مدنية، وقد قيل: إلا الآيتين آخرها فإنهما مكيتان، مائة وتسع وعشرون آية، ألفان وخمسمائة وست كلمات، أحد عشر ألفا ومائة وخمسة عشر حرفا. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة. قاله القشيري
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) أي هذه براءة من جهة الله تعالى ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين، فإن الله قد أذن في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاهدهم. ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك. وقيل: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي سيروا أيها المشركون كيف شئتم آمنين من القتل والقتال في هذه المدة من يوم النحر.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يحج سنة تسع فقيل له: المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال: «لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة، ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فسار أبو بكر أميرا على الحاج، وعلي ابن أبي طالب يؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس وحدّثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال علي: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج. فقال المشركون لعلي عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي واعلموا يا معشر الكفار أن هذا الإمهال ليس لعجز بل للطف ليتوب من تاب، أي اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) أي مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي وهذا إعلام صادر من الله ورسوله، واصل إلى الناس يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو يوم العيد، لأن فيه تمام معظم أفعال الحج، ولأن الإعلام كان فيه، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الناقضين للعهد وَرَسُولِهِ بالرفع باتفاق السبعة فهو معطوف على الضمير المستتر في برىء فَإِنْ تُبْتُمْ من الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالتوب خير لكم في الدارين لا شر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن المتاب من الشرك فَاعْلَمُوا يا معشر المشركين أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين من عذاب الله فإن الله قادر على إنزال أشد العذاب بهم وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) أي أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر، فالبشارة على سبيل الاستهزاء كما يقال: إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط الميثاق ولم يضروكم قط.
وقرئ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم شيئا من النقض وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى وقت أجلهم تسعة.
أشهر والمعنى لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر فإنهم ما غدروا من هذين الوجهين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) عن نقض العهد فإن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الوافي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي فإذا خرج الأشهر التي حرم الله القتل والقتال فيها وهي من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين خاصة حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره وَخُذُوهُمْ أي وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي امنعوهم من إتيان المسجد الحرام، ومن التقلب في البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لأجلهم خاصة كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد فَإِنْ تابُوا من الشرك آمنوا بالله وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أقروا بالصلوات الخمس وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بأداء الزكاة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوهم ولا تتعرضوا بشيء مما ذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) لمن تاب من الكفر والغدر وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ
أي وإن
ونقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل؟ فقال علي: لا، فإن الله تعالى قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم ذلِكَ أي إعطاء الأمان بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) أي بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى معهم معذرة أصلا كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي لا ينبغي أن يبقى للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وهم ينقضون العهد. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لكن الذين عاهدتم من المشركين عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية وهم المستثنون من قبل هذا الاستثناء فقد استثنوا في قوله تعالى سابقا: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إلخ- وهم بنو كنانة وبنو ضمرة- فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فأيّ زمان استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. أو المعنى فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) عن نقض العهد وقد استقام صلّى الله عليه وسلّم على عهدهم حتى نقضوه بإعانتهم بني بكر وهم كنانة حلفاؤهم على خزاعة حلفائه صلّى الله عليه وسلّم.
روي أنه عدت بنو بكر على بني خزاعة في حال غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاونتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنشده:
لا همّ إني ناشد محمدا... حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا... وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نصرت إن لم أنصركم»
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي وحالهم أنهم إن يقدروا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ أي لا يحفظوا فيكم إِلًّا أي قرابة وَلا ذِمَّةً أي عهدا.
والمعنى كيف لا تقتلوهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابة ولا ضمانا بل يؤذوكم ما استطاعوا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي تنكر قلوبهم ما يفيد كلامهم، أي فإنهم يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) أي ناقضون للعهد مذمومون عند جميع الناس وفي جميع
فَإِنْ تابُوا من مساوي أعمالهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بحكمهما وعزموا على إقامتهما فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) أي نبين الآيات لقوم يعلمون ما فيها من الأحكام وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي عهودهم التي بينكم وبينهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي عابوا دينكم بالتكذيب وتقبيح الأحكام فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي قاتلوا الكفار بأسرهم فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي إنهم لا عهود لهم على الحقيقة لأنهم لا يعدون نقضها محذورا وهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان وإن أجروها على ألسنتهم.
وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بكسر الهمزة أي لا تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، فيكون «الإيمان» مصدرا بمعنى إعطاء الأمان، فهو ضد الإخافة لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم سببا في انتهائهم عمّا هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمعاونة عليكم أَلا أي هلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ بعد عهد الحديبية بإعانة بني بكر على خزاعة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ أي بإخراجه من مكة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله في الهجرة، أو من المدينة لقصد قتله وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه، أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتال معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالا.
أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ في ترك أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣). ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحدا سواه قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل تارة، والأسر،
فقال: «أبشروا فإن الفرج قريب»
وكان شفاء صدورهم من زحمة الانتظار فإنه الموت الأحمر وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ من بني بكر فإن من طال تأذيه من خصمه، ثمّ مكّنه الله منه على أحسن الوجوه كان سروره أعظم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من بعض أهل مكة كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو فهم أسلموا يوم فتح مكة وحسن إسلامهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يفعل في ملكه حَكِيمٌ (١٥) أي مصيب في أفعاله وأحكامه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي بل أحسبتم أن يترككم الله بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه. والحال أنه لم يصدر الجهاد عنكم خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود من هذه الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العتاب إلا عند حصول أمرين:
الأول: أن يصدر الجهاد عنهم.
