْهَا ؛ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْداً أسْوَدَ يُسَمَّى مَغِيْثاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ نُصِبَ على المصدر ؛ أي كَتَبَ اللهُ عليكم كتابَ اللهِ، وقيل نُصِبَ على الإغراءِ ؛ أي إلْزَمُوا كتابَ اللهِ، واتَّبعُوا كتابَ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَالِكُمْ ﴾ ؛ قرأ أهلُ الكوفة (وَأحِّلَ) على ما لَم يسمَّ فاعلهُ، نَسَقاً على قوله (حُرِّمَتْ)، وقرأ الباقون بالفتحِ على أنهُ قد ذكرَ اللهُ بقوله :(كِتَابَ اللهِ)، والمعنى : أحَلَّ لكُم نكاحَ ما سِوَى ما ذكرتُ لكم من المُحَرَّمَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ ؛ بدل من (مَا)، فمن رفعَ أحَلَّ فموضعها رفعٌ، ومن نصبَ فموضعُها نصبٌ. وقال الكسائيُّ :(مَوْضِعُهُ نَصْبٌ فِي الْقِرَائَتَيْنِ بنَزْعِ الْخَافِضِ، يَعْنِي لَئِنْ تَبْتَغُوا بأَمْوَالِكُمْ ؛ أيْ تَطْلُبُوا بأمْوَالِكُمْ إمَّا بنِكَاحٍ أوْ بِملْكِ يَميْنٍ مُحْصِنِيْنَ ؛ أيْ نَاكِحِيْنَ أعِفَّاءَ غَيْرَ زُنَاةٍ، وَأصْلُهُ مِن : سَفَحَ الْمَذِيُّ وَالْمَنِيّ). في هذا دليلٌ أن بَدَلَ الْبُضْعِ لا يجوزُ أن يكون صِداقاً، وكذلكَ خدمةُ الزَّوجِ لا يكونُ صِداقاً عند أبي حنيفةَ وأبي يوسف.
وأصْلُ الإحْصَانِ في اللغة : مَا يَمْنَعُ، ومنه يسمَّى الْحِصْنُ حِصْناً ؛ لأنه يَمْنَعُ مِن العدوِّ، ومنه الدِّرْعُ الْحَصِيْنَةُ ؛ أي الْمَنِيْعَةُ، وَالْحِصَانُ بكسر الحاء : الْفَحْلُ من الخيلِ يَمْنَعُهُ رَاكِبُهُ مِنَ الْهَلاَكِ، والْحَصَانُ بفتح الحاء : الْعَفِيْفَةُ مِنَ النِّسَاءِ لِمَنْعِهَا فَرْجَهَا ؛ مَنه قال حِسَانُ في عائشةَ : حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ برِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِوالإحْصَانُ في القُرْآنِ يقعُ على معانٍ مختلفة منها : نِكَاحٌ كما في أوَّل هذه الآية ؛ ومنها : الْجِزْيَةُ كما في قولهِ تعالى :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ ﴾ ؛ أي بحقيقةِ الإيْمان وأنتُم تعرفون الظَّاهِرَ، وليسَ عليكُم أنْ تبحَثُوا عن الباطنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾ ؛ أي في الدِّين، وقيلَ : مِنَ النَّسب ؛ أي كلُّكم ولْدُ آدمَ عليه السلام، وإنَّما قالَ ذلك ؛ لأن العربَ كانت تطعنُ في الأنسابِ، وتفخرُ بالأحسَابِ وتعيِّرُ بالْهُجْنَةِ، وتسمِّي ابنَ الأَمَة (الْهَجِيْنُ)، فأعلَمَ اللهُ أنَّ الأمَةَ في جواز نكاحِها كالحرَّة لذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ ؛ أي انْكِحوا الإماء بإذنِ مَوَالِيْهِنَّ واعطوهُنَّ مهورَهن ؛ يعني بإذنِ أهلهِنَّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ أي مهرٌ غيرُ مهرِ البغيِّ وهو أن يكون عشرةَ دراهِمَ فما فوقَها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾ ؛ أي عَفَائفَ غيرَ زَوَانٍ مُعْلِنَاتٍ بالزِّنا، ﴿ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ ؛ أي أخِلاَّءَ في السِّرِّ ؛ وذلك لأنَّ أهلَ الجاهليَّة كان فيهم زَوانٍ بالعلانيَةِ لَهنَّ راياتٌ مضروبةٌ، وبعضُهن اتخذتْ أخْدَاناً في السِّرِّ حتَّى قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ فِيْهِمْ مَنْ يُحَرِّمُ مَا ظَهَرَ مِنَ الزِّنَا، وَيَسْتَحِلُّ مَا خَفِيَ فِيْهِ، فَنَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ نِكَاحِ الْفَرِيْقَيْنِ جَمِيْعاً.)
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ ؛ معناه : أن الإماءَ إذا أسلمْنَ وتزوَّجن، ومن قرأ (أُحْصِنَّ) بضمِّ الهمزة فمعناهُ : اذا زُوِّجْنَ وأُحْصِنَّ بالأزواجِ، ﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ﴾ يعني الزِّنا فَعَلَيْهِنَّ نصفُ قَدْر الحرائرِ : خمْسُونَ جَلْدَةً. والمرادُ بهذه الآيةِ : نصفُ الجلدِ ؛ لأن الرجمَ لا نصفَ له.
وذهبَ عامَّةُ الفقهاءِ إلى أنَّ الإسلامَ والتَّزَوُّجَ لا يكونَا شرطاً في وجوب الجلدِ على الأمَةِ ؛ فإنَّها وإن لم تكن مُحْصَنَةً بالإِسلامِ والتزويجِ أقِيْمَ عليها نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ إنْ زَنَتْ ؛ فَقَالَ ﷺ :" إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ؛ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبعْهَا " واستدلُّوا بما رُوي عن أبي هُريرة رضي الله عنه عنِ النبيِّ ﷺ :" أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إذا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ (فَبيْعُوهَا) "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾ ؛ أي تزويجَ الإماءِ والرِّضا بنكاحهنَّ عند عدمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ لمن خَشِيَ الزِّنا منكُم، وقيل : لِمَنْ خَشِيَ الضررَ في الدَّين والدنيا، (مِنكُم) ؛ عن نكاحِ الإمَاءِ، ﴿ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، وإنَّما قالَ ذلكَ ؛ لأن ولدَ الأمةِ رقِيْقاً لِمَوْلَى الأمَةِ، ولهُ استخدامُ الأمَةِ في الحاجاتِ وبين أيدِي الرِّجال الأجانب.
ومعنى الآية : يريدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لكم شرائعَ دينِكم ومصالِحَ أمرِكم. وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا تَأَتُونَ وَمَا تَذرُونَ). وقال عطاءُ :(يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُقَرِّبُكُمْ إلَيْهِ). وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : يُبَيِّنُ لَكُمْ أنَّ الصَّبْرَ عَلى نِكَاحِ الإمَاءِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴿ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أيْ شَرَائِعَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ فِي تَحْرِيْمِ الْبَنَاتِ وَالأُمَّهَاتِ وَالأَخَوَاتِ).
وقال طاوُوس والكلبيُّ :(مَعْنَاهُ لاَ يَصبْرُ عَلَى النِّسَاءِ، لَيْسَ يَكُونُ الإنْسَانُ فِي شَيْءٍ أضْعَفَ مِنْهُ فِي أمْرِ النِّسَاءِ). وقال سعيدُ بن المسيَّب :(مَا آيَسَ الشَّيْطَانُ مِنْ ابْنِ آدَمَ إلاَّ أتَاهُ مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ، وَقَدْ أتَى عَلَيَّ ثَمَانُونَ سَنَةً وَذَهَبَتْ إحْدَى عَيْنَيَّ، وَأنَا أخْوَفُ مَا أخَافُ عَلَى فِتْنَةِ النِّسَاءِ). وقال عبادةُ بن الصَّامت :(ألاَ تَرَوْنِي مَا آكُلُ إلاَّ مَا لُوِّقَ لِي - أي لُيِّنَ وَسُخِّنَ - وَلاَ أقُومُ إلاَّ مَا قَدْ مَاتَ صَاحِبي - يَعْنَي ذكَرَهُ - وَمَا يَسُرُّنِي أنِّي خَلَوْتَ بامْرَأةٍ لاَ تَحِلُّ لِي مَخَافَةَ أنْ يَأْتِيَنِي الشَّيْطَانُ فَيُحَرِّكُهَ عَلَيَّ ؛ أنَّهُ لاَ سَمْعَ لَهُ وَلاَ بَصَرَ).
وقال الحسنُ :(مَعْنَى ﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾ أيْ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِيْنٍ). وقال ابنُ كَيْسَانَ :(مَعْنَاهُ : تَسْتَمِيْلُهُ شَهْوَتُهُ وَيَسْتَلِيْنُهُ خَوْفُهُ وَحُزْنُهُ). قال ابنُ عبَّاس :(ثَمَانِي آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ؛ هُنَّ خَيْرٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾[النساء : ٢٦] ؛ ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾[النساء : ٢٧]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾ ؛ ﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ﴾[النساء : ٣١] ؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾[النساء : ٤٠] ؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾[النساء : ٤٨] ؛ ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾[النساء : ١١٠] ؛ ﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ﴾[النساء : ١٤٧] ؛ ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾[النساء : ١٥٢].
قرأ أهلُ الكوفةِ (تِجَارَةً) بالنصب على معنى : إلاّ أن تكونَ الأموالُ تجارةً، وقرأ الباقون بالرفعِ على معنى : إلاّ أن تقعَ تجارةٌ. رويَ : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ امْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ أكْلِ الأَمْوَالِ بالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾الآيةُ. [النور : ٦١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي لا يَقْتُلْ بعضُكم بعضاً فإنَّكم أهلُ دِيْنٍ واحدٍ، وأنتم كنَفْسٍ واحدةٍ. قال ﷺ :" الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ؛ إذا ألِمَ عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِرُ الأَعْضَاءِ لِلْحُمَّى وَالسَّهَرِ " وَقِيْلَ : معناهُ : لا يَقْتُلَنَّ الرجلُ نفسَه عند الضَّجَرِ والغضب. قال ﷺ :" إنَّ رَجُلاً مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أخَذَتْهُ قَرْحَةٌ فِي يَدِهِ فَقَطَعَهَا فَأَرَاقَ دَمَهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : بَادَرَنِي ابْنُ آدَمَ بنَفْسِهِ فَقَتَلَهَا بيَدِهِ، فَقَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " وعن جَابرِ بن سَمُرَةَ :[أنَّ رَجُلاً ذَبَحَ نَفْسَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم].
وقال بعضُهم : معنى الآية : لا تَقْتُلُوا أنفسَكم لطلب المال بما يؤدِّي إلى التلفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ ؛ لا يَرْضَى منكُم قَتْلَ بعضِكم بعضاً، ولا أكلَ المالِ بالباطل، فيرجعُ ضَرَرُهُ عليكُم في الدُّنيا والدِّين.
واختلفُوا في الكبائرِ التي جعلَ الله تعالى اجْتِنَابَهَا تكفيراً للصغائرِ، فقال ابنُ عبَّاس :(هِيَ كُلُّ شَيْءٍ سَمَّى اللهُ فِيْهِ النَّارَ لِمَنْ عَمِلَ بهَا أوْ شَيْءٍ نَزَلَ فِيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا). ويروى : أنَّ رَجُلاً أتَى ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه فقالَ : إنِّي أصَبْتُ ذنْباً فأُحِبُّ أنْ تَعُدَّ عَلَيَّ الْكَبَائِرَ ؛ فَعَدَّ عَلَيْهِ سَبْعاًَ ؛ فَقَالَ :(الإشْرَاكُ باللهِ ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ ؛ وَأَكْلُ الرِّبَا ؛ وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيْمِ ؛ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ؛ وَالْيَمِيْنُ الْفَاجِرَةُ). وعن ابنِ مسعُودٍ قالَ :(الْكَبَائِرُ أرْبَعٌ : الْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ؛ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ؛ وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهَ ؛ وَالشِّرْكُ).
قال مقاتلُ :(الْكَبَائِرُ : مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ أوَّلِ هَذِهِ السُّوَر). ويقال : لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار.
وعن ابنِ مسعُود قال : قُلْتُ :" يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أيُّ الذنْب أعْظَمُ ؟ قَالَ :" أنْ تَجْعَلَ للهِ أنْدَاداً وَهُوَ خَلَقَكَ " قُلْتُ : ثُمَّ مَاذا ؟ قَالَ :" أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خِشْيَةَ أنْ يَأَكُلَ مَعَكَ " قُلْتُ : ثُمَّ مَاذا ؟ قَالَ :" أنْ تَزْنِي بحَلِيْلَةِ جَاركَ " وتصديقُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ﴾[الفرقان : ٦٨-٦٩].
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" أكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإشْرَاكُ باللهِ ؛ وَالْيَمِيْنُ الْغَمُوسُ ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ " وعن أنسٍ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" أرْبَعٌ مِنَ الْكَبَائِرِ : الشِّرْكُ باللهِ ؛ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَشَهَادَةُ الزُّور "
وسُئِلَ ابنُ عبَّاس رضي الله عنه عنِ الكبائرِ : أسَبْعٌ هِيَ ؟ قَالَ :(هُنَّ إلَى سَبْعِينَ لأَقْرَبُ مِنْهُنَّ إلَى السَّبعِ) ثم قالَ :(الْكَبَائِرُ : الشِّرْكُ ؛ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ ؛ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ؛ وَالأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ؛ وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ؛ وَالسِّحْرُ ؛ وَالرِّبَا ؛ وَالزِّنَا ؛ وَالسَّرِقَةُ ؛ وَأكْلُ مَالِ الْيَتِيْمِ ؛ وَتَرْكُ الصَّلَوَاتِ ؛ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ ؛ وَشَهَادَةُ الزُّور ؛ وَقَتْلُ الْوَلَدِ خِشْيَةَ أنْ يَأَكُلَ مَعَهُ ؛ وَالْحَسَدُ ؛ وَالْكِبْرُ ؛ وَالْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ ؛ وَتَحْقِيْرُ الْمُسْلِمِيْنَ). وقال سعيدُ بن جبيرٍ :(كُلُّ ذنْبٍ أوْعَدَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ النَّارَ فَهُوَ كَبيْرَةٌ). قال الضحَّاك :(مَا وَعَدَ اللهُ عَلَيْهِ حَدّاً فِي الدُّنْيَا وَعذاباً فِي الآخِرَةِ فَهُوَ كَبيْرَةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ ﴾ ؛ أي حظٌّ من الأجرِ ما اكتسبُوا من العملِ الصالح ﴿ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ﴾ ؛ حظٌّ من الأجرِ مما عَمِلْنَ من العمل الصالحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ أي من رزْقِهِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ ﴾ ؛ لم يزل، ﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾، من أعمالِ الرجال والنِّساء، ﴿ عَلِيماً ﴾ ؛ عالماً.
وعن جابرِ بن عبدِالله قال : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ؛ " إذْ أقْبَلَتِ امْرَأةٌ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ أنَا وَافِدَةُ النِّسَاءِ إلَيْكَ، إنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ رَبُّ النِّسَاءِ وَرَبُّ الرِّجَالِ، وَآدَمُ أبُو النِّسَاءِ وَأبُو الرِّجَالِ، وَحَوَّاءُ أمُّ النِّسَاءِ وأمُّ الرِّجَالِ، وَأَنْتَ بَعَثَكَ اللهُ رَسُولاً إلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، ثُمَّ الرِّجَالُ إذا خَرَجُواْ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَقُتِلُواْ فَهُمْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ فَرِحِيْنَ، وَنَحْنُ نَحْتَبسُ عَلَيْهِمْ وَنَخْدِمُهُمْ، فَهَلْ لَنَا مِنَ الأَجْرِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أقْرِئِي النِّسَاءَ مِنِّي السَّلاَمَ ؛ وَقُولِي لَهُنَّ : إنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاعْتِرَافاً لِحَقِّهِ يَعْدِلُ مَا هُنَالِكَ، وَقَلِيْلٌ مِنْكُنَّ يَفْعَلُهُ ".
وقال قتادةُ والسُّدِّيُّ :(لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ﴾[النساء : ١١] فَقَالَتِ الرِّجَالُ : إنَّا لَنَرْجُوا أنْ يُفَضِّلَنَا اللهُ عَلَى النِّسَاءِ بَحَسَنَاتِنَا فِي الآخِرَةِ كَمَا فَضَّلَنَا عَلَيْهِنَّ بالْمِيرَاثِ ؛ فَيَكُونُ أجْرُنَا مِثْلَي أجْرِ النِّسَاءِ، وَقَالَ النِّسَاءُ : إنَّا لَنَرْجُوا أنْ يَكُونَ الْوِزْرُ عَلَيْنَا نِصْفَ مَا عَلَى الرِّجَالِ كَمَا لَنَا فِي الْمِيرَاثِ النِّصْفُ مِنْ نَصِيْبهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ ﴾ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْعِقَاب، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيْبٌ كَذَلِكَ مِنْهُ). قال قتادةُ :(يُجْزَى الرَّجُلُ بالْحَسَنَةِ عَشْرَ أمْثَالِهَا، وَالْمَرْأةُ تُجْزَى عَشْرَ أمْثَالِهَا أيْضاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ﴾ وقرأ ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وخلف :(وَسَلًُواْ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) (وَسَلْ مَنْ أرْسَلْنَا) و (فَسَلِ الَّذِينَ) يقرأون بغيرِ الهمزة، وقرأ الباقونَ بالهمزة. قال ﷺ :" مَنْ لَمْ يَسأَلِ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ غَضِبَ عَلَيْهِ " وقال سفيانُ بن عُيَيْنَةَ :(لَمْ يَأَمُرْ بالْمَسْأَلَةِ إلاَّ لِيُعْطِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ ؛ في محِلِّ الرفع بالابتداء، والمُعَاقَدَةُ هي الْمُعَاهَدَةُ بين اثنين. وقرأ أهلُ الكوفة (عَقَدَتْ) بغير ألف أراد عقدت لهم أيْمانُهم. قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذا أعْجَبَهُ ظُرْفُ الرَّجُلِ عَاقَدَهُ وَحَالَفَهُ ؛ وَقَالَ : أنْتَ ابْنِي تَرِثُنِي ؛ خِدْمَتِي خِدْمَتُكَ ؛ وَذِمَّتِي ذِمَّتُكَ ؛ وَثَأْري ثأْرُكَ، فَيَكُونُ بهِ ببَعْضِ وَرَثَتِهِ مِثْلُ نَصِيْب أحَدِهِمْ، إلاَّ أنْ يَنْقُصَ نَصِيْبُهُ عَنِ السُّدُسِ لِكَثْرَةِ الْوَرَثَةِ ؛ فَيُعْطَى السُّدُسَ خَاصَّةً لاَ يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ نُسِخَتْ بقَوْلِهِ تَعَالَى﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾[الأنفال : ٧٥]).
قال قتادةُ :(أرَادَ بقَوْلِهِ :﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ : الْحُلَفَاءُ ؛ كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ : دِيْنِي دِيْنُكَ ؛ وَثَأْري ثأْرُكَ ؛ وَحِزْبي حِزْبُكَ ؛ وَسِلْمِي سِلْمُكَ ؛ تَرِثُنِي وَأرثُكَ ؛ تَعْقِلُ عَنِّي وَأعْقِلُ عَنْكَ ؛ وَتَطْلُبُ بي وَأَطْلُبُ بكَ، فَيَكُونُ لِلْحَلِيْفِ السُّدُسُ ثُمَّ نُسِخَ ذلِكَ بِقَوْلِهِ :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾[الأنفال : ٧٥]). وقال مجاهدُ :(أرَادَ بقَوْلِهِ :﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ النَّصْرَ وَالْعَقْلَ وَالرَّفَادَةَ دُونَ الْمِيْرَاثِ).
فَعَلَى هَذا تَكُونُ الآية غيرَ منسوخةٍ لقولهِ تعالى :﴿ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾[المائدة : ١] ولقولهِ ﷺ :" أوْفُوا لِلْحُلَفَاءِ بعُهُودِهِمْ الَّتِي عَقَدَتْ أيْمَانُكُمْ " وليس معنى قولِ ابن عبَّاس أنَّ هذه الآية منسوخةٌ، نُسِخَ حُكمها من الأصلِِ، ولكن معناهُ : تقديمُ ذوي الأرحامِ على أهلِ العقد، وهو كحدوثِ ابنٍ لِمَنْ لهُ أخٌ لا يخرجُ الأخَ من أن يكون أهْلاً للميراثِ إلاَّ أن يكون الابنُ أولى منه، كذلك أولي الأرحامِ أوْلى من الحليفِ، فإذا لم يكن للميتِ رَحِمٌ ولا عُصْبَةٌ فالميراثُ للحليفِ، ولِهذا قال أصحابُنا : فمن أسلمَ على يدَي رجلٍ ووالاهُ - عَاقَدَهُ - ثم ماتَ ولا وارثَ له غيرهُ أن ميراثَه لهُ، ولِهذا قالوا : إنَّ من أوصَى بجميعِ ماله ولا وارثَ له صحَّتِ الوصيةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً ﴾ ؛ أي لم يَزَلْ شاهداً على كلِّ شيء من إعطاءِ النصيب ومنعِه.
ومعناها : الرجالُ مُسَلَّطُونَ على أدب النِّساء بالحقِّ، والقوَّامُونَ الْمُبَالِغُونَ بالقيامِ عليهنَّ بتعليمهنَّ وتأديبهنّ وإصلاحِ أمورهن، وقولهُ تعالى :﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾[النساء : ٣٤] أي جَعَلَ اللهُ ذلك للرجالِ بفضلِهم على النساء في العقلِ والرَّأي، وَقِيْلَ : بزيادةِ الدِّين واليقينِ، وَقِيْلَ : بقوة العبادةِ والجهادِ، وَقِيْلَ : بالجمُعة والجماعةِ وبإنفاقِهم أموالِهم في الْمُهُور وأقْوَاتِ النساءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي فَالْمُحْصَنَاتُ المطيعاتُ لله في أمرِ أزواجِهن، وَقِِيْلَ : قائماتٌ بحقوقِ أزواجهن. وأصل الْقُنُوتِ : مُدَاوَمَةُ الطَّاعَةِ، وقولهُ تعالى :﴿ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ﴾ أي يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وأموالَ أزواجهنَّ في حال غَيْبَةِ أزواجهنَّ. ويدخلُ في حفظِ المرأة لغيب الزوج أن تَكْتُمَ عليه ما لا يحسَنُ إظهارهُ مما يقفُ عليه أحدُ الزوجين على الآخرِ. وقولهُ تعالى :﴿ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ أي يحفظُ الله إياهُنَّ من معاصيهِ وبتوفِيقه لَهُنَّ، ويقال : بما حفظهنَّ اللهَ تعالى في مهورهن وإلزام الزوج النفقةَ عليهن. قال ﷺ :" خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ إذا نَظَرْتَ إلَيْهَا سَرَّتْكَ ؛ وَإذا أمَرْتَهَا أطَاعَتْكَ ؛ وَإذا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ فِي مَالِكَ وَنَفْسِهَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ ؛ أي النساءِ التي تعلمونَ عصيانَهنَّ لأزواجَهن فَعِظُوهُنَّ، والنُّشُوزُ : الرَّفْعُ عَنِ الصَّاحِب، مأخوذٌ من النَّشْزِ وهو المكانُ المرتفعُ، المرادُ من الْوَعْظِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْب في الآيةِ أن يكونَ ذلك على الترتيب المذكور فيها ؛ لأن هذا من باب الأمْرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكرِ، إذا أمكنَ الاستدراكُ بالأسهلِ والأخفِّ لا يُصَارُ إلى الأثقلِ، فالأَوْلى أن يبدأ الزوجُ فيقول لامرأتهِ الناشِزَةُ : إتَّقِِ اللهَ وارجعي إلى فراشِي، فأطاعَتْهُ وإلاّ سَبَّهَا، هكذا قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه.
وَالْهَجْرُ : الْكَلاَمُ الْفَاحِشُ، يقالُ : هَجَرَ الرَّجُلُ يَهْجُرُ، إذا هَدَأ، وأهْجَرَ الرجلُ في مَنْطِقِهِ بهجرٍ هجاراً إذا تكلَّمَ بقبيحٍ. وقال الحسنُ وقتادة :(قَوْلُهُ :﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾ مِنَ الْهَجْرِ ؛ وَهُوَ أنْ لاَ يَقْرَبَ فِرَاشَهَا وَلاَ يَنَامَ مَعَهَا ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَرَنَهُ بقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾.
ثم يلتقي الْحَكَمَانِ، فيصدِّقُ كلُّ واحد منهما صاحبَهُ فيما سَمِعَ، فيُقْبلان على الزوجِ إن كان نَاشِزاً فيقولان له : يَا عَدُوَّ اللهِ ؛ أنتَ العاصي لله، الظالِمُ على امرأتِكَ، ويَعِظَانِهِ وَيَزْجُرَانِهِ، وَكَذِلِكَ يَفْعَلاَنِ بالمرأة إن كانت هي النَّاشِزَةَ، فذلك قولهُ :﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ ﴾ أي أنَّ الْحَكَمَيْنِ إذا أرادَا عَدْلاً ونصيحةً ألَّفَ اللهُ بين الزوجينِ، ويقالُ : وَفَّقَ اللهُ بين أقوالِ الْحَكَمَيْنِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً ﴾ ؛ بأمر الْحَكَمَيْنِ، ﴿ خَبِيراً ﴾ ؛ بنَصِيْحَتِهِمَا، ويقالُ : عَلِيْماً بما فيه صلاحُ الحقِّ، خَبيْراً بذلكَ.
وذهبَ بعضُ العلماء : إلى أنَّ الْحَكَمَيْنِ إذا رَأيَا أن يفرِّقا بينهما فَرَّقَا بينهما، وكذلكَ إذا رأى الْحَاكِمُ أن يُفرِّقَ فعلَ إذا وقَعَ اليأسُ عن زوال الشِّقاق، واعتبروا بالغاية فما عند أصحابنا رَحِمَهُمُ اللهُ فليسَ للحَكَمين أن يفرِّقا إلاّ أن يكونَا وَكِيلَيْنِ في الخُلْعِ من جانبين، أو يرضَى الزوجُ بتفريقِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ؛ أي وأحْسِنُوا بذوي القَرَابَةِ واليتامَى والمساكينِ. والإحسانُ إلى ذوي القربَى هو مُوَاسَاةُ الفقيرِ منهم إذا خافَ عليه ضَرَرَ الجوعِ والعُرِيِّ وَحُسْنَ العشرةِ وكفِّ الأذى عنهُ والْمُحَابَاةُ دونه مِمَّنْ يريدُ ظُلْمَهُ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه :" أنَّ رَجُلاً شَكَا إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَسْوَةً فِي قَلْبهِ ؛ فَقَالَ :" إنْ أرَدْتَ أنْ يَلِيْنَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمَسَاكِيْنَ وَامْسَحْ برَأْسِ الْيَتِيْمِ وَأَطْعِمْهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ ﴾ ؛ قال ﷺ :" الْجِيَراُن ثَلاثَةٌ : جَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ ؛ وَهُوَ الْجَارُ الْقَرِيْبُ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ ؛ وَهُوَ الَْجَارُ الأَجْنَبِيُّ الْمُسْلِمُ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ ؛ وَهُوَ الْجَارُ الْكَافِرُ " فعلى هذا يكون معنى (الْجَار الْجُنُب) : هو الجارُ الذي هو مِن قومٍ آخرين لا قرابةَ بينك وبينه. ويقالُ : إن الجارَ ذوي القربَى هو الذي يُقَاربُكَ في الجوار، تعرفهُ ويعرِفُكَ، والجارُ الْجُنُبُ : هو الجارُ الغريبُ المتباعِدُ.
وَالْجُنُبْ في اللغة : الْبَعِيْدُ. وقرأ الأعمشُ :(وَالْجَار الْجَنْبِ) بفتحِ الجيم وإسكان النُّون، وهما لُغتان. يقالُ : رَجُلُ جُنُبٌ وَجُنْبٌ ؛ إذا لم يكن قَرِيباً، وجَمَعُهُ : أجَانِبُ، وقيل للجُنُب جُنُبٌ لاعتزالهِ الصلاةَ وبُعْدِهِ من المسجدِ حتى يغتسلَ. وقال بعضُهم :(الْجَارُ الْجُنُبُ) الكافر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ ﴾ هو الرفيقُ في السفرِ ؛ المنقطعُ إلى الرجلِ رجاءَ خَيْرِهِ، كذا قالَ ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وابنُ جبير وعكرمةُ وقتادة، وقال بعضُهم : الصاحبُ بالْجَنْب هو الْمُلاَصِقُ دارَه بداركَ ؛ فهو إلى جَنْبكَ، ويقالُ : هو جارُ الرجلِ في البيتِ الواحد. وقال عَلِيٌّ وعبدُالله وأبنُ أبي ليلى والنخعيُّ :(هِيَ الزَّوْجَةُ تَكُونُ مَعَهُ إلَى جَنْبهِ).
وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لَيْسَ بمُؤْمِنِ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وأيَّمَا رَجُلٍ أغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارهِ مَخَافَةً عَلَى أهْلِهِ وَمَالِهِ فَلَيْسَ جَارُهُ ذلِكَ بمُؤْمِنٍ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا حَقُّ الْجَار ؟ قَالَ :" إنْ دَعَاكَ أجَبْتَهُ ؛ وَإنْ أصَابَتْهُ فَاقَةٌ عُدْتَ عَلَيْهِ ؛ وَإنِ اسْتَقْرَضَكَ أقْرَضْتَهُ ؛ وَإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ ؛ وَإنْ مَرِضَ عُدْتَهُ ؛ وَإنْ أصَابَتْهُ مُصِيْبَةٌ عَزَّيْتَهُ ؛ وَإنْ مَاتَ شَهِدْتَ جَنَازَتَهُ، وَلاَ تَسْتَعْلِي عَلَيْهِ بالْبُنْيَانِ لِتَحْجِبَ عَنْهُ الرِّيْحَ إلاَّ بإذْنِهِ، وَلاَ تُؤْذِهِ بقُتَّارِ قِدْركَ إلاَّ أنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا، وَإن اشْتَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ مِنْهَا ؛ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأدْخِلْهَا سِرّاً وَلاَ يُخْرِجْ وَلَدُكَ مِنْهَا شَيْئاً فَيُغِيْظُ وَلَدَهُ بهِ "
وقال بعضُهم : الآية عامَّة في كل من يَبْخَلُ بما أوتِي من المالِ ويكتمُ ما أعطاه اللهُ من النعيمِ لا يُخْرِجُ زكاتَهُ، فعلى هذا يكون المرادُ بالكافرين في هذه الآية : كَافِرِي النِّعَمِ دون الكفار بالله. فأمَّا على التأويلِ الأوَّل فالمرادُ بالكافرين اليهودَ.
والبُخْلُ : مَنْعُ الْوَاجِب. قرأ يحيى بن يعمر ومجاهدُ وحمزة والكسائي وخلف :(بالْبَخَلِ) بفتح الباء والخاء، وقرأ قتادةُ وأيوب بفتح الباءِ وسكون الخاء، وقرأ عيسى ابن يعمر : بضمِّ الباء والخاء، وقرأ الباقون بضم الباء وسكون الخاء، وكذلك في سورةِ الحديد، وكلُّها لغةٌ معروفة فيه إلاَّ أن اللغة العاليَةَ : ضمّ الباء وسكون الخاء، وبفتح الباء والخاء لغةُ الأنصار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ ؛ أن من يفعلْ ما يَدْعُوهُ إليه الشيطان وسوَّل له فَبِئْسَ قرينهُ الشيطان يُغْوِيَهِ في الدُّنيا ويكون قريناً معهُ في السلسلةِ في النار. و(قَرِيْناً) نُصِبَ على التمييز، وَقِيْلَ : على القطعِ ؛ أي قطعِ الألف واللام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ ؛ قرأ العامَّة (حَسَنَةً) بالنصب على معنى : وإن تَكُ الْفِعْلَةُ حسنةً : وقرأ أهلُ الحجاز : بالرفع على معنى : إن تَقَعْ حَسَنَةٌ، أو يُؤْخَذْ حَسَنَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُضَاعِفْهَا ﴾ قرأ الحسنُ بالنون، والباقون بالياء، وهو الصحيحُ لقوله :(وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ) ؛ وقرأ أبو رجاءٍ وابنُ كثير وابن عامر :(يُضَعِّفْهَا) بتشديد العين وهما لُغتان.
وقال أبو عبيد :(يُضَاعِفْهَا ؛ أي يَجْعَلْْهَا أضْعَافاً كَثِيْرَةً، وَيُضَعِّفْهَا بالتَّشْدِيْدِ يَجْعَلْهَا ضِعْفَيْنِ). وقال الضحَّاك :(أرَادَ بالْحَسَنَةِ : التَّوْبَةَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلاَّ حَسَنَةً وَاحِدَةً مَقْبُولَةً غَفَرَ اللهُ لَهُ). وَقِيْلَ : معناهُ : إن أزادَ على سيِّئاته مثقالَ ذرَّة من الحسنةِ يضاعفْهُ اللهُ حتى يجعلَهُ مثل أحُدٍ، ويوجبُ له الجنَّةَ، ويعطيهُ من عنده الزيادةَ على ما يستحقُّه من جزاءِ عمله، فذلك الأجر العظيم لا يعلم مقدارَهُ إلاَّ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ وهو الجنةُ.
وقالَ بعضُهم : معنى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ﴾ كلامٌ مستأنَفٌ غيرُ داخل في التَّمَنِّي ؛ ومعناهُ : لاَ يَقْدِرُونَ على كِتْمَانِ شيءٍ مما عَمِلُوهُ ؛ لظهور ذلكَ عندَ اللهِ ؛ أي لا يُفِيْدُ كِتْمَانُهُمْ. وقال الكلبيُّ :(يَقُولُ اللهُ لِلْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ وَالطَّيْرِ : كُونِي تُرَاباً ؛ فَتُسَوَّى بهِمُ الأَرْضُ ؛ فَعِنْدَ ذلِكَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ أنْ يَكُونَ كَذلِكَ). وقال عطاءُ :(مَعْنَاهُ : يَوَدُّ الَّذِيْنَ كَفَرُواْ لَوْ تُسَوَّى بهِمُ الأَرْضُ، ولَمْ يَكْتُمُواْ أمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَلاَ نَعْتَهُ).
قرأ أهلُ المدينةِ والشامِ (تَسَّوَّى) بفتحِ التاء والتشديد على معنَى وَتَتَسَوَّى ؛ فأدغمتِ التاءُ الثانية في السين. وقرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصماً بفتحِ التاء والتخفيف على حذفِ أحدِ التاءَين مثلُ قولهِ :﴿ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ ﴾[هود : ١٠٥] وقرأ الباقونَ بضمِّ التاء والتخفيف على الْمَجْهُولِ ؛ أي لو سُوِّيَتْ بهم الأرضُ وصَارُوا هم والأرضُ شيئاً واحداً.
وتأويلُ الآية على هذا : لاَ تَقرَبُوا مواضِعَ الصلاةِ وهو المسجدُ وَأنْتُمْ سُكَارَى، حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وما يقرأ إمَامُكم في الصلاةِ. وسُكَارَى : جمعُ سَكْرَانٍ، وهذا خطابٌ لمن لم يَبْلُغْ به السُّكْرُ إلى حدٍّ لا يفهمُ الكلامَ كلَّهُ، لأنَّ الذي لا يفهمُ شيئاً لا يصحُّ أن يخاطَبَ، فكانوا بعد نزولِ هذه الآية يَجْتَنِبُونَ السُّكر أوقاتَ الصلاةِ حتى نزلَ تحريمُ الخمرِ في سورة المائدةِ.
وقال مقاتلُ :(نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ؛ كَانُواْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي دَار عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ ؛ فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْمَغْرِب ؛ فَقَدَّمُوا رَجُلاً فَقَرأ﴿ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾[الكافرون : ١] وَقَالَ : أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ؛ وَحَذفَ (لاَ) فِي جَمِيْعِ السُّورَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
فمعناها على هذا : لاَ تَقْرَبُوا نَفْسَ الصلاةِ، وأنتمُ سُكَارى حتَّى تعلموا ما تَقْرَأونَ. وعن عمرَ رضي الله عنه أنهُ قال بَعْدَ نزولِ هذه لآية :(اللَّهُمَّ إنَّ الْخَمْرَ يَضُرُّ بالْعُقُولِ وَالأَمْوَالِ ؛ فَأنْزِلَ فِيْهَا أمْرَكَ) فَصَبَّحَهُمُ الْوَحْيُ بآيَةِ الْمَائِدَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ جُنُباً ﴾ أي لا تَقْرَبُوا مواضعَ الصلاةِ وأنتم جُنُباً، ﴿ إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ﴾ ؛ إلاّ أن تكونُوا مُجْتَازيْنَ، وإذا لم يكن الماءُ إلاَّ في المسجدِ، تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ودخلَ المسجدَ وأخذ الماء ثم خرجَ واغتسلَ. وقال الشافعيُّ :(يَجُوزُ لِلْجُنُب الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ بغَيْرِ تَيَمُّمٍ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإقَامَةُ فِيهِ). وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : لا تُصَلُّوا وأنتم جُنُبٌ إلا أن تكونوا مسافرينَ لا تجدون الماءَ فتيمَّمون وتصلُّون، هكذا رويَ عن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ومجاهدُ والحاكم. وانتصبَ قوله (جُنُباً) على الحالِ ؛ أي لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم جُنُبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ ؛ أي إذا كنتم مَرْضَى فَخِفْتُمْ الضررَ باستعمالِ الماء أو كنتم مسافرينَ، ﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ ﴾ ؛ معناهُ : وجاءَ أحدُكم من الغائطِ : هو المكانُ المطمئِنُّ من الأرضِ ؛ يقال : تَغَوَّطَ الرجلُ إذا دَخَلَ المكانَ المطمئنَّ لقضاءِ الحاجةِ، ويجعلُ هذا اللفظ كنايةً عن ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ ﴾ ؛ قال عَلِيٌّ وابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(مَعْنَاهُ : أوْ جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ) وبه قال الحسنُ ومجاهد وقتادةُ. وقال ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ والنخعيُّ والشعبيُّ :(أرَادَ بهِ اللَّمْسَ بالْيَدِ، وَكَانُوا لاَ يُبيْحُونَ لِلْجُنُب التَّيَمُّمَ).
واختلفَ العلماء في هذا، فقال الشافعيُّ :(إذا مَسَّ الرَّجُلُ بَدَنَ الْمَرأَةِ نُقِضَ وَضُوءُهُ سَوَاءٌ كَانَ بالْيَدِ أمْ بغَيْرِهَا مِنَ الأعْضَاءِ). وقال الأوزاعيُّ :(إنْ مَسَّهَا بالْيَدِ نُقِضَ ؛ وَإنْ كَانَ بغَيْرِ الْيَدِ لَمْ تُنْقَضْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ﴾ ؛ معناهُ : أنَّهم كانوا إذا كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ بشيءٍ قالوا : اسْمَعْ ؛ وقالوا في أنفُسِهم : لا أسْمعْتَ ولا سَمعتَ. وقيل : معناهُ : غَيْرُ مُجَابٍ لَهُ بشيءٍ مما يدعُو إليهِ، وكانوا يقولون : رَاعِنَا ؛ يوهِمُونَ أنَّهم يريدون بهذا القولِ : انْظُرْنَا حتَّى نُكَلِّمْكَ بما نريدُ، وكانوا يريدونَ بذلك السَّبَّ بالرُّعُونَةِ بلُغَتِهم. ويقالُ : كانوا يقولونَ هذه الكلمةَ على وجهِ التَّجَبُّرِ والتَّكَبُّرِ، كما يقولُ المتكبرُ لغيرهِ : افْهَمْ كَلاَمِي وَاسْمَعْ قَوْلِي، وكانوا يقولونَ : أرْعِنَا سَمْعَكَ وَتَأَمَّلْ كلامَنا ومثل هذا مِمَّا لا يخاطَبُ به الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، إنَّما يخاطبون بالإجْلاَلِ والإعْظَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ ﴾ ؛ أي كانوا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بالسَّب والتَّعييرِ والطَّعْنِ في الدِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا ﴾ ؛ معناهُ : لو قالوا سَمِعْنَا قولَكَ وأطَعْنَا أمرَكَ مكان قولِهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، وقالُوا : وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا نَسْمَعْ قَوْلَكَ وَنَفْهَمْ كلامَك مكان قولِهم : وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ﴾ ؛ وأصوبُ، ﴿ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ ؛ أي خذلَهم وأبعدَهم من رحمتهِ مجازاةً بكفرِهم. ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ فلا يؤمنون إيْماناً إلاَّ قليلاً، وقِيْلَ : معناهُ : لا يؤمنونَ إلاَّ قليلاً منهُم وهم : عبدُالله بْنُ سلاَمٍ ومن تابَعَهُ.
روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَدِمَ عَبْدُاللهِ بنُ سَلاَمٍ مِنَ الشَّامِ ؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَأتِيَ أهْلَهُ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا كُنْتُ أرَى أنْ أصِلَ إلَيْكَ حَتَّى تُحَوِّلَ وَجْهِي فِي قِفَاءِ.
ويقال معنى :﴿ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ ﴾ ؛ نجعلُ وجوهَهم على هَيْأَةٍ أقْفَائِهِمْ، ومعنى :﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾ ؛ أو نجعلهم قِرَدَةً كما مَسَخْنَا أصحابَ السبتِ، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ ؛ قضاؤُه كائِناً لا شكَّ فيهِ، فإن قيلَ : كَيْفَ قالَ اللهُ تعالى آمِنُوا ﴿ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ﴾ وَأَوْعَدَهُمْ بطمسِ الوُجوهِ إن لَم يؤمِنُوا، ثُمَّ لم يؤمِنوا، ولم يقع الطَّمْسُ ؟ قيلَ : يحتملُ أن يكون هذا وَعِيْداً لَهم على تركِ جَمِيعهم الإسلامَ، وقد آمَنَ منهم جماعةٌ بعدَ هذه الآية كعبدِالله بنِ سلام وعبدِالله بن ثعلبةَ وأسَيْدَ بن ثعلبة وأسَيْدَ بن عبيدٍ وغيرهم، ويحتملُ أن يكون المرادُ بالآية : الطَّمْسُ في الآخرةِ، وسيفعلُ اللهُ ذلك بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ ؛ أي ومَن يُشْرِكْ باللهِ سِوَاهُ فقدِ اختلَقَ على اللهِ ذنباً عظيماً غيرَ مغفورٍ له.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ؛ أي لا يُنْقَصُونَ من جزاءِ ما يستحقُّونه قدرَ الْفَتِيْلِ وهو مَا تفتلُهُ بينَ إصبعَيْكَ من الوَسَخِ إذا مَسَحْتَ إحداهُما بالأخرى، وَقِيْلَ : الْفَتِيْلُ : ما في بَطْنِ النَّوَاةِ في شقِّها من لِحَائِهَا.
ومعناه : ألم يَنْتَهِ علمُكَ يا مُحَمَّدُ إلى﴿ الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ ﴾[آل عمران : ٢٣] أي علماً بالتَّوراةِ وما فيها من نَعْتِ مُحَمَّدٍ وصفتِه يصدِّقون بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. قال ابنُ عبَّاس :(الْجِبْتُ : حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ، وَالطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ). وقيل الجِبْتُ : الكَهَنَةُ، والطَّاغُوتُ : الشَّيَاطِيْنُ. وَقِيْلَ : الْجِبْتُ والطاغُوتُ : صَنَمَانِ كان المشركونَ يعبدونَهما من دون اللهِ. وقيل الْجِبْتُ : الصنمُ، والطَّاغُوتُ : مترجمة الصنمِ على لسانه.
وقال أهلُ اللغة : كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَجَرٍ أو مَدَر أو صُورَةٍ فهو جِبْتٌ وَطَاغُوتٌ، دليلهُ قال تعالى :﴿ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾[النحل : ٣٦] وقولهُ تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ﴾[الزمر : ١٧]. وقال مجاهدُ :(الْجِبْتُ : السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ : الشَّيْطَانُ). يدلُ عليه قولهُ :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾[البقرة : ٢٥٧]﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ﴾[النساء : ٧٦].
وقال بعضُ المفسِّرين : لَمَّا خَرَجَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ هُوَ وَمنْ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ أحُدٍ لِيُحَالِفُوا قُرَيْشاً عَلَى عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ نَزَلَ كَعْبُ عَلَى أبي سُفْيَانَ فَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ، وَنَزَلَ الْيَهُودُ فِي دُور قُرَيْشٍ، فَقَالَ أهْلُ مَكَّةَ : إنَّكُمْ أهْلُ كِتَابٍ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُ كِتَابٍ، وَلاَ نَأْمَنُ أنْ يَكُونَ هَذا مَكْرٌ مِنْكُمْ، فَإنْ أرَدْتَ يَا كَعْبُ أنْ نَخْرُجَ مَعَكَ فَاسْجُدْ لِهَذَيْنِ الصَّنَمَيْنِ وآمِنْ بهِمَا ؛ فَفَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾[النساء : ٥١].
قَالَ كَعْبُ لأَهْلِ مَكَّةَ : يَجِيْءُ مِنْكُمْ ثَلاَثُونَ ؛ وَمِنَّا ثَلاَثُونَ ؛ فَنَلْزِقُ أكْبَادَنَا بالْكَعْبَةِ فَنُعَاهِدُ رَبَّ الْبَيْتِ لَنُجْهِدَنَّ عَلَى قِتَالِ مُحَمَّدٍ، فَفَعَلُواْ ذلِكَ، ثُمَّ قَالَ أبُو سُفْيَانَ : يَا كَعْبُ ؛ إنَّكَ امْرُؤٌ تَقَرَأ الْكِتَابَ وَنَحْنُ أمِّيُّونَ لاً نَعْلَمُ، فَمَنْ أهْدَى سَبيلاً، وَأقْرَبُ إلَى الْحَقِّ نَحْنُ أمْ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ كَعْبٌ : وَاللهِ أنْتُمْ أهْدَى سَبيْلاً مِنَ الََّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ ﴾[آل عمران : ٢٣]. يَعْنِي كَعْباً وأصحابَهُ يؤمنونَ بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يعني الصَّنمين، ﴿ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي لأبي سُفيانَ وأصحابَه :﴿ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ ؛ أي لَمَّا قالتِ اليهودُ : لو كان مُحَمَّدٌ نَبيّاً ما رَغِبَ في كثرةِ النِّساءِ ؛ حسدوهُ على كَثْرَةِ نسائهِ وعابُوهُ بذلك فأكذبَهم اللهُ بقوله ﴿ قَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ أرادَ بالحكمةِ النبوَّة، ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :" هُوَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُمَائَةِ مَهْرِيَّةٍ - أيْ مَمْهُورَةٍ - وَثَلاَثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ولداؤد مِائَةُ امْرَأةٍ، فَأَقَرَّتِ الْيَهُودُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ بذلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ :" ألْفُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَمِائَةُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ أكْثَرُ أمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ " فَسَكَتُواْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ ؛ أي كُلَّمَا أحْرِقَتْ جلودُهم جَدَّدْنَا لَهم جلوداً غيرَها بيضاءَ كالقراطيسِ، وذلك أنَّهم كلَّما احْتََرَقُوا حَسَّت عليهم النارُ ساعةً ثم تَزَايَدَتْ سعيراً وَبَدَأوا خَلْقاً جديداً فيهم الرُّوحُ ثم عادَتْ النَّارُ تُحْرِقُهُمْ ؛ فهذا دَأبُهُمْ أبداً. قال الحسنُ :(تَنْضَجُ جُلُودُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ ألْفَ مَرَّةٍ، كُلَّمَا أكَلَتْهُمُ النَّارُ وَأنْضَجَتْهُمْ ؛ قِيْلَ لَهُمْ : عُودُوا ؛ فَيَعُودُونَ كَمَا كَانُوا). وعن مجاهدٍ قَالَ :(مَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَلَحْمِهِ دُودٌ لَهَا حَلْبَةٌ كَحَلْبَةِ حُمُرِ الوَحْشِ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ ﷺ قالَ :" غِلَظُ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَانِ وَأرْبَعُونَ ذِرَاعاً، وَضِرْسُهُ مِثْلُ أحُدٍ "
قيل : كيفَ جاز أن يعذِّبَ اللهُ جِلْداً لَم يَعْصِهِ ؟ قيل : إنَّ العاصِي والمتألِّمُ واحدٌ وهو الإنسانُ لا الجلدُ ؛ لأن الجلودَ إنَّما تَأْلَمُ بالأرواحِ، والدليلُ على أنَّ القصدَ تعذيبُ الإنسانِ لا تعذيبُ الجلودِ قولهُ تعالى :﴿ لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ﴾ ؛ ولَم يقل ليذوقَ العذابَ، وَقِيْلَ : معناهُ : تبدل جلودٌ هي تلك الجلودُ المتحرقة، وذلك أنَّ (غيرَ) على ضربين : بتضَادٍّ و (غير) بلا تضادٍّ، فالتضادُّ مثلُ قولِكَ : الليلُ غيرُ النَّهار، والذكرُ غير الأنثى، والثاني مثل قولِكَ لصائغٍ : صُغْ لي من هذا الخاتمِ خاتماً غيرَهُ، فيكسره ويصوغُ لكَ خاتماً، والخاتَمُ المصوغُ هو الأوَّلُ، إلاّ أن الصياغةَ قد تغيَّرت، والقصةُ واحدةٌ.
وقالت الحكماءُ : كما أنَّ الجلد بَلِيَ قبلَ البعثِ كذلك يبدلُ بعد النُّضج. وقال السُّدِّيُّ :(يُبْدَلُ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ يُعَادُ الْجِلْدُ لَحْماً وَيَخْرُجُ مِنَ اللَّحْمِ جِلْدٌ آخَرُ ؛ لأنَّهُ جِلْدٌ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيْئَةً). قَوُلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ ؛ أي غالباً في أمرهِ، لا يَمْلِكُ أحدٌ مَنْعَهُ من إنزالِ وعدِّهِ، ذو حِكْمَةٍ فيما حَكَمَ من النار للكفَّار.
روي :" أنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ أبَى : فَقَالَ ﷺ :" يَا عُثْمَانُ ؛ إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَهَاتِ الْمِفْتَاحَ " فَقَالَ : هَاكَ أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ خُذْهُ بأمَانَةِ اللهِ. فَأَخَذ النَّبيُّ ﷺ الْمِفْتَاحَ فَفَتَحَ الْبَابَ وَمكَثَ فِي الْبَيْتِ مَا شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا خَرَجَ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ " ويدخلُ في هذا جملةُ الأمانةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾ ؛ خطابٌ لِلأَئِمَّةِ ؛ أي ويَأْمُرُكُمُ اللهُ أن تحكمُوا بين الناس بالحقِّ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي نِعْمَ الذي يَأَمُرُكُمْ به من أداءِ الأمَانَةِ والحكمَ بالحقِّ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً ﴾ ؛ لِمَقَالَةِ الْعَبَّاسِ ؛ ﴿ بَصِيراً ﴾ ؛ بأمَانَةِ عُثمَانَ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ قال عكرمةُ :(هُوَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) لِقَوْلِهِ ﷺ :" اقْتَدُوا مِنْ بَعْدِي بأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ "، " وَإنَّ لِي وَزَيْرَيْنِ فِي الأَرْضِ ؛ وَوَزيْرَيْنِ فِي السَّمَاءِ، فَبالسَّمَاءِ جِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ، وَبالأَرْضِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ "، " عِنْدِي بمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ " وقال الورَّاق :(هُمْ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٌّ لقولهِ ﷺ :" الْخِلاَفَةُ بَعْدِي فِي أرْبَعَةٍ مِنْ أُمَّتِي : أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ " وقال عطاءُ :(هُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَالتَّابعُونَ بإحْسَانٍ لقولهِ تعالى :﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾[التوبة : ١٠٠] الآية. وَقِيْلَ : هم أصحابُ رسولِ اللهِ ﷺ كما قالَ :" أصْحَابي كَالنُّجُومِ ؛ بَأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ "
وقال جابرُ بن عبدِالله والحسنُ والضحَّاك ومجاهدُ :(هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أهْلُ الدِّيْنِ وَالْفَضْلِ) الَّذِيْنَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِيْنِهِمْ ؛ وَيَأَمُرُونَهُمْ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُمْ. قال ابنُ الأسودِ :(لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنَ العِلْمِ، فَالْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ). وقال أبو هريرةُ :(هُمْ وُلاَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ). وقال الكلبيُّ ومقاتلُ :(هُمْ أمَرَاءُ السَّرَايَا، كَانَ ﷺ إذا بَعَثَ سَرِيَّةً أمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، وَأَمَرَهُمْ أنْ يُطِيْعُوهُ وَلاَ يُخَالِفُوهُ).
والأظهرُ مِن هذه الأقاويلِ : أن المرادَ بهم العلماءُ لقولهِ تعالى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ ؛ أي فإنِ اخْتَلَفْتُمْ في شيءٍ من الحلالِ والحرام والشرائعِ والأحكام، فردُّوه إلى أدلَّةِ الله وأدلَّة رسولهِ، وهذا الردُّ لا يكون إلاّ بالاستدلالِ والاستخراج بالقياسِ ؛ لأن الموجودَ في نصِّ الكتاب اذا عُلِمَ وَعُمِلَ به لا يوصفُ بأنه رَدٌّ إلى الكتاب، وإنَّما يقالُ : هو اتِّبَاعٌ للنَّصِّ، وغيرُ العلماءِ لا يعلمونَ كيفيَّةَ الردِّ إلى الكتاب والسُّنة ولا دلائلِ الأحكامِ، والجواب قولهُ تعالى :﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ؛ دليلٌ على أن الإيْمَانَ اتِّبَاعُ الكتاب والسُّنة والإجماعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ ؛ أي رَدُّ الخلافِ إلى اللهِ والرسول خيرٌ من الإصرار على الاختلافِ وأحسنُ عاقبةً لكم، ويقالُ : أحسنُ تأويلاً من تأويلِكم الذي تُؤَوِّلُونَهُ من غيرِ رَدِّ ذلكَ إلى الكتاب والسُّنة. وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ :(الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ).
ومعنى الآية : ألَم ترَ يَا مُحَمَّدُ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالْقُرْآنِ وبالكُتُب التي أُنْزِلَتْ من قبلِكم وهم المنافقونَ، ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾ ؛ وهو كعبُ بنُ الأشرفِ، ﴿ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ﴾ ؛ بالطَّاغُوتِ، ﴿ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ ؛ عَنِ الحقِّ.
والْمُشَاجَرَةُ في المخاصمةِ مأخوذٌ من الشَّجَرِ ؛ تشبيهاً للخصومةِ في دخُول بعضِ الكلام في بعض الأشجار بالتِفَافِ بعضِها على بعضٍ.
ومعنى الآيةِ : لو أنَّا فَرَضْنَا عليهم كما فَرَضْنَا على بني إسرائيلَ أن اقْتُلُوا أنفُسَكُمْ، أو أمرناهم أن يخرجُوا من ديارهم لَشَقَّ ذلكَ عليهمِ ولم يفعلْهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ. ورُفع الـ (قَلِيْلٌ) على البدلِ من الواو، ومعنى ما فَعَلَهُ إلاَّ قليلٌ منهم، وقرأ أبَيُّ ابن كعبٍ وابنُ عامر (إلاّّ قَلِيْلاً مِنْهُمْ) بالنصب على معنى استثنَى قليلاً منهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ ﴾ ؛ أي لو فَعَلَ المنافقون ما يُؤْمَرُونَ به من الرِّضَى بحكمكَ، ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ ؛ من الْمُحَاكَمَةِ إلى غيرِكَ، ﴿ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ﴾ ؛ لقلوبهم على الصَّواب ؛ لأن الحقَّ يبقَى والباطلَ يذهبُ.
ومعنى الآية : ومَن يُطِعِ اللهَ في الفرائضِ والرسولَ في السُّننِ ؛ فأولئِكَ مع الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيِّين والصدِّيقينَ، وهم أفاضلُ الصَّحابةِ، ﴿ وَالشُّهَدَآءِ ﴾ ؛ هم الذين اسْتُشْهِدُواْ في سبيلِ الله، ﴿ وَالصَّالِحِينَ ﴾ ؛ وهم الذينَ اسْتَقَامَتْ أحوالُهم بحُسْنِ عملِهم، وَالْمُصْلِحُ الْمُقَوِّمُ بحُسْنِ عَمَلِهِ. وقالَ عكرمةُ :(النَّبيُّونَ : هَا هُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَالصِّدِّيْقُونَ : أبُو بَكْرٍ، وَالشُّهَدَاءُ : عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِِيٌّ، وَالصَّالِحُونَ : سَائِرُ الصَّحَابَةِ).
فإن قيلَ فكيفَ يكونُ المطيعون للهِ ورسولهِ مع النبيِّين ودرجتِهم في أعلى عِلِّيِّيْنَ ؟ قِيْلَ : إنَّ الأنبياءَ ولو كانوا في أعْلى عِلِّيِّيْنَ ؛ فإنَّ غيرَهم من المؤمنينَ يَرَوْنَهُمْ وَيَزُروُنَهُمْ ويستمتِعونَ برؤيتِهم، فيصلحُ اللفظ أنْ يقالَ إنَّهم معهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَسُنَ أُولَـائِكَ رَفِيقاً ﴾ ؛ أي حَسُنَ الأنبياءُ ومَن معهُم رُفَقَاءَ في الجنَّةِ ؛ أي ما أحسنَ مُرَافَقَتَهُمْ فيها، فذكرَ الرفيقَ بلفظِ التوحيدِ ؛ لأنه نُصِبَ على التمييزِ، كما في قولهِ تعالى :﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾[النساء : ٤] ويجوزُ أن يكونَ معناهُ : حَسُنَ كُلُّ واحدٍ من أوْلَئِكَ رَفِيْقاً، كما قالَ تعالى :﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ﴾[غافر : ٦٧] ولم يقل أطْفَالاً.
واستدلَّ أهل القدر بهذه الآيةِ قالوا : إنَّ الحذرَ ينفعُ ويَمنعُ عنكم مُكَايَدَةَ العدوِّ، وإلاَّ لم يكن لأمرهِ تعالى آتاهم بالحذر، معناهُ : فيقالُ لَهم الائتمار بأمرِ الله والإنتهاء بنَهْيهِ واجبٌ عليهم ؛ لأنَّهم به يَسْلَمُونَ من معصيةِ الله تعالى ؛ لأن المعصيةَ تركُ الأوامرِ والنواهي. وليسَ في الآية دليلٌ على أن حَذرَهُمْ ينفعُ من القدر شيئاً، بل المرادُ منه طُمَأْنِيْنَةُ النفسِ لا أنَّ ذلك يدفعُ القدرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً ﴾ ؛ أي إنْ أصابتُكم نَكْبَةٌ أو هَزِيْمَةٌ أو قتلٌ، قال هذا الْمُبْطِئُ : قَدْ مَنَّ اللهُ عليَّ إذْ لَم أكُنْ مَعَهُمْ حَاضِراً في تلك الغزوةِ فيصيبُني مثلَ الذي أصابَهم.
ثُمَّ أمرَ اللهُ تعالى كُلَّ مَنْ عَقَدَ الإيمانَ بالقتالِ ؛ فقال عَزَّ وجَلَّ :﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ﴾ ؛ أي لِيُقَاتِلْ في طاعةِ الله ورضَائِهِ الذين يَبْيعونَ الحياةَ الدُّنيا بالآخرةِ وهم المؤمنونَ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ الخطاب لِلْمُبْطِئِيْنَ ؛ ومعنى ﴿ يَشْرُونَ ﴾ : يَخْتَارُونَ الحياةَ الدُّنيا على الآخرةِ. وهذا اللفظُ من الأضدادِ، يقالُ : شَرَيْتُ بمَعْنَى بعْتُ، وَشَرَيْتُ بمَعْنَى اشْتَرَيْتُ، فيكون معنى الآيةِ على هذا : آمِنُوا ثُمَّ قاتِلوا، لإنة لا يجوزُ أن يكونَ الكافرُ مأموراً بشيءٍ يتقدَّم على الإيْمانِ.
ثم ذَكَرَ اللهُ تعالى فضلَ الْمُجَاهِدِيْنَ ؛ فَقَالَ :﴿ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي في الجهادِ الذي هو طاعةُ اللهِ تعالى ؛ ﴿ فَيُقْتَلْ ﴾ ؛ هو ؛ ﴿ أَو يَغْلِبْ ﴾ ؛ العدوَّ ؛ ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ فسوفَ نُعْطِيْهِ في كِلاَ الوجهينِ ثواباً وافراً في الجنَّة، وسَمَّى اللهُ تعالى الثوابَ عظيماً ؛ لأنه نالَ ثمناً مِن العزيزِ بأغلَى الأثْمانِ، وقد يكون ثَمَنُ الشيءِ مثلَهُ، ويكون وَسَطاً من الأثْمانِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ﴾ ؛ في موضعِ خَفْضٍ بإضمار (في) ؛ معناهُ : وفِي بيان المستضعفينَ ؛ أي وفي نُصْرَةِ المستضعفينَ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : وعَنِ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ ؛ أي لِلذب عن المستضعفينَ، ﴿ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ ؛ الذين هم بمَكَّةَ وَيَلْقَوْنَ فيها أذىً كثيراً وهم : سَلَمَةَُ بْنُ هِشَامٍ وَالْوَلِيْدُ بْنُ الْوَلِيْدِ وَعبَّاسُ بْنُ رَبيعَةَ وغيرَهم، كانوا أسْلَمُوا بمَكَّةَ فأراد عشائِرُهم من أهلِ مكَّة بعدَ هجرةِ النبيِّ ﷺ أن يفتنوهم عنِ الإسلامِ. يقولُ الله تعالى : مَا تُقَاتِلُونَ المشركينَ في خَلاَصِ هؤلاء الضُّعفاءِ ؛ ﴿ الَّذِينَ ﴾ ؛ يسألونَ اللهَ ؛ ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ ؛ أي خَلِّصْنَا من هذه القَرْيَةِ ؛ يَعْنُونَ مَكَّةَ ؛ ﴿ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ﴾ ؛ أي الكفَّارُ أهلُها، ﴿ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ﴾ ؛ أي مِن عندك حَافِظاً يحفظُنا من أذاهُم، ﴿ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ ﴾ ؛ مِنْ عِنْدِكَ ؛ ﴿ نَصِيراً ﴾ ؛ أي مَانِعاً يَمْنَعُنَا منهم. فاستجابَ اللهُ دعاءَهم، وجعلَ لَهم النبيَّ ﷺ حافِظاً وناصِراً بفتحِ مكة على يديهِ، واستعملَ عليهم عَتَّابَ بنَ أُسَيْدِ، عتاب يُنْصِفُ الضعيفَ من الشديدِ.
ومعنى الآية :﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ﴾ ؛ بالمدينةِ أي فُرِضَ ؛ ﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ ؛ وقيل معناهُ :﴿ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ ؛ كقولهِ﴿ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات : ١٤٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ﴾ ؛ يعنِي مُشْرِكِي مكَّة لِمَ فَرَضْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ؛ أي الجهادَ ؛ ﴿ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ ؛ أي هَلاَّ تَرَكْتَنَا حتى نَمُوتَ بآجالِنا. قال الحسنُ :(لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ لِكَرَاهَةِ أمْرِ اللهِ، ولَكِنْ لِدُخُولِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ بذلِكَ)، وقال بعضُهم : نزلَتْ في المنافقينَ، لأن قوله :﴿ لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ﴾ لا يَلِيْقُ بالمؤمنينَ، وكذلك الحسَنَةُ من غيرِ الله. وَقِيْلَ : نزلت في قَوْمٍ من المؤمنين لم يكونُوا راسخين في العِلْْمِ، قالوا هذا القولَ ؛ لأنَّهم رَكَنُوا إلى الدُّنيا وآثرُوا نعيمَها على القتالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : منفعةُ الدُّنيا يسيرةٌ تنقطعُ وتقضى، والاستمتاعُ بها قليلٌ ؛ لأن الجديدَ منها إلى البلَى، والشابُّ منها إلى الهرمِ والإنقضاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى ﴾ ؛ أي وثوابُ الآخرةِ أفضلُ لِمن اتَّقَى المعاصي، ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ؛ أي ولا يُنْقَصُونَ من جَزَاءِ أعمالِهم الذي استحقُّوه مقدارَ الفتيلِ، وقد تقدَّم تفسيرُ الفتيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا حكايةُ قولِ المنافقين واليهودِ، كانوا يقولون : ما زلْنَا نعرفُ النَّقْصَ في ثِمارنا ومراعينا مُذْ قَدِمَ هذا الرجلُ علينا - يعنون النبيَّ ﷺ - بعدَ قُدُومِهِ المدينةَ، فذلك قوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ أي إنْ يُصِبْهُمْ خِصَبٌ ورخصُ سِعْرٍ وتتابعُ أمطار يقولوا : هذهِ من فَضْلِ الله ؛ ﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ ؛ قَحْطٌ وجُدُوبَةٌ وغلاءُ سِعْرٍ، ﴿ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ ﴾ ؛ هذه من شُؤْمِ مُحَمَّدٍ وأصحابهِ.
يقولُ الله تعالى :﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : الحسنةُ والسيِّئةُ كلُّها بقضاءِ الله وتقديرهِ، ﴿ فَمَالِ هَـاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾ ؛ اليهودُ والمنافقين لا يقربونَ من فَهْمِ حديثٍ عن الله. والْفِقْهُ : هو الْفَهْمُ، ثم اختصَّ من جهة العُرْفِ بعلم الْفَتْوَى. وقال الحسنُ :(أرادَ بالْحَسَنَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ : الظَّفَرَ وَالْغَنِيْمَةَ، وَبالسَّيِّئَةِ : الْقَتْلَ وَالْهَزِيْمَةَ) وَكَانُواْ إذا غَلَبُوا قَالُواْ : هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإذا غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ قَالُواْ : هَذِهِ مِن خَطَأ رَأيكَ وتَدْبيرِكَ.
وقال بعضُ المفسِّرين : بين هذه الآيةِ وبينَ التي قبلَها إضمارٌ تقديرُه : فَمَا لِهَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيْثاً يَقُولُونَ مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ؛ لأنَّهُ مستحيلٌ أن يأمرَ اللهُ تعالى بإضافةِ الحسنَةِ والسيِّئة إلى أمرهِ وقضائه في آيةٍ ثم يَتْلُوهَا بآيةٍ تُفَرِّقُ بينهُما بعدَ أن ذمَّ قوماً على التفرقةِ في الأُولى، فكيف يجوزُ أن يَذِمَّ على الجمعِ في الآية الثانيةِ، ومثلُ هذا الإضمارِ كثيرٌ في القرآنِ.
وقرئَ في الشواذِ بنصب الميم (فَمَنْ نَفْسِكَ) أي كلٌّ مِنَ اللهِ، فمَن أنتَ ونفسَكَ حتى يُضَافَ إليكَ شيءٌ، غير أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ؛ فلا يقرأ إلاَّ بما تَصِحُّ به الروايةُ، وحاصلُ المعنى على قراءةِ العامَّة : أي مَا أصابَكَ مِنْ خَيْرٍ ونِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ بَلِيَّةٍ، أوْ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ فَمِنْ نَفْسِكَ ؛ أي بذنوبكم، وأنا الذي قدَّرتُها عليكَ. قال الضحَّاك :(مَا حَفِظَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بذنْبٍ) ثم قَرَأ﴿ وَمَآ أَصَـابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى : ٣٠]، قال :(فَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ مِنْ أعْظَمِ الْمَصَائِب).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾ ؛ أي ومِن نِعْمَةِ اللهِ عليكَ إرسالهُ إياكَ رسولاً إليهم، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ ؛ على أنكَ رسولٌ صادقٌ يشهدُ لك بالرسالةِ والصِّدق، وَقِيْلَ : شَهِدَ على مقالةِ القوم أنَّ الحسنةَ من اللهِ، والسيئةَ من عندكَ : وَقِيْلَ : معناهُ : يشهدُ أنَّ الحسنةَ والسيِّئةَ كلَّها من اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾ ؛ أي يَحْفَظُ عليهم ما يَفْتَرُونَ من أمرِك، وَقِيْلَ : ما يُسِرُّونَ من النفاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ أي لا تُعَاقِبْهُمْ يا مُحَمَّدُ واسْتُرْ عليهم إلى أنْ يَسْتَقِيْمَ أمرُ الإسلامِ ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي ثِقْ باللهِ وفوِّضْ أمركَ إليه، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ ؛ أي حَافِظاً، والوكيلُ : هو العالِمُ بما يُفَوَّضُ إليه من التدبيرِ.
ومعناهُ : اذا جاءَ المنافقينَ ﴿ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ ﴾ ؛ يعني الغنيمةَ والفتحَ، ﴿ أَوِ الْخَوْفِ ﴾ أي الهزيْمَة والقتلِ ﴿ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾ ؛ أي أشاعُوهُ وأفْشَوهُ، ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾ ؛ أي لم يَتَحَدَّثُوا به ولم يُفْشُوهُ حتى يكونَ النبيُّ ﷺ هو الذي يَتَحَدَّثُ بهِ. والمعنى : لو تَرَكُوا أمرَ السَّرايَا والعسكرِ إلى النَّبيِّ ﷺ وإلى أولي الأمرِ أولي الأمرِ من المؤمنينَ وهم : أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأكَابرُ الصَّحَابَةِ حتى يكونوا هم الذين يُفْشُونَهُ، ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ ؛ يطلبونَ الخبرَ ويستخبرونَهُ من النبيِّ ﷺ وأكابرِ الصَّحابة أن ذلك الخبرَ صحيحٌ أم لاَ.
قال الكلبيُّ :(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبطُونَهُ أيْ يَتَّبعُونَهُ). وقال عكرمةُ :(يَسْأَلُونَ عَنْهُ، أيْ لَوْ تَرَكُواْ إذاعَتَهُ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بهِ النَّبيُّ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْأَلُونَ عَنْهُ). وقال القُتيبيُّ :(لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَخْرِجُونَهُ، يُقَالُ : اسْتَنْبَطْتُ الْمَاءَ إذا أخْرَجْتُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ ؛ أي لولا ما أنزلَ اللهُ عليكم من القُرْآنِ، وبَيَّنَ لكم الآياتِ على لسانِ نَبيِّهِ ﷺ، ﴿ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي كانَ أقَلُّكُمْ يَنْجُوا من الكُفْرِ، والمرادُ بالفضلِ ها هنا النبيَّ ﷺ والقُرْآنَ، وَقِيْلَ : في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ معناه : أذاعُواْ بهِ إلاَّ قَلِيْلاً مِنَ الخبر لم يذيعوهُ، أو قليلاً من الْمُنَافِقِيْنَ لَمْ يُذِيْعُوهُ.
وَقِيْلَ : لا تُؤَاخَذُ بفعلِ غيرِك، وإنَّما تُؤَاخَذُ بفعلِ نفسِك وليسَ عليك ذنبُ غيرِك، ﴿ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ على القتالِ لَعَلَّ اللهَ أن يَكُفَّ عنكَ قتالَ الكفَّار، وعسَى مِن اللهِ واجبٌ ؛ لأنهُ في اللغة الإطْمَاعُ، وإطماعُ الكريْمِ لا يكونُ إلا إنجازاً.
والفاءُ : في قوله :(فَقَاتِلْ) جوابٌ عن قولهِ :﴿ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾[النساء : ٧٤] فَقَاتِلْ وحَرِّضِ المؤمنينَ على القتالِ ؛ أي حَرِّضْهُمْ على القتالِ ورَغِّبْهُمْ فيهِ. فَتَثَاقَلُوا وَلَمْ يَخْرُجُواْ مَعَه ؛ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَبْعِيْنَ رَاكِباً حَتَّى أتَي بَدرَ الصُّغْرَى ؛ فَكَفَاهُمُ اللهُ بَأسَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُوافِقْهُمْ أبُو سُفْيَانَ ؛ ولَمْ يَكُنْ قِتَالٌ يَوْمَئِذٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي قتالَ المشركينَ وصولَتَهم، ﴿ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ ؛ أي عُقُوبَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كِفْلٌ مِّنْهَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ :(الْكِفْلُ : الإثْمُ وَالْوِزْرُ). قال الفرَّاء وأبو عبيدٍ :(الْكفْلُ : الْحَظُّ وَالنَّصِيْبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾ ؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس :(مُقِيْتاً أيْ مُقْتَدِراً مُجَازياً بالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ)، قال الشاعرُ : وَذِي ضِعْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى مُسَاءَتِهِ مُقِيْتَاأي مُقْتَدِراً. وقال الزجَّاج :(الْمُقِيْتُ : الْحَفِيْظُ). قال الشاعرُ : ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذا حُو سِبْتُ أنِّي عَلَى الْحِسَاب مُقِيتُوقال مجاهدُ :(الْمُقِيْتُ الشَّاهِدُ). وقال الفرَّاء :(الْمُقِيْتُ الَّذِي يُعْطِي كُلَّ إنْسَانٍ قُوْتَهُ). وجاء في الحديثِ :" كَفَى بالْمَرْءِ إثْماً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقَوَّتُ - أو يُقِيْتُ - "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ مَعْنَاهُ : وأجيبُوا بمثلِ الذي سَلَّمَ عليكُم. وقال بعضُهم : معناهُ : وَإذا حُيِّيتُمْ بتَحِيَّةٍ ؛ أي إذا أهْدِيَ إليكم هديةً فَكَافِئُوا بأفضلَ منها أو مِثْلِهَا ؛ لأن التحيَّةَ في اللغة الْمِلْكُ، وكانوا يقولون قبلَ الإسلام : حَيَّاكَ اللهُ ؛ أي مَلَّكَكَ اللهُ ؛ ثم أبدلُوا بهذا اللفظِ بالسَّلامِ بعدَ الإسلامِ، وأقِيْمَ السلامُ مقامَ قولِهم : حيَّاكَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾ ؛ أي مُجَازِياً يعطي كلَّ شيء من العِلْمِ والحفظِ والجزاء مقداراً يَحْسِبُهُ ؛ أي يَكْفِيهِ، يقال : حَسْبُكَ هَذا ؛ أي اكْتَفِ به، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَطَآءً حِسَاباً ﴾[النبأ : ٣٦] أي كافِياً.
ثُمَّ أنَّهُمْ أرَادُواْ أنْ يَخْرُجُوا فِي تِجِارَتِهِمْ إلَى الشَّامِ، فَاسْتَبْعَضَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ وَقَالُواْ : أنْتُمْ عَلَى دِيْنِ مُحَمَّدٍ، فَإنْ لَقُوكُمْ فَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَخَرَجُواْ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهِيْنَ إلَى الشَّامِ، فَبَلَغَ ذلِكَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : مَا يَمْنَعُنَا أنْ نَخْرُجَ إلَى هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ رَغِبُواْ عَنْ دِيْنِنَا وَتَرَكُوهُ، نَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَنَقْتُلُهُمْ وَنَأْخُذُ مَا مَعَهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كَيْفَ نَقََتُلُ قَوْماً عَلَى دِيْنِكُمْ، وَكَانَ بحَضرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ سَاكِتٌ لاَ يَنْهَى أحَدَ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا يُبَيِّنُ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ شَأْنَهُمْ).
ومعناها : فِمَا لكُمْ من هؤلاءِ المنافقينَ حتى صِرْتُمْ في أمرِهم فرقتين من مُحِلٍّ لأموالِهم وَمُحَرِّمٍ، ﴿ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ ﴾ ؛ أي رَدَّهُمْ إلى كُفْرِهم وضلالَتِهم بما كَسَبُوا من أعمالِهم السيِّئَةِ، ونفاقِهم وخُبْثِ نِيَّاتِهم، وانتصاب (فِئَتَيْنِ) على الحالِ ؛ يقالُ : مَا لَكَ قََائِماً ؛ أي لِمَ قُمْتَ في هذه الحالةِ، وَقِيْلَ : على خَبَرِ (صار).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾ ؛ أي تريدون يا مَعْشَرَ المخلصينَ أن تُرْشِدُوا مَن خَذلَهُ اللهُ عن دِينه وحجَّته، وَقِيْلَ : معناهُ : أتقولونَ إنَّ هؤلاءِ مهتدون، ﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي لن تَجِدَ له هَادِياً، وَقِيْل : لن تَجِدَ لهُ طَريقاً إلى الْهُدَى. وقرأ عَبْدُاللهِ وأبَيّ :(واللهُ رَكَّسَهُمْ) بالتشديدِ.
وهذه الآية محمولةٌ على حالِ ما كانتِ الهجرةُ فَرْضاً كما قال ﷺ :" أنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أقَامَ بَيْنَ أظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ " ثم نُسِخَ ذلك يومَ فتحَ مكَّة كما روَى ابنُ عبَّاس قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام يَوْمَ الْفَتْحِ :" لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُواْ ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَكُونُونَ سَوَآءً ﴾ لَمْ يدخل جوابَ التَّمنِّي ؛ لأنه جوابَهُ بالفاءِ منصوبٌ، وإنَّما أرادَ العطفَ على معنى : وَدُّوا لو تكفرونَ وَوَدُّوا لو تكونُوا سواءً، مثلَ قولهِ :﴿ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾[القلم : ٩] أي وَدُّوا لو تُدْهنُ وودُّوا لو تُدْهِنُونَ، ومثلُه﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ ﴾[النساء : ١٠٢] أي وَودُّوا لو تَميلونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : ويَصِلُونَ إلى قومٍ جاؤُكم ضَاقَتْ صدورُهم أن يقاتِلوكُم مع قومِهم، ﴿ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ ؛ معكُم وهم بَنُو مُدْلَجٍ، ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ لَسَلَّطَ قوم هلالِ بن عويْمِر، وبنِي مُدْلَجٍ عليكم، ﴿ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ ؛ كما قَتَلْتُمُوهُمْ ظالِمين لهم، ﴿ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ ؛ أي فإنْ تركوكُم فلم يقاتِلُوكم مع قومِهم، واستسلَمُوا أو خَضَعُوا بالصُّلح والوفاءِ، ﴿ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي حُجَّةً في القتالِ وقال أهلُ النَّحْوِ : معنى ﴿ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ﴾ أي حَصِرَتْ. و(حَصِرَتْ) لا يكون حالاً إلاّ بعدَ ؛ قالوا : ويجوزُ أن يكون (حَصَرِتْ صُدُورُهُمْ) خبراً بعد خبرٍ ؛ كأنه قالَ : أو جاؤُكم، ثم أخبرَ بعدُ فقالَ :(حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقَاتِلُوكُمْ). وفي الشواذِّ :(أوْ جَاؤُكمُ حَصْرَةَ صُدُورُهُمْ).
وأمَّا اللامُ في ﴿ لَسَلَّطَهُمْ ﴾ فجوابُ ﴿ لَوْ شَاءَ اللهُ ﴾، واللاَّمُ في ﴿ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ للبدلية، والفاءُ فاءُ عطفٍ بمنْزِلة الواو.
وقد رويَ عن عطاءِ عنِ ابنِ عبَّاس :(أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[النساء : ٨٩] بآيَةِ السَّيْفِ، هِيَ مُعَاهَدَةُ الْمُشْرِكِيْنَ وَمَوَادَعَتُهُمْ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥]). ولأن الله تعالى أعَزَّ الإسلامَ وأهلَهُ ؛ فلا يُقْبَلُ من مشركي العرب إلاّ الإسلامُ أو السَّيْفُ بهذه الآيةِ، وقد أمرَنا اللهُ تعالى في أهلِ الكتاب بقتالِهم حتى يُسْلِمُوا أو يُعْطُوا الجزيةَ بقوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾[التوبة : ٢٩] إلى قولهِ تعالى :﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[التوبة : ٢٩] فلا يجوزُ مُدَاهَنَةُ الكفَّار وتركُ أحدِهم على الكفرِ من غيرِ جِزْيَةٍ إذا كان بالمسلمين قُوَّةٌ على القتالِ، وأما إذا عَجَزُوا عن مقاومتِهم وخافُوا على أنفسِهم وذراريهم جازَ لَهم مهادنةُ العدوِّ من غير جزيةٍ يؤدُّونَها إليهم ؛ لأن حَظْرَ الموادعةِ كان لسبب القوَّة ؛ فإذا زالَ السببُ زالَ الْحَظْرُ.
قال ابنُ عبَّاس :(هُمْ أسَدُ وَغَطَفَانُ ؛ كَانَوا حَاضِري الْمَدِيْنَةِ، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بالإسْلاَمِ وَهُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ قَوْمُهُ : بمَاذا آمَنْتَ ؟ وَلِمَاذا أسْلَمْتَ ؟ فَيَقُولُ : آمَنْتُ برَب العُودِ، وَبرَبِّ الْعَقْرَبِ وَبربِّ الْخَنْفُسَاءِ. يُرِيْدُونَ بهِ الاسْتِهْزَاءَ، فَإذا لَقُواْ مُحَمَّداً ﷺ وَأصْحَابَهُ قَالُواْ : إنَّا عَلَى دِيْنِكُمْ ؛ وَأظْهَرُواْ الإسْلاَمَ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى ذلِكَ بهَذِهِ الآيَةِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ ؛ أيْ فانْ لَمْ يتركوا قتالكم ولَمْ يَستَدِيموا لكم في الصُّلْحِ، ولَمْ يَمنعوا أيديَهم عن قتالِكم، ﴿ فَخُذُوهُمْ ﴾ ؛ أي إسِرُوهُمْ، ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ ؛ أي حيث وَجَدْتُمُوهُمْ، ﴿ وَأُوْلَـائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ ؛ أي أهل هذه الصفة جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة بالقتال معهم، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾[النساء : ٩٢] أي ما كانَ لِمؤمنٍ في حُكْمِ اللهِ أن يَقْتُلَ مؤمناً بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يكونَ وُقُوعُ القتلِ منه على وجهِ الخطأ، وهو ألاَّ يكونَ قاصداً قَتْلَهُ فيكونُ مرفوعَ الإثْمِ والعقاب.
واختلفَ المفسِّرون فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ ؛ قال ابنُ مسعودٍ :(فِي عَيَّاشِ بْنِ رَبيْعَةَ الْمَخْزُومِيِّ ؛ أتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ فَأَسلَمَ مَعَهُ، فَخَافَ أنْ يَعْلَمَ أهْلُهُ بإسْلاَمِهِ، فَخَرَجَ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ فَاخْتَفَى فِي جَبَلٍ مِنْ جِبَالِهَا ؛ فَجَزِعَتْ أمُّهُ جَزَعاً شَدِيْداً حِيْنَ بَلَغَهَا إسْلاَمُهُ وَخُرُوجُهُ إلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ فَقَالَتْ لأَبيْهَا الْحُرَيْثِ وَأبي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَاهُ لأُمِّهِ - : وَاللهِ لاَ يُظِلُّنِي سَقْفٌ وَلاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى تَأْتُونِي بهِ، فَخَرَجَا فِي طَلَبهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا الْحَرْثُ بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ، فَوَجَدَا عَيَّاشاً فِي أطَمٍ - أيْ جَبَلٍ - فَقَالاَ لَهُ : إنْزِلْ ؛ فَإنَّ أمَّكَ لَمْ يَأْوهَا سَقْفُ بَيْتٍ بَعْدَكَ، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ طَعَاماً وَلاَ تَشْرَبُ شَرَاباً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا، وَلَكَ عَلَيْنَا ألاَّ نُكْرِهَكَ عَلَى شَيْءٍ ؛ وَلاَ نَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ دِيْنِكَ، فَحَلَفُواْ لَهُ عَلَى ذلِكَ فَنَزَلَ إلَيْهِمْ، فَأَوْثَقُوهُ بنِسْعَةٍ ثُمَّ جَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
ثُمَّ قَدِمُواْ بهِ عَلَى أمِّهِ، فَلَمَّا أتَاهَا قَالَتْ لَهُ : وَاللهِ لاَ أحِلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بالَّذِي آمَنْتَ بهِ، ثُمَّ تَرَكُوهُ مَطْرُوحاً مَوْثُوقاً فِي الشَّمْسِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أعْطَاهُمُ الَّذِي أرَادُوا، فَأَتَاهُ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَيَّاشُ ؛ هَذا الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ الْهُدَى لَقَدْ تَرَكْتَ الْهُدَى، وَلَئِنْ كَانَ ضَلاَلَةً لَقَدْ كُنْتَ عَلَيْهَا، فَغَضِبَ عَيَّاشُ مِنْ مَقَالَتِهِ، قَالَ : واللهِ لاَ ألْقَاكَ خَالِياً إلاَّ قَتَلْتُكَ.
ومعناها : ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في قلتهِ مُسْتَحِلاًّ لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا باستحْلالهِ لَهُ وارتدادهِ عن إسلامهِ، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ ؛ بقَتْلِهِ غيرَ قاتلِ أخيهِ ؛ ﴿ وَلَعَنَهُ ﴾ ؛ أي بَاعَدَهُ من رحمتهِ، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ﴾ ؛ بجُرْأتِهِ على اللهِ بقتلِ نفسٍ بغير حقٍّ.
واختلفَ الناسُ في حُكْمِ هذه الآيةِ، قالتِ الخوارجُ والمعتزلة :(إنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً، وَهَذا الْوَعِيْدُ لاَحِقٌ بهِ). وقالت المرجئةُ :(إنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِناً، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً فَإنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِي النَّار).
وقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث : كُلُّ مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّار غَيْرَ مُؤَبَّدٍ يُخْرَجُ بشَفَاعَةِ الشَّافِعِيْنَ، وَزَعَمَتْ : أنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.
والصحيحُ : أنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً لا يَكْفُرُ بذلك ولا يخرجُ من الإيْمانِ ؛ إلاَّ إذا فَعَلَ ذلك مُسْتَحِلاً لهُ، فإنْ أقِيدَ بمن قتلَه فذلك كفارةٌ له، وإن كان تائِباً من ذلك ولم يكن مُعَاداً كانت التوبةُ أيضاً كفَّارةً له، فإنْ ماتَ بلا توبةٍ ولا قَوْدٍ فأمرهُ إلى الله ؛ إنْ شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذبه على فعلهِ ثم يخرجهُ بعد ذلك إلى الجنَّةِ التي وعدَهُ بإيْمَانهِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ الميعادَ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعيدِ يكونُ منه تَفَضُّلاً، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعدِ يكونُ خِلْفاً، تعالَى اللهُ عن الخلفِ عُلُوّاً كبيراً.
والدليلُ على أنَّ المؤمنَ لا يصيرُ بقتلهِ المؤمنَ كافراً، ولا خارجاً عن الإيْمان قَوْلُهُ تَعَالَى :
وعن الحسن :(أنَّ أنَاساً مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ لَقُوا أنَاساً مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَمَعَهُ مَتَاعٌ، فَلَمَّا غَشِيَهُ السَّيْفُ قَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ، فَكَذبَهُ ثُمَّ أوْجَرَ السِّنَانَ وَأخَذ مَتَاعَهُ، وَكَانَ وَاللهِ قَلِيْلاً، فَأُخْبرَ بذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَان :" وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ حِيْنَ جَاءَ السَّيْفُ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ بَيْنَما نَحْنُ نَطْلُبُ الْقَوْمَ وَقَدْ هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إذْ لَحِقْتُ رَجُلاً بالسَّيْفِ، فَلَمَّا أحَسَّ السَّيْفَ وَاقِعٌ بهِ، قَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ ؛ إنِّي مُسْلِمٌ ؛ فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" قَتَلْتَ مُسْلِماً! " قَالَ : يَا نَبيَّ اللهِ ؛ إنَّهُ قَالَ ذلِكَ مُتَعَوِّذاً، فَقَالَ :" فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبهِ! فَنَظَرْتَ أصَادِقاً هُوَ أمْ كَاذِباً " قَالَ : لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبهِ مَا كَانَ يُعْلِمُنِي ؛ هَلْ قَلْبُهُ إلاَّ بضْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ، قَالَ :" فَأنْتَ قَتَلْتَهُ ؛ لاَ مَا فِي قَلْبهِ عَلِمْتَ ؛ وَلاَ لِسَانَهُ صَدَّقْتَ ؛ إنَّمَا يُعَبرُ عَنْهُ لَِسانُهُ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ :" لاَ أسْتَغْفِرُ لَكَ " قَالَ : فَمَا لَبثَ الْقَاتِلُ أنْ مَاتَ فَدَفَنُوهُ ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إلَى جَانِب قَبْرِهِ، فَعَادُواْ فَحَفَرُواْ لَهُ وَأمْكَنُوا فَدَفَنُوهُ ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ثَلاَث مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأى ذلِكَ قَوْمُهُ اسْتَحْيَوا وَحَزِنُوا وَأخَذُواْ برِجْلِهِ فَألْقَوْهُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَاب، فَقَالَ ﷺ :" لاَ ؛ إنَّهَا لَتَنْطَبقُ عَلَى مَنْ هُوَ أعْظَمُ جُرْماً مِنْهُ، وَلَكِنْ أرَادَ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ حُرْمَةَ الدَّمِ ".
رويَ : أنَّهُ نَزَلَ أوَّلاً (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) فَجَاءَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ وَرَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ وَهُمَا أعْمَيَانِ، فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أمَرَ اللهُ بالْجِهَادِ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ، وَحَالُنَا عَلَى مَا تَرَى، فَهَلْ لَنَا مِنْ رُخْصَةٍ ؟ وَاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَجَاهَدْنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾ أي غير أولي الضرر فِي الْبَصَرِ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الأجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِيْنَ.
وروَى ابنُ أبي لَيْلَى ؛ قال :(لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) قَالَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ : اللَّهُمَّ أنْزِلْ عُذْري، فَنَزَلَ قَوْلُهُ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾ فَوُضِعَتْ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ بَعْدُ ذلِكَ يَغْزُو وَيَقُولُ : إدْفَعُواْ إلَيَّ اللِّوَاءَ ؛ وَيَقُولُ : أقِيْمُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ).
وعن زيد بن ثابت قال :(كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبيِّ ﷺ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، وَقَدْ أمْلَى عَليَّ قَوْلُهُ :﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فَعَرَضَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ فَثَقُلَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى فَخِذِهِ حَتَّى كَادَتْ تَنْحَطِمُ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾.
ومَن قرأ (غَيْرَ أوْلِي الضَّرَر) بالنصب فهو نصبٌ على الاستثناءِ، كأنَّهُ قالَ : إلاَّ أوْلِي، كما يقالُ : جاءَنِي القومُ غيرَ زيدٍ. ويجوزُ أن يكونَ على الحالِ ؛ أي لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ وَالمُجَاهِدُونَ، وهذا كما يقالُ : جاءَنِي زيدٌ غيرَ مريضٍ ؛ أي صَحِيْحاً.
ومن قرأ (غَيْرُ) بالرفعِ، فيجوزُ الرفعُ في استثناءِ الإثباتِ من النَّفي، ويجوزُ أن يكونَ (غَيْرُ) صفةٌ للقاعدين، وإنْ كان أَصلُ (غَيْرُ) أن تكونَ صفةً كما هو نكرةٌ. المعنى : لاَ يَسْتَوِي القاعدونَ الذي هُم غَيْرُ أولِي الضَّرَر والْمُجَاهِدُونَ في الفَضْلِ والثَّواب، وإن كانوا كلُّهم مؤمنين.
واختارَ بعضُهم قراءةَ الرفعِ ؛ لأنَّ معنى الصِّفةِ على لفظةِ (غَيْرُ) أغلبُ من معنى الاستثناء، واختارَ بعضُهم قراءةَ النصب لأن قولَه ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾ نزلَ بعد قولهِ :(لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سبيلِ اللهِ) فيكونُ معنى الاستثناءِ به ألْيَقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾ ؛ أي فَضِيْلَةً ومَنْزِلَةً ؛ ﴿ وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ ؛ أي وُكِلاَ الفريقين الْمُجَاهِدُ والقاعدُ وعدَهم اللهُ الْحُسْنَى يعنِي الْجَنَّةَ بالإيْمان. وفي هذا دليلٌ أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ ؛ لأنه لو كان فَرْضاً على الأعيانِ لَمْ يَجُزْ أن يكونَ القاعدُ عنه موعودٌ بالْحُسنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ أي فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهدين على القاعدينَ عنِ الجهادِ بغيرِ عُذر ثواباً حَسَناً في الجنَّة، فَقَوْلُهُ تَعَالَى :(أجْراً) نُصِبَ على التَّفسيرِ. وقال الأخفشُ :(عَلَى الْمُقَدَّر ؛ تَقْدِيْرُهُ : آجَرَهُمُ اللهُ أجَراً).
والفائدةُ في تكرار لفظ التفضِيل : أنَّ في الأول بيانُ تفضيلِ مَن جاهدَ بالمال والنفسِ جميعاً ؛ وفي آخرِ الآية بيانُ تفضيلِ الْمُجَاهِدِ مُطْلقاً، ويدخلُ فيه الْمُجَاهِدُ بالمالِ والنَّفْسِ، والْمُجَاهِدُ بالمالِ دونَ النفس، وبالنفس دونَ المالِ.
قولهُ :﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ؛ أي غَفُوراً لذنب مَن جاهدَ، رَحِيْماً إذ ساوَى في وعدِ الْحُسنى بينَ مَن له العذرُ وبين مَن جاهدَ.
فإنْ قِيْلَ : كيفَ ذكرَ التفضيلَ في هذه الآية بدرجاتٍ، وفي الآيةِ التي قبلها بدرجةٍ ؟ قُلْنَا : قالَ بعضُهم : أراد بذكرِ الدرجَة في الآيةِ الأُولى : الفضيلةَ والكرامةَ في الدُّنيا، وبذكرِ الدرجاتِ درجاتِ الجنَّة منال في النَّعيمِ، بعضُها أعلى من بعضٍ، وذكرَ المغفرةَ لبيانِ خُلُوصِ نعيمِهم عنِ الكَدَر، كما رويَ في الخبرِ :(أنَّ اللهَ يُنْسِيْهِمْ فِي الْجَنَّةَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوب فِي الدُّنْيَا حَتَّى لاَ يَلْحَقَهُمُ الْحَيَاءُ)، وذكرَ الدرجةَ لبيانِ أنَّ اللهَ أعطاهُم ذلكَ النفعَ العظيم على جهةِ النِّعْمَةِ مع ما يضافُ إليه من الفضلِ بالزيادة في النِّعْمةِ. وقال بعضُهم : أرادَ بالتفضيلِ في الدرجةِ في الآية الأُولى تفضيلَ الْمُجَاهِدِيْنَ على القاعدينَ المعذورينَ، وبالآيةِ الثانية تفضيلَهم على القاعدين الذين لا عُذْرَ لَهم.
ويجوزُ أن يكونَ معناهُ : فِيمَ كُنْتُمْ في المشركينَ أمْ فِي المسلمينَ ؟ ﴿ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي مَقْهُورُونَ في أرضِ مكَّة، فأخرَجُونا معهم كَارهينَ، قالتِ الملائكةُ :﴿ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً ﴾ ؛ يعني أرضَ المدينةِ واسعة أمِيْنَةً، ﴿ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ﴾ ؛ أي إليها، وتخرجُوا من بين أظْهُرِ المشركينَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ نُصِبَ على الحالِ بمعنى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ في حال ظُلْمِهِمْ لأنْفسِهم بالشِّركِ والنِّفَاقِ، والأصلُ (ظَالِمِيْنَ) إلاَّ أن النونَ حُذِفَتْ استخفافاً وهي ثانيةٌ في المعنى، فيكونُ هذا في معنى النكرةِ وإنْ أضيفََ إلى المعرفةِ، كما في قولهِ تعالى :﴿ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾[المائدة : ٩٥]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ أي تَقْبضُ أرواحَهم عند الموتِ، وإنَّما حُذفت التاءُ الثانية لاجتماع التَّاءين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ؛ أي أهلَ هذه الصِّفة مصيرُهم ومنْزِلتهم جهنمُ ؛ ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ ؛ لِمن صارَ إليها، واختلفوا في خَبَرِ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ ؛ قال بعضُهم : خبرهُ :﴿ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ﴾، أي قالوا لهم : فيما كنتم، قال بعضُهم خبرهُ :﴿ فَأُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾. وفي قولهِ تعالى :﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ﴾ دليلٌ أنهُ لا عذرَ لأحدٍ في المقام على المعصيةِ في بَلَدِهِ لأجلِ الْمَالِ والوَلَدِ والأهلِ، بل ينبغي أن يُفارقَ وَطَنَهُ إن لم يُمكنه إظْهَارُ الْحَقِّ فيهِ، ولِهذا رويَ عن سعيدِ بن جُبير أنه قالَ :(إذا عُمِلَ بالْمَعَاصِي فِي أرْضٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا)، ورويَ عن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" مَنْ فَرَّ بدِيْنِهِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ، وَإنْ كَانَ شِبْراً اسْتَوْجَبَ بهِ الْجَنَّةَ، وَكانَ رَفِيْقَ ابْرَاهِيْمَ وَمُحَمَّدٍ ﷺ "
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾ ؛ قال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ لاَ يَعْرِفُونَ طَرِيْقَ الْمَدِيْنَةِ). وقالُ ابنُ عبَّاس :(كُنْتُ أنَا وَأمِّي مِنَ الَّذِيْنَ لاَ يَسْتَطِيْعُونَ حِيْلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً، وَكُنْتُ غُلاَماً صَغِيراً يَومَئِذٍ، فَنَحْنُ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس : لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ﴾ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي اللَّيْثِ شَيْخٌ كَبيْرٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُعُ بْنُ ضَمِرَةَ فَقَالَ : أنَا وَاللهِ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ تَعَالَى فَإنِّي لاَ أجِدُ حِيْلَةً، وَاللهِ لاَ أبِيْتُ لَيْلَةً بَمَكَّةَ، فَخَرَجُواْ بهِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى سَريْرِهِ ؛ فَأَتَواْ بهِ التَّنْعِيْمَ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَصَفَّقَ بيَمِيْنِهِ عَلَى شِمالِهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذِهِ لَكَ وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أبَايعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ؛ فَمَاتَ حَمِيْداً.
فَبَلَغَ ذلِكَ أصْحَابَ النَّبيِّ ﷺ وَكَانُواْ يَقُولُونَ : لَوْ بَلَغَ إلَيْنَا لَتَمَّ أجْرُهُ، وَضَحِكَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُواْ : مَا أدْرَكَ مَا طلَبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً ﴾. أي مهاجِراً قومَهُ وأهلَه وولدَه إلى طاعةِ الله وطاعةِ رسوله ؛ ﴿ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ﴾ ؛ في الطريقِ ؛ ﴿ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ ﴾ ؛ فقد وجبَ ثوابهُ على اللهِ الْمَلِيءُ الوفِيُّ بوعدهِ، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً ﴾ ؛ بما كان منهُ في الشِّرْكِ ؛ ﴿ رَّحِيماً ﴾ ؛ بهِ في الإسلامِ.
وفي الآيةِ ذكرُ القَصْرِ من الصلاةِ بين شَرْطَيْنِ، وأجمعتِ الأُمَّةُ أن أصلَ القَصْرِ لا يَتَعَلَّقَ بهما وأن كلَّ واحدٍ منهما يؤثِّر في القصرِ نوعَ تأثيرٍ، فتأثيرُ السَّفرِ في القصرِ في العددِ في الصَّلاة الرباعيَّة، وتأثيرُ الخوفِ في القصرِ في أركان الصَّلاة إذا خافَ إنْ قامَ في الصلاة أن يراهُ العدوُّ، أو خاف أن ينزل عن الدابَّة أن يدركهُ العدوُّ، وكان لهُ ترك القيامِ، وأنْ يُؤمِئَ على الدابَّة، فيحتملُ أن حرفَ العطفِ مضمراً في قولهِ :﴿ إِنْ خِفْتُمْ ﴾ كأنهُ قال : وإنْ خِفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ الذينَ كَفَرُوا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ.
وقال الحسنُ :(صَلاَةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، فَإذا قامَ الْحَرْبُ فَرَكْعَةٌ) وهذا اللفظُ يقتضي القصرَ الذي هو في غاية في القصرِ متعلقٌ بشرطين على مذهبهِ. ورويَ :" أنَّ رَجُلاً سَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : كَيْفَ يَقْصُرُ النَّاسُ وَقَدْ أمِنُواْ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ؛ حَتَّى سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ ذلِكَ فَقَالَ :" صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا عَلَيْكُمْ ألاَ فَاقْبَلُواْ صَدَقَةَ اللهِ عَلَيْنَا " يقتضي إسقاطَ الفرضِ عنَّا. وفي قولهِ ﷺ :" فَاقْبَلُواْ صَدَقَتَهُ " دليلٌ أنَّ القصرَ عَزِيْمَةٌ لا رُخْصَةٌ ؛ لأن ظاهرَ الأمرِ على الوجوب، ولِهذا قال أصحابُنا : إنَّ المسافرَ إذا صَلَّى الظهرَ أربعاً، ولم يقعُد في الثانيةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صلاتُه، كمصلَّي الفجرِ أربعاً.
ومعنى الآيةِ : وإذا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ معَ المؤمنينَ في الغَزْو فابتدأتَ في صلاةِ الخوفِ ؛ فَلْيَقُمْ جَمَاعَةٌ منهُم معكَ في الصلاةِ ؛ وَلْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في صلاتِهم ؛ لأنَّ ذلك أهْيَبُ للعدوِّ، فإذا سَجَدَتِ الطائفةُ التي معكَ وصَلَّتْ ركعةً، فلينصرِفُوا إلى المصاف وليقفُوا بإزَاءِ العَدُوِّ ؛ ﴿ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ﴾ ؛ وهمُ الذينَ كانوا بإزاءِ العدوِّ، ولم يصلُّوا معكَ في الركعةِ الأُولى ؛ فليصلُّوا معكَ الركعةَ الأُخرى، ولْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في الصَّلاةِ، ولم يذكرْ في الآية لكلِّ طائفةٍ إلاّ ركعةً واحدةً.
وفي صلاةِ الخوفِ خلافٌ بين العلماء ؛ قال بعضُهم : إنَّها غير مشروعةٍ بعدَ رَسولِ الله ﷺ ؛ وهو روايةٌ عن أبي يوسف وهو قولُ الحسنِ بن زياد ؛ لأنَّ في هذه الآيةِ ما يدلُّ على كون النبيِّ ﷺ شَرَطٌ في إقامةِ صلاة الخوف ؛ ولأنَّها إنَّما جازَتْ للنبيِّ ﷺ لِيَسْتَدْركَ الناسُ فضيلةَ الصلاةِ خَلْفَهُ ؛ لأنَّ إمامةَ غيرهِ لَمْ تكن لتقومَ مقامَ إمامتهِ.
وذهبَ أكثرُ العلماء إلى أنَّ صلاةَ الخوف مشروعةٌ بعد النبيِّ ﷺ، وأنَّ الخطابَ في هذه الآيةِ وإنْ كان للنبيِّ ﷺ فالأئمَّةُ بعدَه يقومون مقامَه كما في قولهِ تعالى :﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾[التوبة : ١٠٣] ونحوِ ذلك من الآياتِ.
واختلفوا في كيفيَّة صلاةِ الخوف، فقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدٌ :(يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ ؛ طَائِفَةٌ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُ ؛ فَيُصَلِّي بهِمَا رَكْعَةً رَكْعَةً، ثُمَّ تَنْصَرِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ؛ وَتَجِيْءُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ تَرْجِعُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ بغَيْرِ سِلاَمٍ، وَتَأْتِي الأُوْلَى فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وحْدَاناً بغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَإذا سَلَّمَتْ وَقَفَتْ بإزَاءِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُوْلَى وحْدَاناً بقِرَاءَةٍ.
وعن أبي يوسُف :(إذا كَانَ الْعَدُوُّ فِي وَجْهِ الْقِبْلَةِ ؛ وَقَفَ الإمَامُ وَجَعَلَ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ؛ فَافْتَتَحَ بهِمُ الصَّلاَةَ مَعاً، فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً ؛ فإذا سَجَدَ الإمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، وَوَقَفَ الثَّانِي يَحْرِسُونَهُمْ، فَإذا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ؛ وَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ، وَيَقُومُ الصَّفُّ الثَّانِي فَيَرْكَعُ بهِمْ جَمِيْعاً، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ سَجْدَتَيْنِ، وَالصَّفُّ الآخَرُ يَحْرِسُونَهُمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ سَجْدَتَيْنِ لأنْفُسِهِمْ ؛ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الإمَامُ وَيُسَلِّمُ بهِمْ جَمِيْعاً).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ ﴾ ؛ أي رَجَعْتُمْ من سفرِكم وزالَ عنكمُ الخوفُ والمرض والقتالُ ﴿ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ ﴾ أي أتِمُّوها أربعاً بركوعِها وسُجودِها وسائرِ شروطها، ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ ؛ أي فَرْضاً مَفْرُوضاً مُوَقَّتاً أوقاته، ويقالُ : معلوماً فَرْضُهُ للمسافرين ركعتان ولِلْمُقِيْمِ أربعُ ركعاتٍ. وقال الأعمشُ :(مَوْقُوتاً ؛ أيْ مُؤْقَّتاً).
وفي رواية عن ابنِ عبَّاس :(أنَّ طُعَمَةَ سَرَقَ دِرْعاً ؛ وَكَانَ الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيْهِ نِخَالَةٌ، فَخَرَقَ الْجِرَابَ حَتَّى كَانَ يَتَنَاثَرُ النِّخَالَةُ بطُولِ الطَّرِيْقِ، فَجَاءَ بهِ إلَى دَارَ زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ الْيَهُودِيِّ وَتَرَكَهُ عَلَى بَاب دَارهِ، وَحَمَلَ الدِّرْعَ إلَى بَيْتِهِ، فَلَمَّا أصْبَحَ صَاحِبُ الدِّرْعِ جَاءَ إلَى زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ عَلَى أثَرِ النِّخَالَةِ، وَحَمَلَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). إنا أنزلنا إليك يا مُحَمَّدٌ القُرْآنَ إنْزالاً بالحقِّ، وَقِيْلَ :(بالْحَقِّ) أي بالأمرِ والنَّهي والفصلِ لتحكمَ بين الناسِ بما أعلمَكَ اللهُ وأوحَى إليكَ، ﴿ وَلاَ تَكُنْ ﴾ ؛ يَا مُحَمَّدُ ؛ ﴿ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾ ؛ أي لِطُعْمَةَ وقومهِ مُعِيْناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ وهو شاهدٌ لأفعالِهم ﴿ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ﴾ أي يُدَبِرُونَ، ويقولون بالليلِ قَوْلاً لا يرضاهُ اللهُ ؛ وهو اتَّفاقُ قول طُعْمَةَ على أنْ يَرْمُوا اليهوديَّ. وقَوْلُهَ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾ ؛ أي عالِماً لا يفوتهُ شيء كما لا يفوتُ الْمُحِيْطَ بالشيءِ.
وفي قراءة أبيّ :(جَادَلْتٌُمْ عَنْهُ فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا أخَذهُ بعَذَابهِ وأَدْخَلَهُ النَّارَ) ؛ ﴿ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ ؛ يتوكَّلُ بهم ويصلحُ أمرَهم ويحفظَهم من عذاب الله.
وَقِيْلَ : معناهُ من يعمل سُوءاً أو شِرْكاً ﴿ أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ يعني ما دونَ الشِّركِ، ﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ﴾ أي يتوبَ إلى اللهِ، ﴿ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾. وَقِيْلَ : أرادَ بالسُّوء : الكبيرةَ، ويَظْلِم النفسَ : الصغيرةَ.
وعن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ؛ قالَ :(حَدَّثَنِي أبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ : مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ الآيةُ).
وقد روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ عَرَفَ قَوْمُ طُعْمَةَ كُلُّهُمْ أنَّهُ هُوَ الظَّالِمُ، فَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِ وَقَالُواْ لَهُ : اتَّقِ اللهَ وَائْتِ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَبُوءُ بالذنْب، فَقَالَ : لاَ ؛ وَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ مَا سَرَقَهَا إلاَّ الْيَهُودِيُّ. فنَزل قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ ؛ أي وَمن يعمل معصيةً بغيرِ عمدٍ أو متعمِّداً ثُمَّ يَرْمِ بَرِيْئاً ؛ فقد استوجبَ عقوبةَ الْبُهْتَانِ برميهِ غيرَهُ بشيء لم يفعلَهُ ﴿ وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ أي ذنْباً بَيِّناً ظَاهِراً.
وَقِيْلَ : معناهُ :(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي بيمينهِ الكاذبة (أوْ إثْماً) بسرقةِ الدِّرْعِ وَرَمْيِ اليهودي. والْبُهْتَانُ : بَهُتَ الرَّجُلِ بمَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وقال الزجَّاج :(الْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الَّذِي يُتَحَيَّرُ مِنْ عِظَمِهِ).
وفي هذه الآياتِ دلالةٌ أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يخاصِمَ عن غيرهِ في إثباتِ حقٍّ أو نفيهِ وهو غيرُ عالِمٍ بحقيقةِ أمرهِ، وأنه لا يجوزُ للحاكمِ الْمَيْلُ إلى أحدِ الخصمين، وإن كان أحدُهما مُسلماً والآخرَ كافراً، وأن وجودَ السرقةِ في يدَيّ إنسانٍ لا يوجبُ الحكمَ بها عليهِ.
وذهب الزجَّاج :(إلَى أنَّ النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ : مَا تَفَرَّدَ بهِ الْجَمَاعَةُ وَالاثْنَانِ ؛ سِرّاً كَانَ ذلِكَ أوْ ظَاهِراً). وقال :(مَعْنَى : نَجَوْتُ الشَّيْءَ إذا خَلَّصْتَهُ وَأفْرَدْتَهُ، وَنَجَوْتُ فُلاناً إذا اسْتَسَرْتُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾ أي أوْ أمرٍ بمعروفٍ، ويسمى البرُ كلهُ معروفاً، قال ﷺ :" كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَوَّلُ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً أهْلُ الْمَعْرُوفِ، وَصَنَائِعُ الْْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارعَ السُّوءِ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ يعني الإصلاحَ بين المتخاصمين، وإصلاحَ ذاتِ البَيْنِ، قال ﷺ :" ألاَ أخْبرُكُمْ بأفْضَلِ دَرَجَةٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ " قَالُواْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" إصْلاَحُ ذاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، فَلاَ أقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّيْنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ معناهُ : من يفعل ذاك البرِّ والصلاحَ والصدقةَ لطلب مَرْضَاةِ اللهِ تعالى، لا لِلرَّيَاءِ والسُّمعةِ، ﴿ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ﴾ ؛ نُعْطِيْهِ ؛ ﴿ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ أي ثَوَاباً وَافِراً في الجنَّة.
فَلَمْ يَتُبْ طُعْمَةُ وَلَمْ يَنْدَمُ، وَأقََامَ عَلَى كُفْرِِهِ، ثُمَّ إنَّهُ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ ؛ فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَنَشَبَ فِيْهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَدْخُلَ وَلاَ يَخْرُجَ حَتَّى أصْبَحَ ؛ فَأَخَذهُ لِيَقْتُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : دَعُوهُ ؛ فَإنَّهُ قَدْ لَجَأَ إلَيْكُمْ وَتَحَرَّمَ بكُمْ فَاتْرُكُوهُ ؛ فَأَخَرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَ قَوْمٍ مِنَ التُّجَّارِ نَحْوَالشَّامِ ؛ فَنَزَلُواْ مَنْزِلاً فَسَرَقَ بَعْضَ مَتَاعِهِمْ وَهَرَبَ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ ؛ فَرَمَوْهُ بالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ ؛ فَصَارَ قَبْرُهُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ.
وقال الضحَّاك عن ابنِ عبَّاس :(إنَّ شَيْخاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا نبيَّ اللهِ ؛ إنِّي شَيْخٌ مَنْهَمِكٌ فِي الذُنُوب وَالْخَطَايَا ؛ إلاَّ أنِّي لاَ أُشْرِكُ بهِ شَيْئاً مُذْ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بهِ ؛ ولَمْ أتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً، وَلَمْ أقَعْ عَلَى الْمَعَاصِي جُرْأَةً عَلَى اللهِ وَلاَ مُكَابَرَةً لَهُ، وَلاَ تَوَهَّمْتُ طَرْفَةَ عَيْنِ أنْ أعْجِزَ اللهَ هَرَبَاً، إنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ مُسْتغْفِرٌ، فَمَا لِي عِندَ اللهِ؟. فًَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ نَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾. ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ ؛ أي فقد ذهَبَ عن الصواب والْهُدَى ذهاباً بعيداً، وَحُرِمَ الخيرَ كلَّه.
والفائدةُ في قوله ﴿ بَعِيداً ﴾ أنَّ الذهابَ عن الجنَّة على مراتبَ أبعجُها الشِّرْكُ باللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ﴾ ؛ أي ما يريدون بِعِبَادَةِ الأوثان إلاَّ عبادةَ الشَّيطانِ، وَالْمَرِيْدُ : الْعَاتِي الْخَارجُ عَنِ الطّاعَةِ، ويسمَّى الْمَرِيْدُ مَرِيْداً لِتَعَرِّيْهِ عَنِ الْخَيْرِ، يقال : شجرةٌ مَرْدَاءُ ؛ أي لا وَرَقَ عليها، وغلامٌ أمْرَدٌ : إذا لم يكن على وجههِ شعرٌ.
قوله تعالى :﴿ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ أي قالَ إبليسُ : لأَتَّخِذنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيْباً معلُوماً، فكلُّ ما أطِيْعَ فيه إبليسُ فهو مفروضٌ له.
والفرضُ في اللغة : الْقَطْعُ ؛ ومنهُ الْفُرْضَةً أي الثُّلْمَةُ، والفرضُ في القوس : ما شَدَّ به الوترُ، والفريضةُ في العباداتِ : الأمرُ الْحَتْمُ الْقَاطِعُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾[البقرة : ٢٣٧] أي جعلتم لَهُنَّ قطيعةً من المالِ، وأما قولُ الشاعر : إذا أكَلْتَ سَمَكاً وَفَرْضاً ذهَبْتَ طُولاً وذَهَبْتَ عَرْضَافالفرضُ هنا التَّمْرُ، سُمي فرضاً لأنه يؤخذُ من فرائضِ الصَّدقةَِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾ ؛ أي مَن يَتَّخِذْهُ ذنَاصِراً من دون اللهِ فقد غُبنَ غُبناً ظاهراً ؛ لأنه خَسِرَ الجنَّةَ والنعيمَ الذي فيها.
فإن قيل : كيفَ عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَتَّخِذُ من عبادِ الله نصيباً ؟ فيه أجوبةٌ ؛ منها : أنَّ اللهَ لَمَّا خاطبَهُ بقولهِ﴿ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾[هود : ١١٩] عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَنَالُ من ذرِّيةِ آدمَ ما تَمَنَّى. ومنها : أنه لَمَّا وََسْوَسَ لآدمَ فنَالَ منهُ ما نالَ، طَمِعَ في ذرِّيته. ومنها : أن إبليسَ يلَمَّا عَايَنَ الجنَّة والنارَ عَلِمَ أنَّ لَهَا سُكَّاناً من الناسِ).
وقوله :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ﴾ ؛ أي يَعِدُهُمْ أن لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ ؛ وَيُمَنِّيْهِمْ طُولَ البقاءِ في الدُّنيا ودوامَ نعيمِها ويُؤْثِرُوهَا على الآخرةِ، ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ ؛ أي بَاطِلاً، والْغُرُورُ : إيْهَامُ النَّفْعِ فيما فيه ضررٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً ﴾ ؛ انتصبَ (وَعْدَ) على المصدر، تقديرهُ : وَعَدَ لَهمُ اللهُ هذا وَعْداً حَقّاً كائناً ؛ ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ ؛ أي ليسَ أحدٌ أصدقَ مِنَ اللهِ قَوْلاً ووَعْداً.
وقال مجاهدُ :(الْمُخَاطَبُونَ بهَا عَبَدَةُ الأوْثَانِ ؛ فإنَّهُمْ قَالُواْ : لاَ نُبْعَثُ وَلاَ نُحَاسَبُ، وَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾. ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ ؛ ولا يَنْفَعُهُ تَمَنِّيْهِ، والمرادُ بالسُّوءِ الكُفْرُ.
وقال بعضُهم : المخاطَب بها المسلمونَ ؛ أي (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بهِ) أي ليسَ بأمَانِيِّكُمْ يا معشرَ المسلمين أنْ لا تُؤَاخَذُواْ بسُوءٍ بعد الإيْمانِ، ﴿ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ : لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارَى، من يعمَلْ معصيةًُ يُجْزَ بذلكَ ولا ينفعه تَمنِّيه.
روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :" يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَيْفَ الْفَلاَحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَقَالَ ﷺ :" غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ ؛ ألَسْتَ تَمْرَضُ ؟ ألَسْتَ تَنْصَبُ ؟ ألَسْتَ تُصِيْبُكَ الَّلأْوَاءُ ؟ " قَالَ : بَلَى، " فَهُوَ مَا تُجْزَونَ بهِ ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قَالَ :" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ :" قَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ". يقالُ : كلُّ ما يصيبُ المؤمنَ كفَّارَةٌ حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا في قدميهِ، والنَّكْبَةَ يَنْكَبُّهَا ".
قال عطاءُ :(لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :" هَذِهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَأيَّنَا لَمْ يَعْمَلُ سُوءاً، وَإنَّا لَمَجْزِيُّونَ بكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! قَالَ :" إنَّمَا هِيَ الْمُصِيْبَاتِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ". فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أبْقَتْ هَذَهِ الآيَةِ مِنْ شَيْءٍ، " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لَكُمَا أنْزِلَتْ ؛ وَلَكِنْ يًسِّرُواْ وَقَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ؛ إنَّهُ لاَ يُصِيْبَ أحَدُكُمْ مُصِيْبَةً فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَفَّرَ عَنْهُ بهَا خَطِيْئَةً ؛ حَتَّى الشّوءكَةَ يُشَاكُهَا فِي قًدَمِهِ ".
وقال الحسنُ في قولهِ تعالى :﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ قال (الْكَافِرُ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلاَ يُجَازَى يَوْمَ الْقيَامَةِ إلاَّ بأَحْسَنِ عَمَلِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) ثُمَّ قَرَأَ﴿ لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[الزمر : ٣٥] وقَرَأ﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾[سبأ : ٣٥].
ولولا السُّنة لأمكنَ ان يقالَ : إنَّ الآيةَ تنزلت في الكفَّار ؛ لأنَّ في سياقِ الآية :﴿ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ ؛ ومَنْ لم يكن لهُ يومَ القيامةِ ولِيٌّ ولا نصيرٌ كان كافراً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ضَمِنَ نصرَ المؤمنين في الدَّارَين فقالَ تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾[غافر : ٥١]. ولكنَّ الخطابَ إذا وَرَدَ مُجْمَلاً، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام كَانَ الْحُكمُ لِبَيَانِهِ لاَ لِلآيَةِ ؛ إذِ البَيَانُ إلَيْهِ ﷺ، قال اللهُ تعالى :﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾[النحل : ٤٤].
وَقِيْلَ : الْحَنِيْفُ : المستقيمُ في سُلُوكِ الطَّريقِ الذي أُمِرَ بسلوكِهِ. ومعنى الْمُحْسِنُ : ما رويَ عن النبيِّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الإحْسَانِ فَقَالَ :" أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ﴾ ؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس :(خَلِيْلاً أيْ صَفِيّاً). وَقِيْلَ : في معنى قوله :﴿ خَلِيلاً ﴾ وَجْهَانِ : أحدُهما الإصطفاءُ بالْمَحَبَّةِ، والإختصاصُ بالإسراءِ دون مَن لم تكن له تلك المنْزلةُ، والثانِي : من الْخِلّةِ وهو الحاجةُ، فخليلُ اللهِ : المحتاجُ إليه ؛ المنطقعُ بحوائجهِ إلى اللهِ تعالى دونَ غيرِه، وقد يُسمَّى الفقيرُ خَلِيْلاً، قال زهيرُ : وإنْ أتَاهُ خَلِيْلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُأي ولا ممنوعٌ.
فإذا أُريدَ به الوجهَ الأول ؛ جازَ أنْ يقالَ : إبراهيمُ خَلِيْلُ اللهِ ؛ واللهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ. وإذا أُريدَ الوجهُ الثانِي ؛ لم يَجُزْ أن يوصفَ اللهُ تعالى بأنهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ، وجاوز وصفهُ بأنَّهُ خليلُ اللهِ.
وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه عَن رسولِ الله ﷺ أنهُ قالَ :" اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ ؛ وَإفْشَائِهِ السَّلاَمَ ؛ وَصَلاَتِهِ باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ " فإنْ قيلَ : لِمَ كان اتِّباعُ ملَّةِ إبراهيمَ أوْلَى من اتِّباعِ مِلَّةَ غيرهِ من الأنبياءِ مثلَ عيسَى ومُوسَى ؟ قِيْلَ : إنََّ الفِرَقَ كلَّهم متَّفقونََ على تَعْظيمِهِ، ووجوب اتِّباعِ مِلَّتِهِ، وهو كان يدعُو إلى الْحَنِيْفِيَّةِ دونَ اليهوديَّة والنصرانيَّةِ.
ويقالُ : إنَّها نزلَت بعدَ نزولِ قولهِ تعالى :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾[النساء : ١١] إلى قولهِ﴿ عَلِيماً حَكِيماً ﴾[النساء : ١١] قَبْلَ نزولِ فَرْضِ الزَّوجاتِ، فجاؤوا إلى رسولِ اللهِ ﷺ يَسْتَفْتُونَهُ في ميراثِ أُمِّ كجة امْرَأةِ الْمُتَوَفَّى، فأنزلَ اللهًُ هذه الآيةَ ووعدَهم أن يُفْتِيْهِمْ في ميراثِ الزوجاتِ ؛ فأتَاهُمْ في ذلكَ بقولهِ تعالى :﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ﴾[النساء : ١٢] إلى آخرِ الآيةِ.
ومعنى الآية : يَسْتَفْتُونَكَ يا مُحَمَّدُ في أمرِ النِّسَاءِ وما يجبُ لَهنَّ من الميراثِ ؛ قُلِ اللهُ يُبَيِّنُ لكم ميراثَهُن، والذي يَقْرَأُ عليكُم في كتاب الله في أوَّلِ هذه السُّورةِ، يُفْتِيْكُمْ ويُبَيِّنُ لكم ما سَأَلْتُم } عنه في بناتِ أمِّ كجة اللاَّتِي لا تُعْطُوهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ من الميراثِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾[النساء : ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ ؛ أي ترغبون عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ فلا تعطوهُنَّ نصيبَهن من الميراثِ لِمَنْ يَرْغَبُ فيهنَّ غيرُكم ؛ وذلكَ أنَّ بَنِي أعْمَامِ تَلْكَ الْبَنَاتِ كَانُوا أوْلِيَاءَهُنَّ ؛ وَكَانُواْ لاَ يُعْطُونَهُنَ حَظَّهُنَ مِنَ الْمِيْرَاثِ، وَيَرْغَبُونَ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ، وَهذا قول ابنِ عبَّاس وابنِ جُيبر وقتادةَ ومجاهدٍ. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا والحسنِ :(أنَّ مَعْنَاهُ : وَتَرْغَبُونَ فِي أنْ تَتَزَوَّجُونَهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَلاَ تُعْطُوا لِهُمْ مَا أوْجَبَ اللهُ لَهُنَّ مِنَ الصَّداقِ). وفي كِلاَ القولين دليلٌ على جوازِ نِكَاحِ الأولياءِ لليتامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ ﴾ ؛ أي وفي (الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي في مِيْرَاثِ اليتامَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ﴾ ؛ أي وَفِي (أنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بالْقِسْطِ) في أموالِهم وحقوقهِم بالعدلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ ؛ أي مَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ في أمرِ اليَتَامَى والضِّعَافِ ؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ يَجْزِيْكُمْ على ذلكَ.
واختلفَ أهلُ النَّحوِ في موضعِ ﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ فذهبَ أكثرُهم إلى أنهُ مَوْضِعُ رَفْعٍ ؛ تقديرهُ : وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب يُفْتِيْكُمْ. وقال بعضُهم : هو في موضعِ خَفْضٍ تقديرهُ : وَفي مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، إلاَّ أن هذا الوجهَ أضعفُ من الأوَّل ؛ لأنه لا يصحُّ عطفُ الظاهرِ على المضمرِ بحرفِ الجرِّ من دونِ إعادة حرفِ الجرِّ.
وقال سعيدُ بن جُبير :(كَانَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ قَدْ كَبرَتُ ؛ وَكَانَ لَهَا سِتَّةُ أوْلاَدٍ، فَأَرَادَ أنْ يُطَلِّقَهَا وَيَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ : لاَ تُطَلِّقْنِي عَلَى أوْلاَدِي ؛ وَاقْسِمْ لِي فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ أوْ أكْثَرَ إنْ شِئْتَ، وَإنْ شِئْتَ لاَ تُقْسِمْ، فَقَالَ : إنْ كَانَ يَصْلُحُ ذلِكَ فَهُوَ أحَبُّ إلَيَّ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها :(وإنِ امْرَأةً خَافَتْ) أي عَلِمَتْ مِن زوجِها بُغضاً، أو إعْراضاً بوجههِ عنها لإيثار غيرها عليها. قال الكلبيُّ :(يَعْنِي : تَرَكَ مُجَامَعَتَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا وَمُجَالَسَتَهَا وَمُحَادَثَتَهَا ؛ فَلاَ جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأةِ أنْ يُصَالِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً مَعُلُوماً بتَرَاضِيْهِمَا ؛ وَهُوَ أنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ : إنَّكِ امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتِ فِي السِّنِّ ؛ وَأَنَا أُرِيْدُ أنْ أتَزَوَّجَ عَلَيْكِ امْرَأَةً شَابَّةً أوثِرُهَا عَلَيْكِ فِي الْقَسْمِ لَهَا لشَبَابهَا أوْ أزيْدُ فِي نصِيْبهَا مِنَ الْقَسْمِ، فَإنْ رَضِيْتِ وألاَّ سَرَّحْتُكِ بالأحْسَنِ وَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى. فَإنْ رَضِيَتْ بذلِكَ فَهِيَ الْمُحْسِنَةُ، وَحَلَّ لِلزَّوْجِ ذلِكَ).
كَمَا رُويَ " عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سَوْدَةَ ؛ فَسَأَلَتْهُ لِوَجْهِ اللهِ أنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَفَعَلْ ". ومثلُ هذا الصُّلْحِ لا يقعُ لازماً ؛ لأنَّها إذا أبَتْ بعدَ ذلكَ إلى المقاسَمَة على السؤالِ كان لَها ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ ؛ أي خيرٌ من الإقامةِ على النُّشُوز. وَقِيْلَ : خيرٌ من الفِرْقَةِ. ودخولُ حرفِ الشَّرطِ على السمِ في قولهِ تعالى :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ ﴾ فعلى تقديرِ فِعْلِ مُضْمَرٍ ؛ أي : وَإنْ خَافَتْ امْرَأَةٌ خَافَتْ، أو على التقديمِ والتأخير، كأنه قالَ : وَإنْ خَافَتِ امرأةٌ مِنْ بَعْلِهَا نُشوزاً، وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ ﴾[النساء : ١٧٦]، ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ﴾[التوبة : ٦] وهذا لا يكونُ إلاَّ في الفعلِ الماضي ؛ كما يقالُ : إنِ اللهُ أمكنَني ففعلتُ كذا، فأمَّا في المستقبلِ فيصُحُّ أن يُفَرَّقَ بين الَّتِي للجزاءِ وبين لفظِ الاستقبال، فيقالُ : إنِ امرأةٌ تَخَفْ ؛ لأنَّ (إنْْ) تحرمُ المستقبلَ فلا يفصلُ بين العاملِ والمعمول.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ ؛ أي جُبلَتِ الأنفسُ على الشُحِّ، فَشَُحُّ المرأةِ الكبيرة مَنَعَهَا من الرِّضَا بدون حقِّها، وتركِ بعضِ نصيبها من الرجلِ لغيرِها، وشُحُّ الرجلِ بنصيبهِ من الشَّابَّةِ يَمْنعُهُ من توقيرِ نصيب الكبيرةِ من القَسْمِ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ ؛ أي إن تُحسنوا العِشْرَةَ وتتَّقُوا الظُّلْمَ على النساء ؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ ؛ من الإحسانِ والْجُودِ، عالِماً بخيرِ عمِلكم، والسوءِ فيجزيكُم على ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ ؛ أي لا تَميلُوا إلى الشابَّة والجملَةِ بالفعلِ كلَّ الميلِ في الفقةِ والقسمة والإقبالِ عليها، فتتركُوا العجوزَ بغيرِ قسمة كالْمَنْبُوذةِ وَالْمَحْبُوسَةَ لا أيْمَ ولا ذاتَ بعلٍ. وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنه قال :" مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى أحْدَاهُمَا ؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شَقَّيْهِ مَائِلٌ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ ؛ أي وإنْ تُصْلِحُواْ ما أفْسَدْتُمُوهُ بإفرادِ الْمَيْلِ، فتَعْدِلُوا في القسمةِ بينَهُنَّ، وتتَّقوا الْجَوْرَ والعقوبةَ فيه، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ؛ لِمَا سَلَفَ منكُم من الظُّلْمِ عليهُنَّ رَحِيْماً بكم بعد التوبةِ.
ومِنْ حُكْمِ هذه الآيةِ : أنَّ الرجلَ إذا قَسَمَ لنسائهِ لا يجبُ عليه وطئُ واحدةٍ منهُنَّ ؛ لأنَّ الوطءَ لَذةٌ لهُ فهي حَقُّهُ، فإذا تركهُ لم يُجْبَرْ عليهِ، وليس هو كَالْمُقَامِ والنفقةِ، وعمادُ القَسِمْ الليلُ، ولا يُجامعُ المرأةَ في غيرِ يومِها، ولا يدخلُ بالليلِ على التي لم يَقسِمْ لَها، ولا بأسَ أن يدخلَ عليها بالنهار في حاجةٍ ويعودَها في مرضِها في ليلةِ غيرِها، فإنْ فَعَلَتْ فلا بأسَ أن يُقيم حتى تَشْفَى أو تَموت، فإن أرادَ أن يَقْسِمَ لَيليتين ليلتين أوْ ثَلاَثاً كانَ لهُ ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ ﴾ ؛ أي وإن تَجْحَدُوا وصيَّةَ اللهِ سُبحَانَهُ وتَعَالَى فلم تَعْلَمُوا بها، ﴿ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ ؛ من الملائكةِ، ﴿ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ مِن الْجِنِّ والإنسِ وسائر الْخَلْقِ، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً ﴾ ؛ عن عبادَتِكم، لا يضرُّهُ كُفْرُ من كَفَرَ منكم، ولا ينفعهُ طاعةُ مَن أطاعَ منكم، ﴿ حَمِيداً ﴾ ؛ مَحْمُوداً في ذاتهِ وفي خَوَاصِّ ملائكتهِ وعبادِه، حَمَدْتُمُوهُ أو لم تَحْمِدُوهُ. وَقِيْلَ : حامداً لِمن وَحَّدَهُ وأطاعَهُ.
وَالْقِسْطِ وَالإْقْسَاطُ : العَدْلُ، يقالُ : أقْسَطَ الرجلُ إقْسَاطاً إذاعدَلَ، وَأَتَّى بالْقِسْطِ وَقَسَطَ يَقْسِطُ قِسْطاً إذا جَارَ، قال اللهُ تعالى :﴿ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾[الحجرات : ٩] أي اعدِلُوا، وقالَ تعالى :﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾[الجن : ١٥] أي الجائِرُون.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ شُهَدَآءَ للَّهِ ﴾ نُصِبَ على أحدِ ثلاثةِ أوجُهٍ ؛ أحدُها : أنه خبرٌ ثَانٍ، كما يقالُ : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ. والثانِي : على الحالِ، كما يقالُ : هذا زيدٌ راكباً. والثالث : على أنه صِفَةُ الْقَوَّامِيْنَ، فإن قوَّامين نَكِرَةٌ، وشُهَدَاءَ نَكِرَةٌ، والنكرةُ تنعتُ بالنَّكرةِ. ومعنى ﴿ شُهَدَآءَ للَّهِ ﴾ أي شَهِدُوا بالحقِّ للهِ على ما كان مِن قريبٍ أو بعيدٍ.
وَقِيْلَ : معنَى الآية : كُونُوا قَوَّامِيْنَ بالعدلِ في الشَّهادةِ على مَن كانت وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبينَ في الرَّحِمِ ؛ فأقيمُوها عليهِم للهِ ولا تَخافُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ، ولا ترحَمُوا فقيراً لِفَقِرِهِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً ﴾ ؛ أي فلا تَتْرُكُوا الحقَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي قولُوا الحقَّ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ، والشهادةُ على النفسِ إقرارٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ أي على وَالِدِيكُمْ وعلى أقربائِكُم، وفي هذا بيانُ أنَّ شهادةَ الابن على الوالدين لا تكونُ عُقُوقاً، ولاَ يَحِلُّ للابن الامتناعُ عن الشهادةِ على أبَوَيْهِ ؛ لأنَّ في الشهادِ عليهما بالحقِّ مَنْعاً لَهما عن الظُّلْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ﴾ ؛ معناهُ : إن يكن المشهودُ عليه غَنِيّاً أو فقيراً فاللهُ أحقُّ بالغنيِّ والفقيرِ من عبادهِ من أحدِهم بوالدَيهِ وقَرَابَاتِهِ وأرحمُ وأرْأَفُ، فَأقيمُوا الشهادةَ للهِ، لا تَميلُوا في الشهادِةِ رحمةً للفقيرِ، ولا تقصدوا إقامتَها لاحتمال غِنى الغنيِّ ؛ أي لأجلِ غِنَاهُ، وعن هذا قال ﷺ :" أُنْصُرْ أخَاكَ ظَالِماً أوْ مَظْلُوماً " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِماً ؟ قَالَ :" أنْ تَرُدَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ فَإنَّ ذلِكَ نَصْرُهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ ﴾ ؛ معناهُ : ولا تتَّبعوا الهوَى لِتَعْدِلُوا، وهذا كما يقالُ : لاَ تَتَّبعِ الهوَى لِرِضَى رَبكَ. وَيُقَالُ : معناهُ : لا تَتَّبعُوا أنْ لا تعدِلُوا، ويقالُ : كراهةَ أنْ تعدلُوا، وهذا كقولهِ تعالى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾[النساء : ١٧٦] ويقالُ : معنى تَعْدِلُوا : تَمِيْلُوا من الْحَقِّ إلى الْهَوَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ ﴾ ؛ من قرأ (تَلْوُوا) بواوَين فمعناهُ : أن تُمَاطِلُوا في إقامةِ الشَّهادَةِ وتُقَلِّبُوا اللسانَ لتفسِدُوا الشهادةَ، أوْ تُعْرِضُوا عن إقامةِ الشَّهادةِ مأخوذٌ مِن لَوَى فُلاَنٌ فِي دِيْنِهِ ؛ أي دَافَعَ، ومنه قولهُ ﷺ :
ومعناها :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ ومُوسى والتَّوراةِ ﴿ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ مُحَمَّدٍ ﴿ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ﴾ يعني الكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ التَّوراةَ والإنْجِيْلَ والزَّبُورَ وسائرَ الكُتُب الْمُنَزَّلَةِ، ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ ؛ أي أخْطَأَ خَطَأً بَعِيْداً، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّا نُؤْمِنُ باللهِ وَبرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ ؛ وَكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ؛ وَكُلِّ رَسُولٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ ؛ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ، كما فَرَّقَتِ اليهودُ والنصارَى.
ومعنى الآية : يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمِنُوا بموسَى والتوارةِ وعيسَى والإنْجِيلِ آمِنُواْ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. قال أبُو العاليةِ وجماعةٌ من المفسِّرين :(هَذِهِ الآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ، وَتَأْوِيْلُهَا : يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمِنُواْ آمِنُواْ ؛ أيْ أقِيْمُواْ وَاثْبُتُواْ عَلَى الإيْمَانِ). وقال بعضُهم : إنَّها خطابٌ للمنافقينَ ؛ ومعناها : يا أيُّها الذينَ آمَنُوا في الْمَلأ آمِنُواْ في الْخَلاءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ أي من يَجْحَدْ بوحدانيَّةِ اللهِ تعالى وبملائكتهِ وكُتُبهِ ورسُلِهِ والبعثِ بعدَ الموتِ ؛ فقد أخْطَأَ خَطَأً بَعِيْداً عنِ الحقِّ والصواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ ؛ أي ما دَامُوا عل كُفْرِهم ؛ ﴿ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي ولا يُوَفِّقُهُمْ طَريقاً إلى الإسلامِ، ولكن يَخْذِلُهُمْ مُجَازاةً لَهم على كُفْرِهم. فإنْ قيلَ : إنَّ الله لا يغفرُ كُفْرَ مَرَّةٍ ؛ فما الفائدةُ في قوله ﴿ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ﴾ ؟ قِيْلَ : إنَّ الكافرَ إذا آمَنَ غُفِورَ لَهُ كفرُه، فإذا كَفَرَ بعد إيْمانهِ لم يُغْفَرْ لهُ كفرُه الأول، وهو مُطَالَبٌ بجَمِيْعِ كُفْرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ ؛ أي من جَالَسَهُمْ راضياً بما هُم عليه من الكُفْرِ والاستهزاءِ بآياتِ الله فهو مِثْلُهُمْ في الكُفْرِ ؛ لأن الرِّضَا بالكفرِ والاستهزاء كُفْرٌ، ومَن جَلَسَ معهُم سَاخِطاً لذلكَ منهم لم يَكْفُرْ، ولكنه يكونُ عاصِياً بالقعودِ معهم ؛ فيكونُ معنى قولهِ تعالى :﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾ أي في أصْلِ العِصْيِانِ وإن لم تبلُغْ معصيةُ المؤمنين معصيةَ الكفَّارِ، إذا لم يكن جلوسُ المؤمنينَ معهم لإقامةِ فَرْضٍ أو سُنَّةٍ، أما إذا كان جلوسُه هنالكمَ لإقامةِ عبادَةٍ وهو سَاخِطٌ لتلكَ الحالِ لا يقدرُ على تغييرها، فلا بأسَ بالجلوسِ. كما روي عن الحسن :(أنَّهُ حَضَرَ هُوَ وَابْنُ سِيْرِيْنَ ؛ فَذَكَرَ ذلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ : إنَّا كُنَّا مَتَى رَأَيْنَا بَاطِلاً تَرَكْنَا حَقّاً ؛ أشُرِعَ ذلِكَ فِي دِيْنِنَا!).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي يَجْمَعُهُمْ فِي جهنَّم مجازاةً لَهم لاجتماعهم في الدُّنيا للاستهزاءِ، فمن شاءَ لا يكونُ معهم في جهنَّم فلا يكونُ معهم في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي اذا كان لكم ظَفْرٌ ودَوْلَةٌ وغَنِيْمَةٌ، ﴿ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ ﴾ ؛ أي قالَ المنافقون : ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دِينِكم فَأَعطُونا من الغنيمةِ، ﴿ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ﴾ ؛ أي ظُهُورٌ على المسلمين ؛ ﴿ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي قالَ المنافقون : ألَمْ نُخْبِرْكُمْ بعَزِيْمَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وأصحابه، ونُطْلِعْهكُمْ على سِرِّهِمْ ونكتُبْ ذلكَ إليكُم ونحذِّرْكُم عنهُم ونُجِبْهم عنكُم ونُواليكُم، ﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ فاللهُ يقضِي بينَ المؤمنين والمنافقينَ والكفار ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي لم يجعلِ اللهُ لليهود ظهوراً على المؤمنينَ.
وَقِيْلَ السبيلُ : الْحُجَّةُ، ولن يجعلَ اللهُ للكافرين مِن اليهودِ وغيرِهم حُجَّةً على المسلمينَ في الدُّنيا والآخرةِ، وَقِيْلَ : معنى السَّبيْلِ : الدَّوْلَةُ الدَّائِمَةُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لن يُدْخِلَ اللهُ الكافرينَ الجنةَ ؛ فيقولون للمؤمنين : ما أغْنَى عنكُم تَعَبُكُمْ في الدُّنيا، وما ضَرَّنَا كُفْرُنَا بعد أن تَسَاوَيْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ أي مُجَازِيْهِمْ جزاءَ أعمالِهم ؛ وذلك أنَّهم على الصِّراطِ يُعْطَوْنَ نُوراً كما يغطَى المؤمنونَ ؛ فإذا مَضَوا بهِ على الصِّراطِ طُفِئَ نورُهم، ويبقى المؤمنون ينظرُون بنورهم، فينادُون المؤمنينَ : أنْظِرُونَا نَقْتَبسْ من نوركم، فيناديهم الملائكة على الصِّراطِ : ارجعوا وراءَكم فالتمسُوا نوراً، وقد علمُوا أنَّهم لا يستطيعون الرجوعَ، قال : فيخافُ المؤمنونَ حينئذٍ أن يُطْفَأَ نورُهم فيقولون : ربَّنَا أتْمِمْ لنا نورَنا، واغْفِرْ لنا إنَّكَ على كُلِ شيءٍ قديرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ ﴾ ؛ يعني المنافقينَ ؛ ﴿ قَامُواْ كُسَالَى ﴾ ؛ أي مُتَثَاقِلِيْنَ لا ير يدون بها وَجْهَ اللهِ تعالى، ﴿ يُرَآءُونَ النَّاسَ ﴾ ؛ ولا يريدُون الصلاةَ إلاّ مُرَاءَةً للناسِ خَوْفاً منهم، ﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لا يُصَلُّونَ للهِ إلاّ قليلاً ريَاءً وسُمْعَةً، ولو كانوا يريدون بذلكَ القليلِ وجهَ اللهِ لكانَ كثيراً.
وكان ﷺ يَضْرِبُ مَثَلاً لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَالْكَافِرِيْنَ كَمَثَلِ ثَلاَثَةٍ دُفِعُواْ إلَى نَهْرٍ ؛ فَقَطَعَهُ الْمُؤْمِنُ ؛ وَوَقَفَ الْكَافِرُ ؛ وَنَزَلَ فِيْهِ الْمُنَافِقُ، حَتَّى إذا تَوَسَّطَهُ عَجَزَ ؛ فَنَادَاهُ الْكافِرُ : هَلُمَّ إليَّ لاَ تَغْرَقْ، وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ : هَلُمَّ إلَيَّ لِتَخْلَصَ. فَمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذا أتَى عَلَيْهِ مَاءٌ فَغَرَّقَهُ، فَكَانَ الْمُنَافِقُ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ حَتَّى يَأَتِيْهِ الْمَوْتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي من يَخْذِلُهُ اللهُ عن الْهُدَى، فلن تَجِدَ له يا مُحَمَّدُ طريقاً إلى الْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾ ؛ أي مانعاً يَمنع عنهُم العذابَ، وعن عبدِالله بنِ عمرَ ؛ (أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ : الْمُنافِقُونَ ؛ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أصْحَاب الْمَائِدَةِ ؛ وَآلَ فِرْعُونَ). قال اللهُ تعالى في أصحاب المائدة :﴿ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴾[المائدة : ١١٥] وقالَ :﴿ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾[غافر : ١١٥] وقالَ :﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾.
فإن قِيْلَ : مَا وجهُ التَّوْفِيْقِ بين هذه الآيةِ وبينَ قولهِ تعالى :﴿ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾[غافر : ٤٦] ؟ قِيْلَ : لا يَمتنعُ أن يجتمعَ القومُ في موضعٍ واحد ويكون عذابُ بعضِهم أشدَّ من عذاب بعضٍ، ألا ترَى أن البيتَ الداخلَ في الحمَّامِ يجتمعُ فيه الناس، فيكون بعضُهم أشدَّ أذىً بالنار ؛ لكونه أدنَى إلى موضعِ الوَقُودِ. وكذلك يجتمعُ القوم في القعودِ في الشَّمس، ويتأذى الصَّفْرَاويُّ منها أشدُّ وأكثر من تأذِي السَّوْدَاوِيِّ.
والْمُنَافِقُ فِي اللغة : مأخوذ من النَّفَقِ ؛ وهو السِّرْبُ ؛ أي استَترَ بالإسلامِ كما يَسْتَتِرُ الرجلُ بالسِّرْب. وَقِيْلَ : هو مأخوذٌ من قولِهم : نَافَقَ الْيَرْبُوعُ ؛ إذا دخل نَافِقَاءَهُ ؛ فإذا طُلِبَ من النَّافِقَاءِ خرج من النافقاء ؛ والنَّفْقَاءُ ؛ والقَاصِعَةُ ؛ والرَّاهِطَاءُ ؛ وَالدَّامَّاءُ حُجْرَةُ اليربوعِ.
ولَمَّا حُذِفَتِ الياءُ من (يُؤْتَ) في الخطِّ، كما حذفت في اللفظ بسكونِها وسكون اللام في اسم اللهِ، فكذلكَ﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾[العلق : ١٨] و﴿ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾[القمر : ٦]. ويحتملُ أن يكون معنَى الآية : بَيَانُ زيادةِ الثواب لِمَنْ يَسْبقُ منه كفرٌ ولا نفاق، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾. (وَسَوْفَ) كلمة تَرْجِيَةٍ وإطْمَاعٍ ؛ وهي من اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيجابٌ ؛ لأنه أكرمُ الأكرمِين، وَوَعْدُ الكريمِ إنجازٌ.
ويقالُ معنى :﴿ إِن شَكَرْتُمْ ﴾ نِعَمَ اللهِ ﴿ وَآمَنْتُمْ ﴾ بهِ وبكتبه ورُسُلهِ. وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخير ؛ أي إن آمنتُم وشكرتُم ؛ لأنَّ الشُّكْرَ لا يقعُ مع عدمِ الإيْمان. وبيَّنَ اللهُ تعالى أن تعذيبَ عبادهِ لا يزيدُ في مُلْكِهِ، وأن تركَ عقوبتِهم على فعلهم لا يُنْقِصُ من سُلْطَانِهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾ ؛ أي شَاكِراً للقليلِ من أعمالكم ؛ مُثِيْباً عليها ؛ يقبلُ اليَسِير ؛ ويعطي الجزيلَ عليها بأضعافِها لكم ؛ واحدةٌ إلى عشرةٍ إلى سبعمائة إلى ما شاءَ اللهُ من الأضْعَافِ. والشُّكرُ من العبدِ : هو الاعترافُ النِّعمة الواصلةِ إليه مع صِدْقٍ من التعظيمِ، والشُّكْرُ من اللهِ تعالى : هو مجازاتهُ العبدَ على طاعتهِ.
ويقالُ :(إلاَّ مَنْ ظُلِمَ) استثناءٌ منقطع ؛ معناهُ : لكن المظلومُ يجهر بظَلاَمَتِهِ تَشَكِّياً. وفي تفسير الحسنِ :(لاَ يُحِبُّ اللهُ الْمُشْتِّمَ فِي الانْتِصَار إلاَّ مَنْ ظُلِمَ، فَلاَ بَأَسَ لَهُ أنْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ يمَا يَجُوزُ لَهُ الانْتِصَارُ بهِ فِي الدِّيْنِ). ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ ﴾[الشعراء : ٢٢٧]. قال الحسنُ :(لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ ((إذا قِيْلَ لَهُ)) : يَا زَانِي، أنْ يَقُولَ بمثْلِ ذلِكَ أوْ نَحْوهِ مِنْ أنْوَاعِ الشَّتْمِ). وقال مجاهدُ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الضَّيْفِ إذا لَمْ يُضَفْ وَمٌُنِعَ حَقَّهُ، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ أنْ يَشْكُو)، والضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ.
ومن قرأ [إلاَّ مَنْ ظَلَمَ] بنصب الظاء، فمعناهُ لكن الظالِمُ يجهرُ بذلك ظُلماً واعتداءً. وَقِيْلَ : لكن الظالِمُ إجْهَرُوا لهُ بالسُّوءِ من القولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ﴾ ؛ أي ﴿ سَمِيعاً ﴾ لدُعاءِ الْمَظْلُومِ ؛ ﴿ عَلِيماً ﴾ بعقوبةِ الظالِم. ويقالُ :(سَمِيْعاً) لجميع المسمُوعات ؛ ﴿ عَلِيماً ﴾ لجميع المظلُومات. فقولهُ تعالى :﴿ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ﴾ في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ ﴾ ؛ أي لا تَعْجَبْ من مسأَلَتِهم بعدما رَأَوا الآياتِ أعظمَ من ذلك، ﴿ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ ؛ أي مُعَايَنَةً ظاهرةً مكشفةً ؛ وهم السَّبعون الذين كانوا معه عند الجبلِ حين كلَّمَهُ اللهُ، فسألوهُ أن يَرَوا ربَّهم رؤيةً يدركونَهُ بأبصارهم في الدُّنيا. وقال أبو عُبيد :(مَعْنَى الآيَةِ : قَالُواْ جَهْرَةً أرنَا اللهَ) فَجَعَلَ جَهْرَةً صِفَةً لِقَوْلِهِمْ ؛ قال :(لأنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ تَكُونُ إلاَّ جَهْرَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ ؛ أي أخذتْهُم النارُ عقوبةٌ لَهم بسؤالِهم موسى ما لَمْ يستحقُّوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ ؛ أي عَبَدُوا العجحلَ من بعد ما جاءتْهُم الدَّلالاتُ على توحيدِ الله، وفي هذا بيانُ جَهْلِ اليهودِ وتَعَنُّتِهِمْ وعِنَادِهِمْ، وأيُّ جَهْلٍ أعظمُ من اتِّخَاذِ العِجْلِ إلَهاً، بعد ظُهُور المعجزاتِ وثُبوتِ الآيات البيِّنات.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ ﴾ ؛ أي تَجَاوَزْنَا عنهم بعد توبتِهم مع عِظَمِ جنايتِهم وجريْمَتهم ولم نَسْتَأْصِلْهُمْ، دلَّ اللهُ تعالى بذلكَ على سَعَةِ رحمتهِ ومغفرته وتَمام نِعْمَتِهْ ومِنَّتِهِ، بيَّنَ ذلك أنهُ لا جريْمَة تضيقُ عنها مغفرةُ اللهِ، وفي هذا مَنْعٌ من القُنُوطِ واستدعاءٌ إلى التوبة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ ؛ أي أعطيناهُ حُجَّةً على مَن خالفَهُ بيِّنةً ظاهرةً ؛ وهي اليَدُ والعصَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ﴾ ؛ أي قلنا لَهم : ادخُلُوا بابَ أريْحَيا إذا دخلتمُوها خاشعينَ للهِ مُنْحَنِيَةٌ أصلابُكم، فدخلوا زَحْفاً وبدَّلُوا ما قِيْلَ لَهم. ويقالُ أراد بالباب : البابَ الذي عَبَدُوا فيه العِجْلَ، أمَرَهُم اللهُ أن يدخلوه بعدَ تَوْبَتِهِمْ عن عبادةِ العِجْلِ ساجدين للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فيصيرُ ذلك كفَّارَةً لعبادةِ العجل.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ ﴾ ؛ أي قُلْنَا لَهَم مع هذا أيضاً : لا تَسْتَحِلُّوا أخْذ السَّمَكِ في يوم السَّبتِ. ومن قرأ (لاَ تَعَدُّوا) بتشديد الدَّال ؛ فأصلهُ : لا تَعْتَدُوا ؛ فَأُدْغِمَتِ الدالُ في الدال وأقيم التشديدُ مقامه. والقراءةُ بالتخفيف من عَدَا يَعْدُو عُدْوَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾، إقْرَاراً وثيقاً شَدِيداً يعني العَهْدَ الذي أخذهُ الله في التَّوارةِ فَأَبُواْ إلاّ مُضِيّاً على المعصيةِ وخُرُجاً عن الطاعةِ استخفافاً بأمرِ الله.
وقال الحسنُ :(فِي هَذَا تَقْدِيْمٌ وَتأخِيْرٌ ؛ مَعْنَاهُ : بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بكُفْرِهِمْ إلاَّ فقَلِيْلاً فَلاَ يُؤْمِنُونَ، وَالْمُرَادُ بالْقَلِيْلِ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ }. أما دخولُ (مَا) في قوله تعالى ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾ فمعناه التأكيدُ ؛ كأنه قالَ : فَينَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، وجوابُ قولهِ تعالى ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾ مضمرٌ في الآية ؛ تقديرهُ : فَبمَا نَقْضِهِمْ مِيْثَاقَهُمُ لَعَنَّاهُمْ، هذا لأنَّ أولَ الآيةِ ذمٌّ على الكفرِ، ومَن ذمَّهُ اللهُ فقد لَعَنَهُ، يعني مَن ذمَّهُ على الكُفْرِ. ويقالُ : إن الجالبَ للباقي قولَهُ :﴿ فَبِمَا ﴾ قولهُ تعالى مِنْ بَعْدُ﴿ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ﴾[النساء : ١٦٠] فقوله تعالى ﴿ فَبِظُلْمٍ ﴾ بدلٌ من ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾، وجوابُهما جميعاً﴿ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ ﴾[النساء : ١٦٠].
وذلك : أنَّ عِيْسَى عليه السلام اسْتَقْبَلَ رَهْطاً مِنَ الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ بْنُ السَّاحِرَةِ ؛ وَالْفَاعِلُ بْنُ الْفَاعِلَةِ، فَقَذَفُوهُ وَأمَّهُ، فَلَمَّا سَمِعِ بذلِكَ عِيْسَى، قَالَ : اللَّهُمَّ أنْتَ رَبي وَأنَا عَبْدُكَ ؛ بقُدْرَتِكَ خَرَجْتُ وَبكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي، وَلَم أُتَّهَمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ سَبَّنِي وَسَبَّ وَالِدَتِي. فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَمَسَخَ ذَلِكَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ سَبُّوهُ وَسَبُّوا أُمَّهُ خَنَازِيْرَ، وَكَانُواْ رَمَوا أُمُّهُ بيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَانَانَ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَتَلْنَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ وَجْهَهُ وَجْهَ عِيْسَى وَجَسَدَهُ جَسَدَ صَاحِبنَا، فَإنْ كَانَ هَذا عِيْسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا ؟ وَإنْ كَانَ هَذَا صَاحِبُنَا فَأَيْنَ عِيْسَى ؟ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَفُواْ فِيْهِ، ثُمَّ بَعَثَّ عَلَيْهِمْ طَاطُوسَ بْنُ اسْتِيبَانْيُوسُ الرُّومِيُّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيْمَةَ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ قولُ اللهِ خاصَّة لا قولَ اليهودِ، وكانت اليهودُ تُقول : عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ، قال اللهُ تعالى :﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ أي يَعْنُونَ الذي هو رَسُولُ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ ؛ أي ومَا قَتَلُوا عيسَى وما صَلَبُوهُ ولكن ألْقَى اللهُ على طِيْطَانُوسُ شَبَهَ عِيْسَى فقتلوهُ ؛ وَرُفِعَ عِيْسَى إلى السَّماءِ. قال الحسنُ : إنَّ عِيْسَى عليه السلام قَالَ لِلْحَوَارِيِّيْنَ : أيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ فَيَدْخُلَ الجنَّةَ ؛ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَوَارِيِّيْنَ فَقَالَ : أنَّا يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَلْقَى اللهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيْسَى ؛ فَقُتِلَ وَصُلِبَ، وَرَفَعَ اللهُ عِيْسَى إلَى السَّمَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ ؛ أي مِنْ قَتْلِهِ، قال الكلبيُّ :(اخْتِلاَفُهُمْ فِيْهِ : أنَّ الْيَهُودَ قَالُواْ : نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى : بَلْ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ، فَمَا قَتَلَهُ هَؤُلاَءِ وَلاَ هَؤُلاَءِ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ).
ويقال : إنَّ الله تعالى لَمَّا ألقَى شَبَهَ عِيسَى على طيطانوسُ ألقاهُ على وجههِ دون جَسَدِهِ، فَلَمَّا قَتَلُوا طيطانوس ؛ نَظَرُوا إليهِ فإذا وجههُ وجهُ عيسَى وجسَدُه غيرُ جَسَدِ عيسَى، فقالوا : إن كان هذا عيسَى، فأينَ صاحبُنا ؟ وإن كانَ صاحِبُنا فأينَ عيسَى ؟ فقال اللهُ تعالى :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾ ؛ نَعْتٌ كمصدرٍ محذوف تقديرهُ : وَمَا عَلِمُوهُ عِلْماً يَقِيْناً.
وَقِيْلَ : معناهُ : قبلَ موتِ عيسَى، وهذا قولُ الحسنِ وقتادةَ والربيعِ ؛ جعلوا هاتَين الكنايَتين في (بهِ) و (مَوْتِهِ) راجعينَ إلى عيسَى عليه السلام، والقولُ الأولُ هو قول عكرمةَ ومجاهدُ والسُّدِّيُّ ؛ جعلوا الهاءَ في قولهِ (به) راجعةً إلى عيسَى، وفي قوله (مَوْتِهِ) راجعةً إلى الكتابيِّ الذي يؤمنُ به إذا عايَن الموتَ، وهي روايةٌ عنِ ابن عبَّاس ؛ قالوا :(لاَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ وَلاَ صَاحِبُ أوْ أكَلَهُ سَبْعٌ أوْ مِيْتَةٍ كَانَتْ) حَتَّى قيلَ لابنِ عبَّاس :(أرَأيْتَ إنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ ؟ قال : تَكَلَّمَ بهِ الْهَوْيِ ؛ قِيلَ لَهُ : رَأَيْتَ لَوْ ضُرِبَتْ عُنُقُ أحَدِهِمْ ؟ قَالَ : تَلَجْلَجَ بهِ لِسَانُهُ). يدلُّ على صحَّة هذا التأويلِ قراءةُ أُبَيٍّ (قَبْلَ مَوْتِهِمْ).
قال شَهْرُ بن الْحَوْشَب :(قَالَ لِيَ الْحَجَّاجُ يَوْماً : إنَّ آيَةً مِنْ كِتَاب اللهِ مَا قَرَأتُهَا إلاَّ تَلَجْلَجَ لِي فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ، قُلْتُ : وَمَا هِيَ ؟ قالَ :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ وَإنِّي لأُوْتَى بالأَسِيرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ، فَمَا أسْمَعُهُ يَقُولُ شَيْئاً.
قُلْتُ : إنَّ الْيَهُودِيَّ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ؛ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ ؛ وَتَقُولُ لَهُ : يَا عَدُوَّ اللهِ ؛ أتَاكَ عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذبْتَ بهِ، فَيَقُُولُ : إنِّي آمَنْتُ بهِ إنَّهُ عَبدٌ نَبيٌّ، فَيُؤْمِنُ بهِ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ، وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ لِلنَّصْرَانِيِّ : يَا عَدُوَّ اللهِ ؛ أتَى عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذْبتَ بهِ وَقُلْتَك إنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ، فَيَقُولُ : إنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ.
قَالَ الْحَجَّاجُ : وَمَنْ حَدَّثَكَ بهَذا الْحَدِيْثِ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنِي بهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ :- وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ - ثُُمَّ نَكَثَ فِي الأَرْضِ بقَضِيبَةٍ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ إلَيَّ وَقَالَ : أخَذْتَهَا مِنْ مَعْدَنِهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ : فَقُلْتُ لِشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ : وَمَا الَّذِي أرْدَتَ بقَوْلِكِ لِلْحَجَّاجِ : حَدَّثَنِي بذلِكَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ يَكْرَهُهُ، وَيَكْرَهُ مَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ ؟ قَالَ : أرَدْتُ أنْ أغِيْظَهُ).
وحُجَّةُ من قال : إنَّ الهاءَ في قوله ﴿ مَوْتِهِ ﴾ راجعةٌ إلى عيسَى : ما رويَ في الخبرِ عن النبيِّ ﷺ :[أنَا أوْلَى النَّاسِ بعِيْسَى ؛ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبيٌّ، وَيُوْشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمْ حَكَماً عَدلاً، فَإذا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْْقِ إلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، كَأَنَّ رَأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيْرَ ؛ وَيُرِيْقُ الْخَمْرَ ؛ وَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ ؛ وَيُذْهِبُ السَّحَرَةَ ؛ وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإسْلاَمِ ؛ وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيْحَ الضَّلاَلَةِ الْكَذَابَ الدَّجَّالَ ؛ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب وَقْتَ نُزُولِهِ إلاَّ يُؤْمِنُ بهِ، وَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي زَمَانِهِ حَتَّى تَرْتَعَ الإبلُ مَعَ الأُسُودِ ؛ وَالْبَقَرُ مَعَ النُّمُورِ ؛ وَالْغَنَمُ مَعَ الذِّئّاب، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بالْحَيَّاتِ، لاَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعضاً، ثُمَّ يَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أرْبَعيْنَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُوهُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ أي خَلَقْنَا وهيَّأْنا للكافرينَ منهم عذاباً وَجِيْعاً يَخْلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم، وإنَّما خصَّ الكافرينَ لبيانِ أن مَن يؤمنُ منهم غيرُ داخلٍ في هذا الوعيدِ.
ثُمَّ استثنىَ اللهُ تعالى منهم مَن آمَنَ، فقال تعالى :﴿ لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ ؛ أي لكن التائبون مِن أهلِ الكتاب وهم عبدُالله بنُ سلامٍ وأصحابُه، وسَمَّاهم ﴿ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ لثباتِهم في العِلْمِ وتَبَحُّرِهِمْ فيه ؛ لا يضطربون ولا تَميلُ بهم الشُّبَهُ، بمنْزِلة الشجرةِ الرَّاسخةِ بعروقِها في الأرض.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي والمؤمنونَ مِن غير أهل الكتاب من أصحاب رسول الله ﷺ يصدِّقون بما نزل إليكَ من الفُرْقًانِ، وما فيه من تَحريم هذهِ الأشياء عليهم، ويصدِّقون بما أُنْزِلَ من قبلِكَ على الأنبياءِ من الكُتُب، ﴿ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ﴾ ؛ يجوزُ أن يكونَ معناهُ : يؤمنونَ بالنبيِّين المقيمينَ الصلاةَ، فيكون قولهُ ﴿ وَالْمُقِيمِينَ ﴾ نَسَقاً على قولهِ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾[النساء : ٦٠].
ويجوزُ أن يكون نَصْباً على المدحِ على معنى : أعْنِي الْمُقِيْمِيْنَ الصَّلاَة ؛ وَهُمْ :﴿ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ ؛ كما يقال : جاءنِي قومُكَ الْمُطْعِمُونَ فِي الْمَحَلِّ ؛ وَالْمُعِيْنُونَ فِي الشَّدَائِدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ﴾ ؛ أي الْمُصَدِّقُونَ باللهِ وبالبعثِ بعدَ الموتِ أولئكَ سنعطيهم ثَواباً وافِراً في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ ﴾ ؛ وهم بنو يعقوبٍ عليه السلام وهم اثْنَا عشرَ رَجُلاً، وَ ؛ إلَى ؛ ﴿ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا ﴾ ؛ أي أعْطَيْنَا ؛ ﴿ دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ ؛ والزَّبُورُ : هو الكتابُ، مأخوذٌ من الزُّبْرِ ؛ وهو الكتابةُ، ومن قرأ زُبُوراً بضَمِّ الزَّاي وهو الأعمشُ وحمزةُ وابن وثَّاب ؛ فمعناهُ : الكتُبُ على الْجَمْعِ.
فإن قيلَ : كيفَ قدَّمَ اللهُ ذكر عِيْسَى على ذِكْرِ أيُّوبَ ويونُسَ وهارونَ وسليمان وداوُدَ، وهو مِنْ بعدِهم ؟ قِيْلَ : لأنَّ الواوَ للجمعِ دون الترتيب، فتقديمُ ذِكْرِهِ في الآيةِ لا يوجبُ تقديْمَهُ في الْخَلْقِ والإرسال، والفائدةُُ في تقديْمهِ في الذكرِ : الردُّ على اليهودِ، وَلِغُلُوِّهِمْ في الطَّعْنِ وفي نَسَبهِ، فقدَّمهُ اللهُ في الذكرِ ؛ لأن ذلك أبلغَ في كُتُب اليهودِ وفي تَنْزِيْهِهِ مِمَّا رُمِيَّ به ونُسِبَ إليهِ.
وعن أبي ذرٍّ قال : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَمْ كَانَتِ الأنْبيَاءُ ؟ وَكَمْ كَانَ الْمُرْسَلُونَ ؟ قَالَ :(كَانَتْ الأنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ مَائَةَ ألْفٍ وَأرْبَعَةً وَعِشْرِيْنَ ألْفاً، وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ ثَلاَثَمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ).
وعن كعب الأحبار أنه قالَ :(الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ألفَا ألفٍ ومائتا الفٍ وخمسَةٌ وعشرون ألفاً، والمرسلُ ثلاثُمائة وثلاثة عشر. وكان داودُ عليه السلام قد أُنْزِلَ عليه الزبورُ، وكان يَنْزِلُ إلى البرَِّية ويقرأ الزبورَ ؛ فيقومُ معه علماءُ بني إسرائيلَ خَلْفَهُ ؛ ويقومُ الناسُ خَلْفَ العلماءِ، وتقومُ الْجِنُّ خلفَ الناسِ، وتجيءُ الدوابُ التي في الجبالِ إذا سَمعت صوتَ داودَ فِيَقُمْنَ بين يديه تَعَجُّباً لِمَا يسمعنَ من صوتهِ، وتجيءُ الطيرُ حتى يُظَلِّلْنَ على داودَ في خلائقِ لا يحصيهنَّ إلاّ اللهُ يُرَفْرِفْنَ على رأسهِ، وتجيءُ السِّبَاعُ حتى تحيطَ بالدواب والوحشِ لما يسمعنَ، ولما قَارَنَ الذنْبَ لم يَرَ ذلك، فقيلَ لهُ : ذلكَ أنْسُ الطاعةِ، وهذه وَحْشَةُ المعصيةِ.
وعن أبي موسَى الأشعريِّ قالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ :" لَوْ رَأيْتَنِي الْبَارِحَةَ وَأَنا أسْتِمِعُ لِقِرَاءَتِكَ، لَقَدْ أعْطِيْتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ " فَقَالَ : فَقُلْتُ : أمَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لَوْ عَلِمْتَ أنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ تَحْبيْراً. وكان عمرُ رضي الله عنه اذا رأىَ أبَا موسَى عليه السلام قال :" ذكِّرْنَا يَا أبَا مُوسَى " فيقرأهُ عندَهُ ". وعن أبي عثمان النَّهْدِيِّ ؛ قالَ :(مَا سَمِعْتُ قَطُّ بُرْبُطاً وَلاَ مِزْمَاراً وَلاَ عُوداً أحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أبي مُوسَى، وَكَانَ يَؤُمُّنَا فِي صَلاَةِ الْغَدَاةِ فَنَوَدُّ أنَّهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ).
وفي تفسير الكلبيُّ :(أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ؛ وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى النَّاسِ ؛ قَالَ الْيَهُودُ فِيْمَا بَيْنَهُمْ : مَا نَرَى مُحَمَّداً يَقْرَأُ بمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى ؛ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إلَيْهِ كَمَا أُوْحِيَ إلَى النَّبِيِّيْنَ مِنْ قَبْلِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ؛ فَقَالُواْ ؛ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ ذكَرَهُ فِيْمَنْ ذَكَرَهُ وَفَضَّلَهُ بالْكَلاَمِ عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ﴾ ؛ وفائدة تخصيصِ موسَى عليه السلام بالكلامِ مع انَّ اللهَ تعالى كَلَّمَ غيرَه من الأنبياءِ، ؛ لأنه تعالى كَلَّمَهُ من غيرِ واسطةٍ ؛ وَكَلَّمَ غيرَه من الأنبياء بالْوَحْيِ إليهم على لِسَانِ بعضِ الملائكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَكْلِيماً ﴾ ؛ يدلُّ على التأكيدِ كَيْلاَ يحملَ كلامُ الله إياهُ على معنى الوَحْيِ إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ ؛ أي على عِلْمِ منهُ بأنَّكَ أهْلٌ لإنْزَِالِهِ عليكَ، وعَلِمَ من يَقْبَلُ ومن لا يقبلُ كما قالَ اللهُ تعالى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾[الأنعام : ١٢٤]. وَقِيْلَ : معناهُ :(أنْزَلَهُ بعِلْمِهِ) أي عَلِمَ ما فيهِ من الأحكامِ وما تحتاجُ إليه العبادُ من أمرِ دِينهم ودُنياهم ثُمَّ أنْزَلَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : بل وَصَلَ إليكَ كما كان في اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ﴾ ؛ أي يشهدونَ على شهادَةِ اللهِ، وعلى شهادتِكَ بأنَّ الذي شَهِدْتَ به حَقٌّ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ ؛ أي اكْتَفُوا باللهِ شهيداً في شهَادَتِهِ أن تَشْهَدَ اليهودُ بما في كتابهم.
ثم بيَّن عقوبتَهم في الآخرةِ فقالَ تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ ؛ أي إنَّ الذينَ كفرُوا بما يجبُ الإيْمان به ظَلَمُوا أنفسَهم بكُفْرِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ مَا دا مُوا على كُفْرِهم، ﴿ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ﴾ ؛ إلَى الإسلامِ، ﴿ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ لكن تَرَكَهُمْ على طريقِ جَهَنَّمَ وهو الكفرُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يُرْشِدُهُمْ في الآخرةِ إلى طريقٍ غيرَ طريق جهنم، كما في قولهِ تعالى :﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾[الصافات : ٢٣]، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ ؛ التَّخْلِيْدُ والتعذيبُ، ﴿ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ﴾ ؛ سَهْلاً هَيِّناً.
قال الخليلُ والبصريُّون :(انْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى :(خَيْراً) لأنَّكَ إذا أمَرْتَ بفِعْلٍ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ ؛ تَقْدِيْرُهُ : إئْتُوا خَيْراً لَكُمْ، وَإذا نَهَيْتَ عَنْ فِعْلِ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ ؛ تَقْدِيْرُهُ : إئْتِ بَدَلَهُ خَيْراً لَكُمْ). وقال الفرَّاءُ :(انْتَصَبَ لأنَّهُ مُتَّصِلٌُ بالأَمْرِ وَهُوَ مِنْ صِفَتِهِ) تَقْدِيْرُهُ : هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فَلَمَّا سَقَطَ هُوَ اتَّصَلَ بَما قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذا : انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. وقال الكسائيُّ :(انْتَصَبَ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْكَلاَمِ) وقال :(هَذا إنَّمَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلاَمِ التَّامِّ، نَحْوَ قَوْلِكِ : لَتَقُومَّنَّ خَيْراً لَكَ، وَانْتَهِ خَيْراً لَكَ، وَإذا كَانَ الْكَلاَمُ نَاقِصاً رَفَعُواْ، فَقَالَ : أنِ انْتَهُواْ خَيْرٌ لَكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي إنْ تَكْفُرُوا يُعَاقِبْكُمُ اللهُ، فَإنَّ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. وَقِيْلَ : إنْ تكفرُوا فإنَّ الله غَنِيٌّ عنكُم، لكونهِ مَالكَ السَّمَوات والأرضِ، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ ؛ أي لَمْ يَزَلْ عَلِيْماً بخلقهِ، بمن يؤمنُ وبمن لا يؤمنُ، حَكِيْماً في أمرهِ، حَكمَ بالإسلامِ على عبادهِ.
ويقالُ : إنَّ الآيةَ خطابٌ لليهودِ والنصارى ؛ لأنَّ اليهودَ أيضاً غَلَوا في أمرِ عيسَى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ مَنْ وُلِدَ على غيرِ الطَّهارةِ فجعلوهُ لغيرِ رُشْدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ أي لا تَصِفُوا اللهَ إلاَّ بالحقِّ، والحقُّ أن يقالَ : إلَهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ، وينَزِّهُهُ عن القبائحِ والنَّقَائصِ وعن جميعِ صفاتِ الْمُحْدَثِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ليسَ المسيحُ إلاَّ رَسُولَ اللهِ ؛ لأن (إنَّمَا) تقتضِي تحقيقَ المذكور وتَمحِيْقَ ما سواهُ، كقولهِ تعالى :﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ ﴾، وفي قولهِ :﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾ بيانٌ أنهُ لا يجوز أن يكونَ إلَهاً ؛ أي كيفَ يكون إلَهاً وهو ابنُ مَرْيَمَ أمَةُ اللهِ ؟ وكيفَ يكون إلَهاً وَأمُهُ قَبْلَهُ. قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ ؛ أي أنهُ كان بكلمتهِ عَزَّ وجَلَّ وهو قولهُ :(كُنْ) فَكَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : أمْرٌ مِنَ اللهِ عَزَّوَجَلَّ ؛ أتَاهَا جِبْرِيْلُ بأَمْرِ اللهِ فَنَفَخض فِي جَيْب دِرْعِهَا ؛ فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْنَّفْخَةُ بَطْنَهَا ؛ فَخَلَقَ اللهُ عِيْسَى بنَفْخَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام]. والنَّفْخُ في اللغة : يُسَمَّى رُوحاً. وَقِيْلَ : سَمَّاهُ اللهُ تعالى رُوحاً ؛ لأنه كان يُحْيي بهِ الناسَ في الدينِ كما يُحْيُونَ بالأرواحِ. وَقِيْلَ : لأنه رُوْحٌ مِن الأرواحِ أضافَهُ اللهُ إليهِ تشريفاً لهُ، كما يقالُ : بَيْتُ اللهِ. وقال السُّدِّيُّ :(مَعْنَاهُ (وَرُوحٌ مِنْهُ) أيْ مَخْلُوقٌ مِنْهُ ؛ أيْ مِنْ عِنْدِهِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : ورحمةٌ منهُ ؛ أي جعله اللهُ رحمةً لمن آمَنَ بهِ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ ﴾[المجادلة : ٢٢] أي قَوَّاهُمْ برحمةِ منهُ. وَقِيْلَ : الرُّوحُ : الوَحْيُ ؛ أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالْبشَارَةِ، وأوحَى إلى جبريلَ بالنَّفْخِ، وأوحَى إليه أن كُنْ ؛ فَكَانَ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ ﴾[النحل : ٢] أي بالوحْيِ، ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾[الشورى : ٥٢] أي وَحْياً.
ورويَ : أنَّهُ كَانَ لِهَارُونَ الرَّشيْدِ طَبيْبٌ نَصْرَانِيٌّ، وَكَانَ غُلاَماً حَسَنَ الْوَجْهِ جِدّاً، وَكَانَ كَامِلَ الأَدَب جَامِعاً لِلْخِصَالِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بهَا إلَى الْمَلِكِِ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ مُولعاً بأَنْ يُسَلِمَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ يُمَيِّنْهِ الأَمَانِيَّ إنْ أسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ ذاتَ يَوْم : مَا لَكَ لاَ تُؤْمِنُ ؟ قَالَ : إنَّ فِي كِتَابكُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ انْتَحَلَهُ، قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ فَعَبَّرَ بهَذا أنَّ عِيْسَى جُزْءٌ مِنْهُ.
ِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي مَن يأْنَفُ ويَمْتنعُ عن توحيدهِ وطاعته وَيَتَعَظَّمُ عنِ الإيْمانِ ؛ فَسَيَجْمَعُهُمُ إليه جميعاً : الْمُسْتَنْكِفُ وَالْمُسْتَكْبرُ ؛ والْمُقِرُّ وَالْمُطِيْعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ ﴾ ؛ أي وأما الذين أبَوا وامتنعُوا عنِ الإيْمانِ بمُحَمَّدٍ ﷺ وَالْقُرْآنِ ؛ ﴿ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ وَجِيْعاً، ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾ ؛ ولا يَجِدُونَ لَهم سوَى اللهِ قريباً ينفعُهم، ولا مانعاً يَمنعُهم من النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ﴾ ؛ وحكمُ الثَّلاثِ والأربعِ فصاعداً حكمُ الاثنين كالبناتِ، وإنْ كانوا إخوةً ؛ ﴿ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً ﴾ ؛ أي وإنْ كان الورثةُ إخوةً من أُمٍّ وأبٍ، أو من أبٍ ذُكُوراً وإناثاً ؛ ﴿ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ﴾ ؛ أي يُبّيِّنُ اللهُ لَكُمْ قِسْمَةَ المواريثِ ؛ لِئَلاَّ تُخْطِئُوا في قِسْمَتِهَا، وقد حذفَ (لا) في الكلامِ ويرادُ إثباتُها كما في قوله تعالى :﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾[لقمان : ١٠]، ويقال في القَسَمِ : واللهِ أبْرَحُ قَاعِداً ؛ أي لاَ أبْرَحُ، وَتُذْكَرُ (لا) ويراد طرحُها كما في قولهِ تعالى :﴿ لاَ أُقْسِمُ ﴾[القيامة : ١] و﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾[الأعراف : ١٢].
وذهبَ البصريُّون إلى أنَّ معناهُ : كَرَاهَةَ أنْ تَضِلُّوا، فحذفَ المضافَ وأقامَ المضاف إليه مقامهُ، كما في قولهِ تعالى :﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾[يوسف : ٨٢]. وقال الفرَّاءُ :(مَوْضِعُهُ نُصِبَ بنَزْعِ الْخَافِضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
وعَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ :" مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ : أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ اشْتَرَى ذا رَحِمٍ وَأَعْتَقَهُ، وَبُرِّئَ مِنَ الشَّرْكِ، وَكَانَ فِي مَشِيْئَةِ اللهِ مِنَ الَّذِيْنَ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ "