تفسير سورة إبراهيم

التفسير القيم
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

شبه الله تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف.
فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور، لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكونها لغير الله - عز وجل - وعلى غير أمره : برماد طيرته الريح العاصف، فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه. فلذلك قال :﴿ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ﴾ لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب، ولا فائدة نافعة. فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، موافقا لشرعه.
والأعمال أربعة : فواحد مقبول. وثلاثة مردودة.
فالمقبول :( الخالص الصواب ).
فالخالص : أن يكون لله لا لغيره.
والصواب : أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والثلاثة مردودة ما خالف ذلك.
وفي تشبيهها بالرماد سر بديع. وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد، في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده : طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا، كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا. فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
شبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون : الكلمة الطيبة : هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة. فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة.
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كلمة طيبة : شهادة أن لا إله إلا الله، كشجرة طيبة : وهو المؤمن، أصلها ثابت قول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن ﴿ وفرعها في السماء ﴾ يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وقال الربيع بن أنس : كلمة طيبة : هذا مثل الإيمان، فإن الإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول : الإخلاص فيه، وفرعه في السماء، خشية الله.
والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن. فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء، علوا، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين.
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها، ومراعاتها حق رعايتها، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة إلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا. فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى.
وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا، يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب، كما قال تعالى :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾
[ فاطر : ١٠ ]. فأخبر سبحانه، أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.
والمقصود : أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا، متصفا بموجبها، قائما قلبه ولسانه وجوارحه، بشهادته، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متصلة بالسماء، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت.
ومن السلف من قال : إن الشجرة الطيبة هي النخلة. ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما «الصحيح ».
ومنهم من قال : هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد : حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله :﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ﴾ يعني بالشجرة الطيبة : المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض، والفرع في السماء، يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم، فيبلغ عمله وقوله السماء، وهو في الأرض.
وقال عطية العوفي في قوله :﴿ ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ﴾ قال : ذلك مثل المؤمن : لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله.
وقال الربيع بن أنس : أصلها ثابت وفرعها في السماء، قال : ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له، أصلها ثابت قال : أصل عمله ثابت في الأرض، وفرعها في السماء، قال : ذكره في السماء. ولا اختلاف بين القولين.
والمقصود بالمثل : المؤمن، والنخلة مشبهة به، وهو مشبه بها، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك.
ومن قال من السلف : إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به، وحكمته سبحانه.
فمن ذلك : أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، فكذلك
شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به، فعروقها : العلم والمعرفة واليقين وساقها : الإخلاص، وفروعها : الأعمال، وثمرتها : ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة، والصفات الممدوحة، والأخلاق الزكية، والسحت الصالح والهدى والدل المرضي، فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور.
فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله، والإخلاص قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها :
علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة، التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومنها : أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكر على التفكر، والتفكر على التذكر، وإلا أوشك أن تيبس.
وفي «مسند الإمام أحمد » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب، فجددوا أيمانكم ».
وبالجملة : فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك.
ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات، ومن عظيم رحمته، وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده : أن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها : أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب، ليس من جنسه، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع، واستوى وتم نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأذكى، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغراس والزرع، يكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته.
ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به، فإنه يفوته ربح كبير. وهو لا يشعر.
فالمؤمن دائما سعيه في شيئين : سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم. والله المستعان وعليه التكلان.
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم. ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الوقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وذكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره، وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.
وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل، والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله، ويختص من يشاء برحمته.
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة، فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض، ما لها من قرار، فلا عرق ثابت، ولا فرع عال، ولا ثمرة زاكية، فلا أصل، ولا جنى، ولا ساق قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مغدق، ولا أعلاها مونق، ولا جنى لها، ولا تعلو، بل تعلي.
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم. وجده كذلك. فالخسران كل الخسران : الوقوف معه، والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه، الذي هو كتاب الرب سبحانه.
قال الضحاك : ضرب الله مثل الكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يقول : ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة. كذلك الكافر لا يعمل خيرا، ولا يقوله، ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿ ومثل كلمة خبيثة ﴾ وهي الشرك، ﴿ كشجرة خبيثة ﴾ : يعني الكافر، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول : الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر، ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملا، فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله، فليس له أصل ثابت في الأرض، ولا فرع في السماء، يقول : ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض.
وقال الربيع بن أنس : مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض، ولا يصعد إلى السماء.
وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية : إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم، فقال له : ما تقول في الكلمة الخبيثة ؟ قال : ما أعلم لها في الأرض مستقرا، ولا في السماء مصعدا، إلا أن تلزم عنق صاحبها، حتى يوافي بها القيامة.
وقوله :﴿ اجتثت ﴾ أي استؤصلت من فوق الأرض.
ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين : أصحاب الكلم الطيب، وأصحاب الكلم الخبيث. فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا، والآخرة، وأنه يضل الظالمين، وهم المشركون عن القول الثابت. فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم، وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.
تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم.
وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته الله، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله :﴿ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ﴾ [ الإسراء : ٧٤ ] وقال تعالى لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم :﴿ إذا يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] وفي «الصحيحين » من حديث البجلي قال :«وهو يسألهم ويثبتهم ».
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ [ هود : ١٢٠ ].
فالخلق كلهم قسمان :( موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت ).
ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت، وفعل ما أمر به العبد، فبهما يثبت الله عبده، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا، قال تعالى :﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ﴾ [ النساء : ٦٦ ].
فأثبت الناس قلبا : أثبتهم قولا.
و( القول الثابت ) : هو القول الحق والصدق. وهو ضد القول الباطل الكذب.
فالقول نوعان :( ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له ).
وأثبت القول : كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا، والكاذب من أبغض الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا، وأقلهم ثباتا، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته. ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ؟
فقال : والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست صولة مبطل.
فما منح العبد أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم، ويوم معادهم.
كما في «صحيح مسلم » من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر ».
Icon