الثاني: أن يأتي بالجهاد مع الإخلاص. فإن المجاهد قد يجاهد وباطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين المخلصين، أي وهو الذي يطلع الكافر على الأسرار الخفية. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياد الأمر الله تعالى وحكمه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) من موالاة المشركين وغيرها فيجازيكم عليه فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي ما صحّ للمشركين أن يعمروا المسجد الحرام بدخوله والقعود
فيه وخدمته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» على الواحد. والباقون «مساجد» على الجمع وإنما جمع المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، ثم شهادتهم على أنفسهم بالكفر أنهم أقروا بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار أُولئِكَ الذين يدعون عمارة المسجد الحرام وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثورا وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) لكفرهم.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ألف المسجد ألفه الله تعالى».
وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»
«١» أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله يوم بدر أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله إلخ. ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله بن الزبير سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام.
قال ابن عباس: إن عليا لما أغلظ الكلام على العباس قال العباس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية لا يَسْتَوُونَ أي الفريقان عِنْدَ اللَّهِ في الفضل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي الذين جمعوا بين هذه الصفات الثلاثة أعلى رتبة وأكثر كرامة عند الله ممن لم يجمع بينها وَأُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) بسعادة الدنيا والآخرة
يُبَشِّرُهُمْ أي هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ أي بمنفعة
قيل: إن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين قالوا: كيف تمكن المقاطعة التامة بين الرجل وابنه وأمه وأخيه؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم.
وقرأ أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» بالجمع وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تَخْشَوْنَ كَسادَها أي عدم رواجها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي منازل تعجبكم الإقامة فيها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بالحب الاختياري وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي طاعته فَتَرَبَّصُوا نزلت هذه الآية لما قال جماعة من المؤمنين: يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية، وإن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آباءنا وإخواننا وعشيرتنا، وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا، وخراب ديارنا؟ فبين الله تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهي عقوبة عاجلة أو آجلة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وهي مشاهد الحروب كوقعات بدر وقريظة، والنضير والحديبية، وخيبر، وفتح مكة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي واذكروا يوم قتالكم هوازن في حنين. فهوازن قبيلة حليمة السعدية، وحنين واد بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا، وذلك لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج في شوال في تلك السنة وهي سنة ثمان متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
وهم اثنا عشر ألفا: عشرة من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا- وهم أسلموا بعد فتحها في هذه المدة اليسيرة بين هوازن وثقيف- وأربعة آلاف ومعهم أمداد سائر العرب. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري: لن تغلب اليوم من قلة أي من أجلها افتخارا بكثرتهم أي نحن كثيرون فلا نغلب، فأحزنت هذه الكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي فلم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الدفع، أي فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي إنكم لشدة الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) أي منهزمين من الله.
وقال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم إلا عمه العباس وهو آخذ بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وهو آخذ بركابه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته الشهباء نحو الكفار لا يبالي وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناد المهاجرين والأنصار». وكان العباس رجلا صيتا، فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة. فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب
فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
واعلم أنه لما شق الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، وعن الأموال والمساكن على القلوب مشقة عظيمة ذكر الله تعالى ما يدل على أن من ترك
الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا وضرب الله تعالى لهذا مثلا وذلك أن عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لمّا تضرعوا إلى الله قوّاهم به حتى هزموا عسكر الكفار. وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا أتاه الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم على أحسن الوجوه. وَأَنْزَلَ من السماء جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي بأبصارهم. وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر
روي أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم». قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، وهي مفاخر آبائه من الذراري والنساء. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده أسير وطابت نفسه أن يرده فشأنه- أي فيلزم شأنه- ومن لا، فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا: قد رضينا وسلمنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا»
«١»، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفا، ومن الغنم ما لا يحصى عددا، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم وكان فيها غير ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أي جميع الحرم بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة ولما امتنع المشركون من دخول الحرم وكانوا يتّجرون ويأتون مكة بالطعام، وكانت معايش أهل مكة من التجارات فخافوا الفقر وضيق العيش وذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنزل الله تعالى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي عطائه من وجه آخر إِنْ شاءَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا أغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل جدة، وحنين، وصنعاء، وتبالة وجرش فحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة مما كانوا يخافون إلى مبايعة الكفار، فأغناهم بالفيء والجزية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم وبمصالحكم حَكِيمٌ (٢٨) فلا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب لما فرغ من الكلام على مشركي العرب بقوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة: ١] إلى هنا أخذ يتكلم على أهل الكتابين فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فاليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه. والنصارى يعتقدون الحلول، وهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد، ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، وهم يكذبون أكثر الأنبياء
قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي حتى يقبلوا أن يعطوا ما يعطى المعاهد على عهده عَنْ يَدٍ أي عن غني فلا تجب الجزية على الفقير العاجز، أو عن إنعام عليهم لأن ترك أرواحهم عليهم بقبول الجزية منهم نعمة عظيمة وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام. وَقالَتِ الْيَهُودُ سلام بن مشكم ونعمان بن قيس، ومالك بن الصيف أو فنحاص بن عازوراء: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فأضاعوا التوراة، وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت التوراة إليه فأعلم قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها عليّ فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزيز على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا: ما جمع الله التوراة في صدر عزيز وهو غلام إلا لأنه ابنه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.
روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولص لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولص قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة في بيت فيها ولم يخرج منه حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال: اسم واحد نسطور، والآخر يعقوب، والآخر ملكان، والآخر من أهل الروم، فعلّم نسطور أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلّم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان وأنه ابن الله، وعلّم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلا آخر من الروم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اتخذ اليهود علماءهم من ولد هارون، واتخذ النصارى علماءهم من أصحاب الصوامع أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا: إنه ابن الله وَما أُمِرُوا أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة والإنجيل إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً عظيم الشأن هو الله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لا لها سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) أي تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في التكليف وفي كونه معبودا ومسجودا له وفي وجوب نهاية التعظيم والإجلال يُرِيدُونَ أي رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دلائل الله المنيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد، أي يريدون أن يردوا القرآن فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد ومن الشرائع من أمر الحل والحرمة بِأَفْواهِهِمْ أي بأقوالهم الباطلة وَيَأْبَى اللَّهُ أي لا يريد إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) وجواب «لو»
محذوف، أي ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي ملتبسا بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله دين الإسلام على الأديان كلها وهو أن لا يعبد الله طلا به فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَلَوْ
هذا أي الكي ما كَنَزْتُمْ أي جزاء ما جمعتم من الأموال لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) أي فذوقوا جزاء ما كنتم تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ القمرية التي تؤدى فيها الزكاة وعليها يدور فلك الأحكام الشرعية عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام وربع يوم، فبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل آخر فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهذه الظروف الثلاثة أبدل البعض من البعض، والتقدير أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات، أي منذ خلق الله الإحرام والأزمنة أي إن ذلك العدد ثابت في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم مِنْها أي من تلك الشهور الاثني عشر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم ورجب ذلِكَ أي عدة الشهور الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأربعة الحرم أَنْفُسَكُمْ بإتيان المعاصي فإنه أعظم وزرا كإتيانها في الحرم.
وقال ابن عباس: فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، وذلك منع الإنسان عن إتيان الفساد في جميع العمر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا
قرأ حفص وحمزة والكسائي «يضل» بالبناء للمفعول. والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم ويعقوب من العشرة بضم الياء وكسر الضاد. والمعنى حينئذ يضل بهذا التأخير الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي ويحرمون التأخير عاما آخر، وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه. وسبب هذا التأخير أن العرب كانت تعظم الأشهر الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة والحروب فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لهلكنا وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى.
قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة وكان يقوم ويخطب في الموسم ويقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا. وقيل: هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقول على جمل في الموسم بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل: هو رجل من كنانة يقال له: القلمس قال قائلهم:
ومنا ناسئ الشهر قلمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ. قال ابن عباس: أي زين الشيطان لهم هذا العمل حتى حسبوا هذا
روي أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ويقال لها: غزوة العسر وغزوة الفاضحة، وكانت في رجب في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من الطائف إلى المدينة، وسببها ما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام وإنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأمر صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب وحضّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته فجهز عثمان عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي: تسعمائة بعير ومائة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، وأول من جاء بالنفقة: أبو بكر فجاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة والأغنياء. وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن. فلما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس وهم ثلاثون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس خلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وتخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع وكان من تخلف عشر قبائل وإنما تباطأ الناس في خروجهم للقتال لشدة الزمان في قحط وضيق عيش، ولبعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات ولشدة الحر في ذلك الوقت، ولمهابة عسكر الروم، ولإدراك الثمار في المدينة في ذلك الوقت فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن ذلك الغزو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في مقابلة نعيم الآخرة إلا قليل لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة
كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً أي إن لم تخرجوا إلى ما طلب الخروج منكم إليه يهلككم الله بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا كأهل اليمن وأبناء فارس وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي لا يضر الله جلوسكم شيئا لأنه غني عن العالمين أو لا يضر الرسول تثاقلكم في نصرة دينه أصلا، لأن الله عصمه من الناس وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) فيقدر على نصر نبيه ودينه ولو من غير واسطة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن لم تنصروا محمدا فسينصره الله الذي قد نصره حين لم يكن معه إلا
يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر الصديق: «لا تحزن إن الله معيننا»
«١» وكان الصديق قد حزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا على نفسه فقال له: يا رسول الله إذا مت أنا فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين.
روي أن قريشا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار، وخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يضطجع على فراشه ليمنع السواد من طلبه حتى يبلغ إلى ما أمر الله به، فلما وصل إلى الغار دخل أبو بكر فيه أولا يلتمس ما فيه فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك؟» فقال: بأبي أنت وأمي، الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحزن إن الله معنا بنصره»
«٢». فجعل يمسح الدموع عن خده.
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعم أبصارهم»
«٣» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي أمنته التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على صاحبه صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر الصدّيق وَأَيَّدَهُ أي أعانه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وهذه الجملة معطوفة على جملة «نصره الله» وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي جعل الله يوم بدر كلمة الشرك سافلة حقيرة وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي قوله لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا أي الغالبة الظاهرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي قاهر غالب حَكِيمٌ (٤٠) أي لا يفعل إلا الصواب
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي اخرجوا مع نبيكم إلى غزوة تبوك خفافا في الخروج لنشاطكم له وثقالا عنه لمشقته عليكم وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا في طاعة الله بما أمكن لكم إما بكليهما أو بأحدهما ذلِكُمْ أي الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ أي خير عظيم في نفسه لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) أن الجهاد خير فبادروا إليه لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ أي لو كان ما دعوا إليه متاعا قريب المنال سهل المأخذ وسفرا متوسطا بين
(٢) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: ٧٥، وأحمد في (م ١/ ص ٣). [.....]
(٣) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٧٦).
قال صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع»
. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يا أشرف الخلق ما وقع منك من ترك الأولى والأكمل لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣).
في ذلك قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس من عادة المؤمنين الخلص أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) الذين يسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي إنما يستأذنك يا أشرف الخلق في التخلف عن الجهاد من غير عذر المنافقون فإنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكت قلوبهم في الدين فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) أي فهم حال كونهم في شكهم المستقر في قلوبهم يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الغزو معك لَأَعَدُّوا لَهُ أي للخروج عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي ولكن لم يرض الله نهوضهم للخروج معك فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم بالكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) أي تخلفوا مع المتخلفين والقائل الشيطان بوسوسته أو بعضهم لبعض، أو هو أمر النّبيّ بذلك أمر توبيخ أو ألقاه الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النّبيّ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ أي معكم ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي فسادا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي ولساروا على الإبل وسطكم ولأسرعوا بينكم بالنمائم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم وبإفساد نياتكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي فيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لأنفسهم بسبب نفاقهم ولغيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيره في وجوه الآفات لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من
وروي أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر» - أي في جهاد ملوك الروم- فقال الجد: يا رسول الله قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر وإني أخشى إن رأيتهن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمال فاتركني
أَلا أي تنبهوا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم في عين الفتنة وقعوا فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف وهم خائفون من نزول آيات في
بيان نفاقهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) أي جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب. وقيل: إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها لأنهم كانوا محرومين عن كل السعادات وإنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين، وقصد الرسول بكل سوء. وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي. وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة من ظفر أو غنيمة أو انقياد بعض ملوك الأطراف يحزنهم ذلك وَإِنْ تُصِبْكَ في بعض الغزوات مُصِيبَةٌ أي شدة وإن صغرت يَقُولُوا متبجحين برأيهم: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي حذرنا بالاعتزال عن المسلمين والتخلف عنهم والمداراة مع الكفرة مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها.
قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين بيانا لبطلان اعتقادهم:
لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي لن يصيبنا خير ولا شر ولا رخاء، ولا شدة ولا خوف، ولا أمن إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا هُوَ أي الله مَوْلانا يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء فإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) أي فالواجب على المؤمن أن يفوّض أمره إلى الله وأن يرضى بفعله تعالى وأن يطمع من فضله تعالى ورحمته.
قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي ما تنتظرون
وسمي الإلزام إكراها لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقا عليهم كالإكراه.
وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف «كرها» بضم الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه. والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ والأمر هنا بمعنى الخير أي نفقتكم غير مقبولة سواء كانت طوعا أو كرها إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) أي منافقين فإنهم كافرون في الباطن وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين فإن هذا المنافق إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل لأنه يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفا من مذمة الناس وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) أي لا رغبة لهم فإنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة حتى إنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرما بينهم فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ والمراد بهذا الخطاب جميع المؤمنين. والمعنى ولا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها أي بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وسبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الغم والخوف بسبب المصائب الواقعة فيهما، وهم اعتقدوا أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة، فالمال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن لأنه علم أنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) أي يريد الله أن
ونقل أن عيسى عليه السلام مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟
قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ثم مرّ على قوم آخرين يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومرّ على قوم ثالث مشتغلين بالذكر، فسألهم، فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال: أنتم المحبون المحققون. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ أي إنما الزكوات مصروفة للفقراء وهم المحتاجون الذين لا يجدون شيئا ولا يسألون الناس وهم أهل صفة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس كما قاله ابن عباس، ومن سأل وجد فكان المسكين أقل حاجة وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي وعبد الله بن عمر وابن زيد.
وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أصناف:
صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب
وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة وَالْغارِمِينَ أي
المديونين في طاعة الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويجوز للغازي أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا كما هو مذهب الشافعي، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا. ونقل القفال عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى في سبيل الله عام في الكل وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة، ويصرف مال الزكاة إلى الأصناف الأربعة:
الأول: حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفي الأربعة الأخيرة: لا يصرف المال إليهم بل يصرف المال إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف كما هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال الشافعي: لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية كما هو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة والمقصود من هذا التأكيد تحريم إخراج الزكاة عن الأصناف وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ (٦٠) لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ.
روي أن جماعة من المنافقين حذام بن خالد وإياس بن قيس، وسماك بن يزيد وعبيد بن مالك، والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت ذكروا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لا ينبغي من القول ثم قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام يقال له: عامر بن قيس ثم أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخبره فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعل عامر يدعو ويقول: «اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب» فأنزل الله هذه الآية
ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس له ذكاء بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء المنافقين أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ.
وقرأ حمزة «ورحمة» بالجر عطفا على خير. وقرأ ابن عامر «ورحمة» بالنصب علة لمحذوف، أي ويأذن لكم رحمة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بقولهم هو أذن ونحوه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) في الدنيا والآخرة يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ أي إنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلّى الله عليه وسلّم في باب الإجلال مشهدا ومغيبا لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) فليرضوا الله ورسوله بالطاعة فإنهما أحق بالإرضاء أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون جلاس وأصحابه أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي من يخالف الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحق أن له نار جهنم أي فيكون نار جهنم له أمر ثابت خالِداً فِيها ذلِكَ أي العذاب الخالد الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) أي الندم الشديد وهي ثمرات نفاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي يخاف المنافقون أن تنزل في شأنهم سورة تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم إذاعة ظاهرة فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال فكأن السورة تخبرهم بها وهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي افعلوا الاستهزاء بمحمد والقرآن إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) أي فإن الله مظهر ما تحذرونه من إنزال السورة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.
قال الحسن وقتادة: لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم: أتراه يظهر على الشام ويأخذ حصونها وقصورها، هيهات هيهات، فعند رجوعه صلّى الله عليه وسلّم دعاهم وقال: أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا: ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نتحدث ونضحك فيما بيننا قُلْ أَبِاللَّهِ أي بتكاليف الله وَآياتِهِ أي وبالقرآن وبسائر ما يدل على الدين وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي وقد ظهر كفركم للمؤمنين بالطعن في الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كنتم عندهم مسلمين إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً.
روي أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد: طائفة وهو: جهير بن حمير. والاثنان: طائفة وهما وديعة بن جذام، وجد بن قيس. فالذي عفى عنه جهير بن حمير لأنه كان ضحك معهم ولم يستهزئ معهم فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) أي مستمرين على النفاق والاستهزاء فأوجب التعذيب الْمُنافِقُونَ وكانوا ثلاثمائة وَالْمُنافِقاتُ وكن مائة وسبعين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة يَأْمُرُونَ أي يأمر بعضهم بعضا بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي عن الإيمان والطاعة وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر الله فَنَسِيَهُمْ أي فجازاهم بتركهم من رحمته إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) أي الكاملون في الفسق الذي هو الانسلاخ من كل خير وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين بالكفر نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فالنار المخلدة من أعظم العقوبات هِيَ حَسْبُهُمْ أي تلك العقوبة كافية ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أهانهم الله بالذم ملحقا بتلك العقوبة وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) غير النار كالزمهرير وكمقاساة تعب النفاق في الدنيا إذ هم دائما في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي فعلكم أيها المنافقون كفعل الكفار الذين كانوا قبلكم في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً في الأبدان وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي فتمتعوا مدة بنصيبهم من لذات الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فأنتم أيها المنافقون استمتعتم بنصيبكم استمتاعا كاستمتاع الكفار الذين من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي وتلبستم بتكذيب الأنبياء في السر وبالمكر والغدر بهم كالتلبس الذي تلبسوا به من تكذيب أنبياء الله والغدر بهم أُولئِكَ الموصوفون بالأفعال الذميمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت حسناتهم بسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف، وبسبب الموت في الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي
أخبار أهلها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإيصال العذاب إليهم لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) بالكفر وتكذيب الأنبياء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الشرك والمعاصي وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بإتمام الأركان والشروط وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الواجبة عليهم وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل أمر ونهي في السر والعلانية أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي يفيض عليهم آثار رحمته، والسين للتوكيد والمبالغة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة حَكِيمٌ (٧١) أي مدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً وهي قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي أبهى أماكن الجنات وأسناها.
وقال عبد الله بن عمر إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، وله خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ مما هم فيه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة.
وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: «هل رضيتم» فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول: «أنا أعطيكم أفضل من ذلك». قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».
وقرأ شعبة «رضوان» بضم الراء. والباقون بالكسر ذلِكَ أي المذكور من الأمور الثلاثة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ أي المجاهرين بالسيف وَالْمُنافِقِينَ أي الساترين كفرهم بظهور الإسلام بإظهار الحجة لا
روي أن المنافقين هموا بقتله صلّى الله عليه وسلّم عند رجوعه من تبوك: وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، فأخبره الله بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها.
فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ: «هل عرفت أحدا منهم». قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال: «هل علمت مرادهم؟» قال: لا، قال النبي: «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» «١» فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وما أنكروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلّى الله عليه وسلّم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره صلّى الله عليه وسلّم إن كرهوه وعابوه فَإِنْ يَتُوبُوا من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته يَكُ أي التوب خَيْراً لَهُمْ في الدارين وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وَالْآخِرَةِ بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مع سعتها مِنْ وَلِيٍّ أي حافظ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) ينقذهم من العذاب
روي أن ثعلبة بن حاطب كان صحيح الإسلام في ابتداء أمره وصار منافقا في آخر أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك تفعل فعل المنافقين؟» فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فجاء ثعلبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أم يرزقني مالا فقال له رسول الله: «أما لك في أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا من أوديتها فجعل يصلي الظهر والعصر مع رسول الله، ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم نمت وكثرت فتباعد من المدينة حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت وكثرت حتى تباعد وترك الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ثم سأل رسول الله فأخبر بخبره فقال: «يا ويح ثعلبة ثلاثا» فنزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين من بني سليم ومن بني جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة وقال لهما: «مرّا على ثعلبة بن حاطب فخذا صدقاته» فأتياه وأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية فلم يدفع الصدقة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله أن يقبل صدقته فقال: «إن الله منعني من قبول ذلك» فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قد قلت لك فما أطعتني»
«١» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء بهما إلى عمر أيام
الأخذ غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه لقوله تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: ١٠٣] أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما تنطوي عليه صدورهم وَنَجْواهُمْ وهو ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) أي ما غاب عن الخلق الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي ويطعنون على الذين لا يجدون إلا طاقتهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي ويهزئون بالفريق الأخير بقلة الصدقة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وهذه الجملة خبر للموصول.
وقال الأصم: أي قبل الله من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية.
وقال ابن عباس: فتح الله لهم في الآخرة بابا إلى الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩). قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل عبد الرحمن بن تيحان بصاع من تمر فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاع ليذكر مع سائر الأكابر والله غني من صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
روي أنه لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وظهر نفاقهم للمؤمنين جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون وقالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأستغفر لكم» واشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستغفار
. وهذا الأمر تخيير له صلّى الله عليه وسلّم في الاستغفار وتركه، ومعناه إخبار باستواء الأمرين أي إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وقد شاع استعمال السبعة، والسبعين والسبعمائة في التكبير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره فإن عدة مراتبه سبعة آحاد، عشرات مئين، آحاد ألوف، عشرات ألوف، مئين ألوف، آحاد ألوف، الألوف والسبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض، والبحار، والأقاليم، والنجوم، والأيام، والأعضاء هو هذا العدد ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بسبب كفرهم لا لعدم الاعتداد بالاستغفار وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) أي فإن تجاوزهم عن الحدود مانع من الهداية
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين تركهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِمَقْعَدِهِمْ أي في المدينة خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ
عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما اشتكى عبد الله بن أبي سلول عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني، فرده وطلب منه الذي يلي جلده ليكفن فيه فأرسله إليه، فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك للرجس النجس؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام». وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فإنه رأسهم فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، فلما مات عبد الله جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه- واسمه عبد الله- فإنه كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما، وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرا، يعرفه صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله: «صل عليه وادفنه» «١». فقال: يا رسول الله إن لم تصل عليه لم يصل عليه مسلم، فقام صلّى الله عليه وسلّم، فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه،
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ بتمتيعهم بالأموال والأولاد أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بمكابدتهم الشدائد في شأنها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن مشتملة على الأمر أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ في التخلف عن الغزو أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي ذوو السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قيس وَقالُوا ذَرْنا يا محمد نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) أي من الضعفاء من الناس، والساكنين في البلد بغير عذر رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي مع النساء اللاتي يلزمن البيوت وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي منعت من حصول الإيمان فَهُمْ بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ (٨٧) أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن العزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقادا وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أي منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أي المتخلصون من السخط والعذاب أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي هيأ لهم في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في الجنة ذلِكَ أي نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) الذي لا فوز وراءه وَجاءَ إليك يا أشرف الخلق الْمُعَذِّرُونَ أي الذين أتوا بأعذار كاذبة وتكلفوا عذرا بباطل مِنَ الْأَعْرابِ أي من بني غفار لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالتخلف عن غزوة تبوك فلم يعذرهم الله وَقَعَدَ عن الجهاد بغير إذن الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ادعائهم الإيمان وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذروا. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي المعذرين لا من أسلم منهم عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى من الشباب وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الجهاد من الزاد والراحلة لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة حَرَجٌ أي إثم في التخلف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي آمنوا بهما وأطاعوا لهما في السر والعلن ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم طريق إلى ذمهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) أي وليس على من أتوك يسألوك أن تحملهم إلى غزوة تبوك، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم، ولذلك سموا البكائين، وهم سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير،
فإنهم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أجد ما أحملكم عليه»
«١» فتولوا وهم يبكون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وَهُمْ أَغْنِياءُ أي قادرون على أهبة الخروج معك رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي رضوا بالدناءة والانتظام في جملة النساء وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لأجل ذلك الطبع لا يَعْلَمُونَ (٩٣) ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا يَعْتَذِرُونَ أي هؤلاء المنافقون وهم بضع وثمانون رجلا إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ من عزوة تبوك إِلَيْهِمْ بالأعذار الباطلة. قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لا تَعْتَذِرُوا بما عندكم من المعاذير لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم فيما تقولون من العلل أبدا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أي قد أعلمنا الله بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أي وسيقع عملكم معلوما لله ولرسوله هل تبقون على نفاقكم أم تتوبون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ يوم القيامة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ للجزاء مما ظهر منكم من الأعمال فَيُنَبِّئُكُمْ عند وقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) في الدنيا. أي فيجازيكم عليه سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ أي إذا رجعتم إليهم من تبوك أنهم معذورون في التخلف لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لتعرضوا عن ذمهم إعراض الصفح فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض المقت وترك الكلام.
قال مقاتل: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم»
«٢» إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي إن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب على الإنسان الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية حذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى الأعمال القبيحة وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وكفتهم النار توبيخا فلا تتكلفوا أنتم في ذلك جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) في الدنيا من فنون السيئات يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بالحلف وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) أي فإن رضيتم أيها المؤمنون عنهم بما حلفوا لكم فلا ينفعهم رضاكم، لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم لكون إرادتكم مخالفة لإرادة الله تعالى وذلك لا يجوز.
الْأَعْرابُ أي جنس أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لتوحشهم واستيلاء
(٢) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (٣: ٤٧٨).
وروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان»
«١». وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي في الهجرة والنصرة مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا كما قاله ابن عباس وَالْأَنْصارِ وهم الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الأولى: وكانوا سبعة نفر. والعقبة الثانية: وكانوا اثني عشر رجلا. والعقبة الثالثة: وكانوا سبعين رجلا والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ أي الفريقين بِإِحْسانٍ وهم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأعمالهم وكثرة طاعاتهم وَرَضُوا عَنْهُ لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة، والسابقون مبتدأ وخبره جملة رضي الله عنهم وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ.
وقرأ ابن كثير «من تحتها» بكلمة «من» كما في سائر المواضع وعلى هذا لزم صلة الميم في المواضع الثلاثة، والباقون بغير كلمة «من» وفتح التاء. خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي من غير انتهاء
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي حول بلدتكم مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حول المدينة وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي من أهل المدينة كعبد الله ابن أبي وأصحابه من ثبتوا على النفاق ولم يتوبوا عنه لا تَعْلَمُهُمْ أي لا تعلم نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء. نفسك لشدة إبطان الكفر وإظهار الإخلاص نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي نحن نعلم سرائرهم التي في ضمائرهم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بعذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) هو النار المؤبدة وَآخَرُونَ أي ومن أهل المدينة قوم آخرون أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي أقروا بذنوبهم وأظهروا الندامة على التخلف خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وهو خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات وَآخَرَ سَيِّئاً وهو تخلفهم من غزوة تبوك أي خلطوا كل واحد من العمل الصالح والعمل السيء بالآخر عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي ثبت أن يقبل الله توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أي لما أظهروا التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال أمر الله رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم فكأنه قيل لهم: إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة لو أخرجتم الزكاة الواجبة بانشراح قلب، لأن الدعوى إنما يشهد عليها الامتحان، فعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة وإلا فهم كاذبون تُطَهِّرُهُمْ أي تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم عن نجاسة الذنوب وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي ترفعهم بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين وتثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء وتجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا لزيادة البركة وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم.
قال الشافعي رضي الله عنه والسنة للإمام: إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول:
آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي إن دعاءك يوجب طمأنينة قلوبهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ (١٠٣) بنياتهم.
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «صلاتك» على التوحيد. والباقون «صلواتك» على الجمع. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي ألم يعلم أولئك التائبون قبل توبتهم وصدقتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة عن عباده المخلصين، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) أي وأ لم يعلموا أنه تعالى المنفرد ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة وإيصال الرحمة وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أي وقل يا أشرف الخلق اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فسيرى الله عملكم خيرا كان
والمراد من الرد تعريف عقاب الخزي والفضيحة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) في الدنيا أي فيعرفكم أحوال أعمالكم من خير وشر فيجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة لا تحصل إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مرجئون» بهمزة مضمومة وبعدها واو ساكنة. والباقون «مرجون» بدون تلك الهمزة أي ومن أهل المدينة قوم من المتخلفين غير المعترفين مؤخرون عن قبول التوبة لِأَمْرِ اللَّهِ أي لحكمه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار. فنزل قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فوقف الرسول أمرهم بعد نزول هذه الآية خمسين ليلة بقدر مدة التخلف- إذ كانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمسين ليلة- ونهى الناس عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن أهاليهن لأنه لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة: ١١٧] وبقوله تعالى:
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: ١١٨] إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهذه الجملة في محل نصب على الحال، أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم، وهؤلاء القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ولم يحكم الله بكونهم تائبين بل قال:
إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، فلعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية، وعند
فلما قدم صلّى الله عليه وسلّم المدينة عاده لأنه زالت رئاسته وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم»
. ولم يزل يقاتله صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الإحسان إلى المؤمنين وهو الرفق بهم في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن الذهاب إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) في حلفهم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصل في ذلك المسجد أبدا.
روي أنه لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه إتيان مسجدهم، فنزلت عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه»
«١» ففعلوا ذلك وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ذلك الموضوع مكان كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين غريبا وحيدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي بنى أصله على طاعة الله تعالى وذكره مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام تأسيسه فقد أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد قباء وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وخرج صبيحة الجمعة فدخل المدينة أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي أن تصلي فيه ذلك
روى ابن خزيمة عن عويمر ابن ساعدة أنه صلّى الله عليه وسلّم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به» «١» ؟ أي الذي تحصلون الطهارة بسببه. قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا.
وفي حديث رواه البزار فقالوا: في جواب سؤاله لهم: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه»
«٢». أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ أي أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه على قاعدة قوية هي الخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ أي أم من أسس بنيان دينه على طرف مسيل متصدع وهو كفر بالله وإضرار بعباد الله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي فسقط المسيل مصاحبا له أي للمؤسس في قعر نار جهنم أي مثل الضلال مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فكان قريب السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم.
وقرأ نافع وابن عامر «أسس» مبنيا للمفعول، وبنيانه بالرفع نائب الفاعل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) أي لا يغفر للمنافقين ولا ينجيهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يزال مسجدهم سبب شك في الدين لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات، وصاروا مرتابين في أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل يخلي سبيلهم أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟! إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة بفتح التاء والطاء المشددة. والباقون بضم التاء مبني للمجهول. وعن ابن كثير بفتح الطاء وسكون القاف على الخطاب وقلوبهم بالنصب أي إلا أن تجعل قلوبهم قطعا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن تقطع»، وأبو حيوة كذلك إلا أنه قرأ بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول، و «قلوبهم» بالنصب، وفي قراءة عبد الله ولو قطعت قلوبهم بالبناء للمجهول وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على الخطاب. والمعنى أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على هذا النفاق، و «إلا» بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ (١١٠) في
(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، والدارقطني في (ج ١/ ص ٦٢).
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهذا استئناف لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله والمؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتله كافر وأنفق ماله في سبيل الله فإنه يأخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل وهو تسليم المبيع من الأنفس والأموال فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ.
قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل، والباقون بعكسه فمعنى تقديم الفاعل على المفعول أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي وعدهم الله وعدا ثابتا على الله فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى فَاسْتَبْشِرُوا أي فافرحوا غاية الفرح بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي بجهادكم الذي فزتم به بالجنة وَذلِكَ أي الجنة التي هي ثمن بذل الأنفس والأموال هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) أي فلا فوز أعظم منه التَّائِبُونَ وهو رفع على المدح، أي هم التائبون من كل معصية كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي، والأعمش «التائبين» بالياء إلى قوله تعالى: «والحافظين» إما نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين، ويجوز أن يكون التائبون رفعا على البدل من الواو في يقاتلون.
واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أربعة أمور:
أولها: احتراق القلب عند صدور المعصية.
ثانيها: الندم على ما مضى.
ثالثها: العزم على الترك في المستقبل.
رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت الْعابِدُونَ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يريدون عبادة الله واجبة عليهم الْحامِدُونَ أي الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم السَّائِحُونَ أي الصائمون
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سياحة أمتي الصيام»
«١». وقال عكرمة: أي طلاب
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت:
أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه! فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يستغفرون لآبائهم المشركين حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي إلا لأجل موعدة وعدها إبراهيم إياه بقوله: لأستغفرن لك، أي لأطلبن مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يمحو ما قبله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي إنه مستمر على الكفر ومات عليه تَبَرَّأَ مِنْهُ أي ترك الاستغفار له أي إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: لما مرض أبو طالب أتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال المسلمون: هذا محمد يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم أنزل وما كان استغفار إبراهيم الآية.
وروى ابن جرير عن عمرو بن دينار أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي» «١»، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي لعمه، فأنزل الله
ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية إلى قوله تعالى تَبَرَّأَ مِنْهُ فظهر بهذه الأخبار أن الآية نزلت في استغفار المسلمين لأقاربهم المشركين لا في حق أبي طالب، لأن هذه السورة كلها مدنية نزلت بعد تبوك، وبينها وبين موت أبي طالب نحو اثني عشر سنة، وأيضا إن عم إبراهيم آزر كان يتخذ أصناما آلهة ولم ينقل عن أبي طالب أنه اتخذ أصناما آلهة وعبد حجرا أو نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن
روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا.
فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه، وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» «١»
فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلّى الله عليه وسلّم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما
روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال:
«والله إني لأستغفرن لأبي- أي لعمي- كما استغفر إبراهيم لأبيه». فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» «٢»
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفرن لأبي»
ولم يقل: أمرت أن لا أستغفر له بل
قال: «لمن مات مشركا»
جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير الدعاء والتضرع حَلِيمٌ (١١٤) أي صبور على المحنة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك
(٢) رواه السيوطي في الدر المنثور (٣: ٢٨٣).
ولما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر» قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشّرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا
فنصفه. قال: «لا». قلت: فثلثه. قال: «نعم»
«١». يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) أي مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا جالسين مع المنافقين في البيوت.
وقرئ شاذة «من الصادقين» فعلى هذا ف «مع» بمعنى «من»، أي كونوا ملازمين الصدق.
روي أن واحدا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر، والزنا، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد عليّ فتركها، ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أي ما جاز لأهل دار الهجرة ومن حولهم من سكان البوادي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا دعاهم وأمرهم لأنه تتعين
الإجابة والطاعة لرسول الله وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه ذلِكَ أي وجوب المشايعة لرسول الله بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شدة عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طريق دينه وَلا يَطَؤُنَ أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم مَوْطِئاً أي دوسا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي يغضبهم بذلك وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي شيئا منا لا أسرا أو قتلا أو هزيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ أي بكل واحد من الأمور الخمسة عَمَلٌ صالِحٌ مستوجب للثواب ومن قصد طاعة الله كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبة عند الله إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) أي لا يترك ثوابهم
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة أو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً كما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي ولا يجاوزون مسلكا في سيرهم إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق والسير في الذهاب والرجوع لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) أي ليجزيهم الله على أحسن أعمالهم وهو الواجب والمندوب دون المباح، أو ليجزيهم الله جزاء هو أحسن من
وقرأ حمزة بالتاء على الخطاب للمؤمنين فالاستفهام للتعجيب أي ألا ينظرون ولا يرون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي إنهم يبتلون بأفانين البليات مرارا كثيرة من المرض والجوع، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم وعلى تخلفهم من الغزو ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) بتلك الفتن الموجبة للتوبة. وقوله تعالى: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وما بعده عطف على «لا يرون» داخل تحت الإنكار والتوبيخ على قراءة الجمهور، وعطف على «يفتنون» على قراءة الجمهور وعطف على قراءة حمزة. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها بيان حالهم وكانوا حاضرين مجلس نزولها نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي تغامزوا بالعيون يدبرون الهرب ليتخلصوا من تأذي سماعها يقولون بطريق الإشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين إن قمتم من المجلس ثُمَّ انْصَرَفُوا جميعا عن مجلس نزول الوحي خوفا من الافتضاح أو غير ذلك صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان وعن استماع القرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لسوء الفهم وعدم التدبر لَقَدْ جاءَكُمْ أيها العرب رَسُولٌ عظيم الشأن مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم.
وقرئ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. قيل: هذه قراءة فاطمة وعائشة رضي الله عنهما. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شاق شديد على هذا الرسول ما أثمتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ في إيمانكم وصلاح حالكم فهو شديد الرغبة على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة بِالْمُؤْمِنِينَ أي بجميعهم رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فهو تعالى شديد الرحمة بالطائعين منهم، مريد الإنعام على المذنبين فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرض هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة وناصبوك الحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني