تفسير سورة البقرة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

فيحيا بإذن الله، ويخبرهم عن القاتل، والقصة تبدأ بالآية [ (٦٧) من سورة البقرة] وهي قصة مثيرة فعلا، يعجب منها السامع، ويحرص على طلبها.
فضلها:
فضل هذه السورة عظيم، وثوابها جسيم، ويقال لها: «فسطاط القرآن» لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» «١»
وقال أيضا: «اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «٢»
أي السحرة.
وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن سورة البقرة، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام».
صفات المؤمنين وجزاء المتقين
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
(١) رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة.
(٢) رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي.
71
الإعراب:
الم أحرف مقطعة مبنية غير معربة، وكذلك سائر حروف الهجاء في أوائل السور.
ذلِكَ ذا: اسم إشارة مبني في موضع رفع، وهو إما مبتدأ والْكِتابُ خبره، وإما خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هو ذلك الكتاب. والْكِتابُ بدل من ذلك أو عطف بيان.
لا رَيْبَ فِيهِ لا: نافية للجنس، ورَيْبَ اسمها المنصوب. وفِيهِ متعلق بمحذوف خبر تقديره: كائن. هُدىً إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هو هدى، أو منصوب على أنه حال من «ذا» أو من الْكِتابُ أو من الضمير في فِيهِ.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إما بالجر صفة للمتقين أو بدل منهم، وإما بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً أو على أنه خبر مبتدأ مقدر، وتقديره هم الذين وإما بالنصب على تقدير «أعني» ويُؤْمِنُونَ صلته.
أُولئِكَ عَلى هُدىً بالرفع على أنه مبتدأ، وعَلى هُدىً خبره، أو خبر الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ إذا جعل الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ مبتدأ.
البلاغة:
ذلِكَ الْكِتابُ الإشارة بالبعيد عن القريب للتنبيه على علو شأنه.
هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مجاز مرسل أو عقلي، أسند الهداية للقرآن، لأنه سبب الهداية، والهادي في الحقيقة هو الله تعالى.
أُولئِكَ عَلى هُدىً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ للعناية بشأن المتقين. رَبِّهِمْ للحصر فيهم «١».
المفردات اللغوية:
الْكِتابُ القرآن العظيم. ذلِكَ الْكِتابُ قال عامة المفسرين: تأويل قول الله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ: هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ لا شك في أنه من عند الله هُدىً هداية ورشاد لِلْمُتَّقِينَ الذين وقوا أنفسهم مما يضرها، فالتزموا الأوامر الإلهية وتجنبوا النواهي والمحظورات.
(١) ملاحظة عامة: اعتمدت في الإعراب على كتاب «البيان في غريب إعراب القرآن» لأبي البركات بن الأنباري، واستفدت كثيرا في البلاغة من كتاب «صفوة التفاسير» للأستاذ محمد علي الصابوني، والمعول في الأصل على تفسير الكشاف والقرطبي وغيرهما في الأمرين.
72
يُؤْمِنُونَ الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها، ويدل عليه العمل. وبِالْغَيْبِ ما غاب عن الإنسان من حساب وجزاء وجنة ونار وغيرها. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الإتيان بها مستكملة شروطها وأركانها.
يُوقِنُونَ اليقين: هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك، وهو حقيقة العلم.
التفسير والبيان
معنى البسملة إعلان بأن جميع ما في السورة من الله تعالى، لا من إنسان، أنزلها برحمته لهداية الناس إلى ما فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. وهي لا شك آية من القرآن بإجماع الصحابة الذين حرصوا عند جمع المصحف ألا يكتبوا فيه أي شيء من غير القرآن.
وقد استفتح الله هذه السورة بالحروف المقطعة، تنبيها لوصف القرآن وإشارة إلى إعجازه، وتحديا دائما على الإتيان بأقصر سورة من مثله، وإثباتا قاطعا إلى أنه كلام الله الذي لا يضارعه شيء من كلام البشر، فكأن الله يقول للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي، مركب من الحروف الهجائية التي ينطق بها كل عربي، ومع ذلك عجزتم عن مجاراته. هذا هو رأي المحققين من العلماء الذين قالوا: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها، بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها «١».
قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٨
73
أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن «١».
ومما يدل على كون الم مكونة من الحروف المقطعة:
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:
الم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»
«٢».
ثم وصف الله تعالى القرآن بأوصاف ثلاثة:
الأول- أنه الكتاب الكامل في كل ما اشتمل عليه من معان ومقاصد وقصص وعبر وتشريعات غير قابلة للنقض.
والثاني- أنه لا شك في كونه حقا من عند الله، لمن أمعن النظر وأصغى بقلبه.
والثالث- أنه مصدر هداية وإرشاد للمؤمنين المتقين، الذين يتقون عذاب الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهم المنتفعون به.
ثم أبان الله تعالى أربع صفات للمتقين الذين ينتفعون بالقرآن، وهم الذين يؤمنون ويصدقون بالغيبيات التي أخبر عنها القرآن من البعث والحساب والصراط والجنة والنار وغيرها، فلا يقفون عند مجرد الماديات والمحسوسات التي يدركها العقل إدراكا قريبا، وإنما يدركون أيضا ما وراء المادة من عوالم أخرى كالروح والجن والملائكة، وعلى رأسها وجود الله ووحدانيته.
ثم يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وآدابها وخشوعها،
(١) تفسير الكشاف: ١/ ٧٩
(٢) رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
74
فالصلاة بدون خشوع وتأمل في المقروء فيها وتدبر للمعاني القرآنية وخشية لله جسم بلا روح.
ثم ينفقون في وجوه البر والإحسان من الأموال كالزكاة والصدقة وسائر النفقات الواجبة شرعا، فيتحقق الرخاء لجميع الناس، وتتطهر الأموال مما شابها من شبهات، ويكتمل البناء المنشود شرعا: بناء الفرد بالصلاة التي هي عماد الدين، وبناء المجتمع بالزكاة وتوابعها التي هي أساس التقدم ورقي الحياة وسعادة الأمة. فالآية عامة في كل غيب أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كائن، وعام في كل صلاة فرضا كانت أو نفلا، وعام في كل نفقة.
ثم إن أولئك المتقين هم الذين يصدقون بجميع ما أنزل على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ويصدقون أيضا تصديقا جازما لا شك فيه بالآخرة وما تضمه من بعث الأجساد والأرواح معا من القبور، وحساب وجزاء وميزان وصراط وجنة ونار.
وهؤلاء الموصوفون بما ذكر من الإيمان الحق بالغيب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بالقرآن وبالكتب المنزلة قبله (وهي التوراة والإنجيل والزبور والصحف)، هم على نور وهداية من ربهم، وعلى منزلة عالية عند الله، وهم الفائزون بالدرجات العالية في جنات الخلود.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه صفات المؤمنين ومنهاجهم وقانونهم في الحياة الإسلامية: إيمان شامل كامل بكل ما غاب علمه عنهم، كذات الله تعالى وملائكته والدار الآخرة، مما أخبر عنه القرآن العظيم وأرشد إليه الدليل السليم، والإيمان مقرون بالعمل الصالح: وهو إقامة الصلاة المفروضة، والإنفاق في سبيل الله في الجهاد، وعون
75
الفقراء والمساكين وصدقة التطوع، والنفقة الواجبة على الأهل والولد وذي القربى. ولا يتجزأ الإيمان بما أنزل الله، فلا بد من الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن، والإيمان الإجمالي بالكتب والصحف السماوية السابقة، هذا مع العلم بأنه لا يعتد بما دون اليقين في الإيمان.
وأرشدت الآيات إلى أن التقوى: وهي الخوف من المخالفة، فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء.
فمن اتصف بأوصاف المؤمنين المذكورة، كان القرآن هدى له، أي أنه إمامه في أعماله وأحواله، لا يحيد عن نهجه، وقد ضمن لنفسه النجاة في عالم الآخرة، والسعادة والطمأنينة في الدنيا. والمشار إليه عند الجمهور وهم المؤمنون واحد، وكرر الإشارة للإعلام بأنه لا بد من تحقق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى، وأنهم هم المفلحون. قال مجاهد: في أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين.
صفات الكافرين
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
الإعراب:
سَواءٌ إما مبتدأ، وخبره: أَأَنْذَرْتَهُمْ.. ، أو خبر إِنَّ وما بعده، والتقدير فيه: إن الذين كفروا مستو عليهم الإنذار وتركه. وإنما وحّد سَمْعِهِمْ ولم يجمعه
76
ك قُلُوبِهِمْ وأَبْصارِهِمْ إما لأن السمع مصدر، والمصدر: اسم جنس يقع على القليل والكثير، أو على تقدير مضاف بلفظ الجمع، أي مواضع سمعهم، أو اكتفاء باللفظ المفرد لما أضافه إلى الجمع، وهو يفيد العموم، والمراد به الجمع.
البلاغة:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ.. فيه التيئيس من إيمان الكفار، بسبب عدم استعدادهم للإيمان.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تصريحية، شبه قلوبهم لتأبيها عن الحق بالوعاء المختوم عليه، واستعارة لفظ الختم بطريق الاستعارة التصريحية، للتصريح بلفظ المشبه به وحذف المشبه وأداة التشبيه ووجه الشبه.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: التنكير فيه للتعظيم والتهويل، ثم وصفه مع ذلك بعظيم يدل على أنه بالغ حدّ العظمة كمّا وكيفا، فهو شديد الإيلام، وطويل الزمان.
المفردات اللغوية:
الكفر: ستر الشيء وتغطيته، ومن كفر فقد غطى الحقيقة وستر نعم الله عليه، وكل من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر.
أَأَنْذَرْتَهُمْ الإنذار: الاعلام مع التخويف.
خَتَمَ اللَّهُ طبع الله عليها بالخاتم، والمراد: أغلقت قلوبهم، فلا يدخلها إيمان ونور.
غِشاوَةٌ غطاء وستر، والمقصود: التعامي عن النظر إلى آيات الله.
المناسبة وسبب النزول:
أتبع الله تعالى هذه الآية بعد بيان أحوال المؤمنين، لعقد مقارنة بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر، لأن الكفر ضد الإيمان، والمؤمنون ناجون، والكفار هالكون خالدون في نار جهنم.
وسبب النزول في أصح الروايات: ما أخرجه الطبري عن ابن عباس والكلبي أن هاتين الآيتين نزلتا في رؤساء اليهود، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما «١».
(١) تفسير الطبري: ١/ ٨٤، تفسير القرطبي: ١/ ١٨٤
77
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا وجحدوا بآيات الله وكذبوا بالقرآن، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم يستوي عندهم الإنذار وعدمه، فلا تتأثر قلوبهم به، لأنها مغلقة لا يصل إليها النور الإلهي، ولا يشرق فيها إيمان، بسبب تعاميهم عن الحق وآيات الله، فلا ينفذ إليها أثر الهداية والموعظة، ولأنهم عطلوا وسائل المعرفة والنظر والتفكير وإعمال السمع والبصر، فأصبحوا يرون الحق فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه، فكان جزاؤهم عذابا عظيما شديدا لا ينقطع، بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هاتين الآيتين تسلية للنّبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له، فلا تحسّر عليهم، ولا طمع في إيمانهم، ولا لوم عليه فيهم.
والختم على القلوب بمعنى عدم وعي الحق، وإلقاء الغشاوة على المسامع والأبصار: بمعنى عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم، أو بمعنى عدم نظرهم في مخلوقات الله، أو بمعنى أنهم دعوا إلى وحدانية الله فلم يؤمنوا، وكل ذلك إنما كان بسبب كفرهم وجحودهم، لا بسبب في القرآن أو تقصير من محمد أو أحد بعده في هدايتهم، فهم المتسببون لكل ذلك، المعرضون عن استخدام وسائط المعرفة السليمة في اعتقاد الحق والعمل به.
فدلّ تعبير الختم والطبع على القلوب والأسماع والأبصار على تمكّن الكفر في قلوبهم، حتى فقدوا الدّواعي والأسباب التي ترشدهم إلى النظر والتفكّر في أدلّة الإيمان ومحاسنه، وأصبحوا في هيئة أو عادة تألف الجحود والعصيان. وقد أسند الختم على قلوبهم وعلى أسماعهم وأبصارهم إلى الله تعالى، تنبيها على سنة الله في أمثالهم، لا على أنهم مجبورون على الكفر، ولا على منع الله تعالى إياهم من الإيمان بالقهر، وإنما هو تمثيل لسنته تعالى في تأثير تمرّسهم على الكفر وإعماله في قلوبهم،
78
بأنه استحوذ عليها وملك أمرها، حتى لم يعد فيها استعداد لغيره، وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن خذله وأمدّ له في ضلاله، إذ لم يمنعه حقا وجب له، فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم.
ويوضحه آيتان أخريان هما: وَقالُوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ، بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ، فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة ٢/ ٨٨]، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٤- ٥]، فهم باستكبارهم وعنادهم لا يخرجون عن سلطان الله، وأن الله سبحانه خالق كل شيء من الهدى والضلال، والكفر والإيمان، والإنسان هو الذي يختار أحد المنهجين.
صفات المنافقين- ١-
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
الإعراب:
مَنْ يَقُولُ وحد الضمير في الفعل مراعاة للفظ «من» وتجوز مراعاة المعنى، فيجمع.
يُخادِعُونَ اللَّهَ أي نبيّ الله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ الباء تتعلق بفعل مقدّر، أي استقر لهم. و «ما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، أي بكونهم يكذبون.
79
البلاغة:
وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ المتبادر أن يقال: «وما آمنوا» ليطابق قوله مَنْ يَقُولُ آمَنَّا ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم، لإخراجهم من عداد المؤمنين، وأكده بالباء مبالغة في تكذيبهم.
يُخادِعُونَ اللَّهَ استعارة تمثيلية، شبه حالهم مع ربهم في إظهار الإيمان وإخفاء الكفر بحال رعية تخادع سلطانها، وأستعير المشبه به للمشبه بطريق الاستعارة.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كناية، كنّى بالمرض في القلب عن النفاق، لأن المرض فساد للجسد، والنفاق فساد للقلب.
المفردات اللغوية:
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هو من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى، أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. والنفاق: اسم شرعي جعل سمة لمن يظهر الإيمان ويسرّ الكفر.
يُخادِعُونَ يعملون عمل المخادع، والخداع: صرف الغير عما يقصده بحيلة، والمراد هنا:
إظهار الإسلام وإضمار الكفر.
مَرَضٌ المرض: العلة، والمراد هنا شك ونفاق وتكذيب وجحود. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: شكّا.
التفسير والبيان:
هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس، وقد وصف الله حال الذين كفروا في آيتين، وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، ودعاهم صمّا بكما عميا، وضرب لهم الأمثال، فهم أشدّ خطرا على الإسلام من الكفار صراحة.
ولا تقتصر أوصاف المنافقين على المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فقط، بل في كل عصر إذا وجدت صفاتهم.
وأول هذه الصفات النطق بالإيمان باللسان، وامتلاء القلب بالكفر والضلال. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين في عصر النّبوة، وكان
80
أكثر أصحابه من اليهود، وكانوا يدّعون الإيمان، فردّ الله عليهم دعواهم، وأنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، وإن تظاهروا به، ولا شكّ أنهم بهذا في صورة المخادعين لله، والله يعلم عنهم ذلك، فهم أشد ضررا من الكفار، ولهم في الآخرة عذاب أليم بسبب كذبهم في دعواهم الإيمان بالله واليوم الآخر.
ونظرا لقصور عقولهم تصوّروا أنهم يخدعون الله تعالى، وهو منزّه عن ذلك، فإنه لا يخفى عليه شيء، وهذا دليل على أنهم لم يعرفوه، ولو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وليس خداعهم إلا وبالا عليهم، والله قادر على كشف أمرهم للمسلمين.
ومع كل ذلك يأمر الله بإجراء أحكام الإسلام عليهم، كأنه يخادعهم، على سبيل المشاكلة والمحاكاة والمشابهة لفعلهم، وكأن المسلمين حيث امتثلوا أمر الله فيهم مخادعون لهم، من باب التشبيه والتمثيل، للإشارة إلى أن المنافقين هم الخادعون المخدوعون.
والصحيح- كما قال ابن العربي «١» - أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقتلهم وأعرض عنهم لمصلحة تألف القلوب عليه، ومخافة من سوء المقالة الموجبة للتنفير، لئلا تنفر عنه القلوب، وقد أشار هو صلّى الله عليه وسلّم إلى هذا المعنى،
فقال: «أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يقتل أصحابه»
وهذا كما كان يعطي الصدقة للمؤلفة قلوبهم، مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن النفاق مرض خطير، وإن المنافقين شوكة مؤذية تطعن المجتمع من الداخل، وكان المتبادر إلى الذهن في تقديرنا أن تستأصل شأفة النفاق
(١) أحكام القرآن: ١/ ١٢، وانظر تفسير القرطبي: ١/ ١٩٨ وما بعدها.
81
والمنافقين، حتى ترتاح الدولة منهم، وكذلك تفعل الدول الآن، إلا أن للوحي الإلهي والتشريع السماوي حكمة عميقة الأثر، بعيدة المدى، تنتظر أحداث المستقبل، ليظهر للناس قصور علمهم أمام سعة العلم الإلهي، فكثيرا ما لاقى النّبي صلّى الله عليه وسلّم الأذى من المنافقين ولكنه انتصر في النهاية عليهم، ولعل ذلك من أصدق البراهين التاريخية على أن النفاق واليهودية شيئان متلازمان: لأنه ينشأ عن جبن حقيقي ولؤم طبعي، فالمنافق يلتوي مع الناس في أقواله وأفعاله، ويظهر النعومة، ولكنها السّم الزعاف في الدسم.
وتشير الآيات إلى أن الكذب هو شعار المنافقين، لذا حذر الله المؤمنين منه أشد التحذير، فما فشا في أمة إلا كثرت فيها الجرائم، وشاعت فيها الرذائل،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان» «١».
وإذا كان الكذب شعار المنافقين، فإن الصراحة في القول، والجرأة في العمل الموافق للاعتقاد شعار المؤمنين الصادقين، الذين يستحقون كل تكريم، فتكون العظة بإيراد صفات المنافقين أشد أثرا، وأحكم أمرا للمؤمنين أنفسهم، إذ امتازوا بالثبات على الحق، وظل المنافقون في نفاقهم وزاد تمسكهم بما هم عليه، وأبوا الإيمان، وأعرضوا عن القرآن، وازداد مرض قلوبهم، وتحرقت نفوسهم بعد ما جاءهم البشير النذير، وعلا مجده وكثر أتباعه، على ما فاتهم من الزعامة، وحسدا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه.
(١) حديث حسن رواه أحمد في مسنده، وأبو الشيخ في التوبيخ، وابن لال في مكارم الأخلاق عن أبي بكر. [.....]
82
صفات المنافقين- ٢-
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
الإعراب:
وَإِذا إذا: ظرف زمان مستقبل، وهو مبني لتضمنه معنى الحرف لَهُمْ في موضع رفع نائب فاعل لكلمة قِيلَ: هذا رأي ابن الأنباري، والصحيح أنه جار ومجرور متعلق بالفعل السابق، إِنَّما كافّة، ليس للجملة بعدها موضع من الإعراب نَحْنُ ضمير مرفوع منفصل، وهو مبني لأنه مضمر.
أَلا إِنَّهُمْ ألا: حرف استفتاح، وكسرت «إن» لأنها مبتدأة.
إِنَّهُمْ ضمير فصل لا موضع له من الإعراب أو توكيد للهاء والميم في إِنَّهُمْ.
«والمفسدون» خبر «إن».
كَما مصدرية تقديره: كإيمان الناس.
البلاغة:
إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ قصر الموصوف على الصفة، أي نحن مصلحون ليس إلا.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ تنويع التأكيد، جاءت الجملة مؤكدة بأربعة تأكيدات هي «ألا و «إن» وضمير الفصل: «هم» و «المفسدون».
المفردات اللغوية:
لا تُفْسِدُوا الفساد: ضد الصلاح، والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى الفساد، بإثارة
83
الفتن، وإفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار، وإغرائهم بالمؤمنين، وتنفيرهم من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، والكفر والصد عن سبيل الله.
إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الصلاح ضد الفساد، أي ليس شأننا الإفساد أبدا، ولا شأن لنا إلا الإصلاح، وإنما نحن أناس مصلحون، بعيدون عن شوائب الإفساد، نسعى للخير والصلاح، باتباعنا رؤساءنا، وهكذا شأن المفسدين في كل زمان، يدّعون في إفسادهم أنه هو الإصلاح بعينه.
السُّفَهاءُ ضعفاء العقول، والمراد هنا الجهلاء وضعفاء الناس. وأصل السفه: الخفة.
التفسير والبيان:
إذا قيل للمنافقين: إن مؤامراتكم الدنيئة ومخططاتكم الخبيثة بإثارتكم الفتن، والتجسس لحساب الكفار، وتأليب العرب على المسلمين فساد، قالوا: ليس الأمر كما تزعمون، فإنما نحن مصلحون، لا نبغي إلا الإصلاح، فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم المفسدون، ولكنهم لا يدركون خطورة عملهم، ولا يشعرون بهذا الإفساد، لأنه أصبح غريزة لهم، مركزة في طباعهم.
وكان المسلمون ينصحونهم بشتى الوسائل، ويدعونهم إلى الإيمان، كإيمان الذين أصغوا للعقل السليم، وسلكوا سبيل الرشاد كعبد الله بن سلام وأشباهه، فإذا قالوا لهم: ادخلوا في ساحة الإيمان كغيركم من الناس، أجابوا مترفعين:
أنؤمن بالقرآن وبمحمد، كما آمن السفهاء: أتباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ضعفاء الناس من العبيد والفقراء، وضعفاء العقل من الجهلاء؟ مع أن العاقل هو من يرى طريق الخير والنور أمامه فيسلكه. فرد الله عليهم بأنهم وحدهم هم السفهاء دون من نسبوهم إلى السفه، فليس عندهم إدراك صحيح للإيمان، ولا يعلمون حقيقته وأثره.
والسبب في أنه قيل في الإفساد: لا يَشْعُرُونَ والشعور: إدراك ما خفي، وفي الإيمان: لا يَعْلَمُونَ والعلم: اليقين ومطابقة الواقع: هو أن الإفساد في الأرض أمر محسوس، ولكن لا حسّ لهم حتى يدركوه، وأما الإيمان
84
فهو أمر قلبي، لا يدركه إلا من علم حقيقته، ولا يتم الإيمان إلا بالعلم اليقيني، والعلم: معرفة المعلوم على ما هو به، ولكن لا علم لديهم حتى يصلوا إلى حقيقة الإيمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن قلب الحقائق، وتغيير الوقائع سمة الجبناء الضعفاء، أما الأقوياء وهم المؤمنون الذين استخدموا وسائط المعرفة السليمة للوصول إلى الحقائق، فهم الخالدون الباقون، وهم الذين يحبون الإنسانية بحق وصدق، فيدعونهم إلى إصلاح السلوك، وتقويم الأخلاق، والثبات على المبدأ الحق الذي يرشد إليه العقل، وتقتضيه الفطرة، وتؤيده البراهين الحسية والتاريخية.
وقد دلت الآيات: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا على أن الإيمان ليس هو الإقرار، دون الاعتقاد، لأن الله تعالى قد أخبر عن إقرارهم بالإيمان، ونفى عنهم سمته بقوله: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ «١».
صفات المنافقين- ٣-
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤ الى ١٦]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
(١) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٢٥
85
الإعراب:
يَعْمَهُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من «هم» في يَمُدُّهُمْ والعامل فيه الفعل، وهو «يمدّ» وتقديره: يمدهم عمهين، وإن شئت «عامهين» فقد قالوا: عمه، فهو عمه وعامه: إذا تحير.
البلاغة:
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ سمى الجزاء على الاستهزاء استهزاء بطريق المجاز أو المشاكلة: وهي اتفاق الجملتين في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، أو هي مقابلة الكلام بمثله وإن لم يكن في معناه، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] والثانية ليست سيئة ولكنه لما قابل بها السيئة أجرى عليها اسمها، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٤] والثاني ليس باعتداء. وقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل ١٦/ ١٢٦] والأول ليس بعقاب، وإنما هو على مقابلة اللفظ بمثله ومزاوجته له، وتقول العرب: الجزاء بالجزاء، والأول ليس بجزاء.
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى استعارة تصريحية، استعار لفظ الشراء لاستبدال الغي بالرشاد، والكفر بالإيمان، فخسرت صفقتهم، ثم زاده توضيحا بقوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وهذا هو الترشيح: وهو ذكر ما يلائم المشبه به.
المفردات اللغوية:
خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ انصرفوا إليهم أو انفردوا معهم، وشياطينهم: إخوانهم في الكفر ورؤساؤهم وكبراؤهم مُسْتَهْزِؤُنَ الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهذا فعل اليهود.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي أنه سيجازيهم عليه بالإمهال، ثم بالنكال، على سبيل المشاكلة (اتفاق اللفظ واختلاف المعنى) ليزدوج الكلام، فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما.
يَمُدُّهُمْ يزيدهم أو يمهلهم. طُغْيانِهِمْ تجاوزهم الحد وغلوهم في الكفر. يَعْمَهُونَ أي يتحيرون أو يعمون عن الرشد، من العمه: وهو ضلال البصيرة.
سبب نزول الآية ١٤:
أورد المفسرون أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين إذ امتدح أبا بكر وعمر وعليا بعد أن قال فيهم لأصحابه: انظروا كيف أردّ عنكم هؤلاء السفهاء؟ فنزلت الآية، لكن قال السيوطي: هذا الإسناد واه جدا.
86
التفسير والبيان:
هذا في عصر النبوة موقف أو مشهد آخر من مواقف ومشاهد المنافقين من اليهود، الذين هم كالشياطين، بل أشد، وهو موقف لا يحسدون عليه، لأنه سينكشف الحق قريبا، وتتجلى الحقيقة، فإن كل كاذب قليل الإدراك قصير النظر، لا ينظر إلى المستقبل. فهم إذا خلوا مع بعضهم وزعمائهم تضامنوا معهم، وقالوا: إنا معكم. وإذا رأوا المؤمنين أعلنوا إيمانهم، وقد فضح الله أوضاعهم، ولم يعبأ بهم، وسيجازيهم أشد الجزاء، ويزيدهم حيرة وضلالا في أمورهم.
ثم إنهم بإهمالهم العقل في فهم كتاب الله، وتركهم الطريق المستقيم، وأدلة صحة هذا الدين حسدا وبغيا، كأنهم أقدموا على صفقة خاسرة، ودفعوا الهدى ثمنا للضلال، وباعوا النور بالكفر وضلالات الأهواء، فما ربحوا في هذه التجارة، لما ينتظرهم من عذاب جهنم. قال ابن عباس: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى» أي استبدلوا واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أورده بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء.
وأسند الله تعالى الربح إلى التجارة، على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، والمعنى ربحت وخسرت في بيعك. وما كانوا مهتدين في اشترائهم الضلالة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الجزاء والعقاب واقع على كل من بدل بالإيمان كفرا، وبالهدى والقرآن والنور والمنهج المستقيم ضلالا وبطلانا وظلاما والتواء، إذ إن هؤلاء أضاعوا رأس المال وهو ما كان لهم من الفطرة السليمة، والاستعداد العقلي لإدراك الحقائق.
ومن المعلوم أن الناس يصفون التاجر الخاسر الذي ضيع كل رأس ماله، ولم
87
يتدارك ما قد خسره في صفقة ما بأنه غبي أحمق، وهذا هو حال المنافق. ثم إن المعول عليه في دستور القرآن الحكم بصدق الإسلام هو الإخلاص بالقلب، لا مجرد القول باللسان.
والخلاصة: أن الله تعالى ذكر أربعة أنواع من قبائح المنافقين، وكل نوع منها كاف وحده في إنزال العقاب بهم وهي ما يأتي «١» :
١- مخادعة الله، والخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره كيلا يفعل الذم.
٢- الإفساد في الأرض بإثارة الفتنة والتأليب على المسلمين وترويج الإشاعات الباطلة.
٣- الإعراض عن الإيمان والاعتقاد الصحيح المستقر في القلب، الموافق للفعل.
٤- التردد والحيرة في الطغيان وتجاوز الحدود المعقولة، بالافتراء على المؤمنين ووصفهم بالسفاهة، مع أنهم هم السفهاء بحق، لأن من أعرض عن الدليل، ثم نسب المتمسك به إلى السفاهة فهو السفيه، ولأن من باع آخرته بدنياه فهو السفيه، ولأن من عادى محمدا عليه الصلاة والسلام، فقد عادى الله، وذلك هو السفيه، فالسفه محصور فيهم، ومقصور عليهم، ولديهم شعور ما: بأنهم ركبوا هواهم، ولم يتبعوا هدي سلفهم، واعتمدوا في نجاتهم وسعادتهم على الأماني والتعلّات، كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة ٢/ ٨٠] وقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨] أي شعبه وأصفياؤه.
(١) تفسير الرازي: ٢/ ٦٢- ٦٨
88
إيراد الأمثال للمنافقين
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
الإعراب:
اسْتَوْقَدَ ووَ تَرَكَهُمْ أعاد الضمير إلى الأول بالإفراد، وإلى الثاني بالجمع، لأنه نزّل الَّذِي منزلة «من» و «من» يرد الضمير إليها تارة بالإفراد، وتارة بالجمع. واسْتَوْقَدَ:
إما بمعنى «أوقد» فيكون متعديا إلى مفعول واحد، وهو قوله: ناراً، وإما أن تكون السين فيه للطلب، فيكون متعديا إلى مفعولين، والتقدير، استوقد صاحبه نارا. «لما» ظرف زمان، العامل فيه: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. ما حَوْلَهُ اسم موصول بمعنى الذي، وحوله: الصلة، وهو في موضع نصب، لأنه مفعول «أضاءت». وأضاءت: يكون لازما ومتعديا، والأفعال التي تكون لازمة ومتعدية تنيّف على ثمانين فعلا. لا يُبْصِرُونَ جملة فعلية منفية في موضع نصب على الحال، من ضمير تَرَكَهُمْ.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ: مرفوع خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هم.
أَوْ كَصَيِّبٍ أو: هاهنا للإباحة، كصيب: مرفوع لكونه خبرا لقوله: مَثَلُهُمْ، وتقديره: مثلهم كمثل أصحاب صيب، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. فِيهِ ظُلُماتٌ في موضع جر على الوصف لصيب. ويَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ جملة فعلية في موضع جر، صفة لأصحاب المقدر. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله.
يَكادُ الْبَرْقُ مضارع كاد، من أفعال المقاربة، ينفي في الإيجاب ويوجب في النفي.
كُلَّما منصوب لأنه ظرف.
89
البلاغة:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً تشبيه تمثيلي، شبه المنافق بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار. وكذلك أَوْ كَصَيِّبٍ.. تشبيه تمثيلي، شبه الإسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به، وشبه شبهات الكفار بالظلمات.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ تشبيه بليغ، أي هم كالصم البكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس.
يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ مجاز مرسل من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أي رؤوس أصابعهم.
«ويكذبون.. مصلحون.. يعمهون» : توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو من المحسنات البديعية. والخلاصة: اشتملت الآيات على قوة التعبير وشدة التأثير وروائع التشبيه، ففيها تشبيه القرآن بالمطر إذا أمطر يحيي الأرض، والقرآن يحيي موات النفوس، ويرى أصحاب الأهواء أن في القرآن شبها هي كالظلمات العارضة مع المطر. وفي الآيات أيضا وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة.
المفردات اللغوية:
«المثل» الصفة التي أضحت كالمثل، أو مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة. اسْتَوْقَدَ أوقد نارا للاستدفاء والإضاءة، أو طلب إيقاد النار أَضاءَتْ أظهرت ما حولها، «ترك» صيّر.
والصم: آفة تمنع السماع، والبكم: الخرس، والعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يبصر.
كَصَيِّبٍ الصيب: المطر الكثير. رَعْدٌ الرعد: صوت احتكاك الهواء الذي يسمع في السحاب عند تجمعه. والبرق: هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالبا بسبب احتكاك الهواء واتحاد كهربية السحاب الموجبة بالسالبة. والصاعقة: نار عظيمة تنزل أحيانا أثناء المطر والبرق بسبب تفريغ كهربية السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض. والخطف: الأخذ بسرعة.
قامُوا: وقفوا وثبتوا في أماكنهم متحيرين منتظرين تغير الحال، للوصول إلى النجاة.
والظلمات: هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيّب نفسه.
سبب نزول الآية ١٩:
أخرج الطبري عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في نزول هذه الآية:
قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله: فيه رعد شديد وصواعق وبرق، فكان كلما أضاءت لهما الصواعق، جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق (الخوف) أن
90
تدخل الصواعق في مسامعهما، فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشوا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، وقاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمدا، فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه، فأسلما ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين، مثلا للمنافقين الذين بالمدينة.
وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبي صلّى الله عليه وسلّم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه.
فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحا، مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم دين صدق، فاستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفارا، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما «١».
التفسير والبيان:
ضرب الله تعالى في هذه الآيات مثلين لتوضيح حال المنافقين وبيان شناعة أعمالهم وسوء أفعالهم، تنكيلا بهم، وفضحا لأمورهم، إذ كانوا فتنة للبشر، ومرضا في الأمة. وضرب الأمثال هو منهج القرآن لتوضيح المعاني وإبراز المعقولات الخفية في معرض المحسوسات الجلية، وهذان المثلان يصوران حالة القلق والحيرة والاضطراب عند المنافقين وسرعة انكشاف أمرهم:
المثل الأول- لسرعة انكشاف أمرهم: وهو أن مثل المنافقين وحالهم في إظهار الإسلام زمنا قليلا وأمنهم على أنفسهم وأولادهم، كحال الذين أوقدوا
(١) تفسير الطبري: ١/ ١١٩
91
نارا، لينتفعوا بها، فلما أضاءت ما حولهم من الأمكنة والأشياء، وأبصروا زمنا يسيرا، أطفأها الله بنحو مطر شديد أو ريح عاصف، فصيرهم لا يبصرون شيئا، وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار، لأن النور قد زال.
والمنافقون عطلوا مشاعرهم وإحساساتهم، إنهم عطلوا منفعة السمع، فلم يسمعوا عظة واعظ وإرشاد مرشد، بل لا يفقهون إن سمعوا، فكأنهم صمّ عن الحق لا يسمعون. وعطلوا منفعة الكلام والسؤال والمناقشة، فلم يطلبوا برهانا على قضية، ولا بيانا عن مسألة، فكأنهم بكم لا يتكلمون، وعطلوا منفعة البصر، فلم ينظروا ولم يعتبروا بما حل بهم من الفتن وبما تعرضت له الأمم، فكأنهم عمي عن الهدى. وهم لا يعدلون أصلا عن حالهم من الضلالة إلى الهدى، فلا تأس عليهم ولا تحزن.
والمثل الثاني- لحيرتهم وقلقهم وانتهازيتهم: وهو أن القرآن قد أتاهم بالإرشادات الإلهية، ولكنهم أعرضوا عنها، فحالهم تشبه حال قوم نزل عليهم المطر الغزير، المصحوب بالمخاوف من ظلمات المطر والسحب والليل، والرعد القاصف، والبرق الخاطف، وفي هذا الجو القاتم تلمسوا سبيل النجاة، وعقدوا الأمل على ما لاح في الأفق من نور، فعزموا على اتباع الحق الذي جاءت به الآيات البينات، ثم ما لبثوا أن وقعوا في الظلام، فأصابهم القلق والاضطراب، والله محيط بهم، قادر عليهم، فلو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد، وأبصارهم بوميض البرق الخاطف، ولكن لحكمة ومصلحة، لم يشأ ذلك، لإمهالهم وإعطائهم الفرصة ليثوبوا إلى رشدهم.
والخلاصة: قد يضيء النفاق لصاحبه الدرب حينا قصيرا، ثم سرعان ما ينطفئ كما تنطفئ النار، مما يجعل النفاق لا دوام له ولا استمرار. وقد يجد المنافق الأمل في نفاقه لتحقيق غرض أو مكسب مادي رخيص، ثم تتبدد
92
الآمال، ويبقى المنافقون في قلق واضطراب، إذ إن فرحهم الظاهري بنزول آية، وسيرهم مع المسلمين، يسقطه الامتحان عند ما يطالبون بالجهاد مع المؤمنين، وإن التلون بالدعم حين الخير، والنقمة والكفر حين الشر، مثل المنافق غير المؤمن.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم. فما يظهره المنافقون من الإيمان الذي تثبت به أحكام المسلمين في الزواج والميراث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، واغترارهم لما آمنوا بكلمة الإسلام، لا فائدة له في أحكام الآخرة، لأنهم يصيرون إلى العذاب الأليم، كما أخبر التنزيل: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء ٤/ ١٤٥] فمثل استضاءتهم بضوء إقرارهم بالإسلام مع إسرار الكفر كإضاءة النار الموقوتة أو كمثل مطر مظلم. والمنافقون عطلوا بحق وسائل المعرفة الصحيحة والإيمان الراسخ، فهم صمّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عمي عن الإبصار له، وأشد من ذلك أنهم لا يرجعون في النهاية إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم، لا بقهر وإجبار. ومع نفاقهم فلم يعجل الله عقابهم في الدنيا، وقد استنبط الجصاص من ذلك: أن عقوبات الدنيا ليست موضوعة على مقادير الاجرام، وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح فيها، وعلى هذا أجرى الله تعالى أحكامه «١».
والقرآن ممتلئ بالخير والآيات الدالة على كونه من عند الله كالصيّب، وما فيه من الوعيد والزجر كالرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا تبهر المنافقين كالبرق، وما فيه من الدعوة إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل كالصواعق.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٦- ٢٧
93
والله محيط بجميع الكائنات وبالكافرين، فلن يفلت من حسابه أو قدرته أو مشيئته أحد، ولو شاء الله لأطلع المؤمنين على المنافقين، فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وهو سبحانه المتميز بالقدرة الشاملة لكل شيء، فهو جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم، ويجب على كل مكلف (بالغ عاقل) أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل، ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره، ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته.
هذه هي الآيات العشرون، أربع منها في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وبقيتها في المنافقين «١».
الأمر بعبادة الله وحده والأسباب الموجبة لها
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
الإعراب:
يا أَيُّهَا النَّاسُ: يا حرف نداء، وأي: اسم منادى مضموم، وها للتنبيه، وكثرة النداء في القرآن بهذا الأسلوب للتأكيد والمبالغة، لأن كل ما نادى الله به عباده من أوامر ونواه وعظات من
(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص ١١
94
الأمور العظام الموجبة للتيقظ. والناس: بدل من المنادي، لأن ما فيه أل بدل من المنادي إذا كان جامدا، ونعت أو صفة إذا كان مشتقا، وعبارة القرطبي: الناس: مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين. الَّذِي جَعَلَ: إما منصوب صفة رَبَّكُمُ أو مفعول تَتَّقُونَ أو منصوب على المدح بتقدير فعل، أو منصوب صفة للفظ الله في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ.. (٢٠). وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الذي، أو مبتدأ خبره: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً (٢٢)، أو صفة لفظ اللَّهُ في قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ.. (٢٠).
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنتم: ضمير مرفوع منفصل مبتدأ، وتَعْلَمُونَ جملة فعلية في موضع الخبر، والجملة من المبتدأ والخبر حال من ضمير تَجْعَلُوا.
البلاغة:
رَبَّكُمُ الإضافة للمخاطبين للتعظيم.
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً مقابلة بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، من أنواع المحسّنات البديعية.
المفردات اللغوية:
«يا» : لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل، فإن نودي به القريب فهو بقصد تعظيم المنادي به، وإيقاظ النفوس، واجتذاب الأنظار، واستمالة القلوب الغافلة، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ. وأما نداء القريب فيكون بكلمة «أي» خَلَقَكُمْ الخلق: الإيجاد والاختراع بلا مثال سابق.
فِراشاً: الفراش: البساط للاستقرار، والمراد أنه مهد الأرض للإقامة فيها والاستقرار عليها وذلك مثل المذكور في آيتين أخريين: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غافر ٤٠/ ٦٤] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ ٧٨/ ٦]. بِناءً سقفا مرفوعا مبنيا محكما. أَنْداداً جمع ند وهو النظير، أي أمثالا من الآلهة تعبدونها من دون الله. والمراد بعبادة المؤمنين: ازديادهم منها وإقبالهم عليها وثباتهم فيها: وأما عبادة الكفار فمشروط فيها ما لا بد لها منه وهو الإقرار بالشهادتين، وما لا بد للفعل منه فهو مندرج تحت الأمر به، وإن لم يذكر، كما يشترط على المأمور بالصلاة شرائطها من الوضوء والنية وغيرها.
مناسبة الآيات:
بعد أن ذكر الله تعالى أصناف الناس الثلاثة: وهم المؤمنون، والكافرون،
95
والمنافقون، أمر جميع الناس ومنهم مشركو مكة بعبادته والاستكانة والخضوع له بالطاعة، وإفراد الربوبية والوحدانية له، وعبادته دون الأوثان والأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها، لأنه تعالى هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم، ولأنه المنعم المتفضل على جميع الخلائق بخيرات الأرض والسماء.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى جميع الناس من مشركي مكة وغيرهم بعبادته وحده، كما أمرهم على لسان الأنبياء السابقين في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] أي الأوثان. وأصل العبادة:
الخضوع والتذلل، ويراد بها هنا توحيد الله والتزام شرائع دينه، ونبذ عبادة الأصنام. والسبب أن هذا الرب العظيم يستحق إفراده بالعبادة، لأنه خالق العباد جميعهم، المأمورين وأسلافهم، ومدبر شؤونهم، وواهبهم ما يحتاجونه من طرق الهداية ووسائل المعرفة. وللعبادة ثمرة مؤكدة هي الوصول للتقوى والظفر بالفوز والنجاح والهدى وبلوغ درجة الكمال، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ومن عبد الله حق العبادة تحققت تقواه التي يحبها الله من عباده. وبما أن الأصل في كلمة «لعل» للترجي والتوقع، وهو مستحيل من الله القدير الأعلى للعبد الضعيف الأدنى، فكان المراد به: افعلوا ذلك راجين الوصول للتقوى، أو لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا.
والأمر بالعبادة أيضا لأنه سبحانه جعل الأرض مهادا وقرارا للاستقرار عليها، والحياة والإقامة فيها بهدوء واطمئنان، بالرغم من دورانها وكرويتها، فهي ثابتة بالجبال الراسيات: وَالْجِبالَ أَوْتاداً [النبأ ٧٨/ ٧]، ولأنه جعل السماء سقفا مرفوعا فوق الأرض كالقبة، تظلّ الناس بالخير والبركة، وأحكم
96
بناءها مع ما فيها من أفلاك وأجرام، وأحكم النّسب بينها بسنة الجاذبية، فلا يختل نظامها، ولا يسقط منها جرم عظيم على الأرض، ولا تصطدم ببعضها، وأنزل منها أي من السحاب ماء مباركا ومطرا عذبا ينبت به الزرع والعشب، ويحيي الأرض بعد موتها، ويغسل به الجو الذي تلوث بالتراب وغيره من كل ما يؤذي ويضر ويعكر صفو الحياة وصفاء الهواء.
فمن اتصف بالخلق والإبداع والتكوين للإنسان، والإمداد له بالنعم والأرزاق، وبخلق السماء والأرض لخير البشر، جدير بالعبادة والتعظيم والخضوع له، فلا يليق اتخاذ الشركاء الضعفاء معه من الأصنام والبشر، الذين لا يخلقون شيئا ولا يقدمون رزقا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا، ولا يدفعون عن ذواتهم ضرا، وتقدس الله تعالى عن اتخاذ الأنداد والشركاء والأولاد، إذ لا حاجة له بهم، فمن كانت له حقيقة القدرة، ودلت عليه دلائل الربوبية والوحدانية هو المستحق وحده للطاعة.
وأما اتخاذ المشركين الأصنام أندادا توسلا بها إلى الله، واتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، في التشريع وتحليل المنكرات، وتحريم بعض الطيبات، فهو محض الافتراء والكذب، ومغالطة الواقع، مع أن الكل متفقون على أن الخالق والرازق هو الله، وحال جميع الكافرين والمنافقين يعلمون في الحقيقة بطلان شرائع وأنظمة الآلهة المزعومة، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٦١] أي يصرفون. وقال سبحانه منددا باتخاذ الوسائط إلى الله، وبإبطال التقرب بغير ما شرع الله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
97
فقه الحياة أو الأحكام:
العبادة التي هي توحيد الله والتزام شرائع دينه لا تكون إلا لله الخالق الرازق، وملازمة العبادة الخالصة لله مدعاة لغرس أصول التقوى لله عز وجل، فلا يجرأ المتقون على مخالفة الأوامر، واقتحام المعاصي.
وليس المراد بكون الأرض فراشا، أي وطاء للافتراش والاستقرار عليها، هو الفراش المعهود المستخدم للنوم، فمن حلف لا ينام على فراش، فنام على الأرض، لا يحنث في رأي الحنفية والشافعية، لأن اللفظ لا ينصرف إليها عرفا، والأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء، وليس في العادة إطلاق هذا اللفظ على الأرض. وأما المالكية فيحملون الأيمان على النية أو السبب أو بساط الحال التي جرت عليه اليمين (أي سبب اليمين)، فإن عدم ذلك فالعرف، فإن لم يكن شيء من ذلك فيحمل اليمين على مطلق اللفظ المراد في اللغة.
ودلت الآية على توحيد الله، وإثبات الصانع الذي لا يشبهه شيء، القادر الذي لا يعجزه شيء. ومن مظاهر قدرته رفع السماء ووقوفها بغير عمد نراه، ودوامها على طول الدهر، دون تبدل ولا تغير، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [الأنبياء ٢١/ ٣٢] وكذلك ثبات الأرض ووقوفها على غير سند بالرغم من تحركها، ودورانها في الفضاء، من أعظم الدلالات على التوحيد، وعلى قدرة خالقها، وأنه لا يعجزه شيء، وفي ذلك تنبيه على الاستدلال بها على الله وتذكير بالنعمة، فقد أخرج الله من الأرض ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات، طعاما للإنسان، وعلفا للدواب، وقد بين الله هذا في قوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا «١»، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [عبس ٨٠/ ٢٥- ٣٢].
(١) القضب: علف رطب للدواب كالبرسيم، والأب: الكلأ والعشب، أو هو التبن خاصة.
98
وأرشدت هذه الآية إلى أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق،
وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى: «والله لأن يأخذ أحدكم حبلة، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، أعطاه أو منعه» «١».
قال القرطبي:
ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله، بسبب الحرص والأمل، والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندّا «٢».
وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد، لأن المشركين يعلمون في الحقيقة أن المنعم عليهم هو الله دون الأنداد، ويعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبروا ونظروا وأعملوا عقولهم وأفكارهم، فلا داعي للوسائط المزعومة في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٥/ ٣].
تحدي الجاحدين بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
(١) أخرجه مسلم.
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٢٣٠
99
الإعراب:
الهاء في مِثْلِهِ إما أن تكون عائدة على عَبْدِنا فتكون مِنْ ابتدائية، وتقديره: ابتدئوا في الإتيان بالسورة من مثل محمد، وإما أن تكون عائدة على مِمَّا نَزَّلْنا وهو القرآن، فتكون مِنْ زائدة للبيان، وتقديره: فأتوا بسورة مثله. ومِنْ مِثْلِهِ متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله. قال الزمخشري: ورد الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس ١٠/ ٣٨]، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود ١٤/ ١٣]، عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء ١٧/ ٨٨]، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى «المنزّل» أحسن ترتيبا، وذلك أن الحديث في المنزل، لا في المنزل عليه.
أُعِدَّتْ إما حال للنار على معنى معدّة، وأضمرت معه قد، كما قال: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء ٤/ ٩٠]، أي قد حصرت، وإما بكلام منقطع عما قبله.
البلاغة:
عَلى عَبْدِنا إضافة تشريف وتخصيص. فَأْتُوا بِسُورَةٍ الأمر خرج إلى معنى التعجيز، وتنكير السورة لإرادة العموم والشمول.
وَلَنْ تَفْعَلُوا يفيد دوام التحدي في الماضي والحاضر والمستقبل. فَاتَّقُوا النَّارَ إيجاز صارف إلى الغاية المقصودة جوهريا، أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بالإيمان بالقرآن وبالنّبي محمد عليه الصلاة والسلام.
المفردات اللغوية:
رَيْبٍ شك. عَبْدِنا محمد. مِنْ مِثْلِهِ أي المنزل، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ أحضروا آلهتكم أو نصراءكم ورؤساءكم، أو من يشهد لكم يوم القيامة. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره لتعينكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن محمدا قاله من عند نفسه، فإنكم عرب فصحاء مثله. والسورة: قطعة أو طائفة من القرآن، لها أول وآخر، أقلها ثلاث آيات.
100
المناسبة:
بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعرا ونثرا وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان منكر نبوته ورسالته مستحقا العقاب والجزاء في نار جهنم.
التفسير والبيان:
إن كنتم أيها العرب وغيركم من الجاحدين في شك من صدق القرآن، الذي أنزله الله على عبده ورسوله النّبي الأميّ محمد بن عبد الله، وزعمتم أنه من كلام البشر، فأتوا بمثله، كما يقدر سائر البشر، وذلك إن كنتم صادقين في أنه مختلق ومن كلام البشر، وأنكم تقدرون على المعارضة لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال ٨/ ٣١]، واستعينوا بمن شئتم من الرؤساء والأشراف والآلهة المزعومة، لمعارضة القرآن، فإنه لا يقدر أن يأتي بمثله إلا الله، وحيث عجزتم ولم تقدروا على الإتيان بسورة تماثل القرآن في البيان الغريب والبلاغة المتفوقة، وعلو حسن النظم، وسلامة المنطق، وروعة التشريع والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات، ويظل العجز دائما في المستقبل، فلن تقدروا على الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي من جنس كلام العرب في الشعر والخطابة والنثر والأسلوب، وفي العرب البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء وأعلام البيان والقول.
101
وحيث ظهر العجز فعلا، فارجعوا إلى الحق، والإيمان بالقرآن، والتصديق برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي ذلك وحده النجاة من عذاب الله في النار التي وقودها الناس الكفار والحجارة (الأصنام) مادة الاشتعال، فهي لا يماثلها أعلى فرن ناري عالي التوتر لصهر الحديد وغيره من المواد الصلبة، ولا تقدّر درجات حرارتها بأفران الدنيا على الإطلاق، وقد أعدها الله وهيأها للكافرين الجاحدين المنكرين رسالة الإسلام، جزاء وفاقا لكفرهم وجحودهم. قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء ٢٩/ ٩٨].
والخلاصة: إذا بان العجز التام عن الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، مع المحاولة وبذل الجهود واستمرار التحدي في المستقبل، فاحذروا العناد، واعترفوا بكون القرآن من عند الله، لئلا تكونوا مع أصنامكم وقودا لنار جهنم التي أعدت لأمثالكم الكافرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. على صحة نبوة نبيّنا عليه الصلاة والسلام من وجوه:
الوجه الأول
- أنه تحداهم بالإتيان بمثل القرآن، وقرّعهم بالعجز عنه، مع ما هم عليه من الأنفة والحميّة، وأنه كلام موصوف بلغتهم، فلو قدروا على معارضته لكانت معارضته أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه.
فلما ظهر عجزهم عن معارضته، دلّ ذلك على أن القرآن من عند الله الذي لا يعجزه شيء، وأنه ليس في مقدور العباد مثله. وهذه معجزة باقية لنبيّنا عليه الصلاة والسلام بعده إلى قيام الساعة، وقد كانت هذه المعجزة تتناسب مع اعتزاز العرب بالفصاحة والبلاغة بما لم يتهيأ لغيرهم، فجعل الله تعالى آية محمد الكبرى كتابا معجزا لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته،
102
فكانت عليهم الحجة بأقوى مما قامت به المعجزات المادية السابقة مثل عصا موسى ويده في عصر السحر، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عصر الطب.
والوجه الثاني
- كان معلوما عند الناس قاطبة: المؤمنين والجاحدين لنبوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من أتمّ الناس عقلا، وأكملهم خلقا، وأفضلهم رأيا، فما طعن عليه أحد في كمال عقله، ووفور حلمه، وصحة فهمه، وجودة رأيه، فلا يجوز على من كان هذا وصفه أن يدّعي النّبوة، ويجعل علامة نبوته كلاما يقدر كل واحد من العرب على مثله، فيظهر حينئذ كذبه، وبطلان دعواه، فدلّ ذلك على أنه تحداهم بكلام هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله.
والوجه الثالث
- أخبر تعالى بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا أنهم لا يعارضونه، وذلك إخبار بالغيب، وتحقق الخبر مع مضي الزمان. قال أبو بكر الجصاص «١» : وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء ١٧/ ٨٨]، فلما ظهر عجزهم قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود ١٤/ ١٣]، فلما عجزوا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور ٥٢/ ٣٤]، فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن ذلك، وقامت عليهم الحجة، وأعرضوا عن طريق المحاجة، وصمموا على القتال والمغالبة، أمر الله نبيه بقتالهم.
والخلاصة: أن التحدي كان متنوعا، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٩
103
وأرشدت الآية: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا.. على ظهور العجز التام عن المعارضة، وعلى استحقاق الكافرين النار لإنكارهم نبوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولعدم تصديقهم بالقرآن، وعلى أن من اتقى النار ترك المعاندة، وعلى أن النار حاليا ومن القديم مخلوقة مهيأة موجودة معدّة للعصاة والفسّاق والكفّار. قال القرطبي «١» : فيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة، خلافا للمبتدعة في قولهم: إنها لم تخلق حتى الآن.
جزاء المؤمنين العاملين
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
الإعراب:
مُتَشابِهاً منصوب على الحال من الضمير في بِهِ والعامل فيه: أُتُوا أي يشبه بعضه بعضا في المنظر، ويختلف في الطعم. وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم.
مُطَهَّرَةٌ نعت للأزواج، ومطهرة في اللغة: أجمع من طاهرة وأبلغ. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ «هم» : مبتدأ، و «خالدون» خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب «خالدين» على الحال.
والسبب في تنكير جنات وتعريف الأنهار: أن الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنات من تلك
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٢٣٦
104
الجنان. وأما تعريف الأنهار: فلأن إيراد الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب وألوان الفاكهة، تشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو المراد أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم ١٩/ ٤]، أو لأنه يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ.. [محمد ٤٧/ ١٥].
لمفردات اللغوية:
وَبَشِّرِ أخبر. الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بالله. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفروض والنوافل. أَنَّ أي بأن. جَنَّاتٍ حدائق ذات شجر ومساكن، وهي دار الخلود للمؤمنين، وسميت جنة، لأنها تجنّ من فيها أي تستره بشجرها. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت أشجارها وقصورها. الْأَنْهارُ المياه فيها. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ أطعموا من تلك الجنات.
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي قبله في الجنة لتشابه ثمارها. وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا لونا ويختلف طعما. وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من الحور وغيرها. مُطَهَّرَةٌ من الحيض والبصاق وسائر الأقذار. وَهُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا لا يفنون ولا يخرجون، والخلود: البقاء، ومنه جنة الخلد.
المناسبة:
يعقد القرآن عادة مقارنات بين الأشياء المتضادة، فلما ذكر الله جزاء الكافرين والعصاة، أردف ذلك ببيان جزاء المؤمنين الأتقياء الأطهار، ليظهر الفرق بين الفريقين، وليكون ذلك أدعى للعبرة والعظة، والامتثال من مقارنة الأحوال.
التفسير والبيان:
بشّر يا محمد أنت وورثتك من العلماء: المؤمنين المتقين، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات والحسنات أن لهم حدائق ذات أشجار ومساكن، تجري من تحت
105
قصورها ومساكنها أنهار الجنة «١»، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وفيها- كما
ورد في الصحيحين- ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر
، وهو معنى قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة ٣٢/ ١٧].
فيها الأرزاق الدائمة والثمار الشهية المتنوعة، كلما قدمت لهم ثمرة منها في أول النهار وآخره، قالوا متعجبين: هذه الثمرة كالتي رزقناها في الدنيا، فإذا أكلوها وجدوا لها طعما غير الطعم المعتاد، وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في المنظر والشكل والجنس فقط، وتختلف في الذوق والطعم والحجم، فهي مما لم يروه أبدا، وجيئوا بها مشابهة لثمار الدنيا المألوفة، مع اختلاف المادة والطعم، قال ابن عباس:
«ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء»، وقال الطبري «٢» :«أولى التأويلات تأويل من قال: وأتوا به متشابها في اللون والمنظر، والطعم مختلف، يعني بذلك اشتباه ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون، مختلفا في الطعم والذوق.
ومن الأمور الغيبية التي نؤمن بها كما أخبر الله أن في الجنة للمؤمنين زوجات من الحور العين، مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، مطهرات من الأقذار والأدناس المنفرة: الحسية والمعنوية، كالحيض والنفاس، والحدث من البول والغائط، والتنّخم أو البصاق، وشرور النفس والهوى.
روى مسلم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يتمخّطون، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك، ويلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النّفس»
.
(١)
روى أبو هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال أو من تحت جبال المسك».
(٢) تفسير الطبري: ١/ ١٣٥ وما بعدها، ومثله تفسير الرازي: ٢/ ١٣٠
106
لكن ورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنّ يوم القيامة أفضل من الحور العين، المذكورات في قول الله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة ٥٦/ ٣٥- ٣٨].
روى الترمذي عن أم سلمة: «.. قلت: يا رسول الله، نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظهارة على البطانة. قلت:
يا رسول الله، وبم ذاك؟! قال: بصلاتهن وصيامهم وعبادتهن الله عزّ وجلّ»
«١».
وثبت في الصحيح أيضا: أن لكل رجل في الجنة زوجتين اثنتين.
قال العلماء: إحداهن من نساء الدنيا، والأخرى من نساء الجنة.
وتمتاز الجنة عن الدنيا بأنها دار الخلود أي الدوام والبقاء والمكث الطويل، الذي لا بديل عنه، وهو تمام السعادة، وأمل المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
تتوالى البشائر القرآنية المفرحة للنفوس، المحرّكة للقلوب، بأن الجنة دار النعيم الدائم المقيم هي المخصصة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. والإيمان بمجرده لا يكفي، بل لا بدّ من أن ينضم إليه الطاعة والعمل الصالح. ونعيم الجنة غير محدود ورزقها لا ينقطع، وإنما أراد الله أن يقرب لعقولنا ما أعدّ فيها، بهذه الآية وغيرها، وبما أن طبيعة البشر تتعلق عادة بالماديات، أغراهم الله بما تميل إليه نفوسهم، فوعدهم بالحقائق المادية، المعبر عنها في آية أخرى بإيجاز: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧١]، ويظل الإنسان في عالم الآخرة إنسانا لا ملكا، وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا، وأسلم من المنغصات.
وأما الأعمال الصالحة التي تبوّئ أصحابها الجنان: فهي كل خير أقره العرف
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٢٩١
107
والشرع والعقل والفطرة السليمة، منها المذكور في أوائل سورة «المؤمنون» :
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١- ١١].
وخلود المؤمنين في الجنة، وخلود الكفار في النار: معناه في الشرع: الدوام الأبدي، أي لا يخرجون منها، ولا هي تفنى بهم، فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها.
فائدة ضرب الأمثال للناس في القرآن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
108
الإعراب:
لا يَسْتَحْيِي جملة فعلية منفية في موضع رفع خبر إِنَّ. أَنْ يَضْرِبَ في موضع نصب بفعل يَسْتَحْيِي وحذف حرف الجر هنا، لأن إِنَّ هنا مصدرية. مَثَلًا مفعول أول، وما في قوله مَثَلًا ما بَعُوضَةً إما زائدة لتأكيد الخسة أي مثلا بعوضة، وبَعُوضَةً بالنصب على البدل من مثل، وإما نكرة موصوفة بما بعدها بدل من مثل أي مثلا شيئا بعوضة فهو مفعول ثان، وإما بمعنى «الذي» و «بعوضة» مرفوع خبر مبتدأ مقدّر، أي الذي هو بعوضة. فَما فَوْقَها ما: عطف على ما الأولى، أو على بَعُوضَةً إن جعلت «ما» زائدة. فَأَمَّا حرف فيه معنى الشرط، فوقع في جوابها الفاء.
ماذا إما كلمة واحدة للاستفهام في موضع نصب بأراد، والمعنى: أيّ شيء أراد الله بهذا المثل.
وإما أن تجعل ذا بمعنى «الذي» فتكون ما في موضع مبتدأ، وما بعدها الخبر، فهو استفهام إنكاري. مَثَلًا إما منصوب على التمييز، أو منصوب على الحال من «ذا» في «هذا».
أَنْ يُوصَلَ إما في موضع نصب على البدل من ما أو في موضع جرّ على البدل من الهاء في بِهِ. والَّذِينَ نعت. وأَنْ يُوصَلَ بدل من ضمير بِهِ.
البلاغة:
لا يَسْتَحْيِي المعنى: لا يترك، فعبر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه، كما قرر الزمخشري في (تفسيره: ١/ ٢٠٤) فهو مجاز من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ فيه استعارة مكنية، حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو النقض، وسمي العهد حبلا على سبيل الاستعارة، لما فيه من ثبات الصلة بين المتعاهدين، كما قال الزمخشري: ١/ ٢٠٧، أي أن أصل استعمال النقض هو في الحبل، ثم استعمل في العهد، لأنّه يشبهه.
المفردات اللغوية:
لا يَسْتَحْيِي لا يترك ضرب المثل. والحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب عليه ويذم، فإذا ورد الحياء في حق الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. أَنْ يَضْرِبَ يجعل مَثَلًا المثل في اللغة: الشبيه والنظير، وضرب المثل في الكلام: أن يذكر لحال ما يناسبها، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفيا. بَعُوضَةً الناموسة المعروفة. فَما فَوْقَها ما زاد عليها أو كان أكبر منها،
109
أي لا يترك بيانه لما فيه من الحكم. الْحَقُّ هو الشيء الذي يحقّ ويجب ثبوته، ولا يجد العقل سبيلا لإنكاره. والفسق لغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة عن قشرها: إذا خرجت. والنقض:
الفسخ وفكّ التركيب لحبل وغزل ونحوهما. والميثاق: ما يوثق به الشيء، ويكون محكما يعسر نقضه. وميثاق العهد: توكيده، والمراد: العهد المؤكد باليمين. وعهد الله: ما أخذه على عباده من فهم السنن الكونية بالنظر والاعتبار، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر. وطريق الإيمان: استخدام نعمة العقل والحواس المرشدة إلى الفهم.
ونقض الميثاق: عدم استعمال تلك المواهب فيما خلقت له، حتى كأنهم فقدوها أو عطلوها، فالمراد بقوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ توكيده عليهم. والمأمور بوصله: هو الإيمان بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم والرحم وغير ذلك. والإفساد في الأرض: بالمعاصي والتعويق عن الإيمان.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره: ١/ ١٣٨ عن جماعة من الصحابة: لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين: قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ الآيات الثلاث، قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً... إلى قوله: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ «١». قال السيوطي في الجلالين: هذا القول أصح إسنادا وأنسب بما تقدم أول السورة.
التفسير والبيان:
إن الله سبحانه وتعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ونحوها بما هو دونها أو أكبر منها، ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها، فلا غرابة ولا حرج ولا عيب في الإتيان بالأمثال والأشباه سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، لأن العظمة فيها جميعها شيء واحد وهو الخلق والإبداع، ولأن المثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد، وما الأمثال إلا إبراز للمعاني المقصودة في قالب الأشياء
(١) انظر أيضا تفسير القرطبي: ١/ ٢٤١، أسباب النزول للواحدي: ص ١٢ [.....]
110
المحسوسة لتأنس بها النفوس، وتنكشف أمامها الغوامض، وتزول الأوهام عن معارضة العقل. والله الحكيم يفعل ما يحقق المصلحة بضرب المثل في العظائم والمحقرات حسب الأحوال والمناسبات، فإن كان الأمر عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء، وإن كان الأمر مهينا حقيرا كالأصنام ضرب مثله في عدم النفع وانعدام الفائدة بما يشبهه من الذباب والبعوض والعنكبوت.
فأما المؤمنون الذين يصدقون بأن الله خالق الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، فيقولون: هذا كلام الله حق، لا يقول غير الحق، والكل لديه سواء، وهذا المثل لمصلحة وحكمة. وأما الكافرون الذين يستهزئون بالأمثال بالمحقرات فيقولون متعجبين: ماذا أراد الله بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ فهم في حيرة من أمرهم، وخسارة في نهايتهم، ولو آمنوا لعرفوا الحق ووجه الحكمة في ذلك، قال تعالى:
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [المدثر ٧٤/ ٣١].
ثم ردّ الله تعالى على المتسائلين بأن هذا المثل كان سببا في زيادة ضلال كثير من الكافرين لكفرهم بالله، وزيادة هداية كثير من المؤمنين لإيمانهم بالله، ولا يضلّ بضرب المثل أو بغيره من القرآن، إلا الفاسقون: الخارجون عن طاعة الله وعن سنته في خلقه وجحد آياته، وتعطيل عقولهم ومشاعرهم عن إدراك المصالح والغايات.
وفي هذا إشارة إلى أن علّة إضلالهم خروجهم عن السّنن الكونية التي جعلها الله عبرة لمن تذكر، فإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل، فضلّ به قوم، واهتدى به قوم، تسبب لضلالهم وهداهم «١». قال
(١) الكشاف: ١/ ٢٠٦ وما بعدها.
111
تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٣]، والعالمون: هم المؤمنون المهتدون بهدي الحق.
ثم أردف تعالى ذلك ببيان أوصاف هؤلاء الفاسقين، فهم ينقضون الميثاق، فلا يستعملون مواهبهم من عقل ومشاعر وحواس لإرشادهم إلى المقصود، وينقضون ما عاهدوا الله عليه عهدا فطريا «١» من الإيمان بمحمد والتصديق به وبجميع الرسل الكرام، والعمل بشرائع الله، قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٧٩].
وهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان بالله بعد قيام الأدلة الكونية على وجوده، فقطعوا الصلة بين الدليل والمدلول، والإيمان بجميع الأنبياء، ففرقوا بين نبي ونبي، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء، وهم لا يصلون الرحم والقرابات المادية بين الأقارب، والمعنوية بين الرسل وموالاة المؤمنين.
ومشركو العرب بتكذيبهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم نقضوا عهد الفطرة، وأهل الكتاب نقضوا العهدين: عهد الفطرة والعهد الديني الذي أخذه الله عليهم في كتبهم من الإيمان بالنّبي محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ١٤٦]، فمن أنكر بعثة الرسل ولم يهتد بهديهم، فهو ناقض لعهد الله تعالى.
وهم يفسدون في الأرض بالمعاصي، والفتن بين الناس، والصدّ عن الإيمان،
(١) العهد الفطري أو عهد الله: هو ما ركز في قلوب ومشاعر وعقول الناس قاطبة من ظهور الحجة على توحيد الإله، وهو بمثابة أمر وصاهم الله به ووثقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى:
وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى شَهِدْنا [الأعراف ٧/ ١٧٢]. والعهد الديني: هو أخذ الميثاق على أهل الكتاب بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته.
صدقوه واتبعوه.
112
والتضليل في العقائد، وإثارة الشبهات حول القرآن، إبقاء على نفوذهم ومراكزهم.
وهم في النهاية الخاسرون في الدنيا بافتضاحهم وتخبطهم وخزيهم، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وغضب الله عليهم، فلا سعادة لهم في دنياهم وأخراهم، لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، والنار بالجنة، والنقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح، والعقاب بالثواب.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن اشتمال القرآن الكريم على ذكر النحل والذباب والعنكبوت والنمل ونحوها من المحقرات مما قد لا يليق- في زعم المشركين- بكلام الفصحاء، لا يقدح في فصاحة القرآن، ولا يخلّ بكونه معجزا، لأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكم بالغة. وهذا وجه متناسبة الآية لما قبلها.
وإذا ورد الحياء في حق الله تعالى، فليس المراد منه الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته. وكذلك ليس المراد بالغضب في حقّ الله تعالى شهوة الانتقام وغليان دم القلب، بل المراد تلك النهاية، وهو إنزال العقاب. وهذا هو القانون الكلي في هذا الباب «١».
وكلام الله حقّ مطلق، لا نقص فيه في حدّ ذاته، ولا في جانب من جوانبه، وإنما هو حق، لأنه مبين للحق ومقرر له، وسائق إلى الأخذ به، بما له من التأثير في النفس.
وضرب الأمثال والأشباه في القرآن الكريم يراد به كشف الغوامض، وتنبيه
(١) تفسير الرازي: ٢/ ١٣٢ وما بعدها.
113
الأذهان إلى الحقائق، وإبانة المصالح، وتقرير الحكم البالغة، وهو من الأمور المستحسنة في العقول والتربية والتعليم. وأما الذين كفروا فيجادلون في الحق بعد ما تبيّن، ويمارون بالبرهان وقد تعيّن، فيخرجون من الموضوع، ويعرضون عن الحجة.
وليس الإيمان أو الكفر أمرا وراثيا، أو قهريا جبريا، وإنما للإرادة والاختيار والعقل دخل فيه، وسببه هو استخدام طاقات الإنسان من حواس ومشاعر وأفكار، وليس للمثل- كما يزعم الكفار- تأثير في تفريق الناس إلى ضلالة وهدى، فالله تعالى لا يضلّ أحدا من المؤمنين المهتدين بهداية العقل والدين، وإنما يضلّ الفاسقين الخارجين عن الطاعة وصراط الله السوي، الذين سبق في علم الله تعالى أنهم غير هداة، فيكون إسناد الإضلال إلى الله تعالى من قبيل إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل، فضلّ به قوم، واهتدى به قوم، كان ذلك سببا في ضلال الناس وهداهم، فكانت علة ضلالهم: هي الفسوق، أي الخروج عن هداية الله تعالى في سننه في خلقه، التي هداهم إليها بالعقل والمشاعر، وبكتابه بالنسبة إلى الذين أوتوه.
وصفات الفاسقين الذين أضلوا أنفسهم بأنفسهم كثيرة منها ما ذكرته الآية (٢٧) : نقض عهد الله من بعد توكيده: وهو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله. ونقضهم ذلك: ترك العمل به.
ومنها: قطع ما أمر الله به أن يوصل: وهو الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وهو قول الجمهور. والرحم: جزء من هذا.
ومنها: الإفساد في الأرض: أي عبادة غير الله تعالى، والجور في الأفعال،
114
واتّباع الشهوات، وهذا غاية الفساد.
والفسق موجب حتما للخسارة، كما أن الطاعة توصل إلى الربح، وليس المراد بالفاسقين هنا ما هو معروف شرعا وهم العصاة بما دون الكفر من المعاصي، فإنه لا يصح هنا.
وفي الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز، ألزم المرء نفسه به، هو أمر واجب شرعا وعقلا، فلا يحلّ له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم بين غيره، لذمّ الله تعالى من نقض عهده، وقد قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة ٥/ ١]، وقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال ٨/ ٥٨]، فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد.
والمؤمنون المهتدون على قلتهم أجل فائدة وأكثر نفعا وأعظم آثارا من أولئك الكفار الفاسقين الضالين، على كثرتهم. فإذا أشعرت الآية بأن المهتدين في الكثرة كالضالين، مع أن هؤلاء أكثر، فليس الظاهر مرادا: لأن العبرة بالكيف لا بالكم، قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ ٣٤/ ١٣].
وقدم الله تعالى الإضلال على الهداية في قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً لأن سببه ومنشأه من الكفر متقدم في الوجود، فكان ذلك مناسبا لحال الكفرة، ليكون أول ما يقرع سمعهم من الجواب أمرا يفتّ في أعضادهم، ويهزّ جنابهم، وعبّر عن ذلك بصيغة المضارع المفيدة للاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار.
115
مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وإماتته وخلق الأرض والسماء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
الإعراب:
كَيْفَ اسم استفهام، منصوب هنا على الحال بتكفرون. جَمِيعاً نصب على الحال من الموصول الثاني: ما.
سَبْعَ سَماواتٍ إما منصوب على البدل من الهاء والنون في فَسَوَّاهُنَّ أو منصوب على أنه مفعول «سوّى» على تقدير: فسوّى منهن سبع سماوات، فحذف حرف الجر، فصار فَسَوَّاهُنَّ مثل قوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف ٧/ ١٥٥] أي من قومه، ثم حذف حرف الجر، فاتصل الفعل: فَسَوَّاهُنَّ بما بعده، فنصبه، وأعاد الضمير بلفظ الجمع على السماء. وقال الزمخشري: الوجه العربي أن ضمير فَسَوَّاهُنَّ مبهم. وكلمة ثُمَّ اسْتَوى لا للتراخي في الوقت هنا، وإنما لبيان ما بين الخلقين من التفاوت، وفضل خلق السموات على خلق الأرض. وإنما كان العطف الأول بالفاء، والبواقي بثم، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة، وعن الحياة الثانية.
البلاغة:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ التفات من كلام الغيبة إلى الحضور للتوبيخ والتقريع.
عَلِيمٌ من صيغ المبالغة التي وصف تعالى نفسه بها، مثل: عالم وعلام، ومعناه: الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء. ولا يجوز وصف الله تعالى بعلّامة، التي أدخل العرب عليها الهاء للمبالغة. فَسَوَّاهُنَّ أتمّ خلقهن مستويات، لا تشقق فيهن ولا عوج، فمعنى تسويتهن:
تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن. ثُمَّ اسْتَوى الاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء. بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بأحوالهن إجمالا وتفصيلا، بعد أن خلق
116
السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، وخلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
المفردات اللغوية:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ يا أهل مكة، مثله في قولك: «أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان؟» والاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ.
كُنْتُمْ أَمْواتاً نطفا في الأصلاب. فَأَحْياكُمْ في الأرحام والدنيا، بنفخ الروح فيكم.
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم. ودخلت الواو على جملة كُنْتُمْ أَمْواتاً إلى آخر الآية، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله، وقصتكم هذه، وحالكم أنكم كنتم أمواتا، نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.
ما فِي الْأَرْضِ الأرض وما فيها. جَمِيعاً لتنتفعوا به وتعتبروا. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ بعد خلق الأرض: قصد وعمد إليها بإرادته تعالى، قصدا مستويا خاصا بها.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار في هاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته؟!
لتفسير والبيان:
عجيب حالكم أيها الكفار، كيف تنكرون وجود الله وقدرته مع أن الله
117
سبحانه أوجدكم في هذه الحياة بعد الموت، وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ووهبكم أفضل مقومات الحياة من العقل والحواس والمشاعر، وأمدكم بالأرزاق التي تكفل بقاء الحياة، ثم أماتكم عند انقضاء الأجل، ثم يحييكم بالبعث من القبور، ثم ترجعون إلى الله وحده للحساب والجزاء، ليجزي كل امرئ بما قدّم، ولتحاسب كل نفس على النعمة التي أنعم الله بها عليكم. فهاتان موتتان وحياتان، لا تدع لكم عذرا في البقاء على الكفر، والاستهزاء بأمثال القرآن، وإنكار نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا، فأحياكم- أي خلقكم- ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
ويؤيده آية أخرى: قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر ٤٠/ ١١]. قال ابن عطية: وهذا القول: هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها «١».
ثم بعد ذكر المبدأ والمنتهى، ذكر الله تعالى برهانا على البعث، وعلى توجيه النفوس نحو الإيمان، فأبان أنه خلق لكم الأرض وما فيها، لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق، فيكون الانتفاع إما ماديا بالاستفادة من الموجودات العينيّة في حال المعيشة، وإما معنويا بالنظر والاعتبار فيما لا سلطة لأيديكم عليه، ويتم في الحالتين غذاء الأجساد والأرواح.
ومكّن الله تعالى للإنسان الحياة في الأرض بإظلاله بالسقف المحفوظ وهو السموات السبع، التي رفعها بقدرته، وسوّاها محكمة البناء، وأوجدها بحكمته،
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٢٤٩.
118
وأودع فيها بدائع الكواكب والنجوم لإنارة الأرض في الليل، وعلم سبحانه وحده حقيقتها وروائع ما فيها، والله عالم بكل ما خلق في الأرض وفي السماء، وذلك كله دليل القدرة الباهرة الدالة على وجود الإله الخالق، وهو وحده، القادرة على إعادة الخلق والحياة. فهل بعد هذا يسوّغ الكفر أو الإلحاد وإنكار وجود الله؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
وصف الكفر ينطبق على كل من لم يصدّق بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، وإن آمنوا بكتاب سماوي سابق، لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن كلام البشر، فقد أشرك بالله، وصار ناقضا للعهد. وقالت المعتزلة:
آية كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ تدلّ على أن الكفر من قبل العباد «١».
والأدلة على قدرة الله ووجوده كثيرة منها ما ذكرته هذه الآية: وهو خلق الأرض وما فيها، والسماوات وما أبدع فيها، وخلق الإنسان من العدم، ثم إماتته، ثم إحياؤه، ثم حسابه على ما قدم في مسيرة الحياة البشرية، كما قال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤]، فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع، فيكافأ المؤمنون بالجنان، لإيمانهم وعملهم الصالح، ويعذب الكفار لكفرهم.
والترتيب في قوله تعالى ثُمَّ التي تقتضي التراخي، ليس مرادا، وإنما المقصود من كلمة ثُمَّ ترتيب الإخبار وتعديد النعم، فهي لا تعارض آية:
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠]، لأن كلمة بَعْدِ فيها بعدية في الذكر وترتيب الإخبار، لا في الزمان ولا لترتيب الأمر في نفسه، مثاله: قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت الخصوم عنك؟ وربما يكون بعض ما أخره متقدما حدوثه.
(١) تفسير الرازي: ٢/ ١٤٩
119
وقد يجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك، فلا تعارض، كما ذكر ابن جزي. لكن قال ابن كثير: هذه الآية (أي ٢٩ من البقرة) دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة [فصلت ٤١/ ٩- ١٠] : قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... الآية، فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء، إلا ما نقله ابن جرير الطبري عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «١» [النازعات ٧٩/ ٣٠].
ونبهت آية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ على القدرة الإلهية المهيئة للأرض من أجل نفع الإنسان وتحقيق مصلحته ورعاية حاجة الخلق، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بما في الأرض وتصريف المخلوقات «٢»، كما قال تعالى:
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت ٤١/ ٩- ١٠]، فالمراد بالآية الاعتبار والاتعاظ بدليل ما قبلها وما بعدها من الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتهن.
ولكن وإن كان الهدف الأصلي من إيراد الآية هو ما ذكر، فقد استدل بها علماء الأصول أيضا على أن «الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي دليل الحظر» «٣»، أي أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق الله في الأرض، حتى يأتي
(١) انظر تفسير الطبري: ١/ ١٥٢ وما بعدها، تفسير القرطبي: ١/ ٢٥٥ وما بعدها، تفسير ابن كثير: ١/ ٦٨
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤، تفسير الرازي: ٢/ ١٥٤
(٣) تفسير القرطبي: ١/ ٢٥١
120
دليل المنع، فليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه، كما قال:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس ١٠/ ٥٩].
وعلم الله واسع شامل لكل ما خلق، وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، ولا يكون هذا النظام المحكم في السموات والأرض إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا مؤيدا بكتاب لهداية الناس، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، عظم أو صغر.
وآية ثُمَّ اسْتَوى وآية الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه ٢٠/ ٥] من مشكلات التفسير، وللعلماء ثلاثة آراء فيها «١» :
الرأي الأول لكثير من الأئمة: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء.
الرأي الثاني للمشبهة: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهو أن الاستواء: الارتفاع والعلو على الشيء، أو الانتصاب.
وهذا باطل، لأن ذلك من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك.
الرأي الثالث لبعض العلماء: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها.
فقيل: المعنى استوى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
(١) تفسير الطبري: ١/ ١٤٩ وما بعدها، تفسير القرطبي: ١/ ٢٥٤ وما بعدها.
121
وقيل: استوى بمعنى ارتفع، والمراد- والله أعلم- ارتفاع أمره.
وقيل: استوى بمعنى عمد أو قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، واختاره الطبري: على دون تكييف ولا تحديد.
ودل القرآن في هذه الآية وغيرها على وجود سبع سموات وسبع أرضين، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ١٢] يعني أن السموات بعضها فوق بعض وأن الأرضين بعضها تحت بعض.
ولكن لم يرد خبر في السنة يوضح حقيقة السموات والأرضين، فلا فائدة في بحث طبيعة السماء، وما علينا إلا أن نؤمن بظاهر القرآن في هذا التعداد، ونستدل به على عظمة الخالق الذي رفع السماء، وبسط الأرض. وقد أورد الرازي في تفسيره نظريات الفلكيين أو أهل الهيئة التي يفهم منها أن السبع السموات هي الكواكب السيارة «١»، غير أن العلم الحديث اكتشف وجود كواكب سيارة أخرى مثل نبتون وبلوتو وأورانوس، غير المعروفة قديما وهي القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل.
استخلاف الإنسان في الأرض وتعليمه اللغات
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
(١) تفسير الرازي: ٢/ ١٥٦
122
الإعراب:
وَإِذْ ظرف زمان ماض، منصوب بإضمار فعل مقدر تقديره: اذكر، ويجوز أن ينتصب بقالوا. وهو مبني لتضمنه معنى الحرف، لأن كل ظرف لا بد فيه من تقدير حرف، وهو «في» أو لأنه يشبه الحرف في أنه لا يفيد مع كلمة واحدة، وهو مبني على السكون، لأنه الأصل في البناء. وإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. جاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر، وهما قوله: فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فكانا مفعوليه.
أَتَجْعَلُ تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. وَنَحْنُ للحال، بِحَمْدِكَ الباء هنا تسمى باء الحال، والمعنى: نسبحك حامدين لك، ومتلبسين بحمدك، لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف، لم نتمكن من عبادتك.
عَرَضَهُمْ ولم يقل: عرضها، لأنه أراد مسميّات الأسماء، وفيهم من يعقل، وفيهم من لا يعقل، فغلّب جانب العقلاء.
سُبْحانَكَ الصحيح أن سبحانا وكفرانا: اسمان أقيما مقام المصدر، وليسا بمصدرين.
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أنت: إما مبتدأ، والعليم خبره، والحكيم صفة له، أو خبر بعد خبر، والجملة خبر إن، وإما ضمير فصل لا موضع لها من الإعراب، والعليم خبر إن، والحكيم صفة له، أو خبر بعد خبر.
البلاغة:
رَبُّكَ إضافته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم للتشريف والتكريم لمقامه لِلْمَلائِكَةِ تقديم الجار والمجرور على المقول للاهتمام بما قدّم.
أَنْبِئُونِي أريد به التعجيز والتبكيت.
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ فيه مجاز بالحذف، والتقدير: فأنبأهم بها، فلما أنبأهم.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ من باب التغليب للعقلاء على غير العقلاء.
123
وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تكرار الفعل مع ما قبله: إِنِّي أَعْلَمُ للتنبيه على إحاطة علم الله تعالى بجميع الأشياء، وهذا يسمى بالإطناب. تُبْدُونَ وتَكْتُمُونَ يسمى في علم البديع بالطباق.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ: اذكر يا محمد. رَبُّكَ الرب: المالك والسيد والمصلح والجابر.
لِلْمَلائِكَةِ: أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وهو جمع ملك، وأصله: ملاك وزنه مفعل. خَلِيفَةً: الخليفة: من يخلف غيره ويقوم مقامه في تنفيذ الأحكام، والمراد بالخليفة هنا آدم عليه السلام. يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ يريقها بالقتل عدوانا، كما فعل بنو الجان، وكانوا فيها، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة، فطردوهم إلى الجبال والجزر. نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ننزهك عن كل نقص، متلبسين بحمدك، أي تقول: سبحان الله وبحمده وَنُقَدِّسُ لَكَ
نمجدك ونعظمك وننزهك عما لا يليق بعظمتك، فاللام زائدة، والجملة حال، أي فنحن أحق بالاستخلاف أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من المصلحة في استخلاف آدم. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ واحدها اسم، وهو في اللغة: ما به يعلم الشيء، والمراد به: أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه، لكونه معلوما مدلولا عليه، بذكر الأسماء، لأن الاسم لا بد له من مسمى.
ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي عرض المسميات، وفيه تغليب العقلاء. أَنْبِئُونِي أخبروني، وقد يستعمل الإنباء في الإخبار بما فيه فائدة عظيمة، وهو المراد هنا.
سُبْحانَكَ تقديسا وتنزيها لك عن الاعتراض عليك. الْعَلِيمُ الذي لا تخفى عليه خافية، الْحَكِيمُ المحكم لمبتدعاته، فلا يفعل إلا ما فيه الحكمة البالغة.
المناسبة:
هذه القصة أو المحاورة بين الله تعالى وملائكته نوع من التمثيل بإبراز المعاني المعقولة بالصور المحسوسة، تقريبا للأفهام، وفيها بيان مدى تكريم الله للإنسان باختيار آدم خليفة عن الله في الأرض، وتعليمه اللغات التي لا تعلمها الملائكة، مما يوجب على الناس الإيمان بهذا الخالق الكريم، ولا يليق بأحد الكفر والعناد، وهو استمرار في توبيخ الكفار، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.
124
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم، حين قال الله للملائكة: إني متخذ في الأرض خليفة، يقوم بعمارتها وسكناها، وينفذ أحكامي فيها بين الناس، وتتعاقب الأجيال من بعده في مهامه كلها حتى يعمر الكون، فتساءل الملائكة متعجبين ومستعلمين: كيف تستخلف هذا الخليفة؟ وفي ذريته من يفسد في الأرض بالمعاصي ويريق الدماء بالبغي والعدوان، لأن أفعالهم عن إرادة واختيار، وقد خلقوا من طين، والمادة جزء منهم، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب.
فكيف تجعل- على سبيل التعجب والتعلم، لا الاعتراض والحسد- مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وأنت الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير، ولا يريد إلا الخير؟
فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه، وإنما هو غيب؟
قلت: عرفوه بإخبار من الله، أو من جهة اللوح المحفوظ، أو ثبت في علمهم أن الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم، أو قاسوا أحد الثقلين وهم الإنس على الآخر وهم الجن، حيث أسكنوا الأرض، فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة «١». أو أنهم عرفوا طبيعة المادة وفيها الخير والشر، وهو ما رجحناه أولا، ويقال: كان هناك نوع من الخلق في الأرض قبل آدم، أفسد وسفك الدماء، وسيحل هذا الخليفة محله، بدليل قوله تعالى:
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يونس ١٠/ ١٤] فقاس الملائكة هذا الخليفة عليه.
(١) الكشاف: ١/ ٢٠٩، تفسير الطبري: ١/ ١٥٧
125
ونحن الملائكة أولى بالاستخلاف، لأن أعمالنا مقصورة على تسبيحك وتقديسك وطاعتك، فأجابهم الله تعالى: إني أعلم من المصلحة في استخلافه ما هو خفي عنكم، وأعلم كيف تصلح الأرض، وكيف تعمر، ومن هو أصلح لعمارتها، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها. ولعل التنافس على المصالح بين الناس وتنازع البقاء، وحب الذات من أقوى الدواعي على تقدم الكون وتحضر العالم، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر، وبها تظهر حكمة إرسال الرسل، واختبار البشر، وجهاد النفس. وفي هذا إرشاد الملائكة أن يعلموا أن أفعاله تعالى في غاية الحكمة والكمال.
ثم عقد الرب سبحانه امتحانا للملائكة، لإظهار عجزهم، وإبطال زعمهم أنهم أحق بالخلافة من خليفته، بعد أن علّم آدم أسماء الأشياء والأجناس المادية من نبات وجماد وإنسان وحيوان، مما تعمر به الدنيا، ثم عرض مجموعة المسميات على الملائكة، أو عرض نماذج منها، أي عرض الأشخاص، لقوله تعالى:
عَرَضَهُمْ لأن العرض لا يصح في الأسماء، وقال لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين في ادعائكم أنكم أحق بالخلافة من غيركم، فعجزوا، وقالوا:
يا رب سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم بكل شيء، الحكيم في كل صنع.
وفي هذا إشارة لتفضيل آدم على الملائكة واصطفائه، بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فلا يكون لهم فخر عليه.
ثم قال المولى جل جلاله: أخبرهم يا آدم بأسماء الأشياء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بقصورهم عن معرفتها، فلما أخبرهم بكل أسماء تلك الأشياء، أدركوا السر في خلافة آدم وذريته، وأنهم لا يصلحون للاشتغال بالماديات، والدنيا لا تقوم إلا بها، إذ هم خلقوا من النور، وآدم خلق من الطين، والمادة جزء منه.
126
وحينئذ قال تعالى للملائكة: ألم أقل لكم: إني أعلم ما غاب في السموات والأرض عنكم، وما حضر أيضا، ولا أجعل الخليفة في الأرض عبثا، وأعلم ما ظهر وما بطن، وما تظهرون وما تكتمون من نحو قولكم فيما روي عن ابن عباس: «لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، فنحن أحق بالخلافة في الأرض» «١». هذا وجه من التأويل، وقال الطبري: وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس: وهو أن معنى قوله: وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ. وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض، ما تظهرون بألسنتكم، وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى علي شيء، سواء عندي سرائركم وعلانيتكم. والذي أظهروه بألسنتهم: ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟.
والذي كانوا يكتمونه: ما كان منطويا عليه إبليس من مخالفة أمر الله، والتكبر عن طاعته «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
أولا
- دلت هذه الآيات على تكريم الإنسان الذي جعله الله خليفة في هذه الأرض في تنفيذ أوامره بين الناس، ويؤيده قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (ص ٣٨/ ٢٦) والحكمة من جعل آدم خليفة هي الرحمة بالناس، إذ لا طاقة للعباد على تلقي الأوامر والنواهي من الله بلا واسطة، فكان من رحمته تعالى إرسال الرسل من البشر. ومع هذا اختلف المفسرون في تأويل كلمة خَلِيفَةً وتحديد المستخلف عنه «٣».
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٧١، تفسير الطبري: ١/ ١٧٧
(٢) تفسير الطبري: ١/ ١٧٦
(٣) تفسير الطبري: ١/ ١٥٦ وما بعدها، تفسير ابن كثير: ١/ ٦٩، الكشاف: ١/ ٢٠٩، القرطبي:
١/ ٢٦٣، تفسير الرازي: ٢/ ١٦٥ وما بعدها. [.....]
127
فقال ابن عباس: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم، فأسكنه إياها، فلذلك قال: إني جاعل في الأرض خليفة. فعلى هذا القول: إني جاعل في الأرض خليفة عن الجن، يخلفونهم فيها، فيسكنونها ويعمرونها، وليس آدم أول أصناف العقلاء في الأرض.
وقال الحسن البصري: في تأويل قوله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي خلفا يخلف بعضهم بعضا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله، جيلا بعد جيل، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام ٦/ ١٦٥] وقال: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النمل ٢١/ ٦٢] وقال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف ٤٣/ ٦٠] وقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [الأعراف ٧/ ١٦٩].
ومن هو الخليفة؟ قيل: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه، كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: مضر وهاشم.
وقال زيد بن علي: ليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط، كما يقوله طائفة من المفسرين. قال ابن كثير: والظاهر أنه لم يرد آدم عينا، إذ لو كان ذلك، لما حسن قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فإنهم أرادوا: أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية المخلوقة من صلصال من حمأ مسنون، أو فهموا من الخليفة: أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم، أو أنهم قاسوهم على من سبق.
والخلاصة: هناك قولان في المراد بالخليفة:
128
أحدهما- أنه آدم عليه السلام، وقوله: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها المراد ذريته لا هو.
والثاني- أنه ولد آدم.
ثم إن هذه الآية أصل في نصب إمام حاكم، وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ذلك، إلا ما روي عن أبي بكر الأصم من المعتزلة أنه قال: الإمامة غير واجبة في الدين، بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك.
وأدلة الجمهور: قول الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص ٣٨/ ٢٦] وقوله عز وجل:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥] أي يجعل منهم خلفاء.
وأجمعت الصحابة على تقديم أبي بكر الصديق، بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في تعيين الخليفة «١».
وطرق تعيين الإمام ثلاث «٢» :
١- النص على الخليفة: كما نص النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر.
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٢٦٤
(٢) المرجع السابق: ١/ ٢٦٨
129
٢- الانتخاب بواسطة جماعة: كما فعل عمر، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
٣- إجماع أهل الحل والعقد.
ثانيا
- الجمهور الأعظم من علماء الدين اتفقوا على عصمة كل الملائكة عن جميع الذنوب «١». وفي إخبار الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه في الأرض تعليم لعباده المشاورة في أمورهم. وقول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ليس على وجه الاعتراض أو الحسد لبني آدم، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف الحكمة في ذلك.
ثالثا
- استدل الأشعري والجبائي والكعبي بآية وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها على أن اللغات كلها توقيفية، بمعنى أن الله تعالى خلق علما ضروريا بتلك الألفاظ وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني «٢».
رابعا
- آية تعليم آدم الأجناس التي خلقها الله، وألهمه معرفة ذواتها وخواصها وصفاتها وأسمائها، إما في آن واحد أو آنات متعددة، هذه الآية دالة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام، إلا بأن أظهر علمه، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم، لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء، لا بالعلم «٣».
وكانت الحكمة في التعليم والعرض على الملائكة تشريف آدم واصطفاءه، كيلا يكون للملائكة مفخرة عليه بعلومهم ومعارفهم، وإظهار الأسرار والعلوم
(١) تفسير الرازي: ٢/ ١٦٦
(٢) تفسير الرازي: ١/ ١٧٥
(٣) المصدر السابق: ١/ ١٧٨
130
المكنونة في غيب علمه تعالى على لسان من يشاء من عباده «١».
خامسا
- أرشدت آية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إلى أن الدعاوي لا يؤبه بها إلا بإثباتها بالدليل، وأن المدّعي لشيء يطالب بالحجة والبرهان تأييدا لما ادّعى.
سادسا
- في قوله: «هؤلاء» إشارة إلى أنه سمى الأشياء التي وقع عليها الحس، كالطيور والبهائم وأنواع الحيوان التي أمامه.
سابعا
- دل قول الملائكة: قالُوا: سُبْحانَكَ الآية، على قصور علم المخلوقات أمام علم الخالق، وأن فعل الخالق لا يخلو من الحكمة والفائدة، وأن علم الملائكة محدود لا يتناول جميع الأشياء. والواجب على من سئل عن علم لم يعرفه أن يقول: الله أعلم لا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء وفضلاء العلماء.
ثامنا
- في آيات إخبار آدم بأسماء المسميات دلالة واضحة على شرف الإنسان وتفضيله على غيره من المخلوقات، وعلى فضل العلم على العبادة، فإن الملائكة أكثر عبادة من آدم، ولم يكونوا أهلا لاستحقاق الخلافة، وعلى أن شرط الخلافة العلم، وعلى أفضلية آدم على الملائكة.
تاسعا
- إن استخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء من الأرض لا يحقق حكمة استخلاف البشر في التعرف على أسرار الكون، وعمارة الأرض، واستخراج ما فيها من خيرات وزروع ومعادن، ولا يؤدي إلى تقدم العلوم والفنون التي شهدنا تفوقها في القرن العشرين.
(١) تفسير المراغي: ١/ ٨٣
131
التكريم الإلهي السامي لآدم بسجود الملائكة له
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
الإعراب:
«آدم» ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل عند الجمهور، لأنه كان جنيا واحدا بين ألوف الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: فَسَجَدُوا ثم استثني منهم استثناء واحد. ويجوز أن يجعل استثناء منقطعا لأنه لم يكن من الملائكة.
البلاغة:
وَإِذْ قُلْنا للتعظيم بصيغة الجمع، وهي معطوفة على قوله: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وفيه التفات من الغائب إلى المتكلم لإظهار المهابة والجلالة. فَسَجَدُوا فيه إيجاز بالحذف أي فسجدوا له. ومثله أَبى مفعوله محذوف أي أبى السجود.
المفردات اللغوية:
اسْجُدُوا السجود في اللغة: الخضوع والانحناء لمن يسجد له، وفي الشرع: وضع الجبهة على الأرض. والسجود لله تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكريم والتحية، كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له، فكان تحية للملوك قديما، ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه. إِبْلِيسَ الشيطان أبو الجن، كان بين الملائكة. قال تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف ١٨/ ٥٠]. أَبى امتنع من السجود. وَاسْتَكْبَرَ تكبر عنه، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف ٧/ ١٢]. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فلذلك أبى واستكبر.
المناسبة:
هذا نوع آخر من تكريم الله لأبينا آدم أبي البشر، حيث أمر الملائكة
132
بالسجود له، كما أنه خصه بالخلافة في الأرض، وعلمه أسماء الأشياء والأجناس واللغات، مما يدل على تكريم النوع الإنساني بتكريم الأصل أو الأب.
التفسير والبيان:
واذكر أيضا يا محمد لقومك حين قلنا للملائكة الأطهار: اسجدوا لآدم سجود خضوع وتحية وتعظيم، لا سجود عبادة وتأليه، كما يفعل الكفار مع أصنامهم، فسجد الملائكة جميعا له غير إبليس، فإنه امتنع من السجود واستكبر عنه، قائلا: أأسجد له، وأنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، فصار بإبائه واستكباره وتعاليه وغروره من الكافرين، فاستحق اللعنة إلى يوم الدين، لعصيانه أمر ربه، ورفضه السجود لآدم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تتجلى العبرة من هذه القصة بأن آدم وذريته لا يليق بهم عصيان أوامر الله، وإنما يجب عليهم عبادته وحده، دون تلكؤ ولا تقصير، لأنّ الله سبحانه كرم ابن آدم في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء ١٧/ ٧٠] وجعل آدم خليفة في الأرض، وعلمه ما لم يكن يعلم: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وقال الطبري: إن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم «١».
والملائكة والشياطين أرواح لها اتصال بالناس لا نعرف حقيقته، بل نؤمن بما ورد فيه، دون بحث عن الكيفية والحال والمآل.
والسجود نوعان: سجود عبادة وتأليه وهو لله وحده، وله مظهران: إما وضع الجبهة على الأرض وهو المعتاد في الصلاة، وإما الانقياد والخضوع لمقتضى
(١) تفسير الطبري: ١/ ١٨٠ وما بعدها.
133
إرادته، كما قال: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن ٥٥/ ٦] وقال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [الرعد ١٣/ ١٥]. وهذا بمظهريه لا يكون لغير الله إطلاقا.
والنوع الثاني: سجود تحية وتكريم من غير تأليه، كسجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب وأولاده ليوسف. وهذا في رأي أكثر العلماء كان مباحا إلى عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: «لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين»
ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السجود للبشر، وأمر بالمصافحة، في حديث رواه ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحة عن أبي واقد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه «١».
والخلاصة: اتفقت الأمة على أن السجود لآدم لم يكن سجود عبادة ولا تعظيم، وإنما كان على أحد وجهين: إما الانحناء والتحية وإما اتخاذه قبلة كالاتجاه للكعبة وبيت المقدس وهو الأقوى في رأي ابن العربي، لقوله تعالى:
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «٢».
وأما حقيقة إبليس: فللعلماء فيها رأيان:
الأول: أنه من الجن، والجن سبط من الملائكة، خلقوا من نار، وإبليس منهم. ودليله واضح من قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف ١٨/ ٥٠].
والثاني- أنه كان من الملائكة: لأن خطاب السجود كان للملائكة، ولأن
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٢٩٣
(٢) أحكام القرآن: ١/ ١٦
134
الظاهر من هذه الآية وأمثالها أنه منهم، قال ابن عباس: كان إبليس من الملائكة، فلما عصى الله، غضب عليه، فلعنه، فصار شيطانا «١». قال البغوي:
وهو الأصح، لأن خطاب السجود كان مع الملائكة. وقوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وقال سعيد بن جبير: من الذين يعملون في الجنة. وقال قوم: من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي أهل الجنة «٢».
والراجح لدي هو القول الأول لصريح آية كانَ مِنَ الْجِنِّ ولأن إبليس قد عصى أمر ربه، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.
ويستدل من قصة الإباء عن السجود أن الامتناع عن تنفيذ أوامر الله والاستكبار والغرور مسبب للكفر، لأنه لما كره إبليس السجود في حقه، واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته، فصار من الكافرين.
واختلف، هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر، وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا: هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال: إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال: كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه «٣».
واستنبط علماء المالكية من هذه القصة ومن علم الله بكفر إبليس سابقا: أن من أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات، ليس
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٢٩٤
(٢) معالم التنزيل بهامش تفسير البغوي: ١/ ٤١
(٣) تفسير القرطبي: ١/ ٢٩٨
135
ذلك دالا على ولايته، لأن العلم بأن الواحد منا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا، لم يمكنّا أن نقطع أنه ولي الله تعالى، لأن الولي لله تعالى: من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان «١».
آدم وحواء في الجنة وموقف الشيطان منهما
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
الإعراب:
أَنْتَ تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه. رَغَداً منصوب لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره أكلا رغدا، أو منصوب على الحال. فَتَكُونا حذفت النون إما للنصب بتقدير «أن» لأنه جواب النهي، أو يكون حذفها للجزم بالعطف على وَلا تَقْرَبا.
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ آدم: فاعل، وكلمات: مفعول به.
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ: جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في اهْبِطُوا
(١) المصدر السابق: ١/ ٢٩٧
136
على تقدير حذف الواو، أي قلنا: اهبطوا وبعضكم لبعض عدو. ويجوز أن تكون جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
فَإِمَّا.. أصلها «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» للتأكيد، وتسمى المسلّطة، لأنها سلطت نون التوكيد على الفعل بعدها. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ من: شرطية مبنية لأنها تضمنت معنى الشرط، في محل رفع مبتدأ، وتَبِعَ خبره، وهو في موضع جزم «بمن» الشرطية.
وهُدايَ مفعول به. وكرر قوله: قُلْنَا اهْبِطُوا للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قوله:
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. والأمر بالهبوط من الجنة إلى الأرض موجه لآدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم.
هُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من «أصحاب أو النار» لعود الضميرين إليهما. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يكون حالا من النار، لأن الحال لا تقع حالا من المضاف إليه، وأجازه الآخرون، لأن لام الملك مقدرة مع المضاف إليه.
البلاغة:
وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي الأكل من ثمارها، فيه تعليق النهي بالقرب منها لقصد المبالغة في النهي عن الأكل.
مِمَّا كانا فِيهِ إبهام يفيد كثرة الخيرات التي لا توصف في الجنة.
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة، أي قابل التوبة بكثرة، واسع الرحمة.
المفردات اللغوية:
رَغَداً أكلا واسعا طيبا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر عليه. هذِهِ الشَّجَرَةَ أي بالأكل منها، وهي الحنطة أو الكروم أو غيرهما فَتَكُونا فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ العاصين.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أوقعهما في المخالفة من الزلة وهي السقوط اهْبِطُوا انزلوا مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار. وَمَتاعٌ ما يتمتع به من أنواع الطعام والشراب واللباس ونحوها.
فَتَلَقَّى أخذ وقبل وألهم فَتابَ التوبة: الرجوع، فإذا عدّيت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية، وإذا عديت بعلى، كان معناها قبول التوبة.
فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ آمن بي وعمل بطاعتي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.
137
بِآياتِنا كتبنا. أَصْحابُ النَّارِ أهلها. خالِدُونَ ملازمون لها، ماكثون فيها أبدا، لا يفنون ولا يخرجون منها.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان أنواع التكريم الإلهي للإنسان، وهذا التكريم هنا هو المقام في الجنة في بدء الخليقة، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية إقامته في الأرض، وتكليفه القيام برسالة مهمة هي تعمير الكون، وإظهار مزية الإنسان في مجاهدة الشيطان وأهوائه.
وقد سيقت هذه القصة تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عما يلاقي من الإنكار، ليعلم أن المعصية من شأن البشر، وأنهم إذا كلفوا بشيء بالرغم من تكريمهم غاية الإكرام قد لا يمتثلون.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لقومك أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بما فيها حيث شاءا، والأكل منهما أكلا هنيئا لا عناء فيه، أو واسعا لا حد له، ونهاهما عن الأكل من شجرة معينة، فالأكل منها ظلم لأنفسهما، ولكن الشيطان عدوهما أزلهما عنها، فأخرجهما من ذلك النعيم، بعد أن أغواهما بالأكل من الشجرة. أو أبعدهما وحوّلهما من الجنة، قائلا: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ، وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢٠- ٢١] فتغلبت عليهما وساوس الشيطان، وخرجا من الجنة إلى الأرض، وشقاء الدنيا، وقد نشأت العداوة بين البشر والشيطان، فإبليس عدو لآدم وزوجه حواء ولذريتهما، والبشر أعداء له، فاحذروا إغواءه: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر ٣٥/ ٦] فألهم الله آدم كلمات، فعمل بها هو وزوجته وتابا توبة
138
خالصة، والكلمات هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣] وتقبل الله التوبة، لأنه كثير القبول للتوبة، واسع الرحمة بالعباد، وأصبح الناس في الأرض صنفين: صنف المؤمنين بالله العاملين بطاعته، فهؤلاء آمنون في جنان الله في الآخرة، وصنف الكافرين المكذبين بما أنزل الله في كتبه، والجاحدين لرسالات الأنبياء، فهؤلاء مخلدون في نار جهنم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تثير هذه الآيات مشكلات عديدة هي ما يأتي:
أولا- زوجة آدم في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: أثار المفسرون كيفية خلق حواء، فقالوا: إنها خلقت من ضلع آدم، أخذا بظاهر قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء ٤/ ١] وقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف ٧/ ١٨٩]، وعملا
بحديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج»
وفي رواية لمسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فإن استمتعت بها، استمتعت بها، وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»
قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج، وهو الضلع «١».
وأجيب عن الآيتين «٢» : بأن كثيرا من المفسرين كالرازي قالوا: إن المراد بقوله «منها» أي من جنسها، ليوافق قوله في سورة [الروم ٣٠/ ٢١] :
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٠١ [.....]
(٢) تفسير المراغي: ١/ ٩٣
139
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً والمراد أنه خلق أزواجا من جنسكم، لا أنه خلق كل زوجة من بدن زوجها.
وأما الحديث فجاء على طريق تمثيل حال المرأة واعوجاج أخلاقها، باعوجاج الضلوع، فهو على حدّ قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء ٢١/ ٣٧].
هذا وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة. ونقل عن السدي: إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة.
ثانيا- الجنة: وهي في اللغة البستان. اختلف العلماء في الجنة التي أسكنها آدم، هي في السماء أم في الأرض «١» ؟ قال الأكثرون: إنها التي في السماء، وهي دار الخلد والثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة، لسبق ذكرها في السورة.
وقالت المعتزلة والقدرية: إنها جنة في الأرض غير جنة الخلد، خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام، في أرض عدن، أو بفلسطين، أو بين فارس وكرمان. وهو رأي أبي حنيفة وأبي منصور الماتريدي ومذهب السلف. ودليلهم أنها لو كانت جنة الخلد، لما وصل إليها إبليس، فإن الله يقول: لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور ٥٢/ ٢٣]، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ ٧٨/ ٣٥]، وقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة ٥٦/ ٢٥- ٢٦]، وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر ١٥/ ٤٨]، وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها، قد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٠٢، تفسير ابن كثير: ١/ ٧٨، تفسير الألوسي: ١/ ٢٣٣، البداية والنهاية لابن كثير: ١/ ٧٥ وما بعدها.
140
بمعصيتهما. وكيف يطلب آدم، مع مكانه من الله وكمال عقله، شجرة الخلد، وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى. ورجح الألوسي هذا الرأي.
ورد القرطبي على هذه الأدلة: بأن الجنة المعرفة بالألف واللام لا يفهم غيرها في تعارف الناس، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم. وأما أوصاف الجنة المذكورة في الآيات التي احتجوا بها، فهي بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة. ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. والملائكة يدخلونها ويخرجون منها، وقد دخلها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء ثم خرج منها، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي.
وأجمع أهل السنة على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام.
وكيف يجوز على آدم، وهو في كمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد، وهو في دار الفناء؟! الأمر جائز تطلّعا إلى الأفضل والأكمل، كما نتطلع الآن في الدنيا إلى الخلود في الجنة.
ثالثا- الشجرة: اختلف العلماء في تعيين الشجرة التي نهي عنها آدم فأكل منها «١». فقال جماعة: هي الكرم، ولذا حرمت علينا الخمر، وقال آخرون:
هي السّنبلة، وقيل: هي شجرة التين. والصواب كما قال القرطبي: أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة، فخالف هو إليها، وعصى في الأكل منها.
واختلفوا أيضا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب، وهو قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ٣٥]، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها، فلم يتأوّلا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر، أي أنهما ظنّا أن المراد عين شجرة مخصوصة، وكان المراد الجنس. وهو
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٠٥ وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٧ وما بعدها، تفسير الطبري: ١/ ١٨٥
141
قول حسن كما قال القرطبي ورجحه الطبري قبله.
ويقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء، بإغواء إبليس إياها.
رابعا- عصيان آدم ثم توبته: قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: الأنبياء معصومون من صغائر الذنوب وكبائرها معا، لأنّا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم «١».
وبناء عليه، أجيب عن خطيئة آدم التي كانت من الصغائر لا من الكبائر، بأنها صدرت منه قبل النبوة، والعصمة عن المخالفة إنما تكون بعد النّبوة.
أو بأن الذي وقع منه كان نسيانا، فسمّي عصيانا تعظيما لأمره، والنسيان والسهو لا ينافيان العصمة، أو أن ذلك- على طريقة السلف- من المتشابه كسائر ما ورد في القصة، مما لا يمكن حمله على ظاهره «٢». والراجح لدي أن هذه المخالفة وقعت نسيانا وسهوا، كما قال جلّ وعزّ: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه ٢٠/ ١١٥].
وتوبة آدم كانت بقوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣]، وهذا هو المروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ أحبّ الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: «سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٠٨، تفسير الرازي: ٣/ ٧
(٢) تفسير الكشاف: ١/ ٢١٢، تفسير الرازي: ٣/ ٧، تفسير المراغي: ١/ ٩٤، تفسير المنار: ١/ ٢٨١
142
واكتفى القرآن بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسّنة لذلك. وقد ذكرها في آية أخرى:
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية السابقة «١».
ولا تكون التوبة مقبولة من الإنسان إلا بأربعة أمور: الندم على ما كان، وترك الذنب الآن، والعزم على ألا يعود إليه في مستأنف الزمان، وردّ مظالم العباد وإرضاء الخصم بإيصال حقه إليه والاعتذار إليه باللسان «٢».
خامسا- دخول إبليس الجنة: تساءل العلماء: كيف تمكّن إبليس من وسوسة آدم بعد أن طرده الله من الجنة بقوله: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص ٣٨/ ٧٧]، فكان خارج الجنة، وآدم في الجنة؟ وأجيب بأجوبة، منها: أنه يجوز أن يمنع إبليس دخول الجنة على جهة التكريم، كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة، ابتلاء لآدم وحواء. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة ولم يصل إلى آدم بعد ما أخرج منها، وإنما بوسواسه الذي أعطاه الله تعالى، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم».
سادسا- في قوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة ٢/ ٣٥] : إشارة إلى أن أفعال العباد مخلوقة من الله تعالى، خلافا للقدرية وغيرهم القائلين: إن العبد يخلق أفعال نفسه. ودلّت الآية (٣٨) على أن من جاءه الهدى على لسان رسول واتبعه، فقد فاز بالنجاة في الآخرة، ودلت الآية (٣٩) على أن الذين لم يتبعوا هدى الله- وهم الذين كفروا بآيات الله اعتقادا وكذبوا بها لسانا- جزاؤهم الخلود في نار جهنم بسبب جحودهم بها، وإنكارهم إياها، اتباعا لوسوسة الشيطان. «٣»
(١) تفسير الكشاف: ١/ ٢١١
(٢) تفسير الرازي: ٣/ ٢٠، تفسير المراغي: ١/ ٩٢
(٣) الكشاف: ١/ ٢١١، القرطبي: ١/ ٣١٣، الرازي: ٣/ ١٥
143
سابعا- الملائكة: الملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا نعلم حقيقتهم، واعتقاد وجودهم واجب شرعا، لإخبار القرآن والنّبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك. وهم مجبولون على الطاعة، منزهون عن المعصية، وهل هم أفضل من البشر؟
اختلف العلماء في شأنهم، فرأى بعضهم أنهم أفضل من البشر، لقوله تعالى:
قالَ: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف ٧/ ٢٠]، وقوله تعالى عن صواحب يوسف: وَقُلْنَ: حاشَ لِلَّهِ، ما هذا بَشَراً، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف ١٢/ ٣١].
ورأى بعضهم أن النوع الآدمي أفضل من الملائكة، لأن الملائكة مجبولون على الطاعة، والبشر فيهم نزعة الشرّ والخير، والآدمي يجاهد شهواته وميوله.
وقال جماعة: إن عموم الملائكة أفضل من عموم البشر، وخواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة.
وفي رأيي: أن التوقف عن الخوض في ذلك أولى، وإن كنت أرجح تفضيل الملائكة على البشر.
قصة آدم عليه السلام
تكرر اسم آدم عليه السلام في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة، فتحدثت عنه سورة البقرة في الآيات (٣١- ٣٧)، وآل عمران في الآيتين (٣٣، ٥٩)، والمائدة في الآية (٢٧)، والأعراف في الآيات (١١- ١٧٢)، والإسراء في الآيتين (٦١، ٧٠)، والكهف في الآية (٥٠)، ومريم في الآية (٥٨)، وطه في الآيات (١١٥- ١٢١)، ويس في الآية (٦٠). وتنوّع التعبير عن القصة، مرة باسمه وصفته، كما في السّور: البقرة والأعراف والإسراء والكهف، ومرة بصفته فقط، كما في سورتي الحجر وص، مما يدل على إعجاز القرآن الكريم.
144
وفي هذه القصة موضوعات ستة «١».
الأول- خلق آدم من طين: أبان القرآن الكريم أن أصل خلق آدم عليه السلام كان من طين، من حمأ مسنون- متغير- حتى إذا أصبح صلصالا كالفخار، نفخ الله فيه من روحه، فإذا هو إنسان متحرّك، ذو قدرات مادية وعقلية ومعنوية- أخلاقية، وكان آدم وحواء أصل النوع الإنساني كما أخبر القرآن، وقد أثبت العلماء زيف نظرية «دارون» التي تجعل القرد أصلا وأبا للإنسان.
الثاني- السجود لآدم: أمر الله تعالى إبليس والملائكة بالسجود لآدم سجود تكريم لا سجود عبادة، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس كان من الجنّ، ففسق عن أمر ربه، وأبى واستكبر.
الثالث- سبب مخالفة إبليس وعقابه: احتجّ إبليس بأنه أفضل من آدم، وقال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار باعتبار ما فيها من الارتفاع والعلو أشرف من الطين الذي هو عنصر ركود وخمود، فطرده الله من الجنة بسبب الكبر ونسبته الظلم إلى الله، لكنه طلب الإنظار إلى يوم الدّين، فأنظره الله، وتوعد آدم بإغواء ذريته، فردّ الله عليه بأن عباد الله المخلصين لا سلطان له عليهم، وتوعده ومن تبعه بالنار.
الرابع- استخلاف آدم في الأرض: أخبر الله تعالى ملائكته أنه سيجعل آدم خليفة عنه في الأرض يكون له سلطان في التصرف في موادها، فتساءلوا على سبيل العلم والحكمة، كيف تجعل في الأرض المفسدين وسفاكي الدماء، وهم- أي الملائكة- أهل الطاعة واجتناب المعصية؟ فأجابهم الحقّ سبحانه أنه يعلم في هذا المخلوق من الأسرار ما لا يعلمون، واختصه بعلم ما لا يعلمون.
(١) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص ٢ وما بعدها، ط رابعة.
145
الخامس- تعليم آدم أسماء الأشياء المحسوسة: ميّز الله آدم عن الملائكة بتعليمه أسماء جميع الأشياء المادية التي يراها حوله من زروع، وأشجار، وثمار، وأوعية، وحيوان، وجماد، لحاجته إلى الاستفادة منها في طعامه وشرابه، بخلاف الملائكة الذين لا يحتاجون إلى شيء، ثم طالب الله الملائكة بأسماء المسميات المرئية الحاضرة، بعد أن عرض عليهم المسميات، فلم يعلموها. وحاجة ذرية آدم إلى الأشياء تدفعهم إلى العمل والتفكير، والتنقيب عن تلك الأشياء، وعمارة الكون وتقدم وسائل الحياة في كل المجالات من زراعة وصناعة وتجارة.
السادس- سكنى آدم وزوجته الجنة وخروجهما منها: أسكن الله آدم الجنة، وخلق له حواء، وأباح لهما الاستمتاع بثمار الجنة إلا شجرة عينها لهما، فوسوس لهما إبليس بالأكل منها وأغراهما، وقال لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلا لأن الأكل منها يجعلكما من الملائكة، أو تكونا خالدين دون موت ولا فناء، فرفض آدم في مبدأ الأمر، وقاوم إغراءات الشيطان، ولكن إبليس استمر في إلقاء وساوسه: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢١]، حتى نسي آدم أنه عدوه الذي أبى السجود له، فأكل آدم وحواء من الشجرة: فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه ٢٠/ ١٢١] ليسترا عوراتهما، فعاتب الله آدم على مخالفة أمره والأكل من الشجرة، فندم واستغفر الله وتاب، فقبل توبته، ولكنه أمره وحواء بالخروج من الجنة، والاستقرار في الأرض.
العظة من قصة آدم:
١- تفرد الله تعالى بأسرار وعلوم وحكم، ولم يطلع عليها أحدا من الخلق، حتى الملائكة، فإنهم جهلوا الحكمة من استخلاف آدم، وتساءلوا عن السبب في هذا الاختيار.
146
٢- إذا توجهت عناية الله تعالى إلى شيء جعلته جليلا عظيما، كما توجهت عنايته إلى التراب فخلق منه بشرا سويا، وأفاض عليه من العلم والمعرفة وغيرهما مما عجز الملائكة عن إدراكه.
٣- الإنسان وإن كرّمه الله، لكنه ضعيف، عرضة للنسيان، كما نسي آدم أوامر الله ونواهيه، فأطاع إبليس عدوه، وأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
٤- إن التوبة والإنابة إلى الله سبيل الظفر برحمة الله الواسعة، فإن آدم الذي عصى ربه تاب وقبل الله توبته، فعلى العاصي أو المقصر المبادرة إلى التوبة والاستغفار دون قنوط ولا يأس من رحمة الله ورضوانه ومغفرته.
٥- الكبر والعناد والإصرار على الإفساد أسباب لاستحقاق السخط الإلهي، واللعنة والغضب والطرد من رحمة الله، فإن إبليس الذي أبى السجود، وأصرّ على موقفه، وعاند الله، وتحدى سلطانه بإغراء الإنسان وصرفه عن إطاعة الله، غضب الله عليه وطرده من الجنة إلى الأبد، وأوعده بنار جهنم.
ما طلب من بني إسرائيل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
147
الإعراب
إِيَّايَ ضمير منصوب بفعل مقدر، وتقديره: إياي ارهبوا فارهبون، وإنما وجب تقدير «ارهبوا» لأن فعل فَارْهَبُونِ مشغول بالضمير المحذوف وهو الياء.
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً «ما» بمعنى الذي، والعائد هو الضمير المحذوف تخفيفا في فعل أَنْزَلْتُ. مُصَدِّقاً حال من الهاء المحذوفة، وتقديره: أنزلته. أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أول:
خبر تكونوا، كافر: صفة موصوف محذوف، تقديره: أول فريق كافر، ولهذا جاء بلفظ الواحد، والخطاب لجماعة.
تَكْتُمُوا إما منصوب بتقدير «أن» أو مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا وعلامة النصب والجزم في الوجهين حذف النون. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في تَكْتُمُوا.
البلاغة:
نِعْمَتِيَ الإضافة للتشريف وبيان عظم قدر النعمة وسعة يسرها وحسن موقعها. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ليس الشراء هنا حقيقيا، بل هو على سبيل الاستعارة التصريحية، كما في الآية السابقة اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى والمراد استبدلوا بآياتي ثمنا، والمراد بالثمن في الأصل هو المشترى به، أي استبدلوا بآيات الله وبالحق الكثير بدلا قليلا ومتاعا يسيرا، فكانت مبادلة خاسرة، لأن كل كثير أو كبير بالنسبة للحق المتروك قليل وحقير.
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وإِيَّايَ فَاتَّقُونِ يفيد الاختصاص، وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياي نعبد.
تكرار الحق في قوله: تَلْبِسُوا الْحَقَّ وقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ لزيادة تقبيح المنهي عنه، لأن التصريح للتأكيد.
إطلاق الركوع على الصلاة في قوله: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ مجاز مرسل، من أنواع تسمية الكل باسم الجزء.
المفردات اللغوية:
إِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وبنوه: أولاده، وهم اليهود. ومعنى إِسْرائِيلَ صفي الله، وقيل: الأمير المجاهد. بِعَهْدِي عهد الله: ما عاهدهم
148
عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وبخاصة محمد خاتم الأنبياء من ولد إسماعيل بِعَهْدِكُمْ ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان، والتمكين من بيت المقدس، وسعة العيش في الدنيا.
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا قد يطلق كل من البيع والشراء على الآخر، والمعنى:
لا تبيعوا آياتي بثمن قليل وعوض يسير من الدنيا، أو لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من الناس.
فَارْهَبُونِ فخافون في نقضكم العهد وترك الوفاء به دون غيري.
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن. مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة بموافقته في التوحيد والنبوة.
وَلا تَلْبِسُوا لا تخلطوا الحق المنزل من الله بالباطل الذي تخترعونه، ولا تحرفوا ما في التوراة بالبهتان الذي تفترونه.
المناسبة:
اختصت هذه الآيات من (٤٠- ١٤٢) بالكلام عن بني إسرائيل فيما يقارب جزءا كاملا، لكشف حقائقهم وبيان مثالبهم، وكانت الآيات السابقة من أول السورة إلى هنا حول إثبات وجود الله ووحدانيته، والأمر بعبادته، وأن القرآن كلام الله المعجز، وبيان مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وتكريمه وخلق السموات والأرض، وموقف الناس من كل ذلك وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين. ثم بدأ سبحانه بمخاطبة الشعوب التي ظهرت فيها النبوة، فبدأ باليهود، لأنهم أقدم الشعوب ذات الكتب السماوية، ولأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين بالقرآن، مع أنهم أولى الناس بالإيمان بخاتم الرسل، لذا ذكرهم الله تعالى بنعمه الكثيرة التي أنعم بها عليهم، وذكرهم بالعهد المؤكد معهم على التصديق بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتنوع أسلوب القرآن في خطابهم، تارة بالملاينة والملاطفة، وتارة بالتخويف والشدة، وأحيانا بالتذكير بالنعم، وطورا بتعداد جرائمهم وقبائحهم وتوبيخهم على أعمالهم وإقامة الحجة عليهم.
التفسير والبيان:
يا أولاد النبي الصالح يعقوب، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق، وتفكروا
149
بالنعم التي أنعم الله بها على آبائكم من الإنجاء من فرعون، وتظليل الغمام، واشكروا الله على نعمه بامتثال أوامره وإطاعته، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله دون تفريق، وبخاصة محمد خاتم النبيين، أوفّ بعهدي لكم في الدنيا والآخرة، بالتمكين لكم في الأرض المقدسة- في زمنهم- ورفع شأنكم، وتوسيع معيشتكم، ونصركم على أعدائكم، وتوفير السعادة لكم في الآخرة.
وآمنوا- ضمن مشتملات العهد- بالقرآن إيمانا صادقا، وأنه من عند الله، وأنه نزل مؤيدا ومصدقا وموافقا للتوراة وكتب الأنبياء السابقة، في الدعوة إلى توحيد الله، وترك الفواحش، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي التوراة وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به، فأنتم أحق الناس بالإيمان به، لوجود دليل صدقه في التوراة. ولا تبيعوا آيات الله الدالة على صدق محمد في نبوته ودعوته بثمن دنيوي حقير، من رياسة أو زعامة أو مال أو موروثات وعادات قديمة، فإنه ثمن قليل بخس، وتجارة خاسرة غير رابحة. ولا تخافوا أحدا سوى الله فهو بيده الخير كله. ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون ضرر الكتمان، فليس جزاء العالم في الآخرة كالجاهل. وأدوا ما افترض الله عليكم من الصلاة والزكاة وأدوها جماعة مع النّبي محمد عليه السّلام.
وعبر بالركوع عن الصلاة ليبعدهم عن صلاتهم القديمة التي لا ركوع فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى أحكام كثيرة في العقيدة والأخلاق والعبادة والحياة الخاصة والعامة، فأوجبت على اليهود ألا يغفلوا عن نعم الله التي أنعم بها عليهم وألا يتناسوها، والنعمة هنا: اسم جنس، مفردة بمعنى الجمع، قال الله تعالى:
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم ١٤/ ٣٤]، ومن نعمه عليهم: أن
150
أنجاهم من آل فرعون، وجعل منهم أنبياء، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفجّر لهم من الحجر الماء، واستودعهم التوراة التي فيها صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته ورسالته «١»، والنعم على الآباء نعم على الأبناء، لأنهم يشرفون بشرف آبائهم وكانت النعم سببا في بقائهم. والتذكير بكثرة النعم يوجب الحياء عن إظهار المخالفة، ويوجب عظم المعصية، ويستدعي الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن.
وألزمهم الوفاء بالعهد: وهو عام في جميع أوامره تعالى ونواهيه ووصاياه، ويدخل في ذلك الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي ذكر في التوراة وغيرها، فإذا وفّوا بعهودهم، وفي الله لهم عهده: وهو أن يدخلهم الجنة، على سبيل التفضل والإنعام.
وما طلب من اليهود من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا، قال الله تعالى:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة ٥/ ١] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل ١٦/ ٩١].
وأمرهم بخشية الله وحده والإيمان (التصديق) بما أنزل الله وهو القرآن، ونهاهم عن أن يكونوا أول من كفر، وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا، أي على تغيير صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم رشى، وكان الأحبار يفعلون ذلك، فنهوا عنه.
وقد أثار العلماء في هذه الآية (٤١) ونحوها مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن «٢»، فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي، وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب
(١) تفسير الرازي: ٣/ ٣٣ وما بعدها، قال بعض العارفين: عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكّر بني إسرائيل بنعمه عليهم، ولما آل الآمر إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكرهم بالمنعم فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة ٢/ ١٥٢] فدل ذلك على فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم على سائر الأمم.
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٣٣٥
151
والإخلاص، فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام، وقد قال تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.
وأجاز جمهور العلماء غير الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن،
لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس- حديث الرّقية الذي أخرجه البخاري: «إن أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله»
والقياس على الصلاة والصيام فاسد، لأنه في مقابلة النص، ولأن تعليم القرآن يتعدى أثره لغير المعلّم، فيختلف عن العبادات المختصة بالفاعل.
وهذا الخلاف جار أيضا في أداء الصلاة وغيرها من الشعائر الدينية بأجر.
ونهى الله اليهود- ومثلهم غيرهم- عن أن يخلطوا ما عندهم من الحق في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل، وعن كتمان ما علموا، ومنه أن محمدا عليه السلام حق، فكفرهم كان كفر عناد، ولم يشهد تعالى لهم بعلم في ذلك.
وفي نهاية الآيات أمرهم الله تعالى- والأمر للوجوب- بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وعبر عن الصلاة بالركوع، لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع، ليرشدهم إلى الصلاة بالصفة الإسلامية، والمراد بالزكاة على الأصح الزكاة المفروضة، لمقارنتها بالصلاة، وليس المراد هو صدقة الفطر. وفي الصلاة تطهير النفوس، وفي الزكاة تطهير المال، وكلاهما مظهر شكر الله على نعمه، والزكاة تنفرد بأنها تحقق مبدأ التكافل الاجتماعي بين الناس، فالغني بحاجة إلى الفقير، والفقير بحاجة إلى الغني. قال الجصاص: أريد بالصلاة والزكاة ما خوطبنا به من هذه الصلوات المفروضة والزكوات الواجبة «١».
(١) أحكام القرآن: ١/ ٣٤
152
نماذج من سوء أخلاق اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
الإعراب:
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير في تَنْسَوْنَ.
وَإِنَّها الهاء تعود على الصلاة، وإنما قال: وَإِنَّها ولم يقل: وإنهما أي الصبر والصلاة، لأن العرب ربما تذكر اسمين، وتكنّي عن أحدهما، مثل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها ولم ينفقونهما، ومثل: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة ٦٢/ ١١] ولم يقل: إليهما.
إِلَيْهِ الضمير يعود إلى الله تعالى.
يَوْماً مفعول فيه ظرف زمان لفعل اتَّقُوا. ولا تَجْزِي وما بعدها من الجمل المنفية صفات ليوم، وفي كل جملة ضمير مقدر يعود على يوم، تقديره: فيه، أي لا تجزي فيه..
وهكذا. وتذكير فعل وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ مع أن الفاعل مؤنث لوجود الفاصل، وإذا وجد الفصل بين للفعل والفاعل، قوي التذكير.
البلاغة:
أَتَأْمُرُونَ الاستفهام للتوبيخ. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فيه تقريع وتبكيت. أَفَلا تَعْقِلُونَ استفهام إنكاري وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الترك.
153
ثم إن عطف وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ.. على اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ من عطف الخاص على العام.
وَاتَّقُوا يَوْماً تنكير اليوم للتهويل، وتنكير النفس في نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ لإفادة العموم.
المفردات اللغوية:
«البر» الطاعة والخير والعمل الصالح وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها فلا تأمرونها به الْكِتابَ التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل. أَفَلا تَعْقِلُونَ سوء فعلكم فترجعوا.
وَاسْتَعِينُوا اطلبوا المعونة على أموركم بِالصَّبْرِ حبس النفس على ما تكره وَالصَّلاةِ قال القرطبي وغيره: خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها، وكان عليه السّلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة «١» وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أي وإن الصلاة لشاقّة ثقيلة الْخاشِعِينَ الساكنين إلى الطاعة.
يَظُنُّونَ يعتقدون أو يوقنون مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالبعث وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ في الآخرة فيجازيهم.
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ بالشكر عليها بطاعتي فَضَّلْتُكُمْ أي آباءكم عَلَى الْعالَمِينَ عالمي زمانهم. وَاتَّقُوا خافوا يَوْماً يوم القيامة. لا تَجْزِي تقضي وتؤدي نفس. عَدْلٌ فداء. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله.
سبب النزول:
أخرج الواحدي والثعلبي عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية (٤٤) في يهود المدينة، كان الرجل منهم يقول لصهره ولذوي قرابته ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به، وهذا الرجل، يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه «٢».
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٧١، وحزبه: نزل به مهمّ أو أصابه غم.
(٢) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣ [.....]
154
وقال السدّي: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر، ويخالفون، فعيّرهم الله عز وجلّ «١».
التفسير والبيان:
بان مما سبق في سبب النزول أن الآيات نزلت في أهل الكتاب وعلى التخصيص الأحبار والرهبان، كانوا يأمرون الناس بالخير والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم، فهذا مدعاة العجب والاستغراب، فإن الآمر بالشيء هو القدوة، فعليه المبادرة إلى فعل ما أمر به غيره، وإلّا كان كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. وفي هذا توبيخ وتأنيب شديد، فكيف يليق بكم يا أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمرون بما تأمرون به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه من وعيد على من قصر في أوامر الله، أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؟ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.
وهذا الخطاب، وإن كان لليهود من أهل الكتاب، فهو موجه أيضا لغيرهم، لأن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
وطريق العلاج لهذا المرض أن تؤمنوا حقا، وتستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء، على مرضاة الله بالصبر الحقيقي وهو إنما يكون بتذكر وعد الله بحسن الجزاء لمن صبر عن الشهوات المحرمة، وتستعينوا بالصلاة لترويض النفس على التزام جادة الاستقامة، فمن صبر على احتمال التكاليف، وصرف نفسه عن المعاصي، وناجى ربه في صلاته، وعقد الصلة مع الله فيها خمس مرات في اليوم، كان جديرا بنصح الآخرين، مدركا بعقله الواعي مخاطر الانحراف، ضامنا لنفسه النجاة، لأن الأمر بالمعروف واضح، وهو واجب على العالم، وأوجب منه أن
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٨٥
155
يبدأ الواعظ بفعله بنفسه، ولا يتخلف بشيء عمن أمرهم به، قال شعيب عليه السلام- فيما حكاه القرآن: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ [هود ١١/ ٨٨].
والتزام الصلاة أمر شاق إلا على من خشعت نفوسهم لله، وخافوا من شديد عقابه، وعمرت قلوبهم بالإيمان وصدقوا بلقاء الله وحسابه، فبادروا إلى الصلاة، لإراحة أنفسهم، وتطمين قلوبهم، وإراحة بالهم، وإزالة قلقهم، وهو
ما عبر عنه النّبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» «١».
والأصح أن المراد بالصلاة التي أمر بها اليهود وغيرهم هي الصلاة الإسلامية، بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها، ولأن الصلاة التي أمروا بها هي المشتملة على الركوع، كما في الآية السابقة، وصلاتهم لا ركوع فيها، كما بينا.
وعبر بالظن في قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ للإشارة إلى أن من ظن اللقاء لا يشق عليه الصلاة، فكيف بمن يتيقنه؟! فهذا سبب آخر بعد نسيان أنفسهم وتلاوة الكتاب للتقريع والتوبيخ.
وفي مجالات الأوامر والترغيب في المأمورات يحسن التذكير بالنعم الإلهية، لذا كرر تعالى تذكير الكتابيين بالنعم التي أنعم بها على آبائهم وعليهم، وأنه فضلهم على غيرهم من العالم في زمانهم، وأنه جعل فيهم الأنبياء، والخطاب ليس موجها إلى الجماعة فقط، وإنما إلى كل فرد أيضا، لأن كل امرئ مسئول عن نفسه، فليخش كل إنسان يوما مليئا بالأهوال، لا منجاة فيه إلا بتقوى الله في السر والعلن، ولا فائدة فيه إلا لمن عمل لنفسه، فلا تقبل هناك شفاعة الشفعاء والوسطاء، ولا ينفع دفع البدل أو الفداء، ولا يمنع المقصرون من العذاب.
(١)
نص الحديث بكامله: «حبّب إلي من دنياكم: النساء، والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
156
فقه الحياة أو الأحكام:
يستحق كل مقصر في واجبه العقاب واللوم، فقد كان التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر، وكان ذم اليهود لأنهم كانوا يأمرون بأعمال البر والطاعة ولا يعملون بها، ويزداد التقريع للعالم الذي لا يعمل بما علم، فليس من يعلم كمن لا يعلم، ولا يتقبل العقل السليم هذه الحال من أحد.
وإطاعة الأوامر الإلهية وعدم مخالفتها تتطلب الصبر، ومن صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة، ومن أخص حالات الصبر: الصلاة، فالصلاة فيها سجن النفوس، وجوارح الإنسان فيها مقيدة بها عن جميع الشهوات، فكانت الصلاة أصعب على النفس، وكانت مكابدتها أشق. وتهون المصاعب كلها أمام الخاشعين المتواضعين المخبتين إلى الله، الموقنين بلقاء الله، المصدقين بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وليست أمور الآخرة مقيسة على أمور الدنيا، كما كان يتوهم اليهود وغيرهم من الأمم الوثنية، فليس في ميزان الإسلام وعدله طريق لتخليص المجرمين من العذاب بفداء أو بدل يدفع، أو بشفاعة تشفع، ولا ينفع في اليوم الآخر إلا مرضاة الله تعالى بالعمل الصالح، والإيمان المستقر في النفوس، المتجلي في أعمال الإنسان، والحكم إلى الله العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ، ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٤- ٢٦].
والشفاعة المرفوضة هي شفاعة الكافرين، فقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ: النفس الكافرة، لا كل نفس. أما المؤمنون فتنفعهم الشفاعة بإذن الله، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨] والفاسق
157
غير مرتضى، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ ٣٤/ ٢٣] وليس في الشفاعة رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعاء الشافع، والشفاعة دعاء. وليس في إثبات شفاعة مسوغ لمغتر يتهاون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على الشفاعة، فلا ينفع أحدا في الآخرة إلا طاعة الله ورضاه.
وأما تفضيل بني إسرائيل فهو ليس دائما ولا عاما، وإنما هو مقصور على عالمي زمانهم، ومرتبط بمدى تنفيذهم أوامر الله، فالتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل، والفضل إن كان بكثرة الأنبياء فيهم فهو صحيح لا شك فيه، ولا تقضي هذه الفضيلة بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ويزول الفضل إذا هم انحرفوا عن هدي أنبيائهم وتركوا سنتهم. وإن كان المراد من التفضيل هو القرب من الله بمرضاته، فهو مختص بالأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه، ومقيد بمدة الاستقامة على العمل الذي استحقوا به التفضيل «١».
نعم الله تعالى العشر على اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
(١) تفسير المنار: ١/ ٣٠٤ وما بعدها.
158
الإعراب:
إِذْ معطوف على نِعْمَتِيَ ومنصوب بفعل محذوف تقديره: واذكروا إذ نجيناكم.
وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا، وَإِذْ واعَدْنا مُوسى، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى.
فِرْعَوْنَ ممنوع من الصرف للتعريف والعجمة، ومعناه في القبطية: التمساح. يَسُومُونَكُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من آل فرعون. وكذلك يُذَبِّحُونَ ويَسْتَحْيُونَ حال منهم أيضا.
واعَدْنا بمعنى وعدنا، لأن الأصل في «فاعلنا» أن تكون مشاركة من اثنين، ولا يحسن هاهنا، لأن الله تعالى وعد موسى، ولم يكن من موسى وعد الله تعالى. اتَّخَذْتُمُ فعل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، الأول منهما (العجل) والثاني مقدر وتقديره: إلها.
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ جملة اسمية في موضع الحال من ضمير اتَّخَذْتُمُ.
ذلِكُمْ أراد المذكور، وهو يشمل القتل والتوبة.
البلاغة:
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استعارة من السّوم في البيع. بَلاءٌ وعَظِيمٌ التنكير فيهما للتفخيم والتهويل.
واعَدْنا ليست على أصلها وهو المشاركة من اثنين، وإنما هي بمعنى «وعدنا» كما بينا في الإعراب.
هذا وعطف الفرقان على الكتاب في آية (٥٣) من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة، والفرقان هو التوراة أيضا، فهو كتاب منزل وفارق بين الحق والباطل.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ أي آباءكم، تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا. وفرعون: لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ أشده أي العذاب الشديد.
يَسْتَحْيُونَ يبقون نساءكم أحياء، ويقتلون الرجال، لقول بعض الكهنة لفرعون: إن مولودا
159
يولد في بني إسرائيل، يكون سببا لذهاب ملكك وَفِي ذلِكُمْ العذاب أو الإنجاء بَلاءٌ ابتلاء واختبار.
فَرَقْنا فلقنا، والمراد جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه، هاربين من عدوكم.
الْكِتابَ التوراة. وَالْفُرْقانَ الشرع الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ليقتل البريء منكم المجرم ذلِكُمْ القتل، وقتل منهم نحو سبعين ألفا بارِئِكُمْ مبدعكم ومحدثكم فَتابَ قبل توبتكم.
المناسبة:
هذه الآيات في تفصيل النعم العشرة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، بعد الإشارة إليها إجمالا في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تذكيرا لهم بضرورة شكرها.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها اليهود الذين تعاصرون التنزيل ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم النعم التي أنعم الله بها على آبائكم، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع، كانت سببا لبقائكم، ولأن الإنعام على أمة إنعام يشمل كل أفرادها، وهي نعم عشرة، ذكر منها هنا خمسة وهي:
١- النجاة من فرعون، فإنه كان يذبح الأبناء الذكور، ويترك البنات أحياء، ويذيقهم العذاب الشديد، لأن فرعون كان قد رأى نارا هالته، خرجت من بيت المقدس، فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل.
وفسّرت له بأن زوال ملكه يكون على يد رجل من بني إسرائيل «١». فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء، ومع هذا نجاهم الله من هذا العذاب المهين. وفي النجاة من الهلاك اختبار من الله، حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك. والاختبار
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٩٠
160
قد يكون بالخير أو بالشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء ٢١/ ٣٥] وقال: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٨].
وأما أنواع العذاب غير القتل، فقال ابن إسحاق: كان فرعون يعذب بني إسرائيل، فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله، فعليه الجزية، فسامهم العذاب.
وفرعون: لقب لكل من ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وخاقان لملك الترك، وبطليموس لمن ملك الهند.
ونسب الله تعالى إلى آل فرعون- وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه- لتولّيهم ذلك بأنفسهم، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله «١». قال الطبري: فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو مقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياه بإكراه غيره له على قتله «٢».
٢- عبور بني إسرائيل في البحر الأحمر سالمين بعد تهيئة طريق يابس سلكوه، وإغراق فرعون وجنوده. وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم، لتصديق الناس إياهم، وهي سنة في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٣٨٥
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٢١٤
161
وأما فرعون وجنوده فتبعوهم، حتى إذا كانوا في وسط البحر، أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا.
٣- قبول توبة الاسرائيلين وعفو الله عنهم، لأن الله تعالى كثير القبول لتوبة العصاة، ورحيم بمن ينيب إليه ويرجع، وهذا يستدعي شكر الله تعالى، وشكره: الإيمان به وبرسله واتباعهم فيما جاؤوا به، وبخاصة خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
٤- إنزال التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام على موسى عليه السلام، كي يهتدوا بها، ويتدبروا ما فيها، ويسيروا على منهجها وشرعها.
٥- التخلص الجماعي من المجرمين بأمر الله نبيه موسى عليه السّلام بعد أن اتخذ بنو إسرائيل العجل إلها، فعبدوه من دون الله، وظلموا أنفسهم بعد الإشراك بالله، في وقت غيبة موسى عنهم لميقات ربه، وصومه أربعين يوما، فاذكر يا محمد قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه:
يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أصررتم بأنفسكم، فتوبوا إلى خالقكم، وتخلصوا من جهلكم، إذ تركتم عبادة البارئ، وعبدتم أغبي الحيوان وهو البقر.
وطريق التوبة التي كانت في شريعتهم: أن يقتل البريء منكم المجرم، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء، لئلا يبصر بعضهم بعضا عند القتل، فيرحمه، فتقاتل عبدة العجل مع المؤمنين بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، حتى قتل منهم سبعون ألفا، وبعدها تضرع موسى وهارون إلى الله، فتاب عليهم، من قتل ومن لم يقتل، أما المقتول فهو حي يرزق عند الله، وأما من بقي فقد قبلت توبته، وانتهى التقاتل، وألقوا السلاح، وساد السلم والأمن، ولا عجب في هذا، فالله هو التواب الرحيم بعباده.
والأربعون يوما في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
162
والخلاصة: ربما كانت هذه النعمة أجل النعم، فالله تعالى يقول: اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف (١٤٢) في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
فقه الحياة أو الأحكام:
لكل ظالم عات باغ نهاية حتمية، كنهاية فرعون بالإغراق في البحر، وللمظلوم فرج قريب ونصر محقق، كإنجاء بني إسرائيل المظلومين على يد فرعون وآله. وكان الإنجاء عيدا، مستوجبا شكر الإله، وصار يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرّم يوم صيام الشكر،
روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر بصيامه.
قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال:
صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
والشكر لله- كما قال سهل بن عبد الله: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.
والمبادرة إلى التوبة سبيل التخلص من المعصية، والله سبحانه واسع الرحمة، كثير القبول للتوبة.
والصبر مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله، عوّضه
163
الله صحبة أوليائه، هؤلاء بنو إسرائيل صبروا على مقاساة الضرّ من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكا، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين «١».
تتمة النّعم العشر على بني إسرائيل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٦٠]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
الإعراب:
جَهْرَةً منصوب على المصدر في موضع حال من ضمير قُلْتُمْ وتقديره: قلتم ذلك مجاهرين، وهذا هو الأوجه. وقيل: صفة محذوف تقديره: أرنا الله رؤية جهرة.
(١) البحر المحيط: ١/ ١٩٤
164
سُجَّداً جمع ساجد، منصوب على الحال من ضمير ادْخُلُوا. حِطَّةٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره: مسألتنا حطة، أي حطّ عنا ذنوبنا. ومن نصب حِطَّةٌ أعمل الفعل.
فَانْفَجَرَتْ معطوف على فعل مقدر، تقديره: فضرب فانفجرت، لأن الانفجار إنما يحصل عن الضرب، لا عن الأمر بإيجاده، مثل: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة ٢/ ١٨٥] أي فأفطر فعدة. ومثل: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة ٢/ ١٧٣] أي فأكل فلا إثم عليه.
مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لعاملها: تَعْثَوْا.
البلاغة:
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لزيادة التأكيد على أنه موت حقيقي.
كُلُوا إيجاز بالحذف، أي قلنا لهم: كلوا.
وَما ظَلَمُونا إيجاز بالحذف أيضا تقديره: فظلموا أنفسهم بأن كفروا. والجمع بين ظَلَمُونا ويَظْلِمُونَ الماضي والمضارع للدلالة على تماديهم في الظلم.
فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولم يقل: فأنزلنا عليهم، لزيادة التقبيح والمبالغة في الذم والتقريع، بوضع الظاهر موضع الضمير. رِجْزاً نكّره للتهويل والتفخيم.
مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تعظيم للنعمة والمنة، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب ولا مشقة.
المفردات اللغوية:
جَهْرَةً عيانا واضحا بالبصر. الصَّاعِقَةُ الصيحة بالعذاب، أو نار من السماء.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ما حلّ بكم.
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم. تَشْكُرُونَ نعمتنا بذلك.
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ سترناكم بالسحاب الرقيق من حرّ الشمس في التيه. الْمَنَّ شيء حلو لزج كالعسل. السَّلْوى الطائر المعروف بالسّماني ويسمى في بلاد الشام بالفري، وكلّ من السّماني والسلوى جمع لا واحد له من لفظه.
هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس أو أريحا. رَغَداً أكلا واسعا هنيئا لا عناء فيه ولا حجر
165
عليه. الْبابَ بابها. سُجَّداً منحنين متواضعين متذللين لله. حِطَّةٌ أي سؤالنا أن تحطّ عنا ذنوبنا أو خطايانا، والمراد: اسألوا الله المغفرة.
رِجْزاً عذابا من السماء، ومن المعلوم أن العذاب نوعان: نوع يمكن دفعه: وهو عذاب المخلوقات كالهدم والغرق، ونوع لا يمكن دفعه: كالطاعون والصاعقة والموت، والمراد به هذا النوع الثاني.
الْحَجَرَ أي حجر، كان إذا ضربه تفجر منه الماء بقدرة الله. فَانْفَجَرَتْ انشقت وسالت. أُناسٍ جماعة منهم، وكانوا اثني عشر سبطا. مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم، فلا يشاركهم فيه غيرهم. وَلا تَعْثَوْا من عثي: أفسد، أي لا تفسدوا إفسادا شديدا، والعثو أو العثيّ: أشد الفساد، وتكرر المعنى تأكيدا، لاختلاف اللفظ.
التفسير والبيان:
اذكروا يا بني إسرائيل قول السبعين من أسلافكم الذين اختارهم موسى عليه السلام حين ذهبوا معه إلى الطّور، للاعتذار عن عبادة العجل: لن نصدق بالله وبكتابه، علما بأنك سمعت كلامه، حتى نرى الله عيانا بالعين المجردة بلا حاجز، فأخذهم الله بعذابه وهو إرسال نار من السماء وهي الصاعقة فأحرقتهم وماتوا، ومكثوا يوما وليلة، والحي ينظر إلى الميت.
وهكذا كان حال بني إسرائيل مع موسى، يتمرّدون ويعاندون، فيعذبهم الله في الأرض، بالأوبئة والأمراض وتسليط هوامّ الأرض وحشراتها، حتى فتكت بالعدد الكثير منهم، ثم ينعم الله عليهم، وها هي بقية النّعم العشر التي يذكّرهم تعالى بها:
٦- ثم أحييناهم بعد الموت الحقيقي، ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم، فقاموا وعاشوا ينظرون إلى بعضهم «١»، وذلك كله لتشكروا الله أيها اليهود المعاصرون على
(١) ورأى الشيخ محمد عبده أن المراد بالبعث هو كثرة النسل، أي إنه بعد ما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها، بارك الله في نسلهم ليعدّ الشعب بالبلاء السابق للقيام بحقّ الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حلّ بهم العذاب بكفرهم لها (تفسير المنار: ١/ ٣٢٢).
166
إنعامه عليكم بالبعث بعد الموت، وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء. والشكر المطلوب: هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال بعض المفسّرين في تفسير بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ: علمناكم من بعد جهلكم. قال القرطبي: والأول أصح، لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَهُمْ أُلُوفٌ، حَذَرَ الْمَوْتِ، فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة ٢/ ٢٤٣] «١».
٧- ثم سترناكم بالسحاب الأبيض الرقيق من حرّ الشمس، أثناء وجودكم في وادي التّيه بين الشام ومصر مدة أربعين سنة، حيارى تائهين، بعد أن خرج آباؤكم من مصر، وجاوزوا البحر.
٨- ثم أنعمنا عليكم بأنواع من الطعام والشراب كالمنّ الذي هو مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، والسلوى الذي هو طير يشبه السّماني لذيذ الطعم، وكان المنّ ينزل عليهم نزول الضباب من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وتأتيهم السّماني، فيأخذ كل واحد ما يكفيه إلى الغد.
وقلنا لكم: كلوا من ذلك الرزق الطيب، واشكروا الله، فلم يفعلوا، وكفروا تلك النعم الجزيلة، ولم يضروا إلا أنفسهم، حيث قطع الله عنهم هذه النعم، وجازاهم على مخالفتهم، فكان. وبال العصيان عائدا عليهم.
٩- واذكروا أيضا نعمتي عليكم حين قلنا لكم بعد خروجكم من التّيه: ادخلوا القرية، قال الجمهور: هي بيت المقدس، وقيل: أريحاء من بيت المقدس، واسكنوا فيها، وكلوا واشربوا منها أكلا واسعا هنيئا لا حرج فيه، وادخلوا باب القرية ساجدين لله خاضعين مبتهلين إلى الله وحده، شكرا لله تعالى على خلاصكم
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٤٠٥
167
من التّيه، وقولوا: يا ربّنا، حطّ عنا ذنوبنا واغفر لنا خطايانا، وسنزيد المحسنين ثوابا من فضلنا وأجرا جزيلا. والمحسن: من صحح أساس توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شرّه.
فخالف الظالمون الأمر ولم يتبعوه، معبرا عن المخالفة بالتبديل، إشارة إلى أن المخالف كأنه أنكر الأمر وادعى أنه أمر بغيره، ودخلوا زاحفين على أستاههم، أي أدبارهم، غير خاضعين لله، فكان جزاؤهم إنزال العذاب الشديد من السماء وهو الرجز، وهو في رأي جماعة من المفسّرين، الطاعون، بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله، قيل: هلك منهم سبعون ألفا بالطاعون.
١٠- واذكروا يا بني إسرائيل نعمة أخرى حين عطش آباؤكم من شدّة الحرّ في التّيه، وطلبوا من موسى عليه السّلام السقيا، فأمره الله أن يضرب بعصاه أي حجر، فضرب فانفجرت منه المياه المتدفقة بقوة، وخرجت منه اثنتا عشرة عينا، لكل جماعة منهم عين يشربون منها حتى لا تقع بينهم الشحناء، وكانوا اثني عشر سبطا، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر، وقال الله لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير تعب، ولا تفسدوا في الأرض بأن تنشروا الفساد في الأرض، وتكونوا قدوة لغيركم فيه، أو لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم.
وكان تفجير الماء بعصا موسى معجزة ظاهرة له، وهي لا تكون لغير نبي، والمراد بالحجر الجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر، قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، وهذا أظهر في الحجة، وأبين في القدرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن مخاطبة بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن وتذكيرهم بالنّعم التي أنعم
168
الله بها على أصولهم، دليل واضح على وحدة الأمة، وتكافل أفرادها، وأن السعادة والشقاوة تعم الجميع من أصول وفروع، وإن لم يسأل الفرع عما فعل أصله، لكنه يتضرر بسوء أصله، وينتفع باستقامة أصله، كما قال تعالى في تعميم العذاب: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥]، وقال سبحانه في كنز الغلامين اليتيمين تحت الجدار: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً [الكهف ١٨/ ٨٢]، فكان صلاح الأب أو الجدّ سببا في صلاح الابن أو الحفيد نفسه، وفي حفظ المال لذريته، أي أن الصلاح يفيد في النفس والمال.
وفي قوله تعالى: وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة ٢/ ٥٧]، إيماء إلى أن كل ما يأمر به الله من عبادة فإنما نفعه لهم، وما ينهاهم عنه، فإنما ذلك لدفع ضرّ يقع بهم، وهو بمعنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس ١٠/ ٢٣]، وقوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة ٢/ ٢٨٦].
أما تفجير الماء من الحجر فكان معجزة لموسى عليه السّلام، والمعجزات كلها من صنع الله، وهي سنة جديدة غير ما نشاهد من العادات كل يوم، أما المخترعات العلمية فهي مبنية على السّنن العلمية باستخدام طاقات الكون من الأثير والهواء والنفط والكهرباء وغير ذلك. وكان الله قادرا على تفجير الماء وفلق البحر بلا ضرب عصا، ولكنه جلّت قدرته أراد أن يعلم عباده ربط المسببات بأسبابها، ليسعوا في الحصول على تلك الأسباب بقدر الطاقة. ومثل ذلك أيضا معجزات عيسى عليه السّلام، كان الله قديرا على أن يخلق الطير من الطين ومن غير الطين، ولم يكن هناك داع لنفخ الملك في مريم، لأن طريق القدرة كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران ٣/ ٤٧]، ولكن شاء الله أن تظهر قدرته بطريق التدرّج، ليتبين الفرق بين الطين والطير بالحياة، وكان خلق عيسى عليه السّلام من نطفة الأم فقط، ونفخ الروح كان بإذن الله وقدرته: كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران ٣/ ٤٧] وكل ذلك تقريب لفهم المعجزة.
169
وكان إمداد اليهود بالنّعم من أجل شدهم إلى منهج الاستقامة، وتخليصهم بالتوبة من الخطايا التي كانوا يرتكبونها، وذلك كله على سبيل العظة والعبرة.
وكان إبقاء اليهود في التّيه أربعين سنة من أجل خروج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق، وانقراض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية وعبادة العجل.
وحينما أمر الله اليهود بالدخول في باب القرية سجّدا قائلين: حطّة، بدلوا ودخلوا الباب، يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبّة في شعرة، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به، فعصوا وتمردوا واستهزءوا، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وفي هذا دليل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يجوز إن كان التّعبد بلفظها، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمر به بقوله. أما إن كان التّعبد بمعناها فيجوز تبديلها بما يؤدّي ذلك المعنى، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. وبناء عليه أجاز جمهور العلماء للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته رواية الحديث النّبوي بالمعنى، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للأعاجم غير العرب بلسانهم وترجمته لهم، وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قصّ من أنباء ما قد سلف، فقصّ قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير، والحذف والإلغاء، والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية، فلأن يجوز بالعربية أولى. وأما
حديث «نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي، فبلّغها كما سمعها»
فالمراد حكمها، لا لفظها، لأن اللفظ غير معتدّ به «١».
وأما تعذيب بني إسرائيل بإنزال الرجز (أي العذاب) من السماء، فكان
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٤١١- ٤١٣
170
بسبب فسقهم كما قال تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، وفي سورة الأعراف: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)، والفسق في الشرع: عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته. وهذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وفائدة التكرار: التأكيد، والحق كما قال الرازي «١» : أنه غير مكرر لوجهين: الأول: أن الظلم قد يكون من الصغائر، وقد يكون من الكبائر.
الثاني: يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرجز عليهم من السماء، بسبب ذلك التبديل، بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا الوجه يزول التكرار.
وأفادت آية وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تقرير سنة الاستسقاء، بإظهار العبودية والفقر والمسكنة والذّلة مع التوبة النصوح. وقد أقرت شريعتنا سنة الاستسقاء بالخروج إلى المصلى والخطبة والصلاة في رأي جمهور العلماء، لأن نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم استسقى، فخرج إلى المصلّى متواضعا متذلّلا مترسلا متضرعا. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنّة الاستسقاء صلاة ولا خروج، وإنما هو دعاء لا غير، واحتج بحديث أنس في صحيحي البخاري ومسلم. قال القرطبي:
ولا حجة له فيه، فإن ذلك كان دعاء عجّلت إجابته، فاكتفى به عما سواه، ولم يقصد بذلك بيان سنته، ولما قصد البيان بيّن بفعله، حسبما
رواه مسلم عن عبد الله بن زيد المازني، قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المصلى، فاستسقى، وحوّل رداءه، ثم صلّى ركعتين» «٢».
ودلّ قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا، ووَ لا تَعْثَوْا، على إباحة النّعم وتعدادها، والنهي عن المعاصي والإنذار بعقوبتها وأضرارها.
(١) تفسير الرازي: ٣/ ٩١- ٩٢
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٤١٨
171
مطامع اليهود وبعض جرائمهم وعقوباتهم
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
الإعراب:
يُخْرِجْ فعل متعد إلى مفعول واحد، وهو محذوف، وتقديره: يخرج لنا مأكولا.
مِنْ للبيان بدل من مِمَّا. مِصْراً صرفه إما لأنه أراد به مصرا من الأمصار، لا مصر بعينها، أو لأنه اسم البلد وهو مذكر، أو لأنه- وإن كان مؤنثا معرفة- على ثلاثة أحرف أوسطها ساكن، فجاز أن تصرف كهند ودعد وجمل ونوح ولوط.
البلاغة:
طَعامٍ واحِدٍ أراد بالواحد: ما لا يختلف ولا يتبدل. مِمَّا تُنْبِتُ أضاف الإنبات إلى الأرض على سبيل المجاز العقلي، وعلاقته السببية، لأن الأرض سبب للنبات. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ استعارة بالكناية عن إحاطتهما بهم، كما تحيط القبة بمن تحتها. بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادة في التشنيع على قبح العدوان.
والقائل في قوله تعالى: قالَ: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى هو موسى نفسه، والاستفهام للإنكار، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال.
المفردات اللغوية:
بَقْلِها البقل: كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثاء هو الخيار
172
المعروف. الفوم الثوم، بدليل قراءة ابن مسعود: «وثومها»، ولاقتران البصل بعده.
أَدْنى أقل مرتبة، إما من الدّنو: وهو القرب، أو من الدّون، كما تقول: هذا دون ذاك، أي أقل مقدارا، والدّنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار. مِصْراً بلدا من البلدان الزراعية.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ جعلت ووضعت عليهم. الذِّلَّةُ الذّل والهوان. الْمَسْكَنَةُ الفقر والحاجة. وَباؤُ بِغَضَبٍ رجعوا متلبسين به. ذلِكَ أي الضرب والغضب. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم فالباء سببية. وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ كزكريا ويحيى عليهما السلام. بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ظلما. يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحدّ في المعاصي. وكرر ذلِكَ للتأكيد، وقصد بالتكرار التعليل، وهو ردّ إلى علة الجزاء وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بِما باء السبب، أي بعصيانهم، والعصيان: خلاف الطاعة، والاعتداء: تجاوز الحدّ في كل شيء.
التفسير والبيان:
واذكروا أيها اليهود إذ قال أسلافكم من قبل: يا موسى، لا يمكن أن نستمر على طعام واحد، وهو المنّ والسلوى- ومخاطبة اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم دليل على مبدأ تكافل الأمة الواحدة- فاطلب لنا من ربك أن يطعمنا مما تنبت الأرض من أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها، وإنما سألوه الدعاء، لعلمهم أن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم.
فقال موسى متعجبا وموبخا مستنكرا: أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وأهنأ، وهو المنّ والسلوى، الأول فيه الحلاوة المألوفة، والثاني أطيب لحوم الطير، وهما غذاء كامل لذيذ؟ وإذ طلبتم الأدون نفعا وخيرا، فاهبطوا وانزلوا من التّيه «١» واسكنوا في أي بلد زراعي، فإن لكم فيه ما طلبتم.
وقد كنّوا عن المنّ والسلوى بطعام واحد، وهما اثنان: لتكرارهما في كل يوم غذاء، كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة: هو على أمر واحد، لملازمته ذلك.
(١) بلاد التّيه: ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين، وهي اثنا عشر فرسخا في ثمانية فراسخ.
173
لكن الله تعالى عاقبهم على كفران تلك النعم، وعلى الاستهزاء بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة، وعلى قتلهم الأنبياء ظلما، فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير مسوغ للقتل، وكانت عقوبتهم إلحاق الذّل والهوان بهم في الدنيا، ذلّا وهوانا ملازما لهم ومحيطا بهم، كما تحيط الخيمة بمن فيها، والذليل عادة يستخذي ويستهين، ثم استحقاق غضب الله وبلائه ونقمته في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة.
وكان ذلك العقاب بسبب عصيانهم أوامر ربهم عصيانا متكررا، وتعديهم حدود دينهم، واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء، فعلة جزائهم أمران: أنهم كانوا يعصون ويعتدون، والعصيان: فعل المناهي، والاعتداء: المجاوزة في حدّ المأذون فيه والمأمور به.
وضرب الذّلة والمسكنة أي الذّل والفقر والحاجة على اليهود، وإن كانوا ذوي مال، أمر قائم على أساس الشعور الذاتي النابع من أعماق النفس، فهم في فقر دائم وذلّ مستمر، وقد ورثوا صفات الذّل وضعف النّفس وامتهانها وحقارة التصرفات ودناءة الأخلاق، فلا يكادون يحسون بغنى النفس وعزتها، ولا تشبع نفوسهم، ولا ترتوي من شيء، وتظل أطماعهم وأحقادهم مسيطرة عليهم، حتى إنهم يعبدون المادة، ويؤلهون المال، وذلك كله بسبب إحساسهم الداخلي بالاستزادة من الأموال.
وقيام دولة لليهود أيضا لا يصادم هذه الآية التي تقرر إلحاق الذّل والهوان بهم، لأن مقومات الدولة الحقيقية غير متوافرة لهم، وهم في أمسّ الحاجة دائما إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار، مما أحوجهم إلى الدعم المستمر غير المتناهي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، من الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا.
174
فقه الحياة أو الأحكام:
إن ترك الأفضل من المطعومات وهو المنّ والسلوى، وطلب الأدنى مرتبة منه من بصل وثوم وعدس وخيار ونحوها، دليل على أن النفس البشرية قد تبدل الطيب بالخبيث، والأرقى بالأدنى. قال الحسن البصري: كان اليهود نتانى أهل كرّاث وأبصال وأعداس، فنزعوا إلى عكرهم «١» عكر السّوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليهم عادتهم، فقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ «٢».
وقولهم: لَنْ نَصْبِرَ يدلّ على كراهتهم ذلك الطعام. وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها.
أما أكل البصل والثوم وماله رائحة كريهة من سائر البقول، فهو مباح في رأي جمهور العلماء، للأحاديث الثابتة فيه، لكن ينبغي على الآكل أن يتجنب حضور أماكن التجمع في المساجد ونحوها، لئلا يتأذى الناس بالروائح الكريهة.
روى أبو سعيد الخدري عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: «أيها الناس، إنه ليس لي تحريم ما أحلّ الله ولكنها شجرة أكره ريحها».
ودلّت الآية على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب.
وإن الجزاء الذي أنزله الله باليهود من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم، حق وعدل ومطابق لجرائهم، وهي الاستكبار عن اتباع الحق، وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم، حتى إنهم قتلوهم ظلما وعدوانا بغير حق، لأن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به، فلم يأت نبي
(١) العكر: الأصل، وقيل: العادة والديدن. والعكر (بالتحريك) : دردي كل شيء. [.....]
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٤٢٢
175
قط بشيء يوجب قتله، فصرّح تعالى بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ على شناعة الذنب ووضوحه.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشد الناس عذابا يوم القيامة: رجل قتله نبي، أو قتل نبيا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين»
أي بالتمثيل بالقتلى.
فإن قيل: كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ أجيب ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بخذلان لهم. قال ابن عباس والحسن البصري: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال نصر.
عاقبة المؤمنين بنحو عام
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
الإعراب:
مَنْ إما مرفوعة أو منصوبة، فالرفع على أن مَنْ شرطية مبتدأ، وفَلَهُمْ جواب الشرط، وخبر المبتدأ، والجملة خبر إِنَّ والنصب على أنها بدل من الَّذِينَ فيبطل معنى الشرط، وتكون الفاء في فَلَهُمْ داخلة لجواب الإبهام، ويقصد بها التأكيد، مثل قولك:
«الذي يأتيني فله درهم» وتأكيد الشيء لا يغير معناه.
وروعي في ضمير «آمن، وعمل» لفظ مَنْ وفيما بعده: عِنْدَ رَبِّهِمْ.. معناها، وهي تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجاز رجوع الضمير إليها.
176
المفردات اللغوية:
هادُوا تهودوا، من هاد: إذ دخل في اليهودية. وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود وَالنَّصارى أتباع عيسى عليه السلام «١» وَالصَّابِئِينَ طائفة من اليهود أو النصارى عبدوا الملائكة أو الكواكب «٢». مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في زمن نبينا وَعَمِلَ صالِحاً بشريعته فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ثواب أعمالهم.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي، وكان من أهل جندسابور من أشرافهم «٣».
وأخرج ابن أبي حاتم والعدني في مسنده عن مجاهد قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية «٤».
وأخرج الواحدي عن مجاهد قال: لما قص سلمان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قصة أصحابه قال: هم في النار. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إلى قوله:
يَحْزَنُونَ قال: فكأنما كشف عني جبل «٥».
المناسبة:
اتبع الأسلوب القرآني منهج التذكير في ثنايا بيان القصة القرآنية، وفتح باب الأمل لدفع اليأس والقنوط أثناء توضيح الأسباب الموجبة للعقاب، للفت النظر وجذب الانتباه، وهكذا كان الأمر هنا، فبعد أن ذكّر الله اليهود بأفعال أسلافهم قديما، وأوضح مصيرهم وجزاءهم، ليعتبر المعاصرون، أورد مبدأ عاما
(١) سموا بالنصارى نسبة إلى قرية في فلسطين يقال لها: ناصرة، وكان عيسى بن مريم ينزلها.
(٢) قال الطبري: والصابؤون جمع صابئ، وهو المستحدث سوى دينه دينا كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل من خرج من دين إلى آخر يسمى صابئا.
(٣) تفسير الطبري: ١/ ٢٥٤، وهذا ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.
(٤) أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين: ص ١٤
(٥) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣ وما بعدها.
177
لكل المؤمنين: وهو أن كل مؤمن بالله واليوم الآخر تمسك بحبل الدين المتين، وعمل صالحا، فهو من الفائزين، سواء أكان من المسلمين أم من اليهود، أم من النصارى أم من الذين تركوا دينهم مطلقا وأسلموا، قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال ٨/ ٣٨].
التفسير والبيان:
إن المصدقين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أتى به من عند الله، والذين تهودوا أو تنصروا، أو بدلوا دينهم، وآمنوا بالله وحده لا شريك له، وبالبعث والنشور، وعملوا صالح الأعمال، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم، ولا خوف عليهم من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما تركوا من الدنيا وزينتها، إذا عاينوا النعيم الدائم في الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن مدار الفوز والنجاة هو الإيمان الصحيح المقترن بالعمل الصالح.
وليست هذه الآية منسوخة، وإنما هي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام.
ولا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل الكتاب، ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم، كما تقرر في سورة المائدة (الآية: ٥) وفرض الجزية عليهم، كما أوضحت سورة براءة (الآية ٢٩) واختلف في الصابئين:
فقال جماعة (السدي وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة) : لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم.
وقال آخرون (مجاهد والحسن البصري وابن أبي نجيح) : لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.
178
والحاصل: أن الصابئة قوم موحدون معتقدون تأثير النجوم، وأنها فعّالة «١».
بعض جرائم اليهود وعقابهم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
الإعراب:
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ فيه محذوف، تقديره: قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم، وحذف القول كثير في كلامهم.
مِيثاقَكُمْ ولم يقل «مواثيقكم» لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم مثل ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر ٤٠/ ٦٧] أي يخرج كل واحد منكم طفلا.
فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. لولا: حرف يمتنع له الشيء لوجود غيره، تقول: لولا زيد لأكرمتك، فيكون امتناع الإكرام وجود زيد. فضل: مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف تقديره:
موجود أو كائن.
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أمر تكوين، لا أمر تكليف، والمراد به تكوّنهم قردة. وقردة:
خبر كان. وخاسئين: إما صفة لقردة، أو خبر بعد خبر، أو حال من الضمير في: كونوا.
(١) تفسير القرطبي: ١/ ٤٣٤- ٤٣٥
179
فَجَعَلْناها نَكالًا الضمير في الفعل يعود إما على المسخة أو يعود على القردة.
وكذلك «ها» في قوله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها. ونكالا: مفعول به ثان.
أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي ذوي هزء، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون التقدير: أتتخذنا مهزوءا بهم.
البلاغة:
خُذُوا فيه إيجاز بالحذف كما بينا، أي قلنا لهم: خذوا.
كُونُوا قِرَدَةً ليس الأمر على حقيقته، وإنما أريد به معنى الإهانة والتحقير لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها كناية عمن أتى قبلها أو بعدها من الخلائق.
المفردات اللغوية:
مِيثاقَكُمْ الميثاق: العهد المؤكد، ويراد به هنا: العهد بالعمل. بما في التوراة الطُّورَ الجبل المعروف في شمال فلسطين بِقُوَّةٍ بجد ونشاط وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به تَتَّقُونَ النار أو المعاصي تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم.
اعْتَدَوْا تجاوزوا الحد السَّبْتِ اليوم المعروف، وقد نهاهم الله عن صيد السمك فيه، وهم أهل أيلة وهي القرية التي كانت حاضرة البحر. خاسِئِينَ بعيدين عن رحمة الله، وقد هلكوا بعد ثلاثة أيام.
فجعلناها نَكالًا أي تلك العقوبة عبرة تنكل من اعتبر بها، أي تمنعه من ارتكاب مثل ما عملوا. لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي الأمم التي في زمانها أو بعدها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خص المتقون بالذكر، لأنهم المنتفعون بها بخلاف غيرهم. والمتقون: الذين اتقوا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل بالنعم الجليلة، وأما هذه الآيات فهي تنديد بالمخالفات والمعاصي التي ارتكبوها، فإنهم نقضوا الميثاق أو العهد مع الله، وتجاوزوا النهي الإلهي في السبت، فأصبحوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس. وإذا كان هذا في بني إسرائيل الذين كانوا في عهد موسى عليه السّلام،
180
فأجدر بسلائلهم الذين كانوا في عصر تنزيل القرآن ألا يجحدوا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، خوفا من أن يحل بهم ما حل بأسلافهم.
التفسير والبيان:
واذكروا يا بني إسرائيل وقت أخذنا العهد على أسلافكم بالعمل بما في التوراة، فرفضوا حتى رفع الله فوقهم الطور تخويفا وإرهابا، وأمرهم أن يأخذوا بما فيها بجد ونشاط ومواظبة على العمل، واذكروا ما في التوراة واعملوا بما فيها من الأحكام، وتدبروا معانيها حتى تكونوا من المتقين، لأن العلم يرشد إلى العمل، والعمل يرسخ العلم في النفس، ويطبع فيها سجية المراقبة لله، وبها تصير تقية تتقي المعاصي، نقية من الرذائل، مرضية عند ربها، كما قال تعالى:
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه ٢٠/ ١٣٢].
فقبلتم إلى حين، ثم أعرضتم بعد ذلك عن الطاعة، فلولا رحمة الله ولطفه بكم وإمهاله إياكم، إذ لم يعجل عقوبتكم بما تستحقون، لكنتم من الهالكين الخاسرين سعادتي الدنيا والآخرة.
ولقد علمتم شأن آبائكم الذين تجاوزوا الحد بصيد السمك يوم السبت، وكان محرما فيه لقصره على العبادة، فإن موسى عليه السّلام حظر عليهم العمل في هذا اليوم، وفرض عليهم فيه طاعة ربهم، وأباح لهم العمل في بقية أيام الأسبوع.
وكان جزاؤهم أنهم أصبحوا في مرتبة الحيوان، يعيشون من دون عقل ووعي وتفكير، ويتخبطون في أهوائهم، كالقردة في نزواتها، والخنازير في شهواتها، يأتون المنكرات علانية، بعيدين عن الفضائل الإنسانية، حتى احتقرهم الناس، ولم يروهم أهلا للمعاشرة والمعاملة.
فمعنى صيرورتهم قردة خاسئين: تصييرهم مبعدين عن الخير أذلاء صاغرين.
181
قال مجاهد: لم يمسخوا قردة، ولم تمسخ صورهم، وإنما مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تعي زجرا. وهو مثل ضربه الله لهم، كما مثّلوا بالحمار يحمل أسفارا، في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة ٦٢/ ٥] «١».
ورأى جمهور المفسّرين: أن صورهم مسخت بمعصيتهم، فصارت صور القردة، قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم.
والممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
وكذلك يفعل الله بمن شاء كما يشاء، ويحوله كما يشاء «٢».
وللآية نظير آخر، هو قوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي الشيطان [المائدة ٥/ ٦٠].
قال ابن كثير: والصحيح أن المسخ معنوي صوري، والله تعالى أعلم «٣».
وعلى أي حال فإن الله تعالى عاقب بني إسرائيل بعقوبة المسخ، أيا كان نوعه وهو عقاب لكل فاسق خارج عن طاعة الله، وعبرة لينكل من يعلم بها، أي يمتنع من الاعتداء على حدود الله، وهو أيضا عظة للمتقين، لأن المتقي الحقيقي يتعظ بها ويبتعد عن حدود الله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [البقرة ٢/ ١٨٧] فأولى بكم أيها اليهود المعاصرون أن تتعظوا بما حل بأسلافكم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت هذه الآيات على أمور ثلاثة: رفع الطور، والمسخ، وعظة العصاة.
(١) تفسير الطبري: ١/ ٢٦٣
(٢) المصدر السابق: ١/ ٢٦١، تفسير القرطبي: ١/ ٤٤٠- ٤٤٣
(٣) تفسير ابن كثير: ١/ ١٠٦- ١٠٧
182
المخالفين أوامر الله ونواهيه.
أما رفع جبل الطور فوق اليهود كالمظلة: فكان إنذارا وإرهابا وتخويفا، وهذه الآية تفسر معنى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف ٧/ ١٧١] قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه.
واختلف في الطور: فقيل عن ابن عباس: الطور: اسم للجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السّلام، وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان.
وسبب رفع الطور: أن موسى عليه السّلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا! إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ «١» في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظّلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق. قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق «٢». وكان سجودهم على شقّ، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله ورحم بها عباده، فجعلوا سجودهم على شق واحد.
قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لا أنهم آمنوا كرها، وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
(١) الفرسخ: ٣ أميال أو ٥٥٤٤ م أو ١٢٠٠٠ خطوة.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٢٥٧
183
وروي عن مجاهد سبب آخر لرفع الطور قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة، وطوطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة، فنتق فوقهم الجبل «١».
وأما المسخ: فرأى الجمهور أن الله تعالى مسخ المعتدين من اليهود بصيد السمك يوم السبت، وكان العمل فيه محرما من قبل موسى عليه السّلام، قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا- وهي الفرقة التي نهت اليهود عن المخالفة وجاهرت بالنهي واعتزلت- وهلك سائرهم.
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية: أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردّت أفهامهم كأفهام القردة.
وأما عظة المخالفين: فإن الله تعالى جعل عقوبة المسخ للعصاة الذين اعتدوا في السبت وصادوا السمك فيه بحيلة، وقد ذكرها الله تعالى في سورة [الأعراف ٧/ ١٦٣] وهي قوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي إنهم اتخذوا حواجز أو أحواضا أمام مدّ مياه البحر، فإذا رجعت المياه بالجزر، بقيت الأسماك محجوزة في الأحواض، فيأتون في صبيحة يوم الأحد ويأخذونها.
كذلك كانت عقوبة اليهود الذين امتنعوا من العمل بالتوراة، فنسوها وضيعوها، ولم يتدبروها ولم يحفظوا أوامرها ووعيدها، كانت عقوبتهم رفع جبل الطور فوقهم كالمظلة.
وهذا يدل على أن المقصود بالكتب السماوية العمل بمقتضاها، لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها.
(١) المرجع والمكان السابق.
184
وهذا يعني أن مجرد التغني بألفاظ القرآن، دون الاعتبار بعظاته، والعمل بأحكامه، لا يفيد شيئا.
روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من شرّ الناس رجلا فاسقا يقرأ القرآن، لا يرعوي إلى شيء منه»
فبين صلّى الله عليه وسلّم أن المقصود بالكتب الإلهية العمل بها، كما بينا.
قصة ذبح البقرة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
185
الإعراب:
لا فارِضٌ إما خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: لاهي فارض، أو صفة بقرة.
وبِكْرٌ عطف عليه في الوجهين، وهذان الوجهان في قوله: عَوانٌ وقال: بَيْنَ ذلِكَ ولم يقل: بين ذينك، لأنه أراد بين هذا المذكور. ما تُؤْمَرُونَ أي تؤمرون به، مثل فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر ١٥/ ٩٤] أي بالذي تؤمر به.
ما لَوْنُها ما: مبتدأ و «لونها» خبره، ويجوز العكس. صَفْراءُ صفة لبقرة لَوْنُها مرفوع بفاقع، ارتفاع الفاعل بفعله. ويجوز كونه مستأنفا مبتدأ، وخبره: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ وجاز جعل الخبر تَسُرُّ بلفظ التأنيث، إما لأن اللون بمعنى الصفرة أي صفرتها تسر، والحمل على المعنى كثير في كلامهم، وإما لأنه أضيف اللون إلى مؤنث، والمضاف يكتسب من المضاف إليه التأنيث، كقراءة «تلتقطه بعض السيّارة» وقد قالوا: ذهبت بعض أصابعه.
لا ذَلُولٌ إما صفة بقرة، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: لا هي ذلول، وهذان الوجهان في قوله: مُسَلَّمَةٌ وكذلك في قوله: لا شِيَةَ فِيها إلا أنه يكون خبرا ثانيا ل «هي» المقدرة، والهاء في «شية» عوض عن الواو، وأصله: وشي.
الْآنَ ظرف زمان للوقت الحاضر، وهو مبني.
كَذلِكَ
الكاف الأولى كاف تشبيه في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، وتقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك.
بِغافِلٍ في موضع نصب على لغة الحجازيين، وفي موضع رفع على لغة تميم.
البلاغة:
فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فيه إيجاز بالحذف، والتقدير: فطلبوا البقرة الجامعة للأوصاف المطلوبة ووجدوها، فلما اهتدوا إليها ذبحوها.
وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ جملة اعتراضية بين قوله: فَادَّارَأْتُمْ وقوله فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
. وفائدة الاعتراض إشعار المخاطبين بأن الحقيقة ستنجلي حتما.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ استعارة تصريحية، وصف القلوب بالصلابة والغلظ، وأريد منه: نبوّها
186
عن الاعتبار وعدم الاتعاظ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ تشبيه مرسل مجمل، لأن أداة الشبه مذكورة، ووجه الشبه محذوف.
لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ مجاز مرسل أي ماء الأنهار من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال فيه.
المفردات اللغوية:
هُزُواً: مهزوءا بنا أو سخرية، حيث تطلب منا ذبح بقرة. أَعُوذُ أمتنع الْجاهِلِينَ المستهزئين في موضع الجد.
لا فارِضٌ مسنة. وَلا بِكْرٌ فتية صغيرة عَوانٌ نصف بين الصغيرة والكبيرة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من السنين ما تُؤْمَرُونَ به من ذبحها.
فاقِعٌ لَوْنُها شديدة الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها بحسنها، أي تعجبهم.
ما هِيَ أسائمة أم عاملة إِنَّ الْبَقَرَ جنسه المنعوت بما ذكر تَشابَهَ عَلَيْنا لكثرته، فلم نهتد إلى المقصود إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إليها،
ورد في الحديث النبوي: «لو لم يستثنوا- أي يقولوا: إن شاء الله- لما بينت لهم آخر الأبد».
لا ذَلُولٌ ليست مذللة بالعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ تقلبها للزراعة أي تحرث الأرض والجملة صفة ذلول، داخلة في النفي وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ الأرض المهيأة للزراعة مُسَلَّمَةٌ سليمة من العيوب وآثار العمل لا شِيَةَ لا لون غير لونها، ولا لمعة فيها من لون آخر، سوى الصفرة، فهي صفراء كلها، حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر: وشى وشيا: إذا خلط بلونه لونا آخر. قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ نطقت بالبيان التام، فطلبوها فوجدوها عند الفتى البار بأمه، فاشتروها بملء جلدها ذهبا فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لغلاء ثمنها،
ورد في الحديث النبوي: «لو ذبحوا أي بقرة كانت، لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم».
فَادَّارَأْتُمْ تدارأتم بمعنى تخاصمتم وتدافعتم وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مظهر تَكْتُمُونَ من أمرها.
اضْرِبُوهُ
القتيل. بِبَعْضِها
فضرب بلسانها أو عجب ذنبها، فحيي وقال: قتلني فلان وفلان وكانا ابني عمه، فحرما الميراث وقتلا. تَعْقِلُونَ
تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة، قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.
187
المناسبة:
ترتبط هذه الآيات بما قبلها التي ذكر فيها بعض جرائم اليهود، من نقض الميثاق، والاعتداء في السبت، والتمرد في تطبيق التوراة، فهي استمرار في تعداد مساوئهم، وهي مخالفتهم الأنبياء ومعاندة الرسل عليهم السّلام، والتلكؤ في امتثال أوامر الله تعالى.
سبب القصة:
روى ابن أبي حاتم عن عبيدة السلماني قال: «كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله، ثم احتمله ليلا، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم، حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض.
فقال ذوو الرأي منهم والنّهى: علام يقتل بعضكم بعضا، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السّلام، فذكروا ذلك له، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.. قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا، فشدد عليهم، حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها.
فقال: والله، لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا، فأخذوها بملء جلدها ذهبا، فذبحوها، فضربوه ببعضها، فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا- لابن أخيه، ثم مال ميتا، فلم يعط من ماله شيئا، فلم يورث قاتل بعد «١»
،
وفي رواية: «فأخذوا الغلام فقتلوه».
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٠٨ [.....]
188
التفسير والبيان:
واذكروا أيها اليهود وقت قول موسى لقومه أسلافكم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أي بقرة كانت، فلم يمتثلوا، وشددوا، فشدد الله عليهم. وقالوا:
أتهزأ بنا يا موسى، نسألك عن أمر القتل، فتأمرنا بذبح بقرة! قال: ألتجئ إلى الله من الهزء والسخرية بالناس في موضع الجد، إذ هو في مقام تبليغ أحكام الله دليل السفه والجهل.
فلما رأوه جادا، سألوه عن صفاتها المميزة لها، وأكثروا من الأسئلة، فسألوه عن سنها، فقال لهم: إنها ليست صغيرة ولا كبيرة، بل وسط بين الأمرين، فامتثلوا الأمر، ولا تشدّدوا فيشدد الله عليكم.
ولكنهم تعنتوا، فسألوه عن لونها، فقال: إنها صفراء شديدة الصفرة تسر الناظر إليها، فلم يكتفوا بذلك، بل طالبوا بأوصاف مميزة أخرى، وقالوا معتذرين: إن البقر كثير متشابه علينا، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب،
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو لم يستثنوا ويقولوا: إن شاء الله، لما تبينت لهم آخر الأبد».
قال: إن الله يقول: إنها بقرة لم تذلل بالعمل في الحراثة والسقي، وهي سالمة من العيوب، ولا لون فيها غير الصفرة الفاقعة.
قالوا: إنك الآن جئت بإظهار الحقيقة الواضحة. فطلبوها، فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بار بأمه، فساوموه، فتغالى، حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا.
وما كان امتثالهم قريب الحصول. قال ابن عباس: «لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم».
واذكروا أيها اليهود المعاصرون حين قتلتم نفسا، وهذا من قبيل التأخير لفظا والتقديم معنى للتشويق في معرفة سبب ذبح البقرة، وأسند القتل إلى
189
المعاصرين للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم من سلالة السابقين، وهم معتزون بنسبهم، راضون بفعلهم. وكذلك أسند القتل إلى الأمة والقاتل واحد، لأن الأمة متضامنة، وهي في مجموعها كالشخص الواحد، فيؤخذ المجموع بجريرة الواحد، وفيه توبيخ وتقريع للغابرين والحاضرين، والجماعة والأفراد.
واذكروا حادثة القتل في تاريخكم، وتخاصمكم وتدافعكم في شأنه، فكل واحد يدرأ القتل عن نفسه ويدعي البراءة ويتهم سواه، والله أنكر فعلهم وكتمانهم، وأنتم اليوم تكتمون ما عندكم من أوصاف النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والله مظهر لا محالة ما تكتمونه وتسترونه من أمر القتل، فقلنا: اضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة المذبوحة، فضربوه، فأحياه الله، وأخبر عن القتلة. ومثل ذلك الإحياء العجيب، يحيي الله الموتى يوم القيامة، فيجازي كل إنسان بعمله، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنّبي، حيث يخبر بالمغيبات، كي تعقلوا وتؤمنوا بالنبي والقرآن، لعلكم تفقهون أسرار الشريعة وفائدة الخضوع لها، وتمنعون أنفسكم من اتباع أهوائها، وتطيعون الله فيما يأمركم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة فيها العبرة والعظة ببيان بعض مساوئ اليهود ومواقفهم المتشددة والمعاندة، وأهم العظات ما يلي:
١- ليس التشدد في الدين محمودا، وليس الإلحاف في كثرة السؤال مرغوبا فيه، لذا نهانا الله تعالى عن ذلك وقت نزول القرآن، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة ٥/ ١٠١]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما: من سأل عن شيء لم يحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته»
وقوله عليه السّلام فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما
190
أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم»
وقوله أيضا فيما رواه البخاري ومسلم: «... وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»
والسؤال المنهي عنه: مثل السؤال عما أخفاه الله تعالى عن عباده ولم يطلعهم عليه، كالسؤال عن قيام الساعة، وعن حقيقة الروح، وعن سر القضاء والقدر، والسؤال على سبيل التعنت والعبث والاستهزاء، وسؤال المعجزات، وطلب خوارق العادات عنادا وتعنتا، والسؤال عن الأغاليط، والسؤال عما لا يحتاج إليه، وليس في الجواب عنه فائدة عملية، والسؤال عما سكت عنه الشرع من الحلال والحرام.
وقد سجل الله على اليهود ذنب الوقوف في السؤال موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح.
٢- كان الأمر بذبح بقرة دون غيرها من الحيوان، لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، ليهون عندهم أمر تعظيمه.
٣- استهزاؤهم بأوامر الأنبياء عرّضهم للوم والتوبيخ والعقاب.
٤- إحياء القتيل بقتل حي أظهر لقدرته تعالى في اختراع الأشياء من أضدادها. وقد ذكر الله تعالى إحياء الموتى في سورة البقرة في خمسة مواضع: في قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وفي هذه القصة: فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
وفي قصة الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة ٢/ ٢٤٣]. وفي قصة عزير: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة ٢/ ٢٥٩] وفي قصة إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة ٢/ ٢٦٠].
٥- الإنكار الشديد على قتل النفس البريئة، وإنما أخره بالذكر عن ذكر موقفهم الاستهزائي العنادي، اهتماما واستهجانا وتقريعا لموقف العناد، وتشويقا
191
إلى معرفة سبب ذبح البقرة، وهذا الموقف ديدن اليهود وطبيعتهم التي لا تفارقهم. والكتاب الكريم لا يراعي ترتيب المؤرخين في سرد الأحداث والوقائع، وإنما يذكر الكلام بما يتفق مع هدفه: وهي العظة والعبرة، واجتذاب الأنظار وإثارة الانتباه.
٦- ليس هناك أشد استهجانا وغرابة من جعل الحجارة أنفع من قلوب اليهود، لخروج الماء منها، قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم.
وهذا يعني أن خشية الحجارة هنا حقيقية، كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء ١٧/ ٤٤]. وحكى الطبري عن بعض المفسرين: أن خشية الحجارة من باب المجاز والاستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار، في قوله تعالى:
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف ١٨/ ٧٧] «١».
٧- في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وبه قال جمهور الأصوليين غير الإمام الشافعي.
٨- استدل الإمام مالك على صحة القول بالقسامة «٢» بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، لأن قول المقتول:
دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب.
(١) تفسير الطبري: ١/ ٢٨٩، وانظر تفسير القرطبي أيضا: ١/ ٤٦٥
(٢) القسامة: هي خمسون يمينا من خمسين رجلا، يقسمها في رأي الحنفية أهل المحلة التي وجد فيها القتيل ويتخيرهم ولي الدم، لنفي تهمة القتل عن المتهم. وعند الجمهور: يحلفها أولياء القتيل لإثبات تهمة القتل على الجاني.
192
قسوة قلوب اليهود
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
الإعراب:
أَشَدُّ قَسْوَةً معطوف على قوله: كَالْحِجارَةِ وهو في موضع رفع لأنه خبر:
فَهِيَ. وقَسْوَةً تمييز منصوب، وأَوْ بمعنى «بل».
لَما اللام للتوكيد وما: اسم إِنَّ منصوب، والجار والمجرور: مِنْها والضمير يعود إلى الحجارة في موضع رفع خبر إِنَّ.
البلاغة:
ثُمَّ قَسَتْ ثم للترتيب مع التراخي، والتعبير بحرف ثُمَّ يدل على أن قسوة قلوب اليهود بلغت مرتبة بعيدة جدا عن الوضع السليم أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أو: بمعنى بل، أي بل أشد قسوة، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات ٣٨/ ١٤٧].
قال الزمخشري في الكشاف ١/ ٢٢٣: أشد: معطوفة على الكاف في كَالْحِجارَةِ إما على معنى: أو مثل أشد قسوة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإما على: أو هي في أنفسها أشد قسوة. والمعنى: إن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلا، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال: هي أقسى من الحجارة.
المفردات اللغوية:
قَسَتْ صلبت عن قبول الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات كَالْحِجارَةِ في القسوة يَتَفَجَّرُ يخرج وينبع بكثرة يَشَّقَّقُ أصله: يتشقق، فأدغم التاء في الشين، أي يتفتح شقوقا طولا أو عرضا يَهْبِطُ ينزل من علو إلى أسفل وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وإنما يؤخركم لوقتكم.
193
التفسير والبيان:
بالرغم مما رأى اليهود من الآيات والمواعظ السابقة، كانفجار الماء ورفع الجبل، والمسخ قردة وخنازير، وإحياء القتيل، فإن قلوبهم قست وامتنعت عن قبول الحق، فهي تشبه في الصلابة الحجارة، بل أشد قسوة منها، وأصبحت بفقد تأثرها بالآيات وتفاعلها بالمواعظ والعبر، كأنها جمادات، بل إنها تدنت عن درجة الجماد أيضا، لأن الحجارة قد ينفجر منها الماء، ويسيل أنهارا تحيي الأرض وتنفع النبات، وقد تتشقق فيسيل منها ماء بسيط فيكون عينا لا نهرا، وفي هذا منفعة للناس، وقد تتأثر بالرياح العاتية، ونحوها من الزلازل، فتسقط من أعالي الجبال، فتكسر الصخور وتدمّر الحصون، وليس في هذا منفعة للناس.
بالرغم من كل تلك المؤثرات والعظات والعبر، لم يزدد اليهود إلا عنادا وفسادا، ولكن الله تعالى حافظ لأعمالهم ومحصيها لهم، ثم يجازيهم بها. وفي هذا غاية التهديد والوعيد، لأن قوله تعالى: عَمَّا تَعْمَلُونَ يشمل كل عمل صغير أو كبير، ويؤكده قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزال ٩٩/ ٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
لم يخلق الله تعالى شيئا في هذا الوجود عبثا، وإنما لفائدة، ففي الآية دلالة على بعض فوائد الأحجار ونحوها من الجمادات، وأنها تنصاع لأمر الله، فإن تمردت فئة من المخلوقات عن الصبغة الإلهية، وأصبحت عديمة النفع، لعدم تأثرها بالعظات وعدم قبولها الحق، فالله يجازيها جزاء وفاقا، في الدنيا والآخرة، فيسلط عليها في الدنيا بعض النقم، إن لم تحركها النّعم، ويعذبها في نار جهنم في الآخرة، لإبائها الحق ولعدم طاعتها أوامر الله تعالى.
194
استبعاد إيمان اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
الإعراب:
أَنْ يُؤْمِنُوا في موضع نصب، لأن التقدير فيه: في أن يؤمنوا لكم. فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فنصبه. مِنْهُمْ إما في موضع رفع صفة لفريق، وجملة يَسْمَعُونَ خبر كان، وإما في موضع نصب خبر كان، ويسمعون: صفة لفريق. وَهُمْ يَعْلَمُونَ مبتدأ وخبر، في موضع نصب حال من ضمير «يحرّفون».
لِيُحَاجُّوكُمْ لام كي، تنصب الفعل بتقدير «أن».
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مرفوع وصف لأميين.
إِلَّا أَمانِيَّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس، لأن الأماني ليست من العلم. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أي: وما هم إلا يظنون ومِنْهُمْ مبتدأ، وما بعده خبره. وإِلَّا أبطلت عمل إن.
البلاغة:
أَفَتَطْمَعُونَ الهمزة للاستفهام الإنكاري. وَهُمْ يَعْلَمُونَ تفيد الجملة الكمال في تقبيح صنيعهم، وهو تحريف التوراة عن قصد، لا عن جهل.
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ طباق بين لفظتي يُسِرُّونَ ويُعْلِنُونَ.
195
المفردات اللغوية:
فَرِيقٌ طائفة من أحبارهم كَلامَ اللَّهِ التوراة يُحَرِّفُونَهُ يغيرونه ويبدلونه، أو يؤولونه بالباطل عَقَلُوهُ فهموه وعرفوه وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم مفترون.
وَإِذا لَقُوا أي منافقوا اليهود وَإِذا خَلا رجع ومضى إليه، أو انفرد معه. فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حكم به أو قصه عليكم أو عرفكم في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم. لِيُحَاجُّوكُمْ ليخاصموكم ويجادلوكم، واللام للصيرورة عِنْدَ رَبِّكُمْ في الآخرة، أي يقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمهم بصدقه.
أَوَلا يَعْلَمُونَ الاستفهام للتقرير، والواو الداخل عليها للعطف، ويراد بالاستفهام التوبيخ أو التقريع.
أُمِّيُّونَ عوام جهلة بكتابهم أَمانِيَّ أكاذيب تلقوها من رؤسائهم، فاعتمدوها، وهي لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي. يَظُنُّونَ أي ما هم في جحود نبوة النّبي وغيره مما يختلقونه إلا يظنون ظنا ولا علم لهم.
سبب النزول:
قال ابن عباس ومقاتل: نزل قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ في السبعين الذين اختارهم موسى، ليذهبوا معه إلى الله تعالى، فلما ذهبوا معه، سمعوا كلام الله تعالى وهو يأمر وينهى، ثم رجعوا إلى قومهم، فأما الصادقون فأدّوا ما سمعوا. وقالت طائفة منهم: سمعنا الله من لفظ كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، ولا بأس.
وعند أكثر المفسرين: نزلت الآية في الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم «١».
واختلف العلماء بماذا عرف موسى كلام الله، ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٥
196
فقيل: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر، وإنما هو كلام رب العالمين.
وقيل: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر.
وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله.
وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك دليلا على صدق الحال، وأن الذي يقول له: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه ٢٠/ ١٢] هو الله جل وعز «١».
وسبب نزول الآية (٧٦) :
هو ما قاله مجاهد: قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة، ويا إخوان الخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا: من أخبر بهذا محمدا، ما خرج هذا إلا منكم، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، ليكون لهم حجة عليكم، فنزلت الآية.
وقال ابن عباس: كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا أن صاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة. وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أيحدث العرب بهذا، فإنكم كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم، فأنزل الله: وَإِذا لَقُوا الآية.
وقال السدي: نزلت في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يأتون المؤمنين من العرب، بما تحدثوا به، فقال بعضهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢
197
من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم «١».
التفسير والبيان:
حرص النّبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته على انضمام أهل الكتاب (اليهود والنصارى) إلى دعوته والإيمان برسالته في مواجهة المشركين، لوجود جسور التقاء معهم من الإيمان بوجود الإله والتصديق بالأنبياء وبالبعث واليوم الآخر. وقد روي أنها نزلت في الأنصار الذين كانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا، فأنزل الله: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ.
فجاءت هذه الآيات، في أثناء بيان قبائح اليهود، توضح خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ما بدد الآمال والأطماع في إيمان اليهود، لأن منهم جماعة- وهم فئة من الأحبار والرؤساء- كانوا يسمعون كلام الله، ثم يبدلونه أو يؤولونه بحسب أهوائهم وميولهم، وليس الحاضرون أحسن حالا من الغابرين، لأنهم ورثوا الاستكبار من أسلافهم، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة والواقع، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟! وسبب آخر يدعو إلى عدم إيمانهم هو أن منافقيهم إذا قابلوا المؤمنين قالوا:
نحن مؤمنون بالله وبالنبيّ كإيمانكم، إذ هذا النبي هو المبشر به عندنا، فنحن معكم، وإذا انفردوا مع بعضهم قالوا: كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا، وهم يحتجون عليكم بكلامكم، ويخاصمونكم به عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم؟ فيرد الله عليهم:
ألا يعلمون أن الله تعالى يعلم السر والعلن، ويعلم الغيب والشهادة، فسواء أعلنتم سرا أم أضمرتموه، فإن الله سيجازيكم على أعمالكم.
(١) أسباب النزول للسيوطي بهامش تفسير الجلالين: ص ١٦
198
ثم ذكر الله تعالى هذا شأن علماء اليهود وأحبارهم، أما الأميون منهم، فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها، مثل القول بأنهم شعب الله المختار، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، وما هم في كل ذلك إلا واهمون ظانون ظنا لا صحة له.
فلا أمل في أيمانهم، ولا أسف على أمثالهم، فمن كانت هذه صفاته وقبائحه، فلا خير فيه، ولا أسف عليه.
والمراد بما فتح الله على اليهود: الإنعام بالشريعة والأحكام، والبشارة بالنبي عليه الصلاة والسّلام، شبّه الذي يعطى الشريعة بالمحصور في الصلاة يفتح عليه، فيخرج من الضيق. أو أن معنى بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: بما حكم به وأخذ به الميثاق عليكم من الإيمان بالنبي الذي يجيئكم مصدقا لما معكم، ونصره. والمقصود بقوله عِنْدَ رَبِّكُمْ أن المحاجة في الآخرة، كما قال السيوطي، ورأى المحققون أنه بمعنى: في كتاب الله وحكمه أي أن ما تحدثونهم به من التوراة موافق لما في القرآن، فالمحاجة في الدنيا، فهو كقوله تعالى في أهل الإفك: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ [النور ٢٤/ ١٣] أي في حكمه المبين في كتابه «١».
وأما الأماني: فهي الأكاذيب، وفسرها بعضهم بالقراءات، أي أنهم لا حظّ لهم من الكتاب إلا قراءة ألفاظه من غير فهم ولا اعتبار يظهر أثرهما في العمل، فهو على حد: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها، كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة ٦٢/ ٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
التحريف والتبديل لكلام الله أشد الحرام، سواء أكان بالتأويل الفاسد، أم
(١) تفسير المنار: ١/ ٣٥٧ وما بعدها.
199
بالتغيير والتبديل، وقد وقع النوعان من أحبار اليهود، وقد نعتهم الله تعالى بأنهم يبدلون ويحرفون، فقال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة ٢/ ٧٩] وكان للتحريف مظاهر متعددة، ففي عهد موسى عليه السّلام:
روي أن قوما من السبعين المختارين، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور، وما أمر به موسى وما نهي عنه، ثم قالوا: سمعنا الله يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألا تفعلوا فلا بأس.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما، اتّباعا لأهوائهم.
وفي عهد محمد صلّى الله عليه وسلّم حرفوا نعت الرسول وصفته، وحرفوا آية الرجم، وقالوا: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران ٣/ ٧٥] وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا، وقالوا أيضا: لا يضرنا ذنب فنحن أحباء الله وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك «١».
ووقع التحريف بنوعيه أيضا في الإنجيل، كما وقع في التوراة، والدليل واضح وهو ضياع أصل كلا هذين الكتابين، وكتابتهما بأيدي العلماء بعد عشرات السنين، كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [النساء ٤/ ٤٦].
وحدث التحريف في القرآن بمعنى التأويل الباطل، من الجهلة أو الملاحدة، أما التحريف بإسقاط آية من القرآن، فلم يقع، لتعهد الله حفظ كتابه المبين في قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩].
وأرشدت الآية (٧٨) من سورة البقرة إلى بطلان التقليد في العقائد وأصول الأحكام، وعدم الاعتداد بإيمان صاحبه، لأن معنى قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ:
(١) تفسير الرازي: ٣/ ١٣٥، تفسير القرطبي: ٢/ ٦ وما بعدها.
200
يكذبون ويحدثون، لأنه لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لأحبارهم فيما يقرءون به. وقد أجمع السلف في صدر الإسلام وأهل القرون الثلاثة على بطلان التقليد في العقائد. وإنما كان الجاهل في تلك القرون يأخذ عن العالم العقيدة ببرهانها، والأحكام بروايتها، ولا يتقلد رأيه كيفما كان، من غير بينة ولا برهان «١».
وأومأ الخطاب في هذه الآيات لليهود المعاصرين للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى أنه لا أمل في إيمان اليهود بالقرآن وبدعوة الرسول محمد، فالمعاصرون توارثوا طبائع الآباء وأخلاقهم، وتأصلت فيهم روح التمرد والإعراض عن كلام الله، وكان آباؤهم أكثر الناس مراء وجدالا في الحق، وإن كان بينا باهرا، وأشد الناس كذبا وغرورا وأكلا لأموال الناس بالباطل كالربا الفاحش، وغشا وتدليسا وتلبيسا، وكانوا مع ذلك يعتقدون أنهم شعب الله الخاص، وأفضل الناس، كما يعتقد أشباههم في هذا الزمان. فهذه هي الأماني التي صدّتهم عن قبول الإسلام «٢».
تحريف أحبار اليهود وافتراءاتهم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
(١) تفسير المنار: ١/ ٣٥٩
(٢) المصدر السابق: ١/ ٣٦٠
201
الإعراب:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ مبتدأ وخبر، وجاز أن يكون «ويل» مبتدأ وإن كان نكرة، لأن في الكلام معنى الدعاء، كقولهم: سلام عليكم.
بَلى حرف يأتي في جواب الاستفهام في النفي، و «نعم» يأتي في جواب الاستفهام في الإيجاب. فإذا قال: ألست فعلت كذا؟ فجوابه: بلى، أي إني قد فعلت، كقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف ٧/ ١٧٢] أي بلى أنت ربّنا، ولو قالوا: نعم، لكفروا، لأنه يصير المعنى: نعم لست ربّنا. وإذا قال في الإيجاب: هل فعلت؟ فجوابه: نعم، كقوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا: نَعَمْ [الأعراف ٧/ ٤٤]. مَنْ كَسَبَ من شرطية مبتدأ، والفاء في «أولئك» جواب الشرط، وفَأُولئِكَ مبتدأ ثان، وأَصْحابُ النَّارِ خبره، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وهو مَنْ. وهُمْ فِيها خالِدُونَ جملة اسمية حال من أَصْحابُ أو من النَّارِ. وفِيها في موضع نصب، وتقديره: خالدون فيها.
البلاغة:
تكرار فَوَيْلٌ ثلاث مرات في الآية (٧٩) للتوبيخ والتقريع وتقبيح جريمتهم وهي التحريف.
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ استعار لفظ الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل بقوم من كل جانب.
المفردات اللغوية:
فَوَيْلٌ الويل: شدة العذاب والهلاك، أو واد في جهنم بِأَيْدِيهِمْ أي مختلقا من عندهم لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا، وهم اليهود غيّروا صفة النبي في التوراة، وآية الرجم، وغيرهما، وكتبوها على خلاف ما أنزل. مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المختلق، مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرشا: جمع رشوة.
لَنْ تَمَسَّنَا تصيبنا إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قليلة أربعين يوما مدة عبادة آبائهم العجل.
أَتَّخَذْتُمْ حذفت منه همزة الوصل، استغناء بهمزة الاستفهام عَهْداً ميثاقا منه بذلك. أَمْ تَقُولُونَ.. بل.
كَسَبَ سَيِّئَةً المراد بها هنا الكفر أو الشرك. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بالإفراد
202
والجمع، أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب، بأن مات مشركا فَأُولئِكَ روعي فيه معنى: من.
سبب النزول:
نزلت الآية (٧٩)
في أهل الكتاب كما قال ابن عباس، أو في أحبار اليهود كما قال العباس: «الذين غيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبدلوا نعته»، وكانت صفته في التوراة: أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه حسدا وبغيا، وقالوا: نجده طويلا أزرق، سبط الشعر.
ونزلت الآية (٨٠)
كما
قال ابن عباس: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس في النار، لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلى قوله خالِدُونَ.
وروى الطبري عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: لن ندخل النار، إلا تحلة القسم، الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة، فإذا انقضت، انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية «١»
التفسير والبيان:
الهلاك والعذاب الشديد أو العقوبة العظيمة لمن حرفوا التوراة، وكتبوا الآيات المحرفة بأيديهم، وغيّروا صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة، والعذاب أيضا لهم لأخذ الرشوة وفعلهم المعاصي، ونسبتهم الافتراءات إلى الله تعالى، ليأخذوا بهذا الكذب أو الافتراء ثمنا دنيويا حقيرا من مال أو رياسة أو جاه، فويل لهم مما كسبوا، لأنه كانت لليهود جنايات ثلاث: تغيير
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤، للسيوطي بهامش الجلالين: ص ١٧- ١٨، تفسير الطبري: ١/ ٣٠٢ وما بعدها، تفسير القرطبي: ٢/ ١٠
203
صفة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والافتراء على الله، وأخذ الرشوة، فهددوا على كل جناية بالويل والهلاك.
ومن مزاعم اليهود: ادعاؤهم أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة، هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، وأكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام فقط، لأن عمر الدنيا في زعمهم سبعة آلاف سنة، فمن عذب في النار ولم يحظ بالنجاة، يمكث في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة يوم. فرد الله عليهم: هل عهد بذلك ربكم إليكم، ووعدكم به وعدا حقا، فلن يخلف الله وعده، أم أنتم تقولون على الله شيئا لا علم لكم به؟ أي أن مثل ذلك القول لا يصدر إلا عن عهد من الله، أو افتراء وتقوّل عليه، وبما أنه لم يحدث العهد من الله وهو الوحي والخبر الصادق، فأنتم كاذبون في دعواكم، مفترون حين تدعون أنكم أبناء الله وأحباؤه.
وقد أكدت السّنّة دعواهم في النجاة من النار بعد أيام قليلة.
روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن الليث بن سعد، والحافظ بن مردويه والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة فيها سمّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجمعوا لي من كان من اليهود هنا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أبوكم؟ قالوا: فلان، قال: كذبتم، بل أبوكم فلان، فقالوا: صدقت وبررت. ثم قال لهم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اخسؤوا، والله لا نخلفكم فيها أبدا. ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه؟
قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا: نعم، قال: فما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرّك»
.
204
ليس الأمر أيها اليهود كما زعمتم أو تمنيتم واشتهيتم، بل أو بلى ستخلدون في نار جهنم بسبب ارتكاب المعاصي التي أحاطت بكم، كالكفر، وقتل الأنبياء بغير حق، وعصيان أوامر الله، والاسترسال في الأهواء والافتراءات. وقد علمنا أن بلى: لفظ يجاب به بعد كلام منفي سابق، ومعناه إبطاله وإنكاره. والكسب:
جلب النفع، واستعماله هنا في السيئة من باب التهكم. والسيئة: الفاحشة الموجبة للنار، والمراد بها هنا: الشرك بالله.
وسبب الخلود في النار: هو ما تضمنه القانون العام لكل الخلائق في شرع الله: أن من اقترف خطيئة غمرت جميع جوانبه من قلبه ولسانه وأعضائه، وليست له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهو من أهل النار.
وأما من آمن (صدق) بالله ورسله واليوم الآخر، وعمل صالحا، فأدى الواجب، وترك الحرام، فهو من أهل الجنة. قال ابن عباس: «من آمن بما كفرتم، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة، خالدين فيها» يخبرهم أن الثواب بالخير، والشر مقيم على أهله أبدا، لا انقطاع له.
وكل من الجزاءين المذكورين: وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين، شبيه بقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ، وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء ٤/ ١٢٣- ١٢٤].
لكن من تاب من العصاة توبة نصوحا، فأقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألا يعود لمثله في المستقبل، تبدل حاله من أهل النار إلى أهل الجنة.
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر، صقل
205
قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن:
كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين ٨٣/ ١٤] ».
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»
وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم مثلا، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق، فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأججوا نارا، فأنضجوا ما قذفوا فيها.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآية (٧٩) والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في شرع الله، فكل من بدل وغيّر أو ابتدع في دين الله ما ليس منه، فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم،
وقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمته، لما قد علم ما يكون في آخر الزمان، فقال: «ألا، إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة»
الحديث. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه، فيضلّوا به الناس.
وأبانت الآية (٧٩) أن كل عوض- وإن كثر- عن تحريف كتاب الله، لا بركة فيه ولا خير، فقد وصف الله تعالى ما يأخذه أحبار اليهود بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه، ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم: ربعة أسمر، فجعلوه: آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النّبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبهه نعت هذا.
ودلت الآية (٨١) : بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ على أن
206
المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصّلت ٤١/ ٣٠]. والخلود في النار: سببه الشرك بالله.
وأرشدت الآية (٨٢) إلى أن دخول الجنة منوط بالإيمان والعمل الصالح معا، كما ر
وى مسلم «أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسفيان بن عبد الله الثقفي، وقد قال له:
يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل:
آمنت بالله، ثم استقم»
.
والجمع بين الآيتين المذكورتين (٨١، ٨٢) هو منهج القرآن الكريم في البيان، فإن الله سبحانه يقرن عادة بين الوعد والوعيد، ويذكر أهل الخير وأهل الشر، وأصحاب الجنة وأصحاب النار، لما تقتضيه الحكمة، وإرشاد العباد، بالترغيب مرة والترهيب أخرى، والتبشير طورا والإنذار طورا آخر: إذ باللطف والقهر يرقى الإنسان إلى درجة الكمال.
مخالفة اليهود المواثيق
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
الإعراب:
لا تَعْبُدُونَ مرفوع لأنه جواب لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا... لأنه في معنى القسم، بمنزلة والله، فكأنه قال: استحلفناهم لا يعبدون، كما يقال: حلف فلان لا يقوم، أو لأنه في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم غير عابدين إلا الله، ومثل ذلك لا تَسْفِكُونَ. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إما معطوف على الباء المحذوفة وأن في قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ أو في موضع نصب
207
بفعل مقدر، وتقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وقوله: (إِحْساناً إما منصوب على المصدر بالفعل المقدر الذي تعلق به الجار والمجرور في قوله: بِالْوالِدَيْنِ وتقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، أو منصوب، لأنه مفعول فعل مقدر، وتقديره: واستوصوا بالوالدين إحسانا. حُسْناً مفعول به منصوب لفعل: قولوا، وتقديره: قولوا قولا ذا حسن، أو صفة لمصدر محذوف، وتقديره: قولا حسنا إِلَّا قَلِيلًا منصوب على الاستثناء الموجب من ضمير تَوَلَّيْتُمْ.
البلاغة:
لا تَعْبُدُونَ خبر في معنى النهي، وهو أبلغ من صريح النهي، لأن حق المنهي عنه المبادرة إلى تركه، فكأنه انتهى عنه، وجاء بصيغة الخبر. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وقع المصدر موقع الصفة، أي قولا حسنا أو ذا حسن للمبالغة، فإن العرب تضع المصدر مكان اسم الفاعل أو الصفة بقصد المبالغة، فيقولون: هو عدل.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ واذكر إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة، علما بأن العهد نوعان: عهد خلقة وفطرة، وعهد نبوة ورسالة، وهذا هو المراد هنا.
لا تَعْبُدُونَ خبر بمعنى النهي. إِحْساناً تحسنون إلى الوالدين إحسانا، أي برا.
وَذِي الْقُرْبى صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. حُسْناً أي وقولوا للناس قولا حسنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في شأن محمد، والرفق بهم. تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء به، فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب، والمراد: آباؤهم وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عنه كآبائكم.
المناسبة:
تنوع الأسلوب القرآني في معالجة مساوئ اليهود وقبائحهم، وترويضهم، ونقلهم إلى حال أفضل من حالهم في الماضي والحاضر، ففي الآيات السابقة عدّد الله النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، كتفضيلهم على العالمين، وإنجائهم من الغرق، وإنزال المن والسلوى عليهم، ثم ما يحدث إثر كل نعمة من مخالفة، فعقوبة، فتوبة.
208
ثم تذكّرهم هذه الآية بالعهد الذي أخذه الله على آبائهم بالعمل بما أمروا به من عبادات ومعاملات، ثم إهمالهم له، وتركهم اتباعه. وهذا كله ليبين الله لرسوله انقطاع الأمل في إيمان اليهود المعاصرين له، لأنهم يتوارثون عادة التطبع بقبائح أسلافهم، فهي تمنعهم من الهدى والرشاد
التفسير والبيان:
اذكر أيها النّبي حين أخذنا الميثاق على بني إسرائيل، أنهم لا يعبدون إلا الله سبحانه، فلا يشركون به سواه من ملك أو صنم أو بشر بدعاء أو غيره من أنواع العبادات، وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا، بأن يرعوهما حق الرعاية، ويعطفوا عليهما، ويطيعوهما فيما لا يخالف أوامر الله، وقد جاء في التوراة: أن من يسب والديه يقتل، وأن يحسنوا بالمال إلى ذي القرابة والأيتام والمساكين بسبب ضعفهم وعجزهم وحاجتهم، وأن يقولوا قولا حسنا لا إثم فيه ولا شر، بالقول الجميل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع حفض الجناح ولين الجانب، وأن يؤدوا صلاتهم أداء تاما، لأن الصلاة تصلح النفوس، وتهذب الطباع وتحليها بأنواع الفضائل، وتمنعها عن الرذائل، وأن يؤتوا الزكاة للفقراء، لما فيها من تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس، وإسعاد الفرد والجماعة، وإشاعة الرفاه والهناءة للجميع.
ولكن اليهود الذين اعتادوا الغدر، واستماتوا في حب المادة، أعرضوا قصدا وعمدا عن تنفيذ الأوامر الإلهية، وعن العمل بالميثاق، والخلف منهم معرض عن التوراة مثل السلف، ما عدا نفرا قليلا منهم مثل عبد الله بن سلام وأشباهه من المخلصين العقلاء، المحافظين على الحق بقدر الطاقة، لكن وجود القلائل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب إذا فشا فيها الفساد وعم البلاء، كما قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال ٨/ ٢٥].
209
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الأمور التي ذكّر الله بها بني إسرائيل في هذه الآية، أمر بها جميع الخلق، ولذلك خلقهم، وهي تكوّن النظام الديني والأخلاقي والاجتماعي، وجاء الترتيب في الآية بتقديم الأهم فالأهم، فقدم حق الله تعالى لأنه المنعم في الحقيقة على حق العباد، ثم ذكر الوالدين لحقهما في تربية الولد، ثم القرابة، لأن فيهم صلة الرحم، ثم اليتامى لقصورهم، ثم المساكين لضعفهم، وهي تشمل ما يلي:
١- عبادة الله وحده لا شريك له: فهي برهان الاعتقاد الصحيح ودليل الإيمان من جميع الناس، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
قال ابن كثير: وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له. والمراد بقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ كما قال الزمخشري الطلب، فهو خبر بمعنى الطلب، وهو آكد.
٢- الإحسان إلى الوالدين: هذا يأتي بعد حق الله، فإن آكد حقوق المخلوقين، وأولاهم بذلك حق الوالدين، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه بالتوحيد وحق الوالدين، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني- وهو التربية- من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره، فقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان ٣١/ ١٤] وقال: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء ١٧/ ٢٣].
والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودّهما.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي العمل
210
أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله».
وجاء في الحديث الصحيح: «أن رجلا قال: يا رسول الله؟ من أبرّ؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال:
ثم من؟ قال: أباك، ثم أدناك أدناك»
.
والحكمة في بر الوالدين واضحة: وهي المعاملة بالمثل ومقابلة المعروف بمثله، والوفاء للمحسن، كما قال تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن ٥٥/ ٦٠] فهما بذلا للولد وهو صغير كل عناية وعطف بتربيته والقيام بشؤونه، فيجب على الولد مكافأتهما على صنعهما.
٣- الإحسان إلى ذي القربى: أي القرابة، عطف ذي القربى على الوالدين، وهو يدل على أن الله تعالى أمر بالإحسان إلى القرابات بصلة الأرحام، لأن الإحسان إليهم مما يقوم الروابط بينهم، فما الأمة إلا مجموعة الأسر، فصلاحها بصلاحها، وفسادها بفسادها. ولا يعرف فضل الأسرة إلا في وقت الشدة والكوارث، فعندها يظهر التعاطف والتعاون وترميم الأضرار، وإزالة العثرات.
٤- الإحسان إلى اليتامى: وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء.
والإحسان إلى اليتيم: بحسن تربيته وحفظ حقوقه من الضياع، وقد ملئ الكتاب والسنة بالوصية به والرأفة به والحض على كفالته وحفظ ماله، من ذلك ما
أخرجه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى.
٥- الإحسان إلى المساكين: وهم الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم، وقد أمر الله بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم، وذلك يكون بالصدقة عليهم، ومواساتهم حين البأساء والضراء،
روى مسلم عن
211
أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر»
قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
٦- الكلام الطيب، ولين الجانب، وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما هو نافع في الدين والدنيا كالحلم والصفح والعفو والبشاشة.
وذلك لأن إحسان القول له تأثير فعال في النفوس، وبه يتم التكافل الأدبي أو الأخلاقي بين الناس، فإنه سبحانه عبر بقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ ولم يقل لإخوانكم، ليدل على أن الأمر بالإحسان عام لجميع الناس.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، وإن لم تجد، فالق أخاك بوجه منطلق».
وبهذه الفضيلة وهي القول الحسن بعد الأمر بالإحسان الفعلي إلى الناس، يجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي.
٧- إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: الصلاة عماد الدين، وطريق التقوى، وهمزة الصلة بالله، وسبيل التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، ولكن بشرط الإخلاص والخشوع التام لعظمة الله وسلطانه. وأما إيتاء الزكاة فضروري لإصلاح شؤون المجتمع. لكنّ كلا من الصلاة والزكاة لم يثبت فيهما عن أهل الكتاب نقل صحيح يدل على كيفيتهما ونوعهما، روي عن ابن عباس أنه قال:
الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.
212
بعض حالات مخالفة اليهود الميثاق
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
الإعراب:
ثُمَّ أَنْتُمْ... أنتم مبتدأ، وهؤُلاءِ خبره وتَقْتُلُونَ جملة فعلية حال من «أولاء». وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى أسارى: حال من ضمير الفاعل في يَأْتُوكُمْ وأسارى على وزن فعالى، وأكثر ما يجيء «فعالى» في جمع فعلان نحو سكران وكسلان، ولما كان الأسير محبوسا عن التصرف في الأمور أشبه السكران والكسلان، لأنهما كالمحبوسين عن التصرف لاستيلاء السكر والكسل عليهما. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ هو: أي الإخراج الذي دل عليه قوله: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مبتدأ، ومُحَرَّمٌ خبره، وإِخْراجُهُمْ بدل من هُوَ ويصح جعل هُوَ ضمير الشأن، وهو مبتدأ أول، وإخراجهم مبتدأ ثان، ومحرم: خبر مقدم، والجملة من المبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول ومفسرة له، وتكون جملة: هو والخبر اعتراضية فَما جَزاءُ.. ما: استفهامية:
أي، أي شيء جزاء من يفعل ذلك منكم، وفَما مبتدأ، وجَزاءُ خبره، وخِزْيٌ بدل من جزاء. يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف زمان منصوب، وعامله ما بعده وهو يُرَدُّونَ.
213
البلاغة:
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي بعضكم، ومن قتل غيره فكأنما قتل نفسه، فهو مجاز.
أَفَتُؤْمِنُونَ استفهام إنكاري للتوبيخ. خِزْيٌ تنكيره للتفخيم والتهويل.
المفردات اللغوية:
تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ تريقونها بقتل بعضكم بعضا. وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا من داره. ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ قبلتم ذلك الميثاق. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ على أنفسكم.
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يقتل بعضكم بعضا. تَظاهَرُونَ تتظاهرون أي تتعاونون عليهم.
بِالْإِثْمِ بالمعصية أو الذنب: وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم. وَالْعُدْوانِ الظلم والاعتداء. أُسارى أسرى جمع أسير، أي مأسورين. تُفادُوهُمْ تنقذوهم من الأسر بالفداء من مال أو غيره، وهو مما عهد إليهم. خِزْيٌ هوان وذل.
اشْتَرَوُا استبدلوا.
المناسبة التاريخية المتجددة:
كان سفك الدماء وتقاتل اليهود وطرد بعضهم بعضا من ديارهم ظاهرة شائعة فيهم، وظللت هذه الظاهرة إلى عصر التنزيل القرآني، فكان يهود بني قريظة حالفوا الأوس، ويهود بني النضير حالفوا الخزرج، فإذا نشبت الحرب بينهم، كان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، فيقتل اليهودي يهوديا آخر، ويخرب بعضهم ديار بعض، ويخرجونهم من بيوتهم، وينهبون ما فيها من الأثاث والمال، مع أن ذلك محرم عليهم بنص التوراة، وإذا أسر بعضهم فدوهم بالمال، وكانوا إذا سئلوا، لم تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: أمرنا- أي في التوراة- بالفداء، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياء أن تستذل حلفاؤنا، فأنزل الله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «١»
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٢١
214
وكانت الآيات السابقة تذكيرا لبني إسرائيل الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام بأهم الأوامر التي أمروا بها من عبادة الله وحده والإحسان إلى الوالدين وذوي القربى وغير ذلك، أما هذه الآيات فكانت للتذكير بأهم المنهيات التي خطرت عليهم، والخطاب للحاضرين في عصر النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو دليل على تضامن الأمة، وأنها كالفرد يصيب خلفها أثر ما كان عليه سلفها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لليهود وقت أخذنا عليهم في التوراة العهد بأن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه. وفي تعبير «دماءكم، وأنفسكم، ودياركم» إشارة إلى أن دم غيره من المجتمع كدم نفسه، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وهو ما تقرره الآية (٣٢) من سورة المائدة.
ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على أسلافكم، ولم تنكروه، فالحجة قائمة عليكم.
ثم أنتم بعد الاعتراف بالميثاق تنقضون العهد، فيقتل بعضكم بعضا، كما كان يفعل من قبلكم، فكانت بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكان يهود بني قريظة حلفاء الأوس يقاتلون يهود بني النضير حلفاء الخزرج، إذا تقاتل الأوس والخزرج، وكان مقتضى الاتفاق في الدين واللغة والنسب بين اليهود أن يكونوا جميعا صفا واحدا.
وكذلك كان كل من اليهود يعاون حلفاءه على إخوانه اليهود بالإثم كالقتل والسلب والنهب، والعدوان كالإخراج من الديار. وكانوا إذا تم الاتفاق على مفاداة الأسرى، يفدي بالمال كل فريق من اليهود أبناء جنسه، عملا بالكتاب
215
المقدس، مع أن السبب الذي أدى إلى الأسر وهو الطرد والإجلاء محرم عليكم في التوراة كتحريم القتل، فكيف تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون حكم مفاداة الأسرى، وتكفرون بالأحكام الأخرى، فترتكبون جرائم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء، علما بأن الإيمان بشيء لا يتجزأ، والكفر ببعضه كالكفر بكله؟
فمن آمن ببعض التوراة، وكفر ببعضها الآخر، ليس له جزاء على هذا الفعل المتناقض المستهجن إلا ذل وهوان في الدنيا، وعذاب أليم دائم في الآخرة، وما الله بغافل عن عمل إنسان، فهو يجازيه على سيئاته.
ثم قررت الآيات حكما عاما لأولئك اليهود وغيرهم: وهو أن من آثروا الحياة الدنيا كالزعامة الفارغة وأخذ المال، على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم بتقديم حظوظهم العاجلة الفانية على حظوظهم الدائمة الخالدة، وبترك أوامر الله في كتابه، فلا يخفف عنهم العذاب الأخروي، ولا يفتر عنهم ساعة واحدة، ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة، فلا شافع يشفع بهم، ولا ولي يدفع عنهم العقاب في جهنم، لأن خطاياهم كثيرة، أحاطت بهم، فحجبتهم عن الرحمة الإلهية، وأبعدتهم عن الفيض الإلهي.
وهكذا كل أمة ذات دين، تؤدي بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج، وتخالف أحكامه الأخرى، فلم تؤد الزكاة وامتنع الأغنياء عن أداء حقوق الفقراء، وشاع فيها الربا والزنا والسرقة والرشوة والبغي والظلم، وأهملت الأسس التي يقوم عليها بنيان النظام الحكومي من العدل، والمساواة، والشورى، والجهاد في سبيل الله ونصرة المؤمنين المستضعفين، فإنها معرّضة للخزي (الهوان) في الدنيا، والعذاب في نار جهنم في الآخرة.
216
فقه الحياة أو الأحكام:
الوفاء بالعهد من صفات المؤمنين المخلصين، والإخلال بالعهد من صفات الكافرين والمنافقين، ومن ألزم العهود والمواثيق الواجب تنفيذها واحترامها هو عهد الله، فمن أخل به ولم يرع جميع بنوده وأحكامه، استحق العقاب والتوبيخ والاستهجان. وفي تعبير القرآن عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على أن من يقدم على الذنب، ولا يبالي بنهي الله، فهو كافر به.
وإن تجزئة أحكام الله، بأخذ بعضها وقبوله، ورفض بعضها والإعراض عنه، كفر بجميع الأحكام الإلهية. قال العلماء: كان الله تعالى قد أخذ على اليهود أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى، فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وهو التوراة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ «١».
وقد أكدت شريعتنا حكم فداء الأسارى وأنه واجب، قال علماء المالكية وغيرهم: فداء الأسرى واجب، وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد:
تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فك الأسارى وأمر بفكّهم، وجرى بذلك عمل المسلمين، وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين «٢».
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢
(٢) المرجع والمكان السابق، أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٠
217
موقف اليهود من الرسل والكتب المنزلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩)
الإعراب:
أَفَكُلَّما الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ، والفاء: حرف عطف، و «كلما» ظرف زمان يفيد التكرار، ويقتضي الجواب، والعامل فيه جوابه وهو اسْتَكْبَرْتُمْ. فَفَرِيقاً منصوب بكذبتم وَفَرِيقاً الثاني منصوب بتقتلون. وإنما تقدم المفعول للاهتمام به، وإنما قال:
تَقْتُلُونَ ولم يقل «قتلتم» مثل كَذَّبْتُمْ مراعاة لفواصل الآيات.
قُلُوبُنا غُلْفٌ مبتدأ وخبر. فَقَلِيلًا منصوب لأنه صفة مصدر محذوف، وما زائدة. وتقديره: فإيمانا قليلا يؤمنون. والمراد بالقلة هنا النفي، مثل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [الأعراف ٧/ ١٠] أي لا يشكرون أصلا.
وَلَمَّا ظرف زمان مبني إما لأنه أشبه معنى الحرف، أو لأنه تضمن معنى الحرف. وجواب «لما» في رأي البصريين محذوف تقديره: نبذوه أو كفروا به، وفي رأي الكوفيين: مذكور، وهو الفاء في قوله فَلَمَّا وكرر «لما» لطول الكلام.
البلاغة:
تقديم المفعول وهو «فريقا كذبتم» و «فريقا تقتلون» للاهتمام به وتشويق السامع إلى
218
ما بعده. وإنما قال: تَقْتُلُونَ ولم يقل «قتلتم» لتطابق «كذبتم» لأجل الفواصل، فإن فواصل الآيات كرؤوس الأبيات، ولأن المضارع يستعمل في الماضي الذي بلغ من الغرابة مبلغا عظيما، كأن صورة قتل الأنبياء ماثلة أمام السامع ينظر إليها.
عَلَى الْكافِرِينَ ولم يقل «عليهم» : وضع الظاهر مكان الضمير، ليبين أن سبب اللعنة هو كفرهم.
المفردات اللغوية:
الْكِتابَ التوراة. وَقَفَّيْنا أتبعناهم رسولا إثر رسول على منهاج واحد.
وعِيسَى بالسريانية: يسوع، ومعناه السيد أو المبارك، ومَرْيَمَ بالعبرية: الخادم، لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس. الْبَيِّناتِ المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
وَأَيَّدْناهُ قويناه. بِرُوحِ الْقُدُسِ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي الروح المطهرة المقدسة: جبريل عليه السّلام، لطهارته، ينزل على الأنبياء ويقدس نفوسهم ويزكيها، قال الحسن البصري: «إنما سمي جبريل (روح القدس) لأن القدس هو الله، وروحه جبريل، فالإضافة للتشريف»، قال الرازي: «ومما يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى [في سورة النحل ١٦/ ١٠٢] : قُلْ: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» «١» ويطلق عليه الروح الأمين كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٣- ١٩٥]. تَهْوى تحب. اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن اتباعه. تَقْتُلُونَ يراد به حكاية الحال الماضية، أي قتلتم كزكريا ويحيى عليهما السّلام.
غُلْفٌ عليها أغشية وأغطية، فلا تعي ما تقول. بَلْ للإضراب. لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول. بِكُفْرِهِمْ أي ليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم.
ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة، لتأكيد القلة، أي إيمانهم قليل جدا، أو معدوم.
مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة، والكتاب هو القرآن. يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون ببعثته صلّى الله عليه وسلّم على الكفار، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان. ما عَرَفُوا من الحق، وهو بعثة النّبي. كَفَرُوا بِهِ حسدا وخوفا على الزعامة أو الرياسة.
سبب نزول الآية (٨٩) :
قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود
(١) محاسن التأويل للقاسمي: ٢/ ١٨٦ [.....]
219
خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: «اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبيّ الأميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم» فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بعث النّبي صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل الله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد، إلى قوله:
فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «١».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر اليهود: اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله:
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ٨٩].
وقال السدي: «كانت العرب تمرّ بيهود، فتلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد في التوراة أنه يبعثه الله، فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل» «٢».
التفسير والبيان:
اليهود قساة القلوب، عبدة المصالح المادية، والأهواء الذاتية، فتجددت فيهم الإنذارات الإلهية، وأرسلت إليهم الرسل، بعضهم إثر بعض، فكان
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن ابن عباس.
(٢) أسباب النزول للواحدي: ص ١٥، أسباب النزول للسيوطي: ص ١٩ وما بعدها.
220
بنو إسرائيل أكثر الشعوب حظا في عدد الرسل الذين أرسلوا إليهم، ومع ذلك كانوا ينسون الإنذارات، ويحرفون الشرائع، ويتبعون أهواءهم، ويعصون رسلهم، إما بالتكذيب وإما بالقتل.
وهذه الآيات تذكير لهم بإعطاء موسى التوراة، وإتباعه بالرسل: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون ٢٣/ ٤٤] وهم يوشع وداود وسليمان وعزير وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام، وكانوا كلهم يحكمون بشريعة موسى، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.. الآية [المائدة ٥/ ٤٤] إلا أن عيسى جاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام، ولهذا أعطاه الله من البينات- وهي المعجزات كإحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها، فتكون طيرا بإذن الله، وإبراء الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السّلام- ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له، وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في بعض الأحكام، كما قال تعالى إخبارا عن عيسى:
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران ٣/ ٥٠].
وكانت النتيجة أنه كلما جاءهم رسول بما لا تميل إليه نفوسهم، وهي لا تميل إلى الخير دائما، كفروا به واستكبروا عليه تجبرا وبغيا، فمنهم من كذبوه كعيسى ومحمد عليهما السّلام، ومنهم من قتلوه كزكريا ويحيى عليهما السّلام، فلا غرابة بعدئذ إن لم يؤمنوا بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإن العناد من طبعهم. والخطاب لجميع اليهود، لأنهم فعلوا ذلك في الماضي ورضي عنهم أولادهم.
ومن قبائحهم قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قلوبنا عليها غشاء، فلا تعي ما تقوله، ولا تفقه ما تتكلم به، فيرد الله عليهم: لستم كذلك، فقلوبكم خلقت مستعدة بالفطرة للنظر الذي يوصل إلى الحق، لكن الله أبعدكم من رحمته، بسبب كفركم
221
بالأنبياء وعصيانكم التوراة. ولم يظلمهم الله بهذا الإبعاد أو الطرد من رحمته، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، فإيمانهم قليل جدا، فهم آمنوا ببعض الكتاب، وتركوا العمل بالبعض الآخر أو حرفوه، أو أنهم لم يؤمنوا أصلا.
وكان عندهم وصف النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه، وكانوا يستنصرون به على المشركين ويقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة.
فلما جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، مصدق لما معهم من التوراة، ومؤكد وصف النّبي المعروف عندهم، كفروا به حسدا للعرب، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، واستكبروا عن قبول دعوته وإجابته احتقارا للرسل، وهم يعلمون أنه رسول الله، وآثروا الدنيا على الآخرة، فلعنة الله على كلّ كافر من اليهود وغيرهم، لأنه كفر بدعوة الإسلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه صورة واضحة تبين موقف فئة من البشر من الأحكام الإلهية، فمن أعرض عنها، وجحد بها، واستكبر عن قبولها، كان مصيره المحقق المنتظر هو استحقاق العذاب والطرد من رحمة الله تعالى.
وهذا الحشد المتتابع من الرسل الذين جاؤوا لبني إسرائيل يدلّ على مزيد العناية الإلهية بأعتى البشر، وتمكينه من العودة إلى طريق الحق، فإذا عوقب ذلك العاتي المستكبر، كان عقابه حقا وعدلا.
والله تعالى منزّه عن ظلم أحد، ففي قوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة ٢/ ٨٨] بيان السبب في نفورهم عن الإيمان، وهو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.
222
وكل ما ذكر من أخبار اليهود وإظهار قبائحهم وتقريعهم على ظلمهم وكفرهم واطلاع النّبي على ما كانوا يكتمونه من شريعة التوراة، فيه دلالة على نبوته عليه السّلام.
كفرهم بما أنزل الله وقتلهم الأنبياء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
الإعراب:
«ما» في بئسما: إما نكرة موصوفة على التمييز بمعنى شيء، والتقدير: بئس الشيء شيئا، واشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ صفته، وإما بمعنى الذي في موضع رفع، و «اشتروا به» صلته، وتقديره: بئس الذي اشتروا به أنفسهم، وأَنْ يَكْفُرُوا في تقدير المصدر، وهو المقصود بالذم، وهو في موضع رفع لوجهين: أن يكون مبتدأ وما تقدم خبره، أو أن يكون خبر مبتدأ محذوف وتقديره: هو أن يكفروا، أي كفرهم.
وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً نصب مصدقا على الحال من الحق، والعامل في الحال معنى الجملة، وهذه الحال حال مؤكدة، فالحق لا يجوز أن يفارق التصديق لكتب الله عز وجل، ولو فارق التصديق لها لخرجت عن أن تكون حقا.
البلاغة:
عَذابٌ مُهِينٌ أسندت الإهانة إلى العذاب من قبيل إسناد الأفعال إلى أسبابها.
223
المفردات اللغوية:
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ باعوها، لأن «اشترى» بمعنى باع، وبمعنى ابتاع، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن. بَغْياً مفعول لأجله ليكفروا، أي حسدا. فَباؤُ رجعوا. بِغَضَبٍ الغضب أشد من اللعن، والتنكير للتعظيم، والمعنى:
فرجعوا وانقلبوا متلبسين بالغضب.
وَيَكْفُرُونَ الواو للحال. بِما وَراءَهُ سواه أو بعده من القرآن. وَهُوَ الْحَقُّ حال. مُصَدِّقاً حال ثانية مؤكدة. فَلِمَ تَقْتُلُونَ قتلتم، والخطاب للموجودين في زمن نبيّنا بما فعل آباؤهم، لرضاهم به.
التفسير والبيان:
يعلم اليهود المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم أنه النّبي المبشر به في التوراة: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة ٢/ ١٤٦] ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا، فعقب الله على موقفهم بذمهم ذما شديدا، باختيارهم الكفر على الإيمان، وبذل أنفسهم فيه، وكأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع، وكانت علة كفرهم محض العناد الذي هو نتيجة الحسد، وخوف ضياع الزعامة والمال من أيديهم، وكراهة أن ينزل الله الوحي من فضله على من يختاره من عباده، فأصبحت عاقبتهم أنهم قد رجعوا بغضب من الله جديد لكفرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد كفرهم بموسى عليه السّلام وبمن جاء بعده من الأنبياء. ولهم بسبب كفرهم عذاب يصحبه إهانة وإذلال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلهم الخزي وسوء الحال، وأما في الآخرة فلهم الخلود في نار جهنم.
وإذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليهود المدينة: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله، قالوا: إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة، ونكفر بما سواه وهو القرآن الذي جاء مصدقا لها، وهو الحق الذي لا شك فيه.
فيرد الله عليهم: إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم، وكلاهما من عند الله، فكيف
224
تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ بل إنكم لم تؤمنوا بالتوراة التي فيها تحريم القتل، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق، فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟! وقد نسب القتل إلى معاصري النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم كانوا راضين بفعل أسلافهم الغابرين، فأقروهم على القتل وغيره، ولم يعدوه مخالفة أو معصية، وفاعل الكفر ومجيزه سواء، وطبع السوء ينتقل في الذرية، وهم متضامنون متكافلون، مصرون على إقرار أفعال السلف. فإن لم يوجد إقرار أو رضا، فلا إثم على الأبناء، لأن كل نفس مسئولة عن حالها، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
فقه الحياة أو الأحكام:
ليس من العقل السليم، بل ولا من المصلحة الحقيقية للإنسان أن يؤثر الفاني على الباقي، والشيء التافه الرخيص على الغالي الثمين، لأن دوام الخير وبقاء النعمة أصون للمنفعة، وأكرم للنفس، لذا ندد القرآن بأفعال اليهود، مقررا: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم، حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالإيمان.
وإذ لم يؤمن اليهود إيمانا كاملا بالتوراة التي أنزلها الله على نبيهم موسى عليه السّلام، فلا أمل في إيمانهم بالقرآن.
وإن استمرارهم في طريق الكفر قديما وحديثا، بعبادتهم العجل، وإعنات موسى وكفرهم به، وتكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم بالقرآن، يبوئهم العذاب المهين: وهو ما اقتضى الخلود الدائم في نار جهنم. أما تعذيب عصاة المؤمنين في النار فهو مؤقت، وتمحيص لهم وتطهير، كما يطهر المذنب في الدنيا بالعقاب، مثل رجم الزاني وقطع يد السارق.
225
تكذيب ادعائهم الإيمان بالتوراة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
الإعراب:
وَلَقَدْ جاءَكُمْ اللام لام القسم.
وَاسْمَعُوا المراد به سماع تدبر وطاعة والتزام، لا مجرد إدراك القول، فهو مؤكد لقوله:
خُذُوا....
البلاغة:
وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حبّ العجل، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها [يوسف ١٢/ ٨٢] أي أهل القرية وأهل العير.
وفي قوله أُشْرِبُوا استعارة مكنية، شبّه حب عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الإشراب. بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتوراة، لأنه ليس في التوراة عبادة العجول، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم، كما قال قوم شعيب:
أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود ١١/ ٨٧] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له (الكشاف: ١/ ٢٢٧).
المفردات اللغوية:
«البينات» المعجزات كالعصا واليد وفلق البحر. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ جعلتموه إلها معبودا.
مِنْ بَعْدِهِ من بعد ذهابه إلى الميقات. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ باتخاذه.
226
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ على العمل بما في التوراة. الطُّورَ الجبل. بِقُوَّةٍ بجد واجتهاد. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ خالط حبّ العجل قلوبهم، كما يخالط الشراب الجسد.
بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بئس شيئا، يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة، كما زعمتم، والمعنى: لستم بمؤمنين بالتوراة، وقد كذبتم محمدا، والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه.
التفسير والبيان:
لقد كفر اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم كما بان في الآيات السابقة والتي كانت في أرض الميعاد، وكفروا أيضا بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات التي جاء بها موسى، والتي تدل على أنه رسول الله، وأنه لا إله إلا الله. والآيات البينات: هي التي حدثت قبل الميعاد الذي نزلت فيه التوراة، وهي تسع كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء ١٧/ ١٠١]، وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق البحر والسّنون.
ولم تزدهم تلك الآيات إلا توغلا في الشرك والوثنية، ولم يشكروا نعم الله عليهم، وقابلوها باتخاذ العجل إلها يعبدونه من دون الله، والعجل: هو الذي صنعه لهم السامري من حليّهم، وجعلوه إلها وعبدوه. وهذا دليل على قسوة قلوبهم وفساد عقولهم، فلا أمل في هدايتهم، وهو ظلم ووضع للشيء في غير موضعه اللائق به، وأي ظلم أعظم من الإشراك بالله؟
واذكر يا محمد وقت أن أخذ عليهم الميثاق بأن يعملوا بما في التوراة ويأخذوا بما فيها بقوة، فخالفوا الميثاق وأعرضوا عنه، حتى رفع الطور عليهم إرهابا لهم، فقبلوه، ثم خالفوه وكأنهم قالوا: سمعنا وعصينا، ثم أوغلوا في المخالفة ووقعوا في الشرك، واتخذوا العجل إلها، وخالط حبه قلوبهم، وتمكن الحب الشديد لعبادة العجل في نفوسهم، بسبب ما كانوا عليه من الوثنية في مصر.
قل يا محمد لليهود الحاضرين، بعد أن علموا أحوال رؤسائهم السالفين: إن
227
كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا، فبئس هذا الإيمان الذي يوجه إلى هذه الأعمال التي تفعلونها، مثل عبادة العجل، وقتل الأنبياء، ونقض الميثاق.
وهاتان الآيتان ردّ على اليهود الذين لم يؤمنوا بالنبيّ محمد صلّى الله عليه وسلّم، وزعموا أنهم مؤمنون بالتوراة دون غيرها، فهم في الواقع لم يؤمنوا بشيء، لا بالتوراة ولا بالقرآن، فاستحقوا التوبيخ والتقريع.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الإيمان الصحيح بشيء هو الذي يدعو إلى الانسجام التام مع مقتضيات ذلك الإيمان، فمن آمن بالتوراة بحق، وجب عليه العمل بما فيها، والتزام أوامرها، واجتناب نواهيها، وهذا يدعوه أيضا إلى الإيمان بكل ما يؤيدها ويؤكدها ويقرر مضمونها، وقد جاء القرآن مصدقا لما في التوراة، فلزم الإيمان به، واتباع هديه.
أما اليهود في الماضي وفي عصر النّبوة فعجيب أمرهم، يدّعون الإيمان بالتوراة، وهي التي ترشد إلى توحيد الإله وعبادته، ثم يعبدون العجل ويتخذونه إلها، ويكفرون بآيات الله، ويخالفون الأنبياء، ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أكبر الذنوب وأشد الأمور عليهم، إذ كفروا بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس جميعا.
فكيف يدّعون الإيمان لأنفسهم، وقد فعلوا هذه الأفاعيل القبيحة من نقض الميثاق، والكفر بآيات الله، وعبادة العجل من دون الله؟.
ومع ذلك عفا الله عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل، كما سبق في تعداد نعم الله عليهم.
228
حرص اليهود على الحياة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
الإعراب:
خالِصَةً إما خبر كان، أو حال من الدَّارُ ويجعل عِنْدَ اللَّهِ خبر كان.
أَحَدُهُمْ الضمير يعود على اليهود وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ هو: ضمير مرفوع منفصل اسم «ما» وهو كناية عن أحد، وأَنْ يُعَمَّرَ في موضع رفع فاعل مزحزح كأنه قال:
ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره.
البلاغة:
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أتى هنا بلن وفي سورة الجمعة بلا لأن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فإنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس.
عَلى حَياةٍ التنكير للتنبيه على أنها حياة مخصوصة وهي التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين.
المفردات اللغوية:
خالِصَةً خاصة بكم.
أَحْرَصَ النَّاسِ الحرص: الطلب بشره عَلى حَياةٍ أي على طول العمر، لما يعلمون من مآلهم السيء، وعاقبتهم عند الله الخاسرة، لأن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. لَوْ يُعَمَّرُ لو يطول عمره بِمُزَحْزِحِهِ مبعده.
229
سبب نزول الآية (٩٤) :
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي العالية قال: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً.. [البقرة ٢/ ٩٤].
التفسير والبيان:
أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لليهود: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس، وأن النار لن تمسكم إلا أياما معدودات، وأنكم شعب الله المختار، فاطلبوا الموت الذي يوصلكم إلى ذلك النعيم الخالص الدائم الذي لا ينازعكم فيه أحد، إذ لا يرغب الإنسان عن السعادة ويختار الشقاء. ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك، ما بقي على الأرض يهودي إلا مات. قال ابن عباس: «ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه».
وروي عن ابن عباس أن المراد: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب منا ومنكم، فأبوا ذلك وما دعوا، لعلمهم بكذبهم.
قال ابن كثير: هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين، وهو الدعاء على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة. والقول بتمني الموت لا تظهر فيه الحجة عليهم، إذ يقال: إنه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت، فإنه لا ملازمة بين وجود الصلاح وتمني الموت، وكم من صالح لا يتمنى الموت، بل يود لو يعمر، ليزداد خيرا، وترتفع درجته في الجنة، كما
جاء في الحديث: «خيركم من طال عمره، وحسن عمله» «١».
(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ١/ ١٢٧- ١٢٨
230
وعلى أي وجه أو حال: لن يتمنى الموت أحد منهم أبدا، بسبب ما اقترفوا من الكفر والفسوق والعصيان، كتحريف التوراة، وقتل الأنبياء والأبرياء، والكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، مع البشارة به في كتابهم. والله يعلم أنهم ظالمون في حكمهم بأن الدار الآخرة خالصة لهم، وأن غيرهم من الشعوب محروم منها، وسيجازيهم على أعمالهم.
ثم يقسم الله تعالى بذاته العلية «وتا لله» لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة، بل وأحرص من جميع الناس حتى الذين أشركوا بالله، ولم يؤمنوا بالبعث، فهؤلاء المشركون يفترض أن يكونوا أحرص الناس على الحياة، إذ هي الأولى والأخيرة عندهم، فمشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة، ولا علم لهم من الآخرة.
ولكن اليهود الحريصين على الدنيا والمادة يتمنى أحدهم أن يعيش ألف سنة أو أكثر- والعرب تضرب الألف مثلا للمبالغة في الكثرة- لأنه يتوقع عقاب الله في الآخرة، فيرى أن الدنيا خير من الآخرة. وما بقاؤه في الدنيا- وإن طال- بمبعده عن أمر الله وتعذيبه بالعذاب الأليم، والله عليم بخفيات أعمالهم وبما يصدر منهم، وهو مجازيهم به ويعاقبهم عليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات امتحان لمعرفة صدق إيمان اليهود، ودحض دعاويهم الباطلة التي حكاها الله عز وجل في كتابه، كقوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة ٢/ ٨٠] وقوله: وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة ٢/ ١١١] وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٠١] وموضوع الامتحان تمني الموت ليحظوا بالسعادة الأبدية، وبذل أرواحهم في سبيل الله، والذود عن الدين وحرماته. ونتيجة الامتحان الإخفاق المحتم، لأن اليهود
231
قوم ماديون يحبون البقاء في الدنيا، ويكرهون لقاء الله، فلا ثقة لهم بأنفسهم فيما يزعمون، ويظلمون في قلق وحيرة واضطراب دائم وشك يخيفهم ويزعج أعماق نفوسهم. والآية الكريمة من المعجزات المتضمنة الإخبار بالغيب، الذي تحقق فعلا، فلم يقع منهم تمني الموت في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي
قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار» «١».
والله سبحانه وتعالى العليم الخبير بصير عالم بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمّر ألف سنة. قال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال.
موقف اليهود من جبريل والملائكة والرسل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
الإعراب:
مَنْ شرطية مبتدأ، وجملة كان واسمها وخبرها: هي خبر المبتدأ. واسم كان ضمير تقديره هو، وعَدُوًّا الخبر. ولِجِبْرِيلَ ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة.
وجواب مَنْ الشرطية قوله: فَإِنَّهُ والهاء فيه تعود إلى جبريل، ونَزَّلَهُ أي القرآن، لدلالة الحال عليه، مثل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [الدخان ٤٤/ ٣] أي القرآن، ومثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٣٣. وفي بعض النسخ «ورأوا مقاعدهم»
232
[الرحمن ٥٥/ ٢٦] أي الأرض، ومثل حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص ٣٨/ ٣٢] أي الشمس وإن لم يسبق له ذكر. مُصَدِّقاً حال منصوب من هاء نَزَّلَهُ وكذلك هُدىً وبُشْرى حال من هاء نَزَّلَهُ. فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ» أقام المظهر مقام المضمر، كقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف ١٢/ ٩٠] أي أجرهم. وجملة فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ.. جواب الشرط.
البلاغة:
نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ خص القلب بالذكر، لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف.
وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتنويه.
فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ الجملة اسمية لزيادة التقبيح، لأنها تفيد الثبات. وأقام الظاهر مقام المضمر لبيان صفة الكفر وهو عداوتهم للملائكة.
المفردات اللغوية:
الْعَدُوُّ: ضد الصديق، يستوي فيه المذكر والمؤنث، والواحد والمثنى والجمع.
وَهُدىً من الضلالة وَبُشْرى بالجنة.
وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ عطف على الملائكة من عطف الخاص على العام فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ولم يقل: لهم، بيانا لحالهم.
سبب نزول الآية (٩٧) :
أخرج الترمذي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل، قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: للكافرين «١».
قال الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٣٦، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي، انظر أسباب النزول للسيوطي:
ص ٢٣، والواحدي: ص ١٥
233
هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله، قالوا ذلك.
فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة، وما أخذ يعقوب على بنيه: لئن أنا حدثتكم عن شيء، فعرفتموه لتتابعنني على الإسلام» فقالوا: ذلك لك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا عما شئتم» قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن، أخبرنا: أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، وأخبرنا: كيف ماء المرأة وماء الرجل، وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم عهد الله، لئن أنا أنبأتكم لتتابعنني؟» فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق. فأجابهم عن الأسئلة كلها، وحينما قال لهم: «إن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه» قالوا: إنه عدونا، فأنزل الله عز وجل: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ...
وروى البخاري عن أنس بن مالك قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في أرض (يخترف) فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي:
ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهذه جبريل آنفا» قال: جبريل؟ قال:
«نعم»، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ.
«أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما
234
أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة، نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت».
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني.
فجاءت اليهود: فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: «أرأيتم إن أسلم؟». قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله «١».
قال ابن حجر في فتح الباري: ظاهر السياق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية، ردا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة عبد الله بن سلام (السابقة).
وجاء في بعض الروايات: أن أحد علماء اليهود من أحبار فدك عبد الله بن صوريا سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الملك الذي ينزل عليه بالوحي، فقال: هو جبريل، فقال ابن صوريا: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا به، وقد عادانا جبريل مرارا، ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وأنذر بخراب بيت المقدس. وميكال يجيء بالخصب والسلام.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب دخل مدراسهم «٢»، فذكر جبريل، فقالوا:
(١) تفسير الطبري ١/ ٣٤٢ وما بعدها، تفسير ابن كثير: ١/ ١٢٩- ١٣٠
(٢) المدراس: بيت تدرس فيه التوراة.
235
ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وأن ميكائيل ملك الرحمة ينزل بالغيث والرخاء.
التفسير والبيان:
قل أيها النبي لهم: من كان عدوّا لجبريل، فهو عدوّ لوحي الله الذي يشمل التوراة وغيرها، فإن الله نزله بالوحي والقرآن على قلبك بإذن الله وأمره، والقرآن موافق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل الداعية إلى توحيد الله وأصول الأخلاق والعبادات، وهو هداية من الضلالات، وبشرى لمن آمن به بالجنة، فكيف يكون طريق الخير سببا للبغض والكراهية.
ثم أكد الله سبحانه حكمه المبرم وهو من كان عدوّا لله بمخالفة أوامره، وعدم إطاعته، والكفر بما أنزله لهداية الناس، وعدوّا للملائكة بكراهة العمل بما ينزلون به من وحي ورسالة يبلغونها للناس، وعدوّا لرسل الله بتكذيبهم في دعوى الرسالة، مع وجود الأدلة على صدقهم، أو بقتل بعضهم كقتل زكريا ويحيى، وعدوّا لجبريل وميكائيل بادعاء أن الأول يأتي بالنذر، فإن الله عدوّ له ومجازيه على ذلك، لأنه كافر به ومعاد له، وظالم لنفسه، وتلك العداوة كفر صريح.
فقه الحياة أو الأحكام:
تعددت اعتذارات اليهود عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، فقالوا سابقا:
إنهم مؤمنون بالتوراة، كافرون بغيرها، وقالوا: إنهم ناجون حتما في الآخرة، لأنهم شعب الله وأحباؤه، وقالوا هنا: إن جبريل أمين الوحي على محمد عدوهم، فلا يؤمنون بما جاء به. فأبطل الله تعالى مزاعمهم، وفند حججهم، وأظهر تناقضهم، وأبان لهم أن معاداة الله وملائكته ورسله سبب واضح قاطع لإنزال العقاب بهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا وعيد شديد، وتنديد بأن اليهود أعداء
236
الحق والرسالات الإلهية وأعداء القرآن وسائر الكتب السماوية، لأن معاداة أمين الوحي جبريل، ومعاداة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعاداة الكتب السماوية، معاداة لكل الملائكة وسائر الأنبياء والكتب، إذ إن المقصد منها واحد، وهو هداية الناس، وإرشادهم إلى الخير، ولأن رسالة جميع الأنبياء واحدة، والغاية منها متحدة، فلا يصح التفريق بين الملائكة والرسل والكتب، وكلها من مصدر واحد، وتهدف خيرا مشتركا، وتدعو إلى توحيد الله، وعبادته، والالتزام بأصول الأخلاق والفضائل التي هي عنوان تقدم الفرد والجماعة.
كفرهم بالقرآن ونقضهم العهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
الإعراب:
بَيِّناتٍ حال.
أَوَكُلَّما.. الهمزة استفهام بمعنى التوبيخ، والواو حرف عطف وكلما: نصب على الظرفية.
كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ الكاف حرف تشبيه، لا موضع لها من الإعراب، وموضع الجملة رفع وصف لفريق.
237
البلاغة:
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ التنكير للتفخيم، ووصف الرسول بأنه آت من عند الله لإفادة مزيد التعظيم وَراءَ ظُهُورِهِمْ مثل يضرب للإعراض عن الشيء، فهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ اللام لام القسم بَيِّناتٍ واضحات الْفاسِقُونَ المتمردون من الكفرة، قال الحسن البصري: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي، وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. واللام في الْفاسِقُونَ للجنس، والأحسن- كما قال الزمخشري- أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.
عاهَدُوا عَهْداً على الإيمان بالنبي إن خرج، أو النبي ألا يعاونوا عليه المشركين.
نَبَذَهُ طرحه، والمراد نقضه، وهو جواب كلما، وهو محل الاستفهام الإنكاري بَلْ للانتقال.
وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما فيها من أنه نبي حق أو أنها كتاب الله.
سبب نزول الآية (٩٩) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فأنزل الله في ذلك: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ.
وسبب نزول الآية (١٠٠) :
أن مالك بن الصيف حين بعث رسول الله، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد قال: والله ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا ميثاقا، فأنزل الله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا.. الآية.
238
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما جبل عليه اليهود من خبث النفس ونقض العهد، وتكذيب رسل الله، ومعاداة جبريل أمين الوحي عليه السلام، أعقب ذلك أن من عادة اليهود التكذيب بآيات الله، وعدم الوفاء بالعهود، وتكذيب الرسل، والإعراض عن القرآن. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث عارضوا دعوته، وأعرضوا عن القرآن الكريم.
التفسير والبيان:
والله لقد أنزلنا إليك يا محمد دلائل واضحات تدل على صدق رسالتك، تقترن أصولها الاعتقادية ببراهينها، وأحكامها العملية بوجوه منافعها وغاياتها المصلحية، فلا تحتاج إلى دليل آخر يوضحها، فهي كالنور يظهر الأشياء، وهو ظاهر بنفسه، ولا يكفر بها إلا المتمردون على آياتها وأحكامها من الكفرة، الذين استحبوا العمى على الهدى، حسدا لمن ظهر الحق على يديه، وعنادا ومكابرة منهم.
إنهم كفروا بالله، وكلما عاهدوا عهدا مع الله، أو مع رسول الله نقضه فريق منهم: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [الأنفال ٨/ ٥٦] بل نقضه أكثرهم، ولم يوفوا به، فاليهود غادرون بمن ائتمنهم، خائنون الأمانة، ناقضون العهود أو العقود والمواثيق، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم، فنقضوه، وأكثرهم لا يؤمنون بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا، ولا يبالون به، ولن يؤمنوا أيضا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن، كأنهم لا يعلمون أن التوراة كتاب الله، لا يدخلهم فيه شك، يعني أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم.
ولما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بكتاب مصدق للتوراة في الأصول الدينية العامة،
239
كتوحيد الله وإثبات البعث، والتصديق بالرسل، ترك فريق من اليهود كتاب الله وراء ظهورهم- وهو تمثيل لتركهم وإعراضهم عنه، مثل أي شيء يرمى به وراء الظهر- استغناء عنه، وقلة التفات إليه، لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه، ولم يؤمنوا به إيمانا حقا كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة، لا يكون مؤمنا بكل منهما، وهو كناية عن الإعراض عن التوراة بالكلية.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا سجل من قبائح اليهود أوضحه الله تعالى وهو من أخبار الغيب، التي لا يعلمها إلا علام الغيوب، وقد رصد فيه عيوب أربعة وهي:
١- التكذيب بآيات الله وبيناته وأدلته الواضحة القاطعة على وجوده ووحدانيته وربوبيته ولزوم عبادته وإطاعة أوامره واجتناب نواهيه.
٢- عدم الثقة بهم في أي شيء، لأنهم دأبوا على نقض العهود والغدر بالمعاهدين في كل زمان.
٣- انقطاع الأمل وسد باب الرجاء في إيمان أكثرهم، لأن الضلال قد استحوذ عليهم.
٤- لم ينبذ فريق منهم كتاب الله «التوراة» جملة وتفصيلا، بل نبذوا منه ما يبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويبين صفاته وما يأمرهم بالإيمان به، فإن ما في كتابهم من البشارة بنبي يجيء من ولد إسماعيل لا ينطبق إلا على هذا النبي الكريم.
240
اشتغال اليهود بالسحر والشعوذة والطلاسم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
الإعراب:
اتَّبَعُوا معطوف على قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ.. وتَتْلُوا أي تتبع بمعنى: تلت، فأقام المستقبل مقام الماضي. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ إما حال من ضمير كَفَرُوا أي كفروا معلمين، أو حال من الشياطين، أو بدل من كَفَرُوا لأن تعليم السحر كفر في المعنى، أو خبر ثان للكن. وَما أُنْزِلَ.. ما: بمعنى الذي في موضع نصب بالعطف على السحر، أو في موضع نصب بالعطف على ما تَتْلُوا.. أو في موضع جر بالعطف على مُلْكِ سُلَيْمانَ.
فَيَتَعَلَّمُونَ إما معطوف على يُعَلِّمانِ أو معطوف على فعل مقدر، وتقديره: يأتون فيتعلمون، أو معطوف على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ أي يعلمونهم فيتعلمون، أو يكون مستأنفا، وهو الأوجه، والضمير لما دل عليه: من أحد.
وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ أي ما هم السحرة بضارين بالسحر أحدا، ومن: زائدة. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ اللام في لَمَنِ اشْتَراهُ لام الابتداء، ومِنْ بمعنى الذي في موضع رفع، لأنه مبتدأ، وخبره ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ واشتراه: صلته، ومِنْ زائدة لتأكيد
241
النفي، وخَلاقٍ مبتدأ، ولَهُ فِي الْآخِرَةِ خبره، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول الذي هو «من» ولام لَمَنِ علّقت عَلِمُوا أن تعمل فيما بعدها. ويجوز أن تكون «من» شرطية.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أن هاهنا مصدرية، والتقدير: ولو وقع إيمانهم، ولَوْ حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، وجوابه لَمَثُوبَةٌ و «مثوبة» مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه تخصص بالصفة وهو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فقرب من المعرفة، وخبره: خَيْرٌ.
البلاغة:
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ هذا جار على الأسلوب البلاغي: وهو أن العالم بالشيء إذا لم يجر على موجب علمه قد ينزّل منزلة الجاهل به.
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عبر بالجملة الاسمية لإفادة الثبوت والاستقرار.
المفردات اللغوية:
ما تَتْلُوا أي تلت الشياطين على عهد ملك سليمان من السحر أي في زمان ملكه، والمراد بالشياطين: شياطين الإنس والجن وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي وما سحر، والسحر لغة: كل ما لطف مأخذه وخفي سببه، وسحره: خدعه، والملكان: رجلان صاحبا هيبة ووقار يجلهما الناس ويحترمونهما. وبابل: بلد بالعراق في أرض الكوفة لها شهرة تاريخية قديمة فِتْنَةٌ اختبار وابتلاء اشْتَراهُ استبدل ما تتلو الشياطين خَلاقٍ نصيب وحظ شَرَوْا باعوا. المثوبة:
المثوبة: الثواب. وكان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة، ويسمونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وهم معطّلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه، فدعاهم إلى الله تعالى، وحاجهم بما بهرهم به وأقام عليهم به الحجة «١».
سبب نزول الآية (١٠٢) :
قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد، يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٣
242
وأخرج الطبري عن شهر بن حوشب قال: قالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، أفما كان ساحرا يركب الريح؟
فأنزل الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلما رأوا ذلك، قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنزل الله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ.
وقال الكلبي: إن الشياطين كتبوا السحر والنّيرنجيات (تصرفات تخيل وليست حقيقة، وهو أخذ كالسحر وليس به) على لسان آصف: هذا ما علّم آصف بن برخيا- كاتب نبي الله سليمان- الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه، ولم يشعر بذلك سليمان. ولما مات سليمان استخرجوه من تحت مصلاه، وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، فلما علم علماء بني إسرائيل قالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان. وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم: ففشت الملامة لسليمان، فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله عذر سليمان على لسانه، وأنزل براءته مما رمي به، فقال: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ.
المناسبة:
حين نبذ فريق من اليهود وهم أحبارهم وعلماؤهم التوراة، وأعرضوا عنها، لأنها تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، اشتغلوا بصناعات وأعمال صادّة عن الأديان، من صنع شياطين الإنس والجن، وهي السحر والشعوذة والطلاسم التي نسبوها إلى سليمان، وزعموا أن ملكه كان قائما عليها.
وهذه أباطيل منهم وسوسوا بها إلى بعض المسلمين، فصدقوهم فيما زعموا منها،
243
وكذبوهم فيما رموا به سليمان من الكفر. وإنما قص القرآن علينا ذلك للذكرى، وليبين لنا ما افتراه أهل الأهواء على سليمان من أمر السحر، فكان شاغلا عن العمل بالدين وأحكامه لدى اليهود. وقد زعموا أن سليمان هو الذي جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه، ثم استخرجها الناس وتناقلوها.
التفسير والبيان:
نبذ اليهود كتاب الله، واتبع فريق من أحبارهم وعلمائهم الذين نبذوا التوراة، السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان، لأن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، ويضمون إليه أكاذيب، ثم يلقنونها الكهنة، فيعلمونها الناس، ويقولون: إن هذا علم سليمان، وقام ملك سليمان بهذا. فرد الله عليهم بأن سليمان ما فعل ذلك، وما عمل سليمان بالسحر، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتدوينه وتعليمه الناس على وجه الإضرار والإغواء، ونسبته إلى سليمان على وجه الكذب وجحد نبوته، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل، وهما هاروت وماروت: وهما بشران صالحان قانتان، أطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه. وقرأ الحسن البصري: الملكين- بكسر اللام تشبيها بالملوك في الخلق وسماع الكلمة.
وكان هذان الملكان يعلمان الناس السحر الذي كثرت فنونه الغريبة في عصرهم، ليتمكنوا من التمييز بينه وبين المعجزة، ويعرفوا أن الذين يدّعون النبوة من السحرة كذبا إنما هم سحرة، لا أنبياء. وقد كان تعلمهما السحر بالإلهام دون معلم، وهو المقصود بالإنزال، والذي أنزل عليهما كان من جنس السحر، لا عينه.
ولكن هذين الملكين اتبعا في تعليم السحر سبيل الإنذار والتحذير، فلا يعلمان أحدا من الناس، حتى يقولا له: إنما نحن ابتلاء واختبار من الله عز
244
وجل، فلا تعمل بالسحر ولا تعتقد تأثيره، وإلا كنت كافرا، أما إذا تعلمته لتعلمه فقط دون اعتقاد بحقيقته ولا تأثير له ولا عمل به، فلا ضرر، وكانا يقولان ذلك حفاظا على حسن اعتقاد الناس فيهما.
فتعلم الناس من الملكين ما يفرّق به بين المرء وزوجه، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك من وسائل التفريق غالبا.
والمعنى في عطف وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ على قوله يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أن اليهود اتخذوا السحر من الملكين لا على الوجه المراد من توقي الناس وتحذيرهم، وقد ألهما فنون السحر ليعلّما الناس حيل السحرة وخدعهم.
والسحر في الحقيقة لا يؤثر بطبعه ولا بقوة ذاتية فيه، فلا يحدث الضرر منه إلا بأمر الله وإرادته، فهو مجرد سبب ظاهري فقط، وإذا أصيب إنسان بضرر بعمل من أعمال السحرة، فإنما ذلك بإذن الله تعالى، وما السحر حينئذ إلا وسيلة أو سبب قد يرتبط المسبب أو النتيجة به، إذا شاء الله، فهو الذي يوجد المسببات حين حصول الأسباب، قال الحسن البصري: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلى بينه وبينه فضره.
ومن تعلم السحر وعمل به فإنه يتعلم ما يضره ولا ينفعه، لأنه كان سببا في إضرار الناس ولأنه قصد الشر، فيكرهه الناس لإيذائه، ويعاقبه الله في الآخرة لإضراره غيره، وإفساده المصالح، وكل عامل يجزى بما عمل.
وتا لله لقد علم اليهود بأن من ترك كتاب الله وأهمل أصول الدين وأحكام الشريعة التي تسعد في الدارين، واستبدل به كتب السحر، ما له في الآخرة إلا العذاب الأليم، لأنه قد خالف حكم التوراة التي حظرت تعلم السحر، وجعلت عقوبة من اتبع الجن والشياطين والكهان كعقوبة عابد الأوثان.
245
ولبئس ما باعوا به أنفسهم باتخاذ السحر محل التوراة، فهم جهلة لا يعلمون حرمة السحر علم اعتقاد وامتثال، لأنهم لم يعملوا بالعلم الصحيح، وإنما اكتفوا بعلم مبهم لا أثر له في النفس.
ولو أنهم أي اليهود آمنوا الإيمان الحق بالتوراة، وفيها البشارة بنبي آخر الزمان، وآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالقرآن، وتركوا كتب السحر والشعوذة، واتقوا الله بالمحافظة على أوامره واجتناب نواهيه، لاستحقوا الثواب العظيم من عند الله، جزاء على أعمالهم الصالحة، وهو خير لهم لو كانوا يعلمون العلم الصحيح، ولكنهم في الواقع لم يكونوا على علم حقيقي وإنما على ظن وتقليد، إذ لو كانوا على علم، لظهرت نتائجه في أعمالهم، ولآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واتبعوه وصاروا من المفلحين، ولما خالفوا كتاب الله، واتبعوا أهواءهم. فهم حين لم يعملوا بعلمهم الأصيل، جعلوا كأنهم غير عالمين.
فقه الحياة أو الأحكام:
السحر: أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة بسرعة يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه.
وجاء ذكر السحر في القرآن في مواضع كثيرة، ولا سيما في قصص موسى وفرعون، ووصفه بأنه خداع وتخييل للأعين حتى ترى ما ليس بكائن كائنا، كما قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه ٢٠/ ٦٦] وقال: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف ٧/ ١١٦].
وروى مالك وأبو داود عن بريدة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن
246
من البيان لسحرا، وإن من العلم جهلا «١»، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيالا»
أما
قوله: «إن من البيان لسحرا»
فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق. وهذا مذموم. وهو المراد بالحديث في الأصح، أما السحر الحلال الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلّم: فهو أن ينبئ شخص عن حق فيوضحه، ويجليه بحسن بيانه، بعد أن كان خفيا.
والسحر: إما حيلة بخفة يد، وشعوذة، وإما صناعة وعلم خفي يعرفه بعض الناس.
وهل للسحر حقيقة أم لا؟ اختلف الناس في ذلك «٢».
فرأى جمهور العلماء: أن للسحر حقيقة، يخلق الله عنده ما شاء، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين، أو بمعين من الأمور كالكواكب السماوية، ويرون أن النفوس الساحرة ثلاث مراتب:
الأولى- المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين.
والثانية- بمعين من مزاج الأفلاك (أي طبيعتها)، أو العناصر (الماء والهواء والتراب والنار)، أو خواص الأعداد، أي حساب الجمّل، فلكل حرف من الأحرف الهجائية رقم حسابي معين.
والثالثة- تأثير في القوى المتخيلة: بأن يعمد الشخص إلى القوة المتخيلة،
(١) ومعنى
قوله «من العلم جهلا»
أن يتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم فيجهّله ذلك. ومعنى
قوله: «إن من الشعر حكما»
: هو هذه الأمثال والمواعظ التي يتعظ بها الناس. ومعنى
«إن من القول عيالا»
هو عرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه ولا يريده.
(٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٤٤- ٤٧، تفسير ابن كثير: ١/ ١٤٥- ١٤٧، تفسير الكشاف: ١/ ٢٣١، البحر المحيط: ١/ ٣٢٧
247
فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين، بقوة نفسه المؤثرة، فينظر الراءون كأن شيئا موجودا في الواقع، وليس هناك شيء من ذلك.
وتنال هذه المراتب بالرياضة، والتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله، والوجهة لغير الله كفر، فلهذا كان السحر كفرا.
ويرى المعتزلة، وبعض أهل السنة «١» : أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيل. والسحر بهذا المعنى أنواع:
أ- كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها، كما يفعل بعض المشعوذين، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه، لخفة حركته، إذ إن معه اثنين أحدهما المذبوح الذي خبأه، والآخر الذي أظهره.
وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع، فقد روى المؤرخون أن سحرة فرعون استعانوا بالزئبق على إظهار الحبال والعصي بصور الحيات والثعابين حتى خيل إلى الناس أنها تسعى، كما قال تعالى: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه ٢٠/ ٦٦] من طريق تحمية الزئبق بالنار الموضوعة في أسراب، وتمدده بفعل الحرارة.
ب- ما يدعونه من حديث الجن والشياطين بالمواطأة مع قوم أعدوهم لذلك، وإطاعتها بالرقى والعزائم. وهذا كان فعل الكهان من العرب في
(١) وهم أبو جعفر الاسترابادي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري وطائفة.
248
الجاهلية، كانوا يوكلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات.
ج- السعي بالنميمة والوشاية والإفساد، من وجوه خفية لطيفة، يتم فيها تحريض الناس على بعضهم بعضا «١».
وقد وفق ابن خالدون بين الرأيين: فمن قال: إن للسحر حقيقة نظر إلى المرتبتين الأوليين، ومن قال بأنه لا حقيقة له، نظر إلى المرتبة الثالثة.
حكم السحر:
ليس تعلم السحر محظورا، وإنما الذي يحظر ويمنع هو العمل به، قيل لعمر بن الخطاب: فلان لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه. نقل ابن كثير عن أبي عبد الله الرازي المعتزلي أنه قال: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور «٢».
ومن السحر: ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدّعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق، فذلك كفر منه، ويقتل هذا الساحر، لأنه كافر بالأنبياء، يدّعي مثل آياتهم ومعجزاتهم.
وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات، فلا يقتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا، فيقتل به.
ولا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات، مما ليس في مقدور البشر، من مرض وتفريق وزوال عقل، وتعويج عضو، إلى غير ذلك، مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٤٥
(٢) المرجع السابق: ص ١٤٤
249
وأجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمّل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماوات وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل المنزلة عليهم، فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر.
الفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين السحر:
لا يصح لمؤمن أن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بأفعال السحرة، لقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه ٢٠/ ٦٩].
وهناك فرق واضح بين المعجزة والسحر القائم على وجوه التخييلات: وهو أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها. ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، لظهر عجزهم عنها.
أما مخاريق السحرة وتخييلاتهم فهي نوع من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، فما يظهر منها ليس على الحقيقة، ويعرف ذلك بالتأمل والبحث. ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما قام به «١».
والسحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه، ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد، والمعجزة لا يمكّن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها «٢».
وخلاصة القول: إن الساحر لا قدرة له على شيء من الأمور الخارقة، وإن
(١) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٩ [.....]
(٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٤٧
250
السحر يعتمد في الغالب على الخداع والتخييلات والتمويهات، وإن السحرة نصابون يسلبون أموال الناس، وهم في فقر دائم، ولو كانوا قادرين على ما يدعونه لأغنوا أنفسهم، وحققوا الأمجاد بإزالة الممالك، واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان، والاستغناء عن طلب ما في أيدي الناس، كما قال أبو بكر الجصاص الرازي «١».
يتبين مما ذكر ما يأتي:
١- السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفي.
٢- السحر كما وصفه القرآن تخيل يخدع الأعين، فيريها ما ليس كائنا أنه كائن.
٣- السحر إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها بعض الناس، ومنه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسي.
٤- حكاية القرآن: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا، وإنما هي حكاية لما كان معروفا عندهم.
٥- السحر لا يؤثر بطبعه ولا أثر له في نفسه، وإنما هو سبب، وما يترتب عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات بالأسباب، كما نصت الآية: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٠٢].
٦- دلت الآية على أن عمل السحر كفر وهو قول مالك وأبي حنيفة، لقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي من السحر، وقوله:
وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي بعمل السحر، وقوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي به وبتعليمه، وقوله عن هاروت وماروت: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٤٨
251
ورأى الشافعي أن السحر معصية: إن قتل بها قتل، وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والرأي الأول أصح، لأن السحر كلام يعظم به غير الله تعالى، مثل سحر أهل بابل الذي كان تعظيما للكواكب، وهو رأي عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى الأشعري وقيس بن سعد وسبعة من التابعين.
لكن تكفير السحرة محصور بمن يعظم الكواكب، ويسند الحوادث إليها، أو يزعم أنه يقدر على خوارق العادات، لأنه يدعي أنه يقدر على مثل معجزات الأنبياء.
أما الإفساد بالنميمة أو خفة اليد، دون ادعاء ما ذكر، فلا يكون كفرا، ولا يعد فاعله كافرا.
٧- عقوبة الساحر: للعلماء رأيان في قتل الساحر، قال الجمهور (أبو حنيفة ومالك وأحمد) : يقتل الساحر،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حدّ الساحر ضربه بالسيف»
«١» وإذا عمل المسلم السحر، كان مرتدا، فيقتل
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه».
ويقتل الساحر ولا تقبل توبته في رأي أبي حنيفة، سواء أكان مسلما أم ذميا، لأن الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد، فأشبه المحارب (قاطع الطريق). ولا يقتل الساحر الذمي في رأي مالك إلا أن يقتل بسحره، ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه «٢».
٧- أجاز سعيد بن المسيب والمزني أن يطلب من الساحر حل السحر عن المسحور، قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبّه: أن يأخذ سبع ورقات من
(١) أخرجه الترمذي عن جندب، لكنه ليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف.
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٥٠ وما بعدها، تفسير القرطبي: ٢/ ٤٧ وما بعدها.
252
سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
٨- تساءل ابن العربي بمناسبة وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فقال: كيف أنزل الله تعالى الباطل والكفر؟ ثم قال: كل خير أو شر أو طاعة أو معصية أو إيمان أو كفر منزّل من عند الله تعالى، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: ماذا فتح الليلة من الخزائن؟ ماذا أنزل الله تعالى من الفتن؟ أيقظوا أصحاب الحجر، ربّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة «١».
٩- هل هاروت وماروت ملكان؟ اختلف العلماء، فقال جماعة: هما ملكان بعثهما الله يبينان للناس بطلان ما يدعون حقيقته، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس، وينهيانهم عن العمل بها، يقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فكانا يعلمانهم للتحرز لا للعمل، لأن الملائكة أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم ٦٦/ ٦]، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٦- ٢٧]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء ٢٠/ ٢٠].
قال الزمخشري: والذي أنزل على الملكين هو علم السحر، ابتلاء من الله للناس، من تعلمه منهم وعمل به، كان كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه، لا ليعمل به، ولكن ليتوقاه ولئلا يغتربه، كان مؤمنا:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه وروي عن الحسن البصري: أنه كان يقرأ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٢٨، وانظر أيضا تفسير ابن كثير: ١/ ١٤٨
253
اللام، ويقول: كانا علجين «١» أقلفين (غير مختونين) ملكين ببابل، يأمران بالسحر ويتمسكان به.
أدب الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ومصدر الاختصاص بالرسالة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
الإعراب:
راعِنا جملة فعلية في موضع نصب ب تَقُولُوا ومن قرأ «راعنا» بالتنوين، نصبه ب تَقُولُوا على المصدر، أي لا تقولوا رعونة.
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من للبيان مِنْ خَيْرٍ من زائدة، والتقدير: خير من ربكم.
البلاغة:
مِنْ رَبِّكُمْ الإضافة للتشريف، وفيها تذكير للعباد بتربيته لهم. ومن لابتداء الغاية.
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ التصدير في الجملتين بلفظ الجلالة، للإيذان بفخامة الأمر.
المفردات اللغوية:
راعِنا أمر من المراعاة، أي راعنا سمعك أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه أو انظر في مصالحنا وتدبير أمورنا، وكان يقولون له ذلك، وهي بلغة اليهود سب من الرعونة وهي الجهل
(١) العلج: الواحد من كفار العجم.
254
والحمق، فسّروا بذلك، وخاطبوا بها النبي، فنهي المؤمنون عنها. وأمروا أن يقولوا بدلها:
انْظُرْنا أي انظر إلينا، أو انتظرنا وتأنّ علينا وأمهلنا أَلِيمٌ مؤلم وهو النار.
سبب نزول الآية (١٠٤) :
قال ابن عباس في رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعهم اليهود يقولونها للنبي صلّى الله عليه وسلّم أعجبهم ذلك، وكان «راعنا» في كلام اليهود سبا قبيحا، فقالوا: إنا كنا نسب محمدا سرا، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فإنه من كلامه، فكانوا يأتون نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن معاذ، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا الآية «١».
سبب نزول الآية (١٠٥) :
قال المفسرون: إن المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، قالوا: هذا الذي تدعوننا إليه، ليس بخير مما نحن عليه، ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم.
التفسير والبيان:
خاطب الله المؤمنين في هذه الآية في شأن مشترك بينهم وبين اليهود، موجها لهم إلى ما هو الأمثل في اختيار اللفظ الذي يبدأ به الكلام مع النبي صلّى الله عليه وسلّم،
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٨ ويلاحظ أن الواحدي ذكر «سعد بن عبادة» والذي عليه المفسرون أنه «سعد بن معاذ».
255
فكانوا يقولون إذا ألقى عليهم شيئا من العلم: راعنا سمعك، أي اسمع لنا ما نريد أن نسألك عنه، ونراجعك القول لنفهم عنك.
وكانت الكلمة راعِنا عند اليهود كلمة سب قبيح من الرعونة، فكانوا يخاطبون بها النبي قاصدين معنى السب والشتم، وأصلها في العبرية «راعينوا» أي شرير، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة، وأمرهم بكلمة تماثلها في المعنى، وتختلف في اللفظ، وهي انْظُرْنا التي تفيد معنى الإنظار والإمهال، كما تفيد معنى المراقبة التي تستفاد من النظر بالعين. وإجمال المعنى: أقبل علينا وانظر إلينا.
واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول وتدبر وإمعان، وللكافرين ومنهم اليهود عذاب مؤلم شديد، وفيه إشارة إلى أن ما صدر منهم من سوء أدب في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر، لأن من يصف النبي بأنه شرير، فقد أنكر نبوته. فهذا أدب للمؤمنين، وتشنيع على اليهود.
وأنتم أيها المؤمنون الذين عرفتم شأن اليهود مع أنبيائهم كونوا على حذر، فما يود أهل الكتاب ومشركو العرب أن ينزل عليكم خير من ربكم كالقرآن والرسالة، والكتاب الكريم أعظم الخيرات، فهو الهداية العظمى، وبه جمع الله شملكم ووحد صفوفكم، وطهر عقولكم من زيغ الوثنية، وأقامكم على سنن الفطرة، وهم يودون نزول الشر بكم وانتهاء أمركم وزوال دينكم.
وحسد الحاسد لا يمنع نعم الله، والله العليم القدير الحكيم يختص بالنبوة والرحمة والخير من يشاء من عباده: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤] ويعلم من يؤدي واجبه بشأنها خير أداء، فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا على خير أصابه، وفضل أوتيه من عند ربه، فالله وحده صاحب الفضل العظيم.
256
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان الآيتان تذكران شيئا من جهالات اليهود وقبائحهم، كما سبق، والمقصود نهي المسلمين عن مثل أفعال اليهود، وترسيخ عقيدتهم بأن مصدر الخير والرحمة واختيار من هو أهل للنبوة والرسالة هو الله تعالى، فلا يصح لأحد أن يحسد أحدا على ما آتاه الله من فضله، وبدئت الآية الأولى بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وهو أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة، من ثمانية وثمانين موضعا من القرآن ذكر فيها هذا الخطاب الدال على إقبال الله على المؤمنين، وتذكيرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله ونواهيه بأتم طاعة وأحسن امتثال.
وموضوع هذا الأدب الجميل: هو أن يتجنب المؤمن في مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ما قد يوهم الانتقاص أو الاستهزاء، ومنعا من استغلال الأعداء استعمال لفظة أو غيرها، وقد كان اليهود يعنون بكلمة راعِنا السب والشتم، ويخاطبون بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويضحكون فيما بينهم، فقال لهم سعد بن معاذ، وكان يعرف لغتهم: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله، لأضربنّ عنقه.
وفي تعبير وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ إيماء إلى أن ما صدر من اليهود من سوء الأدب في خطابه صلّى الله عليه وسلّم كفر لا شك فيه، لأن من يصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه «شرير» فقد أنكر نبوته، ومن فعل ذلك فقد كفر.
ففي هذه الآية (١٠٤) دليلان:
أحدهما- على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض من قدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يؤكد مذهب المالكية- وفي رواية عن أحمد- القائلين بوجوب حد القذف حال التعريض بالقذف، وخالفهم الحنفية والشافعية، وأحمد
257
في ظاهر الرواية عنه حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة.
الثاني- التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب الإمامين مالك وأحمد، والذريعة: عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع، أي أن كل وسيلة مباحة أدت إلى محظور أو ممنوع فهي حرام، وكل وسيلة أدت إلى مطلوب شرعا فهي مطلوبة، أي أن وسيلة الحرام حرام، ووسيلة الواجب واجبة، ووسيلة المباح مباحة.
وقوله تعالى: لا تَقُولُوا: راعِنا نهي يقتضي التحريم، سدا للذرائع، حتى لا يتخذ اللفظ المحتمل ذريعة لشيء قبيح. وقوله سبحانه: وَقُولُوا: انْظُرْنا أمر للمؤمنين أن يخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم بالإجلال. وقوله عز وجل:
وَاسْمَعُوا يفيد وجوب السماع لما أمر به ونهى جل وعز.
ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ على سد باب الحسد، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ أي بنبوته، خص بها محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه عنهم.
إثبات نسخ الأحكام الشرعية
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
258
الإعراب:
ما نَنْسَخْ ما شرطية في موضع نصب بفعل «ننسخ» و «ننسخ» مجزوم بها.
ونُنْسِها حذف منه المفعول الأول، وتقديره «ننسكها» أي نأمر بتركها، وهو مجزوم بالعطف على «ننسخ» المجزوم بما الشرطية، وجواب الشرط: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أي بالإضافة إلى مصالح العباد إليها في نفسها.
كَما سُئِلَ الكاف في موضع نصب، لأنها صفة لمصدر محذوف، أي: أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى. و «ما» في «كما» مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، أي: كسؤال موسى، والمصدر مضاف إلى المفعول.
البلاغة:
أَلَمْ تَعْلَمْ الاستفهام للتقرير، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: أمته، بدليل قوله تعالى:
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أما إظهار لفظ الجلالة بدل الضمير في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ ومِنْ دُونِ اللَّهِ فهو لتكوين المهابة في النفوس.
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ من إضافة الصفة للموصوف، أي الطريق السوي، وفيه تشنيع على من ظهر له الحق، فعدل عنه إلى الباطل.
المفردات اللغوية:
ما نَنْسَخْ النسخ في اللغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، أي أزالته. وفي الاصطلاح الشرعي: رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه. والإنساء: إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد تبليغه إياها، فمعنى نُنْسِها نبح لكم تركها، من نسي: إذا ترك، ثم تعدّى بالألف. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر. أَوْ مِثْلِها في التكليف والثواب. عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه النسخ والتبديل.
وَلِيٍّ الولي: القريب والصديق. والنصير: المعين، والفارق بينهما أن الولي قد يضعف عن النصرة، والنصير قد يكون أجنبيا عمن ينصره.
تَسْئَلُوا السؤال: الاقتراح المقصود به التعنت. يَتَبَدَّلِ بدل وتبدل واستبدل: جعل شيئا موضع آخر. ضَلَّ عدل وجار وأخطأ الطريق الحق. سَواءَ السَّبِيلِ السواء من كل شيء في الأصل: الوسط. ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات ٣٧/ ٥٥] والسبيل:
الطريق.
259
سبب نزول الآية (١٠٦) :
قال المفسرون: إن المشركين قالوا: أترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما في هذا القرآن إلا كلام محمد، يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا، مثل تغيير حد الزاني بالتعيير باللسان: فَآذُوهُما والزانية بالإمساك في البيوت: فَأَمْسِكُوهُنَّ... إلى الجلد، فأنزل الله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ الآية [النحل ١٦/ ١٠١] وأنزل أيضا: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [البقرة ٢/ ١٠٦].
سبب نزول الآية (١٠٧) :
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي كعب ورهط من قريش، قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا، ووسع لنا أرض مكة، وفجّر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال المفسرون: إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن قائل يقول: يأتينا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة، ومن قائل يقول: وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي: ائتني بكتاب من السماء، فيه من رب العالمين: إلى ابن أبي أمية، اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس، ومن قائل يقول: لن نؤمن لك، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رافع بن حزيمة ووهب بن زيد لرسول الله: يا محمد، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء، نقرؤه، أو فجّر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ إلى قوله: سَواءَ السَّبِيلِ.
260
سبب نزول الآية (١٠٨) وما بعدها:
كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود، حسدا للعرب، إذ خصّهم الله برسوله، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية (١٠٩).
وأخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، قال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ الآية.
التفسير والبيان:
نزل القرآن منجما مفرقا على وفق المناسبات والحوادث والوقائع، أخذا بمبدإ تربوي ناجح ألا وهو التدرج في التشريع لإصلاح المجتمع العربي الجاهلي تدريجيا، ومراعاة للمصالح، وتمكينا من التخلص من العادات والتقاليد الموروثة شيئا فشيئا، وإعدادا للحكم الشرعي المستقر، بتقبل النفوس له وتربيتها على وفق الغاية الشرعية بنحو بطيء، واقتناع عقلي ذاتي بأفق التشريع ومراميه البعيدة، فإذا توافرت المصلحة العامة للأمة بقي الحكم، وإن لم تتوافر عدّل أو بدل ونسخ.
والنسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر يكون إما بنسخ لفظ الآية ومعناها، أو أحدهما، أو بانتهاء الحكم المستفاد منها مع بقاء نصها. كل ذلك بحسب المصلحة أو الحاجة، كالطبيب الذي ينوّع الأدوية والأغذية باختلاف الأزمنة والأمزجة والأحوال الصحية، والأنبياء صلوات الله عليهم هم أطباء الأمة، ومصلحو النفوس، يوحى إليهم بتبديل الحكم الشرعي لمراعاة الأحوال الحاضرة أو المستقبلية، فما قد يصلح علاجا في الماضي قد لا يصلح في المستقبل. وذلك كله يدل على مرونة الإسلام.
261
وليس النسخ لظهور أو بداء المصالح الجديدة المقتضية لتغيير الحكم، فالله سبحانه الناسخ يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يتدرج في معالجة الأوضاع تبعا للظروف والأحوال، منعا من المفاجأة وأحكام الطفرة، كالتدرج في تحريم الخمر أو الربا الذي مرّ بمراحل أربع، والتدرج في تقرير أحكام الجهاد من سلم مطلق إلى إعداد النفوس، إلى فرضية القتال بحسب الضعف، ثم بحسب القوة وكثرة العدد.
ومعنى الآية: ما نغير حكم آية، أو نجعلك تنساها فلا تذكرها، أو نامر بتركها أو نؤجلها، إلا أتينا بما هو خير منها للعباد بكثرة الثواب إن كان الناسخ أثقل أو تحقيق المصلحة إن كان الناسخ أخف، أو مثلها على الأقل في التكليف والثواب.
قال الفخر الرازي: وقد جاء النسيان بمعنى الترك في قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه ٢٠/ ١١٥] أي فترك، وقال تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية ٤٥/ ٣٤]، وقال تعالى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه ٢٠/ ١٢٦].
ونسخ الحكم قد يكون ببدل أخف وأيسر، كنسخ عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، أو ببدل مساو كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة، أو بأشق منه وثوابه أكثر كنسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين، ونسخ حبس الزناة في البيوت إلى الجلد، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان لأنه كما
في الحديث الثبت: «أفضل الأعمال أحمزها»
أي أشقها، وقد تكون الخيرية بإسقاط التكليف لا إلى بدل في رأي جمهور الأصوليين، مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونسخ ادخار لحوم الأضاحي، ونسخ تحريم المباشرة في ليالي رمضان، بقوله سبحانه:
فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة ٢/ ١٨٧]، ونسخ وجوب الإمساك بعد النوم في ليالي
262
رمضان، ونسخ قيام الليل في حقه صلّى الله عليه وسلّم.
أليس الله على كل شيء قدير؟ فالله القادر على كل شيء لا يصعب عليه نسخ الأحكام.
وأليس الله ملك السموات والأرض؟ فهو يملك كل ما في الكون أرضه وسمائه، ويتصرف بحسب إرادته ومشيئته، ويدبر الأمور حسبما يرى من المصلحة، فله أن ينسخ ما شاء من الأحكام.
وليس لكم ولي سواه يتولى أموركم، ولا ناصر ولا معين ينصركم ويعينكم غير الله وحده. وفي هذا نصح للمسلمين أن يعملوا بما يأمرهم به رسولهم، وينتهوا عما نهاهم عنه.
ثم أتبع التحذير بالوعيد لمن يطلب المعجزات تعنتا وعنادا، فمن يترك الثقة بالآيات المنزلة بحسب المصالح، ويطلب غيرها معاندة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما طلبت اليهود من موسى عليه السّلام أن يريهم الله جهرة، فقد اختار الكفر على الإيمان، وضلّ عن الحق، وترك السبيل السوي كما قال تعالى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ؟ [يونس ١٠/ ٣٢]. ومعنى قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا بل تريدون، أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعمّ المؤمنين والكافرين، فإنه عليه السلام رسول الله إلى الجميع.
وقوع النسخ:
النسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع ما عدا اليهود والنصارى، وواقع شرعا بإجماع المسلمين، ما عدا أبا مسلم الأصفهاني.
ودليل الجواز العقلي: أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال، وهو معنى الجواز، لأن أحكام الله تعالى إن لم يراع في شرعيتها مصالح العباد، فذلك تابع
263
لمشيئة الله، والنسخ فعل لله، والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فقد يأمر بالفعل في وقت، وينهى عنه في وقت، كما أمر بالصيام في نهار رمضان، ونهى عنه في يوم العيد.
أما لو راعينا في أحكام الله مصالح العباد، وأن التشريع قائم على أساس المصالح، كما تقول المعتزلة، فالمصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فما قد يكون مصلحة لشخص أو في زمن، قد لا يكون مصلحة لشخص آخر أو في زمن آخر، وما دامت المصالح تتغير، والأحكام يراعى في تشريعها مصالح الناس، فإن النسخ أمر ممكن غير محال، ويكون جائزا عقلا.
وأدلة وقوع النسخ فعلا كثيرة.
منها: إجماع الصحابة والسلف على أن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم ناسخة لجميع الشرائع السابقة، أي في غير أصول العقيدة والأخلاق، مثل تحريم الشحوم، وكل ذي ظفر على اليهود بسبب ظلمهم، وأكلهم أموال الناس بالباطل بالربا وغيره.
ومنها: الإجماع على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس، باستقبال الكعبة، وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعفو عنه.
أما أبو مسلم الأصفهاني من علماء التفسير المتوفى سنة ٣٢٢ هـ، فإنه أجاز النسخ مطلقا بين الشرائع، كما هو المشهور عنه، ولكنه منع وقوعه في الشريعة الواحدة، مستدلا بقول الله تعالى في صفة القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤٢] فلو وقع النسخ في القرآن، لأتاه الباطل. وأجيب بأن النسخ إبطال، لا باطل، لأن النسخ حقّ وصدق، والباطل ضدّ الحقّ، كل ما في الأمر أن يصبح حكم المنسوخ غير معمول
264
به، فلا دلالة في الآية على مطلوب الأصفهاني.
ثم إن كل آية قيل فيها: إنها منسوخة، فإنه يؤولها تأويلا إما بالتخصيص، أو بانتهاء أمد الحكم الشرعي، أو بالتقييد ببعض الأحوال، أو الأشخاص، ونحو ذلك، كما فعل في آيات العدة وآيات القتال وغيرها الآتية.
أنواع النسخ:
للنسخ أحوال تسع أهمها ثلاث:
١- نسخ التلاوة والحكم معا: مثل نسخ صحف إبراهيم وموسى والرسل السابقين، ومثل نسخ عدد الرضعات من عشر إلى خمس،
قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم وغيره: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس رضعات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهن فيما يتلى من القرآن»
والقسم الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والقسم الثاني وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية.
٢- نسخ التلاوة دون الحكم: مثل قول عمر رضي الله عنه: «كان فيما أنزل:
الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة، نكالا من الله ورسوله»
ثبت في الصحيح: أن هذا كان قرآنا يتلى، ثم نسخ لفظه، وبقي حكمه.
وأضاف الحنفية أمثلة أخرى من القراءات الشاذة، مثل قراءة ابن مسعود في صوم كفارة اليمين: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وقراءة ابن عباس: «فأفطر فعدّة من أيام أخر» وقراءة سعد بن أبي وقاص: «وله أخ أو أخت لأم، فلكل واحد منهما السدس».
٣- نسخ الحكم دون التلاوة: وهو كثير، مثل نسخ حكم آية الوصية للوالدين والأقربين، ونسخ آية الاعتداد بحول كامل، ونسخ آية الحبس للمرأة في
265
البيوت، وإيذاء الرجل باللسان في حدّ الزنا، ونسخ آية تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
ويجوز بالاتفاق نسخ نص القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة بمثلها، وخبر الآحاد بمثله وبالمتواتر.
ويجوز عند الأكثرين نسخ المتواتر بالآحاد أي نسخ القرآن بغير القرآن، والمتواتر بغير المتواتر، ونفى الشافعي وقوعه وقال: لا ينسخ القرآن بالسنة، ولا السنة بالقرآن، واستدل بقوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها دلت الآية على أن الآتي بالبدل هو الله سبحانه، وهو القرآن، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن، لا السنة، وأيضا فإن الله جعل البدل خيرا من المنسوخ أو مثلا له، والسنة ليست خيرا من الكتاب ولا مثلا له، فلا تكون ناسخة له. ثم إن الآية ذيلت ببيان اختصاص ذلك التبديل بمن له القدرة الكاملة، وهو الله تعالى، فكان النسخ من جهته فقط، وهو القرآن، لا السنة. ويؤيد ذلك قوله تعالى:
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل ١٦/ ١٠١] حيث أسند التبديل إلى نفسه، وجعله في الآيات.
وأجيب بأن السنة من عند الله كالقرآن، لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم ٥٣/ ٣- ٤] إلا أن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته، والسنة ليست كذلك. والمراد بالخيرية والمثلية هو في الأحكام بحسب مصلحة الناس، لا في اللفظ، فيكون الحكم الناسخ خيرا من الحكم المنسوخ لاشتماله على تحقيق مصالح العباد، وقد تأتي السنة بما هو أنفع للمكلف، مما يدل على أن هذه الآية ليست دالة على أن القرآن لا ينسخ بالسنة.
وقد وقع نسخ القرآن بالسنة في آية الوصية
بالحديث المتواتر: «لا وصية لوارث».
266
وقال الشافعي أيضا: لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، ويتطلب كون الناسخ سنة أيضا، لأن الله تعالى في قوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل ١٦/ ٤٤] جعل السنة بيانا، فلو نسخت قرآنا، خرجت عن كونها بيانا، وذلك غير جائز.
وأجيب: بأن المراد بالبيان هو التبليغ، سواء بالقرآن وغيره.
المراد بالآية في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ:
ذهب الإمام محمد عبده إلى أن الآية لا يراد منها الآية القرآنية، بل المراد المعجزات الدالة على صدق الرسل، حيث يبدل الله معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده، استدلالا بقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وأجيب بأن هذه الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة، فهي في نسخ الأحكام المقررة بالآيات. والمراد بالآية إذا أطلقت: القطعة من السورة المتضمنة أمرا أو نهيا أو غير ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أجمع السلف على وقوع النسخ في الشريعة، ودلت وقائع ثابتة على وقوعه، بغض النظر عن التعسف في تأويل الآيات المنسوخة، وليس النسخ جهلا بالحكم الأخير، أو من باب البداء، بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لنوع من المصلحة التشريعية الملائمة لحاجات الناس، إظهارا لحكمة الله، وكمال ملكه، ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء (الظهور بعد الخفاء أو ظهور مصلحة لم تكن ظاهرة للمشرع) لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك، فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى
267
ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال على الله تعالى.
وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، والفرق بين النسخ والبداء: أن النسخ تحويل العبادة من شيء قد كان حلالا فيحرّم، أو كان حراما فيحلّل. وأما البداء: فهو ترك ما عزم عليه، وهذا يلحق البشر لنقصانهم.
والناسخ في الحقيقة هو الله تعالى، والنسخ: إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخ عنه.
والمنسوخ: هو الحكم الثابت نفسه، لا مثله، كما تقول المعتزلة: بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. وقادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الحسن صفة ذاتية للحسن لا تفارقه، ومراد الله حسن.
والفرق بين التخصيص والنسخ أن الأول قصر للحكم على بعض الأفراد، والثاني قصر له على بعض الأزمان.
وجمهور العلماء على أن النسخ يختص بالأوامر والنواهي، وأما الأخبار فلا يدخلها النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ثم تقيد في موضع آخر، فيرتفع ذلك الإطلاق، فليس هو من قبيل نسخ الأخبار، وإنما هو من باب الإطلاق والتقييد، مثل قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة ٢/ ١٨٦] ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكنه قيّد في موضع آخر، وهو قوله تعالى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام ٦/ ٤١].
268
موقف أهل الكتاب من المؤمنين وكيفية الردّ عليه
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
الإعراب:
لَوْ مصدرية. كُفَّاراً إما مفعول ثان «ليردونكم» أو منصوب على الحال من الكاف والميم في «يردونكم». حَسَداً مفعول لأجله، أي لأجل الحسد. مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إما متعلق «بودّ» أو «بحسد» والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
الحسد تمني زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا اتركوهم، والعفو: ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا أعرضوا فلا تجاوزهم، والصفح: إزالة أثر الذنب من النفس أو الإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهو يشمل ترك العقاب وترك اللوم والتثريب. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ نصره ومعونته، وما يأمر فيهم من القتال والقتل، وهو قتل بني قريظة، وإجلاء يهود بني النضير وفرض الجزية عليهم. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم.
سبب نزول الآية (١٠٩) :
قال ابن عباس: نزلت في نفر من اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق، ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.
269
المناسبة العامة للآية (١٠٩) :
بعد أن نهى الله سبحانه في الآيات السالفة عن الاستماع لنصح اليهود ورفض آرائهم، ذكر هنا وجه العلّة، وهي أنهم يحسدون المسلمين على نعمة الإسلام ويتمنون أن يحرموا منها، فهم لا يكتفون بكفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود، وإنما يتمنون أن يرتد المسلمون عن دينهم.
التفسير والبيان:
تمنى كثير من اليهود والنصارى أن يصرفوا المسلمين عن دينهم وأن يعودوا كفارا بعد أن كانوا مؤمنين، حسدا لهم، عن طريق التشكيك في الدين وإلقاء الشبه على المؤمنين، وطلب بعضهم من بعض أن يؤمنوا أوّل النهار ويكفروا آخره، ليتأسى بهم بعض ضعاف الإيمان.
وسبب ذلك: الحسد الكامن والخبث الباطن في نفوسهم، لا ميلا مع الحق، ولا رغبة فيه. ومدعاة التمني: هو ما ظهر لهم بالدليل الواضح أن الإسلام دين الحق الصحيح، وأن محمدا على الحق، فاعفوا عنهم أيها المسلمون واصفحوا عن أفعالهم، واصبروا حتى يأتي نصر الله لكم، ويأذن الله بالقتال، ويأتي أمره فيهم:
وهو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم، والله هو القادر على تحقيق النصر: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج ٢٢/ ٤٠].
ثم نبّه الله سبحانه إلى بعض وسائل النصر الذي وعدوا به: وهو أداء الصلاة كاملة الأركان، تامة الأوصاف، وأداء الزكاة للفقراء، ففي الصلاة تتوطد دعائم الإيمان، وتتقوى الصلة بالله والثقة به، وتتوثق روابط الأخوة بالاجتماع في المساجد، وفي الزكاة تتحقق سعادة المجتمع بإغناء الفقراء، وتتجلى وحدة الأمة بتكافل أبنائها، وتعاضد فئاتها، وثواب كل ذلك مرصود لكم في الآخرة، فكل ما تعملونه من خير، تجدون جزاءه الكامل عند ربكم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
270
خَيْراً يَرَهُ
[الزلزلة ٩٩/ ٧] والله عالم بجميع أعمالكم، بصير بقليلها وكثيرها، لا تخفى عليه خافية، من خير أو شرّ، فالصلاة والزكاة من أسباب النصر في الدنيا، وكذلك من أسباب السعادة في الآخرة، بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
فقه الحياة أو الأحكام:
يحذر الله تعالى عباده المؤمنين من سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من حسد المؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو، أو الاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح.
ويأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: كان حييّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصّهم الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ، لَوْ يَرُدُّونَكُمْ.
والحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا. وهذا النوع الذي ذمّه الله تعالى في كتابه بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء ٤/ ٥٤] وإنما كان مذموما، لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق.
وأما المحمود وهو المسمى بالغبطة أو المنافسة، فهو ما
جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السّلام: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو
271
يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار»
وحقيقته: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة، ولا يزول عنه خيره. وفي أمره تعالى لهم بالعفو والصفح إشارة إلى أن المؤمنين على قلّتهم، هم أصحاب القدرة والشوكة، لأن الصفح لا يكون إلا من القادر.
أخرج ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد- وأصله في الصحيحين-: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى
، قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة ٢/ ١٠٩]. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأوّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش.
وقد جرت سنة الله في القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، لما في الصلاة من إصلاح حال الفرد، ولما في الزكاة من إصلاح حال المجتمع، وكلاهما من أسباب السعادة الدنيوية والأخروية، بدليل ما أردف الله تعالى الأمر بهما بقوله: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ
جاء في الحديث: «إن العبد إذا مات، قال الناس: ما خلف؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟».
ودلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ على أنه مهما فعل الناس من خير أو شرّ، سرا وعلانية، فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. وهذا الكلام وإن خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا، وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدّوا في طاعته، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١١٠].
وثبت في الحديث: «إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة
272
جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»
«١». وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرّ ببقيع الغرقد «٢»، فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب، أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه». وثبت مثله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
فمن مواعظه أنه كان إذا دخل المقبرة قال: السلام عليكم أهل هذه الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، ثم قال: أما المنازل فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما عندكم؟ والذي نفسي بيده لو أن لهم في الكلام لقالوا: إن خير الزاد التقوى.
رأي كل فريق من اليهود والنصارى في الآخر
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
(١) رواه البخاري في الأدب ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
(٢) بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة.
273
الإعراب:
هُوداً جمع هائد، أي تائب، من قوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف ٧/ ١٥٦] أي تبنا، وهو خبر كان المنصوب.
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الجملة حال.
البلاغة:
تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ جملة اعتراضية لإبطال دعواهم، مكونة من مبتدأ وخبر. قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر للتبكيت والتقريع.
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ خصّ الوجه بالذكر، لأنه أشرف أجزاء الإنسان. والوجه هاهنا استعارة، والمعنى: من أخلص نفسه له، لا يشرك به غيره، ولا يعبد سواه. عِنْدَ رَبِّهِ العندية للتشريف، وإظهار اسم الرب محل الضمير لإظهار مزيد اللطف به.
قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فيه توبيخ شديد لأهل الكتاب، لأنهم جعلوا أنفسهم بمنزلة من لا يعلم شيئا أصلا.
المفردات اللغوية:
هُوداً جمع هائد، وهم اليهود. أَوْ نَصارى أتباع المسيح، قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، لما تناظروا بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، أي قال اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، وقال النصارى: لن يدخلها إلا النصارى. تِلْكَ القولة أَمانِيُّهُمْ شهواتهم الباطلة، الأماني: جمع أمنية، وهي ما يتمناه المرء ولا يدركه. والعرب تسمي كل ما لا حجة عليه ولا برهان له تمنيا وغرورا، وضلالا وأحلاما. هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجتكم على ذلك.
بَلى يدخل الجنة غيرهم، وهو مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ جعل وجهه خالصا لله، وانقاد له، فإسلام الوجه لله: هو الانقياد له والإخلاص له في العمل، بحيث لا يتخذ وسيطا بينه وبين ربه. وخصّ الوجه، لأنه أشرف الأعضاء، فغيره أولى، قال الفخر الرازي: إسلام الوجه لله يعني إسلام النفس لطاعة الله، وقد يكنى بالوجه عن النفس، كما قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
[القصص ٢٨/ ٨٨]. وَهُوَ مُحْسِنٌ موحّد. فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ثواب عمله الجنة. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.
عَلى شَيْءٍ معتد به، وكفرت اليهود بعيسى، وكفرت النصارى بموسى. يَتْلُونَ الْكِتابَ كل من الفريقين يتلون الكتاب المنزل عليهم، وفي كتاب اليهود تصديق عيسى، وفي
274
كتاب النصارى تصديق موسى. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ اي كما قال المشركون من العرب وغيرهم. مِثْلَ قَوْلِهِمْ بيان لمعنى ذلك، أي قالوا لكل ذي دين: ليسوا على شيء. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. في أمر الدين، فيدخل المحق الجنة، والمبطل النار.
سبب نزول الآية (١١٣) :
نزلت في يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران، وذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، فكفروا بموسى والتوراة، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
التفسير والبيان:
لقد نجم عن عدم إيمان أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم ضلال وتمزق وانقسام شديد بسبب اتباع الأهواء، أما اليهود وهم أسوأ حالا من النصارى فلهم حالان: الأولى- تضليل من عداهم، وادعاؤهم أنهم شعب الله المختار، وأن النبوة مقصورة عليهم. والثانية- تضليل اليهود للنصارى، وتضليل النصارى لهم، مع ان التوراة شريعة للنصارى، والإنجيل متمم للتوراة.
ومعنى الآية: أن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، وكل طائفة منهما تكفّر الأخرى. تلك تمنياتهم الباطلة التي لا أساس لها، ولا فائدة منها، وإلا فهاتوا البرهان على ما تزعمون أيها اليهود والنصارى، إن كنتم صادقين، فليست المسألة مجرد دعوى. وهذا وإن كان ظاهره طلب الدليل على صدق المدّعى، فهو في
(١) البحر المحيط: ١/ ٣٥٠
275
العرف تكذيب للدعوى، لأنه لا برهان لهم عليها. وفي هذا إيماء إلى أنه لا تقبل دعوى من دون برهان عليها.
ثم ردّ الله عليهم بقوله: بَلى كلمة تفيد الجواب لإثبات نفي سابق، وردّ لما زعموه، فإن الذي يدخل الجنة من لم يكن هودا أو نصارى، وهو كل من انقاد لله وأخلص في عمله، وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء لهم الأجر عند ربهم بلا خوف ولا حزن في الآخرة، خلافا لعبدة الأوثان والأصنام الذين هم في خوف مما يستقبلهم، وحزن مما ينزل بهم.
والآية تدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بدّ من إحسان العمل أيضا، وجرت سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح، مثل قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء ٤/ ١٢٤] وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء ٢١/ ٩٤].
واشتدّ الخصام والنزاع بين أهل الكتاب، فلم يكتفوا بما سبق، بل قالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين يعتدّ به، فلا يؤمنون بالمسيح الذي بشّرت به التوراة، ولا يزالون إلى اليوم يدّعون أن المسيح المبشّر به لما يأت بعد، وينتظرون ظهوره، وإعادته الملك إلى شعب إسرائيل. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء من الدين الصحيح، فأنكروا تتميم المسيح لشريعة اليهود.
قالوا ذلك والحال أنهم أصحاب كتاب يدّعون تلاوته ويؤمنون به، فالتوراة تبشر برسول منهم يأتي بعد موسى، والإنجيل يقول: إن المسيح جاء متمما لناموس (شريعة) موسى، لا ناقضا، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة، والنصارى تؤمن بالإنجيل، لما قالوا مثل ذلك، لأن كل كتاب نزل من عند الله، مصدقا لما
276
سبقه، ومبشرا لما يأتي بعده، وكل منهما مشروع في وقت، والمعنى: أن دينهم واحد، ترك كل فريق منهم بعضه، وكتاب كل منهم حجة عليهم.
وهم في هذا الموقف لا يؤمنون بشيء، ولقد قال المشركون عبدة الأوثان الذين لا يعلمون شيئا لعدم وجود كتاب سماوي لديهم مثل مقالة أهل الكتاب، فقالوا لأهل كل دين: لستم على شيء، والله يحكم بين الجميع يوم القيامة بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، فهو العليم بما عليه كل فريق من حق أو باطل، ويجازيهم على بطلانهم أشدّ الجزاء، وأما الجنة: فهي لمن أخلص العبادة لله، وانقاد له، وأخلص نفسه لربه، لا يشرك به غيره، وهو محسن أي عامل بأوامر الله، متجنب نواهيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن من شأن أهل الكتاب أن يؤمن كل فريق بكتاب الآخر، ثم يؤمنون جميعا بالقرآن، لأنهم على علم بأصول الدين والوحي، وإقرار بمبدإ النبوة، واعتراف بوجود الإله، خلافا لكفار العرب المشركين عبدة الأصنام والأوثان، لأنهم لا كتاب لهم.
فلا مسوغ لوقوع التنازع والتناقض والتباغض والتعادي والتعاند بين اليهود والنصارى، وما عليهم إلا أن يعملوا ويؤمنوا بكل ما جاء في كتابهم، فيهتدوا إلى الإيمان الحق، والتصديق برسالة كل نبيّ آت.
وطريق النجاة لكل إنسان: هو الإيمان الخالص لله، المتضمن تمام الخضوع والانقياد لأمر الله، المنزّه عن كل شرك، القائم على العمل الصالح والعبادة الخالصة لله عزّ وجلّ، فلا ينفع الإيمان وحده دون اقترانه بالعمل الصالح.
وليس لأحد أو شعب أن يدّعي أنه أحق برحمة الله دون غيره، لأن الله ربّ العالمين، يجازي كل إنسان بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولا تقبل
277
دعوى أحد من غير برهان، فمن ادّعى نفيا أو إثباتا، فلا بدّ له من الدليل، وتدل الآية على بطلان التقليد: وهو قبول الشيء بغير دليل. والقرآن ذاته مليء بالاستدلال على القدرة والإرادة والوجود والوحدانية بالآيات الكونية والأدلة العقلية، ويكفي دليلا على وجوده تعالى الخلق والإبداع والتكوين، كما يكفي دليلا على وحدانيته عدم صلاح الكون والعالم بتعدّد الآلهة كما قال تعالى:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء ٢١/ ٢٢].
ظلم مانع الصلاة في المساجد، وصحة الصلاة في أي مكان
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
الإعراب:
وَمَنْ أَظْلَمُ مبتدأ وخبر، ولما كان معنى هذا الاستفهام النفي كان خبرا. أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في منصوب: إما بدل من مَساجِدَ بدل اشتمال، كقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ [البروج ٨٥/ ٤- ٥] وإما مفعول لأجله، أي لئلا يذكر فيها اسمه، وكراهة أن يذكر فيها اسمه، كقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء ٢١/ ٣١] أي لئلا تميد بهم، وكقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦] أي لئلا تضلوا، وكراهة أن تضلوا.
ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ: أَنْ يَدْخُلُوها في موضع رفع، لأنه اسم كانَ ولَهُمْ الخبر، وخائِفِينَ منصوب على الحال من واو يَدْخُلُوها.
278
البلاغة:
وَمَنْ أَظْلَمُ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أظلم منه. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ التنكير للتهويل أي خزي هائل لا يوصف.
عَلِيمٌ صيغة مبالغة، أي واسع العلم.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ أَظْلَمُ استفهام إنكاري ويفيد النفي. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
والمسجد: موضع العبادة لله تعالى. وَسَعى فِي خَرابِها تخريبها وهدمها وتعطيلها، نزلت إخبارا عن الروم الذين خربوا بيت المقدس، أو في المشركين لما صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية عن البيت.
أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ خبر بمعنى الأمر، أي أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد آمنا. خِزْيٌ ذلّ وهوان بالقتل والسبي وفرض الجزية. عَذابٌ عَظِيمٌ هو النار.
فَثَمَّ هناك. وَجْهُ اللَّهِ جهته وقبلته التي رضيها. واسِعٌ يسع فضله كل شيء، فلا يحصر ولا يتحدد. عَلِيمٌ شامل العلم بتدبير خلقه.
سبب نزول الآية (١١٤) :
هناك روايتان عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، ففي رواية الكلبي عنه: نزلت في ططلوس الرومي وأصحابه من النصارى، وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وحرفوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف.
وقال قتادة: هو بختنصر وأصحابه غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس: نزلت في مشركي أهل مكة، ومنعهم المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن قريشا منعوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ الآية.
279
وأخرج ابن جرير عن أبي زيد قال: نزلت في المشركين، حين صدوا رسول الله عن مكة يوم الحديبية.
ورجح ابن العربي أنها نزلت في صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل بيت المقدس، ثم عاد فصلّى إلى الكعبة، فاعترضت عليه اليهود، فأنزلها الله تعالى له كرامة، وعليهم حجة، كما قال ابن عباس.
وعلى أي حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فتشمل أهل الكتاب ومن على شاكلتهم، وينطبق على ما وقع من تيطس الروماني الذي دخل بيت المقدس بعد موت المسيح بنحو سبعين سنة، وخربها، وهدم هيكل سليمان، وأحرق بعض نسخ التوراة، وكان المسيح قد أنذر اليهود بذلك. كما ينطبق على مشركي مكة الذين منعوا النّبي وأصحابه من دخول مكة، وكذلك على الصليبيين الذين أغاروا على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين، وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد، ويتكرر الأمر من اليهود في الوقت الحاضر بتخريب كثير من مساجد فلسطين، وإحراق المسجد الأقصى، ومحاولات هدمه المتكررة.
المناسبة:
ذكر النصارى في قوله: وَقالَتِ النَّصارى: لَيْسَتِ الْيَهُودُ وذكر المشركون في قوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وفي أي فريق نزلت هذه الآية بسببه، كان ذلك مناسبا لذكرها.
التفسير والبيان:
لا ظلم ولا اعتداء على الحرمات أشد من منع العبادة في المساجد العامة، والسعي في تخريبها وهدمها أو تعطيل وظائفها وشعائر الدين فيها، لما في ذلك من انتهاك حرمة الدين المؤدي إلى نسيان الخالق، وإشاعة المنكرات والفساد بين
280
الناس. وما كان ينبغي لهؤلاء المخربين أو المعطلين أن يدخلوها إلا بخشية ومهابة وخوف من عظمة الله والدين وسطوة الإسلام والمسلمين. وقد توعدهم الله بالذل والهوان في الدنيا، كما حل بالرومان الذين تشتت ملكهم، وبالعذاب الشديد في الآخرة في جهنم وبئس المصير.
وإذا حيل بين المسلم وبين المساجد، فله أن يصلي في أي مكان، وأينما توجه المصلي فهو متجه إلى الله، فلله جهة المشرق والمغرب أي أن ذلك له ملك وخلق، فتجوز الصلاة إليه، والله تعالى عنه راض، مقبل عليه، وهو معه، لأن الله تعالى واسع لا يحده مكان، ولا ينحصر ولا يتحدد بجهة، وواسع العلم يعلم كل من اتجه إليه.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن تدمير المساجد أو الصد عنها جرم عظيم، لا يرتكبه إلا من فقد الإيمان، وعادى جوهر الدين، واتبع الأهواء، وحارب الأخلاق والفضائل، ولم يقدم على تلك الجريمة في الماضي أو في العصر الحاضر، سواء في ديار الإسلام أو غيرها إلا الملحدون المارقون من الدين، الذين يبتغون نشر الإلحاد وتقويض دعائم الدين والإسلام.
ومن حمد الله أن دين الإسلام دين السعة واليسر، وبلاد الله تسع المؤمنين، فلا يمنعهم تخريب مساجد الله أن يولوا وجوههم نحو قبلة الله، أينما كانوا في أرض الله.
وقد نزلت الآية (١١٥) - كما ذكر ابن جرير الطبري- قبل الأمر بالتوجه إلى استقبال الكعبة في الصلاة، وفيها إبطال ما كان يعتقده أرباب الملل السابقة من أن العبادة لا تصح إلا في الهياكل والمعابد.
وبعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة يظل المقصود من الآية قائما، فهي تقرر
281
أمرا اعتقاديا له صلة بالإيمان الذي يعمر به قلب المؤمن، فأينما كان المؤمنون من شرق وغرب، فثمّ وجه الله الذي أمرنا باستقباله، وهو الكعبة.
والحكمة من الاتجاه إلى القبلة، بالرغم من أن القصد هو الله الذي لا يحده مكان، هو توحيد وجهة العابدين، وتجميع مشاعرهم وعواطفهم في إطار هدف واحد، ولأنه لما كان من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود، وهو بهذه الطريقة محال على الله، لأن ذاته تعالى ليست محصورة في شيء من خلقه، شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه، وجعل استقباله كاستقبال وجه الله تعالى.
قال ابن العربي: إن الله تعالى أمر بالصلاة عبادة، وفرض فيها الخشوع استكمالا للعبادة، وألزم الجوارح السكون، واللسان الصمت إلا عن ذكر الله تعالى، ونصب البدن إلى جهة واحدة، ليكون ذلك أنفى للحركات، وأبعد للخواطر، وعينت له جهة الكعبة تشريفا له «١».
والخلاصة: هل الآية (١١٥) منسوخة؟ للعلماء رأيان «٢» :
رأي يقول: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذنا من الله أن يصلي المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة وشدة الخوف.
ورأي الجمهور: أنها منسوخة، وفيها تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة، وفارقوا مسجدهم ومصلاهم، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بمكة إلى بيت المقدس، والكعبة بين يديه. فلما قدم المدينة، وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد، ولهذا
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٣٥
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ١٥٧ وما بعدها.
282
يقول تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١١٥].
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: قال ابن عباس:
أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا- والله أعلم- شأن القبلة، قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.. الآية.
فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق، ونسخها، فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة ٢/ ١٥٠].
حكم الخطأ في الاتجاه لغير القبلة:
إذا صلّى الإنسان في أثناء الغيم لغير القبلة مجتهدا، ثم بان له بعدئذ أنه صلّى لغير القبلة، فإن صلاته جائزة عند الجمهور (أبي حنيفة ومالك وأحمد)، لكن في رأي مالك تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلّى وحده، ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة، أنه يعيد معهم. ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرّق أو غرّب جدا مجتهدا. وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا، فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وقال الشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة.
صلاة النافلة على الراحلة:
لا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة، لما
أخرجه مسلم عن ابن عمر، قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي، وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١١٥].
283
واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة (أقل من ٨٩ كم)، فقال المالكية والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يتطوع فيها، كانت مما تقصر فيه الصلاة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وداود الظاهري: يجوز التطوع على الراحلة، خارج المصر، في كل سفر، سواء أكان مما تقصر فيه الصلاة أم لا، لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر يجوز فيه ذلك، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له «١».
الصلاة على الغائب:
أجاز الشافعي الصلاة على الغائب، بدليل أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى بأصحابه سنة تسع من الهجرة على النجاشي ملك الحبشة- واسمه أصحمة، وهو بالعربية:
عطية، وقد تساءل الصحابة: كيف نصلي على رجل مات، وهو يصلي لغير قبلتنا؟ فنزلت الآية: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران ٣/ ١٩٩] «٢» لكن هذا الخبر غريب جدا وهو مرسل أو معضل.
المقصود بوجه الله في القرآن والسنة:
اختلف الناس في تأويل الوجه المصاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة «٣»، فقال جماعة: ذلك من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد (المخلوق) وأجلها قدرا. والمراد بمن له الوجه: أي الوجود، وعليه يتأول قوله تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الدهر ٧٦/ ٩]. المراد به: لله الذي له الوجه.
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٨٠- ٨١
(٢) المصدر السابق [.....]
(٣) المصدر السابق: ٢/ ٨٣
284
وكذلك قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى [الليل ٩٣/ ٢٠]. أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه: عبارة عنه عز وجل، كما قال: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٧]، ومعنى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: فثمّ الله.
وهذا يدل على نفي الجهة والمكان عنه تعالى، لاستحالة ذلك عليه، وأنه في كل مكان بعلمه وقدرته.
وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى وهذا أولى وأحوط.
افتراءات أهل الكتاب والمشركين بنسبة الولد لله والمطالبة بتكليمه الناس
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَيُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
الإعراب:
بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّما رفع بالابتداء، والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. فَيَكُونُ قرئ بالرفع والنصب، فمن قرأ بالرفع جعله عطفا على قوله تعالى: يَقُولُ تقديره: فهو يكون. ومن قرأ بالنصب، اعتبر لفظ الأمر، وجواب الأمر بالفاء منصوب، والنصب ضعيف، لأن «كن» ليس بأمر في الحقيقة.
285
البلاغة:
سُبْحانَهُ جملة اعتراضية لإبطال دعوى الظالمين الذين زعموا لله الولد. كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ استعمال صيغة جمع العقلاء في قانِتُونَ للتغليب أي تغليب العقلاء على غيرهم للتشريف.
المفردات اللغوية:
سُبْحانَهُ تنزيها له عما يصفون، وتعجبا مما يقول الجاهلون. قانِتُونَ منقادون، والقنوت: الخضوع والانقياد.
بَدِيعُ مبدع، والإبداع: هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق.
قَضى أراد. أَمْراً أي إيجاده.
هلا. والآية: الحجة والبرهان. والتشابه: التماثل. واليقين: هو العلم القاطع بالدليل والبرهان.
المناسبة وسبب النزول:
دلت الآيات السابقة على زعم اليهود أن الجنة خاصة بهم، وزعموا أيضا كما تفيد الآية هنا أن عزيرا ابن الله، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وزعم المشركون أن الملائكة بنات الله، فأكذبهم الله جميعا بالدليل القاطع.
فهذه الآية (١١٦) نزلت في اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
وأما سبب نزول الآية (١١٨) : فهو ما
أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن عباس، قال: قال رافع بن خزيمة لرسول الله: إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله: فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
الآية.
286
وحكى القرطبي: يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد، قال ابن كثير: وهو ظاهر السياق «١».
التفسير والبيان:
قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، ولا فرق بين أن يصدر هذا القول من الجميع أو البعض، فإن أفراد الأمة متكافلون في كل ما يعملون وما يقولون. سبحانه وتعالى تنزيها له عما يدعون، فليس لله حاجة إلى المعونة، وله كل ما في السموات والأرض، الكل خاضع لسلطانه، منقاد لإرادته. وهو الذي أبدع وابتكر السموات والأرض لا على مثال سبق، ومالك ما فيهن، وإذا أراد أمرا أوجده فورا أسرع مما بين حرفي «كن» من غير امتناع. والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية، عبر عنهما بما يقربهما للفهم بقوله: كُنْ فَيَكُونُ. وإذا اختار الله بعض خلقه للنبوة أو الرسالة كالرسل والملائكة، فلا يتجاوز حد مرتبة المخلوق، ويظل الكل عبيدا لله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم ١٩/ ٩٣] فمن كان له ما في السموات والأرض خلقا وملكا، ومن كان له كل ما في الكون منقاد لأمره، ومن أبدع السماء والأرض، ومن له أمر التكوين والإيجاد الفوري، أيحتاج إلى الولد والوالد؟! ويؤيد هذه الآية قول الله تعالى عن مشركي العرب: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤] وقوله تعالى: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله: قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٠- ٩٣] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا: أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، أَوْ نَرى رَبَّنا
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٩٢، تفسير ابن كثير: ١/ ١٦١
287
الآية [الفرقان ٢٥/ ٢١] وقوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [القيامة ٧٥/ ٥٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، وإنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من أمم أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وغيرهم، كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، فَقالُوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء ٤/ ١٥٣] وقال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ: يا مُوسى، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة ٢/ ٥٥].
أما الذين لا يعلمون من المشركين، لأنه لا كتاب لهم، ولا هم أتباع نبي يبين لهم ما يليق بالألوهية فقالوا: هلا يكلمنا الله بأنك رسوله حقا، أو يرسل إلينا ملكا فيخبرنا بذلك، كما يرسله إليك، أو تأتينا ببرهان على صدقك في دعواك النبوة، وليس مرادهم من هذه المطالب إلا الاستكبار والعتو والعناد، والاستخفاف بالآيات البينات، والجحود بالقرآن.
ومثل هذه الأسئلة التي يراد منها التعنت، قد قالها من قبلهم من الأمم الماضية، كما ذكرنا في الآيات المؤيدة لهذه الآية.
قال أهل الكتاب سابقا مثل قول المشركين، وقد تماثلت قلوبهم وأرواحهم، وأشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في العمى والقسوة والعناد والكفر، والألسنة ترجمان القلوب، فما في القلب يعبر عنه اللسان. والحق واحد، ومخالفته هي الضلال وهو واحد، وإن تعددت طرقه، واختلفت وجوهه، وآثاره تتشابه، حتى كأنهم متواصون به فيما بينهم، كما قال تعالى:
أَتَواصَوْا بِهِ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات ٥١/ ٥٣].
والله سبحانه بيّن الآيات وأوضح الدلالات على صدق الرسل أحسن بيان
288
وأتمه، بما لا يدع مجالا للشك لدى طالبي الحق بالدليل والبرهان، ولديهم الاستعداد للعلم واليقين، وعندهم الفهم الصحيح بسبب إنصافهم وصفاء نفوسهم، وبعدهم عن العناد والمكابرة، وقد كان هذا شأن الصحابة يسألون النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما لم يعرفوا دليله، لمحبتهم الحق، ووقوفهم عند البينة والدليل، فهم نماذج المنصفين الموقنين الذين اتبعوا الرسل بقناعة وعقل، وفهموا ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى.
وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فأولئك قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الاستجابة لنداء الإيمان تتطلب إعمال العقل وتفتح الكفر، وصفاء النفس، وإدراك حقائق الكون، ولو إدراكا بسيطا، وتقتضي تجردا عن الحظوظ النفسية، والأهواء الشخصية، وترك العناد. فإذا توافرت هذه الاستعدادات، تسارع نور الإيمان إلى القلب، فملأ النفس بهجة وسعادة وطمأنينة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد ١٣/ ٢٨].
أما نسبة الولد لله فهذا جهل بحقيقة الألوهية التي تمتاز بسمو الاتصاف بشيء فيه نقص من خصال البشر، ولا تحتاج إلى أحد من الخلق، فالله هو الأحد الواحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. ولا يكون الولد إلّا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٩١] فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضي الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي، الواحد الأحد، الفرد الصمد، كما ذكر.
289
والمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطيع، والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم.
قال الجصاص عن قوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: فيه دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده، لأنه نفى الولد بإثبات الملك بقوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ملكه، وليس بولده».
وقال القرطبي: والله تعالى مبدع السموات والأرض أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال سبق. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: مبدع. ومنه أصحاب البدع، وسميت البدعة بدعة، لأن قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري: «ونعمت البدعة هذه» يعنى قيام رمضان.
وكل بدعة صدرت من مخلوق، فلا يخلو إما أن يكون لها أصل في الشرع أو لا، فإن كان لها أصل، كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض رسوله عليه، فهي في حيّز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الأفعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: «نعمت البدعة هذه» لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح. وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهي في حيز الذم والإنكار. وهو معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم في خطبته: «وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»
يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم. وقد بيّن هذا
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ١/ ٦٥
290
ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» «١».
أما الخلق والإيجاد فيحدث بمجرد الأمر الإلهي، فإذا قضى أمرا أوجده فورا، أي إذا أراد إحكام أمر وإتقانه- كما سبق في علمه- قال له: كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم، فقد فرغ مما بين الخصمين.
ويلاحظ أن «قضى» لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، كما في قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصّلت ٤١/ ١٢] أي خلقهن، ويكون بمعنى الاعلام، كما قال تعالى: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء ١٧/ ٤] أي أعلمنا، ويكون بمعنى الأمر، كقوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء ١٧/ ٢٣]، ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص ٢٨/ ٢٩]، ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ أي إذا أراد خلق شيء.
قال ابن عطية: «قضى» معناه قدّر، وقد يجيء بمعنى أمضى «٢».
وبمناسبة قوله سبحانه إِذا قَضى أَمْراً ذكر العلماء أن الأمر يأتي في القرآن على أربعة عشر وجها:
الأول- الدّين، قال الله تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٤٨] يعني دين الإسلام.
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٨٦- ٨٧
(٢) المصدر السابق: ٢/ ٨٨
291
الثاني- القول، ومنه قوله تعالى: إِذا جاءَ أَمْرُنا [هود ١١/ ٤٠] يعني قولنا، وقوله: فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [طه ٢٠/ ٦٢] يعني قولهم.
الثالث- العذاب، ومنه قوله تعالى: لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم ١٤/ ٢٢] يعني: لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع- عيسى عليه السّلام، قال الله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً [مريم ١٩/ ٣٥] يعني عيسى من غير أب.
الخامس- القتل ببدر، قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ [غافر ٤٠/ ٧٨] يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الأنفال ٨/ ٤٢] يعني قتل كفار مكة.
السادس- فتح مكة، قال الله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة ٩/ ٢٤] يعني فتح مكة.
السابع- قتل بني قريظة وجلاء بني النضير، قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة ٢/ ١٠٩].
الثامن- القيامة، قال الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١].
التاسع- القضاء، قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [الرعد ١٣/ ٢] يعني القضاء.
العاشر- الوحي، قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة ٣٢/ ٥] أي ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ١٢] يعني الوحي.
الحادي عشر- أمر الخلق، قال الله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى ٤٢/ ٥٣] يعني أمور الخلائق.
الثاني عشر- النصر، قال الله تعالى: يَقُولُونَ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ [آل عمران ٣/ ١٥٤] يعنون النصر، قُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني النصر.
الثالث عشر- الذنب، قال الله تعالى: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق
292
٦٥/ ٩] يعني جزاء دينها.
الرابع عشر- الشأن والفعل، قال الله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود ١١/ ٩٧] أي فعله وشأنه، وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور ٢٤/ ٦٣] أي فعله.
التحذير من اتباع اليهود والنصارى
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢١]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
الإعراب:
بَشِيراً حال من كاف أَرْسَلْناكَ ونَذِيراً عطف عليه وَلا تُسْئَلُ قرئ بالرفع على أن لا نافية، والجملة خبرية حال، وقرئ بالجزم تسأل على أن لا ناهية.
ما لَكَ مِنَ اللَّهِ فيه وجهان: أحدهما- أن يكون التقدير فيه: مالك من عذاب الله من ولي، والثاني- أن يكون المعنى: مالك الله وليا ولا نصيرا، والعرب تقول مثل هذا بحرف الجر، كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [النحل ١٦/ ١٠] أي ماء لكم هو شراب.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الَّذِينَ اسم موصول مبتدأ، وآتَيْناهُمُ صلته، ويَتْلُونَهُ جملة فعلية منصوبة على الحال من ضمير آتَيْناهُمُ.
وأُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره. حَقَّ تِلاوَتِهِ منصوب على المصدر.
البلاغة:
أَصْحابِ الْجَحِيمِ التعبير عن الكافرين والمكذبين بذلك إيذان بأنه لا يرجى منهم الرجوع
293
هُوَ الْهُدى تعريف الهدى مع اقترانه بضمير الفصل يفيد قصر الهداية على دين الله، فهو قصر الصفة على الموصوف. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التهييج.
المفردات اللغوية:
الْجَحِيمِ النار: وهي جهنم، وأصحابها هم الكفار.
مِلَّتَهُمْ دينهم هُدَى اللَّهِ هو الإسلام وَلَئِنِ لام قسم مِنَ الْعِلْمِ الوحي من الله ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحفظك وَلا نَصِيرٍ يمنعك منه.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالكتاب المؤتى، بأن يحرفه الْخاسِرُونَ الهالكون.
سبب نزول الآيات (١١٩- ١٢١) :
قيل: نزلت في أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم، لكن الحديث مرسل غير ثابت.
وقال مقاتل فيما رواه بسنده: إن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا»، فأنزل الله تعالى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ
٣.
وأما الآية (١٢٠) : فقال المفسرون: إنهم كانوا يسألون النّبي صلّى الله عليه وسلّم الهدنة، ويطمعون أنه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس: هذا في القبلة، وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة، شق ذلك عليهم، فيئسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأما الآية (١٢١) : فقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: نزلت في أصحاب السفينة الذين أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، كانوا أربعين رجلا من الحبشة وأهل الشام. وقال الضحاك: نزلت فيمن آمن من اليهود. وقال قتادة وعكرمة: نزلت في محمد صلّى الله عليه وسلّم.
294
المناسبة:
لمّا بيّن الله الآيات، ذكر من بينت على يديه، فأقبل عليه وخاطبه صلّى الله عليه وسلّم ليعلم أنه هو صاحب الآيات، وبعد إثبات الوحدانية أردفه بإثبات النبوة.
التفسير والبيان:
هذه الآية (١١٩) إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا يضيق صدره، فهي تقرر له أنه أرسله للناس رسولا يبشر المؤمنين وينذر الكافرين، ويسعد الناس بالعقيدة المطابقة للواقع، وبالشرائع والأحكام التي تسعد الناس قاطبة، ويبشر من أطاعه بالجنة، وينذر من عصاه بالنار، وأن مهمته تبليغ الرسالة دون شيء بعدها، فلا حرج عليه إن أصروا على الكفر والعناد: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٥٢] فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦].
ولا تسأل عن أصحاب النار، فلا يضرنك تكذيبهم لك، ولا تأس عليهم ولا تحزن، فأنت لم تبعث مكرها ولا جبارا، فتكون مقصرا إن لم يؤمنوا، بل بعثت معلما ومبلغا وهاديا بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢].
وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يرجو أن يؤمن أهل الكتاب برسالته، لموافقتهم له في أصل الدين، من توحيد الله، وتقويم الاعوجاجات والتقاليد الفاسدة، فعز عليه إعراضهم عن إجابة دعوته، ولسان حالهم يقول: يا محمد مهما تأتنا من بينة، ومهما فعلت لإرضائنا، فلن نرضى حتى تتبع ملتنا.
والملة: هي الطريقة المشروعة للعباد، والكفر كله ملة واحدة، وتسمى دينا، لأن العباد انقادوا لمن سنها. وتسمى شريعة، لأنها مورد إلى ثواب الله ورحمته.
295
فرد الله عليهم: إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام والذي أنزله على الأنبياء هو الهدى الواجب اتباعه وحده، أما غيره فمبني على الهوى والشهوة، وهو ما أضافه إليه اليهود والنصارى، فإن اتبعت يا محمد أهواءهم، وما أضافوه إلى دينهم، بعد ما استقر في قلبك من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي الذي نزل عليك، ومنه أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه بالتأويل، فالله لا ينصرك ولا يؤيدك، وإذا لم ينصرك الله ويتولاك، فمن ذا الذي ينصرك من بعده؟.
وفي هذا قطع الأمل للنبي عليه السلام في إسلامهم، لأن رضاهم عنه معلق بمستحيل: وهو اتباع ملتهم والدخول في دينهم.
وهذا الإنذار للنبي والوعيد هو في الحقيقة خطاب للناس كافة، ممثلين في شخص النّبي عليه الصلاة والسلام، لأنه الإمام والقائد والقدوة.
ثم استدرك الحق سبحانه على ما ذكر قبل، حتى لا ييأس النّبي صلّى الله عليه وسلّم يأسا دائما من إيمان أهل الكتاب، فأخبر بأن بعض الكتابيين يتلون التوراة تلاوة تدبر وإمعان، ويفهمها حق الفهم، ولا يتعصب تعصبا أعمى، ولا يحرفون ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يبيع آخرته بدنياه، ويسأل الله الجنة، ويتعوذ من النار، فهؤلاء يدركون أن ما جئت به الحق، فيؤمنون بالتوراة دون تحريض، ومن يؤمن بها يؤمن بالقرآن والنبي، مثل عبد الله بن سلام وأشباهه، ومن يكفر بكتابه من المحرفين، فلا يؤمن بك أصلا، أولئك هم الهالكون، وكثير ما هم، وهم الذين خسروا سعادة الدنيا والآخرة، وحق عليهم العذاب، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار؟! فالمقصود بكلمة الْكِتابَ التوراة، وقال قتادة: المقصود به القرآن، قال القرطبي: والآية تعم. وعلى كلا الحالين، المقصود بقوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الأمر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه.
296
فقه الحياة أو الأحكام:
إن دين الله وتكاليفه يسر لا عسر، فهو يمتاز بشيئين أساسيين هما: التعقل والمنطق، والقيام بالواجب قدر الطاقة والوسع، دون إعنات ولا إرهاق. وليست مهمة الأنبياء لقسر الناس وإكراههم على الإيمان والاعتقاد الحق، وإنما هي محصورة بالتبليغ والبيان، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، والنّبي بعد التبليغ لا يكون مسئولا عنهم ولا مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار.
وإن المساومات الرخيصة على العقيدة الحقة لا تفيد شيئا، ولا تحقق هدفا.
وإن من يتمسك بدينه الأصلي حتى ولو كان من اليهود والنصارى فلا بد من أن يؤديه دينه الذي لم يبدله ولم يحرفه إلى الاستمساك بالقرآن والإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وآله، وسلم: لأن دين الله في الأصل ذو جوهر واحد، وعباداته وشرائعه تلتقي عند غاية واحدة، وهي توحيد الإله والاعتراف بربوبيته، والأخلاق والفضائل الإنسانية الصحيحة لا يختلف فيها اثنان. وليس غرض اليهود والنصارى بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتاهم بكل ما يسألون عنه لم يرضوا عنه، وإنما يرضيهم ترك ما هو عليه من الإسلام، واتباعهم.
وفي كل ذلك عبرة للأجيال، كما قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف ١٢/ ١١١]. وإن تلاوة كتاب الله ينبغي أن تكون بتدبر وفهم وإمعان، لا لمجرد التلاوة، كما قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤] وقال: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص ٣٨/ ٢٩].
والفائدة المنشودة من القرآن هي العمل به، فهو كما ثبت
في الحديث الصحيح: «والقرآن حجة لك أو عليك»
ومن يتلو القرآن، وهو معرض عن آياته والعمل به، يكون كالمستهزئ بربه. أما الأمي فعليه سؤال العلماء لشرح
297
معنى القرآن، وإفهامه مراده: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٤٣].
هذا.. وقد استدل بالآية (١٢٠) أبو حنيفة والشافعي وداود الظاهري وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: مِلَّتَهُمْ فوحد الملة، وبقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون ١٠٩/ ٦]،
وبقوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين شتى»
على أن المراد به الإسلام والكفر، بدليل
قوله عليه السّلام: «لا يرث المسلم الكافر».
وذهب الإمام مالك، وأحمد في الرواية الأخرى: إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السّلام:
«لا يتوارث أهل ملتين». وأما قوله تعالى: مِلَّتَهُمْ فالمراد به الكثرة، وإن كانت موحدة في اللفظ، بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة- مثلا- علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم.
والخطاب في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ إما للرسول، لتوجه الخطاب إليه، وإما للرسول، والمراد به أمته. وإذا كان الرسول هو المخاطب فأمته أولى، لأن منزلتهم دون منزلته.
وسبب الآية: أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدنة، ويعدون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم.
واستدل الإمام أحمد بقوله: مِنَ الْعِلْمِ على كفر من اعتقد أن القرآن مخلوق، فإنه سئل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، قيل: بم كفّرته؟
فقال: بآيات من الله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [الرعد ١٣/ ٣٧] والقرآن من علم الله، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
298
والمقصود من تلاوة كتاب الله حق التلاوة: اتباعه حق الاتباع، كما بينا، قال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة، وقال الحسن البصري: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
تذكير بالنعمة وتخويف من الآخرة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٢ الى ١٢٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
المفردات اللغوية
وَاتَّقُوا خافوا لا تَجْزِي تغني عَدْلٌ فداء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله.
التفسير والبيان:
يكرر المولى سبحانه للتأكيد تذكير اليهود بالنعم التي أنعم الله بها عليهم، لتجديد ثقتهم ونشاطهم، وتشجيعهم وحفز هممهم، وبعث نفوسهم على الإيمان وحثهم على اتباع النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم، ثم قرن الله تعالى بالعظة والتذكير التخويف من حساب يوم القيامة.
ففي الآية الأولى يعظ الله اليهود الذين كانوا في عصر التنزيل، ويذكرهم بالنعم الكثيرة الدنيوية والدينية التي أنعم بها على آبائهم، بإنقاذهم من أيدي عدوهم، وإنزاله المن والسلوى عليهم، وتمكينهم في البلاد بعد المذلة والقهر، وإرساله الرسل منهم، وتفضيلهم على عالمي زمانهم، حين كانوا مطيعين للرسل،
299
مصدقين لما جاءهم من عند ربهم، حتى يتركوا ضلالهم، ويثوبوا إلى رشدهم. ومن أجل النعم التوراة المنزلة عليهم، فمن شكر النعمة وآمن بجميع ما فيها، آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم المبشر به فيها.
وفي الآية الثانية يحذرهم الله من عذاب يوم القيامة بسبب تحريف التوراة، والتكذيب برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، ذلك اليوم الذي لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا من الحقوق التي لزمتها، فلا تؤاخذ نفس بذنب أخرى، ولا تدفع عنها شيئا، ولا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار، ولا يشفع بما يجب عليها شافع، ولا ناصر ينصرهم، فيمنع عنهم عذاب الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
تؤكد هذه الآية ما جاء في صدر السورة، لحث اليهود وغيرهم على اتباع الرسول النبي الأمي المطابقة صفته لما في التوراة، وتأمرهم ببواعث الإيمان: وهي تذكر النعم الدينية والدنيوية التي أنعم الله بها على آبائهم، والإقلاع عن حسد بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال خاتم النبيين منهم، وألا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه.
فإن أبوا فإن مصيرهم المحتوم هو الحساب الشديد يوم القيام، المحقق الوقوع والنتيجة أو الأثر وهو العقاب، دون أن ينفع الوسطاء أو الشفعاء، والبدل أو الفداء، والنصر أو المنع من العذاب، ويكون كل امرئ مسئولا عن نفسه، ولا يسأل أحد عن غيره، كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور ٥٢/ ٢١] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤].
300
اختبار إبراهيم عليه السّلام وخصائص البيت الحرام وفضائل مكة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٦]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
الإعراب:
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فيه تقديم المفعول على الفاعل، وهو واجب، لاتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول.
مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل منصوب من أَهْلَهُ بدل بعض من كل، وضمير مِنْهُمْ يعود إلى المبدل منه، لأن بدل البعض من الكل، لا بد أن يعود منه ضمير إلى المبدل منه لفظا أو تقديرا.
وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا: مِنَ إما منصوب بفعل مقدر تقديره: وأرزق من كفر، وإما مرفوع مبتدأ، وهي شرط، وفَأُمَتِّعُهُ الخبر والجواب. وقَلِيلًا منصوب إما لأنه صفة لمصدر محذوف، وتقديره: تمتيعا قليلا، أو لأنه صفة لظرف محذوف، وتقديره: زمانا قليلا.
البلاغة:
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ تشريف له، بتكليفه الأوامر والنواهي التي يظهر بها استحقاقه للإمامة.
301
وَأَمْناً فيه استعمال المصدر محل اسم الفاعل للمبالغة، وتقديره: وآمنا.
وطَهِّرا بَيْتِيَ إضافة البيت لله عز وجل للتشريف والتعظيم، لا أن هناك مكانا محل الله تعالى.
المفردات اللغوية:
ابْتَلى إِبْراهِيمَ اختبره، والابتلاء: الاختبار، أي معرفة حال المختبر بتكليفه بأمور يشق عليه فعلها أو تركها، ليجازيه عليها. بِكَلِماتٍ أي أوامر ونواه، قيل: هي مناسك الحج، وقيل خصال الفطرة: وهي المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الشعر وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء. فَأَتَمَّهُنَّ أداهن تامات. إِماماً قدوة في الدين أو رسولا. ذُرِّيَّتِي أولادي، أي اجعل أئمة منهم. عَهْدِي بالإمامة. الظَّالِمِينَ الكافرين منهم، دل على أنه ينال غير الظالم.
الْبَيْتَ بيت الله الحرام أو الكعبة. مَثابَةً مرجعا ومآبا يثوبون إليه من كل جانب. وَأَمْناً مأمنا من الظلم والإغارة الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه، فلا يتعرض له مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت. مُصَلًّى مكان صلاة، بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف.
طَهِّرا بَيْتِيَ من الأوثان. الْعاكِفِينَ المقيمين فيه، الملازمين له. والثَّمَراتِ المأكولات التي تخرجها الأرض. والاضطرار: الإلجاء والحمل على الشيء أو الإكراه.
سبب نزول الآية (١٢٥) :
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى:
روى البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو أخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم ٦٦/ ٥] فنزلت.
302
المناسبة العامة للآيات:
بعد أن ذكّر الله تعالى بني إسرائيل نعمه، وأبان كيف قابلوا النعم بالكفر والجحود، أعقب ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام أبي الأنبياء، الذي يزعم اليهود والنصارى انتماءهم إليه، ولو صدقوا لا تبعوا النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم، لأنه أثر دعوة أبيه إبراهيم حين دعا لأهل الحرم، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لقومك المشركين وغيرهم حين اختبر الله إبراهيم ببعض التكاليف من أوامر ونواه، فأتى بها على وجه الكمال، وأداها خير أداء، كما قال سبحانه: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم ٥٣/ ٣٧]. وبما أن الله تعالى عالم بصدق المختبر، فكان المراد أنه عامله معاملة المختبر، ليظهر ذلك للخلق.
والمراد من ذكر الوقت في قوله وَإِذِ ابْتَلى ما وقع فيه من الحوادث. ولم يعين القرآن الكلمات، فقيل: هي مناسك الحج، وقيل: إنها الكوكب والشمس والقمر التي رآها واستدل بأفولها على وحدانية الله تعالى، وقيل: غير ذلك.
فجازاه الله تعالى أحسن الجزاء، وقال له: إني جاعلك للناس رسولا وإماما تؤمهم في دينهم، ويأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون، فدعا الناس إلى ملة التوحيد ونبذ الشرك.
قال إبراهيم: وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ متمنيا لذريته الخير في سلوكهم ودينهم وأخلاقهم، ولا غرو فالإنسان يتمنى أن يكون ابنه أحسن منه.
فأجابه الله تعالى: أجبتك إلى طلبك، وسأجعل من ذريتك أئمة للناس، ولكن لا ينال عهدي بالإمامة أو النبوة الظالمين الذين ظلموا أنفسهم، إذ هم لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس، لأن الإمام قدوة للناس في حراسة الدين
303
وأهله وحمل الأتباع على الاستقامة، ومنع الجور، فإذا كان الإمام ظالما لنفسه بالانحراف، فكيف يقوّم غيره؟ والمراد بالعهد: النبوة أو الإمامة.
وفيه دليل على مقت الظلم، والتنفير من الظالمين، والبعد عنهم.
ثم ذكرّ الله تعالى العرب في هذه الآيات بنعم كثيرة، منها: جعل البيت الحرام (الكعبة) مرجعا للناس يقصدونه، ومآبا يثوبون إليه للعبادة وقت الحج وغيره، وفي ذلك تنشيط لحركة التجارة والاقتصاد وجلب الخير، ومنها جعله مأمنا يطمئن إليه الأفراد من المخاوف، فمن دخله كان آمنا، ويتخطف الناس من حوله، كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟ [العنكبوت ٢٩/ ٦٧].
ثم أمر الله المسلمين أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، بأن يفضلوه على غيره في الصلاة، لشرفه بقيام إبراهيم فيه، فالأمر فيه للندب، لا للوجوب، والمسلمون مأمورون بذلك كما أمر به المؤمنون المعاصرون لإبراهيم الخليل عليه السّلام.
وهذا البيت طاهر مطهر، وصينا إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان وعبادة الأصنام التي كان عليها المشركون قبل أن يصير في يد إبراهيم عليه السّلام، وتطهيره من كل رجس حسي أو دنس معنوي كاللغو والرفث والتنازع فيه، حين أداء المناسك والعبادات كالطواف والسعي بين الصفا والمروة، والإقامة فيه، والركوع والسجود،
وقد روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه لما فتح مكة، دخل المسجد، فوجدهم قد نصبوا على البيت الأوثان، فأمر بكسرها، وجعل يطعن فيها بعود في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء ١٧/ ٨١].
وفيه أن إبراهيم ومن بعده كانوا مأمورين بهذه العبادات، وإن لم تعرف
304
الكيفية وطريقة الأداء. وسمي بيتا، لأن الله جعله معبدا لأداء العبادة الصحيحة، وأمر المصلين أن يتجهوا إليه في عبادتهم.
والحكمة في اتخاذ الكعبة مقرا لاتجاه المصلين: هو توحيد المشاعر والعواطف، وحصر الاتجاه إلى الذات الإلهية المقدسة، رمزا إلى حضوره تعالى، والحضور الحقيقي محال عليه، فكان المراد أن رحمته الإلهية تحضره. ومن ثم كان التوجه إلى الكعبة كالتوجه إلى تلك الذات العلية.
ومن نعمه تعالى على العرب التي أمر الله نبيه أن يذكّرهم بها: دعاء إبراهيم عليه السّلام: أن يجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، فلا يتسلط عليه الجبارون، ولا يعكر صفوه المجرمون الآثمون، ويحميه سبحانه وتعالى من الخسف والزلزال والغرق والهدم ونحو ذلك من مظاهر سخط الله على بلاد أخرى.
ودعاؤه أن يرزق أهله من أنواع الثمار وأطيبها، ومن خيرات الأرض وبركاتها وأمنها، إما بالزرع بالقرب منه، وإما بأن تجبى إليه من الأقطار الشاسعة، وقد حصل كل ذلك، كما هو مشاهد، وكما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٧].
وفي إجابة دعاء إبراهيم تكريم للمؤمنين، وإن كانت رحمة الله شاملة للمؤمنين والكافرين، فيرزق الله الجميع، كما قال تعالى: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء ١٧/ ٢٠] لكن تمتيع الكافر بنعم الدنيا قصير محدود، ثم إلى النار، فمن كفر يرزقه الله أيضا، ويمتعه بهذا الرزق أمدا قليلا، وهو مدة وجوده في الدنيا، ثم يساق إلى عذاب جهنم سوقا اضطراريا، وبئس المصير مصيرهم الذي ينتظرهم.
وفيه ترغيب لعرب قريش بالإيمان، وزجر عن الكفر، وترهيب لهم
305
ولأهل الكتاب من الإعراض عن دعوة الإسلام، فالله تعالى خص طلب الرزق للمؤمنين، إشارة إلى جدارتهم واستحقاقهم له.
فقه الحياة أو الأحكام:
النبوة أو الإمامة في الدين الصالحة الدائمة الأثر تتطلب الاستقامة على أوامر الله واجتناب نواهيه، والإمامة المؤقتة القائمة على الانحراف والظلم تحفر لنفسها قبرها بيدها، وتدمر كيانها، وتقوض عرش وجودها. فالظلم مانع من الإمامة ومن اتخاذ الظالم قدوة للناس. ولا تكون الإمامة الصالحة أو النبوة إلا للأفاضل الذين يعملون الصالحات، ويرشدون إلى الخير، ويزجرون أنفسهم وغيرهم عن الشر والآثام، ولا حظّ للظالمين في شيء من هذا، لأن الظلم مؤذن بخراب المدنيات، وتدمير الحضارة والعمران.
واستدل جماعة بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك. فأما أهل الفسوق والجور والظلم، فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
والذي عليه أكثر العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض.
وإن تعظيم البيت الحرام بالطواف حوله والسعي فيه أمر قديم من عهد أبينا إبراهيم عليه السّلام، وتخصيصه بالاتجاه إليه رمز لوجوده تعالى هناك، مع أن ذاته العلية لا تتحدد بمكان، وحضوره تعالى معناه حضور رحمته، وإفاضة فضله، وإسباغ نعمه، وإجابة الدعاء فيه.
والجدير بالرزق الإلهي: من آمن بالله واليوم الآخر، وأطاع ربه، واستقام على أوامر الله، واجتنب ما نهى الله عنه.
306
والإنسان مخير في اختيار الحق والطيّب والتزام جادة الاستقامة، وترك الباطل والخبيث، بما أعطاه الله من العقل، وبما أرشده به من الوحي، فمن حاد عن ذلك، فقد ظلم نفسه، وعرّضها للعذاب والشقاء، ويكون ذلك سببا لحملة على العذاب، وإلجائه إليه، وصب السخط عليه والانتقام منه.
وأما الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم: فهي الوظائف التي كلفه بها، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما يسمى عيسى بالكلمة، لأنه صدر عن الكلمة، وهي كن، وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز.
واختلف العلماء في بيان المراد من الكلمات على أقوال، منها ما يأتي:
أحدها- أنها شرائع الإسلام، وقد أكملها إبراهيم عليه السّلام، فما قام أحد بوظائف الدين مثله، ثم قام بها بعده كثير من الأنبياء عليهم السّلام، وخصوصا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحدا بهن، فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السّلام، ابتلي بالإسلام، فأتمه، فكتب الله له البراءة، فقال: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم ٥٣/ ٣٧].
الثاني- أنها الفطرة التي أقامها الله تعالى فيه.
روت عائشة في الصحيح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللّحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم (غسل عقد ظهور الأصابع لاجتماع الوسخ فيها)، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء أي الاغتراف منه، ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة».
الثالث- أنها الكوكب والشمس والقمر، التي رآها واستدل بأفولها على وجود الله تعالى ووحدانيته. وهذا القول هو الذي فسر به ابن كثير (الكلمات) ثم أورد قول ابن جرير الطبري وحاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه أنه المراد على
307
التعيين إلا بحديث أو إجماع. ثم قال: ولم يصح في ذلك خبر، بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له.
الرابع- قال ابن عباس: «الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجة نمرود في الله، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه، والهجرة من وطنه حين أمر بالخروج عنهم، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمر بذبحه» ويظهر أن هذا أصح الأقوال.
واختلف العلماء أيضا في تفسير الأمن على أربعة أقوال:
الأول- أنه أمن من عذاب الله تعالى، والمعنى أن من دخله معظّما له، وقصده محتسبا الأجر، سلم من العذاب، ويعضده
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
الثاني- معناه: من دخله كان آمنا من التشفي والانتقام، كما كانت العرب تفعله فيمن أناب إليه، من تركها لحق يكون لها عليه.
الثالث- أنه أمن من حد يقام عليه، فلا يقتل به الكافر، ولا يقتص فيه من القاتل، ولا يقام الحد على المحصن والسارق، قاله أبو حنيفة وغيره.
الرابع- أنه أمن من القتال،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
قال ابن العربي: والصحيح فيه القول الثاني، وهذا إخبار من الله تعالى عن منّته على عباده، حيث قرر في قلوب العرب تعظيم هذا البيت، وتأمين من لجأ إليه، إجابة لدعوة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، حين أنزل به أهله وولده، فتوقع عليهم الاستطالة، أي الاعتداء، فدعا أن يكون أمنا لهم، فاستجيب دعاؤه «١».
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٣٨- ٣٩
308
والصحيح من اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى معناه: موضعا للصلاة المعهودة، كما بان في سبب نزول الآية السابق ذكره عن عمر رضي الله عنه، واتضح منه أربعة أمور: وهي أن ذلك الموضع هو المقام المراد في الآية، وأن المراد به الصلاة المتضمنة للركوع والسجود، لا مطلق الدعاء، وأن الصلاة عقب الطواف، وأن ركعتي الطواف مطلوبتان، وهما عند المالكية: واجبتان، فمن تركهما، فعليه دم.
وقال الجصاص الحنفي عن قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى هو أمر ظاهره الإيجاب، والمراد بالآية فعل الصلاة بعد الطواف،
وقد روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد صلاهما عند البيت.
فدلت هذه الآية على وجوب صلاة الطواف، ودل فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم لها تارة عند المقام، وتارة عند غيره على أن فعلها عنده ليس بواجب.
ويفهم من قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ عدم جواز تولية الظالم، أو الفاسق، ولا فرق بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما، كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النّبي عليه السّلام.
قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه، حتى يعزله أهل الحل والعقد.
وقال أيضا: وأما أخذ الأرزاق (المخصصات المالية) من الأئمة الظلمة فله ثلاث أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا
309
حلالا وظلما، فالورع تركه، ويجوز للمحتاج. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم «١».
وقال الجصاص: دل قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ على أن الإجابة وقعت له في أن ذرية إبراهيم أئمة.
واستدل أبو حنيفة بقوله تعالى: وَأَمْناً على ترك إقامة الحد في الحرم على الزاني المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧]. والصحيح- كما قال القرطبي- إقامة الحدود في الحرم، وأن ترك إقامتها من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت.
وآية: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ استدل بها أبو حنيفة والشافعي والثوري على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت الحرام، قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها، فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب، والباب مفتوح، فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا.
وقال مالك: لا يصلي في البيت الفرض ولا السّنن، ويصلي فيه التطوع (غير الرواتب)، غير أنه إن صلى فيه الفرض، أعاد في الوقت، ودليله: ما
رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النّبي صلّى الله عليه وسلم لما دخل البيت، دعا في نواحيه كلها، ولم يصلّ فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين.
والحاصل: لا خلاف في صحة التطوع في الكعبة، وأما الفرض فلا يصح عند المالكية، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة ٢/ ١٥٠].
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٠٩ وما بعدها.
310
وأما الصلاة على ظهر الكعبة، فأجازها الشافعي، وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة، أعاد في الوقت. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة، أعاد في الوقت. وقال أحمد: من صلى على ظهر الكعبة، فلا شيء عليه.
وهل الصلاة عند البيت أفضل أو الطواف به؟ اختلفوا، فقال مالك:
الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. والجمهور على أن الصلاة أفضل.
بناء البيت الحرام ودعاء إبراهيم وإسماعيل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
الإعراب:
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان: ربنا تقبل منا، فحذف «يقولان» وحذف القول كثير في كتاب الله وكلام العرب.
البلاغة:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عبر بالمضارع عن الماضي، لاستحضار الصورة الماضية وكأنها مشاهدة بالعصيان، فكأن السامع ينظر ويرى إلى البنيان وهو يرتفع، وإلى البنّاء وهو إبراهيم وإسماعيل
311
عليهما السلام.
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة، على وزن فعّال وفعيل.
المفردات اللغوية:
الْقَواعِدَ واحدها قاعدة، وهي ما يقوم عليه البناء من الأساس أو من طبقات البناء، فالقواعد: هي الأسس أو الجدران. ورفعها: إعلاء البناء عليها. وتقبّل الله العمل: قبله ورضي به.
مُسْلِمَيْنِ منقادين لك أُمَّةً جماعة مِنْ ذُرِّيَّتِنا أي اجعل من أولادنا، ومن للتبعيض، وأتى به لتقدم قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، مَناسِكَنا شرائع عبادتنا أو حجنا، واحدها منسك- بفتح السين، من النسك: وهو غاية الخضوع والعبادة، وشاع استعماله في عبادة الحج خاصة، كما شاع استعمال المناسك في معالم الحج وأعماله لما فيها من الكلفة والبعد عن العادة. وَتُبْ عَلَيْنا سألاه التوبة، مع عصمتهما تواضعا وتعليما لذريتهما. وتاب العبد إلى ربه: إذا رجع إليه، لأن اقتراف الذنب إعراض عن الله وعن موجبات رضوانه، وتاب الله على العبد: رحمه وعطف عليه.
وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أهل البيت رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم، وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلّى الله عليه وسلم الْكِتابَ القرآن وَالْحِكْمَةَ أسرار الأحكام الدينية ومعرفة مقاصد الشريعة وَيُزَكِّيهِمْ يطهر نفوسهم من دنس الشرك وأنواع المعاصي الْعَزِيزُ الغالب الْحَكِيمُ أي الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المناسبة:
بعد أن ذكّر الله تعالى العرب بما أنعم عليهم من فضائل البيت الحرام، أردف ذلك بتذكيرهم بأن الذي بنى البيت هو أبوهم إبراهيم مع ابنه إسماعيل، ليجذبهم بذلك إلى الاقتداء بسلفهم الصالح الذي ينتمون إليه، وقد كانت قريش تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل، وتدعي أنها على ملة إبراهيم، وسائر العرب في ذلك تبع لقريش.
312
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد لقومك وقت أن بنى إبراهيم وابنه إسماعيل قواعد البيت وأساسه، والفضيلة في كون البنّاءين نبيين، وفي تخصيصه للعبادة وسط بلاد وثنية، لا في أفضلية أحجاره ولا موقعه ولا بأنه نزل من السماء. وجعل التوجه إليه توجها إلى الله الذي لا يحده مكان ولا تحصره جهة، وعدّ استلام الحجر الأسود تعبديا كاستقبال الكعبة في الصلاة، فلا مزية له في ذاته، بل هو كسائر الأحجار بدليل قول عمر بن الخطاب عند استلامه: «أما والله، إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبّلك ما قبّلتك، ثم دنا فقبّله» «١».
وفي أثناء إقامة البناء يدعو إبراهيم وإسماعيل قائلين: ربنا إنك أنت السميع لدعائنا، العليم بنياتنا في جميع أعمالنا، ربنا واجعلنا منقادين لك، ومخلصين في الاعتقاد فلا نتوجه إلا إليك، ولا نستعين بأحد إلا بك، وفي العمل بألا نقصد بعملنا إلا مرضاتك. ربنا واجعل من ذريتنا جماعة مخلصة لك، منقادة لأوامرك، ليستمر الإسلام دائما في الأجيال. ربنا بصّرنا وعرفنا أمور عبادتنا ومواضع نسكنا، أي أعمال الحج، كمواقيت الإحرام، وموضع الوقوف بعرفة، وموضع الطواف والسعي، واقبل توبتنا، إنك أنت التواب الرحيم، أي كثير التوبة على عبادك بقبولها منهم، الرحيم بالتائبين لإنجائهم من العذاب.
وهذا منهما إرشاد لذريتهم، وطلب للتثبت والدوام على الطاعة، لا أنهما كان لهما ذنب، لأن الأنبياء معصومون، وليبينوا للناس بعد معرفة المناسك وبناء البيت أن ذلك الموقف وتلك المواضع، مكان التطهر من الذنوب وطلب التوبة.
(١) رواه البخاري ومسلم.
313
ربنا وأرسل في الأمة المسلمة رسولا منهم، ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعزّ الناس به، وأقرب لإجابة دعوته، وقد عرفوه معرفة تامة، ولمسوا منه الصدق والأمانة والعفة والاستقامة، ونحو ذلك، يقرأ عليهم آيات دينك المشتملة على إثبات وحدانية الله، وعلى الإقناع بالبعث والجزاء، ويعلمهم القرآن وأسرار الشريعة ومقاصدها، وما تكمل به نفوسهم من العلوم والمعارف، ويطهرهم من دنس الشرك والوثنية وأنواع المعاصي، ويعملهم صالح الأخلاق، إنك أنت القوي الذي لا يغلب، الحكيم في كل صنع، فلا تفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، قال مالك: والحكمة: المعرفة بالدين، والفقه بالتأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه الأدعية تعليم لنا أن نطلب في ختام أعمالنا قبولها، وأن ندعو بصلاح أنفسنا وذريتنا ليستمر الإسلام في كل زمان، ويظهر الانقياد والخضوع لخالق السماء والأرض، والله تعالى جعل المناسك ومواقف الحج أمكنة للتخلص من الذنوب وطلب الرحمة من الله، والله كريم رحيم. وقد أجاب الله دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل، فأرسل خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلم رسولا من العرب،
قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي»
، وأكرم الله أمة العرب، فجعلها بالإسلام خير الأمم، وكان لها السيادة والمجد والسلطة في المشارق والمغارب، حينا من الزمان، وكان منها ومن المسلمين غير العرب رجال هم مفخرة التاريخ في العدل والسياسة والقضاء والعلم والفكر والأدب والحضارة.
أما بناء الكعبة: فكان بالطين والحجارة، وظل كذلك إلى أن هدمتها قريش وأعادوا بناءها، ورفعوها عن الأرض عشرين ذراعا، وتم وضع الحجر من قبل النبي صلّى الله عليه وسلم وهو شاب قبل البعثة، لأنهم حكّموا أول من يطلع عليهم، فطلع عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكّموه، ووضع الحجر في ثوب، ثم أمر سيد كل
314
قبيلة، فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو، فرفعوا إليه الحجر الأسود، فكان هو يضعه صلّى الله عليه وسلم. ولم يدخلوا حجر الكعبة في البناء أي حجر إسماعيل من جهة الشمال، لعجز النفقة لديهم، ثم رأى النبي تجديد البناء، لكنه كما
روت عائشة رضي الله عنها قال: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت، ولجعلت لها خلفا»
، يعني بابا.
وفي البخاري: «لجعلت لها خلفين»
يعني بابين.
ثم لما غزا أهل الشام في عهد الأمويين عبد الله بن الزبير، ووهت الكعبة من حريقهم، أعاد بناءها ابن الزبير، وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين، أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كما روى مسلم في صحيحة.
ثم لما قتل ابن الزبير أعاد الحجاج بناء الكعبة، ورد ما زاد فيه من الحجر إلى بنائه، وسدّ الباب الذي فتحه، وأعاده إلى بنائه، بأمر الخليفة عبد الملك.
وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يردّه على بناء ابن الزبير، لما جاء عن النّبي صلّى الله عليه وسلم، وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل بهذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم، إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس.
وأما كسوة الكعبة، فقال العلماء: لا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شيء.
315
سفاه من يرغب عن ملة إبراهيم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
الإعراب
إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ نصب نَفْسَهُ إما بنزع الخافض الجار، وتقديره: سفه في نفسه، أو لأن سَفِهَ بمعنى جهل، وهو فعل متعد بنفسه، أو منصوب على التمييز، وهو قول الكوفيين. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ: فِي متعلقة بعامل مقدر، وتقديره: وإنه صالح في الآخرة لمن الصالحين، ولا يجوز أن تتعلق بالصالحين لأنه يؤدي إلى تقديم معمول الصلة على الموصول.
وَوَصَّى بِها الضمير يعود إلى الملة المذكورة في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
البلاغة:
وَمَنْ يَرْغَبُ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا السفيه، والجملة واردة لتوبيخ الكافرين. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ التأكيد ب (إن) و (الكلام) لتعلقه بأمر غيبي في الآخرة، بخلاف حال الدنيا، فإنه مشاهد.
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ التفات عن الحضور إذ السياق: (قلنا) إلى الغيبة. ورَبُّهُ لإظهار مزيد اللطف والاعتناء بتربيته. وجواب إبراهيم أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ دليل على قوة إسلامه، وفيه إشارة إلى وجوب الخضوع لله تعالى، وفيه التفات من الخطاب إلى الغائب.
316
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يَرْغَبُ رغب في الشيء: أحبه، ورغب عنه: كرهه، سَفِهَ نَفْسَهُ جهل أنها مخلوقة لله يجب عليها عبادته، أو استخف بها وامتهنها أي أذلها واحتقرها. اصْطَفَيْناهُ اخترناه بالرسالة في ذلك الوقت.
أسلم أي انقاد لله وأخلص له العبادة والدين.
وَوَصَّى بِها التوصية: إرشاد غيرك إلى ما فيه خير وصلاح له من قول أو فعل في الدين أو الدنيا، فَلا تَمُوتُنَّ نهي عن ترك الإسلام وأمر بالثبات عليه إلى الموت.
سبب نزول الآية (١٣٠) :
قال ابن عيينة: روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه: سلمة ومهاجرا، إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، فنزلت فيه الآية.
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله سبحانه أنه ابتلى إبراهيم بكلمات فأتمهن، وأنه عهد إليه ببناء البيت وتطهيره للعبادة، أردف ذلك ببيان أن ملة إبراهيم وهي التوحيد وإسلام القلب لله، لا يصح لأحد التحول عنها، وبها وصى يعقوب بنيه، ووصى بها من قبله إبراهيم.
فلا يرغب أحد عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخص أذل نفسه واستخف بها، لأن من يترك الخير والحق والهدى، فقد أمتهن نفسه وأذلها.
ولقد اصطفى الله إبراهيم في الدنيا، فجعله أبا الأنبياء، وجعله في الآخرة من المشهود لهم بالصلاح والاستقامة وإرشاد الناس للعمل بملته. وهذه بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة ووعد له بذلك.
317
اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الأدلة على وحدانية الله، فما كان منه إلا أن بادر بالانقياد والامتثال، وقال: أخلصت ديني لله الذي أوجد الخلق، كما في قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٧٩].
ولقد أراد إبراهيم الخير لذريته، فأوصاهم بالملة الحنيفية، وكذلك فعل يعقوب عليهما السلام، وقالا لهم: إن الله اختار لكم هذا الدين- دين الإسلام، الذي لا يتقبل الله سواه، فاثبتوا على الإسلام لله، ولا تفارقوه، حتى لا تفاجأكم المنية، وأنتم على غير الدين الحق الذي اصطفاه لكم ربكم. وفي هذا فتح باب الأمل أمام المنحرف ليعود إلى الله ويعتصم بالدين، قبل الموت.
فانظروا أيها اليهود: هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أو لا؟
فقه الحياة أو الأحكام:
تندد هذه الآيات بكل من أعرض عن ملة إبراهيم- ملة التوحيد والانقياد والإخلاص لله، وتوبخ الكافرين الذين كرهوا هذه الملة. وملة الإسلام قديمة دعا لها الأنبياء جميعا، والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمسلم إليه، وليس كل إسلام إيمانا، لكن كل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله، وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، بدليل قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنا [الحجرات ٤٩/ ١٤] فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، فإن الإيمان باطن، والإسلام ظاهر. وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الإيمان، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه.
وقال القدرية والخوارج: إن الإسلام هو الإيمان، فكل مؤمن مسلم، وكل
318
مسلم مؤمن، لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران ٣/ ١٩] فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن.
ووصى بالإسلام إبراهيم ويعقوب، لأنه الدين الحق، وبنو إبراهيم:
إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إلى مكة وهو رضيع له سنتان، وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة، وكان سنه يوم مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة، وهو الذبيح في قول مشهور. وإسحاق: أمّه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح في رأي القرطبي «١». ومن ولده: الروم واليونان والأرمن ونحوهم وبنو إسرائيل، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة، ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ودخل يعقوب فيمن أوصى إبراهيم.
ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأوصى يعقوب بنيه كما فعل إبراهيم، عاش يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده.
وبما أن الإسلام قديم وهو دعوة كل الأنبياء، أوصى إبراهيم ويعقوب بالتزامه، فقالا: الزموا الإسلام وداوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا، فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت، ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما.
فظاهر قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: وهو النهي عن
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٣٥ والأصح كما سيأتي في سورة (الصافات) أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
319
الموت إلا على حالة الإسلام، غير مراد، وإنما المقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت، فهو نهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف الإسلام «١».
إبطال دعوى اليهود أنهم على دين إبراهيم ويعقوب
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٧]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
الإعراب:
ما تَعْبُدُونَ ما اسم استفهام في موضع نصب ب تَعْبُدُونَ وتقديره: أي شيء تعبدون مِنْ بَعْدِي أي بعد موتي، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ في موضع جر على البدل من آبائِكَ ولا ينصرف للعجمة والتعريف.
إِلهاً واحِداً إما منصوب بدل من قوله إِلهَكَ أو حال منه.
(١) تفسير البحر المحيط: ١/ ٣٩٩.
320
تِلْكَ أُمَّةٌ مبتدأ وخبر. قَدْ خَلَتْ صفة «لأمة» وكذلك لَها ما كَسَبَتْ.
بَلْ مِلَّةَ منصوب بفعل مقدر، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حَنِيفاً إما حال منصوب، من إبراهيم، لأن المعنى: بل نتبع إبراهيم أو منصوب بفعل مقدر تقديره: أعني، إذ لا يجوز وقوع الحال من المضاف إليه.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ الباء زائدة، مثل قوله تعالى: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس ١٠/ ٢٧] أي مثلها كالآية الأخرى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠].
وما آمَنْتُمْ: «ما» مع الفعل بعدها في تأويل المصدر، وتقديره: بمثل إيمانكم به أي بالله.
البلاغة:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ معنى الاستفهام هنا: التقريع والتوبيخ، وهو في معنى النفي، أي ما كنتم شهداء، فكيف تنسبون إليه ما لا تعلمون ولا شهدتموه أنتم ولا أسلافكم. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ كنى بالموت عن مقدماته، لأنه إذا حضر الموت نفسه لا يقول المحتضر شيئا. آبائِكَ مجاز للتغليب، إذ شمل العلم وهو إسماعيل، والجد وهو إبراهيم، والأب وهو إسحاق.
وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى فيه إيجاز بالحذف، أي قال اليهود: كونوا يهودا، وقال النصارى: كونوا أنصاري.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ فيه إيجاز، أي يكفيك الله شرهم. والتعبير بالسين بدل سوف للدلالة على أن النصر عليهم قريب. السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من صيغ المبالغة، ومعناه: الذي أحاط سمعه وعلمه بجميع الأشياء.
المفردات اللغوية:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ «أم» هنا بمعنى «بل» وبمعنى همزة الإنكار والمعنى: أكنتم حضورا، والهمزة بمعنى النفي، أي ما كنتم شهداء، وحضور الموت: حضور أماراته ومقدماته، بَعْدِي بعد موتي.
أُمَّةٌ جماعة، خَلَتْ مضت وذهبت لَها ما كَسَبَتْ ما عملت، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ أي أنتم مجزيون بأعمالكم.
هُوداً أَوْ نَصارى أو للتفضيل، والهود: اليهود، جمع هائد أي تائب، وقائل الأول:
يهود المدينة، وقائل الثاني: نصارى نجران. حَنِيفاً مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم.
321
قُولُوا: آمَنَّا خطاب للمؤمنين. وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من الصحف العشر.
الْأَسْباطِ واحدهم سبط أي ولد الولد، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم، وهم أولاد يعقوب وَما أُوتِيَ مُوسى وهو التوراة وما أوتي عيسى وهو الإنجيل لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى.
شِقاقٍ خلاف معكم، مأخوذ من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد في شق غير شق صاحبه، لما بينهما من عداوة.
سبب نزول الآية (١٣٣) :
نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟.
وسبب نزول الآية (١٣٥) :
هو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فأتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله فيهم: وَقالُوا: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: نزلت في رؤوس يهود المدينة:
كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وأبي ياسر بن أخطب، وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن. وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك، ودعوهم إلى دينهم.
322
التفسير والبيان:
ما كنتم يا معشر اليهود المكذبين محمدا حاضرين حين احتضر يعقوب، فلا تكذبوا عليه، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية وهي الإسلام، وبه أوصوا ذريتهم. والدليل أن يعقوب قال لبنيه: أي شيء تعبدون بعد موتي؟
فأجابوه: نعبد إلهك الله الواحد الذي دلت الأدلة على وجوده ووحدانيته، ولا نشرك به سواه. وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ونحن له منقادون خاضعون لحكمه. وجعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا، تشبيها له بالأب، وفي الحديث الصحيح عند الشيخين: «عم الرجل صنو أبيه».
ثم رد الله تعالى على اليهود أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم، فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات، بقوله: تلك أمة قد مضت بمالها وما عليها، وجرت سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره، كما قال تعالى:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم ٥٣/ ٣٦- ٣٩]
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا بني هاشم، لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم».
فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم، كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم.
وبعد أن بين الله تعالى أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا، وأن على العرب وأهل الكتاب اتباع الإسلام الذي هو امتداد لدعوة الأنبياء السابقين، وأن الخلاف في الجزئيات لا يغيّر من جوهر الدين. بعد هذا ندد المولى سبحانه بتمسك أهل الكتاب بفوارق الدين الجزئية، فقال اليهود: كونوا مع اليهود في دينهم تهتدوا إلى الطريق السوي، وقال النصارى: كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق، وأتباع كل دين يدعون أن دينهم خير الأديان، فأجابهم الله بقوله:
تعالوا إلى ملة إبراهيم الذي تدّعون أنكم على دينه، فهي الملة التي لا انحراف فيها
323
ولا اعوجاج، ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم. وفي هذا تعريض بشركهم حين قالوا: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله.
ثم أمر الله المؤمنين بأن يقولوا: آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة رب العالمين، فهو مصدر الأديان كلها، فلا نكذب أحدا من الأنبياء، بل نصدقه جملة واحدة، ونؤمن بجوهر الدين وأصله الذي لا خلاف فيه، ونشهد أن جميع الأنبياء رسل الله بعثوا بالحق والهدى، فلا نفعل فعل اليهود الذين تبرؤوا من عيسى ومحمد عليهما السلام، ولا نفعل فعل النصارى الذين تبرؤوا من محمد صلّى الله عليه وسلم. ونحن خاضعون لله، مطيعون له، مذعنون له بالعبودية، وذلك هو الإيمان الصحيح، أما أنتم فتتبعون أهواءكم، فالمؤمن حقيقة: هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء، ولا يفرق بين أحد من الرسل، ويؤمن بكل ما جاء به الكتاب الإلهي، فلا يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض الآخر.
روى البخاري عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرؤن والتوراة بالعبرية، ويفسرونها للمسلمين بالعربية، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله... » الآية «١».
وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا إلى النَّبي صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بالتوراة والإنجيل، وليسعكم القرآن».
فإن آمن أهل الكتاب الإيمان الصحيح بالله كما آمنتم، فأقروا بوحدانية الله، وصدقوا بما أنزل على النبيين والمرسلين، فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه يا محمد من الرجوع إلى أصل الدين، وفرقوا بين رسل الله، فصدقوا ببعض، وكفروا ببعض، فإن موقفهم موقف الشقاق
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٤٠.
324
(الخلاف) والنزاع والعداوة، وإذا كان هذا موقفهم فسيكفيكم الله شرهم وأذاهم ومكرهم. وسيبدد شملهم، وينصركم عليهم. وقد تحقق ذلك بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم، وإجلاء بني النضير إلى الشام، وفرض الجزية على نصارى نجران، والله هو السميع لما يقولون ولكل قول، العليم بما يسرون من الحقد والحسد والبغضاء، وبكل فعل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية: قالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ... الآية على أن دين الله واحد في كل أمة، وعلى لسان كل نبي، فهو دين التوحيد الخالص لله، والإذعان لجميع الأنبياء، كما قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى ٤٢/ ١٣].
ولقد حث القرآن على اتباع الدين الواحد الذي يقوم على أمرين:
الأول- التوحيد ونبذ الشرك والوثنية بمختلف الأنواع.
الثاني- الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال.
فمن لم يتصف بالأمرين معا فليس بمسلم، ولا على نهج الدين القيم الذي دعا إليه الأنبياء، ومنهم النّبي صلّى الله عليه وسلم.
فدين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم وأتباعه، وكان إبراهيم حنيفا، أي مائلا عن الأديان المكروهة إلى الدين الحق.
وكل ما يغاير هذا الأصل، فيدعو إلى الإشراك ومخالفة ملة إبراهيم، بجعل عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، فهو من المشركين.
وكل المعبودات من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والأحجار.
325
ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد، كما دلت آية وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة ٢/ ١٣٤]. وآية وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤] أي لا تحمل ثقل ذنب أخرى.
قال الجصاص عن آية تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ: يدل على ثلاثة معان:
أحدها- أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء ولا يعذبون على ذنوبهم، وفيه إبطال مذهب من يجيز تعذيب أولاد المشركين بذنوب، الآباء، ويبطل مذهب من يزعم من اليهود أن الله تعالى يغفر لهم ذنوبهم بصلاح آبائهم. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في نظائر ذلك من الآيات، نحو قوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام ٦/ ١٦٤] وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤] وقال: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ [النور ٢٤/ ٥٤]، وقد
بين ذلك النّبي صلّى الله عليه وسلم حين قال لأبي رمثة، ورآه مع ابنه: أهو ابنك؟
فقال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه»
وقال عليه السّلام: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم، فأقول: لا أغني عنكم من الله شيئا»
وقال عليه السّلام: «من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» «١».
أما الأسباط: فهم ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسمّوا الأسباط من السّبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون.
قال ابن عباس: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلّى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٨٤
326
وأرشدت الآية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ إلى أن الله ناصر عبده ورسوله محمدا على أعدائه، وكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السّلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولّين، بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة، وإجلاء بني النضير.
قال الجصاص: هذا إخبار بكفاية الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم أمر أعدائه، فكفاه مع كثرة عددهم وحرصهم، فوجد مخبره على ما أخبر به، وهو نحو قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «١» [المائدة ٥/ ٦٧].
والمؤمن هو الذي يثق بوعد الله وبتأييده، ويخشى الله ويتقيه، لأنه المهيمن على كل شيء في هذا الوجود، وهو السميع لقول كل قائل، العليم بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم.
صبغة الإيمان وأثره في النفوس والعبودية لله تعالى
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
(١) المرجع والمكان السابق.
327
الإعراب
صِبْغَةَ اللَّهِ أي دين الله، مصدر مؤكد لآمنا، وهو إما منصوب بفعل مقدر، تقديره:
اتبعوا صبغة الله، أو منصوب على الإغراء، أي عليكم صبغة الله، أو منصوب بدلا من قوله تعالى:
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي دنيا، وصِبْغَةَ منصوب على التمييز، كقولك: زيد أحسن القوم وجها.
والجمل الثلاث وهي وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أحوال.
البلاغة:
صِبْغَةَ اللَّهِ سمي الدين صبغة بطريق الاستعارة، حيث تظهر سمته على المؤمن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع.
المفردات اللغوية:
صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة في اللغة: اسم لهيئة صبغ الثوب، وجعله بلون خاص، فهي الحالة التي عليها الصبغ، والمراد بها هنا الإيمان أو دين الله الذي فطر الناس عليه، لظهور أثره على صاحبه، كالصبغ في الثوب. والإيمان أو الدين مطهر للمؤمنين من أدران الشرك، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة، وهو متداخل ومنتشر في قلوب المؤمنين، كما يتداخل الصبغ. وبه يتبين أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل.
أَتُحَاجُّونَنا أتجادلوننا وتخاصموننا فِي اللَّهِ أن اصطفى نبيا من العرب. وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فله أن يصطفي من عباده من يشاء وَلَنا أَعْمالُنا نجازى بها وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ تجازون بها مُخْلِصُونَ الدين والعمل، لا نبغي بأعمالنا غير وجه الله، فنحن أولى بالاصطفاء.
سبب نزول الآية (١٣٨) :
قال ابن عباس: إن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودي، ليطهروه بذلك، ويقولون:
328
هذا طهور، مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك، صار نصرانيا حقا، فأنزل الله هذه الآية «١».
التفسير والبيان:
علّم الله المؤمنين وأمرهم في الآية السّابقة (١٣٦) أن يقولوا: آمنّا بالله وكتبه ورسله، لا نفرّق بين أحد من رسله وكتبه، وأمرهم أيضا في هذه الآية أن يقولوا: صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحقّ والإيمان بما جاء به الأنبياء، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الله الحكيم الخبير؟! ومن صبغة الإسلام، فالله هو الذي يصبغ عباده بالإيمان، ويطهرهم به من أدران الشرك، فلا نتبع صبغة أحد من الزعماء والأحبار، فهي صبغة بشرية مزيفة تفرق الدين الواحد، وتمزق الأمة أحزابا متنافرة.
ونحن لله الذي أنعم علينا بالنعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون لا نعبد سواه، ومخلصون وقانتون، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون في الدين وينقصون، ويحللون ويحرّمون، ويمسحون من النّفوس صبغة التوحيد، ويضعون فيها صبغة الشرك بالله.
ثم أمر الله نبيّه بأن يقول لأهل الكتاب: أتجادلوننا في دين الله، وتدّعون أن الدين الحقّ هو اليهودية والنصرانية، وتتأملون بهما دخول الجنة، وتقولون أحيانا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة ٢/ ١١١]، وأحيانا تقولون: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة ٢/ ١٣٥].
ومن أين لكم هذه الدّعاوى وادّعاء الهداية والقرب من الله دوننا، والله ربّنا
(١) تفسير الكشاف للزمخشري: ١/ ٢٤١، أسباب النزول للواحدي: ص ٢٢، تفسير القرطبي:
٢/ ١٤٤. [.....]
329
وربّكم وربّ العالمين، لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله، فهو خالقنا وخالقكم، ومالك أمرنا وأمركم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة، والله يجازي كل إنسان بعمله، فلا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، أما أنتم فقد اعتمدتم على أسلافكم الصالحين، وزعمتم أنهم شفعاء لكم، وأما نحن فنعتمد على إيماننا وعملنا، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال، لا نقصد بها إلا وجهه، فكيف تدّعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟! وكيف تقولون: إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله، أو تقولون: إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها هو لأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط الأنبياء كانوا يهودا، أو كانوا نصارى، فأنتم مقتدون بهم؟ وهذا ادّعاء كاذب، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى، وما حدث اسم النصرانية إلّا بعد عيسى؟
والمراد إنكار ادّعاء الطرفين وتوبيخهم على كلا الأمرين، وهل أنتم تعلمون بالمرضي عند الله، أم أن الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شك أن الله هو العليم بذلك دونكم، وقد ارتضى للناس ملّة إبراهيم، وأنتم تعترفون بذلك، وكتبكم تصدقه قبل أن تجيء اليهودية والنصرانية، فلماذا لا ترضون هذه الملّة؟
ولا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من الله، وهي شهادته تعالى لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية المسلمة، والبراءة من اليهودية والنصرانية، وشهادته تعالى المثبتة في كتاب الله التي تبشر بأن الله يبعث في الناس نبيّا من بني إخوتهم، وهم العرب أبناء إسماعيل.
قال الزمخشري: ويحتمل معنيين:
أحدهما- أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة، وهم عالمون بها.
330
والثاني- أنّا لو كتمنا هذه الشهادة، لم يكن أحد أظلم منّا. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد صلّى الله عليه وسلم بالنّبوة في كتبهم، وسائر شهاداته «١».
وليس الله غافلا عن أعمالكم، فهو محصيها ومجازيكم عليها، وفي ذلك وعيد وتهديد، عقب التقريع والتوبيخ.
تلك جماعة الأنبياء لها ما كسبت من الأعمال الحسنة، ولكم ما كسبتم من العمل الحسن، ولا يسأل أحد عن عمل غيره، بل يسأل عن عمل نفسه، فلا يضره ولا ينفعه سواه، فأنتم لا تسألون عن أعمال السابقين، وهم لا يسألون عن أعمالنا، تلك قاعدة الأديان التي أقرتها العقول، وهي المسؤولية الشخصية أو الفردية، كما قال تعالى: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم ٥٣/ ٣٨- ٣٩]. كرّر الحقّ سبحانه هذه القاعدة وهذه الآية بمناسبات متعددة، فقد ذكرت في الآية السابقة (١٣٤) للمبالغة عما يفتخرون به من أعمال الآباء، والاتّكال على الماضي، وهذا شأن الخامل الضعيف الذي ينظر إلى الماضي، ويتكاسل عن المستقبل.
وكرر الله أيضا قوله في مواطن كثيرة: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لتأكيد الجزاء والحساب ورصد الأعمال، وذلك هو العدل المطلق بين الخلائق، قال أبو حيان: ولا تأتي الجملة إلّا عقب ارتكاب معصية، فتجيء متضمنة وعيدا، ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
نبذ الإسلام كلّ الصّور والهياكل والطقوس الفارغة كالمعمودية عند النصارى ونحوها، وأعلن بكل صراحة أن المعول عليه هو ما فطر عليه النفوس من الإقرار
(١) الكشاف: ١/ ٢٤٢.
(٢) البحر المحيط: ١/ ٤١٦، ط الرياض.
331
بوحدانية الله، وإخلاص العمل لله، وحبّ الخير والاعتدال في الأمور، كما قال سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم ٣٠/ ٣٠].
وإن روح الدّين التوحيد، وأساسه الإخلاص، وهذا ما دعا إليه جميع الأنبياء، وجدد الدعوة إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، فدعوته أو شريعته مكملة لدعوة وشريعة إخوانه النبيين والمرسلين.
أما الدعاوي الرخيصة، والأكاذيب المفتراة، والأماني التي لا تعتمد على برهان، مما صدر من اليهود والنصارى، فكل ذلك باطل بالحجج الثلاث التي دحض بها القرآن كل ما ذكر وهي قوله: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ [البقرة ٢/ ١٣٩]، وقوله: أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة ٢/ ١٤٠]، وقوله:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٤٠].
ولا تكون النجاة بالاعتماد على أعمال الآخرين من الأسلاف وغيرهم، ولا على شفاعة الصالحين دون انتفاع بهديهم وسنتهم، وإنما السعادة والنجاة بالعمل الصالح. وأساس الصلاح إخلاص العبادة لله، وحقيقة الإخلاص: تصفية الفعل عن مراءاة المخلوقين.
وقد أكّدت هذه الآيات أمرين عظيمين جدا هما:
الأوّل- أن المسؤولية الشخصية أساس الحساب، ومناط الجزاء والعقاب، وهذا ما تفاخر به الشريعة الإسلامية التي جاءت ناقضة لأعراف الجاهلية عند العرب والرومان من توجيه المسؤولية لغير الجاني الحقيقي.
الثاني- أن أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بعملهم وكسبهم، فغيرهم من الناس العاديين أحرى وأولى.
انتهى الجزء الأول
332

[الجزء الثاني]

[تتمة سورة البقرة]
التمهيد لتحويل القبلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
الإعراب:
وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ: إِنْ مخففة من إنّ الثقيلة، واسمها محذوف أي وإنها، واللام في لَكَبِيرَةً لام التأكيد التي تأتي بعد إن المخففة من الثقيلة، ليفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما» في نحو قوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الفرقان ٢٥/ ٤٤]. والتاء في كانَتْ إما أن يراد بها التولية من بيت المقدس إلى الكعبة، وإما أن يراد بها الصلاة، أي وإن كانت الصلاة لكبيرة إلا على من هداهم الله. هَدَى اللَّهُ أي هداهم الله، فحذف ضمير المفعول العائد من الصلة إلى الموصول، كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان ٢٥/ ٤١]. أي بعثه الله. وإنما حذف الضمير تخفيفا.
البلاغة:
يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ استعارة تمثيلية، حيث مثّل لمن يرتد عن دينه بمن ينقلب على عقبيه.
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ من صيغ المبالغة، والرأفة: شدّة الرحمة، وقدم الأبلغ مراعاة للفاصلة والمعنى متقارب.
5
المفردات اللغوية:
السُّفَهاءُ السّفه: اضطراب الرأي والفكر أو الأخلاق، والسفهاء: الجهال ضعفاء العقول، والمراد بهم هنا: منكر وتغير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين. وَلَّاهُمْ صرفهم أي النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. «القبلة» أصلها الحالة التي يكون عليها المقابل، ثم خصت بالجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة، وهي قبلة المسلمين في الصلاة وهي جهة الكعبة المشرفة لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الجهات كلها، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. صِراطٍ طريق. مُسْتَقِيمٍ مستوي معتدل من الأفكار والأعمال، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة، وهو دين الإسلام.
وَسَطاً الوسط: منتصف الشيء أو مركز الدائرة، ثم أستعير للخصال المحمودة، إذ كلّ صفة محمودة كالشجاعة وسط بين الطرفين: الإفراط والتفريط، والفضيلة في الوسط. والمراد: الخيار العدول الذين يجمعون بين العلم والعمل. عَقِبَيْهِ العقب مؤخّر القدم، يقال: انقلب على عقبيه عن كذا: إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء، وهو طريق العقبين، والمراد: يرتد عن الإسلام.
إِيمانَكُمْ صلاتكم إلى بيت المقدس، فإنها مسببة عن الإيمان، بل يثيبكم عليه، لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل. بِالنَّاسِ المؤمنين. لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة: شدّة الرحمة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة أعم، إذ تشمل دفع الضرر، وفعل الإحسان.
سبب النزول:
روى البخاري عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية [البقرة ٢/ ١٤٤]، فقال السفهاء من الناس وهم اليهود: ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قال الله تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية.
وفي الصحيحين عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
6
المناسبة بين الآيات:
ما يزال القرآن يتصدى لما كان عليه اليهود وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين كإنكار تحويل القبلة والنسخ.
كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي وهو بالمدينة متجها إلى الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس، كما كان أنبياء بني إسرائيل يفعلون قبله، وظل كذلك ستة عشر شهرا، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة، فكان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة، فيصلي في جنوب الكعبة مستقبلا الشمال، فاستجاب الله له وأمره بالتوجه إلى البيت العتيق، بعد هجرته إلى المدينة، ونزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة ٢/ ١٤٤]. وكان أول صلاة صلاها هي العصر، كما في الصحيحين، قال اليهود والمشركون والمنافقون: ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟ وقالوا: لقد اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينه.
وقد بدئ الكلام بالرّد على اعتراضهم على التحويل قبل وقوعه، معجزة له عليه الصلاة والسّلام، ولقن الله نبيه الحجة البالغة والحكمة فيه، ليوطن نفسه عليه، ويستعد للإجابة، عند مفاجأة التساؤلات. وخلاصة الجواب: أنّ الجهات كلها لله، فلا مزية لجهة على أخرى، ولله أن يأمر بالاتجاه إلى ما يشاء من أي جهة، وعلى العبد امتثال أمر ربه كما قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١١٥].
التفسير والبيان:
مهّد الله تعالى لتحويل القبلة في هذه الآيات، وأبان السبب، وقضى على ما علم سبحانه من ظهور اضطرابات عند التحويل، حتى لا يفاجأ المسلمون بشيء
7
من حملات التشويش والنقد والتشكيك، فأوضح تعالى أن سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والإيمان من طوائف اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون منكرين متعجبين: أي شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي قبلة الأنبياء والمرسلين؟ أما اليهود فساءهم ترك الاتّجاه لقبلتهم، وأما المشركون فقصدوا الطعن في الدين، ورأوا ألا داعي للتوجه في الحالين، وأما المنافقون:
فشأنهم انتهاز الفرص لزرع الشكوك في الدين، ومحاولة الإبعاد عنه بسبب هذا التغيير، وعدم الاستقرار، ومخالفة الأعراف السابقة بالاتّجاه لبيت المقدس.
فردّ الله عليهم جميعا بأنّ الجهات كلها لله، ولا مزية لجهة على أخرى، وليست صخرة بيت المقدس أو الكعبة ذات نفع خاص لا يوجد في غيرهما، وإنما الأمر كله لله، يختار ما يشاء، وأينما تولوا فثّم وجه الله، ومن مراده المطلق أنه يجعل للناس قبلة واحدة تجمعهم في عبادتهم، وقد أمر الله المؤمنين في بداية الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، إعلاما بأن دين الله واحد، ووجهة جميع الأنبياء واحدة، وقصدهم الحقيقي هو الاتجاه إلى الله، ثم أمرهم بالاتّجاه إلى الكعبة، فامتثلوا الأمر في الحالين، لأن المصلحة فيما أمر الله، والخير فيما وجّه، والله يرشد من يشاء إلى الطريق الأقوم المؤدي لسعادة الدنيا والآخرة، سواء بالتوجه إلى بيت المقدس أو بالاتجاه إلى الكعبة.
ثم خاطب الله المؤمنين ممتنّا ومتفضلا عليهم قائلا لهم: وَكَذلِكَ.. «١»
أي كما هديناكم إلى الصراط المستقيم وهو دين الإسلام، وحولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السّلام واخترناها لكم، جعلنا المسلمين خيارا عدولا، فهم خيار الأمم والوسط في الأمور كلها بلا إفراط، ولا تفريط، في شأن الدين والدنيا، وبلا غلو
(١) كذلك: الكاف للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب إما لكونه نعتا لمصدر محذوف، وإما لكونه حالا، والمعنى: جعلناكم أمة وسطا جعلا مثل ذلك.
8
لديهم في دينهم، ولا تقصير منهم في واجباتهم، فهم ليسوا بالماديين كاليهود والمشركين، ولا بالروحانيين كالنصارى، وإنما جمعوا بين الحقّين: حقّ الجسد وحقّ الروح، ولم يهملوا أي جانب منهما، تمشيا مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسد وروح.
ومن غايات هذه الوسطية وثمرتها: أن يكون المسلمون شهداء على الأمم السابقة يوم القيامة، فهم يشهدون أن رسلهم بلغتهم دعوة الله، ففرط الماديون في جنب الله وأخلدوا إلى اللذات، وحرم الروحانيون أنفسهم من التمتع بحلال الطيبات، فوقعوا في الحرام، وخرجوا عن جادة الاعتدال، فجنوا على متطلبات الجسد.
ويؤكد ذلك أن يشهد الرسول على أمته محتجّا بالتبليغ، أي أنه بلّغهم شرع الله المعتدل، وأنه كان إماما مقسطا، وقدوة حسنة، ومثلا أعلى في الوسطية، فلا يحيدون عنها، لأنهم معرّضون لإقامة الحجة عليهم من نبيهم، بما أعلنه من الدين القويم، وبما التزمه من السّيرة الحسنة، فمن حاد عنها شهد عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس من أمته التي وصفها الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران ٣/ ١١٠]، وبذلك خرج من الوسط إلى الانحراف، ويكون حسبان شهادة الرسول بمثابة العاصم عن الانحراف، والتزام الحقّ والعدل.
ويوضح نوعي الشهادة على الأمم وشهادة الرسول باعتبار أن الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له: ما
روي: «أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة، على أنهم قد بلّغوا، وهو أعلم، فيؤتى بأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم، فيقولون:
علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم
، وذلك قوله
9
تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء ٤/ ٤١].
والسبب في تأخير صلة الشهادة (أي على) أولا في قوله تعالى شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وتقديمها آخرا في قوله عَلَيْكُمْ شَهِيداً: هو أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.
والحاصل: أن الشهادة على الأمم ميزانها وسببها وسطية الإسلام، ويؤكدها شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أمته بأنه يزكيهم ويعلم بعدالتهم.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ أي إنما شرعنا لك يا محمد التوجّه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيث توجهت، ممن ينقلب على عقبيه، أي فيتبين الثابت على إيمانه ممن لاثبات له، فهو امتحان وابتلاء ليظهر ما علمناه، ويجازى كل إنسان على عمله. هذا هو الظاهر من الآية في أنّ المراد بالقبلة هنا: القبلة الأولى، لقوله تعالى كُنْتَ عَلَيْها. وقيل: الثانية أي الكعبة، فتكون الكاف زائدة، والمراد أنت عليها الآن، كما في قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران ٣/ ١١٠]، أي أنتم، في قول بعضهم.
وقد اتّجه الزمخشري ومثله أبو حيان إلى القول الثاني قائلا: الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ليست بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل، يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفا لليهود، ثمّ حوّل إلى الكعبة. فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة، يعني وما رددناك إليها إلا امتحانا للناس وابتلاء.
10
والمراد بقوله: إِلَّا لِنَعْلَمَ... ظهور العلم بين الناس ووقوعه، قال علي رضي الله عنه: معنى لِنَعْلَمَ: لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفيل ١٠٥/ ١]، بمعنى ألم تعلم.
وقوله: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي وإن كانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجّه إلى القبلة الأولى، أو هذه الفعلة أي التحويلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسرّ تشريعه، ووفقهم لما يريد، فعلموا أن المطلوب طاعة الله حيثما شاء، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما: هو اجتماع الأمة عليها، وتوحيد مشاعرهم نحوها، مما يدفعهم إلى اتّحادهم وجمع كلمتهم في كل شؤون حياتهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة ٩/ ١٢٤- ١٢٥].
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ.. أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضي بإضاعة ثباتكم على الإيمان واتباعكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة وفي القبلة، وأن الله يجزيكم الجزاء الأوفى، ولا يضيع أجركم، والسبب في ذلك أن الله رءوف بعباده، ذو رحمة واسعة بخلقه، فلا يضيع عمل عامل منهم، ولا يكون ابتلاؤهم لمعرفة صدق إيمانهم وإخلاصهم سببا في إضاعة ثمرات الإيمان وتفويت الجزاء، بل يجازيهم أتمّ جزاء.
وقد اتّفق العلماء على أن آية وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ نزلت فيمن مات، وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري عن البراء بن عازب، على ما تقدم في بيان سبب النزول. وخرّج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا، وهم
11
يصلّون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح.
فسمّى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نيّة وقول وعمل. وقال محمد بن إسحاق:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم نبيكم، قال القرطبي: وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.
ثمّ ختم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لإفادة التعليل لما قبلها، أي للطف رأفته وسعة رحمته نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين، أو لا يضيع إيمان من آمن، وهذا المعنى أظهر كما قال أبو حيان «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان الحقيقي أو التسليم التامّ لله يقتضي الإذعان لأوامر الله والخضوع لمشيئته واختياره، فإذا أمر الله بالاتّجاه في الصلاة نحو جهة معينة، ثم أمر بالتّحول عنها إلى جهة أخرى، امتثل المؤمن ذلك تمام الامتثال، ولم يخالجه أي شكّ في أوامر الله، ولم يعقب عليها، فالجهات كلّها لله، ولله ملك المشارق والمغارب وما بينهما، والعبرة إنما هي في تمحيض القصد والاتّجاه إلى الله تعالى، ولله أن يأمر بالتّوجه إلى أي جهة شاء، فلا داعي لتعليق الجهال وضعاف العقل والإيمان على تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة. وقد تمّ تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة، قالوا كما في البخاري: حوّلت بعد ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا. وكان تحويلها- كما قال سعيد بن المسيّب- قبل غزوة بدر بشهرين.
وذلك في رجب من سنة اثنتين.
ودلّت هذه الآيات على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا،
(١) البحر المحيط: ١/ ٤٢٧
12
وأجمعت عليه الأمة إلا من شذّ، وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها في أحد القولين الآتيين نسخت مرتين.
ودلّت أيضا على جواز نسخ السّنة بالقرآن الكريم، لأنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السّنة، ثمّ نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: كُنْتَ عَلَيْها بمعنى أنت عليها.
واختلف العلماء حين فرضت الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين:
فقال ابن عباس: إلى بيت المقدس، وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طوال مقامه بمكة، على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة، صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال ابن عبد البر: وهذا أصح القولين عندي.
والسبب أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود، فتوجه إلى قبلتهم، ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبيّن عنادهم وأيس منهم، أحبّ أن يحوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة، لأنها قبلة إبراهيم عليه السّلام.
وقد روى الأئمة- واللفظ لمالك- عن ابن عمر كيف تمّ التحويل، قال:
بينما الناس بقباء «١» في صلاة الصبح، إذ جاءهم آت، فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد
(١) قباء: قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، بها أثر بنيان كثير، وفيها مسجد التقوى.
13
أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة.
وخرّج البخاري عن البراء: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلّى أول صلاة صلّاها العصر، وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صلّيت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا، ولم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
ففي هذه الرواية: صلاة العصر، وفي رواية مالك: صلاة الصبح.
ويستفاد من الآية وهذه الأحاديث أمور ثلاثة:
١- من لم يبلغه الناسخ يظل متعبّدا (مطالبا) بالحكم الأول، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلّون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي، فأخبرهم بالناسخ، فمالوا نحو الكعبة، فالناسخ رافع للحكم الأول، لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حقّ من لم يبلغه.
٢- دلّ ذلك على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف، معلوم بالتواتر من عادة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للآفاق، ليعلّموا الناس دينهم، فيبلّغوهم سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوامر والنواهي.
٣- فهم مما ذكر أن القرآن الكريم كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا بعد شيء، وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة ٥/ ٣].
14
وكما أن الكعبة وسط الأرض، وفي مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية، كذلك جعل الله المسلمين أمّة وسطا، دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط:
العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، فهم خيار عدول أوساط في الموقع والمناخ والطباع والشرائع والأحكام والعبادات ومراعاة دوافع الفطرة، والجمع والتوازن بين مطالب الجسد والروح، وبين مصالح الدنيا والآخرة. لذا استحقوا الشهادة على الأمم، وكانوا سبّاقين للأمم جميعا بالاعتدال والتوسط في جميع الشؤون، والتوسط منتهى الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيؤدي حقوق ربّه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه وغيره من أبناء المجتمع، أقارب أم أباعد.
وأداء الشهادة على الناس في المحشر يكون للأنبياء على أممهم، كما
ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدعى نوح عليه السّلام يوم القيامة، فيقول: لبّيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمّته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته، فيشهدون أنه- أي نبيهم- قد بلّغ. ويكون الرّسول عليكم شهيدا (مزكيّا معدّلا)، فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً إلخ،
القصة المذكورة سابقا هنا في التفسير.
وهذا إنباء من الله تعالى في كتابه بما أنعم على الأمة الإسلامية من تفضيلها باسم العدالة، وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعل المسلمين أولا مكانا، وإن كانوا آخرا زمانا، كما
قال عليه الصلاة والسّلام: «نحن الآخرون السابقون»

وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول شخص على غيره إلا أن يكون عدلا.
15
ودلّ هذا أيضا على صحّة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا، شهدوا على الناس، فكل عصر شهيد على من بعده.
وشهادة الرسول على أمته معناها: الشهادة بأعمالهم يوم القيامة، أو الشهادة لهم بالإيمان، أو الشهادة عليهم بالتبليغ لهم.
وأما تحويل القبلة: فهو اختبار المؤمنين، ليظهر صدق الصادقين، وريب المرتابين، كما هو الشأن في ألوان الاختبار الإلهي بأنواع من الفتن، كما قال لله تعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت ٢٩/ ١- ٣].
والقصد من العلم في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وقوله:
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ.. هو علم الظهور والوقوع، لا أن العلم مسبوق بالجهل، فعلم الله تعالى قديم لا يتجدد، وهو يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع، ومتى تقع، وأين تقع، ولكنه برهان وحجة على الناس من أعمالهم وتصرفاتهم نفسها.
وأما من مات وهو يصلّي إلى بيت المقدس، فثوابه محفوظ كامل غير منقوص، لا يضيعه الله له أبدا، لأن الله واسع الرأفة، شامل الرحمة، فلا يكتفي بدفع البلاء عن المؤمنين المنفذين أوامره، بل يعاملهم بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل.
واختلف العلماء في تأويل: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ فقال بعضهم:
معناها: وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجه إلى القبلة، وتصديقكم لنبيكم، وقال آخرون: المراد به صلاتكم إلى بيت المقدس. وتسمية الصلاة إيمانا إما مجاز، أو إنها تسمى حقيقة إيمانا، كما قال الفقهاء، فهي من أركان الإيمان وعهد
16
الإسلام «١»، أي هي من الإيمان وخصائصه، ولا يتم الإيمان إلا بها، ولأنها تشتمل على نيّة وقول وعمل.
والخلاصة: لم يختلف المسلمون أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بالمدينة إلى بيت المقدس بعد الهجرة مدة من الزمان، فقال ابن عباس والبراء بن عازب: كان التحويل إلى الكعبة بعد مقدم النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسبعة عشر شهرا. وقال قتادة: لستة عشر شهرا، وقد نصّ الله في هذه الآيات على أن الصلاة كانت إلى غير الكعبة، ثم حوّلها إليها بقوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وقوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «٢»، وهي الآية التالية التي نفسرها.
تحويل القبلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٧]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٤١- ٤٢
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٨٤- ٨٥
17
الإعراب:
قَدْ للتحقيق في رأي السيوطي، وقال الزمخشري: بمعنى ربما، وهي للتكثير هنا، ومعناه كثرة الرؤية، فهي مثل «ربما» تأتي للكثير والقليل، مثل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر ١٥/ ٢] أي كثيرا. ونرى هنا بمعنى الماضي، ذكر بعض النحاة: أن «قد» تقلب المضارع ماضيا، مثل ما هنا، ومثل: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور ٢٤/ ٦٤] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر ١٥/ ٩٧] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب ٣٣/ ١٨] والمعنى قد علمنا أو رأينا.
وَلَئِنْ لام القسم. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ الفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها. فَوَلِّ الفاء للتفريع.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مرفوع، إما مبتدا وخبره محذوف، وتقديره: الحق من ربك يتلى عليك، أو يوحى إليك أو كائن، وإما خبر مبتدأ مقدر، وتقديره: هذا الحق من ربك.
البلاغة:
فَوَلِّ وَجْهَكَ أطلق الوجه، وأريد به الذات، من قبيل المجاز المرسل، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ هي أبلغ من الجملة السابقة، لأنها جملة اسمية، ولتأكيد نفيها بالباء.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التحريض على الثبات على الحق.
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فيه تشبيه مرسل مفصل، أي يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم معرفة واضحة كمعرفة أبنائهم.
18
المفردات اللغوية:
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد نظرك مرة بعد مرة في جهة السماء، طلبا للوحي، وتشوقا للأمر باستقبال الكعبة، وكان يودّ ذلك، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السّلام، ولأنها أدعى إلى إسلام العرب، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنوجهنك جهتها، وهذا يدل على أن في الجملة السابقة حالا محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها. فَوَلِّ وَجْهَكَ تولية الوجه المكان: جعله قبالته وأمامه، والمراد بالوجه: جملة البدن، أي استقبل بوجهك في الصلاة نحو الكعبة. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وجهته أو ناحيته، وسميت الكعبة بالمسجد الحرام إشارة إلى أن الواجب على البعيد مراعاة الجهة، دون عين الكعبة: لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد، كما قال الزمخشري.
بِكُلِّ آيَةٍ أي بكل برهان وحجة. أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها، مفرده: هوى، وهو الإرادة والمحبة. الْمُمْتَرِينَ الشاكين.
تاريخ النزول:
اختلف العلماء في تاريخ نزول هذه الآيات:
فقال ابن عباس والطبري: هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ «١»، ويؤيده ما
رواه البخاري عن البراء بن عازب في الحديث المتقدم، قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ.
فقال السّفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى:
قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ.
وقال الزمخشري: إن هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ويكون ذلك للإخبار بمغيّب قبل وقوعه، يحدث من
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٥٨
19
اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعدّ له، فيكون أقل تأثيرا عند المفاجأة، ولإعداد الجواب المسبق، وهو قوله تعالى: قُلْ: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ «١».
سبب نزول الآية: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ:
نزلت هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، كانوا يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنعته وصفته وبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده، إذا رآه مع الغلمان، قال عبد الله بن سلام: لأنا أشدّ معرفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقّا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام.
المناسبة أو وجه الربط بين الآيات:
كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يتشوّق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، ولأنها أدعى إلى إيمان العرب، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين، ولأن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا، ولولا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة؟ فكره النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبلتهم، حتى روي أنه قال لجبريل: وددت لو أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها.
قال أبو حيان: ولما كان صلّى الله عليه وسلّم هو المتشوّف لأمر التحويل بدأ بأمره أولا، ثم أتبع أمر أمته ثانيا، لأنهم تبع له في ذلك، ولئلا يتوهم أن ذلك مما اختص به صلّى الله عليه وسلّم «٢».
(١) الكشاف: ١/ ٢٤٢
(٢) البحر المحيط: ١/ ٤٣٠
20
ولما ذكر الله تعالى ما قاله سفهاء اليهود عند تحويل القبلة، ذكر في هذه الآيات أن إعراض أهل الكتاب عن رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن لشبهة تحتاج إلى إزالة، وإنما لعناد ومكابرة، وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم من جحود أهل الكتاب الذين طمع في إسلامهم، وتضايق من تكذيبهم.
التفسير والبيان:
كثيرا ما نرى تردد نظرك في جهة السماء، حينا بعد حين، متشوقا للوحي، متلهفا لتحويل القبلة إلى الكعبة، والظاهر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، وهو في هذا لا يعدّ معارضا أمر ربه، لأن صفاء نفسه يجعله يتطلع إلى ما يظنه خيرا، ويقدر فيه مصلحة.
ولكونك تتطلع إلى التحويل، لنمكننك من استقبال قبلة تحبها غير بيت المقدس، لهدف سليم في نفسك هو أن يجتمع الناس على قبلة مخصوصة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويتحقق من وراء ذلك خير عظيم. فاصرف وجهك نحو أو تلقاء المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة.
وفي ذكر الْمَسْجِدِ الْحَرامِ دون الكعبة، مع أنها القبلة على ما ثبت في الأحاديث، إشارة إلى أنه يكفي للبعيد الذي لا يعاين الكعبة محاذاة جهة القبلة حين الصلاة. ويؤكده الأمر الإلهي لعموم المؤمنين، وهو قوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي وفي أي مكان كنتم، فاستقبلوا جهته بوجوهكم في الصلاة، وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من فَوَلِّ وَجْهَكَ ويدل على أن المصلي في مختلف البقاع يتجه نحو القبلة، سواء أكان إلى الشرق أم إلى الغرب، وإلى الشمال أم إلى الجنوب الجغرافي، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
والسبب في تأكيد الأمر باستقبال المؤمنين القبلة بعد أمر النّبي بها، مع أن
21
خطاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته: هو الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، فإنها حادث عظيم، كان نقطة تحول في وضع أساس الاستقلال في عبادة المسلمين، وإنهاء الاتجاه نحو قبلة بيت المقدس، ولكي تشتد عزيمة المؤمنين وتطمئن قلوبهم، فيقضون على الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ويضربون بأقوالهم عرض الحائط، ويثبتون على اتباع الرسول، ولدفع توهّم أن القبلة باتجاه الشام. لكل هذا كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة:
وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
ثم عاد القرآن لمناقشة أهل الكتاب الذين اشتركوا في تحريك الفتنة العظمى بعد تحويل القبلة، فقال: إن أهل الكتاب الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا- بما أنزل إليهم في كتبهم في شأن النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتبع ملته- أن تحويل القبلة حق لا شك فيه، وأنه أمر الله، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم، بل مجازيهم عليها.
وجيء بجملة: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراضا بين الكلامين:
المتقدم عنها والمتأخر لوعد الفريقين ووعيدهم.
ثم أوضح القرآن سبب الفتنة وإعراض الكتابيين عن دعوة الإسلام، تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له، فقد أخبره أولا أنهم يعلمون أنه الحق وهم يكتمونه ولا يعملون بمقتضاه، ثم سلاه عن قبولهم الحق باتخاذ موقف معين: وهو التزام موقف المعارضة عنادا ومعاداة، فقال: ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة على أن الحق وهو تحويل القبلة من ربهم، أملا في اتباع قبلتك، ما اقتنعوا ولا صدقوا به، ولا اتبعوك، عنادا منهم ومكابرة، فهم لن يتبعوا قبلتك رغم البرهان الساطع على الحق الإلهي المأمور به، وهو توجهك إلى
22
الكعبة «١»، ولن يكون منك اتباع قبلتهم بعد اليوم، قطعا لأطماعهم في الاتجاه إلى بيت المقدس، وكيف يرجى ذلك، فهم ليست لهم قبلة واحدة، فعيسى كانت قبلته مع موسى، ولكن بعد موت عيسى وتحريف الإنجيل اتخذ النصارى قبلة أخرى. وأما أنت يا محمد فعلى قبلة إبراهيم الذي يقدره جميع أهل الملل، فهي الأجدر بالاتباع، ولا فائدة ترجى من اتباع قبلتهم.
وكل من اليهود والنصارى لا يغيّر الاتجاه إلى قبلته، فلا تترك اليهود قبلتها وتتجه نحو المشرق، ولا تترك النصارى قبلتها وتتجه نحو الغرب، لأن كلّا منهم متمسك برأيه، حقا كان أو باطلا، ولا ينظر إلى حجة وبرهان، وإنما يسير على منهج التقليد الأعمى.
ثم هدد الله نبيه، لتعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس، فقال: ولئن اتبعت يا محمد ما يريده أهل الكتاب، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم، وحرصا على اتباعك والإيمان بك، بعد ما جاءك الحق اليقين واضحا، والعلم القاطع الذي لا شك فيه وهو الدلائل والآيات التي تفيدك العلم وتحصله، لتكونن من الظالمين أنفسهم، المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وهذا في الحقيقة خطاب للمؤمنين لاستبعاد خاطر أو فكرة اتباع أهواء القوم استمالة لهم.
وجملة إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ هي جواب القسم المحذوف، الذي أو أومأت إلى تقديره اللام في لَئِنْ ودلّ على جواب الشرط.
ودليل معرفة الحق من قبل أهل الكتاب: أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلّم بما بشرت به كتبهم، وذكرته من صفات لا تنطبق على غيره، فهم يعرفون النّبي كمعرفتهم التامة بأبنائهم. وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا هذا الحق الواضح الذي يعلمونه من كتبهم، وهو نبوة محمد، وأن الكعبة قبلة.
(١) البحر المحيط: ١/ ٤٣٠
23
ثم أعلن القرآن قاعدة وطيدة عامة: وهي أن الحق ما كان من عند الله وحده، لا من غيره، ويتمثل هذا الحق فيما أمر الله به في القرآن، فهو مما لا شك فيه، فلا تكن يا محمد، وبالأولى غيرك، من الشاكّين في أحقية وصدق ما أنت عليه وهو ما أتاك من ربك من الوحي، ولا تتبع أهواء وأوهام الضالّين الذين لم يتبعوك فيما أمرك الله به، فالقبلة التي تتجه إليها الآن- وهي الكعبة- هي القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء.
والنهي في هذه الآية كالوعيد السابق في آية: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ...
موجّه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به من كانوا غير ثابتي الإيمان من أمته، ممن يخشى عليهم الاغترار بأباطيل المخادعين، والتأثر بأقاويل أهل الفتنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
اتفق المسلمون- بناء على هذه الآية- على أن استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة إلا في حال الخوف أو الفزع، وفي صلاة النافلة على الراحلة (الدابة أو السفينة أو الطائرة)، فإن القبلة حال الخوف جهة الأمن، وفي حال الركوب حيث توجهت به الراحلة.
واتفق العلماء على أن الكعبة قبلة في كلّ أفق، وعلى أن من شاهدها وعاينها، فرض عليه استقبال عينها، فإن ترك استقبالها وهو معاين لها، فلا صلاة له، وعليه إعادة كلّ ما صلّى. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة، وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة.
وأجمعوا على أن كلّ من غاب عنها عليه أن يستقبل ناحيتها وشطرها، فإن خفيت عليه، فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من موقع الشمس، والنجوم، والبوصلة المعروفة، وغير ذلك.
24
وهل القبلة للغائب عين الكعبة أو الجهة؟
قال الشافعية: فرض الغائب إصابة عين الكعبة، لأن من لزمه فرض القبلة، لزمه إصابة العين، كالمكي، ولقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي أنه يجب عليه التوجه إلى الكعبة، فلزمه التوجه إلى عينها كالمعاين.
وقال الجمهور غير الشافعية: فرض الغائب إصابة جهة الكعبة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي وابن ماجه: «ما بين المشرق والمغرب قبلة»
وظاهره أن جميع ما بينهما قبلة، ولأنه لو كان الفرض إصابة عين الكعبة، لما صحّت صلاة أهل الصف الطويل على خط مستو، ولا صلاة اثنين متباعدين يستقبلان قبلة واحدة، فإنه لا يجوز أن يتوجه إلى الكعبة مع طول الصف إلا بقدرها. ويؤكده قول ابن عباس رضي الله عنهما: الكعبة قبلة من في المسجد، والمسجد قبلة من خارجه في مكة، ومكة قبلة سائر الأقطار. وهذا مأخوذ من حديث سيأتي.
قال القرطبي: استقبال الجهة هو الصحيح لثلاثة أوجه:
الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي في أي مكان كنتم من الأرض في شرق أو غرب، فاتجهوا شطر المسجد الحرام.
الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت «١». وهذا هو الراجح لدي، لعدم إمكان استقبال العين، وللتيسير على الناس،
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيت قبلة
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٦٠
25
لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».
وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة:
أجاز الحنفية القائلون بأن القبلة الجهة- من قرار الأرض إلى عنان السماء- الصلاة فرضا أو نفلا فوقها، مع الكراهة، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، وترك التعظيم الواجب لها، ونهي النبي عنه.
وأجاز الشافعية الصلاة فرضا أو نفلا على سطح الكعبة إن استقبل من بنائها أو ترابها شاخصا (سترة) ثابتا، كعتبة، وباب مردود أو عصا مسمّرة أو مثبتة فيه، قدر ثلثي ذراع تقريبا فأكثر بذراع الآدمي، وإن بعد عن الشاخص ثلاثة أذرع.
وأباح الحنابلة أيضا صلاة النافلة على سطح الكعبة، ولكن لا تصح عندهم صلاة الفريضة، لقوله تعالى: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمصلي على ظهرها غير مستقبل لجهتها، والنافلة مبناها على التخفيف والمسامحة، بدليل صلاتها قاعدا، أو إلى غير القبلة في السفر على الراحلة.
ومنع المالكية من صحة الصلاة فوق الكعبة، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها.
ودلّ قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ على أن المصلي ينظر أمامه، لا إلى موضع سجوده، وإلا كان متجها إلى غير شطر المسجد الحرام. وهذا مذهب مالك. وقال الجمهور: يستحب أن ينظر المصلي قائما إلى موضع سجوده. وأضاف الحنفية: وينظر المصلي حال الركوع إلى قدميه، وحال السجود إلى أرنبة أنفه، وحال الجلوس إلى حجره. وهذا الرأي هو الأصح،
26
لتحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام، وأما النظر إلى هذه المواضع فلمنع المصلي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها للنظر. وبهذا الأمر: فَوَلِّ وَجْهَكَ.. نسخ التوجه إلى بيت المقدس.
وأرشدت الآية (١٤٥) إلى أن زحزحة أهل الكتاب عن دينهم أو قبلتهم أمر ميئوس منه، مهما حاول الإنسان إقناعهم، لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، ولا تنفعهم الآيات، أي العلامات الدالة على صدق رسالة الإسلام ووجوب اتباعه، وأنه لو أقام النبي عليهم كلّ دليل على صحة ما جاءهم به، لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لفظ خبر، ويتضمن الأمر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك.
ثم أخبر الله تعالى أن اليهود ليست متّبعة قبلة النصارى، ولا النصارى متّبعة قبلة اليهود، وهذا دليل على اختلافهم وتدابرهم وضلالهم.
والخطاب في قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بعض أمته، وهو من يجوز أن يتّبع هواه، فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته، لعصمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقيننا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للأمر، ولأنه المنزل عليه القرآن. وكذلك قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكّين، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته.
ومما يوضح عناد أهل الكتاب واستكبارهم عن قبول الإسلام أو الحق: أنهم ولا سيما علماؤهم يعرفون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته، كما يعرفون أبناءهم،
27
وخصّ الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، لأن الإنسان قد ينسى نفسه، ولا ينسى ابنه. روي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صلّى الله عليه وسلّم كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه، إلى أمينه في أرضه، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمّه.
وأهل الكتاب يكتمون الحق يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويعلمون نبوته، وهذا ظاهر في صحة الكفر عنادا، مثل قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل ٢٧/ ١٤]، وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة ٢/ ٨٩].
والحق: وهو استقبال الكعبة وغيره، من الله، لا ما أخبر به اليهود من قبلتهم، ولا ما أخبر به النصارى، فالقول الفصل هو للوحي الإلهي، لا لأهواء الجاحدين.
والمراد بالخطاب في قوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في المعنى هو الأمة. والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل، فقولك: لا تكن ظالما أبلغ من قولك: لا تظلم.
والخلاصة: أن جحدهم تحويل القبلة عناد ومكابرة، لأنهم يعلمون علم اليقين نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومتى ثبتت نبوته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه.
28
الاختلاف في القبلة وأسباب تحويلها
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٢]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
الإعراب:
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
: جْهَةٌ
مبتدأ مؤخر، وكُلٍ
خبره المقدم، والوجهة: جاءت على خلاف القياس، لأن القياس أن يقال: جهة، مثل عدة وصلة بحذف الواو، إلا أنهم استعملوها استعمال الأسماء، على خلاف القياس. وَمُوَلِّيها
مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع صفة لوجهة، ووَ
يعود إلى كل، وتقديره: لكل إنسان وجهة موليها وجهه، ويجوز أن يعود إلى الله تعالى، أي الله موليها إياهم.
كَما أَرْسَلْنا..: الكاف في كَما متعلق إما بقوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ أي لأتم نعمتي عليكم في تحويل القبلة، كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وإما متعلق بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ أي اذكروني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، وإما أن يكون وصفا لمصدر محذوف، وتقديره:
اهتداء كما أرسلنا، لأن قبله تَهْتَدُونَ.
29
البلاغة:
هناك جناس الاشتقاق بين أَرْسَلْنا ورَسُولًا.
وهناك إطناب بذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول، وهو قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بعد قوله: وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ.
المفردات اللغوية:
ْهَةٌ
قبلة. وَمُوَلِّيها
أي يولّي وجهه في صلاته. اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
بادروا إلى الطاعات وقبولها. أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
يجمعكم يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم.
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ اليهود أو المشركين. حُجَّةٌ أي مجادلة في التولي إلى غيره، أي لتنتفي مجادلتهم لكم من قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وقول المشركين: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلا إلى دين آبائه، والاستثناء متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء. فَلا تَخْشَوْهُمْ تخافوا جدالهم في التولي إليها. وَاخْشَوْنِي بامتثال أمري. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بالهداية إلى معالم دينكم.
كَما أَرْسَلْنا متعلق ب (أتم) أي إتماما كإتمامها بإرسالنا. يُزَكِّيكُمْ يطهركم من الشرك. الْكِتابَ القرآن. وَالْحِكْمَةَ العلم النافع، وما في القرآن من الأحكام، وقال بعضهم: الحكمة: السنة النّبوية.
هذا.. وإن تكرار الأمر باستقبال الكعبة ثلاث مرات [في الآية (١٤٩) لأول مرة، وفي الآية (١٥٠) مرتين] : لتأكيد الأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة، وقال القرطبي: الحكمة في هذا التكرار أن الأول: فَوَلِّ وَجْهَكَ لمن عاينها وهو في مكة إذا صلّى تلقاءها، والثاني: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ لمن هو ببقية الأمصار وسائر المساجد بالمدينة وغيرها، والثالث: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ لمن خرج في الأسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض «١».
المناسبة:
لما ذكر القبلة التي أمر المسلمين بالتوجه إليها وهي الكعبة، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها، أعلم أن ذلك هو بفعله، وأنه هو المقدر له، وأنه
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ١٦٨
30
هو موجه كلّ منهم إلى قبلته، ففيه تنبيه على شكر الله إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختيارهم له.
التفسير والبيان:
تستمر هذه الآيات في تأييد موقف النّبي صلّى الله عليه وسلّم في اتجاهه إلى الكعبة، وإبطال دعاوى المنكرين. فذكر الله تعالى أن لكل أمة قبلة خاصة بها، فلليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة، وليس لكل الأمم قبلة واحدة، والواجب التسليم لأمر الوحي، وليست القبلة أساس الدين، وإنما المهم التسابق إلى فعل الخيرات، والله يجازي كل عامل بما عمل، والأمكنة في ميزان الله واحدة، فلا تجادلوا في تحويل القبلة، ولا تعترضوا عليه، وقبلة المسلمين واحدة في مختلف أنحاء الأرض، في البرّ والبحر والجو، ولا فائدة من محاجة المشركين في القبلة، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا، فأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة، فيحاسبكم على أعمالكم، والله على كل شيء قدير.
وتفصيل هذا المعنى الإجمالي فيما يأتي:
لكل أمة جهة توليها في صلاتها، فإبراهيم وإسماعيل كانا يتجهان نحو الكعبة، وبنو إسرائيل يستقبلون صخرة بيت المقدس، والنصارى يستقبلون المشرق، وهدى الله المسلمين إلى الكعبة، فالقبلة مختلفة باختلاف الأمم، وليست الجهة أساسا في الدين مثل توحيد الله والإيمان باليوم الآخر، والمطلوب التسليم لأمر الوحي، وتنفيذ الطاعات.
فبادروا في فعل أنواع الخير، وليحرص كل إنسان على أن يكون سباقا إليه، مبتعدا عن كل شرّ وضلال، والشأن فقط لعمل البرّ، والبلاد والجهات ليست أساس القربة إلى الله تعالى، وهي سواء عند الله، والله يأتي بكم في أي مكان تقيمون فيه، ويجمعكم للحساب. والدليل أن الله لا يعجزه أن يحشر الناس يوم
31
الجزاء، مهما بعدت المسافات. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة ٥/ ٤٨].
والاتجاه إلى الكعبة أو المسجد الحرام شريعة عامة في كل زمان ومكان، ففي أي بقعة كنت، فاتجه جهة المسجد الحرام، وقد أعاد الله الأمر بالتوجه إلى الكعبة ثلاث مرات في هذه الآية، بعد الأمر به مرتين في الآية (١٤٤) ليبين أن الحكم عام في كل زمان ومكان، وذكر القرآن مع كل أمر ما يناسبه:
فمع الأمر الأول في الآية (١٤٤) أثبت فيها ذاتها أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق.
ومع الأمر الثاني في الآية (١٤٩) أوضح أنه الحق الثابت من عند الله، الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل، وأن تولي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إياه هو الموافق للحكمة والمصلحة، وأن الله ليس بغافل عن أعمال الناس، وإخلاصهم في متابعة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ما يجيء به من أمر الدين، وسيجازيهم خير الجزاء. وفي هذا وعد للمؤمنين الطائعين بنيل المكافأة على أفعالهم، ووعيد للعصاة بمجازاتهم على أعمالهم.
ومع الأمر الثالث في الآية (١٥٠) ذكر الله الحكمة في تحويل القبلة وهي منافع ثلاث:
١- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ- أهل الكتاب والمشركين- حجة على المسلمين، فأهل الكتاب كانوا يعرفون أن النّبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهي الكعبة، فبقاؤه في اتجاه الصلاة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته. ويعلمون أيضا من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة، فإذا فقدوا تلك الصفة، ربما احتجوا بها على المسلمين. والمشركون كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم عليه السّلام، جاء لإحياء ملة أبيه، فلا ينبغي له أن يستقبل غير
32
بيت ربه الذي بناه جدّه إبراهيم مع ابنه إسماعيل، فجاء التحويل موافقا لما يرونه، ودحضت حجة الفريقين، ومن ورائهم المنافقون.
لكن الذين ظلموا أنفسهم منهم بالعناد وهم مشركو قريش الذين لا يهتدون بكتاب، ولا يؤمنون ببرهان، لأنهم السفهاء، لا تخشوهم في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا يستند إلى دليل معقول، واخشوا صاحب الحق وحده.
ومن أقاويل هؤلاء الظالمين الضالين: أن اليهود قالوا: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه، وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله.
وقال المشركون: رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا، وقال المنافقون: إنه غير مستقر على قبلة، بل هو متردد مضطرب. وكل تلك الآراء لا حجة صحيحة فيها، ولا برهان يقبله العقل منها، وإنما هي جدل في دين الله، وذريعة إلى عدم الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاثبتوا أيها المؤمنون على قبلتكم، ولا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة، لأن كلامهم لا سند له من عقل أو هدي سماوي.
واخشوا الله، فلا تخالفوا ما جاءكم به رسول الله، فهو المنفذ لما وعدكم به، وفي هذا إشارة إلى أن المحق هو الذي يخشى جانبه، وأما المبطل فلا يؤبه له.
٢- وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بتخصيصكم بقبلة مستقلة في بيت ربكم الذي بناه جدّكم إبراهيم، وطهّره من عبادة الأصنام والأوثان، وجعل أفئدة الناس وشعوب العالم تهوي إليه، وتكون سببا في تحقيق منافع مادية ومعنوية لا حصر لها، وجعل محمد بن عبد الله نبيا عربيا من ولد إبراهيم، وإنزال القرآن عليه بلسان عربي مبين، وظهوره في العرب بين أهله وعشيرته الذين أحبوا أن تكون وجهتهم الكعبة، فكان التحويل إلى الكعبة نعمة تامة من الله على المسلمين والعرب.
٣- وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي ولتهتدوا بالثبات على الحق وعدم المعارضة
33
فيه، فإن الفتنة التي أثارها السفهاء بتحويل القبلة أظهرت قوة الحق والإيمان، وضعف الباطل والكفر، ومحّصت المؤمنين، وأظهرت المنافقين، وخذلت الكافرين.
والخلاصة: لقد أتم الله نعمته عليكم باستقلالكم بالبيت الذي جعله قبلة لكم، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم: وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، يتلو عليكم الآيات التي ترشد إلى الحق، وتهدي إلى سبيل الرشاد، ويقيم لكم الأدلة القاطعة على وحدانية الله وعظيم قدرته، ويطهركم من رجس الوثنية، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم، وتزكو، من أشرف العلوم، واحترام العقل، ونبذ التقليد الأعمى، وجعل الدين عاصما من كل زيغ وانحراف، كما أنه يطهر نفوسكم من عادات الجاهلية القبيحة مثل وأد البنات، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة، وسفك الدماء لأوهن الأسباب.
ويعلمكم القرآن الكريم، ويبين لكم الأحكام الشرعية، والأسرار التشريعية التي من أجلها كان القرآن هدى ونورا.
ويعلمكم أيضا الحكمة: وهي معرفة أسرار الأحكام وغاياتها، وبواعثها على العمل والطاعة، كما يعلمكم السنة النّبوية والسيرة الحميدة في شؤون الحياة في السلم والحرب، والقلة والكثرة، والسفر والإقامة. حتى أصبح أصحاب النّبي الذين أطلعهم على أسرار التشريع وفقه الدين حكماء علماء أذكياء، وصار الواحد منهم يحكم البلاد، ويقود الأمة، ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه، لكنه عرف سرّه، وفقه غايته.
ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من أخبار المغيبات، وسير الأنبياء، وقصص الأقوام الغابرة، وأحوال الأمم البائدة أو التي كانت مجهولة عند العرب، وغيرهم من أهل الكتاب أيضا. لهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره، فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.
34
أي فاذكروني بالطاعة والامتثال والعمل الصالح، مثل الحمد والتسبيح والشكر، وقراءة القرآن وتدبرا آياته، والتفكر في الأدلة الكونية على وجودي وقدرتي ووحدانيتي، والتزام ما أمرتكم به، واجتناب ما نهيتكم عنه، والإيمان بالرسل والاقتداء بهم، أذكركم عندي بالثواب والإحسان، وإفاضة الخير، ودوام السعادة والعزة، وأفاخر بكم الملائكة، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم بالقلب واللسان واستعمال كل عضو فيما خلق له من الخير والنفع، ولا تكفروا هذه النعم، بصرفها في غير ما يبيحه الشرع، ولا يقره العقل السليم، فإني مجازيكم على ما قدمتم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كما جاء في آية أخرى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٧١].
فقه الحياة أو الأحكام:
الاتجاه إلى القبلة وسيلة لتوحيد الأمة، والمقصود الحقيقي إنما هو إخلاص العبادة لله، أيا كانت جهة الاتجاه في الصلاة، فلا يصح استغلال الخلاف بين أتباع الأديان، وعلى الناس التسابق في الخيرات وأعمال البّر والإحسان، وعليهم أيضا الطاعة في جميع ما أمر الله به، وما تبدل الأوامر بالاتجاه نحو بيت المقدس أولا، ثم الكعبة بنحو دائم إلا نوع من الابتلاء والاختبار، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكشف عن الكاذبين، وتمييز الخبيث من الطيب، والمسلم من المنافق، فلم يكن تحويل القبلة نقمة، وإنما هو نعمة كبري والأمر في قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
يراد به المبادرة إلى تنفيذ ما أمر الله به، من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحثّ على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بعموم اللفظ، فإن المعنى المراد- كما قال القرطبي- المبادرة بالصلاة أول وقتها، ويسنّ الإبراد بالظهر عند مالك والشافعي لشدة الحرّ، لما
رواه البخاري والترمذي عن أبي ذر الغفاري أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن شدّة الحرّ من فيح جهنم، فإذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة».
35
وسيكافأ كل إنسان على ما قدّم من عمل، ولن يضيع جهده، والله قادر على أن يأتي بجميع الخلائق يوم القيامة، وقادر على كل شيء، ومن مشتملات قدرته وسعتها الإعادة بعد الموت والبلى في أي مكان، في البرّ أو البحر.
ولا تراجع عن الأمر بالاتجاه نحو الكعبة، بدليل تأكيد الأمر في هذه الآية بالاتجاه نحوها ثلاث مرات، بالإضافة إلى الأمر السابق به مرتين في الآية (١٤٤). وما على المؤمنين إلا الإصرار على الاتجاه في صلاتهم نحو الكعبة.
وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء متصل، كما روي عن ابن عباس، واختاره الطبري، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة، حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجّه إلى قبلتنا إلا أنّا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق.
والتهوين من شأن الكفار، وشدّ أزر المؤمنين، والنهي عن خشية الظالمين في التوجه إلى الكعبة، فيه إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه، وأما المبطل فلا يؤبه له.
وقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا: دلّ هذا التشبيه على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وهو تشبيه يدلّ على عظم شأن تحويل القبلة إلى الكعبة.
وأما قوله سبحانه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ففيه الإشادة بصرح العدل بين الناس، والمعنى: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، كما قال سعيد بن جبير، وقال أيضا: الذكر: طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره، وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن.
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله
36
عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي، وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا..»
والمراد: ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات.
وأما قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ فهو تحذير من الله لهذه الأمة، حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، إذ كفرت بأنعم الله، فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت من أجله، فسلبها ما وهبها.
الصبر على البلاء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
الإعراب:
أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ مرفوعان، لأن كل واحد منهما خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم أموات، بل هم أحياء.
البلاغة:
أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ فيه إيجاز بالحذف، أي لا تقولوا: هم أموات، بل هم أحياء، وبين الأموات والأحياء طباق.
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ التنكير للتقليل.
37
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ التضوين في الكلمة الأولى والأخيرة للتفخيم، وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ لإظهار مزيد العناية بهم.
هُمُ الْمُهْتَدُونَ فيه قصر الصفة على الموصوف، أي لا مهتدي غيرهم.
المفردات اللغوية:
بِالصَّبْرِ الصبر: توطين النفس على احتمال المكاره، أي استعينوا على الآخرة بالصبر على الطاعة والبلاء. وَالصَّلاةِ خصّها بالذكر لتكررها وعظمها، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي من الملائكة: الاستغفار، ومن الله: الرحمة. مَعَ الصَّابِرِينَ أي معهم بالعون. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ لنمتحننّكم، من الابتلاء: وهو الاختبار والامتحان ليعلم ما يكون من حال المختبر، والمراد: نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم، بالخوف من العدو: ضد الأمن، وَالْجُوعِ: القحط، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ: بالهلاك وَالْأَنْفُسِ بالقتل والموت والأمراض وَالثَّمَراتِ بالجوائح، أي لنختبرنكم، فننظر أتصبرون أم لا وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على البلاء بالجنة. والمصيبة: كل ما يؤذي الإنسان في نفس أو مال أو أهل. ونقص الثمرات: قلتها.
صَلَواتٌ مغفرة، والصلاة من الله: التعظيم وإعلاء المنزلة. وَرَحْمَةٌ نعمة، والرحمة: اللطف بما يكون لهم من حسن العزاء والرضا بالقضاء.
سبب نزول الآية (١٥٤) :
نزلت في قتلى بدر، وكانوا بضعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، والسبب أن الناس كانوا يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: وَلا تَقُولُوا... الآية.
التفسير والبيان:
كان تحويل القبلة فتنة للناس، لاختبارهم وتمييز المؤمن الحق من المنافق الكاذب، فهو نعمة وليس نقمة، ولكن السفهاء وأهل الكتاب استغلوا هذا الحادث العظيم، وقاموا بحملة من الافتراءات والوشايات لزرع الحقد والبغضاء في النفوس ضدّ المؤمنين، وقد علم الله أن ذلك يستتبع جهودا مكثفة منهم لتأليب
38
الناس على المؤمنين، وسيؤدي هذا إلى القتال حتما، ثم حدث القتال فعلا في سلسلة من المعارك الضارية.
فأبان سبحانه في هذه الآيات أن النعمة قد تقترن بالبلاء وألوان المصائب، ولكن لا دواء لتحمل المصيبة ومقاومة الأعداء من المشركين وأهل الكتاب إلا بالاستعانة بالصبر والصلاة، إذ في الصبر تقوية الإرادة وتحمل المشقة والثبات على المصاعب، وأن الله مع الصابرين، أي بالعون والنصرة والرعاية والتأييد، فلما فرغ سبحانه من بيان الأمر بالشكر، شرع في بيان الصبر، والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكرها، أو في نقمة فيصبر عليها.
وأما الاستعانة بالصلاة فلأنها أم العبادات، وهي طريق الصلة بالله ومناجاته واستشعار هيبة الله وجلاله، وهي مفزع الخائفين، وسبيل تفريج كرب المكروبين، واطمئنان نفوس المؤمنين،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت قرة عيني في الصلاة».
وإذا استعان المؤمن بالصبر والصلاة التي تملأ القلب خشية وخشوعا لله، وتبعد النفس عن الفواحش والمنكرات، هانت عليه المصاعب، وتحمّل كل شدة ومشقة، وقاوم كل عناء وكرب.
لذا أمر الله بهما فقال: استعينوا على نصر دينكم وشعائركم، وعلى كل ما تلاقونه من مكاره ومصائب، بالصبر الذي يتغلب به على كلّ مكروه، وبالصلاة التي تعزز الثقة بالله تعالى وتهوّن الخطوب. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة ٢/ ٤٥].
وإنما خصّ الصبر لأنه أشدّ شيء باطني على النفس، وخصّت الصلاة، لأنها
39
أشدّ عمل ظاهري على الإنسان، إذ فيها انقطاع عن الدنيا، واتجاه إلى الله،
وقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حزبه أمر- اشتد عليه- فزع إلى الصلاة، وتلا هذه الآية.
إن الله ناصر الصابرين ومجيب دعائهم ومفرج كروبهم، والواقع أن الأعمال الفردية والأعمال الجماعية العظيمة لا تحقق ثمارها إلا بالثبات والكفاح الدائم، وعدة ذلك كله الصبر.
ولا تقولوا عن شهداء الكفاح والجهاد الخالص: إنهم أموات، بل هم أحياء في قبورهم حياة ذات طراز خاص ومعالم خاصة، ويرزقون رزقا على كيفية، الله أعلم بها، ولكنّا لا نستطيع إدراك حقيقة تلك الحياة بميزان الحسّ المشاهد، فهي حياة غيبية، في عالم آخر، وطراز آخر، وكلّ ما في الأمر أن الله تعالى أخبرنا عنها، فلا نبحث عنها، ويجب الإيمان بها، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ، عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران ٣/ ١٦٩].
وفيما ذكر إشارة إلى أن المؤمن الذي يضحي بنفسه في سبيل نصر دينه ودعوة ربه هو من الشهداء الأبرار الذين يظفرون بجنان الخلد، وهم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، كما ثبت في الحديث الصحيح.
ثم أقسم الله تعالى فقال: والله لنصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من خوف العدو في القتال، والجوع بالجدب والقحط، ونقص الأموال بضياعها، والأنفس بموتها بسبب الاشتغال بقتال الكفار وغيره، والثمرات بقلتها، وقال الشافعي:
بموت الأولاد، وولد الرجل: ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، وذلك لتهدأ قلوب المؤمنين، وتطمئن لما قد يفاجئهم به المستقبل من أحداث، وليرضوا بقضاء الله
40
وقدره، إذا تعرضوا لمصيبة، وحدث كل هذا، فكان المؤمن يصبح فقيرا حينما يؤمن وتهجره أسرته، أو يخرج من دياره وماله حينما هاجروا إلى المدينة وتركوا مكة، وكان المقاتل يتبلغ بتمرات يسيرات، في أثناء الذهاب إلى المعارك، ولا سيما في غزوتي الأحزاب وتبوك، وكان يعاني المرض ويتعرض للموت حينما استقر في المدينة وأصابه وباؤها وحمياتها التي كانت فيها، ثم حسن مناخها.
وبشر الصابرين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر، ولكن لا تتحقق البشار:
إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، وهم يحتسبون الأجر عند الله قائلين: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وتلك بشارة بحسن العاقبة في أمورهم، فيوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، ولهم من ربهم مغفرة لسيئاتهم، ورحمة خاصة بهم يجدون أثرها في برد القلوب وسكينة النفس عند نزول المصيبة. وهذه الرحمة يحسد عليها الكافرون المؤمنين، لأن الكافر تضيق به الدنيا إذا نزلت به المصيبة، وقد يقتل نفسه، وما أكثر حوادث الانتحار في أوربا وأمريكا!! والصابرون بحق: هم المهتدون إلى الحق والصواب ونافع الأفعال، وهم الذين فازوا بخيري الدنيا والآخرة. والصبر يكون عند الصدمة الأولى
لحديث البخاري عن أنس: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
والبكاء أو الحزن مع الرضا والتسليم للقضاء والقدر لا ينافي الصبر والإيمان،
فقد جاء في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بكى حينما مات ولده إبراهيم، فقيل له:
أليس قد نهيتنا عن ذلك؟ قال: إنها الرحمة، ثم قال: «إن العين لتدمع، وإن القلب ليجزع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
والمذموم: هو فعل ما نهى عنه الشرع من لطم الخدود وشقّ الجيوب والدعاء بدعوة الجاهلية من النواح المحرم على الأموات، وفعل ما يستقبحه العقل من التفوه بكلمات تعبر عن السخط والاعتراض على ما قدّر الله وحكم به.
41
وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة في الصبر وحدوده وقيوده والاسترجاع عند المصيبة، منها ما
رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون «١»، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عاقبته، وجعل له خلفا صالحا يرضاه».
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي موسى أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول:
قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون:
حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد»
.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى- أنها لم تكن في ديني، الثانية- أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة- أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير»، ثم تلا قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
والخلاصة: إن الآيات والأحاديث التي وضعت نظام الدين حضت على الصبر والاسترجاع والقول بما يرضي الله، والاستسلام لقضاء الله وقدره، والرضا بحكمه، فحينئذ يجبر الله المصيبة، بأن يعوض خيرا منها، ويثاب الصابر بالقبول الحسن عند الله والفوز بالجنة.
(١) إِنَّا لِلَّهِ إقرار بالعبودية والملك، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالفناء والبعث من القبور. [.....]
42
فقه الحياة أو الأحكام:
الدنيا دار ابتلاء واختبار، والبلاء يكون حسنا، ويكون سيئا، وأصله المحنة، قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء ٢١/ ٣٥] وقال:
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [الأنفال ٨/ ١٧] والله عزّ وجلّ يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره، فقيل للحسن بلاء، وللسيء بلاء. وتؤكد الآية (١٥٥) أن الامتحان قائم، والمعنى لنمتحننّكم حتى نعلم المجاهد والصابر علم معاينة، حتى يقع عليه الجزاء.
والصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدلّ على قوة القلب وثباته في مقام الصبر، وهو معنى
حديث أنس المتقدم: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى».
وأما إذا بردت حرارة المصيبة، فكل أحد يصبر إذ ذاك.
والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فصاحبه مجاهد، وصبر على طاعة الله، فصاحبه عابد، والثاني أكثر ثوابا، لأنه المقصود. فإذا صبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، أورثه الله الرضا بقضائه. وعلامة الرضا: سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات: وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب.
وإذا أصيب المؤمن بمصيبة: وهي النكبة التي تصيب الإنسان، وإن صغرت، قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
روى عكرمة أن مصباح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطفأ ذات ليلة، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فقيل:
أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: «نعم، كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة»
فالمصيبة إذن: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه،
وروى مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما يصيب المسلم من
43
وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهمّ يهمّه «١» إلا كفّر به من سيئاته».
ومن أعظم المصائب: المصيبة في الدين،
أخرج السمرقندي أبو محمد في مسنده عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب».
قال ابن عبد البر:
وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأن المصيبة به أعظم من كلّ مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النّبوة.
وكان أول ظهور الشرّ بارتداد العرب وتوابعه، وكان المصاب بالنبي أول انقطاع الخير وأول نقصانه.
والاسترجاع تسليم وإذعان وهو قوله تعالى: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وقد جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: إِنَّا لِلَّهِ توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله: وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالهلاك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن مرجع الأمر كله لله تعالى. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب، لما قال:
يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ [يوسف ١٢/ ٨٤].
وبشارة الصابرين: إما بالخلف، كما أخلف الله لأم سلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تزوجها لما مات زوجها أبو سلمة، وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى المتقدّم المتضمن بناء بيت في الجنة يسمى بيت الحمد للصابرين.
وقد أنعم الله على الصابرين المسترجعين بنعم عظمي هي المغفرة والرحمة،
(١) أي يغمّه.
44
لأن الصلاة من الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجّاج: «الصلاة من الله عز وجل: الغفران والثناء الحسن». ومن هذا: الصلاة على الميت، إنما هو الثناء عليه والدعاء له.
وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. والمغفرة والرحمة عدل إلهي، وزاد الله الصابرين شيئا ثالثا وهو الهداية: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.
وخلاصة ما أعتقده: أن من صبر عند الصدمة الأولى، ورضي بالقضاء والقدر، وطلب الأجر والثواب من الله على مصيبته، واحتسب ذلك عند الله، ولم يبدر منه كلمة فيها سوء أدب مع الله، عوّضه الله خيرا عنها في الدنيا، وغمره باللطف الإلهي في الدنيا والآخرة، وأسبغ عليه نعمة كبيرة وفضلا عظيما في الآخرة: وهو مغفرة الذنوب والخطايا، ودخول الجنة، والإقامة في بيت الحمد.
رزقنا الله الإيمان، وربّى نفوسنا على التذرع بالصبر الجميل عند كلّ مصيبة صغرت أم عظمت، والله المستعان، والله مع الصابرين بالعون والولاية والرعاية والنصر.
السعي بين الصفا والمروة وجزاء كتمان آيات الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٢]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
45
الإعراب:
وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ مِنْ إما شرطية، وتَطَوَّعَ شرط، فعل ماض في معنى المستقبل، وهو مجزوم بمن الشرطية، وإما بمعنى الذي، وتطوع: جملة فعلية لا موضع لها من الإعراب، لأنه صلة الموصول. وخَيْراً منصوب بنزع الخافض أي من تطوع بخير. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ جواب الشرط، مجزوم بمن الشرطية، مثل قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف ٧/ ١٨٦].
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ: أُولئِكَ مبتدأ، ولَعْنَةُ اللَّهِ إما خبر، وإما مبتدأ ثان، وعَلَيْهِمْ خبره المقدم عليه، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول، والمبتدأ الأول وخبره: خبر إن.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء متصل، والمعنى: تابوا عن الكفر إلى الإسلام أو عن الكتمان إلى الإظهار.
خالِدِينَ حال منصوب من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير خالِدِينَ. ولا هُمْ يُنْظَرُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير خالِدِينَ أو من ضمير عَنْهُمُ.
البلاغة:
مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيه إيجاز بالحذف، تقديره: من شعائر دين الله.
شاكِرٌ عَلِيمٌ أراد به الثواب على الطاعة، أي أنه أطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز.
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ فيه التفات من ضمير المتكلم «نلعنهم» إلى الغيبة، وذكر اسم الجلالة لإلقاء المهابة في القلب.
يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ فيه جناس الاشتقاق، وهو محسّن بديعي.
46
خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة أو في النار، وأضمرت النار تهويلا لأمرها.
وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أتى بالجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مكانان مرتفعان بمكة بينهما (٧٦٠ ذراعا) والصفا: تجاه البيت الحرام، وما بينهما المسعى، وهو مسقوف الآن، ومبلط بالرخام الجميل، مثل سائر الحرم المكي.
شَعائِرِ اللَّهِ جمع شعيرة وهي العلامة، وتسمى المشاعر أيضا، وواحدها مشعر، وهي تطلق أحيانا على معالم الحج ومواضع النسك، وحينا آخر على العبادة والنسك فيه، والمراد هنا: مناسك الحج، وفيه حذف تقديره: من أعلام دين الله. حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة: القصد، وشرعا قصد البيت الحرام للنسك أو أداء المناسك المعروفة. والعمرة لغة: الزيارة، وشرعا: زيارة مخصوصة للبيت الحرام، وهي كالحج، لكن ليس فيها وقوف بعرفة ولا بالمزدلفة ولا بمنى، ولا تتحدد بزمان معين، ووقتها: كل أيام السنة. والاعتمار: أداء مناسك العمرة. فَلا جُناحَ فلا إثم. أَنْ يَطَّوَّفَ: أصله يتطوّف: أي يكرر الطواف، والمراد به السعي بين الصفا والمروة، وهو من مناسك الحج بالإجماع،
وبيّن صلّى الله عليه وسلّم فرضيته بقوله فيما رواه البيهقي وغيره: «إن الله كتب عليكم السعي»
وروى مسلم: «ابدؤوا بما بدأ الله به»
يعني الصفا.
تَطَوَّعَ فعل الطاعة فرضا أو نفلا، والتطوع لغة: الإتيان بالفعل طوعا لا كرها، ثم أطلق على التبرع بالخير، لأنه طوع لا كره، وعلى الإكثار من الطاعة بالزيادة على الواجب.
فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ لعمله أي مجاز عليه بالإثابة عليه، فهو سبحانه يجزي بالإحسان إحسانا.
يَكْتُمُونَ الكتمان: ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه، وحصول الداعي إلى إظهاره. وما لم يكن كذلك لا يعد كتمانا.
ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى كآية الرجم ونعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فِي الْكِتابِ: التوراة يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ يبعدهم من رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، أو كل شيء، بالدعاء عليهم باللعنة.
خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، أو في النار المدلول بها عليها. يُنْظَرُونَ يمهلون لتوبة أو معذرة، من الإنظار: وهو الإمهال.
47
سبب النزول:
سبب نزول الآية (١٥٨) :
أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة، فقال: «كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام، أمسكنا عنهما، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وأخرج الحاكم مثله عن ابن عباس.
وأخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة:
أرأيت قول الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنهما إنما أنزلت، لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكان من أهلّ لها، يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ...
الآية، ثم سن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما.
ويوضح ذلك ما أخرجه الطبري عن الشعبي: أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا، يسمى إساف، ووثنا على المروة يسمى نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت، مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام، وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر، قال: فأنزل الله أنهما من الشعائر. أي فلا حرج على المسلمين في السعي بينهما، لأنهم يسعون لله، لا للأصنام.
48
سبب نزول الآية (١٥٩ وما بعدها) :
نزلت في علماء أهل الكتاب وكتمانهم آية الرجم وأمر محمد صلّى الله عليه وسلّم. روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتموهم إياه، فأنزل الله هذه الآية.
المناسبة بين الآيات:
كان تحويل القبلة في الآيات السابقة نعمة كبري على المسلمين، إذ جعلتهم مستقلين عن التبعة لغيرهم، ومكنتهم من الإشراف على البيت الحرام، لتطهيره من الشرك والوثنية، ووجهت أنظار المسلمين نحو مكة- قلب الجزيرة والعالم، ولما أثنى الله على الصابرين، وكان الحج من الأعمال الشاقة المضنية للمال والبدن، ناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج، وهو السعي بين الصفا والمروة، لإتمام النعمة بالإشراف على مكة، والتذكير بأهميتها، وإقامة مناسك الحج فيها. وكل من الاتجاه إلى الكعبة والسعي هو أيضا إحياء لملة إبراهيم عليه السّلام، فلا مسوغ بعدئذ لمعاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة، ولا داعي لمحاولتهم زرع الأحقاد والضغائن ضد المسلمين الذين أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة.
التفسير والبيان:
إن الصفا والمروة والسعي بينهما من علامات دين الله، ومن مناسك الحج والعمرة التي تدل على الخضوع لله وعبادته إذعانا وتسليما، يعبده عباده عندهما وما بينهما بالدعاء أو الذكر أو تلاوة القرآن، فمن حج البيت أو اعتمر، فلا إثم عليه ولا خوف من الطواف بهما، وإن كان المشركون يطوفون بهما، فإن طوافهم كان كفرا بسبب تعظيم الأصنام الجاثمة على صخرتي الصفا والمروة، وأنتم تطوفون بهما إيمانا وإطاعة لأوامر الله تعالى.
49
ونفي الإثم والحرج أو الجناح عن السعي يشمل الواجب والمندوب، كما أن التطوع وهو فعل الطاعة يشمل الفرض والنفل. والسر في التعبير بنفي الجناح، مع أن السعي فرض عند الجمهور، وواجب عند الحنفية: هو لبيان خطأ المشركين الذين كانوا ينكرون كون السعي من الشعائر، وأنه من مناسك إبراهيم، وأنه لا مانع منه في الإسلام لتغير قصد الطائفين، ونفي الجناح لا ينافي الإيجاب المقرر شرعا.
وأما التعبير بالشعائر: وهي ما تعبّدنا الله به كالصلاة ومناسك الحج، فللدلالة على وجوب التنفيذ والطاعة، وممارسة العبادة، وإن لم نفهم معناها تمام الفهم، أو ندرك سرها، ولا يقاس عليها غيرها. أما غير الشعائر كالمعاملات من بيع وإجارة وشركة ورهن ونحوها، فهي مشروعة لمصالح البشر، ولها علل وأسباب يسهل فهمها وإدراك مقاصدها، فيجري فيها القياس بحسب المصلحة.
وإقامة شعائر الحج فرض في العمر مرة، ومن تطوع خيرا بأن أكثر من الطاعة وزاد عن الواجب الأصلي، فإن الله يجازيه على الإحسان إحسانا، ويثيب على القليل بالكثير، فلا يبخس أحدا ثوابه، وهو عليم بقصده وإرادته وبمن يستحق هذا الجزاء.
وفي التعبير عن الجزاء الحسن بالشكر تربية على فضائل الأخلاق، إذ إن منفعة عمل العبادة عائدة إليهم، وهو مع ذلك قد شكرهم عليه، فهل يليق بعدئذ كفران النعمة الإلهية وعدم شكرها؟! إن شكر المعروف وتقدير النعمة سمة أهل الوفاء والإخلاص، بل هو سبب لزيادة النعمة ودوامها وإسبال الستر الإلهي على العبد الشاكر الطائع.
وقد حمل العلماء الشكر على الثواب والجزاء بطريق المجاز، لأن الشكر بمعنى مقابلة الإحسان والنعمة بالثناء والتقدير محال على الله، إذ ليس لأحد عند ربه
50
يد ونعمة، ولا حاجة لله تعالى لعمل العباد. وأثبت السلف صفة الشكر لله، فهي صفة تليق بجلاله وكماله.
ثم عاد القرآن إلى كشف موقف أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في عناد النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاداتهم إياه، ولا سيما علماء اليهود وأحبارهم، وما تضمنه موقفهم من أنهم يعرفون النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم، وأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون.
إن الذين يكتمون ويخفون ما أنزل الله- إما بعدم ذكر نصوصه للناس حين الحاجة إليه أو السؤال عنه، كالبشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفاته الموجودة في سفر التثنية، وإما بتحريف الكلم عن مواضعه حين الترجمة، ووضع شيء مكذوب من عندهم مكانه، سواء في التوراة والإنجيل- جزاؤهم الطرد من رحمة الله، وغضب الله عليهم، ولعنهم من الملائكة والناس أجمعين.
وحكمة هذا الجزاء: أن ما أنزل الله من البينات والهدى، كان لخير الناس وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، عن طريق إيراد الأدلة الواضحة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتبيان حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به، فإذا كتموا ما أنزل، وحجبوا الحقائق عن الأعين، أوقعوا الناس في ضرر جسيم، وشر عميم، وعطلوا الكتب السماوية، وفوتوا ما تؤتيه من ثمار وغايات طيبة مرجوة منها.
والآية عامة في كل كاتم ومكتوم، يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم، ومنه كتمان العلم الذي فرض الله بيانه للناس، كما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار»
ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية. والمراد من قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى: كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي والدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.
والمراد من قوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ إما التوراة
51
والإنجيل، والمكتوم: ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأحكام، وإما الكتب المتقدمة وما تبعها وهو القرآن.
واستثنى القرآن من جزاء الكتمان السابق: من تاب من أهل الكتاب وأصلح ما أفسده، وأعلن الحق المسطور في الكتب المنزلة، وأقر بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وصدّق ما جاء به من عند الله، وأماط اللثام عما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل، وأصلح نفسه بصالح الأعمال، فهؤلاء يتوب الله عليهم ويغفر لهم، ويدخلهم الجنة، لأن الله تعالى قابل التوبة كثيرا من غير حدود، رحيم بالمقبلين عليه رحمة واسعة، يعفو عن المسيء، ويغفر زلة المخطئ، ويفيض برحمته على المقصرين إذا أنابوا وتابوا ورجعوا إلى الله تعالى.
أما من ظل مصرّا على الخطأ، وعاند في قبول الحق، وأعرض عن دعوة الله في قرآنه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وظل يغير ويحرف حتى مات، فهذا وأمثاله هم الذين كفروا بالله ورسله وماتوا وهم كافرون، لذا استحقوا لعنة الله، وغضبه ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وكانوا خالدين في النار خلودا دائما، لا يخفف عنهم العذاب، ولا هم يمهلون، فهم ماكثون في تلك اللعنة الشاملة على طريق الدوام، حتى يردوا النار، ويخلدوا في عذاب جهنم، لموتهم وهم كفار.
وفي بيان موقف التائبين والمعاندين ترغيب في التوبة عما فرط الإنسان من الذنوب، وحث على ترك العناد، وإبعاد لليأس من رحمة الله قبل هجوم الموت، كما قال الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٣٩/ ٥٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى أن السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة، لكن علماءنا اختلفوا في تحديد صفته الشرعية:
52
فقال الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) : إنه ركن، فمن لم يسع كان عليه حج قابل،
لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن صفية بنت شيبة: «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي»
وكتب بمعنى أوجب، مثل قوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ،
وقوله عليه الصلاة والسّلام: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد» رواه أبو داود والبيهقي عن عبادة بن الصامت.
وقال الحنفية: السعي واجب، فإن تركه أحد حتى يرجع إلى بلاده، جبره بدم، أي بذبح شاة مثل شاة الأضحية، لظاهر الآية التي رفعت الإثم عمن تطوف بين الصفا والمروة، ووصفت ذلك بالتطوع، فقالت: وَمَنْ تَطَوَّعَ يعني بالتطوف بينهما، ولما
رواه الشعبي عن عروة بن مضراس الطائي، قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمزدلفة، فقلت: يا رسول الله، جئت من جبل طي، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسّلام:
«من صلّى معنا هذه الصلاة «١»، ووقف معنا هذا الوقف، وقد أدرك عرفة قبل- ليلا أو نهارا- فقد تم حجه، وقضى تفثه» «٢»
قالوا: فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين:
أحدهما- إخباره بتمام حجته، وليس فيها السعي.
الثاني- أنه لو كان من أركانه لبينه للسائل، لعلمه بجهله الحكم.
والظاهر أن الآية لا تدل لأحد الفريقين، لأن سببها كما علمنا هو رفع الجناح على من تطوف بالصفا والمروة، بعد أن كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لوجود صنمين أو وثنين (إساف ونائلة) عليهما في الجاهلية، وكانوا يتمسحون بهما ويطوفون من أجلهما، فأبان الله أنه يطاف بهما من أجل الله، وأنهما
(١) يحتمل صلاة العيد
(٢) قضى مناسك الحج
53
من شعائره. وقوله: «ومن تطوع خيرا» يحتمل بالتطوف بهما، ويحتمل بالزيادة على الفرض من التطوف بهما، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنة، وروي فيها آثار مختلفة، فيرجح بينها بحسب الأصول، والراجح لدي رأي الجمهور للأحاديث التي استدلوا بها وهي مصرحة بفرضية السعي. وقوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ إشارة إلى أن السعي واجب، فمن تطوع بالزيادة عليه، فإن الله تعالى يشكر ذلك له.
وآية كتمان ما أنزل الله التي نزلت في أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد كتم اليهود أمر رجم الزناة المحصنين، ليست خاصة بهم، وإنما العبرة بعموم اللفظ، والمراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم حكما شرعيا، أو علما نافعا، أو رأيا صحيحا خالصا نافعا للأمة، ويدل عليه ما
أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة وعمرو بن العاص عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار».
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران ٣/ ١٨٧] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة ٢/ ١٧٤] فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم يتضمن تحريم الكتمان والتحريف، وفي آيات أخرى تصريح إيجابي وأمر واضح في الحث على بيان العلم ونشره، وإن لم يذكر الوعيد، مثل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٢].
والحاصل: إذا قصد العالم كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه معروف لدى غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ، لهذه الآيات والحديث المتقدم.
54
وذكر بعضهم أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم، لأنّها تدل على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه، ولا يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه، كما صرحت آية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة ٢/ ١٧٤] فدل ذلك على بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين.
لكن أفتى المتأخرون بجواز أخذ الأجور على تعليم العلوم الدينية، لتهاون الناس بها، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، حتى لا تضيع العلوم، ولانقطاع مخصصات العلماء من بيت مال المسلمين، واضطرار العلماء إلى التزود بما يعينهم على شؤون الحياة.
ودلت آية كتمان ما أنزل الله على شدة النكير على الكاتمين ووعيدهم، لما في الكتمان من الضرر الجسيم بالناس، وتعطيل الكتب السماوية، ووظيفة الرسالة النّبوية، ولأن العلم يحرم كتمه، ويجب نشره وتعميمه، فإن أقدم إنسان على حرمان الناس من علمه، استحق اللعنة الأبدية من الله ومن الناس أجمعين، لأنهم حرموا الخير والنور ومعرفة طريق الهدى والرشاد.
وقد أرشد قوله سبحانه في تحريم كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى إلى وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان، إلا وقد وجب قبول قوله، وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
ولم يسدّ الحق سبحانه طريق الأمل، فاستثنى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم، ولا يكفي في التوبة قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه مخالفة سلوكه السابق، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد
55
والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه.
ودلت آية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بعدها على خلود الكفار في نار جهنم، فهم خالدون في اللعنة ومستقرة فيهم أي في جزائها، وأنهم مطرودون من رحمة الله، وأن تعذيبهم دائم مستمر بدون انقطاع ولا تخفيف، ولا إمهال أو إرجاء، فهم لا ينظرون أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من الأوقات.
ولا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: «ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان» سواء أكانت لهم ذمة أم لم تكن، وهو مباح غير واجب، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله. وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشرّاب الخمر وأكلة الرّبا، والتشبّه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه.
وأما الكافر المعيّن، فقال ابن العربي: والصحيح عندي جواز لعنه، لظاهر حاله، ولجواز قتله وقتاله «١».
وقد روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم إن عمرو بن العاص هجاني، وقد علم أني لست بشاعر، فالعنه واهجه عدد ما هجاني»
فلعنه، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله. وقال جماعة من العلماء: لا يلعن الكافر المعين، لأنا لا ندري بما يختم الله له. وأما الحديث الذي احتج به ابن العربي فهو ضعيف.
وليس لعن الكافر زجرا له عن الكفر، بل هو جزاء على الكفر، وإظهار قبح كفره، سواء كان الكافر ميتا أو مجنونا. ومع هذا فإن الأولى عدم اللعن عموما، لما يؤدي إليه من المقابلة أو المعاملة بالمثل، وإثارة الخصام والاقتتال.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٥٠
56
ولعنة الكافر من الناس: هي في يوم القيامة، ليتأثر بذلك، ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون لعنه جزاء على كفره، كما قال الله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت ٢٩/ ٢٥].
وأما لعن المسلم العاصي المعيّن: فذكر ابن العربي أنه لا يجوز اتفاقا، لما
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم أنه أتي بشارب خمر مرارا، وهو نعيمان، فقال بعض من حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»
فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة. وكان هذا في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، أما من لم يقم عليه الحد، فلعنته جائزة، سواء سمّي أو عيّن أم لا، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة، ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهّره الحد، فلا لعنة تتوجه عليه.
وأما لعن العاصي مطلقا من غير تعيين، فيجوز إجماعا، لما
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده»
ويجوز لعن الظالم من غير تعيين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود ١١/ ١٨].
وحدانية الإله ورحمته ومظاهر قدرته
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٤]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
57
الإعراب:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ: لا نافية للجنس، وإله: اسمها المنصوب، وخبرها محذوف تقديره: لا إله لنا، أو في الوجود، وهُوَ بدل مرفوع من موضع: لا إِلهَ الذي هو في موضع رفع على الابتداء. والرَّحْمنُ إما مرفوع على البدل من هُوَ وإما مرفوع خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، ولا يجوز أن يكون وصفا لقوله: هُوَ لأنه ضمير لا يوصف ولا يوصف به.
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي معطوف على المجرور قبله، والفلك: يكون واحدا ويكون جمعا، الواحد كقوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء ٢٦/ ١١٩] والجمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس ١٠/ ٢٢].
البلاغة:
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ خبر خال من التأكيد، لقيام الأدلة القاطعة على وحدانية الله.
لَآياتٍ وردت نكرة للتفخيم أي آيات عظيمة دالة على القدرة الإلهية.
المفردات اللغوية:
وَإِلهُكُمْ المستحق للعبادة منكم إِلهٌ واحِدٌ لا نظير له في ذاته ولا في صفاته.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان. وَالْفُلْكِ السفن. وَبَثَّ فِيها نشر وفرّق فيها. دَابَّةٍ كل ما دب من الحيوان على الأرض، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة، وتوجيهها إلى الجهات المطلوبة. وَالسَّحابِ الغيم. الْمُسَخَّرِ المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله.
بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بلا علاقة لَآياتٍ دالات على وحدانيته تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون.
سبب النزول:
عن عطاء قال: نزل على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟
فأنزل الله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
58
وعند أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تعجب المشركون وقالوا: إله واحد؟ إن كان صادقا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر الآية «١».
وجه المناسبة أو الربط بين الآيات:
بعد أن ذكر الله في الآية السابقة حال الكافرين الجاحدين لآيات الله، وحال من كتم الآيات، وعقابهم بالطرد من رحمة الله والخلود في نار جهنم، أتى ببيان سبب الكفر وهو الشرك، وأراد تعالى أن يعالج داء كفرهم بإثبات وحدانية الله بالبرهان، وتعداد مظاهر رحمته وأدلة قدرته، وأن الخير في اللجوء إليه وحده، فقال:
وإلهكم المستحق للعبادة بحق: هو الله الذي ليس في الوجود سواه، والذي وسعت رحمته كل شيء، بيده النفع والخير، وهو القادر على دفع الضر والشر، فلا تشركوا به شيئا، سواء شرك الألوهية: بأن يعتقد المرء أن في الخلق من يشارك الله أو يعينه في أفعاله، وشرك الربوبية: بأن يسند الخلق والتدبير إلى غيره معه، أو تؤخذ أحكام الشرائع من عبادة وحلال وحرام من غيره، كما قال تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٣١].
فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته تعالى. وقوله الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ معناه: المولي لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه.
وإنما خص الله تعالى الوحدانية والرحمة بالذكر دون غيرهما من الصفات، لتذكير الكافرين الكاتمين للحق بأن لا ملجأ أمامهم غير الله لاتقاء عذابه، ولترغيبهم بالتوبة وعدم اليأس من فضله.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٥- ٢٦، البحر المحيط: ١/ ٤٦٤
59
ثم أورد الله تعالى أدلة وحدانيته وقدرته ورحمته في هذا الكون بالذات، فأبان أنه خالق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك من غير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، بديعة الجمال، دقيقة النظام، كل ما فيها يجري لأجل مسمى في مداره، محكمة التناسب فيما بينها عن طريق ما يسمى بالجاذبية، نجومها وقمرها للإنارة وتقدير حساب الشهور، وشمسها للإضاءة وإمداد الحيوان والنّبات بالحرارة، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥]، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... [الأنعام ٦/ ٩٧].
وخالق الأرض الذي جعلها وسطا صالحا للعيش الهادئ المطمئن، وملأها بالكنوز والمنافع المختلفة، وسخرها لخير الإنسان، وأوجد فيها الجماد والمعادن والأنهار والحيوان والنّبات، وجعل لكل مخلوق غاية وحكمة، ولم يخلق ما فيها عبثا، ويسر لكل شيء فيها وسائل الحياة والرزق والدوام والبقاء مدة العيش قال الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات ٥١/ ٢٠].
وكل من خلق السموات والأرضين عدا ما فيه من عظمة وقدرة وبهاء، مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية بالناس جميعا.
ومن أجل إتمام النعمة وإسباغ الرحمة على الإنسان، وتيسير سبل العيش الكريم والراحة والسكينة، أوجد الله تعالى تعاقب الليل والنهار وخالف بينهما في الفصول الأربعة بسبب خطوط الطول والعرض بالطول والقصر، والحرارة والبرودة، وبحسب اختلاف الأقطار والبلدان، كما جاء في آيات كثيرة منها:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً، لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ، أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان ٢٥/ ٦٢] ومنها: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء ١٧/ ١٢].
60
ويسر الله للإنسان سبيل الارتحال ونقل البضائع والتجارات والمواد الثقيلة بين البلدان عن طريق السفن الشراعية والبخارية والذرية التي تحمل مئات الألوف من الأطنان، وتؤدي دورا حاسما في السلم وفي الحرب. ودلالتها على الوحدانية يظهر عند دراسة صناعتها وحمولتها وتصميمها، مثل معرفة طبيعة الماء وقانون ثقل الأجسام وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء، ولا يدرك ذلك إلا العلماء المتخصصون الذي يكتشفون هذه الطاقات ويسخرونها لخدمة الإنسان، وهي من خلق الله الذي أبدع النظام وشملت قدرته كل شيء، كما قال سبحانه:
وَمِنْ آياتِهِ: الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى ٤٢/ ٣٢- ٣٣].
وقد عبّر القرآن عن منافع البحر بإيجاز في قوله تعالى: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي في أسفارهم وتجاراتهم وتنقلاتهم لأغراض مختلفة من قطر لآخر، فيتداولون المنتجات والصناعات ومواد الغذاء وأصناف اللباس والدواء وغير ذلك.
وأنزل الله المطر من السماء لإحياء الأرض بعد موتها، ولينعم به الإنسان والحيوان، فالماء مصدر الحياة، كما قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء ٢١/ ٣٠]. وقال: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج ٢٢/ ٥] فإنزال المطر رحمة وفضل إلهي.
وأما مصدر المطر: فهو من تصاعد بخار ماء بواسطة حرارة الهواء فوق البحار، ثم تتكاثف الذرات المائية وتتكون سحبا، ثم يسقط الماء من خلالها، بفعل تسيير الرياح، وكل ذلك يتم بإرادة الله عز وجل ومشيئته، كما قال:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ. [الروم ٣٠/ ٤٨]. وَهُوَ الَّذِي
61
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ..
[الأعراف ٧/ ٥٧].
ومن أدلة قدرة الله ووحدانيته: توجيه الرياح وتصريفها على حسب الإرادة والمشيئة والنظام الحكيم، تهب من مختلف الجهات الأربع، ولأغراض مختلفة، كتلقيح النّبات والأشجار، كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر ١٥/ ٢٢] وقد تكون عقيما، وقد تكون للعذاب:.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ، كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٢٤- ٢٥].
ومن مظاهر القدرة الإلهية تكاثف السحاب (الغيم) وتجمعه في الجو، ثم تذليله وتفريقه لإنزال المطر في شتى البقاع، على وفق نظام معين، وحكمة بالغة، وتقدير عجيب.
كل هذه الظواهر عبر ومواعظ لمن يعقل ويتدبر وينظر، ليدرك الأسرار والعجائب، ويستدل بما فيها من إتقان وإحكام على قدرة الخالق المبدع، ووحدانية الإله المدبر، ورحمة الله التي وسعت كل شيء، وذلك من كمال الحكمة واكتمال الكون الدال على وجود الله، وأنه إله واحد، وإله كل شيء، وخالق كل شيء، وهذه الآية شبيهة بآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ
[آل عمران ٣/ ١٩٠- ١٩١] وقوله: رَبَّنا مدح المؤمنين الذين يتفكرون ويتعظون.
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها
62
مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ
[يوسف ١٠/ ١٠٥- ١٠٦].
وجاء في الحديث النّبوي عن الآية التي نفسرها هنا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..: «ويل لمن قرأ هذه الآية، فمجّ بها» أي قذف، والمراد: عدم الاعتبار والتفكر والاعتداد بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
لما حذر الله تعالى من كتمان الحق، بيّن أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه: أمر التوحيد، وأعقبه بذكر البرهان وضرورة النظر: وهو التفكر في عجائب الصنع والإبداع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شيء، وأخبر تعالى في آية: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ عن تفرده بالألوهية، وأنه لا شريك له، ولا عديل له، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا إله إلا هو، وأنه الرحمن الرحيم.
جاء في الحديث عن أسماء بنت يزيد بن السّكن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ والم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفي وإثبات، أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه: لا معبود إلا الله.
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة»
والمقصود: القلب، لا اللسان، فلو قال:
لا إله، ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات، لكان من أهل الجنة، باتفاق أهل السنة.
ثم أورد سبحانه الدليل على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته. فهذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع.
63
فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها.
وآية الأرض: بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها.
وآية الليل والنهار: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم، واختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والنهار:
من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليل: من الغروب إلى الفجر.
وآية الفلك (السفن) : تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها، وأول من عملها نوح عليه السّلام، كما أخبر تعالى، وقال له جبريل: «اصنعها على جؤجؤ «١» الطائر» فعملها نوح بما أراه جبريل، فالسفينة طائر مقلوب، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها.
وإذا كانت السفن مسخرة للإنسان، فيجوز ركوب البحر مطلقا، لتجارة كانت أو عبادة، كالحج والجهاد.
وآية الأمطار: كيفية تكونها وتجمعها وتفريقها، وإنعاش العالم بها، وإخراج النّبات والأرزاق، وجعل المخزون منها في الأرض عدة في غير وقت نزولها، كما قال الله تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون ٢٣/ ١٨].
وفي السماء مختلف أنواع الدواب، قال الله تعالى: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ [البقرة ٢/ ١٦٤] والدابة: تجمع الحيوان كله.
وآية الرياح: تصريفها، أي إرسالها عقيما وملقحة، ونكبا وهلاكا ونصرا، وحارة وباردة، وليّنة وعاصفة، وفيها التفريج والتنفيس والترويح،
روى أبو داود عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الرّيح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبّوها، واسألوا الله خيرها،
(١) الجؤجؤ: الصدر، وقيل عظامه.
64
واستعيذوا بالله من شرها»
ويلاحظ أن الرياح تستعمل في الخير، والريح في العذاب،
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا»
لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة ليّنة متقطعة.
وآية السحاب: تجمعه وتحريكه من مكان إلى آخر وثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق، يشبه الجبال، ويدهش لرؤيته من يراه من ركاب الطائرة عند ما تحلق فوقه. قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض.
والخلاصة: أن قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. لتقرير مبدأ الوحدانية، وإثبات الرحمة والرأفة بالمخلوقات، وأما ما ذكر بعدئذ فهو لإقامة الأدلة الواضحة على الوحدانية والقدرة والرحمة. ولم يقتصر الله تعالى في ذكر وحدانيته على مجرد الإخبار، حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي القرآن، فقال لنبيه: قُلِ: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس ١٠/ ١٠١] والخطاب للكفار، لقوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١] وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف ٧/ ١٨٥] والملكوت: الآيات. وقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات ٥١/ ٢١] والمعنى: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر، حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات، لكن الإنسان أكمل منه، وذلك محال.
65
حال المشركين مع آلهتهم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
الإعراب:
يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الذين: فاعل، ويرى بمعنى يعلم، وسدّت أَنَّ وصلتها مسدّ المفعولين. وإنما جاء إِذْ هاهنا وفي الآية (١٦٦) التي هي لما مضى، ومعنى الكلام لما يستقبل، لأن الإخبار من الله تعالى كالكائن الماضي لتحقق كونه وصحة وقوعه. وأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ متعلق بجواب لَوْ وتقديره: لعلموا أن القوة لله.
إِذْ تَبَرَّأَ في موضع نصب، والعامل فيه إما شَدِيدُ الْعَذابِ وإما فعل مقدر، أي اذكر إذ تبرأ. فَنَتَبَرَّأَ منصوب بتقدير أن بعد الفاء التي في جواب التمني، لأن قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمنّ، فينزل منزلة: ليت، وجوابه بالفاء منصوب، والفاء فيه عاطفة، وتقديره: لو أن لنا أن نكرّ فنتبرأ. والكاف في كَما تَبَرَّؤُا منصوب إما لأنها صفة مصدر محذوف، وكَما مصدرية، أي كتبرئهم منا، وإما في موضع نصب على الحال من واو تَبَرَّؤُا.
كَذلِكَ: الكاف إما في موضع نصب على أنها صفة مصدر محذوف وتقديره: إراءة مثل ذلك، وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: الأمر كذلك. وحَسَراتٍ إما منصوب على الحال من ضمير يُرِيهِمُ أو منصوب لأنه مفعول ثالث ليريهم.
البلاغة:
كَحُبِّ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل حيث ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه. أَشَدُّ حُبًّا أبلغ من قوله: أحب لله.
66
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وضع الظاهر موضع الضمير أي بدلا من قوله: «ولو يرون» لبيان سبب العذاب وهو الظلم الفادح. وفي قوله: رَأَوُا الْعَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ما يسمى بالترصيع، وهو أن يكون الكلام سجعا.
المفردات اللغوية:
أَنْداداً أصناما جمع ند: وهو النظير المماثل. يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويخضعون لهم، كما يفعل المحب. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حبهم للأنداد، لأنهم لا يعدلون عنه بحال ما، والكفار يعدلون في الشدة إلى الله. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ إذ بمعنى إذا، ويرى بمعنى يعلم، وجواب لو محذوف، والمعنى: لو علموا في الدنيا شدة عذاب الله وأن القدرة لله وحده وقت معاينتهم له وهو يوم القيامة، لما اتخذوا من دونه أندادا. أو لعلموا أن القوة لله، كما تقدم.
تَبَرَّأَ التبرؤ: المبالغة في التنصل والتباعد ممن يكره قربه وجواره. اتُّبِعُوا أي الرؤساء. مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي أنكروا إضلالهم. الْأَسْبابُ واحدها سبب وهو الحبل، ثم غلب في كل ما يتوصل به إلى مقصد معنوي، والمراد: الصلات والعلاقات.
كَرَّةً رجعة إلى الدنيا. حَسَراتٍ ندامات، والحسرة: شدة الندم والكمد بحيث يتألم القلب.
التفسير والبيان:
أقام الله تعالى في الآية السابقة الأدلة على وحدانيته ورحمته، وذكر هنا حال الذين لا يعقلون هذه الأدلة، فاتخذوا أندادا لله، يلتمسون منهم الخير، ويتأملون بهم دفع الشر، وهؤلاء هم المشركون وهذه حالهم مع آلهتهم في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.
اتخذ هؤلاء المشركون أندادا وأمثالا لله وهم رؤساؤهم، أو أوثانهم وأصنامهم، يعظمونهم ويحبونهم ويطيعونهم ويعبدونهم كتعظيم الله وحبه وطاعته وعبادته، ويتقربون إليهم كتقربهم إلى الله، ويلتجئون إليهم عند الحاجة كالتجائهم إلى الله تعالى. ولكنهم في هذا كله مضطربون حيارى، فقد يلجأون إلى بشر أو صنم أو حيوان، ولا يتحقق لهم بهم مأرب، وأنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.
67
أما اللجوء إلى الله وحده الذي لا إله غيره، ولا ندّ له، ولا شريك معه، فهو المحقق للغاية، لأن الله هو صاحب السلطان المطلق، والقدرة الشاملة، والرحمة الواسعة، ولكن لا بدّ للعبد من اتخاذ الأسباب المساعدة على إجابة الدعاء، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله، كما أن من التجأ إلى غير الله من الأصنام والأوثان فهو مشرك بالله تعالى.
لذا كان المؤمنون أشد حبّا لله من كل ما سواه، ولا يتشكك المؤمن في عدالة الله إطلاقا، فلا يشرك به شيئا، ويلجأ إليه في جميع أموره، وهو مستقر دائم حال الشدة وحال الرخاء في حب الله وتعظيمه، فلا يعدل عنه إلى غيره، بخلاف المشركين، فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد، فيفزعون إليه، ويخضعون له، ويتخذون أندادهم وسائط بينهم وبين الله، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويعبدون الصنم زمانا، ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس «١» عام المجاعة.
ثم أوعد أو توعد الله تعالى المشركين الظالمين لأنفسهم بذلك، فقال:
لو يشاهد الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله، وقت صبّ العذاب الشديد عليهم، لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده، وأنه المتصرف في الأكوان والموجودات كلها، من البشر والحجر والصنم وغيرها، في كل حال وزمان، سواء في عالم الآخرة أو عالم الدنيا.
لو علموا هذا وأدركوا مصالحهم حق الإدراك، لانتهوا عماهم فيه. وأما حال الأتباع والمتبوعين يوم القيامة فيستدعي الدهشة والعجب، والسخرية والهزء، لأن الرؤساء المتبوعين المعبودين كالملائكة والجن والإنس يتبرءون أو يتنصلون من أتباعهم، لأن الواحد منهم يهتم بإنقاذ نفسه، ولأنه لم يرض بما يفعله
(١) الحيس: تمر يخلط بسمن أو أقط.
68
المشركون في الحقيقة، فيتبرأ كل معبود ممن عبده، ولكن لا أمل في النجاة حين رؤية العذاب، وانقطاع الصلات والأنساب والحيل وأسباب الخلاص، ولا معدل ولا مصرف عن النار حينئذ. وقال التابعون: نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا، فنتبرأ منهم، كما تبرأوا منا، وتركونا في الشدة والضلال.
مثل ذلك الذي رأوه من العذاب، يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم، أي أن الله يظهر لهم أن أعمالهم كان لها أسوأ الأثر في نفوسهم، لما ورّثته فيها من حسرة وشقاء وخسران، فهي تذهب وتضمحل، ولن يخرجوا من النار إلى الدنيا لشفاء كيدهم وغيظهم من رؤسائهم، لأن دخولهم النار كان بسبب الشرك وحب الأنداد.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن أعظم جريمة عند الله هي الشرك به: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨]
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك».
ومما يؤسف له ويدهش العقلاء أن المشركين الذين يتخذون آلهة مع الله من رؤساء أو أصنام يحبون أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، وحبهم لأصنامهم وعبادتهم إياهم مع عجزهم كحب المؤمنين لله مع قدرته.
ولو عاين المشركون العذاب، لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه، علما بأن عذاب الله شديد.
وقد كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم بذلك، ولكنه خوطب، والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا.
69
ويوم القيامة يتبرأ المعبودون من عابديهم، فتقول الملائكة مثلا: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص ٢٨/ ٦٣] ويقولون: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ ٣٤/ ٤١] والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ، كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ [الأحقاف ٤٦/ ٥- ٦] وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨١- ٨٢].
ويتبرأ العابدون أيضا من معبوديهم، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا ويتبرءوا من الآلهة المزعومة. بل إنهم يطلبون من الله مضاعفة العذاب لهم كما قال الله تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقالُوا: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٦٦- ٦٨].
وهم في هذا التمني كاذبون، بل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم.
ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين من كلا الفريقين: العابدين والمعبودين، ويظهر الله لهم أعمالهم الفاسدة التي ارتكبوها، فوجبت لهم النار، وقال ابن مسعود والسّدّي: «الأعمال الصالحة التي تركوها، ففاتتهم الجنة».
وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث إنهم مأمورون بها. وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها.
وقوله: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ دليل على خلود الكفار فيها، وأنهم لا يخرجون منها، كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف ٧/ ٤٠].
70
تحليل الطيبات ومنشأ تحريم المحرمات
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١)
الإعراب:
حَلالًا طَيِّباً منصوب إما لأنه وصف لمفعول محذوف، وتقديره: كلوا شيئا حلالا طيبا، أو لأنه وصف لمصدر محذوف، وتقديره: كلوا أكلا حلالا طيبا.
أَوَلَوْ همزة استفهام ومعناه التوبيخ، والواو حرف عطف، وجواب لَوْ محذوف، وتقديره: «يتبعونهم» للعلم به. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقديره: ومثل داعي الذين كفروا كمثل... إلخ أو تقديره: مثل دعاء الذين كفروا كمثل دعاء الذي ينعق، فحذف المضاف في الحالين وأقيم المضاف إليه مقامه. ودعاء ونداء: منصوب ب يسمع.
البلاغة:
خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة عن الاقتداء به واتباع آثاره.
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ من عطف الخاص على العام، لأن السوء أعم يشمل جميع المعاصي، والفحشاء: أقبح المعاصي وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه تشبيه مرسل لذكر الأداة، وتشبيه مجمل لحذف وجه الشبه.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ تشبيه بليغ حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه، أي هم كالصم في عدم سماع الحق، وكالعمي والبكم في عدم الانتفاع بالقرآن.
71
المفردات اللغوية:
حَلالًا طَيِّباً الحلال: هو ما أباحه الشرع، والحرام: ما حرمه الشرع وطَيِّباً صفة مؤكدة، أي مستلذا خُطُواتِ جمع خطوة أي طرق الشيطان أي تزيينه والسير على طريقته عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة لذوي البصائر يَأْمُرُكُمْ أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بِالسُّوءِ: ما يسوء وقوعه أو عاقبته أي السيء القبيح وَالْفَحْشاءِ كل ما يقبح شرعا أو في أعين الناس من المعاصي: وهي ما تجاوز الحد في القبح، مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع، فهي أقبح وأشد من كلمة بِالسُّوءِ. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم ما لم يحرم وغيره.
ما أَنْزَلَ اللَّهُ من التوحيد وتحليل الطيبات أَلْفَيْنا وجدنا لا يَعْقِلُونَ عقل الشيء:
عرفه بدليله وفهمه بأسبابه ونتائجه وَمَثَلُ صفة يَنْعِقُ يصيح أو يصوت بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي صوتا ولا يفهم معناه، أي هم في سماع الموعظة وعدم تدبرها كالبهائم، تسمع صوت راعيها ولا تفهمه، فهم لا يعقلون الموعظة. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب.
سبب نزول الآية (١٦٨) :
قال الكلبي: نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
المناسبة:
بعد بيان أن أوضاع الشرك خبيثة المنافع، أمر الله بالطيب النافع، ولما أباح الله تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، بيّن لهم ما حرم عليهم.
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى حال متخذي الأنداد وما يرونه من العذاب، وانقطاع الأسباب والصلاة بين التابعين والمتبوعين، وهي المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين، أوضح أن تلك الصلات محرمة، لأنها أكل الخبائث، واتباع خطوات الشيطان، وأن سبب الضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا برهان.
72
وجاء الخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ليشمل المؤمن والكافر، وأن إنعام الله يعم كل الناس، وأن الكفر لا يحجب الإنعام الإلهي. وناداهم جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لهم، طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يتعلق به حق الغير، وألا يأكلوا الخبائث التي منها ما يأخذه الرؤساء من الأتباع، فهو حرام خبيث لا يحل أكله. ودل ذلك على أن بقاء رجال الدين من أهل الكتاب على ملتهم وعدم إيمانهم بالإسلام: هو للحفاظ على مراكزهم، ورياستهم الباطلة، وأخذهم الأموال بالباطل.
فلا تتبعوا أيها الناس طريقة الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة، فهو إنما يوسوس بالشر والمنكر، وإنه للإنسان بدءا من أبينا آدم عليه السّلام عدو ظاهر العداوة، فلا يأمر بالخير أصلا، ولا يأمر إلا بالقبيح، فهو مصدر الخواطر السيئة والمزين للمعاصي، فاحذروه ولا تتبعوه، وكأنه بوسوسته وتسلطه عليكم كأنه آمر مطاع، بأن تفعلوا ما يسوؤكم في دنياكم وآخرتكم.
ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون يقينا أنه شرع الله في العقائد والشعائر الدينية، أو تقدموا على تحليل الحرام وتحريم الحلال، ليتوصل بذلك إلى إفساد العقيدة وتحريف الشريعة.
ثم حكى القرآن عن المشركين وبعض اليهود: أنه إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم من الوحي، لأنه خير لكم وأجدى، ولا تتبعوا من دونه أولياء، انقادوا إلى تقليد الآباء تقليدا أعمى، اعتمادا على المألوف فقط، فرد الله عليهم:
أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في تقاليدهم وعاداتهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الحق في أمور العقائد والعبادات، بل ولو تجردوا من أي دليل منطقي، وحادوا عن الصواب. وهذا يدل على ذم التقليد بدون دليل. أما
73
اتباع المجتهدين أي تقليدهم بعد معرفة دليلهم، فهو جائز، لقوله تعالى:
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء ٢١/ ٧].
وصفة أو حال داعي الكافرين إلى الإيمان، المقلدين آباءهم ورؤساهم، وما هم عليه من الضلال والجهل، وعدم التأمل في صحة المواقف، مثل حال الذي يدعو بهائمه ويسوقها إلى المرعى والماء ويزجرها عن الممنوع، وهي لا تعقل مما يقول شيئا ولا تفهم له معنى، فكل واحد من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما ينقاد للأصوات والأجراس، لأن الكفار قد حجبوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم نور الهداية، فختم الله عليها بالغشاوة، وأصبحت لا ينفذ إليها شيء من الخير، وكأنهم صم لا يسمعون، خرس أو بكم لا ينطقون، عمي لا ينظرون في آيات الله تعالى وفي أنفسهم، مما يرشدهم إلى الإيمان، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان. قال القرطبي: شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم إلى الإيمان وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول.
فقه الحياة أو الأحكام:
أباح الله تعالى للناس أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا، أي مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر.
روى ابن عباس: أنه تليت هذه الآية عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فقام سعد بن أبي وقاص، فقال:
يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال: «يا سعد، أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليقذف
74
اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبلّ منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا، فالنار أولى به».
والحلال الطيب: هو الذي لا شبهة فيه ولا إثم، ولا يتعلق به حق للغير مهما كان.
وهذا يدل على أنه لا يحل للمسلم أن يأخذ مالا يتعلق به حق الغير، أو يأخذه على وجه غير شرعي.
وتدل آية وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.. على تحريم اتباع طرائق الشيطان ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم، كما
في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي، فهو لهم حلال- وفيه:
وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم»
.
وتدل الآية على أنه يجب على المسلم أن يجاهد نفسه وهواه، وأن يخالف الشيطان، فإنه داع للشر والسوء والمنكر والعصيان. وأخبر الله تعالى بأن الشيطان عدو، فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم، وذلك في آيات كثيرة غير هذه الآية، مثل الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [البقرة ٢/ ٢٦٨] وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء ٤/ ٦٠] إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ، لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر ٣٥/ ٦].
75
ويدخل في اتباع خطوات الشيطان كل معصية لله، وكل نذر في المعاصي، قال ابن عباس: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين.
وقال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان «١».
ودلت آية: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ.. أي للناس ومنهم كفار العرب، واليهود، على تحريم التقليد الأعمى، وعلى أنه يجب على المسلم وغيره أن ينظر على قدر طاقته وقوته في إثبات عقيدته وأمور دينه. والتقليد عند العلماء:
قبول قول بلا حجة. وأما الاتّباع: فهو الأخذ بقول الغير بعد معرفة دليله.
وفرض العامي الذي لا يستطيع استنباط الأحكام من أصولها أن يسأل أهل العلم، ويمتثل فتوى الأعلم، لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٤٣].
وأجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد، لأن الله ذم الكفار بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل في قوله: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ.. [الزخرف ٤٣/ ٢٣] ولأنه فرض على كل مكلف (بالغ عاقل) تعلّم أمر التوحيد والقطع به، والتعليم لا يحصل إلا من جهة القرآن والسنة النبوية.
ومثل الذين كفروا فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نعق بها راعيها، أي دعاها إلى ما يرشدها، لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٢٠٤
76
الحلال والحرام من المآكل
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
الإعراب:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ: إِنَّما كافة، وإنما تجيء في الكلام لإثبات المذكور ونفي ما سواه، مثل: «إنما إلهكم إله واحد» أي ما إلهكم إلا إله واحد.
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ: غَيْرَ منصوب على الحال من ضمير: اضْطُرَّ.
المفردات اللغوية:
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها، إذ الكلام فيه، وكذا ما بعدها، وهي ما لم يذكّ (يذبح) شرعا، وألحق بها بالسنة: ما أبين من حي، وخص منها السمك والجراد وَالدَّمَ أي المسفوح وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ذبح على اسم غيره، والإهلال: رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، ويقولون: باسم اللات، أو باسم العزى، ثم قيل لكل ذابح:
مهل، وإن لم يجهر بالتسمية. فَمَنِ اضْطُرَّ ألجأته الضرورة إلى أكل شيء مما ذكر، فأكله.
غَيْرَ باغٍ غير طالب للشيء المحرم ذاته وَلا عادٍ غير متجاوز قدر الضرورة إِثْمَ الإثم:
الذنب والمعصية.
التفسير والبيان:
الآيات السابقة من أول السورة لبيان موقف المؤيدين والمعارضين للقرآن، ومن هنا أي بداية النصف الثاني من السورة إلى أواخر الجزء الثاني في بيان الأحكام الشرعية العملية.
77
بعد أن خاطب الله الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين رؤساءهم، لأنهم لا يستقلون برأي، ولا يهتدون بعقل، وجه الخطاب هنا إلى المؤمنين خاصة، لأنهم أحق بالفهم، فأباح لهم أن يأكلوا من رزق الله الطيب الطاهر، وأمرهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، إن صح أنهم يخصونه بالعبادة، ويقرون أنه مولي النعم.
عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري».
ولما أباح تعالى لعباده أكل ما في الأرض من الحلال الطيب، وكانت وجوه الحلال كثيرة، وبيّن لهم ما حرم عليهم، لكونه أقل، بقي ما سوى ذلك على التحليل حتى يرد منع آخر.
والأكل من الطيبات مع شكر النعمة موقف وسط يجمع بين متطلبات الجسد والروح معا، فنأكل للحفاظ على الجسم بلا إسراف ولا تقتير، قال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً.. [المائدة ٥/ ٨٧- ٨٨] ونغذي الروح بشكر الله على ما أنعم.
ويختلف هذا الموقف الوسط عما كان عليه المشركون وأهل الكتاب قبل الإسلام، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة، ونحوهما، وساد عند النصارى مبدأ الرهبانية وتعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات، واحتقار الجسد ولوازمه، إما بتخصيص ذلك بالرهبان، أو بتعميمه على الجميع كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصيام كصوم العذراء والقديسين، والحرمان من السمك واللبن والبيض في صوم آخر.
والمحرم الحقيقي:
١- إنّما هو تناول الميتة، لاحتباس الدم فيها وتوقع التضرر بها، لفساد لحمها وتلوثه بالأمراض غالبا، فهي محرمة لاستقذارها ولما فيها من ضرر.
78
٢- وتناول الدم المسفوح، لأنه ضارّ، وتأباه النفوس الطيبة، فهو حرام لقذارته وضرره أيضا.
٣- وأكل لحم الخنزير، لأنه ضارّ، وخصوصا أثناء الحر، ولأن النفوس الطيبة تأباه، لأنه حيوان قذر لا يأكل غالبا إلا من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك، ولأن فيه ضررا، لحملة جراثيم شديدة الفتك، ولأن فيه كثيرا من الطباع الخبيثة، وولوع بالنواحي الجنسية ولا يغار على أنثاه، وكسول بطبعه، والمتغذي يتأثر بتلك الطبائع، وتنتقل إليه بيوض الدودة الوحيدة الحلزونية التي قد تكون في خلايا عضلات جسمه، ولو تربى في أنظف الحظائر.
٤- وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى عند الذبح، لأنه من أعمال الوثنية، وفيه إشراك واعتماد على غير الله. وكان العرب في الجاهلية يذبحون للأصنام، ويقولون: باسم اللات والعزى، فهو حرام صيانة لمبدأ الدين والتوحيد وتعظيم الله. وحصر التحريم في هذه الأصناف مستفاد من قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ.. أي لم يحرم عليكم إلا الميتة وتوابعها، لأن إِنَّما تفيد الحصر، تثبت ما تناوله الكلام وتنفي ما عداه. وقد حصرت هنا التحريم، لا سيما وقد جاءت عقب التحليل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ.
ويضاف لهذه المحرمات ما حرم في سورة المائدة (الآية: ٣) وما حرمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، ولحوم الحمير الأهلية.
لكن من ألجأته الضرورة (وهي أن يصل إلى حد لو لم يتناول المحظور هلك) إلى أكل شيء مما حرم الله، بأن لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك، ولم يكن راغبا فيه لذاته، ولم يتجاوز قدر الحاجة، فلا إثم عليه، للحفاظ على النفس، وعدم تعريضها للهلاك، ولأن الإشراف على الموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة والدم.
79
وقيد الله جواز الأكل من المحرمات بقوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار، فيزعم الواحد أنه مضطر وليس بمضطر، ويتجاوز قدر الضرورة أو الحاجة مستغلا الظرف الطارئ، فينقاد لشهواته.
إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة، لأنه متروك إلى اجتهادهم، رحيم بهم، إذ أباح لهم تناول المحرّمات حال الضرورة، ولم يوقعهم في الحرج والعسر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أكد الله في هذه الآية إباحة الأكل من الطيبات، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا لهم وتنويها بهم، والمراد بالأكل: الانتفاع من جميع الوجوه. فيجوز الانتفاع بكل ما في البر والبحر من نبات وحيوان وأسماك وطيور إلا ما حرمه الله في هذه الآية وآية المائدة (٣) وما ذكره الفقهاء بالاعتماد على الثابت في السنة النبوية. ويلاحظ أن المذكور في سورة المائدة داخل تحت اسم الميتة: وهي كل ما مات من غير ذبح شرعي، سواء أكان موقوذة أم متردية أم نطيحة أم أكلها السبع ولم تدرك حية فتذبح. وكذا ما ليس بمأكول فذبحه كموته كالسباع وغيرها.
وقد خصصت هذه الآية
بقوله عليه السّلام فيما أخرجه الدارقطني: «أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال»
وروى البخاري ومسلم عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كل ذي ناب من السباع»
وروى مالك وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير حرام»
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل».
80
أما آراء الفقهاء في الحيوان المأكول، فهي ما يلي بإيجاز: قالوا: الحيوان بالنسبة للذبح أو الذكاة الشرعية أنواع ثلاثة: مائي، وبري، وبرمائي (بري- مائي) «١» :
أما الحيوان المائي: وهو الذي لا يعيش إلا في الماء فقط، ففيه رأيان:
١- مذهب الحنفية: جميع ما في الماء من الحيوان محرم الأكل إلا السمك خاصة، فإنه يحل أكله بدون ذكاة (ذبح) إلا الطافي منه، فإن مات وطفا على الماء لم يؤكل،
لحديث ضعيف عن جابر رواه أبو داود وابن ماجه: «ما ألقاه البحر، أو جزر عنه، فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه».
٢- مذهب الجمهور غير الحنفية: حيوان الماء كالسمك والسرطان وحية الماء وكلبه وخنزيرة، حلال يباح بغير ذكاة، كيف مات، حتف أنفه، أو بسبب ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد، أو انحسار ماء، راسيا كان أو طافيا، وأخذه: ذكاته، لكن إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه المرض، يحرم للضرر.
إلا أن الإمام مالك كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما.
وأما الحيوان البري: وهو الذي لا يعيش إلا في البر، فهو ثلاثة أنواع:
الأول- ما ليس له دم أصلا: كالجراد والذباب والنمل والنحل والدود والخنفساء والصرصار والعقرب وذوات السموم ونحوها، لا يحل أكلها إلا الجراد خاصة، لأنها من الخبائث غير المستطابة، لاستبعاد الطباع السليمة إياها، وقد قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف ٧/ ١٥٧]. واشترط المالكية تذكية الجراد، أما الجراد الميت فهو حرام عندهم، لأن
حديث: «أحلت لنا ميتتان»
ضعيف. أما الحنفية الذين لا يجيزون تخصيص القرآن بالسنة،
(١) الفقه الإسلامي وأدلته للمؤلف: ٣/ ٦٧٨- ٦٨٧
81
فيقولون: إن الذي خصص ميتة السمك هو قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة ٥/ ٩٦] فأما صيده: فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر، لكنهم لا يجيزون أكل الطافي كما تقدم.
الثاني- ما ليس له دم سائل: كالحية وسام أبرص وجميع الحشرات وهوام الأرض من الفأر والقراد (ما يعلق بالبعير) والقنافذ واليربوع والضب: يحرم أكلها لاستخباثها، ولأنها ذوات سموم،
ولأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتلها. وحرم الحنفية الضب، لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عائشة حين سألته عن أكله.
وأباحه الجمهور لإقراره عليه الصلاة والسلام أكل الضب بين يديه. وأجاز الشافعية أكل القنفذ وابن عرس.
الثالث- ماله دم سائل: وهو إما مستأنس أو متوحش. أما المستأنس من البهائم: فيحل منه الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم بالإجماع، ويحرم أكل البغال والحمير، ويحل لحم الخيل لكن مع الكراهة تنزيها عند أبي حنيفة، لاستخدامها في الركوب والجهاد. والمشهور عند المالكية تحريم الخيل.
ويحرم المستأنس من السباع وهو الكلب والقط.
وأما المتوحش: فيحرم عند الجمهور غير مالك كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، لأنها تأكل الجيف أي الميتات. ويكره عند مالك لحوم السباع، ويجوز عنده أكل الطيور ذوات المخالب، لظاهر الآية: قُلْ: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ.. [الأنعام ٦/ ١٤٥].
فالذي يحل شيئا مما ذكر يستند إلى عموم الآية، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمعارضته الآية. والذي يحرم شيئا مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم وينسخ به الآية أو يرى أنه لا معارضة.
وأما الحيوان البرمائي: وهو الذي يعيش في البر والماء معا، كالضفدع والسلحفاة والسرطان والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها، ففيه آراء ثلاثة:
82
الأول- للحنفية والشافعية: لا يحل أكلها، لأنها من الخبائث، ولسمية الحية،
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد وأبو داود «نهى عن قتل الضفدع»
ولو حل أكله، لم ينه عن قتله.
الثاني- للمالكية: يباح أكل الضفادع ونحوها مما ذكر، لأنه لم يرد نص في تحريمها.
الثالث- للحنابلة وهو التفصيل: كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء، إلا ما لا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح فيما روي عن أحمد بغير ذكاة، لأنه حيوان بحري يعيش في البر، ولا دم له سائل، خلافا لما له دم سائل كالطير، لا يباح بغير ذبح، والأصح لدى الحنابلة أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة «١».
ولا يباح أكل الضفدع، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي: نهى عن قتله،
فيدل ذلك على تحريمه. ولا يباح أيضا أكل التمساح.
وذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمه، وخرج ميتا، استنادا إلى أنه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وخالفه صاحباه والشافعي وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه. وقال مالك: إن تم خلقه ونبت شعره أكل، وإلا لم يؤكل. وحجة الجمهور:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»
أي أن ذكاة أمه تنسحب عليه. وتأول مؤيد وأبي حنيفة الحديث: بأن ذكاته كذكاة أمه.
وهذا تأويل بعيد، لأن الحديث ورد في سياق سؤال،
فقد ورد عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إن ذكاته ذكاة أمه».
(١) شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي: ٩/ ٢١٤
83
واختلف العلماء في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود:
فقال الجمهور: يحرم، للآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه جابر: «قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، فنهاهم عن ذلك»
وهذا يفيد أن إطلاق تحريم الميتة يفيد تحريم بيعها.
وقال عطاء: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وحجته أن الآية في تحريم الأكل، بدليل سابقها، ولأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر: وهو
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ على شاة ميمونة، فقال: «هلا أخذتم إهابها»
فيرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل القرآني.
وأما جلد الميتة: فلا يطهر بالدباغ في ظاهر مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة،
لحديث عبد الله بن عكيم فيما رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربع) قال: «كتب إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
وهو ناسخ لما قبله من الأحاديث، لأنه في آخر عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولفظه دال على سبق الترخيص، وأنه متأخر عنه.
وذهب الحنفية والشافعية: إلى أن دباغ الجلود النجسة أو الميتة يطهرها كلها،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ورواه النسائي والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
وأما أجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والعظم والسن ومنه عاج الفيل والخف والحافر والظلف والشعر والصوف والعصب والإنفحة الصلبة: فهي طاهرة غير نجسة عند الجمهور، وقال الشافعية: أجزاء الميتة كلها نجسة، ومنها
84
الإنفحة واللبن والبيض المتصل بها، إلا إذا أخذ من الرضيع لأن كلا منها تحله الحياة. ودليل الجمهور
حديث سلمان رضي الله عنه فيما رواه ابن ماجه: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن السمن والجبن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام: ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا الله».
وأما ما وقعت فيه فأرة: فإن أخرجت حية فهو طاهر، وإن ماتت فيه:
فإن كان مائعا فإنه ينجس جميعه، وإن كان جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الفأرة تقع في السمن، فتموت، فقال: «إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها، وإن كان مائعا فأريقوه».
وإذا وقع في القدر حيوان: طائر أو غيره، فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر، وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق المرق. وقال ابن عباس: يغسل اللحم ويؤكل.
أما الدم: فاتفق العلماء على أنه حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، إذا كان مسفوحا، لتقييده بذلك الوصف في سورة الأنعام، وقد حمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا، ولم يحرموا منه إلا ما كان مسفوحا. قالت عائشة: لولا أن الله قال: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام ٦/ ١٤٥] لتتبع الناس ما في العروق. وعلى هذا ما خالط اللحم في العروق غير محرم إجماعا، وكذلك الكبد والطحال لا يحرم تناولهما إجماعا، من طريق تخصيص الدم المحرم- في رأي الحنفية والشافعية
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحلت لنا ميتتان ودمان»
وذكر الكبد والطحال. ولا تخصيص في رأي مالك، لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما، بالعيان والعرف.
وأما الخنزير: فلحمه حرام، وكذا شحمه بالقياس على اللحم حرام أيضا،
85
لأن اللحم يشمل الشحم، وهو الصحيح. وقصر الظاهرية التحريم على اللحم، لا الشحم أخذا بمبدئهم في العمل بظاهر النص فقط، لأن الله قال: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. ويرد عليهم بأن الفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح بقصد لحمه، ولا يعقل التفريق بين اللحم والشحم.
ويجوز الخرازة بشعر الخنزير،
فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: «لا بأس بذلك».
وأما ما أهل به لغير الله، أي ذكر عليه غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي الذي يذبح للنار، والوثني الذي يذبح للوثن، والمعطّل الذي لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه، فحرام باتفاق العلماء.
وهل يشمل هذا ذبائح النصارى التي ذكروا اسم المسيح عليها، فتكون محرمة، أو لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟.
قال جمهور العلماء: هي حرام، وقال عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وأشهب من المالكية: ليست حراما، وسبب اختلافهم:
تعارض آيتي: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة ٥/ ٥] وهذه الآية. فرأى الجمهور: أن هذه الآية مخصصة لآية المائدة، والمعنى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، ما لم يذكر اسم غير الله عليه، فتحرم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح. ورأى الأقلون العكس، والمعنى: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب، فتجوز ذبائح أهل الكتاب مطلقا.
أما من اضطر إلى شيء من هذه المحرمات أي كان أحوج إليها، فله التناول منها حتى يشبع في رأي مالك، لأن الضرورة ترفع التحريم، فتعود الميتة مثلا
86
مباحة، ويكون معنى «غير باغ ولا عاد» هو البغي والعدوان على الإمام، أي الخارج على المسلمين وقاطع الطريق.
ويأكل المضطر في رأي الجمهور على قدر سد الرمق، لأن الإباحة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة. ومن حالات الضرورة: إساغة اللقمة بخمر، وتناولها لدفع العطش.
والمضطر في رأي الجمهور: هو من ألجأه الجوع إلى الأكل، وأضيف إليه عند بعضهم: من أكره على أكل الحرام، كالرجل يأخذه العدو، فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى.
ولم يجز جمهور العلماء التداوي بالحرام كالخمر والميتة،
لقوله عليه الصلاة والسلام- فيما رواه البخاري عن ابن مسعود-: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرّم عليهم»
ولقوله عليه السّلام فيما رواه مسلم لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر، فنهاه، أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء»
قال ابن العربي: الصحيح أنه لا يتداوى بالميتة، لوجود عوض حلال عنها.
وللعلماء رأيان فيمن اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فقال مالك، والشافعي وأحمد: يحرم عليه إن كان السفر لمعصية، لأجل معصيته، لأن الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. أما من عصى أثناء السفر، فتباح له الرخص الشرعية، وأباحها له أبو حنيفة مسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. ورجح القرطبي هذا القول، لأن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه، لقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء ٤/ ٢٩] وهذا عام، ولعله يتوب في ثاني حال، فتمحو التوبة عنه ما كان.
87
وذكر الباجي في المنتقى أن المشهور من مذهب مالك: أن المضطر يجوز له الأكل في سفر المعصية، ولا يجوز له الفطر والقصر، لقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.
وإذا وجد أكثر من نوع من المحرمات، فما الذي يقدمه المضطر؟.
قال ابن العربي: الضابط لهذه الأحكام: أن المضطر إذا وجد ميتة ولحم خنزير، قدم الميتة، لأنها تحل حية، والخنزير لا يحل، والتحريم المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل. وإذا وجد ميتة وخمرا يأكل الميتة حلالا بيقين، والخمر محتملة للنظر. وإذا وجد ميتة ومال الغير: فإن أمن الضرر في بدنه، أكل مال الغير، ولم يحل له أكل الميتة، وإن لم يأمن، أكل الميتة. والصحيح خلافا للشافعي: ألا يأكل الآدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة، أكل الصيد، لأن تحريمه مؤقت، فهو أخف، وتقبل الفدية في حال الاختيار، ولا فدية لآكل الميتة «١».
كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٢٤- ٢٣٥، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٥٤- ٥٨، تفسير ابن كثير:
١/ ٢٠٥، أحكام القرآن للجصاص: ١/ ١٢٦- ١٣٠، نظرية الضرورة الشرعية للمؤلف.
88
الإعراب:
فِي بُطُونِهِمْ: ظرف في موضع الحال، وتقديره: ما يأكلون إلا النار ثابتة في بطونهم، كقوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً تقديره: يأكلون نارا كائنة في بطونهم. والأصل أن فِي بُطُونِهِمْ صفة لنار، لكن إذا قدمت صفة النكرة انتصبت على الحال. فَما أَصْبَرَهُمْ ما:
إما تعجيبة وتقديره: شيء أصبرهم، أو استفهامية، وتقديره: أي شيء أصبرهم؟ وعلى كلا الوجهين: هي مبتدأ، وما بعدها خبر.
البلاغة:
ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ مجاز مرسل باعتبار ما يؤول إليه، أي إنما يأكلون المال الحرام الذي يؤدي بهم إلى النار. وقوله فِي بُطُونِهِمْ زيادة تشنيع وتقبيح لحالهم.
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى استعارة تصريحية، والمراد: استبدلوا الكفر بالإيمان، استعار لفظ الشراء للاستبدال.
المفردات اللغوية:
يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: يبيعونه بثمن قليل من الدنيا يأخذونه بدله من أتباعهم، فلا يظهرونه خوف فوته عليهم وَلا يُكَلِّمُهُمُ غضبا عليهم. وَلا يُزَكِّيهِمْ يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم هو النار. الضَّلالَةَ هي العماية التي لا يهتدي فيها الإنسان لمقصده. بِالْهُدى الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه فَما أَصْبَرَهُمْ أي ما أشد صبرهم وهو تعجب للمؤمنين من ارتكابهم موجبات النار، من غير مبالاة.
ذلِكَ الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده بِأَنَّ بسبب أن اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق بنزل، فاختلفوا فيه، حيث آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه بكتمه. شِقاقٍ مخالفة أو خلاف وهو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف بَعِيدٍ مبتعد عن الحق.
سبب نزول الآية (١٧٤) :
أخرج الطبري عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ والتي في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ نزلتا جميعا في يهود. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل، وكانوا يرجون أن يكون
89
النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم من غيرهم، خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فغيروها، ثم أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ الآية.
التفسير والبيان:
يستمر القرآن في كشف مواقف أهل الكتاب من القرآن والنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي الآيات السابقة أوضح أنهم حرموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا في المآكل والمشارب، وهنا يبين أنهم كتموا ما أنزل الله في كتبهم من صفات النّبي صلّى الله عليه وسلّم فحرفوه وبدلوه، وأخفوا الصحيح وأظهروا الكاذب، وتاجروا بالدين، واتخذوه وسيلة ارتزاق واحتراف معيشة، كما قال: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام ٦/ ٩١].
إن الذين يخفون ما أنزل الله من وصف النّبي صلّى الله عليه وسلّم نبي آخر الزمان وبيان زمانه وقومه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته، أو يؤولونه ويحرفونه، في مقابل أخذ الأجور القليلة على الفتاوى، يأكلون الحرام المؤدي إلى النار. وسمي الثمن قليلا، لأن كل عوض عن الحق، فهو قليل في جنب تفويت سعادة الدنيا والآخرة: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة ٩/ ٣٨].
إن أولئك الكاتمين لكتاب الله، المتجرين به، البعيدين في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلا ما يكون سببا لدخول النار، وإعراض الله عنهم وغضبه الشديد عليهم، وعدم تطهيرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح، ولهم عذاب شديد الألم في الدنيا والآخرة، خلافا لأهل الجنة الذين يثني الله عليهم ويغفر لهم ويرحمهم ويرضى عنهم ويقابلهم بالمحبة والرضا. فقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ
90
اللَّهُ
عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، وقوله وَلا يُزَكِّيهِمْ:
أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم.
ثم إن أولئك المتاجرين في دين الله استبدلوا الضلالة بالهدى، فتركوا هدى الله، واتبعوا في الدين أهواء الناس، واستحقوا العذاب بدل المغفرة، لجنايتهم على أنفسهم بإيثار المال الفاني على الثواب الخالد الباقي، فعجبا لهم أشد العجب، كيف يطيقون الصبر على موجبات النار وأعمال الضلال من غير مبالاة منهم فقوله: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من كثرة صبرهم، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم: ما أصبرهم؟!.
وهذا الأسلوب يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب الحاكم أو السلطان:
ما أصبرك على القيد والسجن! أي أنه لا يتعرض لمثل ذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
إن ذلك العذاب الشديد الذي ينتظرهم هو غاية العدل، وإن ما أنزل الله من الكتاب هو الحق الأبلج الذي لا يحاد عنه ولا يغالب.
وأما الذين اختلفوا في كتب الله، فقالوا: بعضها حق، وبعضها باطل، فهم في خلاف ونزاع بعيد عن الحق، ولن يلتقوا على شيء واحد، وسيظل النزاع أو الشقاق بينهم بعيد الجانب عن الحق والصواب والهداية الصحيحة.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن كتمان الحق وتزييف الحقائق والإيغال في الباطل سبب لأنواع شتى من العذاب.
وإن الاختلاف في أصول الدين وقضاياه الأصلية العامة مدمر للدين كله، لذا أمر الله المؤمنين بالالتقاء على سبيل واحدة هي المنهج الرباني، فقال تعالى:
91
وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٣] وحذر الله المؤمنين من التفرق مذاهب شتى في الاعتقاد وأصول الدين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٩].
أما الاختلاف في الفهم، والاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، والاعتماد على الكتاب والسنة، فليس معيبا، وإنما يثاب كل من المجتهدين: المخطئ والمصيب، ويمكن للدولة أن تختار من بين الآراء الاجتهادية ما يناسب عصرها وزمانها ويحقق مصلحتها التي هي مصلحة الأمة العامة والعليا، لأن «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة» أي المصلحة العامة. وهذا الاختلاف في الفهم لا يؤدي إلى تمزيق وحدة الأمة، ولا يقتضي الشقاق والنزاع الناجم عن الاختلاف في أصول الشرع الإلهي.
وقد أوعد الله الناس على أمور ثلاث: كتمان الحق، والمتاجرة في الدين، والاختلاف الجذري في أصول الدين. أما كتمان الحق: فيؤدي إلى النار والعذاب الدائم وعدم الظفر بالمغفرة، كما قال الله تعالى عن علماء اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة رسالته.
وأما المتاجرة في الدين: فتستوجب النار أيضا، وعجبا لنفر من الناس يتحملون عذاب الله الشديد، فما أشجعهم وما أجرأهم على النار، إذ يعملون عملا يؤدي إليها.
ذلك العذاب المستحق لهم عنوان العدل والحق، ولم ينزل الله هذا القرآن إلا بالحق، لإقراره ونشره والإذعان له.
وأما الاختلاف الجذري في الدين: فإنه يجسّد الفرقة والخلاف، ويمنع
92
تحقيق اللقاء والاتحاد، بدليل أن اليهود والنصارى الذين اختلفوا في التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته، أو أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، سيظل الشقاق والخلاف الخطير قائما بينهم. وأخبر عن المتصفين بالكتم والاشتراء بأربعة أخبار: الأول- ما يأكلون في بطونهم إلا النار، والثاني- لا يكلمهم الله يوم القيامة، والثالث- لا يزكيهم أي لا يقبل أعمالهم فيثني عليهم، والرابع- لهم عذاب أليم.
وبه يتبين أن المراد من قوله تعالى: بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني القرآن هنا، أنزله الله بالصدق أو بالحجة الدامغة. وأن المراد من قوله: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ يعني التوراة. وقيل: المراد القرآن. والذين اختلفوا: كفار قريش، فقال بعضهم: هو سحر، وقال آخرون: أساطير الأولين، وقال جماعة: مفترى.
مظاهر البر الحقيقي
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
الإعراب:
لَيْسَ الْبِرَّ البر: خبر ليس المنصوب، وأَنْ تُوَلُّوا اسمها، ومن قرأ الْبِرَّ بالرفع جعله اسم ليس وأَنْ تُوَلُّوا خبرها، أي: ليس البر توليتكم.
93
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ البر: اسم لكن، والخبر محذوف تقديره: ولكن البر بر من آمن بالله، أو لكن ذا البر من آمن بالله، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
عَلى حُبِّهِ يعود الضمير إلى المال، والمصدر مضاف إلى المفعول، وهو اعتراض يسمى في البلاغة تتميما.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ مرفوع من ثلاثة أوجه: إما لأنه عطف على ضمير في آمَنَ بِاللَّهِ وإما معطوف على مَنْ آمَنَ أي: ولكن البار المؤمنون والموفون، وإما أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: «وهم الموفون».
وَالصَّابِرِينَ منصوب من وجهين: إما أن يكون منصوبا على المدح، وتقديره: أمدح الصابرين. وإما أنه معطوف على قوله ذَوِي الْقُرْبى أي: وآتى الصابرين.
البلاغة:
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ جعل البر نفس من آمن على طريق المبالغة، مثل السخاء حاتم، والشعر زهير، أي أن السخاء سخاء حاتم والشعر شعر زهير.
وَفِي الرِّقابِ إيجاز بالحذف أي وفي فك الرقاب يعني فداء الأسرى. والرقاب: مجاز مرسل من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَالصَّابِرِينَ منصوب على الاختصاص أي وأخص بالذكر الصابرين.
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أتى بالخبر فعلا ماضيا لإفادة التحقق والوقوع.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أتى بالخبر جملة اسمية لإفادة الثبوت.
المفردات اللغوية:
الْبِرَّ اسم جامع لكل خير، وهو كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق. وَآتَى الْمالَ أي أعطاه وَالْيَتامى اليتيم: من لا والد له وهو محتاج الْمَساكِينَ المسكين: هو المحتاج الذي له مال لا يكفيه، وسمي بذلك لأن الحاجة أذلته وأسكنته. وأما الفقير: فهو الذي لا مال له. وَابْنَ السَّبِيلِ ابن الطريق، وهو المسافر المحتاج، البعيد عن ماله ولا يمكنه إحضاره. وَالسَّائِلِينَ السائل: من ألجأته الحاجة إلى السؤال والطلب من الناس. والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل أن يقتصر عليها ولا يتعداها.
وَفِي الرِّقابِ أي وفي تحرير الرقاب وعتقها وَأَقامَ الصَّلاةَ أي أداها على أقوم وجه وأحسنه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ العهد: ما يلتزم به إنسان لآخر. الْبَأْساءِ من البؤس وهو شدة الفقر
94
الضَّرَّاءِ: كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب حِينَ الْبَأْسِ وقت شدة القتال.
صَدَقُوا في دعوى الإيمان الْمُتَّقُونَ التقوى: الوقاية من غضب الله بالبعد عن المعاصي.
سبب النزول:
روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق، فنزلت: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الآية «١».
وروى الطبري وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البر، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ.. فدعا الرجل فتلاها عليه،
وكان قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك، يرجى له في الآخرة خير، فأنزل الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا..
وكانت اليهود توجهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق.
التفسير والبيان:
كان تحويل القبلة سببا في فتنة كبري بين أهل الأديان، فأصبح كل فريق يرى أن الصلاة لا تصح إلى غير القبلة التي هو عليها، واحتدم الخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب، فرأى الكتابيون أن الصلاة يلزم أن تكون إلى قبلتهم، وهي قبلة بعض الأنبياء، واحتج المسلمون بأن الصلاة لا تقبل ولا يرضى عنها الله إلا بالاتجاه إلى المسجد الحرام قبلة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السّلام.
فأبان الله سبحانه وتعالى للناس كافة أن مجرد توجيه الوجه جهة المشرق والمغرب ليس في ذاته هو البر المقصود، ولا يعد عملا صالحا بمجرده، وإنما البر الحقيقي شيء آخر وهو الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل الصالح، وهو الإيمان الذي يملأ النفس خشية
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢
95
لله تعالى، ومراقبة له في السر والعلن، ويصبح حاجزا منيعا قويا بين النفس ومزالق الشيطان، فإذا أخطأ بادر إلى التوبة الصادقة.
البر إذن: هو الإيمان الحقيقي الكامل الشامل لأصول الاعتقاد، وأساس البر: الإيمان بالله إلها واحدا لا شريك له ولا معبود سواه، وهو الإيمان الذي يشعر النفس بالعزة والسمو، إذ لا يخضع بعدئذ لأي إنسان في هذا الوجود، ولا يكون لأحد سلطة التشريع، وإنما التشريع لله وحده. وهو الإيمان الذي تطمئن به القلوب وتهدأ له النفوس، فلا تبطر بنعمة ولا تيأس بنقمة، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد ١٣/ ٢٨].
وقال أبو حيان: البر معنى من المعاني فلا يكون قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ: مَنْ آمَنَ مرادا به إلا: البارّ أو ذا البر.
والإيمان باليوم الآخر: على أنه مقر الثواب والعقاب والحساب والعرض على الله، فيكون سببا للمزيد من العمل الصالح، والبعد عن قبيح الأفعال.
والإيمان بالملائكة: على أنهم أجسام نورانية، لهم مهام عديدة، دأبهم الطاعة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، منهم حملة الوحي، ومنهم الموكل بالجنة أو بالنار، ومنهم الموكل بالرياح والأمطار، ومنهم سدنة العرش، ومنهم من يقبض الأرواح.
والإيمان بهم أصل للإيمان بالوحي والنبوة واليوم الآخر، ويتولى جبريل عليه السّلام أمانة الوحي، كما قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء ٢٦/ ١٩٣- ١٩٥] وقال:
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر ٩٧/ ٤].
والإيمان بالكتب السماوية (الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن وبالصحف
96
المنزلة على الأنبياء السابقين: يتطلب الإيمان بجميعها دون تفرقة، ويقتضي امتثال ما فيها من أوامر، واجتناب ما جاءت به من نواه. ويستدعي التزام كل ما تضمنه القرآن الكريم، لأنه جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها.
والإيمان بالأنبياء جميعهم دون تفرقة بين نبي وآخر: يستلزم الاهتداء بهديهم، والاقتداء بسيرتهم وأخلاقهم، والتأسي بهم فيما أمروا به أو نهوا عنه.
والإيمان الصحيح لا بد من أن يقترن بالعمل الصالح الذي يهذب النفس، ويصحح العلاقات الاجتماعية، ويجعلها قائمة على أساس متين من المحبة، والألفة، والمودة، والوحدة، والتعاون أو التضامن والتكافل الاجتماعي، ويتمثل ذلك فيما يأتي:
إعطاء المال مع حبه للأصناف الآتية أصحاب الحاجات، رحمة بهم، وشفقة عليهم، وعونا للأخذ بأيديهم نحو حياة عزيزة كريمة تعتمد على الثقة بالنفس، والعمل عند القدرة، والإنقاذ وقت الشدة والمحنة.
وهم ذوو القربى المحتاجون، فهم أحق الناس بالبر، بسبب رابطة الدم، والإحساس بأحوالهم، والتأثر بأوضاعهم عن قرب، ولأن سعادة الإنسان الحقة لا تتم إلا بإشاعة السعادة لمن حوله، وتكون صلتهم محققة لهدفين: صلة الرحم وثواب الصدقة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صدقتك على المسلمين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان».
وقد رتب النّبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلم طريق الإنفاق بحسب درجة القرابة،
فقال: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول».
واليتامى: وهم الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم، هم في حاجة شديدة للعون المادي للتغلب على قسوة الحياة المعيشية، ولمساعدتهم في شق طريق حياة المستقبل أمامهم، إما بالتعلم، وإما بالحرفة أو المهنة الصناعية، وإما بغير ذلك، حتى لا تفسد تربيتهم، فيصبحوا ضررا على أنفسهم وعلى المجتمع.
97
والمساكين، والفقراء من باب أولى: وهم الذين لا دخل لهم أصلا، بسبب الفقر، أو لهم دخل لا يكفيهم بسبب المسكنة فيحتاجون إلى المساعدة. كما أن القضاء على ظاهرة الفقر من ركائز النهضة والتقدم، لأن الحاجة قد تدفع بصاحبها إلى الانحراف والاجرام، فيكون من مصلحة الجميع مؤازرتهم ومعاونتهم، حتى يتقووا، إذ أن قوة الأمة بقوة أفرادها، وضعف الأمة بضعف أبنائها.
وابن السبيل: الذي انقطع في أثناء سفره أو طريقه عن الوصول إلى بلده، تكون مساعدته ومواساته ضرورية حتى يستقر به المقام في وطنه. وسمي بذلك، لأنه غريب، حتى لكأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق.
والسائلون: الذين يسألون الناس إمدادهم بالمال، لشدة الحاجة. وأدب السؤال أن يكون من غير إلحاف، وأن يكون بتعفف، كما قال الله تعالى:
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة ٢/ ٢٧٣] ولا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي، أي قادر على العمل كما جاء في الحديث الثابت. وعليه أن يبحث عن العمل الشريف، وعلى الدولة أن توفر له عملا، سواء أكان ذكرا أم أنثى.
وفي الرقاب: أي مساعدة الأرقاء على الحرية، ومعاونة الأسرى على الفداء بالمال، لأن الرق والأسر عبودية وذل ومصادرة للحرية، والدين يتشوف إلى إعتاق الأنفس، وإلى تحرير الناس، وإلى التخلص من قيد الرق بمختلف الوسائل المادية ببذل المال، والمعنوية بالجاه والوساطة والشفاعة الحسنة، وإطلاق سراح الأسرى نتيجة الحرب بالتبادل أو بالفداء المالي.
ومن البر: إقامة الصلاة أي أداؤها على أقوم وجه بإتمام الأركان والشروط، مع استحضار القلب والتفكير في معاني التلاوة والأذكار، واستذكار عظمة الإله
98
المعبود، والخشوع والطمأنينة على الوجه الشرعي، فإذا أديت الصلاة على وجهها المشروع، حققت آثارها، فهذبت النفس، وعودتها على مكارم الأخلاق، وأبعدتها عن الرذائل، فلا ترتكب فاحشة ولا منكرا، كما قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت ٢٩/ ٤٥].
ومن خصال البر: إيتاء الزكاة أي إعطاء الزكاة المفروضة لمستحقيها المذكورين في آية: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة ٩/ ٦٠] ويلاحظ أنه قلما تذكر الصلاة في القرآن الكريم إلا وهي مقترنة بالزكاة، لأن الصلاة تهذب الروح، والزكاة تطهر المال كما قال عز وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة ٩/ ١٠٣]. وقدر المأخوذ من زكاة الأموال وأنواعها موضح في السنة.
ومن البر: الوفاء بالعهد: سواء عهد الله بالسمع والطاعة، أو عهد الناس بالوفاء بالعقود والوعود والمعاهدات، ما لم تخالف أوامر الدين، فلا يجب الوفاء بالعهد إذا كان في معصية. والوفاء من آيات الإيمان الصحيح، والغدر من آيات النفاق كما في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وإذا تساهل الناس في الوفاء بالتزاماتهم، ضاعت الثقة فيما بينهم، وعاشوا في حيرة وقلق واضطراب، مما يلجئهم إلى توثيق عقودهم بمختلف الوسائل، والاحتراس من الغدر ونقض العهد.
والصبر وقت الشدة والفقر، وعند الضر من مرض وفقد أهل ومال وولد، وفي ساحات القتال مع الأعداء: من البر والإيمان، فالصبر نصف الإيمان، لأنه يدل على الرضا بالقضاء والقدر، واحتساب الأجر عند الله، والاهتمام بنصرة الدين في أثناء الجهاد، والصبر في هذه المواقف الثلاث عنوان الإيمان الكامل، وقد ورد في الحديث الصحيح: أن الفرار من الزحف من السبع الكبائر.
أولئك المتصفون بخصال البر السابقة هم الصادقون في الإيمان، وأولئك هم
99
الأتقياء بحق، الذين اتقوا غضب الله بالبعد عن المعاصي، الفائزون برضوان الله وثوابه في الدار الآخرة. والحق أن من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه.
فقه الحياة أو الأحكام:
البر الجامع للخير: هو الذي اتصف صاحبه بالأوصاف المذكورة في هذه الآية، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة، وفرضت الفرائض، وحوّلت القبلة إلى الكعبة، وحدّت الحدود، أنزل الله هذه الآية، فقال تعالى: ليس البر كله أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر أي ذا البر: من آمن بالله، إلى آخرها.
قال العلماء: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار، والملائكة، والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله، والنبيين، وإنفاق المال في الأحوال الواجبة والمندوبة، وإيصال القرابة وترك قطعهم، وتفقد اليتيم، وعدم إهماله، والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل (المنقطع به، وقيل: الضيف)، والسائلين، وفك الرقاب، والمحافظة على الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد.
وللعلماء قولان في إعطاء اليتيم: قيل: لا يعطى حتى يكون فقيرا، وقيل: يعطى بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا.
وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ.. يحتمل أن يراد به الصدقة الواجبة (الزكاة) وأن يراد به التطوع، قال الجصاص: وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة، وإنما فيها حث على الصدقة ووعد بالثواب عليها، لأن أكثر ما فيها أنها من البر، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل، إلا أن في سياق الآية ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة، لقوله تعالى وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فلما عطف
100
الزكاة عليها، دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها «١».
وكذلك ابن العربي قال: ليس في المال حق سوى الزكاة، وقد كان الشعبي فيما يؤثر عنه يقول: في المال حق سوى الزكاة، ويحتج
بحديث يرويه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في المال حق سوى الزكاة»
وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي، ولا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «٢»، وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة، ونزلت بعد ذلك حاجة، فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق العلماء. أي أن المراد بقوله: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إيتاء المال تطوعا، والمراد بقوله وَآتَى الزَّكاةَ إيتاء الزكاة المفروضة.
وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذا إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟
مسألة نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم «٣».
وقال القرطبي: استدل بالآية: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح،
للحديث المتقدم: «إن في المال حقا سوى الزكاة».
والحديث وإن كان فيه مقال، فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ فذكر الزكاة مع الصلاة، وهو دليل على أن المراد بقوله:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم «٤».
(١) أحكام القرآن: ١/ ١٣١
(٢) وأخرجه أيضا ابن ماجه في سننه، والترمذي وقال: «هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعّف. [.....]
(٣) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٥٩- ٦٠.
(٤) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٤١- ٢٤٢
101
وعلى كل فإن إيتاء المال فضلا عن الزكاة، مع حب المال أمر مرغب فيه شرعا بلا شك عملا بهذه الآية،
وبحديث أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقير، وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت:
لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»
.
وعن ابن مسعود في قوله تعالى:
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ قال: أن تؤتيه وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر.
ويؤيد الاتجاه الأول القائل بأن إيتاء المال على حبه هو تطوع حديث:
«نسخت الزكاة كل صدقة» يعني وجوبها.
ويكون لإنفاق المال صورتان: صورة الزكاة المفروضة: وهي إعطاء المال على كيفية مخصوصة، وبقدر معين. وصورة الزكاة المطلقة: وهي إعطاء المال من غير تقييد بمقدار معين ولا تحديد بامتلاك نصاب، بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة وأفرادها. فإذا ما أعطي المال بصورتيه، أمكننا القضاء على ظاهرة الفقر، وحققنا المقصود من التكافل الاجتماعي في الإسلام، وحينئذ نستغني عن استيراد المبادئ الاشتراكية الغربية أو الشرقية التي ظهرت لعلاج عيوب الرأسمالية الطاغية، وأمكننا الوصول إلى الحل الوسط المعقول الذي لا يقوم على الإجبار والإكراه أو نزع الملكية جبرا عن الملاك ودون تعويض، وإنما يتوخى الإبقاء على علاقات الود والحب والتعاطف بين الأغنياء والفقراء، ويعتمد على المنهج الأمثل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، قال الله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ، بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ، سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران ٣/ ١٨٠] أي لا تحسبن البخل خيرا لهم، بل هو شر لهم.
102
وأما إعطاء المساكين: فهم الذين لا يسألون، وأما السائلون فهم الذين كشفوا وجوههم،
وقد صح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس المسكين الذي تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه».
وفي الرقاب: قال مالك والشافعي: هم عبيد يعتقون قربة. وقال أبو حنيفة: إنهم المكاتبون يعانون في فك رقابهم. والصحيح أنه عام.
وأما الوصف البارز الذي توجّه به الله تعالى لمن اتصف بصفات البر في الآية فهو: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادّين في الدين، وهذا غاية الثناء.
مشروعية القصاص وحكمته
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
الإعراب:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الضمير يعود إلى فَمَنْ وكذا ضمير مِنْ أَخِيهِ يعود على فَمَنْ، وفيه حذف: تقديره: من حق أخيه، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والأخ: يراد به ولي المقتول. شَيْءٌ يراد به دم القتيل. وشيء: مرفوع نائب فاعل لفعل عُفِيَ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ أي لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة.
103
البلاغة:
فَاتِّباعٌ وأَداءٌ والْحُرُّ والْعَبْدُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ فرض عليكم، ولزم عند مطالبة صاحب الحق به، كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة ٢/ ١٨٣] ومنه الصلوات المكتوبات. الْقِصاصُ المماثلة في القتلى وصفا وفعلا، أي أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، يعني أن يقتل القاتل، لأنه مساو للمقتول في نظر الشرع. فِي الْقَتْلى: بسبب القتلى، جمع قتيل، كالصرعى جمع صريع، وإنما يكون فعلى جمعا لفعيل: إذا كان وصفا دالا على الزمانة. الْحُرُّ بِالْحُرِّ.. إلخ أي يقتل الحر بالحر ولا يقتل بالعبد، ويقتل العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، وأنه تعتبر المماثلة في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبدا بكافر ولو حرا، وهو رأي الجمهور غير الحنفية.
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي من عفي له من جهة ولي الدم شيء من العفو، والعفو يطلق على معان، المناسب منها هنا اثنان: العطاء، والإسقاط والترك. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي فليكن مطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ولا عنف ومن غير شطط وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي وتأدية من جهة الجاني للمجني عليه من غير مماطلة ولا تعب ولا بخس حق. ذلِكَ الحكم المذكور من العفو والدية.
تَخْفِيفٌ تسهيل. وَرَحْمَةٌ بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحدا منهما كما حتم القصاص على اليهود، والدية على النصارى.
فَمَنِ اعْتَدى أي انتقم من القاتل بعد العفو.
فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل الْأَلْبابِ جمع لب: وهو العقل.
سبب النزول:
هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية (١٧٨) «١» : فروي عن قتادة والشعبي وجماعة من التابعين: أنه كان من أهل الجاهلية بغي وطاعة للشيطان،
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٢٤٥، تفسير ابن كثير: ١/ ٢٠٩، أسباب النزول للواحدي: ص ٢٦
104
فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم، قالوا:
لا نقتل به إلا حرا، اعتزازا بأنفسهم على غيرهم. وإن قتلت لهم امرأة قالوا:
لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية، يخبرهم أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي.
ثم أنزل الله تعالى في سورة المائدة بعد ذلك: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة ٥/ ٤٥].
وروي عن السّدّي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم- وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدي الحر دية الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصهم بعضهم من بعض.
فنزلت الآية لتأييد حكمه.
التفسير والبيان:
كانت عقوبة القاتل قبل الإسلام متعددة الأنواع، فعند اليهود القصاص، وعند النصارى الدية، وعند عرب الجاهلية تشيع عادة الأخذ بالثأر، فيقتل غير القاتل، وقد يقتلون رئيس القبيلة، أو أكثر من واحد من قبيلة القاتل، وربما طلبوا بالواحد عشرة، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرا.
ثم قرر الإسلام أخذا بالعدل والمساواة عقوبة القصاص، لأنها تزجر الناس عن ارتكاب جريمة القتل، وما تزال هذه العقوبة هي الزاجرة في عصرنا الحاضر، إذ أن السجن لا يزجر كثيرا من المجرمين سفاحي الدماء. وتشريع الله هو الأعدل والأحكام والأسدّ، لأن الله أعلم بما يصلح الناس، وبما يربي الأمم والشعوب. وأباح الشرع أخذ الدية بدلا عن القصاص.
105
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى، فتقتصوا من القاتل بمثل ما فعل في القتيل، ولا يبغين بعضكم على بعض، فيقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، مثلا بمثل، ودعوا الظلم الذي كان بينكم، فلا تقتلوا بالحر أكثر من واحد، ولا بالعبد حرا، ولا بالأنثى رجلا.
وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده.
فالعدل مطلوب في القصاص، والمساواة شرط فيه، فلا يقتل الكثير بالقليل، ولا السيد بالمسود، وإنما ينحصر بالقاتل، لا يتجاوزه إلى أحد أفراد قبيلته، أو أقاربه، أو عشيرته.
فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه ولي الدم، حتى ولو كان واحدا من أولياء الدم أو القتيل: وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده، ويألمون لفقده، بأن كان العفو من القصاص إلى الدية، فيجب على العافي وغيره أن يحسن في الطلب من غير إرهاق ولا تعنيف، وعلى المؤدي الأداء من غير مطل ولا تسويف. كما يجوز العفو عن الدية أيضا، لقوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء ٤/ ٩٢].
ذلك الحكم الذي شرعناه من العفو عن القاتل إلى الدية أو بدون دية:
تخفيف وتسهيل ورخصة من ربكم، ورحمة لكم، وأي رحمة أفضل من الإبقاء على الحياة وعدم سفك الدماء. ولم يكن أخذ الدية مشروعا عند اليهود، وليس لأولياء المقتول إلا القصاص. فمن اعتدى بعد أخذ الدية وقتل القاتل، أو تجاوز ما شرعناه وعاد إلى عادة الجاهلية، فله عذاب شديد الألم يوم القيامة. فالتخفيف بالعفو بنوعيه قائم، لأن أهل التوراة لهم القصاص، وأهل الإنجيل لهم العفو بلا دية.
وحكمة القصاص: أنه يساعد على توفير الحياة الهانئة المستقرة للجماعة،
106
ويزجر القاتل وأمثاله، ويقمع العدوان، ويخفف من ارتكاب جريمة القتل، إذ من علم أنه إذا قتل غيره قتل به، امتنع عن القتل، فحافظ على الحياتين: حياة القاتل والمقتول، كما أن القصاص يمنع انتشار الفوضى والتجاوز والظلم في القتل، ويحصر الجريمة في أضيق نطاق ممكن، ويشفي غليل ولي القتيل، ويطفئ نار غيظه، ويستأصل من نفسه نار الشر والحقد والتفكير بالثأر. قال ابن كثير:
معنى قوله: وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة: وهي بقاء المهج وصونها، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل، انكف عن صنيعه، فكان في ذلك حياة للنفوس.
والذي يقدر حق الحياة المقدسة، ويفقه سر التشريع بالقصاص وما يحققه من مصلحة عامة وخاصة، هم العقلاء، فعليهم إدراك الحكمة وفهم دقائق الأحكام الشرعية. فإذا فهم العقلاء أن القصاص سبب للحفاظ على الحياة «١»، وحذروا الناس من جريمة القتل، اتقوا القتل وسلموا من القصاص، فالمراد هنا من «تتقون» اتقاء القتل، فتسلمون من القصاص، إذ العاقل يحرص على الحياة، ويحترس من تطبيق القصاص.
وقد اتفق علماء البلاغة إلا من شذ للوثة في عقله وهوى في نفسه، على أن عبارة: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أبلغ وأحكم وأفصح وأوجز، وأوفى بالمقصود من كلام فصحاء العرب: «القتل أنفى للقتل»، لأن كل قصاص فيه صون الحياة، أما القتل فقد يكون ظلما، فيصبح أدعى للقتل، وسببا في زيادته، ولا ينفي القتل إلا إذا كان عدلا، وأما القصاص عقوبة فهو عدل دائما، لأنه لا يصدر عن القاضي الحكم به إلا بعد توافر الإثباتات اللازمة على جريمة القاتل،
(١) قال أبو حيان في (البحر المحيط ٢/ ١٥) المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة أو نوع من الحياة، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل.
107
فهو النافي للقتل حقيقة. والآية القرآنية جعلت سبب الحياة للجماعة القصاص، لأنه قائم على التماثل والعدل والمساواة. والعقاب في محله عدل محض، أما الكلمة العربية في الجاهلية فجعلت سبب الحياة القتل مع أن القتل لا يستلزم الحياة، ثم إن هذه الكلمة فيها تكرار لفظ القتل، والآية خالية من التكرار اللفظي.
ويمكن تصحيح العبارة العربية بأن يقال: القتل قصاصا أنفى للقتل ظلما.
والخلاصة: أن الآية أخص، وأن ظاهر العبارة محال: وهو أن القتل سبب في نفي القتل، أما القصاص فهو سبب الحياة، وأن القتل ظلما قتل وليس نافيا للقتل بل هو أدعى للقتل.
فقه الحياة أو الأحكام:
امتازت الشريعة الإسلامية بأنها جمعت بسبب جريمة القتل بين تشريع القصاص الذي كان في بني إسرائيل، وبين تشريع الدية الذي كان في النصارى، وأصبح الخيار مقررا بين القصاص والدية والعفو مطلقا عن أي شيء. بل إن الإسلام حض على العفو في آيات كثيرة. منها: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢/ ٢٣٧] ومنها: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسراء ١٧/ ٣٣] وكذلك هذه الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة ٢/ ١٧٨] ذكّرت المؤمنين بالأخوة التي تدعوهم إلى العفو، وبددت من أنفسهم عوامل الغيظ والحقد، فيعطف الأخ على أخيه، ويتسامى عن أحقاده، فيصفح ويسمح عنه.
أما إن أراد ولي الدم القصاص، فعلى القاتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وهذا فرض عليه، كما أنه فرض على الولي الوقوف عند قتل القاتل، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى
قوله عليه الصلاة والسّلام «إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة
108
ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول «١» الجاهلية»
ودلت الآية على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة، قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس: الذكر والأنثى سواء فيه. واتفق الفقهاء على ترك ظاهر: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
وإنهاء لعادة الأخذ بالثأر، لم يسمح الشرع للأفراد أن يطبقوا القصاص بأنفسهم، وإنما حصر تطبيق القصاص وإقامة الحدود بولاة الأمور، لأنّ الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ولا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، منعا من الوقوع في الفوضى وتجاوز الحق والعدل، وليس القصاص بلازم، إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، ويجوز العفو عن القصاص إلى الدية أو بلا دية.
مسائل فقهية:
١- قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر:
اختلف الفقهاء في مسألتين هما: قتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي. فاشترط الجمهور التكافؤ بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية، فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد، ولم يشترط الحنفية التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكفي التكافؤ أو التساوي في الإنسانية، فيقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد.
استدل الجمهور
بقول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي- عن عبد الله بن عمرو: «لا يقتل مسلم بكافر» ورواه البخاري عن علي أيضا، وبقوله عليه الصلاة والسّلام في العبد- فيما رواه الدارقطني والبيهقي- عن ابن عباس مرفوعا: «لا يقتل حر بعبد».
(١) الذحل: العداوة والحقد، أو الثأر وطلب المكافأة على الجناية الواقعة عليه.
109
واستدل الحنفية بعموم آيات القصاص بدون تفرقة بين نفس ونفس، مثل قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة ٢/ ١٧٨] وقوله:
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة ٥/ ٤٥].
أما آية الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى بعد قوله:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى: فالمراد بها عند الحنفية الرد على ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا، وفي امرأتهم إلا رجلا، فأبطل ما كان من الظلم، وأكد فرض القصاص على القاتل دون غيره، فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد، أو أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، لأن الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وهذا يعم كل قاتل، سواء أكان حرا قتل عبدا أم غيره، وسواء أكان مسلما قتل ذميا أم غيره. ثم جاءت آية: الْحُرُّ بِالْحُرِّ.. لبيان ما تقدم ذكره على وجه التأكيد.
وقال الجمهور: إن الله قد أوجب أولا المساواة في القصاص، ثم بين المساواة المعتبرة، فأوضح أن الحر يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، لكن جاء الإجماع مستندا إلى السنة النبوية على أن الرجل يقتل بالمرأة.
فمناط الاستدلال عندهم كلمة الْقِصاصُ الموجبة للمساواة والمماثلة في القتل. ومناط الاستدلال عند الحنفية كلمة الْقَتْلى الموجبة حصر القصاص في القاتل لا في غيره.
وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد- في رأي الجمهور- فالمسلم لا يقتل بالذمي، لأن نقص العبد برقه الذي هو من آثار الكفر، فلا يقتل المسلم بالكافر.
ويظهر أن رأي الحنفية يحقق الانسجام بين صدر الآية وعجزها، فيكون العبد مساويا للحر، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة، لأنه محقون الدم
110
على التأبيد. أما رأي الجمهور فلا يحقق الانسجام بين بداية الآية ونهايتها، إذ أنهم قرروا ألا يقتل الحر بالعبد، وأن الرجل يقتل بالأنثى وبالعكس.
لكن السنة النبوية أوجبت النظر في الآية، فقال الجمهور: جاءت الآية مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة، وفيها إجمال بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، ولم يجز قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر.
ويعضد ما ذهب إليه الحنفية من شرع قتل المسلم بالذمي: ما
رواه الطحاوي عن محمد بن المنكدر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته»
وروي عن عمر وعلي قتل المسلم بالذمي، وقال علي: «إنا أعطيناهم الذي أعطيناهم «١»، لتكون دماؤهم كدمائنا ودياتهم كدياتنا».
وتأول الحنفية
حديث «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده»
بأنه لا يقتل المسلم والمعاهد بكافر حربي، لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا، فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي، كما قيد بالمعطوف، لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا، ويكون التقدير:
لا يقتل مسلم بكافر حربي، ولا ذو عهد بكافر حربي، لأن الذمي إذا قتل ذميا قتل به، فعلم أن المراد به: الحربي، إذ هو الذي لا يقتل به مسلم ولا ذمي.
ورد الجمهور بأن
حديث «أنا أحق من وفى بذمته»
مرسل عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ورواه عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر، وهو ضعيف الحديث، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله؟! وقال الدارقطني: «لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث».
(١) أي العهد والأمان.
111
وأما
حديث «ولا ذو عهد في عهده»
فهو كلام تام، لا يحتاج إلى تقدير، وهي جملة مستأنفة، لبيان حرمة دماء أهل الذمة، والعهد بغير نقض.
٢- قتل الرجل بالمرأة:
نصت الآية على قتل الأنثى بالأنثى، ولم تبين حكم قتل الرجل بالمرأة وبالعكس.
فقال الحسن البصري وعطاء: لا يقتل الرجل بالمرأة، لهذه الآية.
وقال الليث بن سعد: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
وخالفهم الجمهور فقرروا أنه يقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، لآية المائدة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (٤٥)، ولقوله عليه الصلاة والسّلام- فيما
رواه البخاري وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه من حديث أبي جحيفة-: «المسلمون تتكافأ دماؤهم».
ويسوى بين الرجل والمرأة في القصاص بالنفس وفيما دون النفس من الأعضاء في رأي مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبي ثور. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس، وإنما هو في النفس بالنفس. قال القرطبي: وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى.
٣- قتل الوالد بالولد:
قال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، وموجز الخلاف هو ما يأتي. قال الجمهور غير مالك: لا قود (قصاص) عليه، وعليه ديته، لما
رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقاد الوالد بالولد»
وهو حديث مشهور.
112
وقال مالك: إذا قتل الرجل ابنه متعمدا، مثل أن يضجعه، ويذبحه، أو يصبره (يحبس ويرمى حتى يموت) مما لا عذر له فيه، ولا شبهة في ادعاء الخطأ، يقتل به. أما إذا رماه بالسلاح أو بالعصا بقصد التأديب، أو في حالة غضب، فقتله، لا يقتل به، لأن شبهة الأبوة قائمة شاهدة بعدم القصد إلى القتل.
٤- قتل الجماعة بالواحد:
قال الظاهرية: لا تقتل الجماعة بالواحد، لظاهر الآية، التي شرطت المساواة والمماثلة، ولا مساواة بين الواحد والجماعة، لقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة ٥/ ٤٥].
والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل.
وذهب أئمة المذاهب الأربعة: إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد، قلّت الجماعة أو كثرث، سدا للذرائع، فلو لم يقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلا، إذ يتخذ الاشتراك في القتل سببا للتخلص من القصاص. وقد قتل عمر رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم به جميعا» وقتل علي رضي الله عنه الحرورية (الخوارج) بعبد الله بن خبّاب «١».
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، لأكبهم الله في النار»
وقال فيه: حديث غريب.
(١) خرّج الحديثين الدارقطني في سننه.
113
٥- المماثلة في تطبيق القصاص (أداة القصاص) :
للعلماء اتجاهان في كيفية استيفاء القصاص، فذهب مالك والشافعي إلى أن آية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ يقتضي المماثلة في كيفية القتل، فيقتص من القاتل على الصفة التي قتل بها، فمن قتل تغريقا، قتل تغريقا. ومن قتل بحجر قتل به، بدليل
حديث أنس الذي رواه الشيخان (البخاري ومسلم) أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «رضّ رأس يهودي بين حجرين، كان قد قتل بهما جارية من الأنصار».
وذهب الحنفية، والحنابلة في الأصح عندهم إلى أن المطلوب بالقصاص إتلاف نفس بنفس، والآية لا تقتضي أكثر من ذلك، فعلى أي وجه قتله، لم يقتل إلا بالسيف،
لحديث النعمان بن بشير الذي رواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قود إلا بالسيف»
ولحديث عمران بن حصين وغيره أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن المثلة»
وحديث شداد بن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال- فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن-: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة»
فأوجب عموم لفظه على من رغب في القصاص أن يقتل الجاني بأحسن وجوه القتل.
٦- أخذ الدية من قاتل العمد:
هناك نظريتان، فذهب مالك في رواية أشهب والشافعي وأحمد: إلى أن ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل،
لحديث أبي شريح الخزاعي عام الفتح الذي رواه أحمد عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل له قتيل، فله أن يقتل أو يعفوا أو يأخذ الدية»
ولأن فرضا على القاتل إحياء نفسه، بقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وعلى هذا يكون موجب القتل العمد أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو إلى الدية، فأيهما اختار الولي، أجبر الجاني عليه.
114
وذهب أبو حنيفة، ومالك في رواية ابن القاسم، وهو المشهور عنه: إلى أنه ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، إذ ليس في الآية سوى إباحة العفو أي العطاء، أي فمن أعطي له من أخيه شيء من المال، فليتبعه بالمعروف، وليؤد إليه الجاني، وليس فيها ما يدل على إلزام القاتل بالدية إذا رضيها الولي. واحتجوا
بحديث أنس في قصة الرّبيّع «١» حين كسرت ثنية المرأة، فلما حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقصاص، وقال: «القصاص: كتاب الله، القصاص: كتاب الله»
ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية، ثبت أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص.
قال القرطبي: والأول- أي الاتجاه الأول- أصح، لحديث أبي شريح المذكور.
٧- هل للنساء عفو؟
ذهبت طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو، منهم الحسن البصري وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي. وخالفهم بقية العلماء، وقالوا:
يجوز للنساء العفو عن القصاص.
٨- هل الاتباع بالمعروف والأداء واجب أو مندوب؟
إن آية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وقراءة الرفع فَاتِّباعٌ تدل على الوجوب، لأن المعنى: فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ شرط، والجواب: فَاتِّباعٌ وهو رفع بالابتداء، والتقدير: فعليه اتباع بالمعروف. مثل قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ.
(١) هي عمة أنس بن مالك، والحديث رواه الأئمة.
115
وعلى قراءة النصب: فاتباعا يكون الطلب على سبيل الندب.
٩- حكم القاتل بعد أخذ الدية:
من قتل بعد أخذ الدية، فحكمه عند جماعة من العلماء، منهم مالك والشافعي: كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة.
وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو.
روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أعفى «١» من قتل بعد أخذ الدية».
وقال الحسن البصري: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.
وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى.
١٠- القصاص للحاكم:
اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه، دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك.
١١- القصاص من الحاكم نفسه:
أجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه، إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل،
(١) أعفى: من عفا الشيء: إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لاكثر ماله ولا استغنى.
116
وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل، لقوله جل ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى.
وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: «لئن كنت صادقا لأقيدنك منه».
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم شيئا إذ أكبّ عليه رجل، فطعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعال فاستقد» قال: بل عفوت يا رسول الله.
وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «ألا من ظلمه أميره، فليرفع ذلك إليّ أقيده منه». فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصّه منه، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقصّ من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: «خطبنا عمر بن الخطاب، فقال: إني لم أبعث عمّالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به، فليرفعه إلي أقصه منه».
الوصية الواجبة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
117
الإعراب:
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أسباب الموت، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
الْوَصِيَّةُ: نائب فاعل لفعل: كتب، وتقديره: كتب عليكم الوصية.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ منصوب على المصدر، وتقديره: حق حقا.
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الهاءات في: بدله وسمعه ويبدلونه، فيها وجهان: أحدهما- إنما أتى بضمير المذكر، دون ضمير المؤنث، وإن كان الذي تقدم ذكر الوصية، لأنه أراد بالوصية الإيصاء. والثاني- أن هذه الهاءات تعود على الكتب، لأن كُتِبَ تدل عليه، والكتب مذكر.
البلاغة:
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أقيم الظاهر مقام المضمر.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ: فرض الْمَوْتُ أي أسبابه وعلاماته وأماراته كالمرض المخوف خَيْراً أي مالا، قال مجاهد: الخير في القرآن كله: المال. الْوَصِيَّةُ: تصرف في التركة مضاف إلى ما بعد الموت، أي فليوص من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه، وتطلق على الإيصاء والتوصية، وعلى الموصى به من عين أو عمل.
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل بأن لا يزيد على الثلث، ولا يفضل الغني، وهو ما لا يستنكره الناس، بحسب حال الشخص الموصي، بأن لا يكون قليلا بالنسبة لماله الكثير، وألا يكون كثيرا يضر بالورثة، ويتحدد بعدم الزيادة على ثلث التركة.
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. والإيصاء الواجب للأقارب منسوخ بآية الميراث، وبحديث رواه الترمذي وغيره: «لا وصية لوارث».
فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره أي الإيصاء، من شاهد ووصي بَعْدَ ما سَمِعَهُ علمه فَإِنَّما إِثْمُهُ أي الإيصاء المبدل إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقول الموصي عَلِيمٌ بفعل الوصي، فيجازيه عليه.
فَمَنْ خافَ أي علم. جَنَفاً ميلا عن الحق والعدل خطأ أَوْ إِثْماً بأن تعمد الإجحاف والظلم، بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلا.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الوصي والموصى له، بالأمر بالعدل. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك.
118
التفسير والبيان:
هذه الآيات تذكير عام لجميع الناس بالوصية التي هي عمل من أعمال البر والخير بعد الموت، في حال ظهور أماراته وعلاماته، بعد أن ذكر الله القصاص في القتل، وهو موت، وجاء الخطاب للمجموع، لأن الأمة متكافلة، يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، فمناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية وبيان أنه مما كتبه الله تعالى على عباده، حتى يتنبه كل أحد، فيوصي قبل مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية.
وفرض عليكم أيها المؤمنون، إذا ظهرت علامات الموت بمرض مخوف ونحوه، وترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته، أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء من هذا المال، وصية عادلة، لا تعد شيئا قليلا ولا كثيرا، في حدود ثلث التركة، وعدم تفضيل غني لغناه، ودون تمييز ولا جور في الوصية إلا لضرورة، كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، أو صغر، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والحقد والنزاع بين الورثة، حتى ولو كان الوالدان كافرين، فللولد أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهما، لأن الإحسان لهما مطلوب بنحو عام، كما قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [العنكبوت ٢٩/ ٨]. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان ٣١/ ١٥] والمراد من قوله:
بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وهو محدد شرعا بمقدار ثلث التركة فأقل.
أوجب الله تلك الوصية حقا مقررا على من اتقى الله وآمن بكتابه. فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي بعد سماعه، فإنما ذنب هذا التغيير عليه، وبرئت منه ذمة الموصي، وثبت له الأجر عند ربه.
119
والتغيير إما بإنكار الوصية أو بالنقص فيها بعد أن علمها.
والله سميع لقول المبدلين والموصين، عليم بنياتهم وبكل فعل، وهذا وعيد شديد لهم، فاحذروا العقاب.
ثم استثنى من إثم التبديل حالة الإصلاح والنصح، وهي إذا خرج الموصي في وصيته عن منهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا، فلمن علم بذلك أن يصلح بين الموصي والموصى له، أو بين الورثة والموصى لهم، بأن يرد الوصية إلى العدل والمقدار المحدد لها شرعا، ولا إثم على هذا التبديل، لأنه بحق، ولا ذنب عليه في ذلك، والله غفور لمن بدل للإصلاح، رحيم به.
المراد بكلمة خَيْراً: اختلف العلماء في المال الذي تفرض فيه الوصية، فقيل: إنه المال الكثير، كما فسرته السيدة عائشة رضي الله عنها. وقيل: أي مال قليلا كان أو كثيرا. ثم اختلفوا في ضابط التمييز بين الكثير والقليل: فقال ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وقال قتادة. ألف درهم. وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي، قالت:
كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف درهم، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت:
قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك، فهو أفضل.
والظاهر- كما قال ابن عباس وجماعة من التابعين-: أن المراد المال مطلقا، قليلا كان أو كثيرا، لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره. والقضية راجعة إلى العرف، وتقدير الموصي وعدد أفراد الورثة، وظروف المعيشة وأوضاع الغلاء والرخص.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية في رأي جمهور العلماء وأكثر المفسرين منسوخة بآية المواريث،
120
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أصحاب السنن وغيرهم عن عمرو بن خارجة-: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث»
فصار وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخا، قال ابن كثير: بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم عن عمرو بن خارجة.
أما الأقارب غير الوارثين: فيستحب أن يوصى لهم من الثلث، استئناسا بهذه الآية،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الصحيحان- عن ابن عمر: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»
قال ابن عمر:
«ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول ذلك، إلا وعندي وصيتي». والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا.
وهناك أقوال في نسخ هذه الآية وهي:
١- ذهب ابن عباس والحسن البصري وطاوس ومسروق وآخرون: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت واجبة للقرابة غير الوارثين، لأن الوصية كانت واجبة بالآية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب.
واختار ابن جرير الطبري في تفسيره هذا المذهب. ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاح المتأخرين، وإنما هو تخصيص.
٢- وذهب ابن عمر وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وآخرون: إلى أن هذه الآية كلها منسوخة بآية المواريث، في حق من يرث وحق من لا يرث، بدليل ما
رواه الشافعي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة»
«١» فلو كانت الوصية واجبة
(١) رواه الدارقطني عن عمران بن حصين رضي الله عنه (تفسير القرطبي: ٢/ ٢٧١- ٢٧٢).
121
للأقربين، باطلة في غيرهم، لما أجازها النبي في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين.
٣- حكى الرازي في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، والمعنى: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء ٤/ ١١].
ولا منافاة حينئذ بين ثبوت الوصية للأقرباء، وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، وقد جمع الوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
ولو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصصة لآية الوصية، بمعنى أن آية الوصية يراد بها القريب الذي لا يرث، إما لمانع من الإرث كالكفر واختلاف الدار، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام. وهذا رأي طاوس ومن وافقه.
مسائل فقهية:
١- مقدار الوصية:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم لسعد الذي أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير»
وقوله أيضا: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة لكم في أعمالكم».
وأجاز الحنفية: الوصية بالمال كله إن لم يترك الموصي ورثة، لأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، كما
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»
ومن لا وارث له، فليس ممن عني بالحديث.
[٢- إجماع العلماء في مقدار الوصية]
٢- وأجمع العلماء على أن من مات، وله ورثة، فليس له أن يوصي بجميع
122
ماله. وأجمعوا على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، قبل الموت.
٣- وقال أئمة المذاهب الأربعة والأوزاعي:
من أوصى لغير قرابته، وترك قرابته محتاجين، فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض، لكل من أوصى له، من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر.
ورأى طاوس والحسن البصري: أنه إذا أوصى لغير الأقربين، ردت الوصية للأقربين، ونقض فعله.
[٤- ذهاب الجمهور في وصية المريض]
٤- وذهب جمهور العلماء إلى أن المريض مرض الموت يحجر عليه في ماله، فلا تنفذ وصاياه وتبرعاته. وقال الظاهرية: لا يحجر عليه.
[٥- فتوى العلماء بجواز الوصية بأكثر من الثلث]
٥- وأجاز أكثر العلماء الوصية بأكثر من الثلث أو لوارث إن أجازها الورثة، لأن المنع من الزائد عن الثلث أو لوارث، كان لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم، كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم،
روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة»
وروى أيضا عن عمرو بن خارجة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة».
ومنع الظاهرية الوصية بأكثر من الثلث، وإن أجازها الورثة.
٦- رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته:
أ- قال طاوس والحسن وعطاء وآخرون: ليس لمن أجاز الوصية للوارث حال حياة الموصي الرجوع في الإجازة بعد الموت، وتنفذ الوصية عليهم، لأن المنع من هذه الوصية إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز، كما أنهم إذا أجازوا الوصية لأجنبي بأكثر من الثلث، جاز بإجازتهم.
ب- وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا،
123
لأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، فقد أجاز من لا حق له في المال، فلا يلزمه شيء.
ج- وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحة الموصي، فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم، لأن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته، فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإن أذنوا له في مرضه، فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه، لأنه قد فات.
٧- وصية الصبي المميز والسفيه والمجنون:
لا خلاف في صحة وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره:
فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به، وكذلك الصبي الصغير إذا كان يعقل ما أوصى به، ولم يأت بمنكر من القول (أي لم يوص بمعصية) فوصيته جائزة، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجاز وصية صبي من غسان بلغ من العمر عشر سنين (مميز) كان قد أوصى لأخوال له، فرفع أمره إلى عمر، فأجازها. أي أن المالكية ومثلهم الحنابلة أجازوا وصية المميز وهو ابن عشر سنين فأقل مما يقاربها.
وقال الحنفية والشافعية: لا تجوز وصية الصبي، لأن عبارته قبل البلوغ غير معتبرة في التبرع. واستثنى الحنفية وصيته في أمور تجهيزه ودفنه على سبيل الاستحسان مع اشتراط تحقق المصلحة في ذلك، وهو أيضا واجب.
واتفق أئمة المذاهب الأربعة على القول بصحة وصية السفيه: وهو الذي لا يحسن تدبير المال، وينفقه على خلاف مقتضى الحكمة والشرع.
124
ولم يجيزوا وصية المجنون والمعتوه والمغمى عليه، لأن عبارتهم ملغاة لا يتعلق بها حكم. وأجاز الحنفية وصية المجنون إذا كان جنونه غير مطبق، أما إذا كان مطبقا بأن استمر بصاحبه دون إفاقة مدة شهر فأكثر فتبطل وصيته.
٨- تبديل الوصية:
من سمع الوصية من الموصي أو سمعه ممن ثبت به عنده، وذلك عدلان، ثم بدله، فإثمه على المبدل، ويخرج الموصي بالوصية عن اللوم، ويتوجه إلى الوارث أو الولي. وهذا يدل كما قال بعض علماء المالكية: على أن الدّين إذا أوصى به الميت، خرج عن ذمته، وصار الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره، وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرّط في أدائه، وأما إذا قدر عليه وتركه، ثم وصّى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه «١».
٩- الوصية بمعصية:
لا خلاف في أنه إذا أوصى الموصي بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث.
١٠- الإصلاح والحكم بالظن:
معنى آية فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً.. من علم أو رأى واطلع بعد موت الموصي أن الموصي جنف وتعمد أذية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل، لأن فعله تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
وفي هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٧٣، تفسير القرطبي: ٢/ ٢٦٩
125
السعي في الإصلاح. وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا، إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.
١١- أفضلية الصدقة حال الحياة:
لا خلاف في أن الصدقة في حال حياة الإنسان أفضل منها عند الموت، لما
ثبت في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام، وقد سئل: «أي الصدقة أفضل؟ فقال: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح..»
الحديث،
وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة»
وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعد ما يشبع».
١٢- الإضرار في الوصية:
من لم يضرّ في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته،
لحديث رواه الدارقطني عن معاوية بن قرّة عن أبيه: «من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله، كانت كفارة لما ترك من زكاته».
فإن ضر في الوصية حرم الإيصاء، لما
رواه الدارقطني عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر».
وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية، فتجب لهما النار».
126
فرضية الصيام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
الإعراب:
كَما كُتِبَ الكاف في موضع نصب، إما لأنّها صفة لمصدر محذوف، وتقديره: (كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب) وما: مصدرية، أي مثل كتابته، وإما لأنّها حال من الصيام، وتقديره: (كتب عليكم الصيام مشبّها كما كتب على الذين من قبلكم).
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ منصوب بتقدير فعل، وتقديره: صوموا أياما معدودات، فحذف صوموا لدلالة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ عليه. ولا يجوز نصبه بالصيام، لوجود فاصل أجنبي بينه وبين صلته وهو كَما كُتِبَ.
وَأَنْ تَصُومُوا مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ لَكُمْ.
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مبتدأ مرفوع، وخبره مقدر، وتقديره: فعليه عدة من أيام أخر.
127
ومِنْ أَيَّامٍ صفة مرفوعة لكلمة عدة وأُخَرَ جمع أخرى، وهو فعلى التي هي للتفضيل وهي صفة أيام، وممنوعة من الصرف للوصف والعدل عن آخر.
فِدْيَةٌ مبتدأ، وخبره: وعلى الذين يطيقونه، مقدم عليه. طَعامُ مِسْكِينٍ بدل من فدية. ولم يجمع مِسْكِينٍ لأن الواجب في ابتداء الإسلام كان إطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ والطعام بمعنى الإطعام، كالعطاء بمعنى الإعطاء. شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ، وخبره: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. وهُدىً حال من القرآن، أي هاديا للناس. وبَيِّناتٍ عطف عليه.
الشَّهْرَ منصوب على الظرفية، وتقديره: «فمن شهد منكم الشهر في المصر» لأن المسافر قد شهد الشهر ولا يجب عليه الصوم فيه. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معطوف على محذوف، تقديره:
ليسهل عليكم ولتكملوا العدة.
البلاغة:
كَما كُتِبَ تشبيه يسمى «مرسلا مجملا» والتشبيه في الفرضية لا في الكيفية.
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ مجاز بالحذف تقديره: من كان مريضا فأفطر، أو على سفر فأفطر.
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال بعضهم: إن الآية على إضمار حرف النفي، أي لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه. ولا داعي لذلك، لأن الطاقة تعني تحمل الشيء بمشقة وشدة، والمعنى: يتحملونه بجهد شديد.
الْيُسْرَ... والْعُسْرَ فيه طباق السلب.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ فرض. الصِّيامُ في اللغة: الإمساك والكف عن الشيء والترك له، وفي الشرع: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، بنيّة من أهله، احتسابا لوجه الله، وإعدادا للنفس لتقوى الله. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي في الفرضية ووجوب الصوم، وقيل: مقداره، وقيل: كيفيته من الكف عن الأكل والشرب، والرأي الأول أرجح، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله كتب صوما ما على الذين من قبلنا، وهذا مسلّم به عند أهل الأديان، فمن المعروف أن الصوم مشروع في جميع الملل، حتى الوثنية، فهو معروف عند
128
قدماء المصريين واليونان والرومان والهنود. وفي التوراة الحالية مدح الصيام والصائمين، وثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يوما، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعا تذكارا لخراب أورشليم وأخذها، ويصومون يوما من شهر آب. وكذلك الأناجيل الحالية تمدح الصيام وتعتبره عبادة كالنّهي عن الرّياء وإظهار الكآبة فيه، وأشهر صوم النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى وعيسى والحواريون، ثم وضع رؤساء الكنيسة أنواعا أخرى من الصيام.
تَتَّقُونَ المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدأ المعصية، ويورث التقوى، ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ إن كل ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ عنى به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين. ووصفها بقوله مَعْدُوداتٍ تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام معدودة.
يُطِيقُونَهُ أي يتحملونه بمشقة شديدة وجهد كبير، ويؤيده قراءة: «يطوقونه» مثل الكبير الهرم والحامل والمرضع والمريض مرضا لا يرجى برؤه. فِدْيَةٌ الفدية: هي إطعام مسكين عن كل يوم، من أوسط ما يطعم أهله في يومه، أكلة واحدة، وهو مدّ من غالب قوت البلد، وهو يساوي (٦٧٥ غ).
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بالزيادة على القدر المذكور في الفدية. فَهُوَ أي: التطوع خير له. والصوم خير من الإفطار والفدية. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم، فافعلوه في تلك الأيام.
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر.
هُدىً هاديا من الضلالة. وَبَيِّناتٍ آيات واضحات. مِنَ الْهُدى مما يهدي إلى الحق من الأحكام، ومن الْفُرْقانِ مما يفرق بين الحق والباطل.
فَمَنْ شَهِدَ حضر بأن كان مقيما غير مسافر. الْيُسْرَ السهولة والتخفيف بإباحة الفطر في المرض والسفر، والمريض وكذا المسافر يختار الأيسر عليه، ويكون هو الأفضل في حقه. وآية يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ.. تعليل لما قبله، أي يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام، وسائر ما يشرعه لكم من الأحكام، أن يكون دينكم يسرا تاما لا عسر فيه. وفي هذا ترغيب في الرخصة.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ اللام للتعليل، وهي معطوفة على التعليل المستفاد من قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ كأنه قال: رخص لكم في حالي المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر، وأن تكملوا العدة، فمن لم يكملها أداء، لعذر المرض أو السفر، أكملها قضاء بعده، فالله شرع لكم القضاء حال الفطر والسفر. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عند إكمال العدة. عَلى ما هَداكُمْ إليه من الأحكام النافعة لكم، بأن
129
تذكروا عظمته وكبرياءه وحكمته في إصلاح عباده، وأنه يربيهم بما يشاء من الأحكام، ويؤدبهم بما يختار من التكاليف.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على هذه النعم كلها، وإعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها.
سبب نزول الآية (١٨٤) :
أخرج ابن سعد في طبقاته عن مجاهد قال: هذه الآية نزلت في مولاي قيس بن السائب: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فأفطر، وأطعم لكل يوم مسكينا.
التفسير والبيان:
تستمر الآيات بعد بيان القصاص والوصية في سرد الأحكام الشرعية، فلا حاجة لمعرفة المناسبة بين كل حكم وما يليه.
فالله فرض عليكم الصيام، كما فرض على المؤمنين أتباع الملل الأخرى من لدن آدم عليه السّلام، وناداهم بوصف الإيمان المقتضي للامتثال، وأبان أن الصوم فرض على جميع الناس، ترغيبا فيه، وتوضيحا أن الأمور الشاقة إذا عمّت، سهل تحملّها، وشعر المؤدون لها بالراحة والطمأنينة، لقيامها على الحق والعدل والمساواة.
ثم إن الصوم مطهرة للنفس، ومرضاة للرّب، ويعدّ النفوس لتقوى الله في السرّ والعلن، ويربي الإرادة، ويعلم الصبر وتحمل المشاق وضبط النفس عند المكاره، وترك الشهوات، لذا
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «الصوم نصف الصبر».
وإعداد الصوم للتقوى يحدث من نواح مختلفة أهمها ما يأتي:
١- يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السرّ والعلن: إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه، فإذا شعر بالجوع أو بالعطش الشديد، وشمّ رائحة الطعام
130
الشهي، أو ترقرق في ناظريه برودة الماء وعذوبته، وأحجم عن تناول المفطر، بدافع إيمانه، وخشية ربّه، حقق معنى الخوف من الله، وإذا ازينت الشهوات له، وترفع عنها، خوفا من انتهاك حرمة الصوم، فقد استحيا من الله، وراقب ربّه. وإذا استبدت الأهواء بالنفس، كان سريع التذكر، قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ، تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠١].
ومن أعظم فوائد الصوم الروحية: أن الصائم يحتسب الأجر والثواب عند الله ويصوم لوجه الله وحده.
٢- يكسر حدّة الشهوة، ويخفف من تأثيرها وسلطانها، فيعود إلى الاعتدال وهدوء المزاج، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم واصفا الصوم لمن يتعذر عليه الزواج- فيما رواه الجماعة عن ابن مسعود-: «.. ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»،
أي بمثابة الخصاء مضعف للشهوة.
وقال أيضا- فيما رواه النسائي عن معاذ-: «الصوم جنّة»
أي وقاية من المعاصي.
٣- يستدعي الإحساس المرهف والشفقة والرحمة التي تدعوه إلى البذل والعطاء، فهو عند ما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا من البائسين، فيحمله الصيام على مواساتهم، وهذا من أوصاف المؤمنين التي ذكرها الله: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح ٤٨/ ٢٩].
٤- فيه تحقيق معنى المساواة بين الأغنياء والفقراء، والأشراف والعامة، في أداء فريضة واحدة، وهذا من فوائد الصيام الاجتماعية، كالحالة السابقة.
٥- يعوّد على النظام في المعيشة، وضبط الإرادة فيما بين فترتي السحور والإفطار في وقت واحد، ويحقق الوفر والاقتصاد إذا التزمت آداب الصيام.
131
٦- يجدد البنية، ويقوي الصحة، ويخلص الجسد من الرواسب والتخمرات الضارة، ويريح الأعضاء، ويقوي الذاكرة إذا حزم الإنسان أمره، وتفرغ لعمله الذهني دون أن يشغل نفسه بتذكر المتع الجسدية، ويجمع ذلك كله
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة-: «صوموا تصحوا».
وهذا يكون بعد الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى عادة، بعد أن يتعود الإنسان على الصوم، ويستعلي على حالات الاسترخاء في الفترة الأولى من بدء الصيام.
وكل هذه الفوائد الجسدية والروحية والصحية والاجتماعية مشروطة بالاعتدال في تناول وجبات الإفطار والسحور، وإلا أصبح الحال عكسيا، وانقلب الأمر وبالا وعناء وضررا إذا أتخم الإنسان معدته، ولم يعتدل في طعامه وشرابه.
وكذلك يشترط في الصوم لتحقيق تلك الغايات عفة اللسان وغضّ البصر والامتناع عن الغيبة والنميمة واللهو الحرام، كما
قال عليه الصلاة والسلام عن الله تعالى: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه من أجلي»
«١» أي من أجل الله. وربّ صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش. فالإمساك عن المفطرات المعنوية مثل الإمساك عن المفطرات المادية الحسية، سواء بسواء.
والصوم محدود في أيام معدودات معينة قليلة وهي شهر في العام كله، ويمر عادة بنحو سريع، لأن أيام رمضان مباركة تفيض بالخير والإحسان، فهو كما
قال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن خزيمة عن سلمان-: «أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار»
وقال أيضا- فيما رواه الطبراني عن ابن مسعود-: «رمضان سيّد الشهور»، «لو علمت أمتي ما في رمضان من الخير، لتمنت أن يكون السنة كلها» رواه الطبراني وغيره عن أبي مسعود الغفاري.
(١) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة.
132
فالمراد من الأيام المعدودات في رأي أكثر المحققين (ابن عباس والحسين وأبي مسلم) : شهر رمضان.
وليس الصوم واجبا إلا على المستطيع الصحيح المقيم، أما المسافر والمريض مرضا شديدا يشق معه الصوم، فيباح لهما الإفطار، وعليهما القضاء في أيام أخر من العام، لأن المرض والسفر الطويل وهو الذي يباح فيه قصر الصلاة (وهو ٨٩ كم) مشقة، والمشقة تجلب التيسير، كما قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥].
والمعتبر: السفر بسير الدواب المعتادة في الماضي، لا بوسائط النقل والمواصلات السريعة اليوم، وقدره بعضهم بثلاثة أميال عملا بما
روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ «١»، صلى ركعتين»
- يريد أنه يقصر الصلاة، فالعبرة بقطع مثل هذه المسافة، لا بالزمن الذي تقطع فيه. وقدر الحنفية المسافة بثلاثة أيام، وقدرها الجمهور بيومين معتدلين، وهي ذهابا ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهي تساوي حوالي ٨٩ كم، عملا بما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» والبريد: أربعة فراسخ.
وأكثر الأئمة (مالك وأبي حنيفة والشافعي) على أن الصوم للمسافر أفضل إن لم يشق عليه. ويرى أحمد والأوزاعي أن الفطر أفضل عملا بالرخصة. ويشترط لجواز إفطار المسافر عند بدء السفر: أن يكون السفر في رأي الجمهور (غير الحنابلة) قبل الفجر، فلو أصبح المقيم صائما، فسافر، فلا يفطر، تغليبا لجانب
(١) الميل: ١٨٤٨ م، والفرسخ: ٣ أميال أو ٥٥٤٤ م.
133
الحضر، لأنه الأصل. ولم يشترط الحنابلة هذا الشرط، لكن الأفضل الصيام، خروجا من الخلاف.
والذي يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ الهرم والمريض مرضا مزمنا، والحامل والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط، عليه عند الشافعي وأحمد القضاء والفدية: وهي طعام مسكين. فإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما، فعليهما القضاء فقط.
فمن تطوع وزاد في الفدية عن طعام مسكين لليوم الواحد، فهو خير له وأكثر ثوابا. والتطوع: بأن يطعم أكثر من مسكين في اليوم، أو يطعم أكثر من القدر الواجب، أو يصوم مع الفدية.
وصوم هؤلاء المعذورين خير لهم إن كانوا يعلمون وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين، إذا لم يتضرروا، لما
روي أن أبا أمامة قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: مرني بأمر آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم، فإنه لا مثل له».
ثم بيّن الحق تعالى أن هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان المبارك الذي بدئ فيه بإنزال القرآن واستمر نزوله منجّما (مقسطا) في ثلاث وعشرين سنة، الذي هو هداية للناس إلى الصراط المستقيم، مع وضوح آياته دون غموض، وكونها فارقة بين الحق والباطل. وفسّر بعضهم نزول القرآن في شهر رمضان: بنزوله ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وليلة القدر في رمضان هي خير من ألف شهر.
والحكمة في إيراد وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ بعد قوله هُدىً لِلنَّاسِ: هي الدلالة على أن الهدى نوعان: هدى بيّن واضح تفهمه العقول العادية لأول وهلة، وهدى لا يدركه إلا خواص الناس، والأول أكثر فائدة.
فمن شهد أو حضر منكم الشهر، وهو سليم معافى، لا عذر له من سفر أو
134
مرض، فيجب عليه الصيام، لأنه أحد أركان الإسلام الخمسة. ومن لم يشهد الشهر، كسكان البلاد القطبية- التي يتساوى فيها الليل والنهار كل نصف عام، أي يكون الليل فيها نصف سنة في القطب الشمالي، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي، فعليهم أن يقدروا مدة تساوي شهر رمضان بحسب أقرب البلاد المعتدلة إليهم، أو بحسب مكة والمدينة اللتين وقع فيهما التشريع.
ثم أعاد الله تأكيد الرخصة في الإفطار مرة ثانية، حتى لا يظن تعميم وجوب الصوم بعد قوله: فَلْيَصُمْهُ وبعد بيان مزايا الصوم وأهميته، لأن الله يريد في كل ما شرع من أحكام، ومنها رخصة الإفطار لذوي الأعذار، أن يحقق اليسر للناس ويدفع عنهم العسر.
وأمر أصحاب الأعذار في حالي المرض والسفر ونحوهما بالقضاء أو الفدية، لأنه يريد إكمال عدّة الشهر، ولنكبّر الله ونعظمه ونشكره على نعمه كلها، ومنها إعطاء كل من العزيمة والرخصة حقها.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت هذه الآيات على أحكام كثيرة، أبيّنها بإيجاز:
١- للصوم فضل عظيم وثواب جسيم، ويكفي في فضله أن الله خصه بالإضافة إليه، كما
جاء في الحديث القدسي الذي يخبر به النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ربّه:
«يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به»
، وتخصيص الصوم بأنه له، مع أن العبادات كلها له، لأمرين ذكرهما القرطبي:
أحدهما- أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها، ما لا يمنع منه سائر العبادات.
135
الثاني- أن الصوم سرّ بين العبد وبين ربّه، لا يظهر إلا له، فصار مختصا به، وما سواه من العبادات ظاهر قد يدخله الرياء.
٢- الصوم يعدّ النفس للتقوى، لقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فهو سبب تقوى الله، لأنه يميت الشهوات، ولأنه كما
قال عليه الصلاة والسلام: «الصيام جنّة ووجاء» «١».
٣- يجوز للمريض والمسافر الإفطار في رمضان، ويجب عليهما القضاء في وقت آخر. والمرض المبيح للفطر في رأي أكثر الفقهاء: هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة. والعبرة في ذلك بما يغلب على الظنّ. وهذا الضابط هو الذي يتفق مع حكمة الرخصة في الآية: وهي إرادة اليسر ودفع العسر. وظاهر اللفظ: اعتبار مطلق المرض، بحيث يطلق عليه اسم المرض، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري.
وأما السفر المبيح للفطر: فهو الذي يبيح قصر الصلاة الرباعية، وقدره في رأي الجمهور ستة عشر فرسخا أو ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، أو مسيرة يومين معتدلين أو مرحلتين بسير الأثقال ودبيب الأقدام، والبحر كالبر. ودليلهم ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» وقدروها بحوالي ٨٩ كم.
وقدر السفر الذي يبيح الترخيص عند الحنفية: هو قدر ثلاث مراحل أو أربع وعشرين فرسخا، أو مسيرة ثلاثة أيام سيرا وسطا، وهو سير الإبل، والأقدام في البر، وسير السفن الشراعية في البحر، ويكتفون بسير معظم اليوم، وقدروه ب ٩٦ كم. واحتجوا
بقوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن»
ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر
(١) أي أن الصوم يضعف شهوة الجماع، كما أن الوجاء (الخصاء) يقطعها. [.....]
136
ثلاثة أيام، لأن الشرع جعل علة امتداد مدة المسح إلى الثلاثة: السفر، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأيضا ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا، وذلك
في حديث ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم»
وهو حديث متفق عليه، فيرجح على أخبار رواها أبو سعيد وأبو هريرة مفادها منع المرأة من السفر يومين.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر، لأن في الآية إضمارا تقديره: فمن كان منكم مريضا أو على سفر، فأفطر، فعليه عدة من أيام أخر.
وروى أبو داود في سننه عن عائشة: أن حمزة الأسلمي سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، هل أصوم على السفر؟ فقال: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت».
وقد ثبت عن جماعة من الصحابة (ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبي الدرداء، وسلمة) عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صام في السفر، وصام الصحابة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا».
وقال بعض الصحابة (ابن عباس وابن عمر) : الواجب على المسافر والمريض الفطر، وصيام عدة من أيام أخر، لظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصيام في السفر»
، وردّ الجمهور بأن هذا كلام خرج على حال مخصوصة، وذلك ما
رواه شعبة من طريق جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يظلل عليه، والزحام عليه شديد، فقال: «ليس من البرّ الصيام في السفر»
، فمن سمع وذكر الحديث، ذكره مع سببه، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث.
وقرر أكثر الأئمة: أن الصوم للمسافر أفضل لمن قوي عليه، لقوله تعالى:
137
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن صومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه خير لكم من الفدية، لما فيه من مجاهدة النفس وقوة الإيمان ومراقبة الله. وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى أن الفطر أفضل، لقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
واتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لأن المسافر لا يكون مسافرا بالنية، بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين.
ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج.
واتفقوا على أن المسافر سفر الطاعة كالحج والجهاد وصلة الرحم وطلب المعاش الضروري وسفر التجارات والمباحات: له الإفطار. وأما سفر العاصي فيجوز له الإفطار عند الحنفية، لأن السفر نفسه ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فلا يؤثر على رخصة القصر، ولأنه قد يتوب إذا تذكر نعمة الله عليه بالسماح له بالفطر والقصر وغيرهما.
وقال الجمهور غير الحنفية: لا تباح الرخص المختصة بالسفر من القصر والجمع والفطر ونحوها، لما في الرخصة من الإعانة على المحرم، والشرع نهى عن ذلك.
٤- دل قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ على أن المريض أو المسافر واجبه الأصلي الصوم، ويرخص له في الفطر، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها، وهذا رأي الجمهور، لأن معنى الآية: من كان منكم مريضا أو مسافرا، فأفطر، فعليه صيام أيام أخر، بعد ما أفطر. وإذا صام أهل البلد تسعة وعشرين، وفي البلد رجل مريض لم يصح، فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما.
138
ويستحب في رأي الجمهور ولا يجب تتابع أيام القضاء، لأن آية فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مطلقة، لم تخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد صام عدة من أيام أخر. وروى الدارقطني بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلت «فعدة من أيام أخر متتابعات» فسقطت: «متتابعات».
ودلت هذه الآية أيضا على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان، لأن اللفظ إذا شمل الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.
فإن جاء رمضان آخر ولم يقض، لزمه في رأي الجمهور كفارة: وهي أن يطعم لكل يوم مسكينا. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه، عملا بظاهر الآية:
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. ودليل الجمهور ما
رواه الدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة فيمن فرّط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، قال: «يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرّط فيه، ويطعم لكل يوم مسكينا».
٥- من أفطر متعمدا أو جامع في نهار رمضان وجب عليه عند الحنفية والمالكية خلافا لغيرهم الكفارة: وهي عتق رقبة مؤمنة عند الجمهور، ولو غير مؤمنة عند الحنفية، فإن عجز صام شهرين متتابعين، فإن عجز أطعم ستين مسكينا. ولا كفارة بالإفطار أو الجماع في قضاء رمضان.
والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة، فمات من علته تلك، أو سافر، فمات في سفره ذلك: أنه لا شيء عليه.
ومن مات وعليه صوم من رمضان لم يقضه عنه أحد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يصوم أحد عن أحد، لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤] وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم ٥٣/ ٣٩] وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام ٦/ ١٦٤]، ولما
خرجه النسائي عن ابن
139
عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة».
وقال أحمد: يستحب للولي أن يصوم عن الميت إذا مات بعد إمكان القضاء، لأنه أحوط لبراءة ذمة الميت، ويصوم عنه أيضا إذا كان الصوم نذرا، لما
رواه مسلم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات، وعليه صيام، صام عنه وليه»
وهذا عام في الصوم، يخصصه ما
رواه مسلم أيضا عن ابن عباس، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك».
٦- ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن آية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ليست بمنسوخة، وأنها محكمة في حق من لا يقدر على الصيام، وفيه ضرر، كالشيخ الفاني والشيخة الفانية، وعليهم الفدية: طعام مسكين.
فالناس على ثلاث أحوال: الأصحاء المقيمون، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان، والمرضى والمسافرون، ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر، وقوم لا يقدرون على الصوم، وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون.
والراجح أن هذه الآية تتناول الحامل والمرضع، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما أو ولدهما، فقال: أي مرض أشد من الحمل؟ تفطر وتقضي.
وأجمع العلماء على أن الواجب على الشيخ الهرم الفدية ومثله المريض الذي لا يرجى برؤه، أما الحامل والمرضع، فعليهما القضاء دون الفدية عند الحنفية،
140
والفدية والقضاء عند الشافعية والحنابلة إن خافتا على ولدهما فقط، والفدية والقضاء على المرضع فقط، لا الحامل عند المالكية.
ومقدار الفدية عند أبي حنيفة: نصف صاع (مدان) من برّ، أو صاع من غيره كالتمر أو الشعير، ومد من الطعام من غالب قوت البلد عن كل يوم عند الجمهور. ومن تطوع بالزيادة على مسكين أو في مقدار الفدية على المسكين، أو بالصيام مع الفدية، فهو خير له. والمد ٦٧٥ غم، والصاع ٢٧٥١ غم.
٧- دل قوله تعالى: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ على أن الصيام في السفر والمرض غير الشاق وغير ذلك خير، والأولى حمله على العموم، لعموم اللفظ كما قال الفخر الرازي، وهو يقتضي الحض على الصوم مطلقا، كما قال القرطبي.
٨- امتاز رمضان باختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور، لأنه أنزل فيه القرآن، أي ابتدأ إنزاله في رمضان، ولا منافاة بين إنزاله في رمضان، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة، لأن هذه الليلة في رمضان.
والقرآن: اسم لكلام الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهو مشتق من القراءة، وهو بمعنى المقروء، فهو مصدر: قرأ قراءة وقرآنا، فأطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، كما في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء ١٧/ ٧٨] أو مشتق من القرآن، لأن آياته قد قرن بعضها ببعض.
٩- فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ: هناك قولان في مفعول شَهِدَ.
أحدهما- أن مفعول شَهِدَ محذوف، والمعنى: فمن شهد البلد في الشهر، أي لم يكن مسافرا، ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.
والثاني- أن مفعول شَهِدَ هو الشهر، والتقدير: فمن شهد الشهر
141
وشاهده بعقله وبمعرفته، فليصمه، هذا.. مع ملاحظة أن خطابات الله جميعا تتوجه إلى المكلفين، فتكون الآية مخصوصة بمن يتأتى تكليفهم. أما الوجه الأول فيعتمد على تقدير محذوف أي إضمار، والمقرر في الأصول: إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعين المصير إلى التخصيص.
ويرى الجمهور أن الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر.
ويرى الجمهور أيضا أن شهود أي جزء من أجزاء الشهر يكفي في وجوب الصوم، إلا أن الحنفية رأوا أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أي جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء.
أما من جنّ في رمضان، فقال المالكية: إنه يقضي ما مضى، ولو جن سنين. وقال غيرهم: إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم. ومن أفاق في بعض الشهر يصوم في الأصح لدى الشافعية والحنابلة ما شهد فقط، ولا قضاء عليه لغيره.
وأما الصبي يبلغ، والكافر يسلم في بعض رمضان، فقال الجمهور غير الحنابلة: إنهما يصومان ما بقي، وليس عليهما قضاء ما مضى، ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام. وقال الحنابلة في الأصح: يلزمهما قضاء اليوم الذي حدث فيه البلوغ والإسلام. وبه يعلم أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر.
وشهود الشهر: يكون برؤية الهلال أو بالعلم أنه قد رئي، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم في رأي الجمهور (منهم أئمة المذاهب الأربعة)، لما
رواه ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له»
، أي فأكملوا المقدار،
142
بدليل حديث أبي هريرة عند النسائي: «فأكملوا العدة». وهذا موافق لظاهر قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٨٩].
وأجاز بعضهم الاعتماد على المراصد والحساب عند ثبوت إفادتها العلم القطعي بهذه المواقيت، ولو مع المحافظة على رؤية الهلال في حال عدم المانع من رؤيته، للجمع بين ظاهر النص والمراد منه، تحقيقا لاتفاق الأمة في عبادتها، وإبعادها عن الخلاف، ما أمكن الاتفاق وسيلة ومقصدا، لأن العلم مقدم على الظن، فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، فمن أمكنه رؤية الكعبة لا يجوز له أن يجتهد في التوجه إليها، ويعمل بظنه الذي يؤديه إليه الاجتهاد «١».
وأفتى علماء السعودية في صفر ١٤٠٩ هـ بجواز الاعتماد على مكبرات الرؤية في المراصد.
١٠- هل يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين؟ للعلماء رأيان:
قال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد، لأنها شهادة على هلال، فلا يقبل فيها أقل من اثنين، كالشهادة على هلال شوال وذي الحجة.
وقال الجمهور: يقبل قول الواحد العدل، لما
روى أبو داود عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه.
وتقبل شهادة المرأة عند الحنفية والحنابلة، ولا تقبل عند المالكية والشافعية.
١١- من رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال: قال الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر، وليخف ذلك. وقال مالك وأحمد: الذي يرى هلال رمضان وحده يصوم، لأنه لا ينبغي
(١) تفسير المنار: ٢/ ١٥٠، ط ١٩٧٢ بمصر.
143
له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا يفطر، لأن الناس يتّهمون من يفطر منهم بأنه ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر أمرهم: قد رأينا الهلال. وإذا لم ير الهلال بسبب كسوف الشمس مثلا، كما حدث في رمضان عام ١٤٠٤ هـ، وصام بعض الناس ثمانية وعشرين يوما، بسبب رؤية هلال شوال، وجب قضاء يوم، إكمالا لعدة الشهر، وهو ٢٩ يوما على الأقل.
١٢- اختلاف المطالع: قال الجمهور: إذا رئي الهلال في بلد وجب على أهل البلاد الأخرى الصيام، سواء قربت البلاد أو بعدت، توحيدا للصوم بين المسلمين، ولا عبرة باختلاف المطالع.
وقال الشافعية: إن قرب البلد فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، والمسافة بين القريب والبعيد في الأصح لديهم بحسب مسافة القصر (٨٩ كم). ومثل هذا الرأي لم يعد مقبولا.
١٣- لا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا، بل هو لليلة التي تأتي، وهو الصحيح.
١٤- دل قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ على الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل، فهذه الآية دليل على مشروعية التكبير في عيد الفطر. ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثا. ومن العلماء: من يكبّر ويهلّل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
وأما وقت التكبير ومدته: فقال أبو حنيفة ومالك: يندب التكبير في عيد الفطر بالخروج من داره إلى المصلى، فإذا انقضت الصلاة، انقضى العيد. وقال الشافعي وأحمد: يندب التكبير في أي وقت عقب الصلاة وفي أي زمن من
144
غروب شمس ليلة العيد إلى أداء صلاة العيد، أي من رؤية الهلال إلى خروج الإمام للصلاة.
١٥- ما يفطّر الصائم وما لا يفطره: يفطر الصائم بالأكل والشرب والجماع عمدا بالنص والإجماع، ويفطر أيضا بالدواء، والقيء عمدا، والاستمناء (إخراج المني بغير جماع)، وإنزال الماء إلى الجوف أثناء المبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتناول الدخان المعروف «التبغ»، وابتلاع النخامة في رأي الشافعية، وتناول أي شيء مادي يصل إلى الجوف عمدا، سواء أكان مغذيا أم غير مغذ.
ولا يفطر الصائم بالفصد اتفاقا، كما لا يفطر عند الجمهور بالأكل ونحوه ناسيا، ويفطر عند المالكية.
ولا يفسد الصوم بالقطرة أو بالحجامة، أو بالحقنة، أو بالاكتحال في العين في رأي الحنفية والشافعية، ويفطّر الاكتحال بكحل يتحقق معه وصوله إلى الحلق في رأي الحنابلة والمالكية، وكذا تفطر الحجامة عندهم إذا ظهر دم.
ولا يفسد الصوم بالسواك والمضمضة والاستنشاق من غير مبالغة، ولا بالاغتسال والسباحة. ويفطر عند المالكية بوصول ماء المضمضة والاستنشاق والسواك ولو سهوا أو خطا ولو من غير مبالغة.
ولا يفطر إذا غلبه القيء ولم يبتلع منه شيئا، ولا بخلع الضرس ما لم يبتلع شيئا من الدم أو الدواء. ولا بحقنة في إحليل الرجل في رأي الحنفية والمالكية، وأما في إحليل المرأة فيفطر عند الحنفية، وتفطر الحقنة مطلقا عند الشافعية.
ولا يفطر بإنزال المذي عند الحنفية والشافعية، ويفطر به عند المالكية والحنابلة في حال التقبيل أو المباشرة فيما دون الفرج.
وأما المجامع ناسيا ففيه أقوال ثلاثة:
145
أحدها- لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين.
والثاني- عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك.
والثالث- عليه الأمران وهو المشهور عن أحمد.
وتجب الكفارة بالجماع عمدا في نهار رمضان باتفاق الفقهاء، وكذا بالأكل والشرب عمدا عند الحنفية والمالكية، ويجب الإمساك بقية النهار. ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في رأي أكثر العلماء.
وتتداخل الكفارة، فلا تجب إلا واحدة بتكرر الإفطار في أيام عند الحنفية، وتتعدد الكفارة بتعدد الإفطار في أيام مختلفة في رأي الجمهور.
واختلف العلماء فيما يجب على المرأة التي يطؤها زوجها في شهر رمضان:
فقال المالكية والحنفية والحنابلة: عليها مثل ما على الزوج إن مكنته طائعة، ولا كفارة عليها إن كانت مكرهة. وقال الشافعي: ليس عليها كفارة، وعليها القضاء فقط، سواء طاوعته أو أكرهها.
ولا كفارة على من أمنى بالنظر أو التفكير عند الجمهور، وعليه الكفارة عند الحنابلة، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية.
146
أحكام الصيام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٦ الى ١٨٧]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
الإعراب:
أُجِيبُ إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في فَإِنِّي.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ ليلة: منصوب على الظرف ب أحل.
وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من ضمير تُبَاشِرُوهُنَّ.
البلاغة:
الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ كناية عن الجماع، وعدّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء.
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: استعارة، شبّه كل واحد من الزوجين، لاشتماله على صاحبه في الاقتراب والعناق والضم، باللباس المشتمل على لابسه.
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: استعارة، يراد بها تشبيه بياض الصبح بالخيط الأبيض، وسواد الليل بالخيط الأسود، والخيطان مجاز، والتشبيه بالخيطين، لأنهما ضعيفان عند الطلوع. وقال الزمخشري: إنه تشبيه بليغ، لأن قوله: مِنَ الْفَجْرِ أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: «رأيت أسدا» مجاز، فإذا زدت: «من فلان» رجع تشبيها. وقوله:
147
مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للثاني. ويجوز أن تكون مِنَ للتبعيض، لأنه بعض الفجر وأوله (الكشاف: ١/ ٢٥٨).
المفردات اللغوية:
فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بعلمي، فأخبرهم بذلك فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فليلبوا دعوتي إياهم بالإيمان والطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي يداوموا على الإيمان بي. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يهتدون. لَيْلَةَ الصِّيامِ ليالي الصوم.
الرَّفَثُ الأصل فيه: الفحش من الكلام أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، ثم أطلق على الجماع أو كل ما يريده الرجل من المرأة، لأنه لا يخلو مما ذكر غالبا.
هُنَّ لِباسٌ.. كل من الزوجين بمثابة لباس للآخر، لأنه يستر صاحبه، كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور، والتعبير القرآني كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه تَخْتانُونَ تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام.
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ: أول ما يبدو من بياض النهار، كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر.
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: هو ما يمتد من سواد الليل، مختلطا مع بياض النهار، كأنه خيط ممدود مِنَ الْفَجْرِ أي الصادق، بيان للخيط الأبيض، وأما بيان الأسود فهو محذوف أي: من الليل، واكتفى بالأول، لأن بيان أحدهما بيان للثاني. شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد.
ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من الفجر إلى اللَّيْلِ أي غروب الشمس، والإتمام: الأداء على وجه التمام.
وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي نساءكم، وحقيقة المباشرة: مس كلّ بشرة الآخر: أي ظاهر جلده، والمراد به الجماع وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ: الاعتكاف: لغة: اللبث وملازمة الشيء، وشرعا: المكث في المسجد طاعة لله وتقربا إليه.
حُدُودُ اللَّهِ مفردها حد: وهو في اللغة: الحاجز بين شيئين، ثم أطلقت على ما شرعه الله لعباده من الأحكام، فإن جاء بعدها: فَلا تَقْرَبُوها فالمراد بها ممنوعاته ومحارمه، وإن جاء بعدها: فَلا تَعْتَدُوها فالمراد بها أحكامه، أي ما حده وقدره، فلا يجوز أن يتعداه الإنسان.
وإن أريد بالحدود: الأحكام عامة، فيكون المقصود من قوله: فَلا تَقْرَبُوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير، أو لا تقربوا الحد الحاجز بين حيّز الحق وحيّز الضلال، مثل منع الاقتراب من الحمى في حديث: «فمن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه».
148
سبب نزول الآية (١٨٦) :
أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أقريب ربنا، فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت عنه فنزلت الآية: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي..
ورويت أسباب أخرى، سأذكرها في التفسير والبيان.
سبب نزول الآية (١٨٧) :
أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا، امتنعوا، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له: قيس بن صرمة صلى العشاء، ثم نام فلم يأكل ولم يشرب، حتى أصبح، فأصبح مجهودا، وكان عمر أصاب من النساء بعد ما نام، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فأنزل الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ.. إلى قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ.
وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام، كان كل إنسان يجتهد فيما يراه أحوط وأقرب للتقوى، حتى نزلت هذه الآية.
سبب زيادة مِنَ الْفَجْرِ:
قال الزمخشري: لو لم يذكر مِنَ الْفَجْرِ لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد مِنَ الْفَجْرِ فكان تشبيها بليغا، وخرج من أن يكون استعارة.
فإن قلت: فكيف التبس على عدي بن حاتم مع هذا البيان، حتى قال:
عمدت إلى عقالين: أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فكنت أقوم من الليل، فأنظر إليهما، فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت، غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته فضحك، وقال: «إن كان وسادك لعريضا».
149
وروي: «إنك لعريض القفا، إنما ذاك بياض النهار، وسواد الليل».
قلت:
غفل عن البيان، ولذاك عرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته.
فإن قلت: فما تقول فيما
روي عن سهل بن سعد الساعدي: «أنها نزلت ولم ينزل: من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب، حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك: من الفجر، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار»
«١». وكيف جاز تأخير البيان، وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه، قبل ذكر: الفجر، فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة، وهي غير مرادة؟!.
قلت: أما من لا يجوز تأخير البيان، وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، فلم يصح عندهم هذا الحديث. وأما من يجوزه، فيقول: ليس بعبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله، إذا استوضح المراد منه «٢».
التفسير والبيان:
هذه الآيات تذكير للعباد وتعليم للمؤمنين ما يراعونه في عبادة الصيام وغيرها من الطاعة والإخلاص والآداب والأحكام، والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء الذي يعدّهم للهدى والرشاد. وقال البيضاوي في وجه الربط بين الآيات: واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير
(١) رواه البخاري عن ابن أبي مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن ابن أبي مريم.
(٢) الكشاف: ١/ ٢٥٨
150
والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيدا له وحثا عليه.
وقد روي أن سبب نزول الآية: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم سمع المسلمين يدعون الله بصوت مرتفع في غزوة خيبر، فقال لهم: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم».
وروي أيضا عن قتادة: أن الصحابة قالوا: كيف ندعوا ربنا يا نبي الله؟
فأنزل الله هذه الآية.
وروي كذلك أنه: لما نزلت آية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا، وندموا، وتابوا، وسألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هل يقبل الله تعالى توبتنا؟ فنزلت.
وليس المراد بالقرب هنا قرب المكان، بل المراد: القرب بالعلم وما تقتضيه إجابة الدعاء. ويرى السلفيون: أن ما ذكر في القرآن والسنة من قرب الله ومعيّته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء.
ومعنى الآية (١٨٦) : وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي أي عن شأن من شؤون ذاتي، وهي جهة القرب أو البعد، فإني قريب منهم، أي أعلم أحوالهم، وأسمع أقوالهم، وأرى أعمالهم، وهو المراد بالقرب في آية أخرى مماثلة: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق ٥٠/ ١٦] فليس بيني وبين أحد حجاب، وأجيب دعوة من يدعوني مخلصا لي، دون وسيط، وقرن دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله تعالى.
وإجابة الدعاء تشمل الهداية للأسباب كتيسير سبل الرزق والشفاء والنجاح، وتحقيق النتائج المترتبة على الأسباب بالتوفيق والرعاية.
151
وتتطلب إجابة الدعاء: الاستجابة لأوامر الله بالإيمان الصحيح، والطاعة وإقامة العبادات النافعة للعباد من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها، وحينئذ يجازيهم الله على عملهم أحسن الجزاء. وإذا صدرت الأعمال الخالصة لله مقترنة بالإيمان، كانت سبيلا للرشاد والاهتداء إلى الخير الشامل للدنيا والآخرة، لأنهم إن أجابوا ما دعاهم إليه الله، أجابهم إلى ما يطلبون. والاستجابة هنا: الاستسلام والانقياد. والإيمان: الإذعان القلبي.
وبما أن كلمة «لعل» تفيد الرجاء، وذلك مستحيل على الله، لاستعلائه واستغنائه، فيكون المراد بها حيث وردت في القرآن: راجين بعملكم الرشاد، أو بمعنى التعليل، أي لترشدوا، أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون.
قال ابن تيمية: وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطّلع إليهم، فدخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه. وفي الصحيح: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».
ومعنى قوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ: أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
قال ابن كثير: وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر، كما
رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد الله بن عمرو، قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة»
فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر، دعا أهله وولده ودعا.
ورواه ابن ماجه بلفظ: «إن للصائم عند فطرة دعوة ما ترد»
وكان عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر:
152
«اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي»
وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك، ولو بعد حين» «١».
هل الدعاء يفيد؟
زعم بعضهم أن الدعاء لا فائدة فيه، لأن الأمر المدعو فيه إن كان في علم الله واقعا، فهو لا بد واقع، وإن لم يكن واقعا فهو غير واقع لا محالة. وقرر الجمهور أن الدعاء أهم مقامات العبودية، لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر ٤٠/ ٦٠] فالله طلبه منا، مما يدل على فضله، وبين في آية أخرى أنه تعالى إذا لم يسأل غضب، فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام ٦/ ٤٣].
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة» «٢»
وقال أيضا: «الدعاء هو العبادة» «٣»
وقرأ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر ٤٠/ ٦٠]
وقال أيضا: «الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين، ونور السموات والأرض» «٤».
وهناك أمور معلقة على شروط وأسباب في تقدير الله، منها الدعاء.
والدعاء عبادة، لأنه معرفة، إذ يتطلب أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة، وأنه القادر على كل شيء، والقاهر فوق عباده.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٢١٩
(٢) رواه الترمذي عن أنس، لكنه ضعيف.
(٣) رواه أحمد وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب وأصحاب السنن الأربع وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير.
(٤) رواه أبو يعلى والحاكم عن علي، وهو صحيح.
153
وهذه الآية دليل قاطع على فائدة الدعاء، ومعناها كما بينا: إذا سألوك عن المعبود، فأخبرهم أنه قريب، يثيب على الطاعة، ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. والمراد بقوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أي بالإجابة، وقيل: بالعلم.
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ أي أقبل عبادة من عبدني، ومنها الدعاء، والدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. بدليل الأحاديث السابقة. وكان خالد الرّبعي يقول: «عجبت لهذه الأمة في ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط.
لكن إجابة الدعاء مقيدة بقيود بالنسبة للعبد، منها:
عدم الاعتداء بتجاوز حدود الله، فكل مصرّ على كبيرة عالما بها أو جاهلا، فهو معتد، وقد أخبر تعالى أنه لا يحب المعتدين، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف ٧/ ٥٥]
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو سعيد الخدري: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدّخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها»
.
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال:
يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر «١»
عند ذلك، ويدع الدعاء».
ومنها أكل الحرام وما في معناه،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «الرجل يطيل
(١) أي ينقطع عن الدعاء ويملّه.
154
السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء، يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟»
وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته.
وإجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به.
فمن شرط الداعي: أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخّرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه.
وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يملّ من الدعاء.
ومن شرط المدعو فيه: أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما
جاء في الحديث السابق: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم».
ويدخل في الإثم جميع الذنوب، ويدخل في الرحم: جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله التّستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.
ومن شرائط الدعاء كما ذكر ابن عطاء: أربع:
أولها- حفظ القلب عند الوحدة.
ثانيها- وحفظ اللسان مع الخلق.
ثالثها- وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحلّ.
رابعها- وحفظ البطن من الحرام.
ومواقيت الدعاء: وقت الأسحار، والفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر
155
والمرض، وعند نزول المطر، والصّف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الآثار.
فإذا تحققت شروط الدعاء وقيوده استجيب، قال ابن عباس: «كل عبد دعا استجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا، ذخر له».
أما آية الصيام (١٨٧) فأرشدت إلى ما يأتي:
١- إباحة الجماع في أثناء الليل، وحرمته كالأكل والشرب أثناء النهار: وقد كان الجماع حراما بعد الإفطار والنوم، ثم نسخ، كما بينا في أسباب النزول.
ومحظورات الصيام في الآية هي الأكل والشرب والجماع، أما القبلة والجسّة ونحوها فلا تفطر، لكن ذلك في رأي المالكية والشافعية: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن البصري والشافعي: إن قبّل فأمنى، فعليه القضاء ولا كفارة.
ولو قبل فأمذى، لم يكن عليه شيء. وقال أحمد: من قبّل فأمذى أو أمنى، فعليه القضاء، ولا كفارة عليه، إلا من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وأوجب مالك عليه القضاء والكفارة، ولا كفارة على من أنزل بالنظر عند الجمهور، وعليه الكفارة عند الحنابلة، ولا يفسد صومه أيضا عند الحنفية.
٢- وجوب الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بشرط النية قبل الفجر في رأي الجمهور غير الحنفية، لأن الصيام من جملة العبادات، فلا يصح إلا بنية «١». ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، لكن لا يخرج من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية. وقال الحنفية: تبييت
(١) وقال الزمخشري: قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي صوم الوصال (الكشاف:
١/ ٢٥٨).
156
النية غير لازم، لأن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ يدل على ذلك، لأن «ثم» يفيد التراخي.
٣- قرر جمهور العلماء صحة صوم من طلع عليه الفجر، وهو جنب، قال ابن العربي: «وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام، ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا، فإن صومه صحيح» «١»، لأن الجنابة لا تؤثر في صحة الصوم، للزومها الصوم للضرورة، لأنه يجوز له الوطء قبل الفجر، ولأن آية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
ترشد إلى احتمال بقاء الشخص جنبا حتى مطلع الفجر، فيصاحب جزءا من الصوم، وهو جنب، لأن حَتَّى غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد، ويحرم عليه الأكل، إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر.
لكن الغسل فرض للصلاة، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة ٥/ ٦].
٤- الحائض إذا طهرت: قال الجمهور: إذا طهرت الحائض قبل الفجر، وتركت التطهر حتى تصبح، وجب الصوم عليها وأجزأ، سواء تركت التطهر عمدا أو سهوا كالجنب.
وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرّطت في الاغتسال.
وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان، فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أم بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.
٥- الحجامة لا تفطر الصائم،
لأنه صلّى الله عليه وسلّم احتجم عام حجة الوداع وهو محرم
(١) أحكام القرآن: ١/ ٩٤ وما بعدها.
157
صائم
، فيكون ذلك ناسخا
لحديث شداد بن أوس عام فتح مكة: «أفطر الحاجم والمحجوم».
٦- إن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره، فأفطر، ثم ظهرت الشمس، فعليه القضاء في رأي أكثر العلماء. ومثله لو أذّن المؤذن خطأ قبل الغروب، أو ضرب مدفع الإفطار قبل الغروب ولو بدقيقة، فأفطر بناء عليهما، وجب القضاء.
وإن أفطر وهو شاك في غروب الشمس، كفّر مع القضاء في رأي مالك، إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها.
ومن شك في طلوع الفجر، لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه، فعليه القضاء كالناسي، في مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا شيء عليه حتى يتبين له طلوع الفجر. فإن تبين طلوع الفجر وجب عليه القضاء باتفاق أئمة المذاهب إذ «لا عبرة بالظن البين خطؤه».
ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غمّ عليه الهلال في أول ليلة من رمضان، ثم بان أنه من رمضان. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان، ثم بان خلافه.
قال ابن كثير: وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، ولهذا
وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحث على السحور، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسحروا فإن في السّحور بركة».
والمقصود بالفجر: الفجر الصادق، لا الفجر الكاذب، بدليل
حديث عائشة في الصحيحين: «لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم، فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر» - لفظ
158
البخاري، وحديث قيس بن طلق عن أبيه «ليس الفجر المستطيل في الأفق، ولكن المعترض الأحمر».
وفي حديث مرسل جيد: «الفجر فجران: فالذي كأنه ذنب السّرحان- أي الذئب- لا يحرم شيئا، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام».
٧- دل قول تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ على النهي عن صوم الوصال، إذ الليل غاية الصيام. ويؤكد المنع منه ما
رواه البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والوصال، إياكم والوصال»
فيكره الوصال في رأي جمهور العلماء.
وحرمه بعضهم لما فيه من مخالفة ظاهر القرآن والتشبه بأهل الكتاب.
أخرج مسلم وأبو داود: «إن فصل «١» ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السّحر».
وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السّحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: لست كهيئتكم، إني أبيت، لي مطعم يطعمني وساق يسقيني»
وهذا يدل على إباحة تأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك.
قال القرطبي: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات «٢».
ودلت هذه الآية أيضا على أن وقت الإفطار عند غروب الشمس، بدليل ما
جاء في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، فقد أفطر الصائم».
(١) بمعنى الفاصل.
(٢) تفسير القرطبي: ٢/ ٣٣٠
159
وقد فهم الحنفية من هذه الآية لزوم إتمام ما شرع فيه من صوم التطوع، لأن لفظ الصيام عام يتناول كل صوم، فكل صوم شرع فيه، لزمه إتمامه، لأن الله سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل، والأمر للوجوب، فإن لم يتم لزمه قضاؤه. وهكذا الحكم في جميع النوافل من صلاة وحج وصيام، يجب إتمامها بالشروع فيها، وعليه إعادتها مطلقا، سواء أكان معذورا أم غير معذور. ودليلهم قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣٣] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فوجب عليه عدم إبطاله، فإذا بطل أو أبطله، فقد ترك واجبا، ولا تبرأ ذمته إلا بإعادته.
وفصل المالكية فقالوا: إن أبطله، فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده، فلا قضاء عليه.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أفسد ما دخل فيه من تطوع، فلا قضاء عليه إلا في الحج النفل عند الحنابلة، فيجب إتمامه. ودليلهم قوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة ٩/ ٩١]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه».
٨- ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما
رواه أبو داود والدارقطني عن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء».
ويستحب الدعاء بعد الإفطار، لما
روى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا، إنك أنت السميع العليم»
وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله».
ويندب إفطار المسلم، لما
رواه ابن ماجه عن زيد بن خالد الجهني قال:
160
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فطر صائما، كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا».
٩- ويستحب صيام ستة أيام من شوال، لما
رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال، كان له كصيام الدهر».
وكره المالكية اتصالها برمضان.
١٠- الجماع يفسد الاعتكاف، لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. أما مباشرة الزوجة من غير جماع: فإن قصد بها التلذّذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجّل (تمشط) رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معتكف، وكانت لا محالة تمسّ بدنه بيدها. فدل ذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة. وهو قول عطاء والشافعي وابن المنذر.
أما دواعي الجماع كالقبلة والمباشرة وإن لم ينزل فهي حرام وتفسد الاعتكاف عند المالكية، ولا تفسده عند الجمهور، لكن قال الشافعية: يفسد إن أنزل المني بحسب المعتاد له، وقال غيرهم: يفسد الاعتكاف مطلقا بالإنزال في حال المباشرة بشهوة كالقبلة واللمس والتفخيذ.
١١- يسن الاعتكاف في المسجد، وهو في اللغة: الملازمة، وفي الشرع:
ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص.
وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وإنما هو قربة من القرب، ونافلة من النوافل، عمل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وأزواجه. ويلزم بالنذر.
وأجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقوله تعالى: فِي الْمَساجِدِ. وأقل الاعتكاف عند مالك يوم وليلة. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: أقله لحظة، ولا حدّ لأكثره. ولا يشترط له عندهم الصوم، وجعل
161
المالكية الصوم شرطا مطلقا، وشرطه الحنفية في الصوم المنذور فقط دون غيره من التطوع، ودليل المشترطين
حديث ضعيف رواه الدارقطني والبيهقي وهو: «لا اعتكاف إلا بصوم».
وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بدّ له منه، لما
روى الأئمة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان»
تريد الغائط والبول.
واستحب مالك وأحمد لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يبيت ليلة الفطر في المسجد، حتى يغدو منه إلى المصلى. وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غربت الشمس.
١٢- يجب التزام أحكام الله من أوامر ونواه، ومنها المباشرة في الاعتكاف، فهي حدود الله، وسميت بذلك لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها ما هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها. ومنه سمي الإحداد في العدة، لأن المعتدة تمتنع من الزينة.
أكل الأموال بالباطل
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
الإعراب:
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: وَتُدْلُوا إما مجزوم عطفا على قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا فكأنه قال: «ولا تدلوا»، وإما منصوب على تقدير: «أن» بعد الواو التي وقعت جوابا للنهي وهي بمعنى الجمع، فكأنه يقول: لا تجمعوا بين أن تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وأن تدلوا بها إلى الحكام.
162
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في لِتَأْكُلُوا.
المفردات اللغوية:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ أي يأكل بعضكم مال بعض بغير وجه مشروع، والمراد بالأكل:
الأخذ والاستيلاء، وعبر به، لأن المقصود الأعظم من المال هو الأكل. وأكل المال بالباطل له وجهان: الأول- أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب ونحو ذلك. والثاني- أخذه من جهة محظورة كالقمار، وأجرة الغناء، ونحو ذلك من سائر الوجوه التي حرمها الشرع. وقد انتظمت الآية تحريم كل هذه الوجوه. والباطل: في اللغة: الذاهب أو الزائل، والمراد به هنا الحرام شرعا كالسرقة والغصب. ويشمل كل ما أخذ دون مقابل، أو دون رضا من صاحبه، أو أنفق في غير وجه حقيقي نافع.
وَتُدْلُوا تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة للوصول إلى الحكم القضائي لصالحكم.
فَرِيقاً الفريق من الشيء: الجملة والطائفة منه. بِالْإِثْمِ أي متلبسين بالإثم، أي الظلم والتعدي: وهو شهادة الزور أو اليمين الكاذبة الفاجرة أو نحوها، وسمي ذلك إثما، لأن الإثم يتعلق بفاعله.
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم مبطلون آثمون، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.
سبب النزول:
قال مقاتل بن حيان: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عبدان بن أشوع الحضرمي، وذلك أنهما اختصما إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أرض، وكان امرؤ القيس هو المطلوب (المدعى عليه)، وعبدان هو الطالب (المدعي)، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكم عبدان في أرضه، ولم يخاصمه «١».
وقال سعيد بن جبير: إن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي، اختصما في أرض، وأراده امرؤ القيس أن يحلف، ففيه نزلت:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.
(١) البحر المحيط: ٢/ ٥٥
163
المناسبة:
مناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام، فحبس نفسه عمّا تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة للمرأة في النهار، ثم حبس نفسه عن الممنوعات في الصيام، جدير به ألا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة، فنهي عن أكل الحرام المؤدي إلى عدم قبول صيامه.
التفسير والبيان:
أبان الله تعالى في آيات الصيام حلّ أكل الإنسان من ماله، وناسب هنا أن يذكر حكم أكل مال الغير.
نهانا الله تعالى أن يأكل بعضنا أموال بعض بغير وجه مشروع، وأضاف كلمة أَمْوالِ إلى الجماعة إشعارا بأن المال في الحقيقة مال الأمة أو الجماعة، فهي أمة واحدة متكافلة، وتنبيها إلى أن احترام وحفظ مال غيرك احترام وحفظ لمالك.
فيكون التعدي على مال الآخرين جناية على الأمة التي هو فرد منها وعضو فيها. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي، لأن كل واحد منهي ومنهي عنه.
والأكل بالباطل: يشمل كل ما أخذ بغير وجه الحق، كالرّبا والقمار، لأنه أخذ بدون مقابل، والرشوة والدفاع بالباطل، لأنهما إعانة على الظلم، والصدقة على القادر على الكسب، لأنها إذلال له، ولا تحل للآخذ إذا كان غير مضطر إليه، والسرقة والغصب، لأنهما اعتداء على مال الغير، سواء أكان غصب مال عيني أم غصب المنافع، أم التعدي على منفعة الآخرين، كالتسخير بدون مقابل أو الإنقاص من الأجر، وأكل مال اليتيم ظلما، وأجور الرقص والغناء، ومهور البغايا، ومقابل التمائم والعزائم وختمات القرآن، والمأخوذ غشا واحتيالا وزورا
164
وبهتانا، ونحو ذلك من أموال السحت والحرام، التي تؤدي إلى النار، لأن كل جسم نبت من حرام فالنار أولى به.
وقد جاء النهي عن أكل الأموال بالباطل في آيات أخرى، منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء ٤/ ٢٩]، ومنها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً... [النساء ٤/ ١٠].
ومعنى وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: ألا تلقوا بالأموال إلى الحكام رشوة لهم، لأخذ شيء من أموال الناس بالإثم كاليمين الكاذبة الفاجرة أو شهادة الزور، أو نحو ذلك من وسائط الوصول إلى الحرام. وتشمل هذه الآية وجهين:
الأول- تقديم الأموال رشوة للحكام، ليقضوا لهم بالباطل وأخذ حق الغير.
الثاني- رفع القضايا للمحاكم، اعتمادا على الحجة الباطلة، وتزييف الحقائق، وشهادة الزور، واليمين الغموس. وهذا ما حذر منه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في
حديث أم سلمة الذي رواه مالك وأحمد وأصحاب الكتب الستة، قالت: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء أخرى»، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»، فبكى الخصمان، وقال كل واحد منهما: أنا حلّ لصاحبي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اذهبا فتوخّيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» «١».
(١) ألحن: أفطن وأعرف وأقدر عليها من صاحبه. والتوخي: قصد الحق، والاستهام:
الاقتراع، أي اقصدا الحق في القسمة، وليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من النصيب أو السهم. [.....]
165
فقه الحياة أو الأحكام:
منعت هذه الآية جميع أفراد الأمة المحمدية من أن يأكل بعضهم مال بعض بغير حق، ويشمل ذلك القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس المالك، أو حرّمته الشريعة وإن أداه الإنسان برضاه، كمهر البغي (الزانية) وحلوان الكاهن «١» وأثمان الخمور والخنازير وغيرها من وجوه اللهو الحرام.
ومن الأكل بالباطل: أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالآية صريحة في أن الإثم على من أكل، وهو يعلم أنه ظالم في الأكل، وأما غيره فلا إثم عليه. والحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، كما دلّ حديث أم سلمة المتقدم، وهو الموافق للواقع.
لكن مع ذلك ظهر خلاف في الموضوع بين الفقهاء:
فقال أبو حنيفة: ينفذ حكم القاضي في العقود والفسوخ، ظاهرا وباطنا، لأن مهمته القضاء بالحق، فإذا حكم الحاكم ببينة بعقد أو فسخ عقد، فحكمه نافذ، ويكون كعقد عقداه ابتداء، وإن كان الشهود شهود زور. مثل أن يدعي رجل على امرأة أنه تزوجها، فأنكرت، فأقام على ادعائه شاهدي زور، فقضى القاضي بعقد الزواج بينهما، حلّ للرجل الاستمتاع بها، ولو قضى القاضي بالطلاق، فرّق بينهما، وإن كان الرجل منكرا. ونفاذ حكم القاضي على هذا النحو مقيد بشرطين:
١- ألا يعلم بكون الشهود زورا.
(١) الكهانة: ادعاء معرفة الغيب أو التنجيم، والعرافة: ادعاء معرفة الماضي والمستقبل، والمقصود النهي عن الأمرين، لأنهما ادعاء العلم بالغيب.
166
٢- وأن يكون من الأمور التي له فيها صلاحية الإنشاء.
وقد قضى علي كرّم الله وجهه بما يؤيد هذا الرأي، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر، وجاء بشاهدين، فقالت: إني لم أتزوجه، فقال لها: زوجك الشاهدان. وكذلك قصة لعان هلال بن أمية مع امرأته، وقضى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالفرقة بينهما، وكان ذلك بعد أن قال: «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال. وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به على الصفة المكروهة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من الأيمان، لكان لي ولها شأن»
فقصة اللعان تدل على أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه، لحدّها وما فرّق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم
قوله عليه الصلاة والسلام: «فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه».
وقال جمهور العلماء: ينفذ حكم القاضي ظاهرا لا باطنا، في المال وغيره من أحكام الزواج والطلاق والجنايات، فلا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال، ولا ينشئ الحقوق، وإنما يظهرها، ويكشف عنها في الوقائع، بدليل حديث أم سلمة المتقدم، الذي أخذت منه القاعدة التالية:
«نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر».
وهذا هو الحق بنحو عام، إلا ما خص منه بنص كاللعان.
وعلى أي حال، لا يجوز لمؤمن أن يلجأ إلى المحاكم، معتمدا على مهارة وكلاء الدعاوي (المحامين)، وهو يعلم أنه مبطل في ادعائه.
ولا يحل لمؤمن أن يأخذ مال أخيه أو غير حقه، وإن قضى له به القاضي، لأن القاضي بشر معذور يقضي بالظاهر، وحكمه لا يغير الواقع، وإنما الذي يجب أن ينظر إليه هو الحساب الحق العدل أمام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية،
167
ويجزي كل إنسان بما عمل، فهو الذي تجب مراقبته في السرّ والعلن، وهو الذي يجب أن يخشاه المسلم في الظاهر والباطن.
وإن تقديم المال رشوة إلى الحكام، تضييع للأموال وإهدار لها وإتلاف.
فلا يصح لمؤمن أن يصانع بأمواله الحكام ويرشوهم ليقضوا له على أكثر من حقه أو غير حقه.
واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم «مال» قل أو كثر: أنه يفسّق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه.
التوقيت بالشهر القمري وحقيقة البر
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
الإعراب:
هِيَ مَواقِيتُ مبتدأ وخبر. الْبِرُّ اسم لَيْسَ مرفوع، وجملة: بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ خبرها. وَلكِنَّ الْبِرَّ اسم لكِنَّ منصوب، وخبرها محذوف وتقديره: برّ من اتقى.
البلاغة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ هذا يسمى في البلاغة «الأسلوب الحكيم» فقد سألوا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن الهلال، لم يبدو صغيرا ثم يزداد حتى يتكامل نوره؟
فصرفهم إلى بيان الحكمة من الأهلة، فهي الأولى بالسؤال عنها. إذ من المعلوم أن كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا عن حكمة بالغة ومصلحة لعبادة، فدعوا السؤال عن أشكال القمر نقصا وتماما، وانظروا في أمر ليس من البر، وأنتم تحسبونه برّا.
168
المفردات اللغوية:
الْأَهِلَّةِ جمع هلال، وهو القمر، لم يبدو دقيقا في ليلتين أو ثلاث من أول كل شهر، ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة كالشمس. مَواقِيتُ جمع ميقات، وهو ما يعرف به الوقت أي الزمن المقدر المعين. فبالأهلة يعرف الناس أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم، وأوقات صلواتهم، وزمان الحج، فيعلم بالأهلة وقته أيضا، وهو من عطف الخاص على العام. وإنما سمي هلالا، لظهوره بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج، لظهور الصوت بالتلبية، أو لأن الناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته. ويسمى هلالا لليلتين أو لثلاث من الشهر، ثم يسمى قمرا.
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها في الإحرام، بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون، وتتركوا باب البيت، وكانوا يفعلون ذلك، ويزعمونه برّا. وَلكِنَّ الْبِرَّ ذا البر. مَنِ اتَّقى الله بترك مخالفته، والبر: التقوى. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها في الإحرام كغيره. تُفْلِحُونَ تفوزون.
سبب النزول:
قال ابن عباس: إن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم «١» - وكانا من الأنصار- قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي ويعظم، ثم لا يزال ينقص ويدقّ، حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية. ويروى أيضا أن اليهود سألت عن الأهلة.
وقال البراء في سبب نزول: وَلَيْسَ الْبِرُّ..: كانت الأنصار إذا حجّوا، فجاءوا، لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل، فدخل من قبل الباب، فكأنه عيّر بذلك، فنزلت هذه الآية. رواه البخاري ومسلم.
(١) كتبها بعضهم: غنيمة.
169
وقال المفسرون: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة، لم يدخل حائطا (بستانا) ولا بيتا ولا دارا من بابه، فإن كان من أهل المدن نقب نقبا في ظهر بيته، منه يدخل ومنه يخرج، أو يتخذ سلما فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل من الباب، حتى يحلّ من إحرامه، ويرون ذلك ذمّا، إلا أن يكون من الحمس «١» : وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضير بن معاوية، سمّوا حمسا لشدتهم في دينهم.
قالوا: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار وهو قطبة بن عامر الأنصاري على إثره من الباب وهو محرم، فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم دخلت من الباب وأنت محرم؟» فقال:
رأيتك دخلت من الباب، فدخلت على إثرك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أحمسيّ»، قال الرجل: إن كنت أحمسيّا فإني أحمسيّ، ديننا واحد، رضيت بهديك وسمتك ودينك، فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم والحاكم عن جابر،
وهذا القول هو أصح الأقوال.
المناسبة:
هذه الآية تكملة لأحكام الصيام، لأن الصوم والإفطار مقرونان برؤية الهلال، كما
جاء في الحديث الثابت: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» «٢».
ولم يذكر في الآية تحديد المسؤول عنه في الأهلة، أهي حقائقها أم أحوالها؟
لكن الجواب ووروده بقوله تعالى: قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مشعر بأن السؤال عن الحكمة في تغيرها، وأيده الخبر في سبب النزول.
(١) الحمس: جمع أحمس، من الحماسة: وهي الشدة، والصلابة، لتشددهم في دينهم.
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٦١
170
التفسير والبيان:
يسألونك يا محمد عن سبب اختلاف حجم الأهلة نقصا وإتماما، وهذا لا فائدة بالسؤال عنه، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث معلما لعلوم الفلك وأحوال النجوم، وإنما الأولى أن يوجه السؤال عن الحكمة أو الغاية من الأهلة، فأجبهم عن ذلك، بأن الأهلة معالم للتوقيت والحساب في شؤون الزراعة والتجارة وآجال العقود والديون، ومعالم أيضا لتوقيت العبادات من صوم وإفطار وصلاة وحج وعدة وغير ذلك.
والتوقيت بالشهر القمري والسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب.
والمواقيت جمع ميقات بمعنى الوقت، كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم:
الميقات: منتهى الوقت، كما في قوله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف ٧/ ١٤٢]، والهلال ميقات الشهر، ومواضع الإحرام: مواقيت، لأنها التي ينتهي عندها الحل.
ولما ذكر مواقيت الحج ذكر ما كان من أفعالهم فيه، لإبطال عادة الجاهلية:
وهي الامتناع بعد الإحرام بالحج أو بالعمرة من دخول البيوت من أبوابها، وإنما كانوا يدخلونها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، أو من نقب في ظهر البيت إذا كانوا من أهل المدر، زاعمين أنه من البرّ، فقيل لهم: ليس البرّ هذا، وليس بقربة إلى الله تعالى، وذلك خطأ، وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والتّحلي بالفضائل، والتّخلي عن المعاصي والرذائل، والخوف من الله ومن عقابه.
فأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله في كل شيء، رجاء أن تكونوا من المفلحين في أعمالكم، فالمتقي في رشاد، والعاصي في ضلال، كما قال الله تعالى:
171
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق ٦٥/ ٤]، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس ١٠/ ٣٢].
ويلاحظ أن أبا بكر الجصاص الرازي قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز الإحرام بالحج في سائر السنة، لعموم اللفظ في سائر الأهلّة، أنها مواقيت للحجّ، ومعلوم أنه لم يرد به أفعال الحج، فوجب أن يكون المراد الإحرام «١». وهو استدلال غير ظاهر، لأن الآية في بيان الحكمة في تغيير الأهلّة بالزيادة والنّقص:
وهي أن يوقّت الناس بها في معاملاتهم، وعباداتهم، وحجّهم، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها. وجاءت السنّة القولية مبينة وقت الإحرام بالحج والعمرة، ودلّ قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ على أن وقت الحج شهران وبعض الثالث.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإسلام دين الموضوعية والحياة والواقع النافع، فهو ينبذ الشكليات والمظاهر والأوضاع التي لا نفع فيها، ويوجه الناس إلى الاعتناء بما ينفعهم ويعود عليهم بالخير والمصلحة. لذا أبان الله تعالى في آية سابقة بمناسبة تحويل القبلة أن البرّ ليس هو بالاتجاه نحو المشارق والمغارب، وإنما البرّ هو الإحسان والتقوى والعمل الصالح.
ونبّه في هذه الآية إلى الحكمة من زيادة القمر ونقصانه، وهي الاستفادة من الهلال في ضبط الحساب وتوقيت الزمان ومعرفة الآجال والمعاملات والأيمان، والحج، وأنواع عدة المرأة (العدد)، والصوم والفطر، ومدّة الحمل، والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظير هذه الآية قوله تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً،
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٥٤
172
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [الإسراء ١٧/ ١٢]، وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥]، وإحصاء الأهلّة شهريا أيسر من إحصاء الأيام. وسمّي الشهر شهرا، لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية، ويدلون عليه. ويؤيد الآيات أحاديث، منها ما
رواه عبد الرزاق والحاكم عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الله الأهلّة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم، فعدوا ثلاثين يوما».
والعلم بالآجال أو المدد أمر مشروط في كل العقود كالإجارة والبيع بثمن إلى أجل معلوم، والسّلم والمساقاة والمزارعة ونحوها. وبهذا يرد على الظاهرية الذين قالوا: تجوز المساقاة إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير توقيت.
ويجاب عنه: بأن هذا لا دليل فيه،
لأنه عليه الصلاة والسلام قال لليهود: «أقركم فيها ما أقركم الله»
، وهذه خصوصية له، لا يقاس عليه غيره، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه.
وأجاز الجمهور البيع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء ونحوه، لأن الأجل معروف، وتأخره يسيرا متسامح فيه، ولم يجز الشافعي ذلك للجهل بالأجل.
وقد أفرد الله الحج بالذكر، لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز فيه التأجيل أو النسيء عن وقته، بخلاف ما كان عليه العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدّل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم.
واستدل مالك وأبو حنيفة رحمهما الله بهذه الآية على أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج، لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصحّ أن يحرم
173
في جميعها بالحج. وخالف الشافعي في ذلك لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة ٢/ ١٩٧]، ولأنّ معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: هذه السلعة لخالد وعمر، أي بعضها لخالد وبعضها لعمر، ولا يجوز أن يقال: جميعها للأول وجميعها للثاني.
وفي هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة، ولا ندب إليه، لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، فدخول الدار من ظهرها لا من بابها ليس قربة يثاب عليها الشخص.
وقد نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم رجلا اسمه أبو إسرائيل عن القيام في الشمس، وقال: «مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه» «١».
وأكّد الله تعالى أوامره ونواهيه في كثير من الآيات بالأمر بتقوى الله للوصول إلى الفلاح، والمعنى: اتقوا الله، فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه، لتفلحوا غدا أو رجاء أن تكونوا من المفلحين إذا وقفتم بين يديه، فيجازيكم على التمام والكمال.
قواعد القتال في سبيل الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
(١) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس.
174
لبلاغة:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ فيه ما يسمى بحذف الإيجاز، تقديره: هتك حرمة الشهر الحرام تقابل بهتك حرمة الشهر الحرام.
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ سمي جزاء العدوان عدوانا من قبيل «المشاكلة» : وهي الاتفاق في اللفظ، مع الاختلاف في المعنى، مثل قوله تعالى أيضا: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠]، وقوله: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال ٨/ ٣٠]، تقول العرب: ظلمني فلان فظلمته، أي جازيته بظلمه. ومثل: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة ٢/ ١٩٣] سمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، إذ الظلم يتضمن العدوان، فسمي جزاء العدوان عدوانا.
المفردات اللغوية:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه، لأنه طريق إلى مرضاته، فالقتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. يُقاتِلُونَكُمْ أي يتوقع منهم قتالكم.
وَلا تَعْتَدُوا أي لا تبدءوهم بالقتال. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما حدّ لهم من الشرائع والأحكام. ومحبة الله لعباده: إرادة الخير والثواب لهم. ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وأدركتموهم. مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، وقد فعل بهم ذلك عام فتح مكة.
وَالْفِتْنَةُ الشرك منهم أعظم من القتل لهم في الحرم أو الإحرام الذي استعظمتموه. وقيل: إن المراد بالفتنة: ما يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والتعذيب. عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي في الحرم. كَذلِكَ أي القتل والإخراج. فَإِنِ انْتَهَوْا عن الفكر وأسلموا. وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي ويكون دين كل شخص خالصا لله، لا يخشى غيره، ولا يصدّ عنه، ولا يحتاج إلى محاباة أو استخفاء. والدين: يشمل الاعتقاد والعبادة والعمل الصالح.
175
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك. فَلا عُدْوانَ أي لا تتعدوا عليهم بقتل أو غيره. إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي المتجاوزين حدودهم المعتدين على غيرهم، فمن انتهى عن الشرك والاعتداء فليس بظالم، فلا عدوان عليه.
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ردّ على استعظام القتال في الأشهر الحرم، إذ هتك حرمة الشهر الحرام من المسلمين مقابل هتك حرمة الشهر الحرام من الكفار.
وَالْحُرُماتُ جمع حرمة: وهي ما يجب احترامه. قِصاصٌ أي يقتص بمثلها إذا انتهكت. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام، أو الشهر الحرام. فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.. سمّى مقابلة الاعتداء اعتداء، لشبهها بالمقابل به في الصورة. وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار، وترك الاعتداء. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته بالجهاد وغيره. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أي أنفسكم.
إِلَى التَّهْلُكَةِ الهلاك بالإمساك عن النفقة في الجهاد أو تركه، لأنه يقوي العدو عليكم.
وَأَحْسِنُوا بالنفقة وغيرها. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يثيبهم.
سبب النزول:
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية.
قال ابن عباس فيما أخرجه الواحدي: نزلت هذه الآيات في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدّ عن البيت هو وأصحابه، نحر الهدي بالحديبية، ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه، ثم يأتي القابل، على أن يخلوا له مكة ثلاثة أيام، فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء. وصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان العام المقبل، تجهّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدّوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
يعني قريشا.
وقوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية،
قال قتادة فيما أخرجه الطبري: أقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في ذي القعدة، حتى إذا كانوا بالحديبية، صدّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة،
176
وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية، فأقصّه الله تعالى منهم، فأنزل: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الآية.
وقوله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية، قال الشعبي: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله تعالى، فنزلت هذه الآية.
وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كانت الأنصار يتصدقون ويطعمون ما شاء الله، فأصابتهم سنة (قحط)، فأمسكوا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وروى البخاري عن حذيفة قال: نزلت الآية في النفقة. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم وغيرهم، عن أبي أيوب الأنصاري قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرّا: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ الله قد أعزّ الإسلام، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله يردّ علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
، فكانت التهلكة: الإقامة على أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.
المناسبة:
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم، إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأن الآية السابقة بيّنت أن الأهلّة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم وحجهم، والحج يكون في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرما في الجاهلية، فأوضحت هذه الآيات أنه لا حرج عليكم في القتال في هذه الأشهر، دفاعا عن دينكم، وتربية لمن يفتنكم عنه، وينكث العهد، لا لأهواء النفوس، فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان
177
البيوت من ظهورها حال الإحرام. ثم إنه بعد الأمر بالتقوى ذكر أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس.
مشروعية القتال:
كان القتال قبل الهجرة محظورا بآيات كثيرة، منها: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت ٤١/ ٣٤]، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة ٥/ ١٣]، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥]، فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل ١٦/ ٨٢]، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٣]، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢]، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق ٥٠/ ٤٥]، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا: يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية ٤٥/ ١٤].
ثم نسخ الله وجوب هذا كله في المدينة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]، وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩].
وأما أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال، فهي كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج ٢٢/ ٣٩- ٤٠].
وروي عن جماعة من الصحابة والربيع بن أنس وغيره «١» أن أول آية نزلت في الإذن بالقتال هي: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
وهذا رأي أكثر علماء التفسير «٢».
(١) قال القرطبي وأبو حيان وغيرهما: وأكثر الرواة على هذا.
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٦٥
178
التفسير والبيان:
قاتلوا في سبيل الله ونصرة دينه وإعزاز كلمته أيها المؤمنون، فإني أذنت لكم في قتال المشركين الذين فتنوكم عن دينكم، وأخرجوكم من دياركم، وقاتلوكم ونكثوا عهودكم. والمقاتلة في سبيل الله: هي الجهاد للكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته.
ولا تعتدوا بالبدء بالقتال، ولا بقتل المسالمين، ولا بقتل غير المقاتلة من النساء والصبيان والعجزة والشيوخ، ولا بتخريب الدور وقطع الأشجار، وإحراق الزروع والثمار، فإن الله يكره الاعتداء، ولا سيما حين الإحرام، وفي أرض الحرم، وفي الأشهر الحرم.
وإذا نشب القتال بينكم وبين أعدائكم، فاقتلوهم أينما أدركتموهم، وحيثما وجدتموهم، ولو في أرض الحرم، وأخرجوهم أو أجلوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة. فإنهم أخرجوكم من وطنكم وهو مكة، وتعاونوا على إخراجكم منها، وصادروا أموالكم، وأخذوا ممتلكاتكم، وفتنوكم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب والاضطهاد بسبب عقيدتكم، وهذه الفتنة في الدين أشد على المؤمن الحرّ الأبيّ من قتل النفوس، لأن العقيدة أقدس شيء في الوجود، وأغلى وأسمى من كل شيء في الكون، وليس هناك بلاء ومضايقة على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده في دينه، وتعذيبه من أجل عقيدته التي تمكنت في قلبه وعقله ونفسه، ورأى السعادة في الدنيا والآخرة بسلامتها وصحتها ووجودها لديه، فهي الكنز ورأس المال الرابح، ويهون في سبيلها التضحية بالنفس والنفيس، فيكون ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقل مما يتصفون به من الفتنة، أي التعذيب من أجل إرجاعكم إلى الكفر، وقال بعضهم: أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشدّ خطرا من القتل الذي عيّروكم به «١».
(١) البحر المحيط: ٢/ ٦٥
179
ثم استثنى الحقّ سبحانه وتعالى مكانا خاصّا من عموم الأمة بقتل المحاربين في أي مكان، وهو قتالهم في المسجد الحرام، لأن من دخله كان آمنا، فلا تقاتلوهم فيه حتى يقاتلوكم، ولا تستسلموا لهم أبدا، لأن الشّر بالشّر، والبادئ أظلم، فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم، لأنّ سنّة الله أن يجازى الكافرون مثل هذا الجزاء، وأن يعذبوا مثل هذا العذاب، بسبب بدئهم بالعدوان، وظلمهم أنفسهم، فيلقون جزاء ما صنعوا.
فإن توقفوا عن القتال أو كفّوا عن الكفر والشّرك، ودخلوا في دين الله، فإن الله يتقبل أعمالهم ويغفر لهم ما تقدّم منهم، لأنه غفور للسيئات، رحيم بالعباد، يمحو عنهم الخطيئات إذا تابوا وأنابوا إلى ربهم، وأحسنوا واتّقوا: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف ٧/ ٥٦]، وتفسير المنتهى عنه فيه رأيان:
ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية: فإن انتهوا عن القتال، وذهب الحسن إلى أن المعنى: فإن انتهوا عن الشرك، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
وبعد أن بيّن الله بقوله أوّلا: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الإذن بالقتال أو البدء به، ذكر الغاية من القتال: وهي إقرار مبدأ الحرية، وألا يوجد شيء من الفتنة في الدين، فقال: اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضّرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة، وإزالة الفتنة: بألا تكون لهم قوة يفتنونكم بها في دينكم، ويؤذونكم، ويمنعونكم من إظهار دعوة الله تعالى.
واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين من كل شخص خالصا لله، لا أثر لخشية غيره فيه، وحتى يكون الدين ظاهرا قائما تمارس شعائره، دون خوف أو إرهاب أو استخفاء، وحتى يأمن المسلم في الحرم، فيعلن أمور دينه دون تهيب من أحد، فيكون معنى وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ: أن يكون الله هو المعبود وحده.
180
هذا مع العلم بأن الكفار في مكة كانوا أحرارا آمنين في عبادتهم الأصنام، والمؤمنون بالله مطرودون منها، ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه.
فإن انتهوا عما كانوا عليه وكفّوا عن قتالكم، ورجعوا عن الكفر، وأسلموا وسالموا، فلا تعتدوا عليهم إلا على من ظلم واعتدى، فيكون قتاله تأديبا له وإصلاحا لشأنه، حتى يكفّ عن ظلمه ويرتدع عن غيّه، وتطبق عليه أحكام الشرع.
والحرمة: ما منعت من انتهاكه، والقصاص: المساواة.
وعلى هذا تكون مقابلة العدوان وانتهاك الحرمات أمرا مطلوبا في موازين الشرع والعقل والعرف، فمن استحلّ دمكم في الشهر الحرام، فاستحلوا دمه فيه، وقابلوا بالمثل هتك حرمة الشهر، ولا تتحرّجوا بالقتال فيه للدفاع عن الدين والنفس وإعلاء كلمة الله. والحرمات وهي الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، يجب قصاص المشركين على انتهاكها، ومعاملتهم بالمثل. فمن انتهك حرمتها، فافعلوا به مثل فعله، وإن منعوكم عن قضاء العمرة هذه السّنة بموجب العهد والاتّفاق معهم، وقاتلوكم، فاقتلوهم، لأن الدفاع عن النفس أمر واجب ولا حرج فيه ولو كان في مكة، أو في حال الإحرام، أو في شهر حرام.
ثمّ أبان الله تعالى حكما دائما، وسنة مستقرة: وهو أن العدوان يقابل بمثله، وما كان على سبيل القصاص (المعاملة بالمثل) فهو مأذون فيه. ولكن مقابلة العدوان مقيدة بمبادئ الفضيلة والتقوى والمدنية والإنسانية، فاتّقوا الله ولا تظلموا، واحذروا أن تعتدوا، والتزموا حدود العدل ودفع الضرر وإحقاق الحق والبقاء على المدنيات، ومنافع الناس، والترفع عن الانتصار للأهواء والشهوات وحظوظ النفس التي قد تتمادى في الغي والحقد والتهور والطيش، واعلموا أن الله نصير المتقين، ومؤيد الأتقياء، ومثيب الصلحاء، فهو ينصرهم
181
على الأعداء، ويحقق لهم الغلبة، ويمكّن لهم في الأرض، تأييدا لدين الله وإعلاء لكلمته.
والجهاد كما يكون بالنفس يكون أيضا بالمال، فهو يحتاج إلى الأنفس المقاتلة، وإلى الأموال التي يشترى بها السلاح، وينفق بها على المحاربين، لذا أمر الله بإنفاق المال في سبيل الجهاد، فقال: وابذلوا المال في سبيل الله أي سبيل الجهاد لشراء العتاد والسلاح ونفقات الحرب، فالإنفاق في الحروب والمال في المعارك يدعم القتال، ويحقق النصر والفوز، واحذروا من التلكؤ والتقصير في واجب الإنفاق، فإنه مهلكة للأمة، مضيعة للجماعة، إتلاف للأنفس، وإياكم أن تلقوا بأنفسكم إلى سبل الدمار والهلاك، وأعدوا العدة اللازمة المكافئة للقتال بحسب كل زمان ومكان وحال كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال ٨/ ٦٠] بتعليم الرجال القتال، وإعداد السلاح المناسب المتطور، وتحصين النفوس بالخلق المتين والعلم الصحيح، فإن الجيوش الجرارة قد تصاب في كبدها من ضعفاء النفوس الذين يشتريهم العدو بالرشوة والمال وأنواع الإغراءات المادية والمعنوية، كما أنها قد تخسر الحرب بسبب جهلها ونقص تكوينها وتقصيرها عن مستوى أعدائها في التخطيط والتدبير والتدرب على استعمال السلاح الحديث.
وما أروع وأحكم ما ختمت به هذه الآية: وهو إحسان العمل، فأحسنوا أعمالكم بامتثال الطاعات وأتقنوها، فالله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء، وذلك مكمل للجانب الأدبي الرفيع والحضاري السامي الذي ختمت به الآية السابقة وهو التزام التقوى والفضيلة، فتكون الخاتمتان قد جمعتا بين وسائل القوتين المادية والمعنوية ومقوماتها وقيودها.
182
فقه الحياة أو الأحكام:
يستخلص من هذه الآية وغيرها الواردة في بيان حالات مشروعية القتال، وحكمة الإذن بالجهاد ما يأتي:
١- شرع القتال في سبيل الله لرد العدوان وحماية الدعوة، وحرية الدين الإلهي.
٢- كان تشريع القتال متصفا بالعدل والحق، فهو لا اعتداء فيه على أحد، ولا يتجاوز فيه ما تقتضيه الضرورة الحربية، وليس الهدف منه التدمير والتخريب، ولا الإرهاب المجرد، فلا يقتل غير المقاتلين، ولا تقتل النساء والصبيان ونحوهم من الرهبان والعجزة والمرضى والشيوخ، ولا تقطع الزروع والثمار، ولا تذبح الحيوانات إلا لمأكلة، كما جاء في الوصايا النبوية ووصايا الخلفاء الراشدين.
٣- لم يكن القتال لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، فذلك منفي أصلا في شريعة القرآن، بآيات كثيرة منها: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة ٢/ ٢٥٦] أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٩٩].
٤- لم يشهد التاريخ أمة منصفة، رحيمة بالضعفاء، مترفعة عن الدنايا وسفساف الأمور، مثل أمة الإسلام، كما اعترف بذلك المنصفون من قادة الفكر في الغرب، قال الفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب». أما ما يزعمه الحاقدون والجهلة من أن الإسلام دين قام بالسيف، فهو مجرد فرية أملاها الحقد الدفين وتشوية الحقائق وكذبها التاريخ والواقع.
وأما المفسرون فقد أثاروا وبحثوا عدة مسائل بمناسبة هذه الآية أهمها ما يأتي:
183
١- هل آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخة؟
أ- قال جماعة من العلماء: مفاد هذه الآية أنه يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة ٩/ ١٢٣] وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ..
[التوبة ٩/ ٢٩] وهذه كلها تأمر بالقتال لجميع الكفار، وتدل على عموم شرع القتال للمشركين، سواء قاتلوا المسلمين أو لم يقاتلوهم.
ب- وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: الآية محكمة، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر.
أما السنة
فحديث ابن عمر الذي رواه الأئمة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان.
وأما النظر: فإن (فاعل) لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزّمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، فيما رواه مالك وغيره، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية.
أما النساء: فإن قاتلن برأي أو تحريض على القتال أو إمداد بمال قتلن، في حالة المقاتلة وبعدها في رأي سحنون، لعموم قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٠] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة ٢/ ١٩١]
184
ولا تقتل المرأة التي لا تقاتل، سواء في أثناء المعركة، أو بعد الأسر والأخذ، لما
رواه الطبراني عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «.. ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخا».
وأما الصبيان: فلا يقتلون أيضا، للنهي الثابت في السنة عن قتل الذرية، فقد ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء والصبيان. وقال فيما
رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن رباح بن ربيع: «لا تقتلوا ذرّية ولا عسيفا»
أي أجيرا، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قتل.
وأما الرهبان: فلا يقتلون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان في وصيته المشهورة «١» فيما رواه مالك في الموطأ: «.. وستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له».
وأما الزّمنى (المرضى) : فالصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا، وما هم بسبيله من الزمانة.
وأما الشيوخ: ففي رأي جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة، فإنه لا يقتل، لقول أبي بكر ليزيد، ولأنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو، فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرّته بالحرب أو الرأي أو المال، فيخير فيه الإمام في رأي المالكية إذا أسره بين خمسة أشياء: القتل، أو المن، أو الفداء، أو عقد الذمة على أداء الجزية، أو
(١) أوصى أبو بكر سنة ١٣ هـ يزيد بن أبي سفيان بن حرب الذي أرسله قائدا على جيش إلى الشام، بعد أن شيعه راجلا: «وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن». رواه مالك في الموطأ- باب الجهاد.
185
الاسترقاق (في الماضي). وكذلك أجاز الشافعي بعد الأسر قتل ما عدا النساء والصبيان.
وأما العسفاء وهم الأجراء والفلاحون: فلا يقتلون في رأي مالك، للحديث السابق عن رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلنّ ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرّية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا.
وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار، إلا أن يسلموا، أو يؤدوا الجزية.
ج- ولم ير الفخر الرازي نسخ آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ بآية وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ لأن ذكر العام بعد الخاص يثبت زيادة حكم على حكم الخاص، من غير أن ينسخه. وقال: وتحقيق القول: أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام بقوله تعالى:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ...
وأما ما روي عن مقاتل: أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منسوخة بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تلك منسوخة أيضا بقوله تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فقال عنه الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخ، فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله بنسخ آية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو خطأ أيضا، لأنه
186
لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف. ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتالية، تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى «١».
٢- أمان اللاجئ إلى الحرم:
تمسك الحنفية بآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم، ما دام لم يقاتل في الحرم. وتدل أيضا بعمومها على أن القاتل إذا لجأ إلى الحرم لا يقتل. ويؤيد حكم الاثنين قوله تعالى:
وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة ٢/ ١٢٥].
٣- غاية القتال وحكمته:
شرع القتال في الإسلام للدفاع عن النفس والبلاد والأعراض والحرمات، ولم يشرع للعدوان والتقتيل وسفك الدماء.
وكانت الغاية السامية منه إقرار حرية الدعوة إلى الدين، وإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، ونصرة شريعته وحماسة أهله ودعاته.
وهل سبب القتال رد العدوان والإيذاء أو الكفر؟
بالأول قال جمهور من الفقهاء، وبالثاني قال جماعة كالشافعية بدليل آية:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وفسروا الفتنة بالشرك أو الكفر، وبقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا
(١) تفسير الرازي: ٥/ ١٢٩
187
الله» قال القرطبي: فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر، لأنه قال: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر، وهذا ظاهر «١». أي أن المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: «تقاتلونهم أو يسلمون».
٤- الظفر بالحق:
دلت آية فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ على جواز أخذ الحق من الظالم بأي طريق، ما لم يعد سارقا. وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهم. قال ابن العربي «٢» :
من أباح دمك فمباح دمه لك، لكن بحكم الحاكم، لا باستطالتك وأخذ ثأرك بيدك، ولا خلاف فيه.
ومن أخذ مالك فخذ ماله، إذا تمكنت منه، إذا كان من جنس مالك، طعاما بطعام، وذهبا بذهب، وقد أمنت من أن تعدّ سارقا.
وأما أخذ ما ليس من جنس مالك، فاختلف العلماء فيه، فمنهم من قال:
لا يؤخذ إلا بحكم حاكم، ومنهم من قال: يتحرّى قيمته، ويأخذ مقدار ذلك، هو الصحيح عندي.
ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعداه إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه.
لكن ليس لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل المعصية، فلو قال مثلا: يا كافر، جاز لك أن تقول له: أنت الكافر، وإن قال لك: يا زاني، فقصاصك أن تقول: يا كذاب، يا شاهد زور، ولو قلت له
(١) تفسير القرطبي: ٢/ ٣٥٤
(٢) أحكام القرآن: ١/ ١١١- ١١٢
188
يا زان، كنت كاذبا، فأثمت في الكذب، وأخذت فيما نسب إليك من ذلك، فلم تربح شيئا، وربما خسرت. وإن مطلك غني دون عذر، قل: يا ظالم، يا آكل أموال الناس.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»
«١» أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته فبالسجن حتى يؤدّي.
٥- المماثلة في القصاص:
وأرشدت أيضا آية فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ إلى مبدأ المماثلة في القصاص، ونظيرها آية: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل ١٦/ ١٢٦]، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به، ما لم يقتله بفسق أو معصية كاللواط وإسقاء الخمر، فيقتل بالسيف، وهذا قول الجمهور، واستثنى المالكية أيضا القتل بالنار أو السّم، لا يقتل به،
لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يعذب بالنار إلا الله»
والسم نار باطنة.
وقال أبو حنيفة، وأحمد في الأصح في مذهبه: إنه لا قود إلا بحديدة، بدليل
حديث النعمان بن بشير- فيما رواه ابن ماجه والبيهقي والدارقطني-: «لا قود إلا بحديدة، ولا قود إلا بالسيف».
وانفرد أبو حنيفة بالقول فيمن قتل بخنق أو بسمّ أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة، إنه لا يقتل ولا يقتص منه، إذ القتل بمثقل عنده لا يوجب القصاص، لأنه قتل شبه عمد، يوجب الدية على عاقلة القاتل. وإنما القصاص يجب بالقتل بمحدّد حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفا بالخنق والتّردية.
(١) اللي: المطل، والواجد: القادر على قضاء دينه. والحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن الشريد بن سويد. [.....]
189
٦- الجهاد بالنفس والمال:
يكون الجهاد بالنفس والمال، لأن تجهيز الجيوش يحتاج إلى عتاد وسلاح ونفقات، كاحتياج المعارك إلى الرجال الأشداء. فلو قصّر المسلم في الإنفاق في سبيل إعلاء كلمة الله، فقد ألقى بنفسه إلى الهلاك، وأهلك الجماعة، ودمر الأمة التي ينتمي إليها. وقد نزلت آية: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] كما عرفنا في الأنصار حينما تعرضوا لقحط وجدب في بعض السنوات، وظنوا ألا حاجة للنفقة، لأن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلم يقبل الله ذلك منهم، لأن الجهاد فريضة دائمة، والإعداد للقتال واجب شرعي مستمر.
٧- اقتحام أهوال الحرب أو العمل الفدائي:
اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب، وحمله على العدو وحده، أيعد ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة؟.
قال جماعة من المالكية: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم، إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فإن لم تكن فيه قوة، فذلك من التهلكة.
وقيل: إذا طلب الشهادة، وخلصت النية، فليحمل، لأن مقصوده واحد من الأعداء، وذلك بيّن في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ٢٠٧]. وهذا هو الفدائي بحق.
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: فلك الجنة»
فانغمس في العدو حتى قتل.
وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين،
190
وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرّض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين.
فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه، فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه.
وإن كان قصده إرهاب العدو، ليعلم صلابة المسلمين في الدّين، فلا يبعد جوازه.
وإذا كان فيه نفع للمسلمين، فتلفت نفسه لإعزاز دين الله، وتوهين الكفر، فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة ٩/ ١١١] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه.
وعليه ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه متى رجا نفعا في الدّين، فبذل نفسه فيه، حتى قتل، كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان ٣١/ ١٧].
وروى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أفضل الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر، فقتله».
191
أحكام الحج والعمرة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
الإعراب:
... وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ متعلق بأتموا، وهو مفعول لأجله، ويجوز أن يكون في موضع الحال، وعامله محذوف تقديره: كائنين لله.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ما: مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليكم ما استيسر.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ مبتدأ وخبر، ولا بد فيه من محذوف مقدر، وفي تقديره وجهان:
أحدهما- أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والثاني: الحج حج أشهر معلومات.
فَلا رَفَثَ.... فِي الْحَجِّ لا: نافية للجنس، كما في قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ واسمها
192
وهو رفث: مبني على الفتح، وبني مع «لا» لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر». و «لا» مع النكرة المبنية في موضع مبتدأ، وقوله فِي الْحَجِّ خبر.
وَما تَفْعَلُوا ما: شرطية منصوب بتفعلوا، وتفعلوا مجزوم بما، ويعلمه: مجزوم لأنه جواب شرط.
البلاغة:
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ: كناية عن ذبحه في مكان الإحصار. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً فيه إيجاز بالحذف، أي كان مريضا فحلق وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ فيه التفات من الغائب إلى المخاطب.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فيه إجمال بعد التفصيل، لزيادة التأكيد، ويسمى «الإطناب».
وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار لتربية الهيبة والجلال.
لِمَنْ اللام بمعنى على، أي وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة.
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ نفي بمعنى النهي، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا أي لا تماروا مع الرفقاء والخدم والمكارين، والنفي أبلغ من النهي الصريح، أي لا ينبغي أن يقع أصلا، والأمر بالاجتناب في الحج مع أن وجوبه في كل حال، لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن.
المفردات اللغوية:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ أدوهما بحقوقهما فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم عن إتمامهما بعدو أو مرض اسْتَيْسَرَ تيسر الْهَدْيِ أي سهل عليكم وهو شاة، أو كل ما يهديه الحاج والمعتمر إلى البيت الحرام من النّعم، ليذبح ويفرق على الفقراء وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ أي لا تتحللوا حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ مكان الحلول والنزول، حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار عند الشافعي ومالك، فيذبح فيه بنية التحلل، ويفرق على مساكينه، ويحلق به، وبه يحصل التحلل. وفي رأي الحنفية:
هو الحرم. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كقمل وصداع، فحلق في الإحرام فَفِدْيَةٌ عليه مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ ثلاثة أصوع «١» من غالب قوت البلد، على ستة مساكين أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة، وأصل النسك: العبادة، والمراد هنا الذبيحة، وسميت نسكا لأنها من أشرف
(١) الصاع: أربعة أمداد، وهو عند الحنفية (٣٩٠٠ غم)، وعند الجمهور (٢٧٥١ غم) والمد (٦٧٥ غم).
193
العبادات التي يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى. وأو: للتخيير. وألحق به: من حلق لغير عذر، ومن استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر أو غيره. فَإِذا أَمِنْتُمْ قيل: برأتم من المرض، وقيل: من خوفكم من العدو.
فَمَنْ تَمَتَّعَ استمتع بِالْعُمْرَةِ أي بسبب فراغه منها، أي تمتع بمحظورات الإحرام إِلَى الْحَجِّ أي الإحرام به، بأن يكون أحرم بها في أشهره.
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ تيسر عليه من الهدي وهو شاة يذبحها بعد الإحرام بالحج بمكة، والأفضل يوم النحر. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي، لفقده أو فقد ثمنه، فعليه صيام ثلاثة أيام في حال الإحرام بالحج، فيجب حينئذ أن يحرم قبل السابع من ذي الحجة، والأفضل قبل السادس، لكراهة صوم يوم عرفة، ولا يجوز صومها أيام التشريق في الأصح عند الشافعي. وسبعة أيام بعد الرجوع إلى الوطن: مكة أو غيرها.
وحاضرو المسجد الحرام: هم أهل مكة وما دونها إلى المواقيت في رأي الحنفية، وإلى ما دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وقته شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، في رأي الشافعي، وقال الجمهور: يجوز الإحرام بالحج فيما عدا هذه الأشهر مع الكراهة. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا، وبالإحرام فعلا ظاهرا، وبالتلبية نطقا مسموعا. وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج، وأوجبها الظاهرية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما، بيّن أن الحج له وقت معلوم.
فَلا رَفَثَ جماع فيه، وَلا فُسُوقَ عصيان وَلا جِدالَ خصام ومجادلة «١» والمراد بالنفي في الثلاثة: النهي عنها. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به، ونزل في أهل اليمن، وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلّا على الناس. وَتَزَوَّدُوا ما يبلغكم لسفركم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ما يتقى به سؤال الناس وغيره، واتقوا الله يا أولي العقول.
والألباب: جمع لبّ، ولبّ كل شيء: خالصة، ولذلك قيل للعقل: لبّ.
(١) قال ابن مسعود وابن عباس وعطاء: الجدال هنا: أن تماري مسلما حتى تغضبه، فينتهي إلى السباب، فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة: الجدال: السباب. ورجح القرطبي قول من قال: لا جدال في وقت الحج ولا في موضعه.
194
سبب النزول:
سبب نزول قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ:
أخرج ابن أبي حاتم عن صفوان بن أمية قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ فأنزل الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فقال: أين السائل عن العمرة، قال: ها أنا ذا، فقال له: ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعا في حجك، فاصنعه في عمرتك.
وقوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً:
روى البخاري عن كعب بن عجرة أنه سئل عن قوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ قال: حملت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قال: قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك، فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى مسلم عن كعب بن عجرة قال: «فيّ أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أدنه، فدنوت مرتين أو ثلاثا، فقال: أيؤذيك هوامك؟
قال ابن عون، وأحسبه قال: نعم، فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك ما تيسر»
.
وروى أحمد عن كعب قال: كنا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصر المشركون، وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تسّاقط على وجهي، فمرّ بي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ فأمره أن يحلق، قال: ونزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ.
وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا: روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:
195
كان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله:
وَتَزَوَّدُوا، فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
المناسبة:
ذكرت أحكام الصيام، ثم ذكرت أحكام الأشهر الحرم والمسجد الحرام والقتال فيها وفيه، ثم ذكرت هنا أحكام الحج، لأن شهوره بعد شهر الصيام، فأوضح تعالى فيها حكم المحصر الذي منعه العدو من إتمام الحج، وحكم المتمتع إلى زمن الحج من غير أهل الحرم، ووقت الحج في أشهر معلومات.
التفسير والبيان والأحكام:
كان الحج معروفا بين عرب الجاهلية، من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأقره الإسلام بعد أن أبطل ما فيه من أنواع الشرك والمنكرات، وزاد فيه بعض المناسك.
وقد فرضه الله تعالى على المسلمين سنة ست من الهجرة بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧] وكانت أول حجة حجها المسلمون سنة تسع بإمرة أبي بكر رضي الله عنه، ثم حج النّبي صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر، وفيها أذّن أبو بكر بالمشركين الذين حجوا: ألا يطوف بعد هذا العام مشرك، ونزلت الآية إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة ٩/ ٢٨].
واستمر المسلمون منذ ذلك التاريخ يهرعون بقلوب ملؤها الشوق والحنين والتعظيم إلى بيت الله الحرام كل عام، من مختلف الأقطار في المشارق والمغارب، تظللهم راية الإيمان بالله تعالى، وترتفع أصواتهم بتلبية أوامر الله، وتخشع نفوسهم لتلك المواقف المهيبة، قاصدين تطهير أنفسهم من شوائب العصيان
196
ومخالفة الأوامر الإلهية، وهم في صفوفهم وتحركاتهم الجماعية منصهرون ماديا وفعليا بمعنى المساواة، دون تفرقة بين سيد ومسود وحاكم ومحكوم وغني وفقير، ومتجردون من مظاهر الدنيا وزينتها، فلا تكاد تجد في أنحاء العالم تجمعا كثيفا ومؤتمرا عالميا، مثل مؤتمر الحج كل عام، حيث تجد فيه مختلف الجنسيات والألوان والألسنة من كل أنحاء العالم.
ويبين الله تعالى في هذه الآيات بعض أحكام الحج وهي:
١- إتمام الحج والعمرة:
أي أداؤهما تامين كاملين لا ينقصهما شيء من شروطهما وأفعالهما من غير أن يفعل أثناءهما شيء من المحظورات، ظاهرا بأداء المناسك على وجهها المطلوب شرعا، وباطنا بالإخلاص لله تعالى دون قصد شيء دنيوي. والتعبير بالإتمام مشعر بأن المسلمين قد شرعوا فيهما، وبدؤوا في العمرة سنة ست وصدوا عنها، ولذلك تسمى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء. ودل قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ على وجوب القضاء على من أحصر بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي، في رأي الحنفية، لأن الأمر في الآية يقتضي الإيجاب بالشروع في العبادة، والمراد بقوله وَأَتِمُّوا.. تمامهما بعد الشروع فيهما. وقال مالك والشافعي: إن أحصر المحرم بعدو، فحلّ فلا قضاء عليه في الحج ولا العمرة، والمراد بالآية: أداؤهما والإتيان بهما، كقوله:
فَأَتَمَّهُنَّ وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ.
٢- اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة
، بالرغم من الأمر إتمامهما في هذه الآية. فقال الشافعية والحنابلة: العمرة واجبة كالحج، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة ٢/ ١٥٨]. ولما
روي في
197
الصحيح أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: «من كان معه هدي، فليهلّ بحج وعمرة»
وقوله أيضا: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»
وروى الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت».
وذهب المالكية والحنفية: إلى أن العمرة سنة، لأن كل الآيات التي فرض فيها الحج، جاءت مجردة عن ذكر العمرة: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران ٣/ ٩٧] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ.. [الحج ٢٢/ ٢٧]، ولأن أحاديث أركان الإسلام لم يذكر فيها العمرة،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن ماجه وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي- «الحج جهاد، والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه عن جابر: أن رجلا سأل رسول الله عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمروا خير لكم»،
وتأولوا أحاديث فريضة العمرة بأنها بعد الشروع فيها، وهي واجبة حينئذ بلا خلاف. والظاهر هو الرأي الأول، لأن هذه الآية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها، كما أمر بإتمام الحج.
٤- الإحصار:
إن منعتم وأنتم محرمون من إتمام النسك بسبب عدو أو مرض أو نحوهما، وجب عليكم إن أردتم التحلل أن تذبحوا ما تيسر من الهدي: وهو ناقة (بدنة) أو بقرة أو شاة، فإن لم يجدها المحصر قوّم الحيوان، واشترى بقيمته طعاما، وتصدق به، فإن لم يجد، صام عن كل مدّ من الطعام يوما. والإحصار يكون عن الحج، وعن العمرة، لأن المنع قد يحصل منهما على سواء.
واختلف الفقهاء في أسباب الإحصار: فذهب الحنفية: إلى أنه يشمل كل حالات المنع من دخول مكة بعد الإحرام، بمرض أو عدو، أو سجن أو غيره،
198
لأن الله تعالى علّق الحكم على مطلق الإحصار: وهو الحبس، وهو عام، يتناول الكل.
وذهب الشافعية والمالكية: إلى أن معنى الإحصار: المنع بالعدو، أخذا بما روي عن ابن عباس وابن عمر، ولأن الحصر هو المنع، والمنع لا بد له من مانع قادر على المنع، وذلك يتصور في العدو لا في المرض، ولأن الأمن في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض. وأما من أحصره المرض فلا يحلّه إلا الطواف بالبيت، وإن أقام سنين، حتى يفيق.
والظاهر هو الرأي الأول، لأن الأمن عام ليس مقصورا على الأمن من العدو، ولأن المانع هو كل حاجز عن الشيء، والمرض حاجز عن متابعة السير وإتمام الأعمال المطلوبة في المناسك، وتخصيص بعض أفراد العام بحكم في آية:
فَإِذا أَمِنْتُمْ لا يخصص العام المفهوم في آية: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ.
وأما اشتراط المحرم: بأن يقول: لبيك اللهم لبيك، ومحلّي حيث حبستني من الأرض، فلا ينفعه عند الجمهور، وعليه دم. وأجاز أحمد وأبو ثور وإسحاق بن راهويه الاشتراط، ولا دم ولا هدي عليه، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أذن بذلك لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فيما رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما.
٤- حلق الرأس أو التقصير:
يعبر عن الدخول بالحج أو العمرة بالإحرام، وذلك بالنية من الميقات، وتجرد الرجال من لبس المخيط والحذاء، ولبس النعل، والامتناع عن الطيب والنساء والصيد البري ونحوها، ويكون الخروج من الإحرام بما يسمى بالتحلل: وهو حلق الرأس أو التقصير، وقد نهى الله تعالى عن الحلق قبل بلوغ الهدي مكان ذبحه، وهو مكان الإحصار في رأي مالك والشافعي، عملا بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية، وفي الحرم المكي في رأي الحنفية، لقوله تعالى في جزاء الصيد: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة ٥/ ٩٥]
199
فبين أن شرط الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغير هذه الصفة، وكان الذبح من النّبي صلّى الله عليه وسلّم في طرف الحرم من جهة الحديبية. والظاهر الرأي الأول لأن منع العدو أو المرض لا يتحدد بمكان معين، ويحول بين المحرم وبين تقدمه أو تجاوزه المكان الممنوع، فكيف يتصور وصوله إلى الحرم، وهو ممنوع منه؟! قال الله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح ٤٨/ ٢٥] قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق.
وهل لذبح الهدي وقت معين؟ لا خلاف في أن هدي العمرة غير مؤقت بزمان مخصوص، بل له أن يذبح متى شاء، ويحل من إحرامه. وأما هدي الإحصار في الحج: فيذبح عند الجمهور متى شاء ويحل، لأن قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، ولأن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، فلا يفرق بين دم إحصار الحج ودم إحصار العمرة، ولأن تأخير الذبح حتى يجيء يوم النحر فيه ضرر واضح.
وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد: لا يذبح الهدي قبل يوم النحر.
وهل على المحصر حلق؟ قال أبو حنيفة ومحمد: ليس على المحصر تقصير ولا حلاق. وقال الجمهور: يحلق المحصر أو يقصر، لأن ذلك قادر عليه، ولقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة ٢/ ١٩٦] ولا يجوز لأحد أن يحلق رأسه حتى ينحر هديه، لأن سنة الذبح الحلاق، وللآية المذكورة: وَلا تَحْلِقُوا..
٥- جزاء الحلق وقتل الهوام:
إذا خالف المحرم شروط الإحرام، فحلق رأسه أو قصر بسبب المرض، أو الأذى في رأسه من قمل أو جرح أو صداع وغيره، أو قلم ثلاثة أظافر، أو قبّل زوجته مثلا، أو تطيب أو ادّهن في جسمه مثلا، فعليه فدية مخير فيها بين صيام ثلاثة أيام أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين، أو
200
نسك «١» وهو ذبح شاة، والتخيير بين هذه الخصال مستفاد من (أو) التي تقتضي التخيير. وتجب الفدية المذكورة عند مالك وأبي حنيفة، سواء فعل المخالفة عامدا أو ناسيا، ولا تجب عند الشافعي وأحمد إن خالف ناسيا.
وتقدير الطعام: إما بستة صيعان لكل مسكين صاع «٢»، كما في رواية، وإما بثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، في رواية أخرى، فجمع الجمهور بينهما، بحمل رواية الستة الآصع على التمر، والثلاثة الآصع على طعام القمح، لأنه المعهود في سائر الصدقات. ودليل التقدير: ما
أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة، قال: «وقف عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا، فقال: يؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك» قال:
فنزلت هذه الآية، وذكرها، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق «٣» بين ستة، أو انسك بما تيسر».
قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن:
لا يجزي أن يغدّي المساكين ويعشّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدّين بمد النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.
وأما موضع الفدية: فقال الحنفية: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وقال مالك: يفعل ذلك أين شاء، والذبح هنا نسك وليس بهدي، والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة. وقال الشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم. وقال أحمد: فدية الحلق في الموضع الذي حلق فيه،
(١) النسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى، ويجمع أيضا على نسائك، والنسك: العبادة في الأصل.
(٢) الصاع البغدادي: (٢٧٥١ غم)
(٣) الفرق: مكيال ستة عشر رطلا أي بغداديا، والرطل البغدادي (٤٠٨ غم) والرطل المصري (٤٥٠ غم)
201
وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة. وأما الإطعام فهو بمكة، وأما الصوم فحيث شاء.
٦- فدية المتمتع:
من أمن العدو والحصار وتمتع بسبب فراغه من المناسك والتحلل من الإحرام بالعمرة، وبقي متمتعا إلى زمن الحج، ليحرم من مكة به، فعليه دم أي ذبح هدي (شاة) شكرا لله تعالى، يذبحه يوم النحر بمنى ويأكل منه كالأضحية، أو يذبحه في مكة في رأي الشافعي، وهذا يحقق اليوم فائدة أكثر، لإيصاله إلى الفقراء. والقارن بالحج والعمرة مثل المتمتع في وجوب الفدية، لأن التمتع يشمل معنيين: استباحة التمتع بالنساء والتفرقة بترك محظورات الإحرام، وجمع الحج مع العمرة في أشهر الحج بأعمال واحدة.
فمن لم يجد الهدي، لعدم وجوده، أو لم يجد المال الذي يشتري به، فعليه صيام ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج قبل السادس من ذي الحجة قبل يوم التروية «١» ويوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده، أو شرع في الرجوع، فله أن يصوم في الطريق.
هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة، لتأكيد المراد بالسبعة وهو العدد، دون الكثرة في الآحاد، ووصفت بالكمال للتنبيه إلى رعاية العدد فلا ينقص منها شيء، وللإشارة إلى أن البدل قائم تماما مقام المبدل منه، وهما في الفضيلة سواء.
ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج، وإيجاب الفدية، تخفيف ورخصة للآفاقيين الذين حضروا من البلاد البعيدة، دون أهل الحرم، لأن الغريب يتحمل مشاق السفر أكثر من المقيم بمكة، فالغرباء هم الذين يحتاجون إلى
(١) سمي يوم التروية: لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعد، وهو اليوم الثامن الذي يسن الخروج فيه إلى منى.
202
هذه الرخصة، حتى لا يؤدوا كلا من الحج والعمرة على انفراد، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك، فلا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام.
واتقوا الله واخشوه بالمحافظة على امتثال أمره، والانتهاء عن نواهيه، واحذروا أن تعتدوا في ذلك، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن تجاوز حدود الله تعالى.
ومن المعلوم أن كيفيات أداء الحج والعمرة الجائزة إجماعا ثلاث:
الأولى- الإفراد: الإحرام بالحج وحده، ثم بالعمرة بعد إنهائه.
الثانية- التمتع «١» : الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وكان من أهل الآفاق، ثم الإحرام بالحج من مكة.
الثالثة- القرآن: أن يحرم الشخص بالحج وبالعمرة معا، أو يحرم بأحدهما ثم يدخل الآخر عليه في عام واحد وفي أشهر الحج. وأيها هو الأفضل؟ للعلماء آراء ثلاثة:
قال الحنفية: القرآن أفضل، ثم التمتع، ثم الإفراد،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الطحاوي عن أم سلمة: «أهلّوا يا آل محمد بعمرة في حجة»
وقال أنس فيما أخرجه البخاري ومسلم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبي بالحج والعمرة يقول:
لبيك عمرة وحجة»
.
وقال المالكية والشافعية: الإفراد بالحج أفضل، ثم التمتع، ثم القرآن: لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم حج مفردا على الأصح،
قالت عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من
(١) سمي المتمتع متمتعا، لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حلّه في العمرة إلى وقت إنشائه الحج، أو لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، إذ من حق العمرة والحج أن يقصد كل منهما بسفر.
203
أهل بحج وعمرة، وأهلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحج»
وروي حديث آخر: «القران رخصة»
ولأن في الإفراد زيادة التلبية، والسفر، والحلق، والثواب على قدر المشقة وهذا أصح الآراء.
وقال الحنابلة: التمتع أفضل، فالإفراد، فالقرآن، لأن التمتع جاء ذكره في القرآن، ولما
رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: «تمتع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة»
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة» «١».
وعلى كل حال، فإن الآية لا تدل لأحد المذاهب السابقة، إذ ليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، وإنما المعول على ما في السنة، والترجيح بين الروايات. ويلاحظ أن من اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده ومنزله، ثم حج من عامه، فليس بمتمتع في رأي الجمهور. وقد جمع المحدثون بين روايات حجه صلّى الله عليه وسلّم بوجوه: أقواها أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة فصار قرانا، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهل به، وقول القائلين بالقرآن على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحج.
٧- وقت الحج: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فيه حذف، تقديره:
وقت أعمال الحج أشهر معلومات، أو الحج في أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فلا تصح نية الحج في مذهب الشافعي إلا في هذا الوقت، وتنتهي أعماله في أيام التشريق الثلاث. والأشهر المعلومات هي ما ذكر في رأي الجمهور غير المالكية.
وقوله مَعْلُوماتٌ: إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار
(١) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله
204
هذه الأشهر أشهرا للحج، وذلك من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
وقال مالك: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. وفائدة الخلاف: تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج، قال: تم حجه، ولا يلزمه دم بالتأخير.
ومن قال: إلى عشر ذي الحجة، قال: يلزمه دم بالتأخير، كما ذكر الشوكاني.
وذكر الجصاص الرازي توفيقا بين القولين، فقال: وقال قائلون: وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة: أنه بعضه، لأن الحج لا محالة، إنما هو في بعض الأشهر، لا في جميعها، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام (منى) شيء من مناسك الحج. وقالوا: ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله: مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج، كان الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها، كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج «١».
وأضاف الجصاص قائلا:
ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله:
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ كما
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيام منى ثلاثة»
وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون: حججت عام كذا، وإنما الحج في بعضه، ولقيت فلانا سنة كذا، وإنما كان لقاؤه في بعضها، وكلمته يوم الجمعة، والمراد البعض، وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت، كان المعقول منه البعض.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٩٩
205
ثم قال: ولقول من يقول: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وجه آخر، وهو ينتظم القولين جميعا، وهو أن الآية سيقت لبيان أن هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج، بدون تبديل ولا تغيير، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل، فكانوا ينسئون الشهور، فيجعلون صفرا المحرم، ويستحلون المحرم، على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال، وكانوا يغيرون في أشهر الحج، فمعنى قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ: أن عمال الحج تقع في هذه الأشهر، على مقتضى بيان السنة، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور، وتأخير الحج وتقديمه.
وهل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟
اختلف السلف وأئمة المذاهب في ذلك، فقال الجمهور غير الشافعية «١» : يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد حجا، ولا ينقلب عمرة، ولكنه مكروه، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس: «من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» وتكون فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر لبيان أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها، وأما صحة الإحرام في غيرها، فلأنه شرط للحج، فيجوز تقديمه على أدائه، كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.
وقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، وينعقد إحرامه بالعمرة، وظاهر الآية يشهد له، لأنها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات، والإحرام بالعبادة قبل وقتها لا يجوز، كما لا تجوز نية الظهر قبل الظهر.
ونية الإحرام بالحج: تجب فرضا، لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ومن تمام العبادة: حضور النية، وهي فرض عند الإحرام،
لقوله عليه الصلاة والسلام لما
(١) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح المؤرخ الحنبلي: ٣/ ١١٣
206
ركب راحلته: «لبيك بحجة وعمرة معا»
، فمن شهد مناسك الحج، وهو لا ينوي حجا ولا عمرة، وهو بالغ عاقل، لم يسقط عنه الفرض.
وأما المواقيت:
فروى الأئمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم «١»، هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلّون منها.
وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه. وأما ميقات أهل العراق فهو ذات عرق «٢»،
جاء في كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقّت لأهل العراق ذات عرق.
وأجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم، ولكنه مكروه، لأنه ضيّق على نفسه ما قد وسّع الله عليه.
٨- من هم حاضرو المسجد الحرام؟
اختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام بعد إجماعهم على أهل الحرم (مكة وحاضريها) فقال الحنفية: هم أهل المواقيت ومن دونها من كل ناحية، وقال المالكية: هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة، وقال الشافعية والحنابلة: هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر (٨٩ كم).
٩- ما يحظر في الإحرام:
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن، وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته وهو المعبر عنه بالرفث، وعن أنواع المعاصي والمخالفات مثل
(١) ذو الحليفة: قرية خربة بينها وبين مكة مائتا ميل. والجحفة: قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل، ويقرب منها القرية المعروفة برابغ، يصح الإحرام منها. وقرن: جبل مشرف على عرفات، وهو على مرحلتين من مكة، ويلملم: مكان على مرحلتين من مكة.
(٢) ذات عرق: قرية على مرحلتين من مكة.
207
صيد البر والطيب والزينة ولبس المخيط، وعن كل ما يؤدي إلى التنازع والتباغض والاختلاف، كالجدال والمراء والخصام والتنابز بالألقاب، لأن الشرع يريد من الحاج أن يتجرد عن كل مظاهر الدنيا ومغرياتها ومفاسدها، ويتطهر من الذنوب والسيئات، فيتحقق الغرض المنشود من الحج وهو تهذيب النفس وإشعارها بالعبودية لله الواحد الأحد،
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج، ولم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
وقد جمعت الآية والحديث أصول الأخلاق الفاضلة، ونهت عن كل ما يعكر صفوها، فالآية خبر لفظا، نهي معنى، ويراد من الرفث الوقاع ومقدماته وقول الفحش، والفسوق: (وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية) جميع أنواع المعاصي، والجدال جميع أنواع الخصام.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم، وتتخلى عن الرذائل، وتتحلى بالفضائل، لأن الله يعلم ما تفعلون، فيجازيكم على كل خير تقدمونه لأنفسكم، فالآية شرط وجوابه، والمعنى: أن الله يجازيكم على أعمالكم، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء.
وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم، واتخذوا التقوى زادا لمعادكم، فإن خير الزاد اتقاء المنهيات، وأخلصوا لي يا أهل العقول أعمالكم، بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، فإن فعلتم ذلك نجوتم من العقاب، وأدركتم الفوز بالرضا والرحمة الإلهية.
وخص أولي الألباب بالخطاب- وإن كان الأمر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها.
١٠- حكمة محرمات الإحرام:
السر في محرمات الإحرام: هو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى قاصد له، فيتجرد من عاداته
208
ونعيمه، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقة العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره،
وفي الحديث الصحيح المتقدم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت «١».
تتمة أحكام الحج
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٣]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
(١) تفسير المنار: ٢/ ١٨٣
209
الإعراب:
عَرَفاتٍ التنوين في عرفات بمنزلة النون من زيدون، وليست للصرف، لأنها لو كانت للصرف، لكان ينبغي أن يحذف للتعريف والتأنيث، لأنها اسم لبقعة مخصوصة.
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ الكاف في موضع نصب إما لكونه صفة لمصدر محذوف وتقديره: ذكرا كذكركم آباءكم، أو لكونه في موضع نصب على الحال من ضمير «فاذكروا» أي فاذكروه مشبهين ذكركم آباءكم.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور عطفا على «ذكركم» أو منصوب على تقدير فعل، والتقدير:
واذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم آباءكم.
البلاغة:
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ تشبيه تمثيلي يسمى «مرسلا مجملا».
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فيهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
جُناحٌ أي حرج وإثم. أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا. فَضْلًا عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج. أَفَضْتُمْ أصله: أفضتم أنفسكم ودفعتموها، والمراد: الدفع منه بكثرة.
عَرَفاتٍ موقف الحاج لأداء النسك، وسمي بذلك لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة: اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذي الحجة. فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء. والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وسمي بالمشعر، لأنه معلم للعبادة، والشعائر: العلامات، ووصف بالحرام لحرمته، فلا يفعل فيه ما نهي عنه.
روى مسلم: أنه صلّى الله عليه وسلّم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف للتعليل، وَإِنْ مخففة من الثقيلة.
ثُمَّ أَفِيضُوا يا قريش مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة، ترفعا عن الوقوف معهم، وثم للترتيب في الذكر. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من ذنوبكم. فَإِذا قَضَيْتُمْ أديتم. مَناسِكَكُمْ عبادات حجكم، بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى، أي إذا فرغتم من مناسك الحج فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والثناء، كما كنتم تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
210
خَلاقٍ نصيب. حَسَنَةً توفيقا وصحة ونعمة (أو رزقا). وَقِنا عَذابَ النَّارِ بعدم دخولها، القصد منه: الحثّ على طلب خير الدارين.
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ ثواب. مِمَّا كَسَبُوا من أجل ما عملوا من الحج والدعاء. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث بذلك.
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أي بالتكبير عند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة.
فَمَنْ تَعَجَّلَ أي استعجل بالنفر من منى فِي يَوْمَيْنِ في ثاني أيام التشريق (العيد) بعد رمي جماره فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بالتعجيل. وَمَنْ تَأَخَّرَ بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، أي هم مخيرون في ذلك. لِمَنِ اتَّقى الله في حجه، لأنه الحاج في الحقيقة.
تُحْشَرُونَ إليه في الآخرة، فيجازيكم على أعمالكم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٩٨) :
روى البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في موسم الحج.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال: «قلت لابن عمر: إنا نكري (أي الدواب للحجاج)، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يجبه، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ... فدعاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنتم حجاج».
نزول الآية (١٩٩) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ.
211
نزول الآية (٢٠٠) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، يقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم، وقفوا عند الجمرة، وذكروا آباءهم في الجاهلية، وفعال آبائهم، فنزلت هذه الآية، حتى إن الواحد منهم ليقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبّة، عظيم الجفنة»
، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فنزلت الآية، ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية.
نزول آخر الآية (٢٠٠) والآيتين (٢٠٠- ٢٠١) :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاء وحسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ويجيء آخرون من المؤمنين، فيقولون: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً... إلى قوله: سَرِيعُ الْحِسابِ.
المناسبة:
بعد أن حضّ الله تعالى على التقوى والتزوّد ليوم الحساب ومخافة الله، وبعد أن منع الله تعالى الجدال في الحج، وكانت المعاملات التجارية تفضي عادة إلى الجدال والمخاصمة، جاءت آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. للاستدراك مما قد يفهم أن التجارة مظنة المنع، أي ممنوعة في الحج، وأيضا لما حظر الله لبس المخيط.
(١) الجفنة: أعظم ما يكون من القصاع. [.....]
212
والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنة الحظر، فدفعا لذلك التوهم أباح الله تعالى الاتّجار في أثناء الحج، لأن ذلك سعي من أجل الرزق، والرزق أو الكسب فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة، فلا مانع من انضمام قصد الاتّجار إلى الحج، وإنما الممنوع هو قصد التجارة فحسب. وقد تحرج المسلمون من التجارة في بادئ الأمر، خشية التأثير على العبادة، كما بيّنا في سبب النزول، فكانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا إثم فيه مع إخلاص العبادة.
التفسير والبيان:
لا إثم عليكم في طلب الرزق الحلال أثناء الحج من طريق البيع والشراء والكراء إذا لم يكن هو المقصود الأساسي بالذات، وإنما يجوز أن يكون تبعا للعبادة، إذ هو مع حسن المقصد عبادة أيضا، ولكن التفرغ لأداء المناسك أفضل وأكمل، لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة ٩٨/ ٥].
ويشترط أيضا لإباحة التجارة في الحج: ألا يترتب عليها نقصان في الطاعة، ولا تشغله عن أعمال الحج، لذا أمر الله تعالى بذكره بعد الوقوف بعرفات الذي هو أهم أركان الحج
للحديث النّبوي: «الحج عرفة» «١»،
وبعد الإفاضة من عرفات: أي الاندفاع في السير بكثرة، فعلى الحاج إذا دفع إلى المزدلفة وبات فيها أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالتلبية والتهليل والدعاء والحمد والثناء، وإنما طلب منه الذكر خشية أن يتركه في هذا الموضع المبارك. والمشعر الحرام: هو الجبل الذي يقف عليه الإمام،
فقد روي: «عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى الفجر بالمزدلفة، ركب ناقته، حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبّر، وهلل، ولم
(١) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر.
213
يزل واقفا حتى أسفر جدا»
أي دخل في الإسفار وهو بياض النهار، وورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.
ثمّ بيّن الله سبحانه طريقة الذّكر، فقال: واذكروه كما علّمكم كيفيّة الذّكر، بأن يكون بتضرع وإخلاص وإنابة قلبية وخشوع وحضور القلب مع الله، وهذا هو الذّكر الحسن، كما هداكم هداية حسنة، وإن كنتم من قبل هذا الهدى من الضّالين عن الحق في العقيدة والعمل، إذ كنتم تعبدون الأوثان والأصنام، وتتخذونها وسطاء أو شفعاء عند الله، لتقربكم إلى الله زلفى.
ثم أمرت الآية قريشا وبعض القبائل بالإفاضة من عرفات، كما يفيض الناس منها ويقفون عليها، بعد أن كانوا يقفون في المزدلفة، ترفعا عن غيرهم.
روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس «١» كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة، ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
وتحقيقا لمبدأ المساواة ونبذ الامتيازات في الإسلام أمر الله نبيّه بأن يقف مع المسلمين جميعا في عرفات، وأن يفيضوا منها إبطالا لما كانت عليه قريش.
ولما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، فالله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يطلب ذلك منه مع التوبة الخالصة.
ثم أبطل الله تعالى عادة جاهلية أخرى وهي المفاخرة بأمجاد الآباء حيث إنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل، بعد الفراغ من أعمال الحج، كما بيّنا في سبب النزول، ويؤكده ما روى ابن عباس: أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم، يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة، والحماسة، وصلة الرحم،
(١) الحمس: مفرده أحمس: وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.
214
ويتناشدون فيها الأشعار، فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام، أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم.
وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء، يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
«أما بعد، أيها الناس: إن الله قد أذهب عنكم حميّة الجاهلية وتفككها، يا أيها الناس، إنما الناس رجلان: برّ تقيّ كريم على الله، أو فاجر شقيّ هيّن على الله، ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.. الآية [الحجرات ٤٩/ ١٣].
وخطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا في حجة الوداع في ثاني أيام التشريق، فأرشد العرب إلى ترك تلك المفاخرات، وقال: «أيها الناس، إنّ ربّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، أبلّغت؟»
قالوا: بلّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وإبطال تلك العادة كان بالأمر بذكر الله ذكرا كثيرا مبالغا فيه، كما كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم، بل أشدّ من ذكرهم آباءهم.
ثم ذكر ما يكون من الناس الذاكرين في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال ويتركوا غيره، فقال: الناس في الحج قسمان:
قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنها لا تخطر له ببال، ولا يهتم بشيء من أمورها، فيطلب الجاه والغنى والنصر على الأعداء ونحو ذلك من حظوظ الدّنيا، هذا القسم لا خلاق (لا حظّ) لهم في الآخرة، مما أعدّه الله للمتقين من رضوانه وجناته.
215
وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة، فيقول: ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق، وحسن المعاملة والمعاشرة، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار، فيقول: ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقنا للعمل بما يرضيك، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات، وطلب سعادة الدارين، حقق الله له النجاح فيهما.
والحسنة في الدّنيا: هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة: هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.
ثم أشار الله إلى الفريقين: الذين طلبوا الدنيا، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا، فأبان أنّ كلّا منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا، وقيل: إن قوله: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ.. راجع للقسم الثاني فقط، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب، لأن فَمِنَ لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، والله سريع الحساب، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله، ويتمّ ذلك في لحظة،
فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
وفي الجملة: آية رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، وما دام الحساب محقق الوقوع، فهو قريب سريع.
216
وهناك شبيه لهذه الآية، وهي قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء ١٧/ ١٨- ٢٠]. وقوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا، نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠].
ثم أمر الله تعالى بذكره في أيام منى بعد الأمر السابق بذكره عند المشعر الحرام، وعند تمام أداء المناسك بعد منى، فقال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي أيام منى أو أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر، وهي الأيام التي يرمون فيها الجمار، وينحرون فيها الهدي والأضاحي.
والذكر في هذه الأيام يكون بالتهليل والتكبير عقب الصلاة وعند رمي الجمار وذبح القرابين، ويستوي في نوع هذا الذكر الحاج وغيره إلا أن غير الحاج يكبّر أيضا في يوم عرفة، والحاج يلبي، والمأثور من التّكبير: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا». ورد عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكبّر في فسطاطه بمنى، فيكبّر من حوله، حتى يكبّر الناس في الطريق.
وروي عن الفضل بن العباس قال: «كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جمع- مزدلفة- إلى منى، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».
ويلاحظ أنه ورد الأمر بالذكر في الحج في هذه السورة في أيام معدودات، وفي سورة الحج في أيام معلومات: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (الآية: ٢٨)، فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنّ
217
«المعلومات» هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النّحر، وأما «المعدودات» فهي ثلاثة بعد يوم النّحر، وهي أيام التشريق. وقد أكّد القفال هذا بما
رواه في تفسيره أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديا فنادى: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع- مزدلفة- قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه»
وروى أصحاب السّنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال: إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا ينادي: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع «١» - مزدلفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه».
ومذهب مالك أن أيام الرّمي معدودات وأيام النّحر معلومات، فيوم النّحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم.
ومعنى آية فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ..: أنّ من تعجل في الإتيان بالمطلوب في الأيام الثلاثة، بأن جعله في يومين، فلا إثم عليه، ومن تأخر، بأن لم يأخذ برخصة التعجيل، فلا إثم عليه، فالأفضل البقاء في منى والمبيت بها ثلاثة أيام وليال، لرمي الجمار «٢» الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، عند كل جمرة سبع حصيات، تأسّيا بفعل إبراهيم عليه السلام، وتمتاز جمرة العقبة بأنها ترمى وحدها يوم النحر أيضا. ويجوز الترخص والمبيت بمنى ليلتين الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق، ثم النّفر إلى مكة. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني، فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده، ثم ينفر، ولا إثم عليه بترك الترخص.
هذا التخفيف والتخيير في التعجيل والتأخير، ونفي الإثم عن المستعجل
(١) سميت جمعا: لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام.
(٢) الجمار: جمع جمرة: وهي مجتمع الحصى.
218
والمتأخر أو هذا الغفران، إنما هو لمن اتّقى «١» الله وترك ما نهى عنه، فلم يلبس حجه بالمظالم والمآثم، لأنه هو الحاج الحقيقي، لأن الغرض من كل عبادة هو التقوى، كما قال الله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة ٥/ ٢٧].
وتحقيق التقوى: بذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال. ثم أمر الله بالتقوى فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي واتّقوا الله حين أداء مناسك الحج، وفي جميع الأحوال، ثم أكّد الأمر بالتقوى فقال: واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للحساب والجزاء على أعمالكم يوم القيامة، والحشر: من ابتداء الخروج من الأجداث إلى انتهاء الموقف، والعاقبة للمتّقين، والعاقبة للتقوى، قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم ١٩/ ٦٣]، وقال أيضا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ٨٢/ ١٩].
ومن علم أنه محاسب على أعماله، التزم العمل الصالح، واتقى ربّه، وقد كرّر الأمر بذكر الله وبالتقوى، للإرشاد بأن المهم في العبادة هو إصلاح النفس وفعل الخير، والبعد عن الشر والمعاصي. وأما من ظن أو شك في المصير المحتوم فيعمل تارة ويترك أخرى.
ولما ذكر الله تعالى النفر الأول من عرفات، والنفر الثاني بعد إنهاء المناسك وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، كما قال: هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الملك ٦٧/ ٢٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. على جواز التجارة في الحج للحاج، مع
(١) اللام من قوله لِمَنِ اتَّقى متعلقة بالغفران على تفسير ابن مسعود وعلي، التقدير: المغفرة لمن اتقى. وروي عن ابن عمر: التقدير: الإباحة لمن اتقى. وقيل: السلامة لمن اتقى.
219
أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا، ولا يخرج به المكلف عن شرط الإخلاص المفترض عليه. لكن الحج دون تجارة أفضل، لبعده عن شوائب الدّنيا وتعلّق القلب بغيره.
وفي آية: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ.. دلالة على أن الوقوف بعرفة أمر واجب لا بدّ منه، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده، ولأنه قد رتب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام.
وقد أجمع العلماء على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال (الظهر) ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك. وأجمعوا على تمام حجّ من وقف بعرفة بعد الزوال، وأفاض نهارا قبل الليل، إلا الإمام مالك، فإنه قال: لا بدّ أن يأخذ من الليل شيئا. ولا خلاف أيضا في أن من وقف بعرفة بالليل فحجّه تام. وحجة الجمهور: مطلق قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ولم يخصّ ليلا من نهار،
وحديث عروة بن مضرّس قال: أتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الموقف من جمع- مزدلفة-، فقلت: يا رسول الله، جئتك من جبلي طيء، أكللت مطيّتي، وأتعبت نفسي، والله إن تركت من جبل «١» إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد قضى تفثه «٢»، وتمّ حجّه» «٣».
(١) أي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه.
(٢) المراد أنه أتى بما عليه من المناسك. والمشهور: أن التفث: ما يصنعه المحرم عند حلّه من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة، ويدخل ضمن ذلك نحر الإبل وغيرها وقضاء جميع المناسك، لأنه لا يقضى التفث إلا بعد ذلك.
(٣) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني واللفظ له، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
220
وحجة مالك: حديث جابر الطويل عند مسلم، وفيه: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصّفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأفعاله عليه الصلاة والسلام على الوجوب، لا سيّما في الحج،
وقد قال: «خذوا عني مناسككم».
وهل على من وقف نهارا فقط في عرفات شيء؟ أوجب الجمهور (غير الشافعية) الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، اقتداء بفعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن أفاض (دفع) قبل غروب الشمس، ولم يرجع، فحجّه صحيح تام، وعليه دم عند الحنفية والحنابلة، وقال مالك: عليه حجّ قابل، وهدي ينحره في حجّ قابل، وهو كمن فاته الحج. وذهب الشافعية:
إلى أنه يسنّ الجمع بين الليل والنهار فقط، اتّباعا للسّنة، فإن أفاض قبل الغروب، فلا دم عليه، وإن لم يعد إلى عرفة ليلا،
للخبر الصحيح: «من أتى عرفة قبل الفجر ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه».
والأفضل أن يقف بعرفة راكبا لمن قدر على الركوب، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنه أعون على الدعاء، فإن لم يقدر على الركوب وقف قائما على رجليه داعيا، ما دام يقدر، ولا حرج عليه في الجلوس إذا لم يقدر على الوقوف. وفي الوقوف راكبا تعظيم للحج قال الله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ، فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج ٢٢/ ٣٢].
وظاهر عموم القرآن والسّنة الثابتة يدلّ على أن عرفة كلها موقف،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف».
ويوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «صوم يوم عرفة يكفّر السنة الماضية والباقية»،
وهذا سنّة لغير الحاج، وصام بعض أهل العلم بعرفة يوم عرفة،
وقال أيضا: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت
221
أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»،
وروى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عزّ وجلّ، ثم يباهي بهم الملائكة، يقول: ما أراد هؤلاء».
ورغّبت الآيات في ذكر الله في مواضع كثيرة في الحج، عند المشعر الحرام، وفي أيام منى، وبعد الانتهاء من الحج، وذلك بالدعاء والتّلبية عند المشعر الحرام، وبالتهليل والتّكبير في منى، وبالاستغفار والدعاء في عرفات وبعد الإفاضة منها وبعد إنهاء أعمال الحج، لتقوى الصّلة والارتباط بالله، ولتكون خشية الله في مرأى ومسمع وقلب المسلم إذا عبد الله أو تعامل مع الناس. روى أحمد ومسلم حديثا عن نبيشة الهذلي: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر».
وقيل: الأمر الأول: أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص، والثالث المداومة على الذكر كذكر مفاخر الآباء والتغني بالأمجاد الذي كان في الجاهلية عقب الحج، بل كأشد ذكرا من ذكر الآباء. ومن أكمل الأذكار والدعاء في هذه الآيات: الصيغة الجامعة لخيري الدّنيا والآخرة، فهي من جوامع الدعاء التي يطلب من المؤمن الإكثار منها، وهي: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
جاء في الصحيحين عن أنس قال: «كان أكثر دعوة يدعو بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: اللهمّ آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار».
وثبت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى الظهر والعصر في يوم عرفة جمع تقديم مع خطبة كخطبة الجمعة، وصلّى المغرب والعشاء بالمزدلفة جمع تأخير، بأذان واحد وإقامتين، كما ثبت في الصحيح. وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين.
وليس المبيت بالمزدلفة ركنا في الحج عند الجمهور، وقال مالك: الوقوف بها
222
واجب، ويكفي مقدار حطّ الرّحال وجمع الصّلاتين، وتناول شيء من الطعام والشراب، والمبيت بها سنّة مؤكّدة، فمن لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله، فلا شيء عليه.
وقال الحنفية: يجب الوقوف بالمزدلفة ولو لحظة بعد الفجر، ولو مارّا كالوقوف بعرفة، ويسنّ المبيت فيها.
وقال الشافعية: يكفي في المبيت بالمزدلفة الحصول بها لحظة بعد منتصف الليل.
وقال الحنابلة: المبيت بمزدلفة واجب لما بعد منتصف الليل، من تركه فعليه دم.
والواجب عند الكل من الفدية أو الدم هو شاة، ودليل وجوب الوقوف بالمزدلفة
حديث عروة بن مضرّس المتقدم: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ثم وقف معنا حتى نفيض، وقد أفاض قبل ذلك- من عرفات «١» - ليلا أو نهارا، فقد تمّ حجه، وقضى تفثه».
ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة في رأي أكثر العلماء، والمشهور عن مالك قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة. ودليل الجمهور: ما
رواه مسلم عن الفضل بن عباس: «لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».
ويحصل التحلل الأصغر للحاج برمي جمرة العقبة والحلق والذبح، لما
روى الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رميتم وحلقتم وذبحتم، فقد حلّ لكم كلّ شيء إلا النساء، وحلّ لكم الثياب والطّيب».
(١) الزيادة عن الدارقطني.
223
وبعبارة أخرى: يحصل بفعل اثنين من ثلاثة: رمي جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة. والتحلل الأكبر: طواف الإفاضة، وهو الذي يحلّ النساء وجميع محظورات الإحرام.
وقت التكبير: إن ذكر الله في الأيام المعدودات: هو التّكبير عقب الصلوات وعند رمي الجمرات، قال مالك: يبدأ التّكبير من ظهر يوم النّحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات التي يكبّر فيها خمس عشرة صلاة.
وفي رواية عن الشافعي: يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النّحر.
وفي رواية أخرى عنه وعن أبي حنيفة: إنه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النّحر. ومذهب الحنفية والحنابلة والمشهور عند الشافعية: أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر يوم عرفة وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة، بدليل ما
روى جابر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه صلّى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا، فقال: الله أكبر، ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق».
وفي قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا: قال ابن عباس: هو الرجل يأخذ مالا يحج به عن غيره، فيكون له ثواب،
وروي عنه- فيما رواه الدارقطني- في هذه الآية أنّ رجلا قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان على أبيك دين، فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى»
، وقول ابن عباس نحو قول مالك، أي أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة، والحجة للحاج، فكأن له ثواب بدنه وأعماله، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه، لذا لا فرق بين أن يكون النائب حجّ عن نفسه حجة الإسلام أم لم يحجّ.
224
ولا خلاف في أن المخاطب بالذكر في الأيام المعدودات هو الحاج، خوطب بالتكبير عند رمي الجمرات، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند إدبار الصلوات دون تلبية.
وغير الحاج في رأي جماهير الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار مثل الحاج مطالب بالتكبير، فيكبّر عند انقضاء كل صلاة، سواء صلّى وحده أو في جماعة، تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم، على النحو الذي بيّناه في وقت التّكبير. وفي المدونة لمالك: إن نسي التّكبير إثر صلاة، فإن كان قريبا قعد فكبّر، وإن تباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب ولم يكبّر، والقوم جلوس فليكبّروا.
ولفظ التّكبير في مشهور مذهب مالك: ثلاث تكبيرات، وفي رواية يزاد:
لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.
وأجمع الفقهاء على أن يوم النّحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرم يوم النّحر من الجمرات غيرها، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال. وأجمعوا أيضا على أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب.
وأجاز الجمهور (غير الشافعي) رمي جمرة العقبة بعد الفجر قبل طلوع الشمس، ولا يجوز رميها قبل الفجر. وأباح الشافعي رميها بعد نصف الليل.
فإذا مضت أيام الرمي، فلا رمي، وعليه الهدي (دم)، سواء ترك الجمار كلها، أو جمرة منها، أو حصاة من جمرة، في رأي مالك. وقال أبو حنيفة: إن ترك الجمار كلها فعليه دم، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء، إلا جمرة
225
العقبة فعليه دم. وقال الشافعي: إن في الحصاة الواحدة مدّا من الطعام، وفي حصاتين مدين، وفي ثلاث حصيات دم.
وينتهي عند الجميع وقت الرمي بغروب شمس اليوم الرابع من أيام النحر.
والمبيت بمنى «١» عند الجمهور ليالي التشريق واجب، فلا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى في تلك الليالي إلا للرّعاء ولمن ولي السقاية من آل العباس، ومن ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية، فعليه دم، لأن المبيت من شعائر الحج ونسكه.
ويرمى عن المريض والصّبي اللذين لا يطيقان الرمي، ويتحرى المريض حين الرمي عنه، فيكبّر سبع تكبيرات، لكلّ جمرة، وعليه الهدي عند مالك.
وقال الجمهور: لا دم عليه.
الناس إما منافقون أو مخلصون
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
الإعراب:
وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ مبتدأ وخبره، والخصام إما جمع خصم أو مصدر خاصم بمعنى الخصومة، يقال: خاصم خصاما، كقاتل قتالا، والمعنى: شديد الخصومة.
(١) سميت منى: لما يمنى فيها من الدماء، أي يراق.
226
البلاغة:
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ذكر لفظ الإثم بعد قوله: العزة من باب «التتميم» في علم البديع، ليدلّ على أنها عزّة مذمومة.
وَلَبِئْسَ الْمِهادُ من باب التهكّم، أي لبئس الفراش هي جهنم، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، فالله يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله، سيكون مهاده ومأواه النار.
المفردات اللغوية:
يُعْجِبُكَ يروقك لوافقته إياك بالإيمان والخير. أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة والعداوة.
تَوَلَّى ذهب وانصرف عنك. سَعى مشى. الْحَرْثَ الزرع. النَّسْلَ ما تناسل من الحيوان. لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ حملته العزة الكاذبة أي الأنفة والحمية، على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه. فَحَسْبُهُ كافيه. الْمِهادُ الموضع المهيأ للنوم، ومنه مهد الصبي، وسمى جهنم مهادا، لأنها مستقر الكفار، أو لأنها بدل لهم من المهاد.
يَشْرِي نَفْسَهُ يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله أي رضاه.
سبب النزول:
روى ابن جرير عن السّدي في نزول الآيات (٢٠٤- ٢٠٦) : أن الأخنس بن شريق الثقفي «١» أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأظهر له الإسلام، ثم خرج، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر (قتل) الحمر، فأنزل الله الآية.
وقال سعيد بن المسيّب- فيما يرويه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم-: أقبل صهيب الرومي مهاجرا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فاتبعه نفر من
(١) اسمه أبي، والأخنس لقب، لقّب به، لأنه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان رجلا حلو القول والمنظر.
227
قريش، فنزل عن راحلته، وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش:
لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وأيم الله، لا تصلون إليّ حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي، ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة، وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، فلما قدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قال: «ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع»، ونزلت الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...
المناسبة:
ذكر الله في الآيات السابقة أن الناس في الحج صنفان: منهم من يدعو الله للدنيا، ومنهم من يدعو للآخرة، وأن المقصد من كل العبادات هو تقوى الله، ومحل التقوى هو القلب لا اللسان، وهنا ذكر صنفين آخرين في ميزان التقوى:
منافق ومؤمن، الأول يظهر غير ما يبطن، والثاني مخلص في عمله يبتغي مرضاة الله تعالى.
التفسير والبيان:
بعض الناس يروقك قوله ويعجبك لسانه وبيانه، ولكنه منافق يظهر غير الحقيقة، فيعلن غير ما يضمر، ويقول ما لا يفعل، ليحظى بشيء من أعراض الدنيا الفانية، ويزيد في الإيهام والتضليل أنه يحلف بالله أنه صادق، فيقول:
يعلم الله هذا، ويشهد أني صادق، وهو في الواقع قوي الجدل، يغش الناس بما يظهر، شديد العداوة للمسلمين. وهذه الخصال الثلاث (حسن القول، وإشهاد الله على صدقه، وقوته في الجدل) وجدت في الأخنس بن شريق، كما بيّنا في سبب النزول.
وهذا الصنف سرعان ما ينكشف أمره، فتراه إذا توارى عن الأعين يكون ضدّ ما قال، فيسعى في الأرض بالفساد، ويهلك الحرث (الزرع) ويقضي على
228
النسل، إرضاء لنزعات نفسه الأمّارة بالسوء، وانقيادا لأهوائه وشهواته، وإيثارا لمقاصده الدنيوية الحقيرة، والله سبحانه لا يرضى بالفساد ولا يحبه، ولا يحب المفسدين، ولا ينظر إلى الصور والأقوال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
وإذا نصحه إنسان، فقال له: اتّق الله، حملته الحمية الجاهلية، والعزّة الشيطانية على ارتكاب الإثم والحرام، لأنه ينفر من الصلاح والمصلحين، فيكفيه عذاب جهنم، فهي مأواه ومهاده، ولبئس المهاد مهاده، بسبب سوء عمله في الدنيا، وسوء خداعه وحاله ولحنه في كلامه، قال الله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣٠].
وأما الصنف الثاني: فهو فريق يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتراه يجاهد في سبيل الله لإقرار الحق والعدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتحرى صالح الأعمال وقول الحق، مع الصدق والإخلاص فيهما، وليس له لسانان أو وجهان، ولا يؤثر عرض الدنيا على ما عند ربه من حسن الجزاء، والله رءوف بالناس، فيجزيهم بالنعيم الدائم على العمل القليل، ولا يكلفهم فوق الطاقة، وينشر عليهم واسع رحمته وإحسانه وكرمه، ولولا ذلك لغلب شرّ أولئك المفسدين في الأرض، حتى لا يبقى فيها صلاح: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة ٢/ ٢٥١].
فقه الحياة أو الأحكام:
قال علماء المالكية: في هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط في أمور الدين والدنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم، حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله تعالى بيّن أحوال الناس، وأن منهم من يظهر قولا جميلا، وهو ينوي قبيحا.
229
وأما
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن أم سلمة: «فأقضي له على نحو ما أسمع»
فكان هذا في صدر الإسلام حيث يكتفي بالظاهر لسلامة أحوال الناس، أما بعد أن عمّ الفساد، فلا بدّ من التزكية والتعرّف على البواطن «١».
والصحيح كما قال القرطبي: أن الظاهر يعمل به حتى يتبيّن خلافه، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاري: «أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة» «٢».
وأرشدت الآية إلى أن فريق المنافقين شأنه الإفساد والتدمير والتخريب من الباطن، وهو لا يتّقي الله، ولا يخشاه، فحقّ له العذاب في جهنم، فهي مأواه ومصيره، وبئس المصير.
كما أرشدت الآية إلى أن المخلص في عمله لله، والذي جاهد في سبيل الله، يستحق رضوان الله ورحمته، ويظفر بجنان الخلد، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. إلى قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة ٩/ ١١١].
والفريق الأول يوجد في كل أمة، فقد يخدع الشخص فردا واحدا أو أفرادا معدودين، وقد يخدع الأمة بأجمعها، فيوقعها في مهاوي الشرّ والعذاب. وقد يعتمد هذا الصنف على الأيمان الكاذبة، فيحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤٣
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ١٦
230
ويدّعي، وفي معنى الحلف: أن يقول الإنسان: الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا، وأريد كذا، قال العلماء: إن هذا آكد من اليمين، ورأى بعض الفقهاء:
أن من قاله كاذبا يكون مرتدا، لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى، وعلى كل حال:
إن أقل ما يدل عليه هذا هو عدم المبالاة بالدين، ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل، فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.. [البقرة ٢/ ٩] «١».
ودلّ التعبير القرآني الموجز: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ على حقيقة ثابتة وهي أن وجود فئة المخلصين بين الناس رحمة عامة للعباد، لا خاصة بهم، فكثيرا ما ينتفع الناس بعمل المصلحين من دونهم، إذ تظهر ثمرات إصلاحهم من بعدهم، وعلى من يبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في نفع عباده ألا يتهور ويلقي بنفسه في التهلكة، بل عليه أن يكون حكيما يقدّر الأمور بقدرها، إذ ليس المقصود بهذا الشراء: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.. [التوبة ٩/ ١١١] إهانة النفس ولا إذلالها، وإنما المراد دفع الشرّ، وفعل الخير العام، رأفة بالعباد، وإيثارا للمصلحة العامة «٢» وكون آية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. نزلت في الأخنس، فلا يخصصها، وإنما هي عامة في كل من يتصف بصفته، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال سعيد المقبري: إن في بعض الكتب: إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر «٣»، لبسوا للناس مسوك «٤» الضأن من اللين، يشترون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليّ تجترئون
(١) تفسير المنار: ٢/ ١٩٦ [.....]
(٢) المرجع السابق: ٢/ ٢٠٤
(٣)
جاء في الترمذي حديث: «إن في بعض كتب الله أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر..»
الحديث.
(٤) المسوك: الجلود، جمع مسك.
231
وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب القرظي: «هذا في كتاب الله» فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟
قال: قول الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: «إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعد». قال ابن كثير: وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح «١».
الدعوة إلى قبول الإسلام واتباع أحكامه وجزاء المخالف
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
الإعراب:
كَافَّةً منصوب على الحال من ضمير ادْخُلُوا.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٢٤٦
232
سَلْ فعل أمر، وأصله «اسأل» إلا أنه حذفت الهمزة تخفيفا، ونقلت حركتها إلى السين قبلها، فاستغنى عن همزة الوصل. وكَمْ منصوب على الظرف، وتقديره: كم مرة، وعامله: آتَيْناهُمْ. وجملة آتَيْناهُمْ مع كَمْ في موضع نصب مفعول ثان لفعل سَلْ. ولا يجوز أن يكون العامل في كَمْ هو سَلْ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
زُيِّنَ لم يقل «زينت» وإن كانت الْحَياةُ مؤنثة لسببين، لوجود الفاصل بينهما، ولأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، فيجوز ترك علامة التأنيث، مثل: حسن الدار، واضطرم النار.
البلاغة:
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام إنكاري في معنى النفي، بدليل مجيء إِلَّا بعدها، أي ما ينتظرون. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ التنكير للتهويل. وَقُضِيَ الْأَمْرُ عطف على المضارع:
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ للدلالة على تحققه، فكأنه قد كان. فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أظهر لفظ الجلالة لتربية المهابة والروعة.
زُيِّنَ أورد بصيغة الماضي لكونه مفروغا منه، مستقرا في طبعهم. وَيَسْخَرُونَ عطف بالمضارع لإفادة استمرار السخرية منهم.
المفردات اللغوية:
السِّلْمِ: التسليم والانقياد، ويطلق على الصلح والسلام وعلى دين الإسلام، والمراد هنا الإسلام. كَافَّةً في اختيار السيوطي: حال من السلم، أي في جميع شرائعه، وقال أهل اللغة:
حال من ادْخُلُوا أي جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق، جمع خطوة، والمراد تزيينه ووساوسه بالتفريق. عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة. زَلَلْتُمْ ملتم عن الدخول في الإسلام جميعه، والزلل في الأصل: عثرة القدم، ثم استعمل في الانحراف عن الحق. الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرة والأدلة التي ترشد إلى أن الإسلام الذي دعيتم إليه هو الحق. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء عن الانتقام منكم. حَكِيمٌ في صنعه، يعاقب المسيء، ويكافئ المحسن. هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظرون أي تاركو الدخول فيه. يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي يأتيهم عذابه أو أمره كقوله: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
أي عذابه. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة، وهي ما أظلك. مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض الرقيق. وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي في لا حرة فيجازي الناس.
233
وقال أهل السلف: الإتيان في ظلل من الغمام كالمجيء في آيات أخرى: مما وصف به الله تعالى نفسه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة لا يخفى أنها من عند الله، كالعصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى، فبدلوها كفرا. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ التبديل: تغيير الشيء من حال إلى حال، ونعمة الله: آياته الباهرة التي آتاها أنبياءه، وجعلها مصدر الهداية والنجاة. الْعِقابِ العذاب.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا حسّن لأهل مكة. الْحَياةُ الدُّنْيا بالتمويه، فأحبوها.
وَيَسْخَرُونَ يستهزئون من الذين آمنوا لفقرهم، كبلال وعمار وصهيب، ويتعالون عليهم بالمال. وَالَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك وهم هؤلاء. وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بغير تقدير ولا حصر ولا تعداد على حسب الإيمان والتقوى والكفر والفجور، أو أنه كناية عن السعة، فيرزقهم رزقا واسعا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبالتسلط على أولئك الساخرين، وأما في الآخرة فبالفوز بالجنة والرضوان الإلهي، وهذا كما يقال: «هو ينفق بغير حساب» على معنى أنه ينفق كثيرا.
سبب النزول:
نزلت الآية (٢٠٨) في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.
وروى عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
234
المناسبة:
أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فأمرهم بقوله: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب انقادوا إلى الله تعالى في كل شيء، وادخلوا في الإسلام كله، وخذوا الإسلام بجملته، ولا تخلطوا به غيره، وافعلوا كل ما أمركم به الإسلام من أصول وفروع وأحكام دون تجزئة أو اختيار «١»، كالعمل بالصلاة والصيام مثلا، وترك الزكاة والحدود، وتناول الخمر، وأخذ الربا، وفعل الزنى، ونحوه مما نراه الآن.
وحافظوا على وحدة الإسلام وجمع كلمة المسلمين، كما قال الله تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.. [آل عمران ٣/ ١٠٣] واحذروا التنازع والاختلاف، كما قال عز وجل: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم [الأنفال ٨/ ٤٦] وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
ولا تتبعوا طرق الشيطان في التفرق في الدين أو في الخلاف والتنازع، فهذه
(١) قال أبو حيان: إن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه، فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام وألا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بأنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة (البحر المحيط: ٢/ ١٢٠).
235
وسائله ووساوسه التي يزخرفها أو يزينها للناس، يسوّل لهم المنافع والمصالح.
ويصرف الشخص عن الحق والهداية، ويفرق بين الجماعة، كما حدث من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وحرفوا وبدلوا، ونقصوا وزادوا، فتمزقت وحدتهم، وسلّط الله عليهم الأعداء.
والسبب في تحذيرنا من اتباع خطوات الشيطان: أنه العدو اللدود الظاهر العداوة، فإن جميع ما يدعو إليه هو الضلال والباطل بعينه.
ثم توعد الله من حاد عن جادة الاستقامة، فأعلمهم أنكم إن ملتم عن الحق، وابتعدتم عن صراط الله وهو الإسلام، بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات القاطعات، وسرتم في طريق الشيطان، طريق الخلاف والنزاع والتفريق، فإن الله عزيز لا يغلب، أو غالب على أمره، لا يعجزه الانتقام منكم، حكيم في صنعه، لا يهمل المذنب، وإنما يعاقبه ويؤاخذه في الدنيا والآخرة.
وهكذا الحكم في كل الأفراد، إذا لم يلتزموا طريق الاستقامة، ولم يتحصنوا بدرع متين من الأخلاق، وأهملوا شرع الله كله أو بعضه، فلن يوفقوا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم زاد في التهديد والوعيد، فأورد هذا الاستفهام: ما ينتظر هؤلاء المكذبون دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إثباتها بالأدلة والبراهين الساطعة، وأولئك الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم به من العذاب في ظلل من الغمام (السحاب) حيث ينتظرون الخير، تنكيلا بهم، وتأتيهم الملائكة وتنفذ ما قدره الله وأراده لهم، وهو أمر قضاه الله وأبرمه، فلا مفرّ منه، والمرجع في كل الأمور في النهاية إلى الله يوم القيامة، فيضع كل شيء في موضعه الذي قضاه، فهو الأول مبدئ الخلائق، وهو الآخر تصير إليه الأمور.
236
وحكمة إنزال العذاب في الغمام الذي هو مظنة الرحمة والأمل في الخير، هو إنزاله فجأة من غير سابق إنذار، كما في آية أخرى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٥].
وهذا يومئ للمؤمن بأن يبادر إلى التوبة وإصلاح الحال، حتى لا يفاجئه العذاب، ويأتيه بغتة وهو لا يشعر، فإذا لم تفاجئه القيامة، فاجأه الموت، أو المرض الذي يعجزه عن العمل الصالح، كما جاء في آية أخرى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر ٣٩/ ٥٤- ٥٥].
ثم فتح الله سبيل الحوار والمناقشة مع بني إسرائيل عن الآيات العديدة التي حدثت على يد رسلهم، كي يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان برسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم التي قامت على مثل تلك الآيات أو المعجزات. فقال:
سل يا محمد بني إسرائيل سؤال تقريع وتبكيت وتوبيخ لهم عن الآيات الكثيرة التي جاءت على أيدي رسلهم الكرام، مثل موسى وعيسى عليهما السلام، فهي تدل دلالة قاطعة على صدقهم، ومثلها المعجزات الدالة على صدقك، فهي متنوعة وكثيرة تؤدي إلى الاقتناع والتصديق بالنبوات. فهل لهم أن يتعظوا ويتدبروا، ويقلعوا عن جحودهم بالحق وطغيانهم؟ وإلا حلّ بهم من النكال مثل ما حلّ بأسلافهم.
ثم هدد كل من يغيّر سنن الله، فقال: ومن يغير نعمة الله وهي الأدلة والبراهين الدالة على الحق والخير والهداية، من بعد ما وصلت إليه وعرفها، ويجعلها من أسباب ضلاله وكفره وعصيانه، فله العذاب الشديد، والعقاب الصارم، والجزاء المحتم، لأنه من سنن الله العامة القائمة على العدل والإنصاف،
237
تمييزا بين المحسن والمسيء، والله شديد العقاب لمن خالف وأساء، رؤف رحيم بمن أطاع وأحسن.
ولكن طبيعة الكافرين الجاحدين قائمة على حب الدنيا حبا شديدا، وتحسينها في أعينهم، وتمكّن محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بمباهجها وزخارفها، وآثروها على كل شيء، حتى ما عند الله من نعيم مقيم، لأنهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا بالآخرة، ثم يتبعون التأويلات والأوهام والآمال الكاذبة التي علقت في خواطرهم.
وتراهم يسخرون من المؤمنين، ويستهزئون بالفقراء منهم، كابن مسعود وعمار وصهيب، ويعجبون: كيف ترك هؤلاء لذات الدنيا وعذبوا أنفسهم بالعبادات؟ كما يعجبون من الأغنياء، كيف لا يتقلبون في النعيم، ويستعدون لما بعد الموت، بتصحيح الاعتقاد، وإصلاح الأعمال، والتخلق بفضائل الأخلاق؟
ويتلخص موقفهم أو نظرتهم بأنه موقف مادي، لا أثر فيه للروحانية.
ثم ردّ الله على هؤلاء الساخرين الذين يظنون أنهم في لذاتهم ودنياهم خير من أهل اليقين والإيمان، ومفاد الرد:
إذا استعلى بعض الكافرين على بعض المؤمنين فترة من الدهر، بالمال أو المنصب والجاه، أو العزة والسلطان وكثرة الأنصار والأتباع، فإن المتقين سيكونون أعلى رتبة منهم في الآخرة، وأعلى مقاما عند ربهم، فهم في أعلى عليين، والكفار في أسفل سافلين، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا [مريم ١٩/ ٦٣].
وقد تساءل الزمخشري عن السبب في قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم قال: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا؟ ثم أجاب: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن
238
التقي، وليكون بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك «١».
هذا هو الجزاء المفضل الخالد في الآخرة، أما الدنيا فليس الارتفاع فيها خالدا، وإنما هو موقوت، بل هو في الحقيقة شيء حقير، يغتر بها سذاج الناس، أو السطحيون العاديون، فلو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء.
والله سبحانه يرزق من فضله من يشاء، ولو كان كافرا فاسقا، ويقدر الرزق أو يقلله على من يشاء، ولو كان مؤمنا طائعا، ويعطي الرزق عطاء كثيرا جزيلا، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما
جاء في الحديث: «ابن آدم، أنفق أنفق عليك»
«٢»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنفق بلالا، ولا تخش من الله ذي العرش إقلالا»
«٣» وقال الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٩] فيكون لكلمة الحساب في الآية (٢١٢) وجهان: التقدير أي من غير تقدير له، أو كناية عن السعة وعدم التقتير والتضييق، كما يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي ينفق كثيرا.
وتكرر معنى هذه الآية في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء ١٧/ ١٨- ٢١]. ويلاحظ أنه لم يسترط السعي لرزق الدنيا، لأنه قد يأتي بلا سعي كإرث وهبة ووصية وكنز أو ارتفاع أثمان ما يملك من عقار
(١) الكشاف: ١/ ٢٦٩
(٢) حديث قدسي متفق عليه عن أبي هريرة بلفظ «أنفق أنفق عليك».
(٣) رواه الطبراني في الكبير والقضاعي في مسنده عن ابن مسعود، وكذا البزاز.
239
وعروض، واشترط للآخرة السعي مع الإيمان، كما خصّها هنا بالذين اتقوا من المؤمنين «١».
والرزق بلا حساب في الدنيا يكون بالنسبة إلى الأفراد، فإنا نرى كثيرا من الأبرار، وكثيرا من الفجار أغنياء أو فقراء، لكن المتقي يكون دائما أحسن حالا وأكثر احتمالا، فلا يؤلمه الفقر، كما يؤلم الفاجر، إذ هو بالتقوى يجد المخلّص من كل ضيق، ويرى من عناية الله به رزقا غير محتسب.
أما الأمم فأمرها على خلاف ذلك، وسنته فيها أن يرزقها بعملها، ويسلبها بزللها، إذ ليس من سنن الله أن يرزق الأمة العزة والثروة والقوة والسلطة من حيث لا تحتسب ولا تقدر، ولا تعمل ولا تتدبر «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
الإسلام كلّ لا يتجزأ، فمن آمن به وجب عليه الأخذ به كله، فلا يختار منه ما يرضيه، ويترك ما لا يرضيه، أو يجمع بينه وبين غيره من الأديان، لأن الله تعالى أمر باتباع جميع تعاليمه وتطبيق كل فرائضه، واحترام مجموع نظامه، بالحل أو الإباحة، وبالحظر أو الحرمة، فهو دليل الإيمان الحق به، فضلا عن القول بأن شرائعه نسخت كل الشرائع السماوية السابقة حال تعارضها معه. واختيار غير هذا المنهاج أو الخطة يكون اتباعا لخطوات الشيطان ووساوسه وأباطيله.
وقد دلت آية فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع.
(١) تفسير المنار: ٢/ ٢١٩
(٢) تفسير المنار، المرجع والمكان السابق.
240
وأرشدت آية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ إلى أن مصير المخالفين أو العصاة هو الهلاك والعذاب، وهو أمر محتم نافذ لا مردّ له، وهذه النتيجة يقدرها كل عاقل، وهي التي قررها القرآن، فذكر تعالى: هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه، يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض. وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء، كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا، وأفعاله بلا آلة ولا علة، سبحانه! وما أكثر الأدلة التي ترشد الناس إلى اتباع الحق والإسلام، لذا سئل بنو إسرائيل سؤال تقريع وتوبيخ: كم جاءهم من الآيات التي أيد الله بها موسى عليه السلام من فلق البحر والظّلل من الغمام والعصا واليد وغير ذلك؟ كما قال مجاهد والحسن البصري وغيرهما، وقال غيرهم: كم جاءهم في أمر محمد عليه الصلاة والسلام من آية معرّفة عليه دالة عليه؟ ولا مانع من الجمع بين التفسيرين، كما فعلت. فإن بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومثلهم كل مبدّل نعمة الله، فلهم العقاب الشديد.
وأما الماديون الكفار الذين فتنوا بالدنيا، وهم رؤساء قريش وأمثالهم، وصنفوا الناس على حسب الغنى والترف، وسخروا من المؤمنين الفقراء، وأقبلوا على الدنيا، وكانت موازينهم مادية محضة، وأعرضوا عن الآخرة بسبب الدنيا، فإنهم قصيرو النظر، لأن الله جعل ما على الأرض زينة لها، ليبلوا الخلق أيهم أحسن عملا، ولأنهم لا يعتقدون غير الدنيا، وأما المؤمنون الذين هم على سنن الشرع، فلم تفتنهم زينة الدنيا، وسيكونون أرفع درجة من الكفار، لأنهم في الجنة، والكفار في النار، وسيلقون جزاء سخريتهم بالمؤمنين، كما قال الله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين ٨٣/ ٣٤- ٣٦].
241
وروى عليّ رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة، أو حقّره لفقره وقلة ذات يده، شهره الله يوم القيامة، ثم فضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى على تلّ من نار يوم القيامة، حتى يخرج مما قال فيه. وإن عظم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من ملك مقرّب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب، أو مؤمنة تائبة. وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء، كما يعرف الرجل أهله وولده».
ومع جدارة الكافر لاستحقاق العقاب في الآخرة، فإن الله تعالى من باب العدالة والرحمة لا يحجب عنه الرزق والعطاء الذي يستمتع به في الدنيا، ويضمن له معيشته وكرامته، والله يرزقه ويرزق كل دابة في الأرض، ويعطي الإنسان عطاء بغير حساب أي بغير تقدير له على حسب الإيمان والتقوى، والكفر والفجور، أو أن عطاءه واسع خصب كثير، لا حدود له، فهو جلت قدرته لا ينفق بعدّ، وفضله كله بغير حساب، أما الذي بحساب فهو ما كان على عمل قدمه العبد، قال الله تعالى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ ٧٨/ ٣٦] لذا كان رزق المؤمن التقي في الآخرة أوسع من رزقه في الدنيا، وحينئذ يتميز المؤمن عن الكافر في زيادة الرزق واستمراره في الآخرة، وأما الكافر فلا رزق له هناك، وإنما جزاؤه العذاب في جهنم. قال الله تعالى عن المؤمنين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [المرسلات ٧٧/ ٤١- ٤٤] وقال الله سبحانه عن الكافرين:
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ. وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ [الحاقة ٦٩/ ٣٥- ٣٧].
242
الحاجة إلى الرسل وما يلاقونه مع المؤمنين في دعوتهم
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٣ الى ٢١٤]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
الإعراب:
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ نصب على الحال.
أَمْ حَسِبْتُمْ: أَمْ تكون متصلة ومنقطعة، فالمتصلة: لا تكون إلا بعد الاستفهام بالهمزة، والمراد بها تعيين المسؤول عنه بمنزلة (أي) نحو: أزيد عندك أم عمرو؟ أي أيهما عندك.
والمنقطعة: بمنزلة «بل» والهمزة، وهي تقع بعد الاستفهام والخبر، وأم هاهنا منقطعة. وأَنْ تَدْخُلُوا في موضع المفعولين. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ الفعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وتقديره: حتى أن يقول، وحتى: هاهنا غاية، بمعنى: «إلى أن» فجعل قول الرسول غاية لخوف أصحابه. وحَتَّى لا ينتصب الفعل بعدها إلا إذا كان بمعنى الاستقبال. فأما إذا كان بمعنى الماضي أو الحال، فلا ينتصب بعدها بتقدير (أن) لأن (أن) تخلصه للاستقبال.
243
البلاغة:
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فيه إيجاز بالحذف أي كانوا على ملة واحدة وهي الإيمان والتمسك بالحق، فاختلفوا، بأن آمن بعض وكفر بعض.
أَمْ حَسِبْتُمْ استفهام إنكاري، وأم هنا منقطعة بمعنى: بل أحسبتم.
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ: لما: تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي.
أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فيها أربعة تأكيدات، وهي «ألا» أداة الاستفتاح، وإنّ، والجملة الاسمية، وإضافة النصر إلى الله القادر على كل شيء.
المفردات اللغوية:
أُمَّةً ورد لفظ الأمة في القرآن بعدة معان:
١- الجماعة: الذين يرتبطون برابطة واحدة، مثل قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف ٧/ ١٨١] وقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران ٣/ ١١٠].
٢- الملة: أي العقائد وأصول النشريع، مثل قوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [الأنبياء ٢١/ ٩٢ والمؤمنون ٢٣/ ٥٢].
٣- الزمن: مثل قوله: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود ١١/ ٨] وقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف ١٢/ ٤٥].
٤- الإمام: مثل قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل ١٦/ ١٢٠] أي رجلا جامعا للخير.
والمراد بها هنا في رأي كثير من المفسرين: الملة: أي أن جميع الأنبياء والرسل على دين واحد. وقال آخرون: إن الأمة في هذه الآية بمعنى الجماعة.
مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة. وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار. الْكِتابَ أي الكتب.
الْبَيِّناتُ الحجج الظاهرة على التوحيد. مِنْ بَعْدِ متعلقة باختلف، وهي وما بعدها مقدم على الاستثناء في المعنى. بَغْياً حسدا. مِنَ الْحَقِّ من بيانية. بِإِذْنِهِ بإرادته.
أَمْ حَسِبْتُمْ بمعنى بل أحسبتم، وبل: تفيد افتتاح كلام جديد. وَلَمَّا لم مَثَلُ وصف عظيم وحال ذات شأن.
244
مَسَّتْهُمُ جملة مستأنفة مبينة ما قبلها الْبَأْساءُ: شدة الفقر، وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته، كأخذ المال، والطرد من الديار، وتهديد الأمن، ومقاومة نشاط الدعوة إلى الله الضَّرَّاءُ المرض، وكل ما يصيب الإنسان في نفسه، كالجرح والقتل وَزُلْزِلُوا أزعجوا بأنواع البلايا، والزلزال: الاضطراب في الأمر. مَتى نَصْرُ اللَّهِ أي متى يقع نصر الله، وقَرِيبٌ خبر إن، وقريب: لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنثه في هذا المعنى، قال الله عز وجل: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف ٧/ ٥٦].
سبب النزول: نزول الآية (٢١٤) :
قال قتادة والسّدّي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق (الأحزاب) حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الأذى، وكان كما قال الله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب ٣٣/ ١٠] وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [الأحزاب ٣٣/ ١١]. أما المنافقون فقالوا: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب ٣٣/ ١٢] وقال صادقو الإيمان: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب ٣٣/ ٢٢].
وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، اشتد الضر عليهم، بأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم: أَمْ حَسِبْتُمْ.
المناسبة:
أمر الله تعالى في الآية السابقة المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة ويأخذوا الإسلام بجملته، دون تجزئة أو خلط بينه وبين غيره، وأبان في هاتين الآيتين مدى الحاجة إلى الرسل، وأن الاهتداء بهديهم ضروري للبشر، وأن من آمن
245
بدعوة الأنبياء قد يتعرض للمحنة والشدة والبلاء، فعليه بالصبر حتى يأذن الله بالفرج أو النصر، وإن إصرار هؤلاء على كفرهم هو بسبب حب الدنيا.
التفسير والبيان:
كان الناس (أي بنو آدم) في وضع يحتاجون فيه إلى الهداية الإلهية، فأنعم الله عليهم بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل، وأنزل مع بعضهم كتابا يرشدهم إلى الحق.
وما ذلك الوضع الذي كانت عليه البشرية قبل الرسل والأنبياء؟
قال الجمهور: كانت أمة هداية على ملة واحدة، ودين قويم واحد، وعقيدة واحدة وتشريع واحد وهو دين الإسلام، فاختلفوا فيما بينهم، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. روى أبو داود عن ابن عباس قال: «كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين» قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا». واستدلوا أيضا على صحة قولهم: بأن آدم عليه السّلام كان نبيا، وكان أولاده على ملته هادين مهتدين إلى أن وقع التحاسد بين ولديه، وكان من قتل أحدهما للآخر ما هو معروف.
وذهبت طائفة أخرى (ابن عباس وعطاء والحسن البصري) : إلى أن الأمة أمة الضلال التي لا تهتدي بحق، ولا تقف في أعمالها عند حد شريعة، ودليلهم:
ما اقتضاه وضعهم من إرسال الرسل، لتظهر مهمتهم بنحو معقول، وليحكموا بينهم في الاختلافات الناشئة عن فساد العقيدة، واتباع الأهواء الضالة في الأعمال، وإلا لم يكن هناك معنى أو حاجة للرسل.
246
وقال أبو مسلم الأصفهاني والقاضي أبو بكر الباقلاني: المعنى: كان الناس على سنة الفطرة، تأخذ بما يرشد إليه العقل في الاعتقاد والعمل، ولكن استسلام الناس إلى عقولهم بلا هدي إلهي، مما يدعو إلى الاختلاف، فكثيرا ما حالت الأوهام دون الوصول إلى المراد من العقائد والأحكام.
واختار صاحب تفسير المنار معنى آخر: وهو أن الإنسان اجتماعي بالخلقة، أي أن الله خلق الإنسان أمة واحدة، أي مرتبطا بعضه ببعض في المعاش، لا يسهل على أفراده أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا إلى الأجل الذي قدره الله إلا مجتمعين، يعاون بعضهم بعضا، ولا يمكن أن يستغني بعضهم عن بعض، فلا بدّ من انضمام قوى الآخرين إلى قوته، وهذا ما يعبر عنه بقولهم: «الإنسان مدني بالطبع» «١». ويكون المعنى أن الناس خلقوا ولهم صفة الجماعية والتجمع، وذلك يؤدي إلى التنافس والتنازع والاختلاف، فكان إرسال الرسل لفض النزاع بين البشر، والإرشاد إلى الحق والخير، وبيان الباطل والضلال.
وكان عدد النبيين مائة وأربعة وعشرين ألفا (١٢٤٠٠٠) والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر (٣١٣)، والمذكورون في القرآن بالاسم ثمانية عشر، وأول الرسل آدم، على ما جاء في حديث أبي ذرّ «٢»، وقيل: نوح، لحديث الشفاعة الذي قال له الناس فيه: أنت أول الرسل، وقيل: إدريس.
ثم أبان الله تعالى أنه أنزل مع النبيين الكتاب: وهو اسم جنس بمعنى الكتب، وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة.
ومهمة الكتاب أن يكون مصدرا للتشريع والحكم والفصل بين الناس في الخلافات، وهداية الناس إلى العقيدة الحقة، والآداب الفاضلة، والأعمال
(١) تفسير المنار: ٢/ ٢٢٥
(٢) أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي.
247
الصالحة، وتحذيرهم من عاقبة الشرّ والفساد، والبعد عن الأهواء والتأويلات الباطلة، فهو ملتبس بالحق دائما. وهذا موافق لما عبرت عنه آية أخرى وهو النطق بالحق: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية ٤٥/ ٢٩] وآية الهدى والتبشير في القرآن: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ [الإسراء ١٧/ ٩]، فكل كتاب سماوي هو الحق والحكم الفصل في أمور الدنيا والدين.
وعبر بالكتاب عن كتب النبيين وإن تعددت للإشارة إلى أنها في جوهرها كتاب واحد، ومشتملة على شرع واحد في الأصول.
ثم ذكر الله تعالى أن بعض أهل الكتاب جعلوا كتابهم مصدر الاختلاف عدوانا وتجاوزا للحق، فقال: لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحق، بعد ما جاءتهم البينات الواضحة والأدلة على سلامة الكتاب وعصمته من إثارة الخلاف، وأنه لإسعاد الناس، لا لإشقائهم والتفريق بينهم، ولم يكن ذلك الاختلاف من أولي العلم القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، والمطالبين بتقرير ما فيه إلا حسدا وبغيا (جورا) منهم، وتعديا لحدود الشريعة التي أقامها حواجز للناس. ولكن هذه الجناية من هؤلاء الرؤساء على أنفسهم وعلى الناس لا تقدح في هداية الكتاب إلى الحق، فليس العيب فيه، وإنما في القائمين عليه.
غير أن الإيمان الصحيح مع سلامة القصد يهدي إلى الحق ويمنع الاختلاف، وإن المؤمنين هم الذين يهتدون لما اختلف الناس فيه من الحق، ويصلون إلى ما يرضي ربهم، بتوفيقه وإنعامه، والله يهدي دائما إلى الطريق المستقيم. أما الذين يؤولون الدين بحسب أهوائهم فهم في ضلال وفساد وشرّ، ولهم العذاب الأليم عند الله، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ، وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٩].
248
وبعد إيراد هذه الصورة القبيحة لفعل العلماء بكتاب الله، حثّ الله رسوله والمؤمنين على الثبات والصبر وتحمل المشاق في أثناء مواجهة الكفار، فإنهم متعرضون لأنواع من البلاء والمحن، كما تعرض الأنبياء السابقون لمختلف أنواع الشدائد ومقاساة الهموم، فصبروا وثبتوا، حتى تحقق لهم الفرج والنصر، لأن دخول الجنان والفوز برضوان الله يتطلب الجهاد، وتحمل الشدائد، والصبر على الأذى، واجتياز محنة الفتنة والاختبار بنجاح وثبات، دون تسخط ولا تبرم ولا ضجر، ولا انحراف عن خط الهداية، والقيام بأعباء التكاليف الإلهية.
وليس للمؤمن الحق أن يستبطئ النصر، فإن نصر الله لأوليائه وأحبائه قريب.
هذا مثل صادق للعبرة والعظة بما تعرض له الأنبياء السابقون وأتباعهم المؤمنون، فأنتم أيها المسلمون في صدر الإسلام، لم تبتلوا مثل ابتلائهم، مسّتهم الشدة والخوف والفقر والآلام والأمراض، وأزعجوا إزعاجا شديدا، حتى اضطر الألم والقسوة إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بالله تعالى وأوثق بنصره: متى نصر الله؟ حيث كاد أن ينفد صبرهم من هول ما لا قوا، فأجيبوا: ألا إن نصر الله قريب التحقق والحصول، وكما قال تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، جاءَهُمْ نَصْرُنا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف ١٢/ ١١٠].
وفي هذا كله (موقف الأنبياء وموقف المسلمين الأوائل) عبرة لمن يأتي بعدهم، ويظنون أن الإسلام عبادة فقط، دون أن يمروا بشيء من الاختبار، أو يتعرضوا لنوع من الإيذاء، والمصائب والشدائد، جهلا منهم بسنة الله في ابتلاء أهل الهداية، من أجل التعرف على مدى قدرتهم في الثبات على الحق والإيمان، وما تتطلبه الدعوة إلى الله من عناء ومقاساة، قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ١٥٥] وقال عز وجل: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
249
أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ
[العنكبوت ٢٩/ ١- ٣]. وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران ٣/ ١٤٢].
بل ولم يصل المسلمون في الماضي أو الحاضر إلى ما تعرض له الرسل السابقون، فقد قتل بعضهم، ونشر بعضهم بالمنشار وهو حيّ «١»، وأحرق بعض المؤمنين بالنار، كما فعل بأصحاب الأخدود باليمن بإخبار الله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج ٨٥/ ٤- ٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الحاجة إلى الرسل والأنبياء والكتب السماوية قائمة ومؤكدة في كل زمان ومكان، لأنهم يرشدون الناس إلى الدين الحق، والاعتقاد الصحيح، ويبينون للناس طريق الحياة الصحيحة، ومنهج السعادة في الدنيا والآخرة، ويضعون الحدود الواضحة بين الحق والباطل، ويفصلون بالعدل في منازعات الناس.
ولا تصلح الفطرة أو الطبيعة بمجردها سبيلا للهداية والرشد، لأنها مجهولة وغائمة وغير منضبطة، كما لا تصلح العقول البشرية لتسيير شؤون الحياة، فهي متفاوتة، مضطربة أحيانا، عاجزة وقاصرة عن إدراك الحقائق، وإذا أدركت
(١)
روى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
250
بعض عقول الحكماء سبيل الحق ونطقت بالحكمة، فذلك محصور في فئة قليلة من الناس، ولا يستقيم القول أو يظهر صدق النظرية التي يقررها العالم إلا بعد أن تمرّ بتجارب طويلة، وحلقات متواصلة من البحث والدراسة والتأمل والفكر، فيتضرر الناس الذين ينتظرون نتائج مصداقية القول أو الحكمة إلى زمن قد يطول وقد يقصر، وربما تأثر الإنسان بالأهواء والشهوات، أو بالمنافع والمصالح الخاصة، فلا يكتب لرأيه القبول أو النجاح.
فكان من حكمة الله تعالى وفضله ورحمته إرسال الرسل والأنبياء ليقودوا الفطرة والعقل البشري إلى ما هو خير للدنيا والآخرة، قبل فوات الأوان، والوقوع في العثرات، وانتظار ما تسفر عنه التجارب والنظريات، ولإقرار الحق والعدل، دون التأثر برعاية مصلحة خاصة.
وقد صحح الله أخطاء الأفهام وبيّن وجه الخطأ في ظن الصواب، من بعد ما جاءهم العلم، وسطعت البينات (الدلائل على عصمة الكتاب من وصمة إثارة الخلاف) وهو ما استدركته الآية: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ.. ومفاد الاستدراك:
أن غرائز البشر وحدها ليست كافية في توجيه أعمالهم إلى ما فيه صلاحهم، فلا بدّ لهم من هداية أخرى تعليمية تتفق مع القوة المميزة لنوعهم، وهي قوة الفكر والنظر، تلك الهداية التعليمية هي هداية الرسل منهم، والكتب التي ينزلها الله عليهم، مع الأدلة القائمة على عصمة الرسل من الكذب، وعصمة الكتب من الخطأ، فعلى الناس أن يستعملوا عقولهم في فهم الأدلة على الرسالة والعصمة أولا، وإذا فهموها استعدوا حتما للتصديق بدعوة الرسل. وإذا آمنوا بتلك الدعوة، وعقلوا ما جاءت به الرسل، وجب عليهم أن يلازموه ولا يعدلوا عنه «١».
وأرشدت آية أَمْ حَسِبْتُمْ.. إلى أن للإيمان حقوقا وواجبات تؤدي إلى
(١) تفسير المنار: ١/ ٢٢٨ وما بعدها. [.....]
251
سعادة الدارين، فمن أهملها أو فرط بها حرم النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على سلف هذه الأمة، من السيادة والعزة. وإن الجنة لا تنال بغير ثمن، ولا تفيد الأماني شيئا، وما على المسلم إلا أن يكون مقدرا لدوره ورسالته في الحياة، فلا يكفيه مجرد الإيمان القلبي، وإنما لا بدّ له من أعمال جسام، وتضحيات عظام، ومجاهدة نفس حتى يهذبها ويصلح عيوبها، وتعاون على البرّ والتقوى، وهجر لزينة الدنيا والافتتان بها، وعمل خالص للآخرة، وإرضاء لله وحده، دون أن يشوبه شائبة رياء أو سمعة أو شهرة زائفة.
وإذا أعيد تكوين المسلم على طراز تربية السلف الصالح، أمكن تحقيق العزة الإسلامية المنشودة، والنصر المرجو على الأعداء، بعد استكمال وسائل القوة اللازمة المكافئة لقوى العدو، والتخطيط لبناء الأمة، ووضع أسس النهضة والتقدم موضع التنفيذ الفعلي بكل حزم وإصرار وإخلاص.
مقدار نفقة التطوع ومصرفها
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
الإعراب:
ماذا ما: مبتدأ، وذا: الخبر، وهو بمعنى الذي. ما أَنْفَقْتُمْ ما: في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط، والجواب: فللوالدين. وكذا: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ شرط، وجوابه: فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
المفردات اللغوية:
مِنْ خَيْرٍ من مال كثير طيب، وسمي به لأن حقه أن ينفق في وجوه الخير، وهو شامل
252
للقليل والكثير. وَالْأَقْرَبِينَ هم الأولاد وأولادهم ثم الإخوة. واليتيم: من فقد والده وهو صغير.
والمسكين: من عجز عن كسب ما يكفيه ورضي بالقليل. وابن السبيل: المسافر. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ إنفاق أو غيره. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلمه ويجازي عليه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين يضعون أموالهم، فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ.
وأخرج ابن المنذر عن أبي حيان: أن عمرو بن الجموح سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها، فنزلت.
ويؤيده ما
قال ابن عباس في رواية أبي صالح: نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول الله، بماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
ذكر في الآيات السابقة أن حب الدنيا هو سبب الشقاق والخلاف، وأن المؤمنين بحق هم الذين يتحملون الشدائد في أموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوان الله، فناسب أن يذكر ما يرغب الإنسان في الإنفاق في سبيل الله، لأن الكسب والإنفاق يتطلبان الصبر والسماحة، وبذل المال كبذل النفس، كلاهما من آيات الإيمان.
هذا مع العلم بأنه لا حاجة إلى التناسب بين كل آية وما يتصل بها، لا سيما إذا كانت الأحكام المسرودة أجوبة لأسئلة وردت، أو كان من شأنها أن ترد، وذلك للحاجة إلى معرفة حكمها كهذه الآية، والسؤال عنها وقع بالفعل «١»، كما ذكرنا في سبب النزول.
(١) تفسير المنار: ٢/ ٢٤٤
253
ويلاحظ ما ذكرناه سابقا: أن بداية سورة البقرة إلى ما قبل آية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ (١٧٢) في القرآن والرسالة، وأن هذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ (٢٤٣) في سرد الأحكام العملية.
وهذه الآية بيان لمصرف ما ينفقونه.
التفسير والبيان:
يسألك أصحابك يا محمد عن مقدار ما ينفقون نفقة تطوع، لا الزكاة الواجبة، وعن بيان الجهة (أو المصرف) التي ينفقون فيها. فأجبهم أن أي مقدار تنفقونه قليلا كان أو كثيرا، فثوابه خاص بكم، وأن جهات الإنفاق: إعطاء الوالدين (الأب والأم) والأولاد، لأنهم قرابة قريبة، ثم بقية الأقارب، للأقرب فالأقرب، ثم اليتامى الذين مات كافلهم، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب، ثم إعطاء المسافرين الذين انقطعوا في الطريق إلى بلادهم، وكل ما تنفقونه في وجوه البرّ والطاعة مطلقا، فإن الله سيجازي به، لأنه عليم بكل شيء، لا يغيب عنه شيء، فلا ينسى الجزاء والثواب عليه، بل يضاعفه.
والأصح أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، فهي لبيان صدقة التطوع، لأنها لم تعين مقدار المنفق، والزكاة الشرعية معينة المقدار بالإجماع «١».
وترتيب جهات الإنفاق يظهر فيما
رواه أحمد والنسائي عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: تصدقوا، فقال رجل: عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال:
تصدق به على خادمك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به.
(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ١/ ٣٢٠
254
وفي رواية عطاء: نزلت الآية في رجل أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن لي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: إن لي دينارين، فقال: أنفقهما على أهلك، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: أنفقها على خادمك، فقال: إن لي أربعة، فقال: أنفقها على والديك، فقال: إن لي خمسة، فقال: أنفقها على قرابتك، فقال: إن لي ستة، فقال: أنفقها في سبيل الله، وهو أخسها».
وقد بينت الآية أن صدقة التطوع للوالدين والأقربين أفضل، بدليل ما
روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر النساء، تصدقن ولو بحليكن» فقالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود لزوجها: أراك خفيف ذات اليد، فإن أجزأت عني فيك صرفتها إليك، فأتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فسألته، فقالت: أتجزي الصدقة على زوجي، وأيتام في حجري، فقال لها النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لك أجران: أجر الصدقة وأجر القرابة»، وفي رواية: «زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه».
وروى مسلم عن جابر أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك، فتصدق عليها».
وروى النسائي وغيره أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يد المعطي العليا: أباك، وأمك، وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك»
ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص».
وكون الجواب في الآية أتى ببيان المنفق عليه، مع أنهم سألوا عن المنفق: هو على أسلوب الحكيم، فقد سألوا عن شيء، وأجابهم عما هو أهم منه: وهو بيان مواطن الإنفاق، لأن الإنفاق لا يحقق الخير حتى يصادف موقعه.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية لبيان مصارف صدقة التطوع، ومنها أنه يجب على الرجل الغني أن
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤٦، والكاشح: الذي يضمر لك العداوة.
255
ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحان في قدر حالهما، من طعام وكسوة وغير ذلك.
وهل على الولد تزويج أبيه؟ قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، سواء كانت أمّه أو أجنبية. وإنما قال مالك:
ليس عليه أن يزوج أباه، قال القرطبي: لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب عليه أن يزوجه، لولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. أما ما يتعلق بالعبادات من الأموال، فليس عليه أن يعطيه ما يحجّ به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام «١».
وقال الشافعية على المشهور: يلزم الولد ذكرا كان أو أنثى إعفاف الأب والأجداد، لأنه من وجوه حاجاتهم المهمة كالنفقة والكسوة، ولئلا يعرضهم للزنا المفضي إلى الهلاك، وذلك لا يليق بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمعروف المأمور بها شرعا «٢».
ودلت الآية على معان منها:
١- أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله، وينتظم ذلك الصدقات من النوافل والفروض.
٢- أن الأقرب فالأقرب أولى بالنفقة، لقوله تعالى: فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مع
بيان النّبي عليه السّلام. لمراد الله بقوله المتقدم: «ابدأ بمن تعول: أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك».
٣- فيها الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الولد، كما بينا.
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٣٧
(٢) مغني المحتاج: ٣/ ٢١١ وما بعدها.
256
واقتصر الإيجاب عليهم دون نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكرتهم الآية، لأن هؤلاء داخلون في الزكاة والتطوع،
وللحديث المرفوع عن أبي هريرة: «دينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أعطيته مسكينا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أنفقته على أهلك، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا»
وعن ابن مسعود عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله، كانت له صدقة».
فرضية القتال وإباحته في الأشهر الحرام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٦ الى ٢١٨]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
الإعراب:
قِتالٌ بدل اشتمال من الشهر، والهاء في فِيهِ: تعود على الشهر، وبدل الاشتمال لا بد أن يعود ضمير منه إلى المبدل منه.
قُلْ: قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: الْقِتالُ: مبتدأ، وجاز الابتداء به مع كونه نكرة، لأنه
257
وصفه بقوله: فيه، فتخصص، والنكرة إذا تخصصت جاز أن تكون مبتدأ. وكَبِيرٌ: خبر المبتدأ.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ، وعطف عليه: وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ، وخبر الثلاثة: أكبر عند الله.
البلاغة:
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي مكروه، وضع المصدر موضع اسم المفعول للمبالغة. وهناك ما يسمى في علم البديع بالمقابلة بين جملتي: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وقوله وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه ما يسمى طباق السلب.
المفردات اللغوية:
كُتِبَ فرض الْقِتالُ للكفار كُرْهٌ مكروه وَعَسى هنا للإشفاق لا للترجي، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر وَصَدٌّ منع للناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وَكُفْرٌ بِهِ بالله الْمَسْجِدِ الْحَرامِ مكة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون أَكْبَرُ أعظم وزرا عِنْدَ اللَّهِ من القتال فيه. وَالْفِتْنَةُ أي فتنة المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم، حتى يهلكوا «١» وَمَنْ يَرْتَدِدْ يرجع حَبِطَتْ بطلت وفسدت في الدنيا والآخرة، فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها. والتقييد بالموت فَيَمُتْ على الردة يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام، لم يبطل عمله، فيثاب عليه ولا يعيده، كالحج مثلا، وهو مذهب الشافعي، ورأى مالك وأبو حنيفة: أنه يعيده آمَنُوا ثبتوا على إيمانهم وهاجَرُوا فارقوا أوطانهم وأهلهم وَجاهَدُوا من الجهد: وهو المشقة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه يَرْجُونَ يتوقعون النفع باتخاذ الأسباب رَحْمَتَ اللَّهِ أي ثوابه.
سبب النزول:
نزول الآية (٢١٦) :
قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين شق عليهم وكرهوا، فنزلت هذه الآية.
(١) هذا رأي الجمهور، وهو أن ذلك أشد إجراما من قتلكم في الشهر الحرام، وقال مجاهد وغيره:
الفتنة هنا: الكفر أو الشرك، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك.
258
نزول الآية (٢١٧) :
أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رهطا وبعث عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، فلقوا ابن الحضرمي، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ
فسبب نزولها قصة عبد الله بن جحش باتفاق المفسرين.
وقال المفسرون: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليترصدوا عيرا «١» لقريش فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون معه، فقتلوه وأسروا اثنين، واستاقوا العير، وفيها عير لقريش تحمل زبيبا وأدما، وتجارة من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لهم عند ما قدموا عليه: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأوقف توزيع الغنيمة، وقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، وهو الشهر الذي يأمن فيه الخائف، ويسعى الناس فيه إلى معايشهم «٢».
وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا، فليس لهم أجر، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآية.
المناسبة:
ذكرت أحكام القتال بعد أحكام الصدقة (نفقة التطوع) لما بينها من الصلة
(١) العير: الإبل التي تحمل الميرة.
(٢) أسباب النزول للواحدي بتصرف وإيجاز: ص ٣٦- ٣٨
259
الوثيقة، فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، والمال قرين الروح، والإنفاق جهاد بالمال، فناسب أن يذكر الجهاد الذي هو أسمى من بذل المال، لأنه يستقيم به الدين، ويحتاج إلى بذل المال والنفس.
التفسير والبيان:
فرض عليكم معشر المسلمين قتال الكفار، فرض كفاية إن تحققت الحاجة، فإن لم تتحقق ودخل العدو بلاد المسلمين، كان فرض عين. قال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين. وقال عطاء: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما استقر الشرع، صار على الكفاية «١».
والقتال مكروه لكم وشاق عليكم طبعا، لما فيه من بذل المال وتعريض النفس إلى الهلاك، وهذه الكراهة الطبيعية لا تنافي الرضا بما يكلف به الإنسان، فهو قد يرضى بتناول المرّ لما فيه من النفع. ولعلكم تكرهون شيئا طبعا، وفيه خير ونفع لكم فيما بعد، لأن فيه إما الظفر والغنيمة، أو الشهادة والأجر، ومرضاة الله، وفي الجهاد إعلاء كلمة الإسلام ورفع منارة الحق والعدل ودفع الظلم، ولعلكم تحبون شيئا كترك القتال، وهو في الواقع شر لكم، لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر، وتسلط الأعداء على بلاد المسلمين وأموالهم، واستباحة حرماتهم، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء عليهم.
والله يعلم أنه خير لكم في عاجل أمركم، ولا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة لكم، وأنتم لقصور علمكم لا تعلمون ما يعلمه الله، فلا تركنوا إلى القعود عن واجب الجهاد، فإنه شر لكم، لأن الدنيا قامت على التدافع، وبادروا إلى ما يأمركم به ربكم، واحذروا الميل مع طباعكم وأهوائكم، فقد سبق في علم الله أنه سيظهر دينه
(١) البحر المحيط: ٢/ ١٤٣
260
وينصر أهله على قلتهم، ويخذل المبطلين على كثرتهم، كما قال: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩].
والله الذي فرض عليكم القتال يعلم أيضا أن هؤلاء الأعداء لا ينفع معهم إلا القتل والتشريد والإذلال، حتى لا يعودوا إلى الاعتداء على المسلمين أبدا.
وقد اختلف العلماء فيمن كتب عليهم القتال في هذه الآية:
فقال الأوزاعي وعطاء: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد.
وقال الجمهور: إن القتال فرض على جميع المسلمين بحسب الحاجة أو الحال، فإن كان الإسلام غالبا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو غالبا فهو فرض على الأعيان، حتى يتحقق النصر. وهذا هو الراجح،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
وهذه الآية أول آية فرض فيها القتال، وذلك في السنة الثانية للهجرة، إذ كان القتال على المسلمين محظورا في مكة، ثم أذن الله لهم في مقاتلة المقاتلين من المشركين بعد الهجرة إلى المدينة، بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج ٢٢/ ٣٩]، ثم أبيح القتال لكل المشركين، ثم فرض الجهاد.
وأحدثت قضية قتل الحضرمي على يد سرية عبد الله بن جحش اضطرابا وتساؤلا، حكاه القرآن، فقال تعالى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام وهو رجب، هل هو حلال أو حرام؟.
فقل لهم: نعم، القتال فيه كبير الإثم والجرم وهو أمر مستنكر، لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ، ولكن صد قريش عن سبيل الله بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، والكفر
261
بالله، والصد عن المسجد الحرام (مكة) بمنع المسلمين من الحج والعمرة، وإخراج أهله من مكة وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، كل ذلك أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام، والفتنة أشد من القتل، فأعمالهم المنكرة وفظائعهم الوحشية مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم أكبر بكثير من قتل الحضرمي، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخف الضررين وأهون الشرين.
وما يزال أولئك المشركون أو الكفار على الشر والمنكر وقتال المسلمين حتى يردوهم عن دينهم، ويحاولوا استئصال الإسلام من قلوبهم. ومن يوافقهم ويرتد عن دينه، ويموت كافرا ولا يتوب بالرجوع إلى الإسلام، فقد بطل عمله، وذهب ثوابه وأجره، وصار هباء منثورا، وأصبح من أهل النار خالدا فيها، وهذا جزاء الكافرين المرتدين.
وأما المجاهدون في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأمثاله، فهم الذين صدقوا بالله ورسله، وفارقوا الأهل والأوطان، وتركوا مساكنة المشركين في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فهاجروا خوفا من الفتنة في الدين، ولإعلاء كلمة الله ونصرة دينه، وحاربوا في سبيل الله، ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأولئك يطمعون في رحمة الله، وأولئك هم الكمّل، فالله يجازيهم أحسن الجزاء، ويستر ذنوبهم، ويرحمهم بفضله وإحسانه، وهو الغفور الرحيم بهم وبأمثالهم.
هذا المعنى على أن السائلين من الصحابة.
وهناك رواية أخرى «١» : وهي أن وفدا من المشركين سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام، وحينئذ يكون المعنى: أن المشركين متناقضون، يتمسكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن
(١) اختلف في السائلين عن ذلك، فقال الحسن البصري وغيره: إن الكفار هم الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة العيب على المسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وقال آخرون: المسلمون سألوا عن ذلك، ليعلموا كيف الحكم فيه (أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٣٢٢).
262
سبيل الله، والكفر بالله، والمنع من المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أن الجهاد فرض، وهو امتحان للمؤمن، وطريق إلى الجنة، ويراد به قتال الأعداء من الكفار، ولم يؤذن للنبي صلّى الله عليه وسلّم في القتال مدة إقامته بمكة ثلاثة عشر عاما، فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج ٢٢/ ٣٩] ثم أذن له في قتال المشركين عامة.
وإنما كان الجهاد كرها، لأن فيه إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل، والتعرض بالجسد للشّجاج والجراح وقطع الأطراف وذهاب النفس، فكانت كراهيتهم لذلك، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال عكرمة في هذه الآية:
إنهم كرهوه ثم أحبّوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة، لكن إذا عرف الثواب، هان في جنبه مقاساة العذاب، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدق.
وبالرغم من كراهة الجهاد لما فيه من المشقة، فإنه سبيل العزة والغلبة والنصر، أو الشهادة، وعند ما ترك المسلمون الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، وتفرقت كلمتهم، وتشتتت وحدتهم، استولى العدو على بلادهم في الأندلس وفلسطين وغيرهما.
ودلت الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، لأن آية القتال عامة وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاص.
ولكن الجمهور على نسخ هذه الآية، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح، والناسخ في قول الزهري: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] أو:
263
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩].
وقال المحققون: نسخها قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] يعني أشهر التسيير في آية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة ٩/ ٢] فلم يبق لهم حرمة إلا لزمان التسيير.
ويؤيدهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس «١» لمحاربة المشركين، وكان ذلك في الشهر الحرام.
قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية رد على المشركين حين أعظموا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم القتال في الشهر الحرام، فقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفتنة- وهي الكفر- في الشهر الحرام أشد من القتل، فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام، تعيّن قتالكم فيه «٢».
والأشهر الحرم: هي رجب، وذو القعدة وذو الحجّة والمحرم، ثلاثة سرد، وواحد فرد «٣».
وإن انتهاك حرمات المسلمين بفتنتهم عن دينهم وتعذيبهم وطردهم من ديارهم، وهي جرائم مادية محسوسة، أشد جرما من انتهاك حرمة الشهر الحرام، وهي مسألة معنوية.
ودلت آية وَلا يَزالُونَ على تحذير المؤمنين من شر الكفرة، بنحو دائم.
(١) هو أبو عامر الأشعري، ابن عم أبي موسى الأشعري. وأوطاس: واد في ديار هوازن، وفيه كانت وقعة حنين.
(٢) أحكام القرآن: ١/ ١٤٧
(٣) سرد أي تتابع، وهي ما عدا رجب، ورجب فرد مستقل، لأنه يفصل بينه وبين ذي القعدة ثلاثة أشهر، وهي شعبان ورمضان وشوال.
264
علة مشروعية القتال:
صرح القرآن الكريم بعلة مشروعية القتال، وهي فتنة المسلمين عن دينهم، فقال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة ٢/ ٢١٧] وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات أو بتعذيبهم، كما فعلوا بعمار بن ياسر وأسرته، وبلال، وخبّاب بن الأرت وصهيب وغيرهم، فقد عذبوا عمارا بكيّ النار ليرجع عن دينه،
وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يمر به، فيرى أثر النار به كالبرص، وعذبوا أباه وأخاه وأمه، عن أم هانئ قالت: إن عمار بن ياسر وأباه وأخاه عبد الله، وسميّة أمه كانوا يعذبون في الله، فمرّ بهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة».
مات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية أم عمار لأبي جهل يعذبها- وكانت مولاة لعمه أبي حذيفة بن المغيرة- فعذبها عذابا شديدا رجاء أن تفتن في دينها، فلم تجبه لما يسأل، ثم طعنها في فرجها بحربة فماتت رضي الله عنها، وكانت عجوزا كبيرة.
وكان أمية بن خلف يعذب بلالا ليفتنه عن دينه، فكان يجيعه ويعطشه ليلة ويوما، ثم يطرحه على ظهره في الرمضاء (الرمل المحمى بحرارة الشمس) ويضع على ظهره صخرة عظيمة، ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى، فيأبى ذلك، وتهون عليه نفسه في سبيل الله عز وجل، وكانوا يعطونه للولدان، فيربطونه بحبل ويطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: «أحد، أحد».
وعذب خباب رضي الله عنه بإلقاء النار على ظهره.
بل إنهم آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوضعوا سلا الجزور (كرش البعير المملوء بالفرث) على ظهره، وهو يصلي عند الكعبة، حتى نحّته فاطمة
265
رضي الله عنها، وآذوه بأنواع أخرى كثيرة من الإيذاء، كفاه الله شرها، كما قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر ١٥/ ٩٥].
الارتداد والمرتد:
إن آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر، تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام. واتفق المسلمون على أن الردة تحبط أي تبطل الأعمال وتفسدها، وهل الإحباط مشروط بالموت «١» ؟.
أخذ الشافعي من الآية:... فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ: أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا، وظاهر الآية يؤيده، ويدل على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت صاحبها على الكفر. ورأى مالك وأبو حنيفة: أن الردة بمجردها محبطة للعمل، حتى ولو رجع صاحبها إلى الإسلام، اعتمادا على عموم قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر ٣٩/ ٦٥] وقوله: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام ٦/ ٨٨] وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة ٥/ ٥] وهذه الآيات في الردة فقط، وقد علق الحبوط فيها بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو مراد به أمته، لاستحالة الشرك عليه. أما آية وَمَنْ يَرْتَدِدْ.. الواردة هنا فرتبت حكمين:
الحبوط، والخلود في النار، ومن شروط الخلود: أن يموت على كفره.
ورأى الشافعية: أن آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ من باب التغليظ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كما غلظ على نسائه في قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب ٣٣/ ٣٠].
وتظهر ثمرة الخلاف فيمن حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك وأبو حنيفة:
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤٧- ١٤٨، تفسير القرطبي: ٣/ ٤٨ [.....]
266
عليه الحج، لأن ردته أحبطت حجه. وقال الشافعي: لا حج، لأن حجه قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره.
وهل يستتاب المرتد قبل قتله؟
قال الحنفية: يستحب أن يستتاب المرتد، ويعرض عليه الإسلام، لاحتمال أن يسلم، لكن لا يجب، لأن دعوة الإسلام قد بلغته، ودليلهم أن بعض الصحابة قتلوا في عهد عمر رجلا كفر بالله تعالى بعد إسلامه، ولم يستتيبوه «١».
وقال الجمهور: تجب استتابة المرتد قبل قتله ثلاث مرات،
لأن امرأة يقال لها: «أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت»
«٢» وثبت عن عمر وجوب الاستتابة.
وأما ميراث المرتد: فلورثته من المسلمين في رأي علي والحسن البصري وجماعة. ولبيت المال في رأي مالك والشافعي وأحمد،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم» «٣».
وقال أبو حنيفة: ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء لبيت المال، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام، ثم ارتد، يرثه ورثته المسلمون.
وقال أبو يوسف ومحمد وابن شبرمة: ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين.
وبعد معرفة حال المشركين وحكم المرتدين، بين تعالى جزاء المؤمنين المهاجرين «٤» والمجاهدين: وهو استحقاق الفوز والفلاح والسعادة، وإسباغ
(١) رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي.
(٢) رواه الدارقطني والبيهقي عن جابر، وإسناده ضعيف.
(٣) رواه أحمد والأئمة الستة عن أسامة بن زيد.
(٤) الهجرة: معناها الانتقال من موضع إلى موضع، وقد كانت في مبدأ الإسلام فرضا من مكة إلى المدينة.
267
الرحمة والإحسان والفضل الإلهي والمغفرة والنعمة. وإنما عبّر سبحانه عن هذا الجزاء الحسن بقوله: يَرْجُونَ وقد مدحهم، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة، ولو بلغ في الطاعة كل مبلغ، وذلك لأمرين:
أحدهما- لا يدري بم يختم له.
والثاني- لئلا يتّكل على عمله، والرجاء مصحوب أبدا بالخوف، كما أن الخوف معه رجاء.
والهجرة التي امتدح الله بها المؤمنين كانت فرضا على المسلمين من مكة إلى المدينة، ثم نسخت
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»
ومع ذلك يؤخذ من علة وجوب الهجرة في عهد التشريع أنها تجب بمثل تلك العلة في كل زمان ومكان، فلا يجوز لمؤمن أن يقيم في بلاد يفتن فيها عن دينه، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده، أو عمل بما يجب عليه.
المرحلة الثانية من مراحل تحريم الخمر وحرمة القمار
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
الإعراب:
ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ماذا كلمة واحدة منصوبة بفعل: يُنْفِقُونَ.
والْعَفْوَ: منصوب ب: ينفقون المقدر، وتقديره: قل: ينفقون العفو. وقرئ: الْعَفْوَ بالرفع على أن ما استفهامية مبتدأ، وذا خبره، ويُنْفِقُونَ: صلته، والعفو خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو العفو.
268
البلاغة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فيه إيجاز بالحذف، أي عن تعاطيهما، بدليل قوله تعالى:
قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فيه إطناب، وهو التفصيل بعد الإجمال.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فيه تشبيه مرسل مجمل، أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن حكم شربهما وتعاطيهما. والسائلون: هم المؤمنون.
والخمر: من خمر الشيء: إذا ستره وغطاه، سميت بها، لأنها تستر العقل وتغطيه. وهي عند الحنفية: النيء من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، وتطلق في رأي الجمهور على عصير العنب والتمر والذرة وكل ما يسكر. والميسر: القمار، مأخوذ من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب بلا جهد ولا مشقة. قال مجاهد: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالخرز. وكان قمار العرب في الجاهلية بالأقداح أو الأزلام وهي عشرة، سبعة يكتب على كل واحد منها نصيب معلوم، وثلاثة غفّل لا نصيب لها، كانوا يشترون جزورا نسيئة (لأجل) وينحرونه قبل أن ييسروا، ويقسمونه ٢٨ قسما أو ١٠ أقسام، ويجعلون الأقداح العشرة في كيس يحركها شخص ثقة منهم، ويدخل يده، فيخرج منها الأقداح، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يشترك معهم.
فِيهِما في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ الإثم: الذنب، ولا ذنب إلا فيما كان ضارا من قول أو فعل، والضرر إما في البدن أو النفس أو العقل أو المال. والكبير: العظيم، وسبب الوقوع في الإثم: ما يقع بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش.
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ باللذة والفرح في الخمر وتحقيق الربح بالتجارة فيها، وإصابة المال بلا كدّ ولا جهد في الميسر، فهي منافع اقتصادية أو شهوانية.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي ما ينشأ عنهما من المفاسد وعقاب التعاطي أعظم من نفعهما:
وهو الالتذاذ بشرب الخمر، ولعب القمار، والطرب فيهما، وسلب الأموال بالقمار والافتخار على الأقران، فالكثرة تعني أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة.
269
الْعَفْوَ: الفضل والزيادة عن الحاجة التي يحتاجها الإنسان هو ومن يعوله، فلا ينفق ما يحتاج إليه ويضيع نفسه.
سبب النزول:
نزلت آية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: «قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهما، فنزلت الآية، فقال الناس: ما حرّم علينا، إنما قال: إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر، حتى كان يوم، صلى رجل من المهاجرين، وأمّ الناس في المغرب، فخلّط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء ٤/ ٤٣]. ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة ٥/ ٩٠] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا: انتهينا ربّنا».
من هذه الرواية وغيرها يتبين أن تحريم الخمر مرّ في أربع مراحل تدرج فيها التشريع لينقل الناس من الأخف إلى الأشد تدريجيا، وتلك سياسة تربوية ناجحة، فلو قيل لهم دفعة واحدة: لا تشربوا الخمر، لقالوا جميعا: لا ندع الخمر، فنزل في الخمر أربع آيات في مكة، لمعالجة الإدمان على الخمر، وتخليص الناس من هذا الداء العضال:
الأولى- وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل ١٦/ ٦٧]
(١) البحر المحيط: ٢/ ١٥٦
270
فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال.
والثانية- قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة ٢/ ٢١٩]، التي نزلت كما بينا باستفتاء عمر ومعاذ ونفر من الصحابة، فشربها قوم، وتركها آخرون.
والثالثة- لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء ٤/ ٤٣] نزلت بعد أن دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا من الصحابة، فشربوا وسكروا، فأمّ بعضهم، فقرأ: قُلْ: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «أعبد ما تعبدون» فنزلت، فقلّ بعدها من يشربها، وامتنعوا عن شربها نهارا، لأن أوقات الصلاة متقاربة، وشربوها ليلا.
والرابعة- إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ التي نزلت بعد أن دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير، فشجه شجّة موضحة، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمر: «اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة ٥/ ٩٠- ٩١] فقال عمر: انتهينا يا رب «١».
قال القفّال: والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيرا، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.
وأما سبب نزول قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ:
فهو ما
أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في
(١) تفسير الكشاف: ١/ ٢٧٢
271
سبيل الله، أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ
والسائل هم المؤمنون، وهو الظاهر من واو الجماعة، وقيل: السائل:
عمرو بن الجموح. والنفقة هنا: قيل: في الجهاد، وقيل: في الصدقات أي التطوع في رأي الجمهور، وقيل: في الواجب أي الزكاة المفروضة «١».
المناسبة:
أبان الله تعالى في الآيات السابقة أحكام القتال، وذلك أمر له صلة بالعلاقات الخارجية، ثم انتقل إلى إصلاح الأوضاع الداخلية، على أساس من الفضيلة والكرامة والتضامن الاجتماعي وطهر الاعتقاد وطهر الجسد، ولا بد لكل نهضة أو رسالة من الإصلاح الخارجي والداخلي، لتتمكن من تحقيق المسيرة الظافرة والأمجاد السامقة، وبناء الأمة (أو الجماعة) والفرد على أسس متينة ودعائم وطيدة الأركان.
وكانت هذه الآية كسابقتها وتاليها إجابة عن أسئلة الصحابة، قال ابن عباس: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة، كلهن في القرآن: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة ٢/ ٢٢٢]، يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة ٢/ ٢١٧]، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة ٢/ ٢٢٠]، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم «٢».
التفسير والبيان:
يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، ولعب الميسر، أحلال هما أم حرام؟ ومثل شرب الخمر: بيعها وشراؤها وكل الوسائل التي تساعد أو تؤدي إلى
(١) البحر المحيط: ٢/ ١٥٨
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٤٠
272
تناولها. قل لهم: إن في تعاطيهما إثما كبيرا، لما فيهما من أضرار كثيرة ومفاسد عظيمة.
أما إثم الخمر: فإيذاء الناس وإيقاع العداوة والبغضاء.
وأما إثم الميسر: فهو أن يقامر الرجل، فيمنع الحق، ويظلم، فتقع العداوة والبغضاء. وفيهما منافع للناس، أما منفعة الخمر: فهي الاتجار بها، والالتذاذ بها، والنشوة، وبسط يد البخيل، وتقوية قلب الجبان.
وأما منفعة الميسر: فهي ما يصيبهم من الربح أو الأنصباء، أو التصدق بلحم الجزور على الفقراء، ومنفعة القمار وهمية ومضرته حقيقية، إذ المقامر يبذل ماله لربح موهوم، فيبتز منه المحترفون ثروته كلها، وهو في طلبه الربح المتوهم يفسد فكره، ويضعف عقله، ويعظم همه، ويضيع وقته.
وإثمهما أكبر من نفعهما، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر والنزاع، ونشأت في صدورهم الأحقاد. وإذا كان الضرر أكبر من النفع وجب الامتناع عنهما، لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» لذا امتنع كثير من عرب الجاهلية عن الخمر، مثل العباس بن مرداس، فقد قيل له: ألا تشرب الخمر، فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم، وأمسي سفيههم.
وأجمع الأطباء على ضرر الخمور، وقامت جمعيات كثيرة في أوربا وأمريكا تدعو لمنع المسكرات وإصدار القوانين بمنع بيعها وشرائها.
الخمر وأضرارها:
اختلف العلماء في بيان المراد بالخمر، فذهب أبو حنيفة وجماعة العراقيين:
273
إلى أن الخمر: هي الشراب المسكر من عصير العنب فقط. أما المسكر من غيره، كشراب التمر أو الحنطة أو الشعير أو الذرة ونحوها، فلا يسمى خمرا، بل يسمى نبيذا، فتكون آية تحريم الخمر مقتصرة عليها، وأما الأشربة المسكرة الأخرى وهي الأنبذة فالقليل منها حلال، والكثير المسكر منها حرام بالسنة النّبوية.
وذهب الجمهور (غير أبي حنيفة) وأهل الحجاز والمحدثون: إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فكل مسكر من عصير التمر، والشعير والبر خمر.
وإذا كانت الخمر اسما لكل ما أسكر، كان تحريم جميع المسكرات قليلها وكثيرها بنص القرآن.
واحتج الفريق الأول باللغة والسنة: أما اللغة: فإن الأنبذة لا تسمى خمرا، ولا يسمى الشيء خمرا في اللغة إلا النيء المشتد من ماء العنب.
وأما السنة:
فحديث أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كل شراب»
وفي رواية عن علي: «حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب» «١»
والسكر: كل ما يسكر، ويطلق على نبيذ الرطب.
قالوا: ومما يدل على أن قليل الأنبذة ليس بحرام أن الله ذكر في علة تحريم الخمر العداوة والبغضاء ونحوها بقوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة ٥/ ٩١] وهذه المعاني لا تحصل إلا بالسكر، فلا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة.
واحتج الفريق الثاني باللغة والسنة الثابتة:
أما اللغة: فلأن الخمر تطلق لغة على ما خامر العقل أي ستره، وهذه الأنبذة
(١) أخرجه النسائي والدارقطني موقوفا على ابن عباس، وقال الدارقطني: وهذا هو الصواب عن ابن عباس، لأنه
قد روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر حرام».
274
تخامر العقل. وإذا كانت اللغة لا تثبت قياسا فإن الصحابة فهموا مدلول «الخمر» وهم أدرى باللغة والقرآن، وأنها تطلق على كل مسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره.
وأما السنة: فقد ورد فيها أحاديث كثيرة تحرم قطعا كل مسكر، منها الحديث المتواتر الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ستة عشر صحابيا كعمر وابن عمر وغيرهما: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» والحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن حبان عن جابر، وأحمد والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
والحديث الذي رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة:
«الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» والحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن النعمان بن بشير: «إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، ومن التمر خمرا، وأنا أنهاكم عن كل مسكر».
فصريح هذه الأحاديث الصحيحة يدل على أن الأنبذة تسمى خمرا، لأنها مسكرة، فتكون حراما، ويدل على حرمتها قليلها وكثيرها ما
أخرجه البخاري عن عائشة قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البتع (نبيذ العسل) وعن نبيذ العسل، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام».
والراجح قول أهل الحجاز (الفريق الثاني)، لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر، فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت ذلك من حديث أنس قال: «كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ- نقيع البسر- فحين سمعوا تحريم الخمر، أحرقوا الأواني وكسروها» وأثبت المؤرخون أنه كان
275
تحريم الخمر في المدينة، وكان المشروب نبيذ البر والتمر.
وقد اتفق العراقيون مع الحجازيين على أن الله حرم من عصير العنب الكثير للسكر، والقليل، لأنه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة حيث لا فرق.
وأما أضرار الخمر فكثيرة مادية ومعنوية أشارت إليها الآية القرآنية: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة ٥/ ٩١] وجمع الحديث النّبوي الصحيح مضارها، وهو الذي رواه الطبراني عن ابن عمر: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وعمته وخالته».
[مضار الخمر]
ومضارها تشمل البدن والنفس والعقل والمال وتعامل الناس بعضهم مع بعض، من ذلك:
١- مضارها الصحية:
إفساد كل أعضاء جهاز الهضم، وفقد شهوة الطعام، وجحوظ العينين، وعظم البطن بسبب اتساع المعدة، وتشمع الكبد، ومرض الكلى، وداء السل، وتعجل الشيخوخة أو إسراع الهرم، بسبب تصلب الشرايين، وإضعاف النسل أو انقطاعه، فولد السكير يكون هزيلا ضعيف العقل.
٢- مضارها العقلية:
إنها تضعف القوى العقلية، لتأثيرها في الجملة العصبية، وقد تؤدي إلى الجنون.
٣- مضارها المالية:
تبدد الثروة وتتلف المال، وتؤدي إلى إهمال واجب النفقة على الزوجة والأولاد.
٤- مضارها الاجتماعية:
وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع
276
بعض، وبينهم وبين الناس الآخرين، وكثيرا ما تقع حوادث قتل وضرب وجرح من السكارى وعليهم.
٥- مضارها الأدبية:
يصبح السكران ذليلا مهينا وموضع هزء وسخرية وضحك وتهكم، لاضطراب كلامه وهيئته وحركاته. ويتجرأ السكران على القذف والشتم والسب والزنى والقتل، لذا سميت الخمر (أم الخبائث).
٦- مضارها العامة:
إفشاء الأسرار، فكثيرا ما تسربت أخبار الدولة الخطيرة إلى الجواسيس على موائد السكر «١».
٧- مضارها الدينية:
لا تتأدى من السكران عبادة صحيحة، ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين، فالخمر تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبقية الواجبات الدينية، لأن السكران لا يهمه إلا معاقرة الخمر، والانقياد للأهواء والشهوات، ويصبح ضعيف الإرادة، خاملا كسولا، بل لا يستطيع الامتناع عن السكر بسهولة بسبب الإدمان، ومخالطة الكحول الدم، فيصبح المدمن متعطشا لتناول الشراب المسكر قهرا عنه ودون إرادة.
والخلاصة: إن الخمر أم الخبائث، فهي وسيلة إلى كل منكر وقبيح، روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن قبلكم متعبد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال:
(١) تفسير المنار: ٢/ ٢٥٩ وما بعدها
277
زيدوني، فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه».
الميسر أو القمار وأضراره:
الميسر: إما من اليسر كما بينا، أو من يسرت الشيء: إذا جزأته، ويطلق على الجزور، لأنه موضع التجزئة، والميسر الذي ذكره الله وحرمه: هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار.
وكيفية الميسر عند العرب كما بينا: أنه كانت لهم عشرة قداح، وتسمى الأزلام والأقلام أيضا «١»، وأسماؤها: الفذّ، والتّوأم، والرقيب، والحلس، والمسبل، والمعلّى، والنّافس، والمنيح، والسفيح، والوغد، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزءونها، إما عشرة أجزاء، أو ثمانية وعشرين جزءا، ولا شيء للثلاثة الأخيرة، فكانوا يعطون للفذ سهما، وللتوأم سهمين، وللرقيب سهمين، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أعلاها «٢».
وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرّبابة، وهي الخريطة (الكيس) توضع على يد عدل، يجلجلها، ويدخل يده، ويخرج منها واحدا باسم رجل، ثم واحدا باسم رجل آخر، وهكذا، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء، أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له، لم يأخذ شيئا، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا، ويفتخرون بذلك، ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم أي الوغد: اللئيم عديم المروءة «٣»، كما بينا سابقا.
(١) واحدها قدح وزلم وقلم، وهي قطع من الخشب.
(٢) ومنه يقال للفائز بأكبر الحظوظ: هو صاحب القدح المعلى.
(٣) تفسير القرطبي: ٣/ ٥٨
278
وللقمار أضرار كثيرة: منها: أنه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله، كالخمر، كما أبان القرآن.
ومنها إفساد التربية، بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران.
ومنها وهو أشهرها: إفلاس المقامر وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من ثروة بددت في ليلة من الليالي، وأصبح المقامر في عداد الفقراء.
إنفاق الزائد عن الحاجة (العفو) :
ويسألونك يا محمد عن مقدار ما ينفقه المسلم، امتثالا لقوله تعالى:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٩٥]، فقل لهم: ينفقون العفو، أي الفضل (ما فضل) الزائد عن الحاجة، فأنفقوا ما فضل عن حاجتكم، ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه، وتضيعوا أنفسكم.
كذلك «١» : أي وكما بين لكم ما ذكر (أي مثل ذلك البيان السابق في تحريم الخمر والميسر ووجوب إنفاق الزائد عن الحاجة) يبين الله لكم الأحكام والآيات الواضحات في سائر كتابه، فيما يحقق مصالحكم ومنافعكم، ويوجهكم لما فيه من نفع وضر. والحكمة من شرع هذه الأحكام: هي لتتفكروا بعين البصر والوعي في أمور الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها، أو
(١) كذلك: الكاف للتشبيه، وهي في موضع نعت لمصدر محذوف أو في موضع الحال على مذهب سيبويه أي تبيينا مثل ذلك يبين، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه، أي يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين. [.....]
279
لتحسبوا من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقوا الباقي فيما ينفعكم في العقبى.
وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة: منها ما
روى ابن جرير الطبري عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب، أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه صدقة، فو الله، ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابته شجته أو عقرته. ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى» وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ارضخ «١» من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف» وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول».
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي-: «إذا كان أحدكم فقيرا، فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل، فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك، فليتصدق على غيره».
والأصح أن هذه الآية ثابتة الحكم غير منسوخة، فليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون نفقة تطوع، لا زكاة مفروضة، فبين لهم ما فيه الله رضا من الصدقات.
فقه الحياة أو الأحكام:
يحرم كل ما يسكر، قليلا كان أو كثيرا، سواء أكان من عصير العنب أم من
(١) رضخ له: أعطاه قليلا.
280
غيره، ويجب الحد في تناوله، ولا فرق بين المسكرات التي كانت في الماضي والمسكرات ذات التسميات الحديثة المتخذة من التفاح أو البصل أو غيرهما، فكل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع الصحة والمال، وتقضي على الكرامة الشخصية، فهي حرام كالخمر، لوجود علة الإسكار فيها، وبالأولى ما هو أفتك منها وأشد كبعض السموم التي تؤخذ حقنا تحت الجلد، أو شمّا بالأنف كالمورفين والكوكايين والهيروين.
ومن خصائص التشريع الإسلامي ومزاياه الطيبة أنه لم يوجب على المسلمين الشرائع دفعة واحدة، ولكن تدرج بهم، وأوجب عليهم مرة بعد مرة تكريما لهذه الأمة وبرا بها، وهذا هو مبدأ التدرج في التشريع، وقد جاء تحريم الخمر والربا على هذا النحو.
وكل لعب فيه غرم بلا عوض، وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق ولا جهد معقول فهو حرام، فالميسر أو القمار ولعب الموائد والسباق على عوض من أحد المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من المتسابقين يغرمه للآخر الفائز، وأوراق اليانصيب، كل ذلك حرام، لما فيه من إضاعة المال أو الكسب من غير طريق شرعي، ولاشتماله على أضرار كثيرة مدمرة للجماعة والأفراد.
روي عن أبي موسى عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسوسة التي يزجر بها زجرا، فإنها من الميسر».
وقال عليه الصلاة والسّلام أيضا- فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي موسى-: «من لعب بالنرد، فقد عصى الله ورسوله».
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وآخرون من الصحابة والتابعين: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب «١»، إلا ما أبيح من الرّهان في الخيل، والقرعة في إفراز الحقوق، بأن
(١) هي فصوص النرد.
281
يكون العوض أو المكافأة من شخص ثالث كالدولة أو بعض الأغنياء، أو من أحد المتسابقين دون أن يلتزم الآخر بشيء إذا خسر.
وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو: النّرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه.
وذكر العلماء: أن المخاطرة (المراهنة) من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين، حين نزلت:
الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم ٣٠/ ١] وخسر الرهان،
فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «زد في الخطر، وأبعد في الأجل»
ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمار.
وأما ما يسمى باليانصيب الخيري لمواساة الفقراء ورعاية الأيتام وأولي العاهات، أو لبناء المدارس والملاجئ والمشافي وغيرها من أعمال البر والصالح العام، فهو حرام أيضا، لأن هذه الأعمال، وإن كانت معتبرة في الشريعة، ولكن الطريق إليها حرام، لأن الحرام في ذاته كالرشوة وشهادة الزور لا يجوز اللجوء إليه للوصول إلى الحلال، ولا ينتج عن العصيان طاعة كما
قال عليه الصلاة والسّلام في الحديث الصحيح: «إن الله طيّب لا يقبل إلا طيبا».
وقد حرّم الشرع الميسر الذي كان عليه عرب الجاهلية، وإن كانوا يطعمون الأنصباء الفقراء، ولا يأكلون منها شيئا.
وكون اليانصيب غير الخيري لا يؤدي إلى ضرر العداوة والبغضاء، لعدم معرفة الرابح من قبل الخاسرين، خلافا لميسر العرب وقمار الموائد، لا يسوغ القول بالجواز، لأن فيه مضار القمار الأخرى وأهمها: أنه طريق لأكل أموال
282
الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم بنص القرآن.
والادعاء بأن في ميدان اليانصيب قد سمح المشتركون للرابح بأموالهم وخرجوا له عن طيب أنفسهم: غير صحيح، لأن التراضي لا وجود له في الحقيقة، وكل من يدفع ثمن بطاقة يحلم بالربح، وهو في حال الخسران يحقد على الرابحين.
والرضا المعتبر هو في العقود والمعاملات بشرط خلوة من العيوب، وبخاصة الإكراه في أي صورة، سواء أكان ماديا أم معنويا. والرضا في اليانصيب رضا قسري، كالرضا الحاصل في الربا والرشوة، والرضا شرعا لا يعتبر إلا إذا كان في حدود الشرع.
ويمكن تحقيق المقصد الخيري لليانصيب من أجل الصالح العام بطريق فرض ضرائب على أموال الأغنياء، وتؤخذ بدون مقابل، لسد حاجة البلاد، وفقا لقاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام» أو يستدين الحاكم من الأغنياء إذا كان هناك احتمال امتلاء الخزينة.
وإن وجود بعض المنافع التجارية أو اللذة والطرب في الخمر، أو مواساة الفقراء في الميسر أو سرور الرابح وصيرورته غنيا بدون تعب، لا يمنع تحريمهما، لأن المعول عليه في التحريم أو الحظر غلبة المضار على المنافع، والإثم أكبر من النفع في الدنيا نفسها، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم.
وأما نفقة التطوع: فهي الزائدة عن الحاجة وهي العفو، وقد كان السؤال في هذه الآية عن قدر الإنفاق، أما السؤال في الآية المتقدمة التي نزلت في شأن عمرو بن الجموح فكان عن الجهة التي تصرف إليها: «قل: ما أنفقتم من خير فللوالدين..».
283
والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ويكون المعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم، فتكونوا عالة.
وأما حكمة إطلاق الأمر بالنفقة في مبدأ الإسلام: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة ٢/ ١٩٥] فلأن المسلمين كانوا في الماضي فئة قليلة تحتاج إلى التضامن والتعاون فيما بينها لتحقيق المصلحة العامة، ولأن الإنفاق ينبغي فيه أن يحقق الكفاية، سواء كان لإغناء الفقراء، أو لصد الأعداء. فلما كثر المسلمون، وتحقق ما يكفي الصالح العام، ظهرت الحاجة إلى تقييد الإنفاق، لذا سأل المسلمون: ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأنهم ينفقون الفضل والزيادة عن حاجة من يعولونهم.
وأرشد قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وما تلاه بعدئذ: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ في الآية التالية إلى ضرورة استخدام الفكر، وتنمية دائرة التفكير، واستعمال العقل في مصالح الدارين معا. لذا قال علماؤنا: إن تعلم ما تحتاج إليه الأمة في معايشها من الفنون والصناعة والزراعة والتجارة وشؤون الحرب والدفاع من الفروض الدينية الكفائية، إذا أهملها الكل أثموا.
الولاية على مال اليتيم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
الإعراب:
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جار ومجرور في موضع نصب، متعلق إما بفعل: تَتَفَكَّرُونَ في الآية السابقة أو بفعل: يُبَيِّنُ، وتقدير: يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة، لعلكم
284
تتفكرون إِصْلاحٌ مبتدأ، وهو نكرة ساغ الابتداء به لتقييده بالمجرور الذي هو: لَهُمْ، وخَيْرٌ: خبر إصلاح.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ الألف واللام فيهما للجنس، لا للمعهود، أي يعلم هذين الصنفين، كقولهم: الرجل خير من المرأة، أي جنس الرجال خير من جنس النساء.
البلاغة:
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فيه التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله: وَيَسْئَلُونَكَ والحكمة من الالتفات: أن يتهيأ المخاطب لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه.
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ فيه من علم البديع ما يسمى: الطباق.
المفردات اللغوية:
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمر الدنيا والآخرة، فتأخذوا بالأصلح لكم فيهما، والجار والمجرور متعلق بفعل: تَتَفَكَّرُونَ في الآية السابقة، أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين، فتأخذون بما هو أصلح لكم.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى أي عن الإشراف على اليتامى وكفالتهم وما يلقونه من الحرج في شأنهم، فإن واكلوهم أثموا، وإن عزلوا ما لهم عن أموالهم وصنعوا لهم طعاما وحدهم، فحرج. واليتيم:
من فقد أباه قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ في أموالهم بتنميتها خير من ترك ذلك.
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ تخلطوا أموالكم بأموالهم لَأَعْنَتَكُمْ لضيق عليكم بتحريم المخالطة، والعنت: المشقة والإحراج إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره. حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزلت:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الأنعام ٦/ ١٥٢] وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى الآية [النساء ٤/ ١٠]، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه،
285
فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى الآية.
قال الضحاك والسدي: سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما.
المناسبة:
الحكمة في وصل السؤال عن اليتامى بالسؤال عن الإنفاق والسؤال عن الخمر والميسر: هي التذكير بطائفة من الناس هي أحق بالإنفاق عليها لإصلاحها وتربيتها، وهي جماعة اليتامى، فينفق عليها من العفو الزائد عن الحاجة.
التفسير والبيان:
ويسألونك عن مخالطة اليتامى والقيام بأمرهم، هل يخالطونهم أو يجعلون أموالهم مستقلة؟ فأجابهم تعالى: قصد إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من اعتزالهم، فإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة، فذلك خير، فهم إخوانكم في الدين والنسب، والأخ يخالط أخاه ويداخله ولا حرج في ذلك، وإن كان في عزل بعض أموالهم كالنقود إصلاح لأموالهم، فهو خير، فعليكم أن تراعوا المصلحة فيهم، وأن تحسنوا النظر في أموالهم.
فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا أن يقصد الولي نفع نفسه بهذه الخلطة ويضر اليتيم، ولا يقبل أن تكون مخالطتهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فالله سبحانه يعلم المحسن والمسيء وكل ما تضمره النفوس.
وجملة: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، والمعنى: أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير.
286
ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأن يوجب الاعتزال وعزل أموال اليتامى عن أموالكم، لفعل ذلك، ولكنه ينظر للمصلحتين: مصلحة اليتيم، ومصلحة التيسير ودفع الحرج، فشأنه تعالى الأخذ باليسر، كما قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥] وقال: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج ٢٢/ ٧٨].
وهو تعالى القوي الذي لا يغلب، فهو قادر على أن يكلف بالشاق من الأعمال، ولكنه حكيم في صنعه لا يكلف إلا ما فيه الطاقة كما قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يتاجر بأموال اليتامى بيعا وشراء ومضاربة وقسمة وأن يكون الولي نفسه هو المضارب.
وأن يخلط ماله بماله إذا توافر الصلاح ومراقبة الله في الأعمال، وبعد عن الفساد والإفساد، خلافا لما عليه أكثر الأوصياء على اليتامى.
قال الجصاص الرازي: دل قوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ على إباحة خلط ماله بماله، والتصرف فيه في الصهر والمناكحة، وأن يزوجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم، والدليل: هو إطلاق لفظ المخالطة.
وإذا كانت الآية قد دلت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله، على ما روي عن ابن عباس، فقد دلت على جواز المناهدة «١» التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما،
(١) المناهدة: الأكل الجماعي المشترك من زاد السفر المختلط.
287
فيخلطونه، ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس. ويدل لجواز المناهدة أيضا قوله تعالى في قصة أهل الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الكهف ١٨/ ١٩] فكان الورق (الفضة) لهم جميعا بقوله:
بِوَرِقِكُمْ فأضافه إلى الجماعة، وأمر أحدهم بالشراء، ليأكلوا جميعا منه «١».
ودل قوله: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد.
ودل ظاهر الآية على أن ولي اليتيم يعلّمه أمر الدنيا والآخرة، ويستأجر له ويؤاجره ممن يعلّمه الصناعات. وإذا وهب لليتيم شيء، فللوصي أن يقبضه لما فيه من الإصلاح «٢».
أما الإشهاد من الوصي أو الكفيل على الإنفاق من مال اليتيم، فله عند المالكية حالتان: حالة يمكنه الإشهاد عليها، فلا يقبل قوله إلا ببينة، كإعطاء الأم أو الحاضنة النفقة والكسوة، فلا يقبل قوله على الأم أو الحاضنة إلا ببينة أنها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة (سنويا). وحالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبول بغير بينة، كالأكل واللبس في كل وقت.
وقد نشأت من هذه الآية مذاهب في تزويج الرجل نفسه من يتيمته إن كانت تحل له، وفي الشراء لنفسه من مال اليتيم.
فقال مالك: لا يزوج الرجل نفسه من اليتيمة، ولكن يشتري لنفسه من مال اليتيم.
وقال أبو حنيفة: إذا كان الإصلاح خيرا فيجوز تزويجه ويجوز أن يزوّج منه. وله كما قال مالك أن يشتري من مال الطفل اليتيم لنفسه بأكثر من ثمن
(١) أحكام القرآن: ١/ ٣٣١.
(٢) المرجع والمكان السابق.
288
المثل، لأنه إصلاح دل عليه ظاهر القرآن.
والشافعي: لا يرى في التزويج إصلاحا، إلا من جهة دفع الحاجة، ولا حاجة قبل البلوغ، ولا يجوز له الشراء من مال اليتيم، لأنه لم يذكر في الآية التصرف.
وأحمد: يجوز للوصي التزويج، لأنه إصلاح «١».
الاجتهاد:
استنبط الجصاص من قوله: قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث، لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن «٢».
وأرشدت الآية إلى أن الأحكام الإسلامية مبنية على اليسر والسماحة، متلائمة مع القدرة والطاقة البشرية المعتادة دون إعنات ولا إحراج، مع أن الله قادر على أن يضيق علينا ويشدد في أحكامه، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل علينا.
زواج المسلم بالمشركة
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٦٤، أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٣٣٠
(٢) الجصاص، المرجع والمكان السابق.
289
البلاغة:
يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ يوجد طباق بين كلمتي النار والجنة.
المفردات اللغوية:
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ لا تتزوجوا بالنساء الحربيات غير الكتابيات. واحدها مشركة:
وهي من ليس لها كتاب، وقيل: المشركات: الكافرات. وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها، وهذا على تفسيرها بالكافرات مخصوص بغير الكتابيات بآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة ٥/ ٥] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس والأوزاعي.
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ لا تزوجوا نساءكم المؤمنات الكفار مطلقا. وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ لماله وجماله أُولئِكَ أي أهل الشرك. يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى العمل الموجب لها، فلا تليق مناكحتهم. وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسله. إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي العمل الموجب لهما.
بِإِذْنِهِ بإرادته، فتجب إجابته بتزويج أوليائه. يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.
سبب النزول:
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في ابن أبي مرثد الغنويّ استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في «عناق» أن يتزوجها وهي مشركة، وكانت ذات حظ من جمال، فنزلت.
وفي عبارة أو
في رواية أخرى: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة، ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها، عناق، فأتته، وقالت: ألا تخلو؟ فقال: ويحك، إن الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأستأمره، فاستأمره، فنزلت».
وأخرج الواحدي من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، وإنه غضب، فلطمها، ثم إنه فزع، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره وقال: لأعتقنها ولأتزوجنها،
290
ففعل، فطعن عليه ناس، وقالوا: ينكح أمة؟! فأنزل الله هذه الآية وأخرجه ابن جرير الطبري عن السدي منقطعا.
ويلاحظ في أسباب النزول أمران كما ذكر السيوطي: الأول- إن رواية الصحابة سبب نزول آية هو لتوضيح معناها ويتناول أمثال ما حدث. والثاني- قد يكون السبب الذي ذكروه حصل عقب نزول الآية.
التفسير والبيان:
هذه الآية من جملة الأحكام التي تنظم المجتمع الإسلامي الداخلي، فلما أذن الله تعالى في مخالطة الأيتام، وفي مخالطة الزواج، بيّن أن مناكحة المشركين لا تصح.
ومعناها: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات اللاتي لا كتاب لهن حتى يؤمنّ بالله واليوم الآخر، ويصدّقن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقد جاء لفظ المشرك في القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة ٢/ ١٠٥] وقوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة ٩٨/ ١] والخلاصة: لا تتزوجوا المشركات ما دمن على شركهن.
ولأمة مؤمنة بالله ورسوله، وإن كانت رقيقة وضيعة، أفضل من حرة مشركة، وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم في الجمال والحسب والمال، إذ بالإيمان كمال الدين والحياة معا، وبالمال والجاه كمال الدنيا فقط، ورعاية الدين وما يستتبعه من دنيا أولى من رعاية الدنيا.
ولا تزوجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهن من عبد مؤمن بالله ورسوله، مع ما به من مهانة، خير لكم من أن تزوجوهن من حرّ مشرك، وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.
291
وسبب تحريم زواج المسلم بالمشركة والمسلمة بالكافر مطلقا كتابيا كان أو مشركا: هو أن أولئك المشركين والمشركات يدعون إلى الكفر والعمل بكل ما هو شرّ يؤدي إلى النار، إذ ليس لهم دين صحيح يرشدهم، ولا كتاب سماوي يهديهم إلى الحق، مع تنافر الطبائع بين قلب فيه نور وإيمان وبين قلب فيه ظلام وضلال.
فلا تخالطوهم ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة والألفة والمحبة والتأثر بهم، وانتقال الأفكار الضالة، والتقليد في الأفعال والعادات غير الشرعية، فهؤلاء لا يقصرون في الترغيب بالضلال، مع تربية النسل أو الأولاد على وفق الأهواء والضلالات. والخلاصة: أن العلة في تحريم نكاحهن الدعاء إلى النار.
والله يدعو ويرشد بكتابه المنزل وأنبيائه إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها، وإلى المغفرة وستر الذنوب بإذنه وأمره وإرادته وبإعلامه السبيل الحق، ويوضح آياته وأحكامه وأدلته للناس، ليتذكروا فيميزوا بين الخير والشر، وليتعظوا فلا يخالفوا أمره، ولا يسيروا بأهوائهم أو وراء الشيطان، لأن ذكر الأحكام بعللها وأدلتها يكون أدعى لقبولها والرضا بها والمبادرة إلى تنفيذها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن زواج المسلم بالمرأة المشركة كالوثنية والبوذية والملحدة لا يصح بحال.
أما المرأة الكتابية (اليهودية أو النصرانية) فقد أباح الشرع التزوج بها بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ- مهورهن- مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [المائدة ٥/ ٥]. والمحصنات: العفائف.
292
والفرق بين المشركة والكتابية واضح، وهو أن الأولى لا تؤمن بدين أصلا، وأما الثانية فتشترك مع المسلم بالإيمان بالله واليوم الآخر، وبالحلال والحرام، ووجوب فعل الخير والفضيلة، والبعد عن الشر والرذيلة.
وأجاز الشرع زواج المسلم بالكتابية، ولم يجز زواج المسلمة بالكتابي، لأمر واضح أيضا وهو أن الكتابية لها أن تبقى على دينها بزواجها بمسلم ولا تتضرر فيما تدين به، ولأن المسلم يؤمن بدينه المتضمن الإقرار بأصول الأديان الأخرى، ومنها الدين اليهودي والدين النصراني في أصوله الأولى التي تتفق مع الإسلام في الدعوة إلى التوحيد والفضائل الإنسانية، فهي مع المسلم في دائرة متسعة تسع دينها وغيره، وربما إذا لمست روح التسامح وحسن المعاملة من زوجها عاشت سعيدة هانئة معه دون تضرر.
وبما أن للرجل عادة سلطة القوامة على المرأة، وهي أقوى من سلطة المرأة، فلو تزوج الكتابي المسلمة أمكن التأثير عليها، فربما تركت دينها، وتضررت غالبا بمعاشرة زوجها، لعدم توافر الانسجام والوئام الروحي والحسي، والكتابي لا يؤمن بالإسلام، فتكون معه في دائرة ضيقة الأفق، وهي متسعة الاعتقاد، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فعزة المسلمة تأبى عليها أن تكون زوجة لكتابي.
هذا ما عليه جمهور العلماء، مع القول بأن زواج المسلم بالكتابية مكروه، وحينئذ تحمل الآية هنا على العرف الخاص، وهو المشركة بالمعنى الضيق (أي عابدة الوثن وأمثالها)، ولا تكون الآية منسوخة ولا مخصصة، وإنما تفيد حكما: هو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وتكون آية المائدة وَالْمُحْصَناتُ.. المتقدمة مفيدة حكما آخر هو حل الزواج بالكتابيات، فلا تعارض بينهما، فإن ظاهر لفظ الشرك لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى:
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
293
رَبِّكُمْ
[البقرة ٢/ ١٠٥] وقوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة ٩٨/ ١] ففرّق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. وأيضا فاسم الشرك عموم وليس بنص، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بعد قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ نص، فلا تعارض بين المحتمل وبين ما لا يحتمل.
وذهب بعضهم إلى أن لفظ الْمُشْرِكاتِ يعم كل مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخص منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرم على المسلم زواجهن. روي عن ابن عباس أنه قال: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكلّ من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في «المائدة». ويؤيده قول ابن عمر في الموطأ: «ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى». وروي عن عمر بن الخطاب القول بحرمة الكتابيات، وأنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين، وقالا: نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأة. لكن قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما، فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام، فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو ذلك. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر «١». وهذا ما عليه الأمة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: أن الذي صح إسنادا عن عمر هو إباحة زواج المسلم بالكتابية، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي الله عنهما نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٦٨
294
اقتداء الناس بهما، والزهد بالمسلمات، أو خشية الوقوع بالمومسات، أو غير ذلك من المعاني والحكمة البعيدة الأفق بالنظر لمصلحة المسلمين العامة.
وأما الكتابية الحربية: فلا تحل في رأي ابن عباس، لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة ٩/ ٢٩] وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرّفها في الخمر والخنزير.
واتفق أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم على حرمة نكاح نساء المجوس، لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وهن الوثنيات والمجوسيات.
وأجمعت الأمة على حرمة زواج المسلمة بالكافر، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام، ولما بينا سابقا، وللآية: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك.
ودلت آية وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ على أن لا نكاح إلا بولي، وهو رأي جمهور العلماء
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي»
«١»
وقوله: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها» «٢».
وأجاز أبو حنيفة للمرأة مباشرة عقد زواجها بنفسها أو بالوكالة عن غيرها، لكمال أهليتها، ولإسناد لفظ النكاح إلى المرأة في آيات كثيرة، مثل حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة ٢/ ٢٣٠] ومثل: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ [البقرة ٢/ ٢٣٢] والمراد بالعضل: منع النساء من مباشرة عقد الزواج عند اختيارهن الأزواج. وحملوا
حديث «لا نكاح إلا بولي»
على الكمال أو الندب والاستحباب، لا على الوجوب.
(١) رواه أصحاب السنن الخمسة إلا النسائي عن أبي موسى الأشعري.
(٢) رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة.
295
وأخيرا، يمكن القول: إن إباحة زواج المسلم بالكتابية عند غير الشيعة هو في الواقع حالة استثنائية، وليست أصلا، ولذا فإنا نشجب إقبال الشبان على الزواج بالأجنبيات، افتتانا بالجمال الأشقر، واستسهالا للزواج، لكونه بغير مهر يذكر، لأن هاتيك الزوجات تفسد على الرجل غالبا دينه ووطنيته، وتعزله عن انتمائه لبلاده وقومه، وتربي الأولاد على هواها ودينها، فضلا عن نظرة الاستعلاء والفوقية عندها، واحتقار العرب والمسلمين، وقد تقتل الزوج، وقد تأخذ الأولاد إلى بلادها وتترك الزوج، وقليل جدا منهن من أسلم، فلا مطمع فيهن.
وأما زواج المسلمة بغير المسلم فهو أشد وأنكى، إذ الزواج باطل حرام بإجماع المسلمين، والأولاد أولاد زنا، والعلاقة القائمة بينها وبين الرجل لا تجيز الاستمتاع وإن طال الأمد، لبطلانها أصلا، فإن استحلّت المرأة ذلك فهي مرتدة كافرة.
والإقامة في دار الكفر لا تسوغ القول بالحلّ، إذ يحرم على المسلم والمسلمة المقام بين الكفار إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحة أو موقوتة، ونعوذ بالله تعالى من هذا الانحراف الخطير، والتهاون في أمر الدين.
الحيض وأحكامه
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
296
الإعراب:
حَتَّى يَطْهُرْنَ قرئ بتشديد الطاء وتخفيفها، فمن قرأ بالتشديد أراد: حتى يغتسلن وأصله: يتطهرن، وكرهوا اجتماع التاء والطاء، فأسكنوا التاء وأبدلوا منها طاء، وأدغموا الطاء في الطاء. ومن قرأ بالتخفيف أراد: ينقطع دمهن، وعلى هاتين القراءتين ينبني الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة، في جواز وطء الحائض إذا انقطع دمها لأكثر الحيض (١٠ أيام) قبل الغسل، فأجازه أبو حنيفة وأباه الشافعي.
البلاغة:
قُلْ هُوَ أَذىً تشبيه بليغ أي كالأذى، والأذى كناية عن القذر على الجملة، أي أن الحيض شيء يستقذر ويؤذي من بقربه نفرة منه وكراهة له، فتتأذى منه المرأة وغيرها برائحة دم الحيض.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ كناية عن الجماع.
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ على حذف مضاف أي موضع حرث، أو على سبيل التشبيه، فالمرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات الخارج.
المفردات اللغوية:
الْمَحِيضِ هو الحيض كالمعيش أي العيش: وهو لغة: السيلان، يقال: حاض السيل وفاض. وشرعا: دم فاسد يخرج من أقصى رحم المرأة كل شهر مرة واحدة، أقله عند الشافعي وأحمد: يوم وليلة، وغالبة: ست أو سبع، وأكثره: خمسة عشر يوما. والحكمة: الاستعداد للحمل حين المعاشرة الزوجية، إبقاء للنوع البشري. وقد يراد بالمحيض: مكانه الذي يفعل بالنساء فيه أَذىً قذر أو محله، أو هو ضرر ومؤذ مكروه تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض.
واعتزال النساء من الحيض: ترك غشيانهن في هذه المدة. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ مثل فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ كناية عن عدم الجماع.
يَطْهُرْنَ يغتسلن بالماء إن لم يوجد مانع، أو التيمم خلفا عنه في رأي الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأقل من عشرة أيام، فلا تحل له إلا إذا اغتسلت، أو مضى وقت صلاة كامل والدم منقطع، وإن طهرت لأكثر مدته وهي عشرة أيام، حلت له ولو لم تغتسل. فَأْتُوهُنَّ بالجماع مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بتجنبه في الحيض، وذلك في المكان المأمور به وهو القبل، لا الدبر التَّوَّابِينَ من الذنوب وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ من الأقذار. حَرْثٌ لَكُمْ موضع حرث
297
كالأرض التي تستنبت، شبهت بها النساء، لأنها منبت للولد، كالأرض للنبات فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي جامعوا في القبل، كيف شئتم من قيام وقعود، واضطجاع وإقبال وإدبار، ونزل ردا لقول اليهود: من أتى امرأته في قبلها من جهة دبرها، جاء الولد أحول. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ العمل الصالح، كالتسمية قبل الجماع وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمره ونهيه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذي اتقوه بالجنة.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٢٢) :
روى مسلم والترمذي عن أنس بن مالك أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم، لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل الأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الآية، فقال:
«اصنعوا كل شيء إلا النكاح».
نزول الآية (٢٢٣) :
روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها- أي يأتي امرأته من ناحية دبرها في قبلها-: إن الولد يكون أحول، فنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ.. الآية «١».
وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وروى الحاكم عن ابن عباس قال: إن هذا الحي من قريش كانوا يتزوجون النساء، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى في ذلك: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية.
(١) زاد في رواية الزهري: «إن شاء مجبّية، وإن شاء غير مجبّية، غير إن ذلك في صمام واحد» والمجبية: المنكبة على وجهها كهيئة السجود
298
التفسير والبيان:
هذا ثالث الأسئلة التي جاءت معطوفة بالواو، لاتصالها بما قبلها وما بعدها، وقد سئل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حكم الحيض، لأن اليهود كانوا يقولون: إن كل من مسّ الحائض في أيام طمثها، يكون نجسا، وكانوا يتشددون في معاملة الحائض، فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم، كما بينا، وكانت النصارى تتهاون في أمور الحيض، فلا تفرق بين الحيض وغيره، وكانت العرب في الجاهلية كاليهود والمجوس لا يساكنون الحائض، ولا يؤاكلونها، فصارت هذه الأحوال مدعاة للتساؤل عن حكم مخالطة النساء زمن الحيض، فأجابهم تعالى:
إن الحيض ضرر وأذى، يضر الرجل والمرأة على السواء، فامتنعوا من جماع النساء في مدة الحيض، ولا حرج في غير الجماع من التقبيل والمفاخذة مثلا، في رأي الحنابلة، للحديث المتقدم الذي
رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن: «اصنعوا كل شيء إلا الجماع» «١».
وحرم الجمهور الاستمتاع بما بين السرة والركبة، لما
روى أبو داود عن حزام بن حكيم عن عمه أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: «لك ما فوق الإزار»
أي ما فوق السرة، ولأن الاستمتاع بما دون الإزار يدعو إلى الجماع.
وأيّد الطب اتجاه الشرع، فأثبت الأطباء أن الوقاع في أثناء الحيض يحدث آلاما والتهابات حادة في أعضاء التناسل لدى الأنثى، كما أن تسرب الدم في فوهة عضو الرجل قد يحدث التهابا صديديا يشبه السيلان، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت المرأة مصابة به، وقد يؤدي الجماع إلى عقم كل من الرجل والمرأة.
ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض، فإذا تطهرن بالاغتسال بالماء
(١) وفي رواية: «إلا النكاح» وفي رواية «إلا الفرج»
299
- والطهر: انقطاع دم الحيض، والتطهر: الاغتسال- فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله وأذن به: وهو القبل، لأنه موضع النسل، إن الله يحب الذين يتوبون من المعاصي، كإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن، ونحو ذلك مما يصادم الفطرة والطبع السليم، ويحب الذين يتطهرون من رجس الفاحشة أو المعصية، ومن كل دنس مادي كالحيض والنفاس. ومحبة الله: إرادته ثواب العبد.
والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية. وكنى بالإتيان عن الوطء.
نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم وإنجاب نسلكم، فالنطفة كالبذرة في الأرض، ولا يحل إتيان النساء في زمن الحيض، حيث لا استعداد لقبول الزرع، ولا في الدبر، لأنه غير محل الإنجاب، ويؤدي إلى ضرر واضح ظهر حديثا: وهو إفساد الدم والموت.
وهذه الآية تعد شارحة للآية السابقة، ومبّينة وجه الحكمة التي من أجلها شرع الاستمتاع: وهو حفظ النوع البشري بالاستيلاد.
فأتوا حرثكم بلا حرج بأي كيفية شئتم، قائمة وقاعدة ومضطجعة ومقبلة ومدبرة، ما دام المأتى واحدا وهو في القبل الذي هو موضع الحرث، كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، فلا تحظر عليكم جهة من الجهات. وكذلك تفيد الآية إباحة إتيان النساء بالنكاح لا بالسفاح، وفي الوقت المأذون به شرعا، لا محرمات، ولا صائمات، ولا معتكفات.
وقدموا لأنفسكم الخير وصالح الأعمال «١» عدة لكم يوم الحساب، واتقوا الله واحذروا معاصيه، فلا تقربوها، وحدوده فلا تضيعوها، ولا تريقوا ماء الحياة في الحيض أو في غير موضع الحرث، واختاروا المرأة المتدينة، وأعرضوا عن سيئة
(١) وقيل: ابتغاء الولد والنسل، لأن الولد خير الدنيا والآخرة، فقد يكون شفيعا وجنّة.
وقيل: هو التزوج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا.
300
الأخلاق التي تسوء معاشرتها للزوج، وتفسد تربية الأولاد.
واعلموا علما يقينيا أنكم ستلقون ربكم في الآخرة، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وبشر المؤمنين المستقيمين على أوامر الله بالفوز والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة. أما الذين يتجاوزون حدود الله، ويتبعون شهواتهم، ويخرجون عن السّنن المشروعة، فلا يسلمون من الضرر في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وقد يكون ضرر الدنيا بالقلق والاضطراب، والهمّ والخوف ونحوهما من الأمراض النفسية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية (٢٢٢) على وجوب اعتزال المرأة في المحيض، لقوله تعالى:
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب. واختلف العلماء فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال ثلاث:
١- يجب اعتزال جميع بدن المرأة، لأن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصص من ذلك شيئا. وهو قول ابن عباس وعبيدة السّلماني، وهذا قول شاذّ خارج عن قول العلماء، وإن كان عموم الآية يقتضيه، فالسّنة الثابتة بخلافه.
٢- يجب اعتزال موضع الأذى، وهو مخرج الدم، وهو قول الحنابلة، أخرج ابن جرير الطبري عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: «كل شيء إلا الجماع» وهذا موافق للحديث المتقدم، ويؤيده
«أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض»
فعلم منه أن المطلوب اعتزاله بعض جسدها دون بعض.
٣- يعتزل ما بين السّرة والركبة، أي ما فوق الإزار، وهو قول الجمهور،
301
لقوله صلّى الله عليه وسلّم للسائل حين سأله: «ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائض؟» فقال:
«لتشدّ عليها إزارها، ثم شأنك «١» بأعلاها».
وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «شدّي على نفسك إزارك، ثم عودي إلى مضجعك»،
وقالت عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها».
ودلّت آية وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ على حرمة الجماع في الحيض حتى الطهر، وللعلماء في ذلك آراء ثلاثة:
١- قال أبو حنيفة: يجوز أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء، فإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحلّ حتى يمضي وقت صلاة كامل، وإذا انقطع دمها لأكثر الحيض، حلّت حينئذ.
٢- قال الجمهور: لا تحلّ حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.
٣- قال طاوس ومجاهد: يكفي في حلّها أن تتوضأ للصلاة.
وسبب الخلاف: حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ: حمل أبو حنيفة الفعل الأول على انقطاع دم الحيض، والثاني على المعنى نفسه، أي فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل الفعل المشدد بمعنى المخفف. وقال الجمهور بالعكس، أي إنهم استعملوا المخفف بمعنى المشدد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهن، بدليل قراءة: حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد، وبدليل قوله:
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.
وللعلماء رأيان فيما يجب على من وطأ الحائض: فقال الجمهور: يستغفر الله ولا شيء عليه، لأن الحديث مضطرب عن ابن عباس، وإن مثله لا تقوم به
(١) منصوب بإضمار فعل، ويجوز رفعه مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: مباح أو جائز. [.....]
302
حجة، وإن الذمة على البراءة، ولا يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مطعن فيه.
وقال الحنابلة: عليه دينار إن كان في مقتبل الدم، ونصف دينار في مؤخر الدم، لما
رواه أبو داود والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «يتصدق بدينار، أو نصف دينار»،
وفي كتاب الترمذي: «إن كان دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار». وهذا مستحب عند الشافعية والطبري.
وأجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر، وهي:
الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، وتترك له الصلاة والصوم، وتقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة.
واختلف العلماء في مقدار الحيض: فقال فقهاء المدينة منهم (مالك والشافعي وأحمد) : أكثر الحيض خمسة عشر يوما، وما زاد على ذلك فهو استحاضة.
وأقلّه عند الشافعي وأحمد: يوم وليلة، وما دونه استحاضة، وأقلّه عند مالك: دفقة أو دفعة في لحظة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وما نقص أو زاد عن ذلك فهو استحاضة.
ودم النفاس عند الولادة كالحيض، وأقله عند الشافعية لحظة، ولا حدّ لأقله عند الأئمة الآخرين، وغالبة عند الشافعية أربعون، وأكثره عند المالكية والشافعية: ستون يوما، وعند الحنفية والحنابلة: أربعون يوما. والغسل منه كالغسل من الحيض والجنابة.
303
ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا، وهي: وجوب الصلاة، وصحة فعلها، وفعل الصوم دون وجوبه، والجماع في الفرج وما دونه، والعدّة، والطلاق، والطواف، ومسّ المصحف، ودخول المسجد، والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن رأيان: الحرمة عند الجمهور، والإباحة عند المالكية.
ودم الاستحاضة: وهو دم ليس بعادة ولا طبع منهن، ولا خلقة، وإنما هو نزيف أو عرق انقطع، سائله: دم أحمر، لا انقطاع له إلا عند البرء منه، والمستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها ولكنها تتوضأ لكل صلاة.
ويجمع أحكام الحيض والاستحاضة ما
رواه مالك عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي».
وفي قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إيماء إلى أن الشريعة طلبت التزوج ورغبت عن الرهبانية، فليس لمسلم أن يترك الزواج على نية العبادة والتقرب إلى الله تعالى، لأنه سبحانه قد امتنّ علينا بالزواج بقوله:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم ٣٠/ ٢١]، وطلب إلينا أن ندعوه بالتوفيق بالسرور بالزوجة الصالحة والولد البارّ فقال: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان ٢٥/ ٧٤]، وقال: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً [البقرة ٢/ ٢٠١] وهي الزوجة الصالحة.
فالزواج الشرعي وقربان المرأة ابتغاء النسل قربة لله تعالى، وتركه مع القدرة عليه مخالف لطبيعة الفطرة وسنة الشرع،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح: «وفي
304
بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟».
وتجبر الكتابية على الاغتسال من الحيض في رأي مالك- وفي رواية ابن القاسم عنه- ليحلّ لزوجها وطؤها، قال تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي بالماء، ولم يخصّ مسلمة من غيرها. وهذا موافق لرأي الشافعية والحنابلة القائلين بأن الكافر مكلف بفروع الشريعة. وقال الحنفية: إنه غير مكلف بها.
وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في رأي الحنفية والمالكية، لما
رواه مسلم عن أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله، إني أشدّ ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء، فتطهرين».
ويجب نقض الضفائر في رأي الشافعية والحنابلة إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، لما
روى البخاري عن عائشة: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها إذ كانت حائضا: «خذي ماءك وسدرك وامتشطي»
ولا يكون المشط إلا في شعر غير مضفور. وخصصه الحنابلة في الحيض أو النفاس، ولم يوجبوا النقض في حال الجنابة إذا أروت أصوله، أخذا بحديث أم سلمة.
وقوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى كما بيّنا: جامعوهن من أي شق أردتم، بعد أن يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث.
قال الزمخشري: قوله تعالى: هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ: من الكنايات اللطيفة
305
والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم «١».
وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تحذير، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم.
روى مسلم عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب يقول: «إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا «٢»، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ.
الحلف بالله ويمين اللغو
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٥]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
الإعراب:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ عُرْضَةً: منصوب مفعول ثاني لتجعلوا.
أَنْ تَبَرُّوا فيه ثلاثة أوجه: النّصب والجر والرفع.
فأما النصب: فعلى تقدير: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم لئلا تبروا، فحذفت لا، أو كراهة أن تبروا، والتقدير الثاني أولى، لأن حذف المضاف أكثر في كلامهم من حذف «لا».
وأما الجرّ: فعلى تقدير حرف الجر وإعماله، لأنه يحذف مع «أن» كثيرا، لطول الكلام.
(١) الكشاف: ١/ ٢٧٤
(٢) الغرل: هو الأقلف الذي لم يختن.
306
وأما الرفع: فعلى أن تكون: أن وصلتها مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أمثل وأولى من تركها.
المفردات اللغوية:
عُرْضَةً هي المانع المعترض دون الشيء. لِأَيْمانِكُمْ أي ما حلفتم «١» عليه من البر والتقوى والإصلاح، ويكون: أَنْ تَبَرُّوا بدلا من أيمانكم، ويكون المعنى: لا تجعلوا الله مانعا من البر، وهذا المعنى موافق
لخبر الصحيحين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه».
وهناك معنى آخر هو: لا تجعلوا الحلف بالله معرّضا لأيمانكم، تبتذلونه بكثرة الحلف به، ويكون أَنْ تَبَرُّوا علّة للنهي، أي أن لا تبروا أو إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلّاف مجترئ على الله، غير معظم له، فلا يكون برّا متقيا، ولا يثق به الناس، وعلى هذا تكون الآية نهيا عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأحوالكم.
بِاللَّغْوِ هو اليمين الذي لا قصد فيه ولا نيّة، كأن يجري على لسانه: إي والله، ولا والله، وبلى والله، من غير قصد اليمين، وإنما يسبق إليه اللسان عادة، فلا مؤاخذة فيه بكفارة ولا إثم ولا بعقوبة. واليمين اللغو عند أبي حنيفة: أن يحلف على ظن شيء أنه حصل، ثم يظهر خلافه.
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدته من الأيمان إذا حنثتم، وهو مثل قوله تعالى:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة ٥/ ٨٩]. وَاللَّهُ غَفُورٌ ليمين اللغو. حَلِيمٌ يؤخر العقوبة عن مستحقها.
سبب النزول: نزول الآية (٢٢٤) :
روى ابن جرير الطبري عن ابن جريج، أن قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نزلت بسبب أبي بكر الصديق إذ حلف ألا ينفق على مسطح، حين خاض مع المنافقين في حديث الإفك وتكلم في عائشة رضي الله عنها، وفيه
(١) اليمين: الحلف، وأصله: أن العرب كانت إذا تحالفت أو تعاقدت، أخذ الرجل يمين صاحبه بيمينه ثم كثر ذلك، حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.
307
نزل: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى [النور ٢٤/ ٢٢].
وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، حين حلف ألا يكلم ختنه زوج أخته (صهره) : بشير بن النعمان، وألا يدخل عليه أبدا، ولا يصلح بينه وبين امرأته، ويقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، ولا يحلّ إلا أن أبرّ في يميني، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
المناسبة:
أمر تعالى في الآية السابقة بتقوى الله وحذّر من معصيته، ونبّه هنا على أن مما يتّقى ويحذر منه: أن يجعل اسم الله مانعا من البرّ والتقوى.
وقال العلماء أيضا: لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة، قال: لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلّلا بأنّا حلفنا ألا نفعل كذا.
التفسير والبيان:
للآية معنيان: الأول- إذا حلف الشخص ألا يفعل خيرا من صلة رحم أو صدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو عبادة ونحوها، فلا يكون الحلف بالله مانعا من المحلوف عليه من برّ وتقوى، وما على المؤمن إذا أراد أن يفعل البر والخير إلا أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه، كما جاء في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة- فيما رواه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه-: «إذا حلفت على يمين، ورأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك»
فتكون الآية لرفع الحرج عن الحالفين بالله إذا أرادوا فعل الخير.
(١) البحر المحيط: ٢/ ١٧٦
308
والمعنى الثاني: لا تتعرّضوا كثيرا للحلف بالله من أجل إرادة البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، لما في كثرة الحلف بالله من استخفاف واستهانة وتجرؤ على الله، وعلى المؤمن تعظيم الله تعالى وتوقيره، والابتعاد عن اليمين قدر الإمكان، سواء أكان الحالف صادقا أم كاذبا، فكان صاحب الورع مثل عمر والشافعي لا يحلف بالله ذاكرا ولا آثرا عن غيره، فتكون الآية للنهي عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان، توفيرا للثقة بكلام المتكلم بدون يمين، قال الله تعالى:
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم ١٠٦٨].
هذا في اليمين المنعقدة التي يلزم فيها الكفارة بالحنث فيها: وهي على الموسر: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد وهو المعسر الفقير فيصوم ثلاثة أيام. وقد أخبر تعالى أنه يؤاخذ على ما كسبت القلوب أي قصدت إيقاع اليمين، والمؤاخذة بالكفارة أو العقوبة عند عدم الكفارة، حتى لا يتخذ اسم الله عرضة للابتذال وتوفيرا لتعظيمه، أو مانعا من صالح الأعمال.
أما اليمين اللغو: فأخبر تعالى أنه لا مؤاخذة ولا عقاب ولا كفارة عليها بالحنث، لصدورها عن غير قصد اليمين، لأن الله غفور لعباده، فلا يؤاخذهم بما لم تقصده قلوبهم، ولم يكلفهم بما يشق عليهم، لحصوله دون اختيار.
ويمين اللغو عند الشافعيّة: هي التي تجري على اللسان دون قصد الحلف، مثل قول الشخص: لا والله، بلى والله. وإن عدم المؤاخذة عليها: هو عدم إيجاب الكفارة بها.
وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: هي أن يحلف على شيء يظنه أنه حصل، ثم يظهر خلافه، وبعبارة أخرى: اللغو: ما يحلف به على الظن، فيكون بخلافه. فهذا لا مؤاخذة فيه، أي لا يجب تكفيره. وأما ما يجري على اللسان من غير قصد فتجب فيه الكفارة.
309
والظاهر هو الرأي الأول، لأن الله قسم اليمين قسمين: ما كسبه القلب، واللغو. وما كسبه القلب: هو ما قصد إليه، وحيث جعل اللغو مقابله، فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه. قال المروزي: لغو اليمين التي اتفق العلماء على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها. وقالت عائشة رضي الله عنها: أيمان اللغو: ما كانت في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب.
فقه الحياة أو الأحكام:
تعظيم الله تعالى واجب شرعا، والإكثار من اليمين، والحنث فيه يتنافى مع واجب التعظيم لله، وفيه قلة مراعاة لحق الله تعالى، فلا يصحّ جعل الأيمان مبتذلة في كلّ حقّ أو باطل، أو في الصدق أو الكذب.
أما إذا حلف المؤمن معظّما الله تعالى، وكان المحلوف عليه أمرا خيريا، فلا تمنعه اليمين من فعل الخير المحلوف عليه، وعليه أن يكفّر عن يمينه، وهذا نوع من التسامح والتيسير في شرع الله تعالى، حبّا في فعل الخير: من صدقة أو معروف أو صلة رحم أو إصلاح بين الناس.
كما أن من فضل الله تعالى، وتيسيره على الناس، وعدم تكليفهم بالشاق من الأحكام، ودفعا للحرج عنهم، أنه رفع المؤاخذة والإثم والكفارة عن اليمين اللغو، لأنه الغفور الحليم، الرءوف الكريم.
310
حكم الإيلاء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
الإعراب:
لِلَّذِينَ اللام تفيد الاستحقاق، كقولك: الرحمة للمؤمنين واللعنة للكفار.
مِنْ نِسائِهِمْ جار ومجرور متعلقان بمحذوف تقديره: كائنا من نسائهم. وليست مِنْ متعلقة بفعل يُؤْلُونَ، لأنه يقال: آلى على امرأته، ولا يقال: آلى من امرأته، فهو غلط.
البلاغة:
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ خرج الخبر عن ظاهره إلى معنى الوعيد والتهديد.
المفردات اللغوية:
يُؤْلُونَ يحلفون أو يقسمون، والأليّة: الحلف، جمع ألايا، والإيلاء: أن يحلف الرجل ألا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. وإنما عدّيت يُؤْلُونَ بمن، وهي إنما تعدى بعلى، إما لأنه ضمن يُؤْلُونَ معنى يعتزلون، وإما لأن في الكلام حذفا، وتقديره: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكر: يعتزلون، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
تَرَبُّصُ انتظار. فاؤُ رجعوا إلى نسائهم عن اليمين. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما حلفوا عليه من ضرر المرأة. رَحِيمٌ بهم.
عَزَمُوا الطَّلاقَ صمموا على إيقاع الطلاق، وعزموا ألا يعودوا إلى الاستمتاع بنسائهم.
فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم. عَلِيمٌ بعزمهم، أي ليس لهم بعد تربص مدة أربعة أشهر إلا الفيئة أو الطلاق.
311
سبب النزول:
قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السّنة والسّنتين وأكثر من ذلك، فوقّت الله أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك، لا أيّما ولا ذات بعل، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الآية «١».
وذكر مسلم في صحيحة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم آلى وطلّق، وسبب إيلائه سؤال نسائه إياه من النفقة ما ليس عنده.
وذكر ابن ماجه سببا آخر: وهو أن زينب ردّت عليه هديته، فغضب صلّى الله عليه وسلّم، فآلى منهن.
ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تقدم شيء من أحكام النساء وشيء من أحكام الأيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.
التفسير والبيان:
حدد الله تعالى مدة قصوى للذين يحلفون ألا يقربوا نساءهم، وهي أربعة أشهر، إشارة إلى أن الإيلاء لمدة طويلة مما لا يرضي الله تعالى، لما فيه من قطيعة واستمرار نزاع، ومنعا من إلحاق الضرر بالمرأة وامتهانها وإهدار حقوقها.
فإن رجعوا بالفعل لا بالقول «٢» إلى ما حلفوا على الامتناع منه وكانوا عليه، فإن الله يغفر لهم ما كان من الحنث في أيمانهم، لأن الفيئة توبة في حقهم، رحيم
(١) البحر المحيط: ٢/ ١٨٠
(٢) إن الفيء بالفعل عند الجمهور غير الحنفية هو الذي يسقط اليمين، والفيء بالقول لا يسقطها
312
بهم وبغيرهم من المؤمنين، فلا يؤاخذهم بما سلف، لأن رحمته وسعت كل شيء.
ومعنى تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ: أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف، ويطالب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال: فَإِنْ فاؤُ. وإن عزموا الطلاق، فلم يفيئوا إلى نسائهم، فإن الله سميع لإيلائهم وطلاقهم، عليم بنياتهم، وبما ارتكبوه مما يحرم أو يحلّ، فليراقبوه فيما يفعلون، فإن أرادوا إيذاء النساء ومضارتهن، فهو يتولى عقابهم، وإن كان لهم عذر شرعي مثل حملهن على إقامة حدود الله، فالله يغفر لهم.
ومجمل الحكم: أن من حلف على ترك قربان امرأته واستمر على امتناعه أربعة أشهر، فإما أن يفيء إلى زوجته، ويحنث في يمينه، ويكفّر عنها، وإما أن يطلق، فإن أبى الطلاق طلّق عليه القاضي. أي له الخيار بين أمرين: الفيئة أو الطلاق. والفيئة أفضل من الطلاق، لأن الله جعل جزاءها المغفرة والرحمة، وهدد في حال الطلاق بأن الله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم وأفعالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ على أن الإيلاء يختص بالزوجات.
ويلزم الإيلاء كلّ من يلزمه الطلاق، فالحرّ والعبد والسكران يلزمه الإيلاء، وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا غير مجنون، وكذلك الخصي غير المجبوب، والشيخ الكبير إذا كان فيه بقية قوة ونشاط. أما المجبوب:
فللشافعي فيه قولان: قول: لا إيلاء له، وقول: يصحّ إيلاؤه، والأول أصح.
ويصحّ إيلاء الأخرس بما يفهم عنه من كتابة أو إشارة مفهومة، ويقع إيلاء الأعجمي كالعربي بلغته.
واختلف العلماء فيما يقع به الإيلاء من اليمين:
313
فقال الشافعي في الجديد: لا يقع الإيلاء إلا باليمين بالله تعالى وحده،
لقوله عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت».
وقال الحنفية والمالكية: يصحّ الإيلاء باليمين، أو بالحلف على ترك الوطء بالطلاق أو العتاق، أو نذر التصدق بالمال أو الحج، أو الظهار، لقول ابن عباس: «كلّ يمين منعت جماعا فهي إيلاء. وكلّ من حلف بالله أو بصفة من صفاته، فقال: أقسم بالله أو أشهد بالله، أو علي عهد الله وكفالته وميثاقه وذمّته، فإنه يلزمه الإيلاء اتفاقا». وأضاف المالكية: أنه لا تشترط اليمين في الإيلاء، فإذا امتنع الرجل من الوطء بقصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان موليا، لوقوع الضرر.
وقال الحنابلة على الرواية المشهورة: لا يكون الإيلاء بالحلف بالطلاق والعتاق، بدليل قراءة أبي وابن عباس: «للذين يقسمون» بدل يُؤْلُونَ.
فإن حلف بالله ألا يطأ واستثنى، بأن قال: إن شاء الله، فالأصح لدى المالكية وفقهاء الأمصار: ليس بمول، لأن الاستثناء يحلّ اليمين، ويجعل الحالف كأنه لم يحلف.
وكذا إن حلف بالنّبي أو بالملائكة أو بالكعبة ألا يطأها، أو قال: هو يهودي أو نصراني أو زان إن وطئها: ليس بمول، في رأي مالك وغيره.
واختلف العلماء في صفة اليمين التي يكون بها الحالف موليا.
فقال جماعة (علي وابن عباس والزهري) : لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك الوطء إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار، فلا يكون موليا، لأن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يقصد الضرر، وإنما قصد الصلاح والخير، لم يكن موليا، فلا معنى لتحديد الأجل، حتى تتخلّص من مساءته.
314
وقال آخرون: إنه يكون موليا، سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة.
وقال بعضهم: ليست يمين الإيلاء مقصورة على الحلف بترك الوطء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنها، أو ليسوءنها، أو ليحرمنها، أو ليخاصمنها، كل ذلك إيلاء.
واختلف الفقهاء في الفيء:
فقال الجمهور: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، فإن كان هناك عذر من مرض أو سفر، ومضت مدة الإيلاء دون وطء، بانت منه في رأي طائفة، وقال الأكثرون منهم المالكية: لا تبين منه، وارتجاعه صحيح وهي امرأته.
وقال الحنفية: الفيء إما بالفعل وهو الجماع في الفرج، وإما بالقول: كأن يقول: فئت إليك، أو راجعتك، وما أشبه ذلك.
وأما الطلاق بعد ترك الفيء في الإيلاء ففيه اختلاف أيضا:
فقال الحنفية: الفيء يكون قبل مضي المدة، فإذا مضت الأربعة الأشهر بدون فيئة، وقع الطلاق طلاقا بائنا.
وقال الجمهور: لا يقع الطلاق بمجرد مضي المدة، فإن مضى الأجل، لا يقع به طلاق، وإنما ترفع المرأة الأمر إلى القاضي، فإما فاء وإما طلّق، أي إن الطلاق يقع بتطليق الزوج، أو القاضي إذا رفعت الزوجة الأمر إليه.
ومنشأ الخلاف: اختلافهم في تأويل آية: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فرأى الحنفية: إن فاءوا في هذه الأشهر، فإن الله غفور رحيم لما أقدموا عليه من الحلف على الإضرار
315
بالزوجة، وإن لم يفيئوا في هذه الأشهر، واستمروا في أيمانهم، كان ذلك عزما منهم على الطلاق، ويقع الطلاق بحكم الشرع. ويكون معنى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي بترك الفيئة، وقد شبهوا مدة الإيلاء بالعدة. والمولى عنها بالرجعية، وشبهوا الطلاق بالطلاق الرجعي. وكان الإيلاء في الجاهلية طلاقا، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل.
والمعنى عند الجمهور: للذين يحلفون يمين الإيلاء انتظار أربعة أشهر، فإن فاءوا بعد انقضاء المدة، فإن الله غفور رحيم، وإن قصدوا إيقاع الطلاق، فإن الله سميع لطلاقهم، عليم بما يصدر عنهم من خير أو شرّ، فيجازيهم عليه. وقد شبهوا أجل الإيلاء بالأجل الذي يحدد في العنّه (العجز الجنسي)، لأن الإيلاء ضرر بالزوجة، فإن رفعه الزوج وإلا رفعه الشرع كما في أي ضرر يتعلق بالوطء، وهذا هو الظاهر، لأن قوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة «١».
ولا فرق في لزوم الإيلاء بين المرأة المدخول بها وغير المدخول بها.
ولا يشترط في المولي عند الجمهور: أن يكون مسلما، فيصح إيلاء المسلم والكافر، ولكن لا تلزمه الكفارة بالحنث عند الحنفية، وتلزمه الكفارة في رأي الشافعية والحنابلة. واشترط المالكية أن يكون المولي مسلما، فلا يصح إيلاء الذّمي، كما لا يصحّ ظهاره ولا طلاقه، لأن نكاح أهل الشرك لديهم غير صحيح، وإنما لهم شبهة يد، ولأنهم لا يكلفون الشرائع، حتى تلزمهم كفارات الأيمان، فلو ترافعوا إلينا في حكم الإيلاء، لم ينبغ لحاكمنا أن يحكم بينهم، ويذهبون إلى حكامهم، فإن جرى ذلك مجرى التظالم بينهم، حكم بحكم الإسلام، كما لو ترك المسلم وطء زوجته، ضرارا من غير يمين.
(١) روى مالك والبخاري عن ابن عمر قال: «إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء».
316
واتفق أئمة المذاهب الأربعة على وجوب كفارة اليمين على المولي الحانث بيمينه إذا فاء بجماع امرأته.
وأجمع العلماء على مشروعية تقديم الكفارة على الحنث في الإيلاء، واختلفوا في مسألة الأيمان، فرأى أبو حنيفة: أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث فيها.
وذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي لأربعة أشهر الأثر الذي رواه مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار، قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل، فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقني أن لا خليل ألا عبه
فو الله لولا الله أني أراقبه لحرّك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟
فقالت: ستّة أشهر أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك.
عدّة المطلّقة وحقوق النساء
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
317
الإعراب:
يَتَرَبَّصْنَ خبر بمعنى الأمر، أي ليتربصن، وجاز ذلك لأن المعنى مفهوم. ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب ثَلاثَةَ على أنه مفعول به، أو ظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء. وقُرُوءٍ جمع كثرة، وأقراء جمع قلة، وإضافة العدد القليل وهو من الثلاثة إلى العشرة، إلى جمع القلة أولى من إضافته إلى جمع الكثرة، والسبب في مجيء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء: هو أن العرب يتسعون في ذلك، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر، لاشتراكهما في الجمع، ألا ترى إلى قوله: بِأَنْفُسِهِنَّ، وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه، تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل. وفي ذكر الأنفس: تهييج لهن على التربّص، وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكف منه، فيحملهن على أن يتربص، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن بقمع أنفسهن وجبرها على التربّص (الكشاف: ١/ ٢٧٧).
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ مِثْلُ: مبتدأ، ولَهُنَّ خبره، وعَلَيْهِنَّ: صلة الَّذِي، ويتعلق بفعل مقدر: وهو الذي استقر عليهن. وبِالْمَعْرُوفِ:
متعلق بلهن، وتقديره: استقرّ لهن حق مثل الذي عليهن بالمعروف، أي بالذي أمر الله في ذلك.
البلاغة:
يَتَرَبَّصْنَ خبر في معنى الأمر، أي ليتربصن، كما بيّنا. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ للتهييج والحثّ والبعث على الأمر. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ فيه طباق بين لهن وعليهن، وفيه إيجاز، والمعنى: لهن على الرجال من الحقوق مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق.
المفردات اللغوية:
يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن ويصبرن. قُرُوءٍ جمع قرء، ويطلق في كلام العرب على الطهر، وعلى الحيض حقيقة، فهو من ألفاظ الأضداد. وأصل القرء: الاجتماع، وسمي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن، وسمي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم، وقد يطلق القرء على الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. ولما كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم، سمت العرب وقت مجيئه قرءا. وجاء القرء بمعنى الحيض في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك»
لذا قال الحنفية والحنابلة: المراد بالقرء الحيض، وقال المالكية والشافعية: المراد به الطهر.
والاعتداد للمطلقات ثلاثة قروء مخصوص بالحرائر المدخول بهن، أما غيرهن أي قبل الدخول، فلا عدّة عليهن، لقوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب ٣٣/ ٤٩]، والقروء
318
مخصوصة أيضا بغير الآيسة والصغيرة، لأن عدتهما ثلاثة أشهر، وكذلك غير الحوامل لأن عدة الحوامل بوضع الحمل، كما في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. [الطلاق ٦٥/ ٤]. وعدة الإماء: قرءان، بالسّنة.
ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد أو الحيض. وَبُعُولَتُهُنَّ أزواجهن، مفرده بعل أي زوج، والمراد هنا الزوج الذي طلق. إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بينهما، لا إضرار المرأة، وهو تحريض على قصده، لا شرط لجواز الرجعة، وهذا في الطلاق الرجعي. وَلَهُنَّ للنساء على الأزواج. مِثْلُ الَّذِي لهم عَلَيْهِنَّ من الحقوق. بِالْمَعْرُوفِ شرعا، من حسن العشرة وترك الإضرار ونحو ذلك. وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة في الحق، من وجوب طاعتهن لهم، لما ساقوه من المهر والإنفاق. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ فيما دبّره لخلقه.
سبب النزول:
أخرج أبو داود وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصارية، قالت: طلّقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن للمطلقة عدّة، فأنزل الله العدة للطلاق: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
التفسير والبيان:
لتتربص ثلاث حيضات أو أطهار بعد الطلاق حرائر النساء اللاتي يطلقن، وهن من ذوات الحيض، للتعرف على براءة الرحم من الولد، فيؤمن من اختلاط الأنساب، وقد أخرج من حكم الآية كما بيّنا ثلاثة أصناف من النساء:
وهنّ المطلقات قبل الدخول، فلا عدّة عليهن، والصغيرات قبل سنّ الحيض واليائسات من المحيض لكبر السّن، فعدتهن ثلاثة أشهر، والحوامل فعدتهن وضع الحمل، فصارت الآية هنا خاصة بعدّة النساء الممكنات الحيض، غير المدخول بهنّ، وغير الحوامل.
والتعبير بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ يشير إلى أن على النساء أن يحملن
319
أنفسهن على الصبر والانتظار لإتمام تلك المدة، حتى تنقضي العدّة، فلا يسايرن أهواءهن وشهواتهن، إذ قد تكون أنفسهن تواقة إلى سرعة انقضاء العدّة، والتزوّج بزوج آخر. وفي هذا التعبير لفت نظر لطيف، فيه تعظيم وتبجيل، إذ لم يؤمرن بذلك أمرا صريحا.
وحكمة هذا التربّص: هو التعرّف على براءة الرحم، فلا تختلط الأنساب، لذا لا يحلّ للنساء أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض، وإن طالت العدة للتزوج بزوج آخر، ولا يحلّ لهنّ الكذب بكتمان الحيض أيضا لأجل استدامة النفقة ما دمن في العدّة، وقد جرت المحاكم الآن على أن أقصى العدّة سنة قمرية، كما هو مذهب مالك رحمه الله تعالى.
وذلك إذا كنّ مؤمنات إيمانا صادقا بالله وباليوم الآخر، فلا يخفى على الله شيء، ويحاسب كل إنسان على قوله وفعله يوم القيامة، مما يقتضي أن تكون المرأة أمينة على ما في رحمها، فإن لم تكن أمينة لعدم إيمانها الكامل أضلّت نفسها وغيرها. وفي هذا تهديد شديد ووعيد لهن على خلاف الحق، مما يدل على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البيّنة غالبا عليه، فردّ الأمر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالا منها لانقضاء العدّة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في الحالين من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في شأنها من غير زيادة ولا نقصان.
وأزواجهن في حال الطلاق الرجعي أحقّ برجعتهن إلى بيت الزوجية، في مدة العدّة، حرصا من الشرع على إبقاء الرابطة الزوجية السابقة، فليس هناك من الحلال أبغض عند الله من الطلاق، وعلى المرأة الاستجابة إلى طلب الزوج الرجعة، بشرط أن يكون المقصود بالرجعة: الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان القصد هو الانتقام والإضرار ومنعها من الزواج بآخر، حتى تكون كالمعلّقة،
320
لا هي زوجة له بالمعنى الكريم، ولا يمكّنها من التزوّج بغيره، فهو آثم عند الله، بإلحاق الضرر بها، والحيلولة بينها وبين الزواج برجل آخر.
وهذا يدل على أن الرجعة مشروطة ديانة بإرادة الإصلاح، ونية المعاشرة بالمعروف. وبمناسبة الرجعة ذكّر الله الزوجين بما لهما من الحقوق وما عليهما من الواجبات، فللرجل حقوق، وعليه واجبات للمرأة، وللمرأة مثل ذلك.
وهما متساويان في الحقوق والواجبات، لأن لكل منهما كرامة إنسانية وأهلية تامة من عقل وتفكير ورغبات ومشاعر وإحساسات، وحقّا في العيش الحرّ الكريم، إلا في درجة القوامة: أي تسيير شؤون الأسرة المشتركة والقيام على مصالحها بقيادة الرجل، لما فضله الله على المرأة بسعة العقل والخبرة، والحكمة والاتّزان دون التأثر السريع بالعواطف العابرة، ولأنه الذي ينفق ماله وكسبه من بداية تكوين الزواج بدفع المهر، إلى نهايته بالنفقة الدائمة على شؤون الحياة بتوفير المسكن والملبس والطعام، كما قال الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء ٤/ ٣٤].
وسبب القوامة أن كل شركة أو حياة اجتماعية تتطلب وجود رئيس مسئول عنها، يتحمل الأعباء، ويستعد لتحمل المغارم والخسارات، ويدير أمر هذه المؤسسة بما يوصلها إلى شاطئ الأمن والسعادة والاستقرار، في داخل المنزل وخارجه، تعليما وتعلّما، وتمكينا من ممارسة الخبرات والمهارات التي تفيد الزوجة والفتاة في حاضر الزمان ومستقبله.
وإذا كان اضطلاع الرجل غالبا بالمهام الملقاة على عاتقه خارج المنزل، لتوفير المورد والكسب المطلوب لحياة الأسرة، فإن المرأة تضطلع غالبا بمسؤوليات جسام تكمل مهمة الرجل، في رحاب البيت، فهي الملكة التي تربي الأولاد على الأخلاق والفضائل، وهي التي تعين الرجل على توفير متطلبات الحياة
321
الضرورية، وهذا هو حكم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بين علي وفاطمة رضي الله عنهما، إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه، وعليّا كرّم الله وجهه خارج البيت يكافح ويبحث عن الرزق، ويجاهد في سبيل الله والحق، وفي سبيل أسرته.
ولا مانع من عمل المرأة خارج المنزل عند الحاجة بشرط التزام ما يقتضيه الدّين والخلق وعدم الخلوة، والسّتر المطلوب شرعا، فكل المرأة عورة ما عدا الوجه والكفين، لكنهما مما يجب غضّ البصر عنهما كباقي جسد المرأة «١»، كما يشترط أن تكون المرأة في العمل حرّة أبية لا تلين في الكلام، لقوله تعالى:
فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.. [الأحزاب ٣٣/ ٣٢- ٣٣].
وأما عدم التقيد بالقيود الشرعية لعمل المرأة فيؤدي إلى كثير من المفاسد والفتن، ولتكن المرأة متيقظة دائما، فإنه لا يراد بمحادثتها غالبا إلا السوء، وجعلها أداة تسلية ومتعة.
وما أروع ما ختمت به الآية من التذكير بعزة الله وقدرته التي لا تغلب، وبحكمته بوضع الشيء في موضعه المناسب له، فهو حكيم الصنع والأمر والبيان، فمن عزته وحكمته: إنصاف المرأة بجعلها في الحقوق والواجبات كالرجل، بعد أن كانت كالمتاع لا تتمتع بالحقوق الكريمة، وإعطاء الرجل حق القوامة (الرياسة)، فلا يغترن بهذه الدرجة، فإذا دعته قدرته إلى ظلم المرأة أو غيرها، فليذكر قدرة الله عليه، وليكن الرجل حكيم القيادة، متحملا لمهام المسؤولية الملقاة على عاتقه، بكل ثقة وأمانة وجرأة وعدالة فلا يتساهل في حكم شرعي، لأنه راع، وكل راع مسئول عن رعيته، ولا يفرط في واجب عند القدرة، ولا يغمط أحدا في الأسرة حقه، لأن الله سائله عما يعمل. وفي هذا من الوعيد لمن خالف أحكام الله تعالى.
(١) إلا في حدود ما تتطلبه المعاملة، أو تقتضيه الضرورة كالعلاج والتعلّم والشهادة أمام القضاء.
322
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى أحكام في الطلاق:
١- وجوب العدة:
تجب العدة لأهداف كثيرة: منها التعرف على براءة الرحم، ومنها صون سمعة المرأة، والحفاظ على نعمة الزوجية وتقديرها، والتفكير في عواقب الطلاق، والتدبر في أمر الحياة، فيصلح كل من الرجل والمرأة أخطاءه، وتعطى الفرصة الملائمة للعودة إلى الحياة الزوجية بنمط جديد أحسن مما كان في الماضي، لتستقيم شؤون المعاشرة، وينظر في مستقبل الأولاد والمعيشة الهانئة.
والعدة: ثلاثة أطهار في رأي ابن عمر وزيد وعائشة، وفقهاء المدينة السبعة، والمالكية والشافعية، لأن القرء في اللغة: الانتقال من الطهر إلى الحيض، وليس الخروج من الحيض إلى الطهر قرءا، لأن الانتقال من الطهر إلى الحيض هو الذي يدل على براءة الرحم، فإن الحامل لا تحيض في الغالب، فبحيضها نعلم براءة رحمها، والانتقال من حيض إلى طهر بخلافه، فإن الحائض يجوز أن تحبل في أعقاب حيضها، وإذا تمادى أمد الحمل وقوي الولد، انقطع دمها.
ثم إن لفظ ثَلاثَةَ المؤنث يدل على أن المعدود مذكر، لا مؤنث، وهو الطهر، لا الحيضة، لضرورة التغاير بين العدد والمعدود في اللغة في التذكير والتأنيث.
والله تعالى قال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي في وقت العدة، والطلاق للعدة: ما كان في الطهر، وهو الطلاق السّني، أما الطلاق في زمن الحيض فهو طلاق بدعي منهي عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الطهر، وإذا كان الطلاق للعدة ما كان في الطهر، فهو يدل على كون القرء مأخوذا من
323
الانتقال، وتقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة انتقالات.
والعدة في رأي عمر وعلي وابن مسعود، والحنفية، والحنابلة بمقتضى الرواية الأخيرة عن أحمد أو في أصح الروايتين: ثلاث حيضات، لأن عدة الأمة اتفاقا بالحيضة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان»
فتقاس الحرة على الأمة، ولأن الذي يدل على براءة الرحم، إنما هو الحيض لا الطهر.
ورجح هذا الرأي من جهة المعنى.
وتظهر فائدة الخلاف في حالة ما إذا طلقها في أثناء الطهر، فعلى الرأي الأول يحتسب من العدة وتنتهي بمجيء الحيضة الثالثة، وعلى الرأي الثاني:
لا يحتسب من العدة، ولا تنتهي إلا بانقضاء الحيضة الثالثة.
وعلى كلا الرأيين: المرأة مؤتمنة على ما في رحمها من حمل أو حيض، يقبل قولها فيه، لأنه لا يعلم إلا من قبلها. وإنما حرم الله أن يكتمن ما في أرحامهن، لأنه يتعلق بخبرها حق الرجل في الرجعة، وعدم اختلاط الأنساب. فإذا ادعت انتهاء عدتها، حرمت الرجل من حقه في الرجعة، وإذا كانت حاملا وادعت انقضاء العدة، ثم تزوجت بآخر، اختلطت الأنساب.
واختلف الفقهاء في أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء:
فقال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة: ستون يوما، عملا بالوسط في مدة الحيض، وهو خمسة أيام، فتكون الحيضات الثلاث خمسة عشر يوما، والأطهار خمسة وأربعين يوما، على أن يبدأ بالطهر، فيكون المجموع ستين يوما.
وأقل مدة عند المالكية تنقضي بها العدة بالأقراء (الأطهار) شهر: ثلاثون يوما، بأن يطلقها زوجها في أول ليلة من الشهر، وهي طاهرة، ثم تحيض، وينقطع عنها الحيض قبل الفجر، لأن أقل الحيض عندهم يوم، أو بعض يوم
324
بشرط أن تقول النساء: إنه حيض، ثم تطهر خمسة عشر يوما، ثم تحيض في ليلة السادس عشر، وينقطع قبل الفجر أيضا، ثم تحيض عقيب غروب آخر يوم من الشهر وينقطع قبل الفجر، فتكون قد طهرت ثلاثة أطهار: الطهر الذي طلقها فيه، ثم الطهر الثاني، ثم الثالث، فيحدث تمام الشهر ثلاثين يوما.
وأقل مدة تنقضي بها العدة في رأي الشافعية: اثنان وثلاثون يوما ولحظتان، ولا يقبل أقل من ذلك بحال، لأنه لا يتصور عندهم أقل من تلك المدة، بأن تطلق وقد بقي لحظة من الطهر، وهي قرء عندهم، ثم تحيض يوما وليلة أقل الحيض عندهم، ثم تطهر خمسة عشر يوما أقل الطهر، وذلك قرء ثان، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر خمسة عشر يوما، وذلك قرء ثالث، ثم تحيض.
وهذه الحيضة ليست من العدة، بل لتيقن انقضائها، فذلك اثنان وثلاثون يوما ولحظتان.
وأقل مدة عند الحنابلة على أن الأقراء هي الحيضات، كما يقول الحنفية:
تسعة وعشرون يوما ولحظة، وذلك بأن يطلقها مع آخر الطهر، ثم تحيض بعده يوما وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر ثلاثة عشر يوما، ثم تحيض يوما وليلة، ثم تطهر لحظة، ليعرف بها انقطاع الحيض.
ويلاحظ أن المعقول والغالب هو رأي أبي حنيفة، وأما الآراء الأخرى فيمكن أن تقع، ولكنها نادرة.
٢- مشروعية الرجعة:
أي ارتجاع الرجل زوجته إلى عصمته وملك زواجه ما دامت في عدتها، والرجل مندوب إلى المراجعة. وهذا من أحكام الطلاق، للآية: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً والرجعة مشروعة بشرط قصد إصلاح حاله معها، لا الضرر، فإذا أراد المضارة وتطويل العدة وجعلها كالمعلقة،
325
فحرام، وليس له حق الرجعة، لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة ٢/ ٢٣١] لكن لو فعل ذلك فالرجعة صحيحة، وإن خالف وظلم نفسه، إذ لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها، عاملناه بظاهر أمره، وجعل الله التطليقات الثلاث علما على امتناعها. ودل لفظ «أحق» على أن حق الزوج في مدة التربص أحق من حقها بنفسها، فإنها إنما تملك نفسها بعد انقضاء العدة، مثل
قوله عليه الصلاة والسلام: «الثيب أحق بنفسها من وليها» «١».
وحق الرجعة بغير عقد ولا شهود مقصور على المطلقة رجعيا في أثناء العدة لا بعد انقضائها، ولم يشترط الإشهاد إلا الظاهرية، وإنما هو مستحب أو مندوب عند العلماء الآخرين. فإن لم يراجعها المطلّق حتى انقضت عدتها، فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه، لا تحل له إلا بخطبة وزواج مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة، بإجماع العلماء.
واختلفوا فيما يكون به الرجل مراجعا في العدة:
فقال الشافعية: تحصل الرجعة في العدة بالقول الصريح، أو بلفظ كنائي بنية مثل قول المرتجع: تزوجتك أو نكحتك، ولا تحصل بالوطء.
وقال الجمهور: تحصل الرجعة في العدة بالقول، أو بالفعل ومنه الخلوة كتقبيل بشهوة ووطء، وأضاف المالكية: وتحصل أيضا بالنية: وهي حديث النفس، بأن يقول في نفسه: راجعتها، ولم يجز الحنابلة الرجعة بالكناية.
واختلفوا أيضا في حكم المطلقة الرجعية في مدة التربص: أحكمها حكم الزوجة أم ليست كذلك؟
فذهب الحنفية، والحنابلة في ظاهر المذهب: إلى أن حكمها حكم الزوجة،
(١) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس.
326
فلا يحرم الاستمتاع بها أو مباشرتها مدة التربص، وأحكام الزوجية باقية لم ينحل منها شيء.
وذهب المالكية والشافعية: إلى أنها ليست كالزوجة، فيحرم الاستمتاع بها قبل المراجعة، بوطء أو غيره، حتى بالنظر ولو بلا شهوة، لأنها مفارقة كالبائن، ولأن النكاح يبيح الاستمتاع، والطلاق يحرمه، لأنه ضده.
ومنشأ الخلاف: اختلاف الفهم في هذه الآية، فقد سماهم الله بعولة (أزواجا) وهذا يقتضي أنهن زوجات، لكنه قال: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات، إذ الرد إنما يكون لشيء قد انفصم.
فذهب الفريق الأول إلى أن الرجعية زوجة، وفائدة الطلاق نقص العدد، وأن أحكام الزوجية وإن كانت باقية، فالمرأة ما دامت في العدة سائرة في سبيل الزوال بانقضاء العدة. وأوّلوا قوله أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فقالوا: إنهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته، لخرجن عن الزوجية، فالارتجاع رد لهن عن التمادي في ذلك الطريق.
والفريق الثاني أوّلوا قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ على الماضي، سماهم بعولة باعتبار ما كان، ومعنى أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ: ردهن إلى الزوجية. وأرى أن هذا هو الحق، وإلا لم يكن للطلاق أثر في التحريم.
واتفق الفريقان على أنه ليس له أن يسافر بها قبل أن يرتجعها. ولها في رأي الفريق الأول: أن تتزين له وتتطيب وتلبس الحلي وتتشرف. وليس لها أن تفعل ذلك لدى الفريق الثاني، وليس له أن يخلو معها، ولا أن يدخل عليها إلا بإذن، ولا أن ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها. ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما، ولا يبيت معها في بيت وينتقل عنها.
327
وأجمع العلماء على أن المطلّق إذا قال بعد انقضاء العدة: إني كنت راجعتك في العدة، وأنكرت: أن القول قولها مع يمينها، ولا سبيل له إليها.
٣- حقوق الزوجين:
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ: ليس الزواج في الإسلام عقد استرقاق وتمليك، وإنما هو عقد يوجب حقوقا مشتركة ومتساوية بحسب المصلحة العامة للزوجين، فهو يوجب على الزوج حقوقا للمرأة، كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج. وفي هذا التعبير الموجز ثلاثة أحكام:
الأول- للنساء من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن، مثل حسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف، وترك المضارّة، واتقاء كل منهما الله في الآخرة، وطاعة الزوجة لزوجها، وتزين كل منهما للآخر، قال ابن عباس:
«إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي..» «١» وتكون زينة الرجال بالمظهر اللائق والنظافة، وحسن الهندام واللباس، والتطيب والخضاب، وما يليق بالأحوال في وقت الشباب والكهولة والشيخوخة،
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمرني ربي أن أعفي لحيتي، وأحفي شاربي».
الثاني- إعفاف كل من الزوجين الآخر بحسب الحاجة، ليستغني كل منهما عن التطلع إلى غيره، ويتوخى الوقت المناسب، ويعالج كل منهما نفسه بالأدوية اللازمة إذا شعر من نفسه عجزا عن تأدية حق الآخر.
الثالث- للرجال درجة (أي منزلة) على النساء: وهي درجة القوامة والولاية، وتسيير شؤون الأسرة، كما قال الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى
(١) رواه ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم.
328
النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء ٤/ ٣٤] أي أن مسوغ التفضيل وإعطاء درجة القيادة له أمران:
أ- تكوين الرجل بزيادة خبرته واتزانه وعقله، وإعداده لتحمل الأعباء والكفاح والعمل.
ب- إلزامه بالإنفاق على المرأة: بدفع المهر وتوفير الكفاية لها من مسكن وملبس ومطعم ومشرب ومداواة ونحو ذلك.
هذه الدرجة في الحقيقة كما تبيّن: هي غرامة وتكليف للرجال أكثر من تكليف النساء، لذا كان حق الزوج عليها أوجب من حقها عليه، ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام: «لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
وقال ابن عباس: «الدرجة إشارة إلى حضّ الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق» أي أن الأفضل ينبغي أن يتحمل أخطاء الآخر، ويتحامل على نفسه، ويضبط أعصابه في معالجة المشكلات أو الأزمات الطارئة. قال ابن عطية: وهذا قول حسن بارع.
والخلاصة: الزواج شركة بين اثنين، وعلى كل شريك أن يؤدي للآخر حقوقه، ويقوم بما يجب عليه له بالمعروف، كما
ثبت في صحيح مسلم عن جابر:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته في حجة الوداع: «فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟ قال:
329
«أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت».
وأما الدرجة للرجال: فهي في الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة «١».
عدد الطلاق وما يترتب عليه من أحكام
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٩ الى ٢٣٠]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
الإعراب:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ مبتدأ وخبر، وهذا الكلام فيه اتساع، وتقديره: الطلاق في مرتين، والطلاق في معنى التطليق. وقيل: تقديره: عدة الطلاق الرجعي مرتان.
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: فعليه إمساك بمعروف. ومثله:
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء من غير الجنس. وأن لا يقيما: في موضع نصب، لأن تقديره: من أن لا يقيما، فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل إليه.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٢٧١
330
البلاغة:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ طباق بين لفظي إمساك وتسريح.
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والتعظيم في النفس.
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قصر صفة على موصوف. وجاء هذا الوعيد بعد النهي للمبالغة في التهديد.
المفردات اللغوية:
الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي التطليق الذي يراجع فيه، كالسلام بمعنى التسليم، ومرتان: دفعتان أو اثنتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي فعليكم إمساكهن بعد المراجعة من غير إضرار، بل بإصلاح وحسن معاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إيقاع الطلقة الثالثة بدون رجعة وأداء حقوقها المالية، دون أن يذكرها بعد المفارقة بسوء. حُدُودَ اللَّهِ أحكامه وشرائعه تَعْتَدُوها تتجاوزوها، والاعتداء: تجاوز الحد في قول أو فعل.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي لا إثم ولا حرج على الزوج في أخذ المال الذي افتدت به نفسها ليطلقها، ولا حرج أيضا على الزوجة في بذله. تِلْكَ الأحكام المذكورة الظَّالِمُونَ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. حَتَّى تَنْكِحَ تتزوج زوجا غيره ويطأها، كما في الحديث الصحيح عند الشيخين: البخاري ومسلم. فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجة والزوج الأول أن يتراجعا إلى الزواج الجديد بعقد جديد بعد انقضاء العدة يَعْلَمُونَ يتدبرون.
سبب النزول:
لم يكن للطلاق لدى عرب الجاهلية حد ولا عدد، فكان الرجل يطلق ثم يراجع وتستقيم الحال، وإن قصد الإضرار يراجع قبل انقضاء العدة، ثم يستأنف طلاقا جديدا، مرة تلو مرة إلى أن يسكن غضبه، فجاء الإسلام لإصلاح هذا الشذوذ ومنع الضرر.
نزول الآية (٢٢٩) :
أخرج الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة قالت: «كان الرجل يطلق
331
امرأته ما شاء أن يطلق، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك، فتبيني مني، ولا آويك أبدا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، فكلما همت عدتك أن تنقضي، راجعتك، فذهبت المرأة، وأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسكت حتى نزل القرآن: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.
وقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ... الآية: أخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال: كان الرجل يأكل من امرأته نحلة- عطاءه- الذي نحلها وغيره، لا يرى أن عليه جناحا، فأنزل الله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما... الآية:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فدعاه، فذكر ذلك له، قال: وتطيب لي بذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، فنزلت: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ... الآية.
وروى البخاري وابن ماجه والنسائي عن ابن عباس أن جميلة أخت عبد الله بن أبيّ بن سلول زوج ثابت بن قيس أتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت:
يا رسول الله، ثابت بن قيس، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن لا أطيقه بغضا، وأكره الكفر في الإسلام «١»، قال: أتردين عليه حديقته «٢» ؟ قالت:
نعم، قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة».
(١) تريد كفران نعمة العشير وخيانته.
(٢) وكان قد أصدقها إياها.
332
نزول الآية (٢٣٠) :
أخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال: نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك، وهو ابن عمها، فطلقها طلاقا بائنا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، فطلقها، فأتت النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إنه طلقني قبل أن يسمني، أفأرجع إلى الأول؟ قال:
لا حتى يمس، ونزل فيها: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فَإِنْ طَلَّقَها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا.
التفسير والبيان:
هذه الآية مخصصة لقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة ٢/ ٢٢٨] فهي واردة لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة، والعدد الذي لا رجعة فيه. والمعنى: إن عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أي اثنتان أو طلقتان فقط، وليس بعد المرتين إلا أحد الأمرين: الإمساك بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو التسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها، حتى تتم العدة من الطلقة الثانية، ولا تراجعها.
وقيل: المراد من الآية إيقاع الطلاق مفرّقا، لا مجموعا، فالجمع بين الثنتين أو الثلاث حرام، كما قال بذلك جمع من الصحابة، منهم عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، بدليل
حديث ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا، فتطلق لكل قرء تطليقة».
وقال مجاهد وعطاء وجمهور السلف وعلماء الأمصار: المراد من التسريح
333
بإحسان: الطلقة الثالثة، بدليل
حديث أبي رزين الأسدي عند أبي داود وغيره، أنه سأل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، سمعت الله تعالى يقول: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان. ويكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا لهذا «١».
والحكمة من جعل الطلاق مرتين وإثبات حق الرجعة بعد كل من الطلاق الأول والثاني: هو إعطاء الفرصة لإصلاح كل من الزوجين حاله، لأن الأوضاع تعرف بأضدادها، فلا يجد المرء مقدار النعمة ولذتها حتى يذوق طعم النقمة ويشعر بمرارتها، فقد يكون الرجل عصبي المزاج، حاد الطبع، سيء الخلق، فيتورط في الطلاق، مرة بعد أخرى، فتذكره الفرقة، وما تتركه الزوجة من وحشة وفراغ «٢»، وما يتطلبه البيت والأولاد من خدمات، فيثوب لرشده، ويحد من سوء خلقه، ويصلح معاملته لزوجته، ويعاشرها بالمعروف كما أمر الله تعالى.
وقد تكون المرأة مهملة حقوق زوجها وبيتها وأولادها، مترفعة سادرة «٣» في كبريائها، فإذا أحست بألم الفرقة، ووحشة الطلاق، وأدركت أخطاءها، عادت إلى الحياة الزوجية بوجه جديد، وسلوك أفضل من السابق.
(١) قال ابن عطية: ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه: أولها- هذا الحديث، والثاني- أن التسريح من ألفاظ الطلاق، والثالث- أن فعّل تفعيلا، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل (البحر المحيط: ٢/ ١٩٣- ١٩٤). [.....]
(٢) قال الرازي في تفسيره الكبير (٦/ ٩٨) : الحكمة في إثبات حق الرجعة: أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري، هل تشقّ عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه، فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع، لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المنحبة بعد المفارقة، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة مرتين، وهذا يدل على كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
(٣) السادر: الذي لا يهتم ولا يبالي بما يصنع.
334
وعلى هذا النحو من التنازلات من كلا الزوجين، والعتاب الخفيف اللطيف، والتماس أوسط الحلول وأقربها إلى مصلحة الطرفين، والنظر البعيد إلى مستقبل الأسرة والأولاد، يمكن تجديد بنية العلاقات الزوجية، وتوجيهها وجهة معقولة متسمة بالحكمة والاتزان، ومراقبة الله تعالى في كل شيء، دون تفريط ولا إفراط، ولا بغي أو ظلم أو اعتداء من طرف على آخر، والله يحب المحسنين.
فإن اختار الرجل التسريح على الإحسان- وهو أبغض الحلال إلى الله وهو الطلاق الذي لم يشرع إلا للضرورة-، حرم عليه أخذ شيء مما أعطاها:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة ٢/ ٢٢٩] سواء من مهر أو غيره، بل يجب عليه إهداؤها شيئا من الهدايا العينية أو النقدية زائدا عن حقوقها السابقة، عملا بقوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب ٣٣/ ٤٩] وهذا تحذير للرجال من إلحاق الظلم بالنساء وهضم حقوقهن.
ولكن يجوز للرجل أخذ ما تبذله المرأة من فداء مالي عن الطلاق، لتفتدي به نفسها، لأنه برضاها واختيارها دون إكراه، إذا كانت المرأة هي الطالبة لفراق زوجها، لكراهتها إياه، أو لسوء خلق منها أو منه، دون قصده الإضرار، لقوله تعالى: وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق ٦٥/ ٦]، وخاف الزوجان تجاوز حدود الله- أي أحكامه- التي شرعها للزوجين من حسن العشرة وأداء الحقوق المطلوبة في ظل ولاية الرجل، بأن خافت المرأة الوقوع في المعصية مثل جحد نعمة العشرة أو الخيانة، أو خاف الرجل تجاوز الحدود في مؤاخذة الناشز، وهذا الفراق على عوض مالي من المرأة يسمى الخلع، وتجب بعده العدة كالطلاق، ولا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة، بخلاف الطلاق الرجعي، وقد حث النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ترك طلب الخلع من المرأة من غير ضرورة،
روى أحمد والترمذي والبيهقي عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيما امرأة سألت
335
زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات» «١».
ثم حرّم الله تعالى تحريما قاطعا تجاوز حدود الله التي حدها في العلاقات الزوجية وغيرها: وهي الأحكام المقررة المشتملة على الأوامر والنواهي، فلا يجوز تجاوز ما أحله إلى ما حرمه، وما أمر به إلى ما نهى عنه.
ثم حذر وأوعد المخالفين الذين يعتدون على أحكام الشرع، ويفعلون ما لا ينبغي فعله، ويتعدون حدود الله، ووصفهم بأنهم الظالمون، ولا ظالم غيرهم.
ثم أبان تعالى حكم الطلاق الثالث الذي تصبح المرأة بعده بائنا بينونة كبري، فقال: فإن طلقها بعد الطلقتين السابقتين، فلا تحل له أبدا من بعد هذا الطلاق الثالث، حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا يقصد به الدوام والاستمرار دون أن يقصد به مجرد تحليل المرأة المطلقة لزوجها، ولا بد في الزواج الثاني من الدخول الحقيقي بالمرأة (أي الجماع) عملا بما رويناه سابقا في قصة رفاعة، التي
رواها الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم بعبارة أخرى مشهورة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني فبتّ طلاقي، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» «٢».
فإن طلقها الزوج الثاني بنحو طبيعي، وانقضت العدة، فيجوز للزوج الأول أن يعقد عليها عقدا جديدا، إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية
(١) رواه أحمد عن أبي هريرة
(٢) العسيلة: هي أقل ما يكون من غشيان الرجل المرأة.
336
والتزام ما أمر الله به من المعاشرة الحسنة، فتلك حدود الله، وأما إن ظنا حين المراجعة أنهما يعودان لما كان، من إضرار بها، أو نشوز منها، فالرجوع ممقوت عند الله، وإن صح قضاء.
ويلاحظ أنه لم يقل: «إن علما أنهما يقيمان» لأن اليقين مغيب عنهما، لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم، فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه قام، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظنا «١».
أما نكاح التحليل المؤقت: وهو الذي يقصد به تحليل المرأة لزوجها الأول بشرط أو اتفاق في العقد أو غيره بالنية، فهو زواج باطل غير صحيح، ولا تحل به المرأة للأول الذي طلقها، وهو معصية لعن الشرع فاعلها، سواء علم الزوج المطلّق أو جهل بذلك وهو رأي مالك وأحمد والثوري والظاهرية. وقال الحنفية والشافعية: هو صحيح مع الكراهة ما لم يشترط التحليل في العقد.
والرأي الأول أصح وأحق بالاتباع، لما
روى أحمد والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له».
وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، قال: «لا، إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل، ثم تذوق العسيلة».
وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك، فقال: كلاهما زان». وسأل
(١) الكشاف: ١/ ٢٧٩
337
رجل ابن عمر، فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلّها لزوجها، لم يأمرني ولم يعلم؟ فقال ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة، إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وسئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته ثلاثا، ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه.
بهذا يتبين أن التحليل المؤقت ليس من شرع الله ولا دينه، وفيه مفاسد كثيرة، وهو زنى، وإن تم بعقد في الظاهر.
ثم ختم الله تعالى الآية بإعلان صريح: وهو أن هذه الأحكام هي حدود الله يبينها بأجلى بيان، ويوضحها بأتم وضوح، لقوم يدركون فائدتها، ويعلمون مصلحتها، فلا يحيدون عنها، ولا يتحايلون عليها، وإنما يعملون بها على الوجه الذي تتحقق به الفائدة المرجوة، فلا يضمر الرجل السوء أو يبيت الانتقام إذا راجع امرأته.
إن أحكام الله وشرعه ومنها الطلاق والرجعة منسجمة مع الحكمة والواقع، فقد تستعصي الحلول، فيلجأ إلى الطلاق، وما أكثر حوادث الطلاق في بلاد الغرب لأتفه الأسباب التي نستغربها أشد الغرابة في بلادنا. ويحدث الندم عادة وغالبا في الطلاق بين المسلمين والمسلمات إذا لم يكن هناك انحراف واضح أو سلوك معوج يصعب تقويمه، كالخيانة الزوجية أو السلوك المشبوه الذي يعجز الرجل عن إثباته، فيكون الطلاق حال الانحراف أو الشذوذ طريق الخلاص المحتوم، وتكون الرجعة في الأحوال التي تحتمل الإصلاح والتربية الناجعة.
وأما الأخطاء التي يرتكبها الرجل في الإقدام على الطلاق بغير وجه مشروع أو يسيء استعمال هذا الحق الممنوح له لأحوال اضطرارية أو استثنائية، فيتحمل
338
وزرها أصحابها، ويكون الإسلام منها براء.
تلك حدود الله أي ما منع منه يبينها لقوم يعلمون الحقائق ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها، لأن الجاهل لا يحفظ الأمر والنهي ولا يتعاهده، والعالم يحفظ ويتعاهد.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيتان على أحكام ثلاثة: هي الطلاق الرجعي وهو الطلاق الأول والثاني، والخلع وهو الفراق على عوض من المرأة، والطلاق الثلاث أو البائن بينونة كبري: وهو حكم المبتوتة.
١- عدد الطلاق والسنة فيه:
نزلت الآية كما عرفنا لبيان عدد الطلاق الذي يجوز فيه للرجل الرجعة والعدد المشروع الذي تصح بعده المراجعة، ردا على ما كان عليه العرب في الجاهلية من أن الطلاق لا حد له، وقد تستخدم الرجعة للإضرار بالمرأة، فتصبح لا هي مزوجة ولا هي مطلقة، وإنما معلقة.
والطلاق: هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها،
وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: «فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق» وقد طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة ثم راجعها «١».
وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلّق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب.
(١) أخرجه ابن ماجه.
339
وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، وكيف يطلقون أي مفرقا، فمن طلق اثنتين، فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية كما قال القرطبي: تتضمن المعنيين، أي تحديد عدد الطلاق وتفريقه، ودليلهم ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن مسعود في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ..
قال: «يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها، راجعها، ثم إن شاء الله طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض، وتبين منه بها».
وعلى هذا يكون قد بين الله سنة الطلاق في هذه الآية، وبين أن من سنته تفريق الطلاق، ولأنه قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرقتين، لأنهما إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين.
فإذا خالف المطلق وجمع التطليقات الثلاث في لفظ واحد، فاختلف العلماء في ذلك.
قال الجمهور منهم أئمة المذاهب الأربعة: يقع به ثلاث طلقات، مع الكراهة عند الحنفية والمالكية، لأن طلاق السنة: هو أن يطلقها واحدة، ثم يتركها، حتى تنقضي عدتها.
وقال الشيعة الإمامية: لا يقع به شيء.
وقال الزيدية وابن تيمية وابن القيم: يقع به واحدة، ولا تأثير للفظ فيه.
ومنشأ الخلاف: كيفية فهم آية الطَّلاقُ مَرَّتانِ هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ وكيفية تأويل حديث ابن عباس.
أما الآية: فقال الإمامية ومن وافقهم: إن التعريف للعهد، أي الطلاق
340
المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، أي ليس مشروعا كون الطلاق كله دفعة واحدة.
ورأى مالك أن معناه: الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فالله لما ذكر أن بعولتهن أحق بردهن، أراد أن يبين الطلاق الذي فيه الرجعة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن معناه: الطلاق الجائز مرتان.
وأما حديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم من طريق طاوس فهو كما قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر:
طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم»
.
أما أئمة المذاهب الأربعة فأوّلوا الحديث على صورة تكرير لفظ الطلاق ثلاث مرات، بأن يقول الرجل: «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق» فيلزمه واحدة إذا قصد التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع، وكان مسلمو الصدر الأول يصدقون في إرادة التوكيد، لورعهم وتقواهم، ثم تبدل الحال، فصار الغالب عليهم قصد الثلاث، بدليل قول عمر: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة» وهذا الحكم إنما هو في القضاء، أما في الديانة فيعمل كل واحد بنيته.
وأما الإمامية وموافقوهم فقالوا: يجب العود إلى سنة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وترك اجتهاد عمر، لأن إمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق ٦٥/ ١].
وبالرغم مما أراه وهو رجحان مذهب الجمهور، لا أجد مانعا من الأخذ برأي ابن تيمية ومن وافقه، لأن الطلاق هدم للأسرة، وتعريض لضياع الأولاد، وهو
341
كما
قال صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر-: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»
والشريعة أجازته لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر، ولا يلجأ إليه إلا للضرورة القصوى، والله شرع الطلاق مرتين متفرقتين في طهرين كما أرشدت إليه السنة، لا مجتمعتين، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق. وفي هذا تيسير على الناس، وبخاصة أنهم يقصدون غالبا بالطلاق التهديد والزجر، لا الحقيقة والوقوع الفعلي، ثم إن الفرقة تحدث بطلقة واحدة، فيكون ما يتلوها مؤكدا لها.
٢- الخلع:
نهى الله تعالى الأزواج أن يأخذوا شيئا من أزواجهم على وجه المضارّة، إذا طلقوهن وكان مما آتوهن، وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهن، لأن العرف بين الناس: أن يطلب الرجل عند وقوع النزاع ما قدم من صداق وجهاز.
ولكن إذا بذلت الزوجة الفدية على الطلاق، جاز الأخذ في رأي الجمهور إذا كان النشوز من قبلها. وذهب بعضهم (داود الظاهري) إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء هو خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا، لكراهة كل منهما صحبة الآخر. والظاهر الرأي الأول وهو أن نشوزها وسوء عشرتها لزوجها كاف في جواز أخذ الفداء، وإن كان ظاهر الآية يؤيد رأي غير الجمهور.
وعليه، فإن الخلع جائز عند أكثر الأئمة، سواء أكان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً، فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء ٤/ ٤].
وذهب الجمهور: إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها، لأنه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيد بمقدار معين، لكن يكره عند الحنفية، ولا يستحب عند غيرهم أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لقصة امرأة ثابت بن قيس المتقدمة، التي
قال
342
النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيها: «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أما الزيادة فلا».
ومنع الشعبي والزهري والحسن البصري الخلع بأكثر مما أعطاها، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي مما آتيتموهن. وأخذ الجمهور بإطلاق هذه الآية.
وأجاز الجمهور غير الشافعي الخلع على غرر (أمر محتمل) أو معدوم ينتظر وجوده، كثمرة لم يبد صلاحها، وجمل شارد، وجنين في بطن أمه، أو نحو ذلك من وجوه الغرر، بخلاف البيوع والزواج، وله المطالبة بذلك كله، فإن سلم كان له، وإن لم يسلم فلا شيء له، والطلاق نافذ على حكمه.
وقال الشافعي: الخلع جائز وله مهر مثلها. وقال أبو ثور: الخلع باطل.
وهل الخلع طلاق أو فسخ؟
ذهب الجمهور (الحنفية والمالكية، والشافعية على الراجح) : إلى أن الخلع طلاق لا فسخ يقع به طلقة بائنة، لقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وإنما يكون فداء إذا خرجت المرأة من سلطان الرجل، ولو لم يكن بائنا لملك الرجل الرجعة، وكانت تحت حكمه وقبضته، ولأن القصد إزالة الضرر عن المرأة، فلو جازت الرجعة لعاد الضرر.
أما كونه طلاقا: فلأنه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر، كالإقالة في البيع، مع أنه يجوز بالأكثر، وإذا بطل كونه فسخا، تعين كونه طلاقا.
واستدلوا أيضا بما
ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: اقبل الحديقة، وطلقها طلقة واحدة» «١».
(١) أخرجه بهذا اللفظ البخاري، وأبو داود والنسائي.
343
والمعتمد لدى الحنابلة التفصيل: وهو أن الخلع طلاق بائن، إن وقع بلفظ الخلع والمفاداة ونحوهما، أو بكنايات الطلاق، ونوى به الطلاق، لأنه كناية نوى بها الطلاق، فكانت طلاقا.
وهو فسخ لا ينقص به عدد الطلاق إذا لم ينو طلاقا، بأن يقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو المفاداة، ولا ينوي به طلاقا، فيكون فسخا لا ينقص به عدد الطلاق.
وذهب ابن عباس وطاوس وعكرمة وإسحاق وأحمد: إلى أن الخلع فسخ لا طلاق، لأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الخلع، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فلو كان طلاقا لكان ذلك يدل على أن للرجل أربع تطليقات. ورد عليهم بأن الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم بين أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق، إلا في الحال التي ذكرها الله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما.. سواء أكان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة، ثم بين الطلقة الثالثة بقوله:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ.
واستدلوا أيضا بما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه، جعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم عدتها حيضة». ولو كان طلاقا لكانت عدتها ثلاثة قروء كما قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة ٢/ ٢٢٨].
وإذا وقع الخلع على غير عوض، كان طلاقا بائنا في رواية عن مالك. ووقع خلعا بعوض في الرواية الأخرى عنه، وفي رأي الحنفية والشافعية والحنابلة، لأن البدل في ذاته كالمهر لازم في الخلع على كل حال، بل إنه عند الحنابلة ركن، فإن خالعها بغير عوض، صح الخلع ولزم العوض عند الحنفية والشافعية، ولم يقع خلع ولا طلاق إلا إذا كان بلفظ طلاق، فيكون طلاقا رجعيا.
344
وهل يجبر الرجل على قبول الخلع؟
جميع الفقهاء يرون أنه لا يجبر الرجل على قبول الخلع، فلا بد فيه من التراضي بين الطرفين، لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
[النساء ٤/ ١٩] وقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة ٢/ ٢٢٩] وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا.
وقال ابن رشد: والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك (أبغض) المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل «١».
وأما أهلية الخلع: فكل من يصح طلاقه يصح خلعه، فيصح الخلع عند الجمهور من البالغ العاقل، رشيدا أو سفيها. وأجاز الحنابلة: أن يكون مميزا يعقله. أما من لا يصح طلاقه ولا يصح خلعه فهو كالصبي والمجنون والمعتوه ومن اختل عقله لمرض أو كبر سن.
وللرشيدة «٢» أن تخالع عن نفسها في رأي الجمهور، أما السفيهة فلا تخالع لأنها محجورة. ويصح الخلع من الحاكم ولي غير المكلف من صبي أو مجنون إذا كان في الخلع مصلحة. ولم يجز أبو حنيفة والشافعي وأحمد للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها. وقال مالك: يخالع الأب على ابنه الصغير وابنته الصغيرة، لأنه في رأيه يطلّق على الابن، ويزوج الصغيرة. وأما الطلاق بعد الخلع في العدة: بأن خالع الرجل زوجته، ثم طلقها، وهي في العدة، فيلحقها في رأي الحنفية، ولا يلزمها في رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).
(١) بداية المجتهد: ٢/ ٨١
(٢) الرشد عند الحنفية: صلاح المال ولو كان فاسقا، وعند الشافعية: صلاح الدين والمال، فلا يكون الفاسق رشيدا.
345
٣- نكاح المبتوتة:
وهي المطلقة طلاقا ثلاثا.
لها أن تتزوج بزوج آخر بعد انتهاء العدة من الزوج الأول، وتحل للزوج الأول إن كان الزواج الثاني قائما على الرغبة والدوام والبقاء لا السفاح، وحدث طلاق من غير تواطؤ، وانقضت العدة بعد هذا الطلاق.
واختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأول بمجرد العقد على الثاني. وهذا من شذوذاته»
. وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، كما بينا: وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج، ويحصن الزوجين، ويوجب كمال الصداق. واشترط مالك أن يكون الوطء مباحا: بألا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا.
واشترط أحمد أيضا أن يكون الوطء حلالا، وأن يكون الواطئ له اثنا عشر سنة. ولم يشترط أبو حنيفة كون الوطء مباحا، فيجوز في وقت غير مباح كحيض أو نفاس، وأجاز كون الواطئ بالغا عاقلا أو صبيا مراهقا أو مجنونا، لأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل. واتفق علماء المذاهب الأربعة على أن النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا، ويشترط أن يكون النكاح صحيحا.
ومنشأ الخلاف بين ابن المسيب والجمهور: أن النكاح ورد في القرآن بمعنى العقد والوطء، واحتمل أن يكون المراد بقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ:
(١) وقال بقوله سعيد بن جبير، ولعله لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما، فأخذا بظاهر القرآن: «حتى تنكح زوجا غيره» أي تعقد عليه.
346
العقد أو الوطء، فجاءت السنة وبينت أن المراد به الوطء، كما قدمنا في الأحاديث.
وقد عرفنا حكم نكاح المحلل، وهو البطلان في رأي مالك وأحمد والثوري وأهل الظاهر. والكراهة في رأي الحنفية والشافعية، ما لم يشترط التحليل في العقد.
وإذا عقد الزوج الأول على المطلقة من الثاني ضمن قيود الشريعة عادت إليه بطلقات ثلاث.
وهل يهدم الزواج الثاني مادون الثلاث؟ فيه رأيان:
قال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة، ومحمد وزفر من الحنفية) :
لا يهدم، أي أن المطلقة مرة واحدة أو مرتين، ثم تزوجت زوجا آخر، ثم رجعت إلى زوجها الأول، تكون على ما بقي من طلاقها، لأن الوطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف، والإمامية في أشهر الروايتين: إنه يهدم، فتعود إلى الزوج الأول بطلاق ثلاث، كما يهدم ما دون الثلاث، لأنه إذا هدم الطلقة الثالثة، فهو أحرى أن يهدم ما دونها، لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل، فيثبت حلا يتسع ثلاث تطليقات، فيتسع لما دونها بالأولى.
وهل على الزوجة خدمة؟
اختلف المالكية، فقال بعضهم: ليس على الزوجة خدمة، لأن العقد يتناول الاستمتاع، لا الخدمة، فهو ليس بعقد إجارة، ولا تملّك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء ٤/ ٣٤].
347
وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوّة أو ترفه، فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقمّ البيت وتطبخ وتغسل، لقوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة ٢/ ٢٢٨] وهذا الرأي أسلم، عملا بما جرى عليه عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الأمر وحديثه، ألا ترى أن أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك. وقسم النّبي صلّى الله عليه وسلّم- كما بينا- شؤون المعيشة بين علي وفاطمة، فجعل لفاطمة شؤون البيت، ولعلي شؤون الكسب والمعاش خارج البيت.
واجب الرجل في معاملة المطلّقة وولاية التزويج
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣١ الى ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
الإعراب:
ضِراراً مفعول لأجله. إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ إذا: ظرف زمان، ويتعلق إما بفعل: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أو بقوله: أَنْ يَنْكِحْنَ. والواو في تَراضَوْا يراد به الأزواج
348
والنساء، لكن غلب جانب المذكر على جانب المؤنث. وقوله: بِالْمَعْرُوفِ جار ومجرور متعلق بفعل تَراضَوْا أو بفعل يَنْكِحْنَ والأولى الأول، لأنه أقرب إليه.
ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ وحد الكاف، وإن كان الخطاب لجماعة، لأنه أراد به الجمع، كأنه قال:
أيها الجمع، والجمع: لفظه مفرد، ويجوز أن يثنى ويجمع على العدد، مثل قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.
البلاغة:
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: مجاز مرسل، أطلق فيه الكل على الأكثر، لأنه لو انقضت العدّة لما جاز له إمساكها.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ من باب عطف الخاص على العام، لأن الكتاب والسّنة من أفراد النعمة الإلهية.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ جناس اشتقاق بين اعْلَمُوا وعَلِيمٌ.
أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ من باب المجاز المرسل، إذ المراد به المطلقين، وسمّوا أزواجا باعتبار ما كان.
المفردات اللغوية:
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ قاربن انقضاء عدتهن، والأجل يطلق على المدّة كلها وعلى آخرها، فيقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد به هنا زمن العدّة. فَأَمْسِكُوهُنَّ بالمراجعة. بِمَعْرُوفٍ من غير ضرر، والمعروف ما استحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة. أَوْ سَرِّحُوهُنَّ التسريح: ترك المراجعة حتى تنقضي العدة. ضِراراً أي بقصد الإضرار بهنّ.
لِتَعْتَدُوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدّة. والاعتداء: الظلم. ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعذاب الله. آياتِ اللَّهِ هي أحكام الطلاق والرجعة والخلع ونحوها.
هُزُواً مهزوءا بها بالإعراض عنها والتهاون في الحفاظ عليها. نِعْمَتَ اللَّهِ الإسلام وسائر نعم الله والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ أي ما أنزل الله في القرآن من آيات أحكام الزوجية التي تحقق السعادة في الدارين. وَالْحِكْمَةِ السّنة الشريفة، أو سرّ تشريع الأحكام وما فيها من منافع ومصالح، وقيل: هي الإصابة في القول والعمل. يَعِظُكُمْ بِهِ بأن تشكروها بالعمل به.
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ البلوغ: الانتهاء، والأجل هنا آخر مدّة العدّة، فهو على الحقيقة
349
لاقربها، كما في الآية السابقة، لأن إمكان المراجعة لا يتأتى إلا في العدّة، قال الشافعي: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الخطاب للأولياء، أي لا تمنعوهنّ من نكاح أزواجهنّ المطلقين لهنّ. والعضل: الحبس والتضييق والمنع. إِذا تَراضَوْا أي الأزواج والنساء.
بِالْمَعْرُوفِ شرعا. ذلِكَ النهي عن العضل. يُوعَظُ بِهِ العظة: النّصح والتذكير بالخير، وكان مقتضى الظاهر: أن يقال: «ذلكم يوعظ به»، لأنه يخاطب جماعة، وإنما قال:
ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ لكثرة تردده على ألسنة العرب في كلامها. أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ أفضل وأطيب، من الزكاء: وهو النماء والبركة والخير، ومن الطّهر: وهو الطيب والنقاء. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من المصلحة والزكاء والطّهر. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، فاتبعوا أمره.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٣١) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك، يضارّها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج الطبري عن السّدّي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلّق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، ثم طلّقها مضارّة، فأنزل الله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «١».
وقوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً
أخرج ابن أبي عمر في مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء، قال: كان الرجل يطلّق، ثم يقول: لعبت، ويعتق، ثم يقول: لعبت، فأنزل الله: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال: «ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: الطلاق والنكاح والرّجعة».
وقال أيضا: «من طلّق لاعبا، أو أعتق لاعبا، فقد جاز عليه».
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٠٧
350
نزول الآية (٢٣٢) :
روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار: أنه زوّج أخته رجلا من المسلمين، فكانت عنده، ثم طلّقها تطليقة، ولم يراجعها، حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته، فخطبها مع الخطّاب، فقال له: يا لكع «١»، أكرمتك بها، وزوجتكها، فطلقتها؟! والله لا ترجع إليك أبدا، فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إليه، فأنزل الله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إلى قوله:
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، فلما سمعها معقل، قال: سمعا لربّي وطاعة، ثم دعاه، وقال: أزواجك، وأكرمك، فزوجها إياه.
التفسير والبيان:
إذا طلقتم النساء، وقار بن إتمام العدّة، فعليكم أحد أمرين: إما إمساك المرأة بالمعروف (أي بالمراجعة دون إيذاء)، أو إخلاء سبيلها بالمعروف (أي الخلو من إلحاق ضرر بها). وفسّر بلوغ الأجل بقرب إتمام العدّة، لأن العدّة إذا انقضت لا تجوز مراجعتها، فهذا المعنى مضطر إليه، أما بلوغ الأجل في الآية التالية فهو الانتهاء، لأن المعنى يقتضي ذلك، فهو حقيقة في الثانية، مجاز في الأولى.
ثم أكّد منع الضرر، فقال: ولا تراجعوهنّ بقصد إلحاق الضرر بهنّ وإيذائهنّ بالحبس وتطويل العدّة، حتى يضطرن إلى الفدية ودفع المال لكم، فهذا اعتداء عليهن، ومن يفعل هذا الفعل الممنوع وهو الإمساك على سبيل الضرار والعدوان، فقد ظلم نفسه في الدنيا بإقلاق ضميره وفتح باب الشّر والعداء مع أسرة المرأة، وفي الآخرة بتعريض نفسه لعذاب الله وغضبه، بسبب تسلطه على الضعفاء، واستغلاله حاجة المرأة إلى الخلاص منه.
(١) أي يا لئيم.
351
ولا تتهاونوا في امتثال أوامر الله تعالى، والتزام حدوده التي شرعها لكم، فإن تهاونتم وقصرتم كنتم كمن يستهزئ بالله وأمره. وفي هذا وعيد شديد لمن يتجاوز الحدود الشرعية، وفيه حثّ للمؤمن على احترام صلة الزوجية، والبعد عن أفعال الجاهلية.
واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وسائر نعمه، ومنها جعل الرحمة والمودة بين الزوجين، كما قال الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم ٣٠/ ٢١].
واذكروا ما أنزل الله عليكم في القرآن والسّنة النّبوية من أحكام وحكم تشريعيّة، لتوفير استقرار الحياة الزوجية، وتحقيق السعادة والهناءة وغير ذلك، مما فيه مصلحة ومنفعة، إذ أن الأحكام تضع أصول النظام، وأسرار الحكمة التشريعية تساعد على الامتثال والاتّعاظ والاقتناع.
ثم وثّق الحقّ سبحانه وتعالى الأحكام التشريعية في الزواج بما يبعث على احترامها، وهو التقوى أي خوف الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وترك احتقار المرأة وعدم المبالاة برابطة الزوجية المقدسة، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية من الاستهانة بالمرأة، واتّخاذها مجرد متاع، وتطليقها لأتفه الأسباب، ومضارّتها بالمراجعة، وجعلها كالمعلّقة، وهذا ما يفعله الجهّال والطّائشون اليوم.
واعلموا أن الله يعلم بكلّ شيء وبما عملتم من تعدي حدوده وتضييع أوامره، فيجازيكم على ما عملتم، فهو تعالى لا يرضى إلا باتّباع أحكامه، مع الإخلاص له في السّر والعلن.
وإذا طلقتم النساء معشر المؤمنين، وانقضت عدّتهن تماما، فلا يجوز لكم أيها الأولياء أن تمنعوهنّ من العودة إلى الزواج بالزوج السابق بعد الطلقتين الأولى والثانية، ولا يجوز لكم أيها الأزواج أيضا أن تمنعوهنّ بما لكم من النفوذ من الزواج
352
بزوج آخر بعد الطّلقة الثالثة وانقضاء العدّة، إذا حصل التّراضي بين المرأة والخاطب لها، وكان الخاطب كفؤا، وبمهر المثل، ولم يكن هناك محظور شرعي. وعلى الأمة أيضا ممثلة بوجهائها وعلمائها وحكامها وعقلائها أن تكون متكافلة متضامنة في تحقيق المصلحة العامة، فلا تمنع المعروف، ولا تقرّ المنكر، فتهلك وتتضرّر.
ذلك الذي تقدّم من نهي الأولياء عن عضل النساء وأحكام التشريع، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، فهم الذين يتقبلونه، وتخشع له قلوبهم، امتثالا لأمر ربّهم، فشأن المؤمن الطاعة والعظة، وذلك النهي عن ترك العضل أزكى لكم، وأطهر من أدناس الآثام، أي أن فيه بركة وصلاحا لمتّبعيه، وفيه الطّهر بحفظ العرض والشّرف وعدم التّسبّب في الفسوق والفساد وانحراف المطلقات، والنّجاة من التّورّط في الآثام والمحرّمات والذّنوب والسّيّئات.
والله يعلم ما في ذلك من النّفع والصّلاح لكم، والزّكاة والطّهر وصون السمعة، فامتثلوا أوامره، وأنتم لا تعلمون الحقائق وأبعاد المستقبل، ومخاطر ترك المرأة الأيم أو الثّيب من غير زواج، إرضاء للأهواء وحظوظ النّفس المريضة غير المتعقّلة، وإنما التي تتّبع الأوهام أو تناسق مع الأنفة والكبرياء.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على أحكام كثيرة هي ما يأتي:
١- الإمساك بالمعروف: وهو القيام بما يجب للمرأة من حقّ على زوجها، كالنّفقة، فإذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، خرج عن حدّ المعروف، ويطلّقها، فإن لم يفعل طلّق عليه الحاكم من أجل الضّرر اللاحق بها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وهو رأي الجمهور (مالك والشافعي
353
وأحمد)
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح البخاري: «تقول المرأة: إما أن تطعمني، وإما أن تطلّقني».
وقال الحنفية: لا يفرّق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمته بحكم الحاكم، لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة ٢/ ٢٨٠].
٢- التّسريح بإحسان: أي الطّلاق بدون إضرار لقوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة ٢/ ٢٣١]، والتّسريح يحتمل لفظه معنيين: أحدهما: تركها حتى تتمّ العدّة من الطلقة الثانية، وتكون أملك لنفسها. وهذا قول السّدّي والضّحاك. والمعنى الآخر: أن يطلّقها ثالثة فيسرحها، وهذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصحّ لوجوه ثلاثة ذكرها القرطبي «١» :
أحدها- ما
رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فلم صار ثلاثا؟ قال: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»
وفي رواية هي الثالثة.
الثاني- أن التّسريح من ألفاظ الطّلاق.
الثالث- أن فعّل تفعيلا يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل. قال ابن عبد البرّ: وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ هي الطّلقة الثالثة بعد الطّلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة ٢/ ٢٣٠].
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ١٢٧
354
٣- يحرم الاستهزاء بالأحكام الشرعية: لأنه تعالى قال: لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو، فإنها جدّ كلها، فمن هزل فيها لزمته. ومن الهزء:
الاستغفار من الذّنب قولا مع الإصرار فعلا.
٤- من طلّق هازلا يلزمه الطّلاق بالإجماع، لما
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطّلاق، والرّجعة».
وقال علي وابن مسعود وأبو الدرداء:
«ثلاث لا لعب فيهنّ، واللاعب فيهنّ جادّ: النّكاح، والطّلاق، والعتاق».
٥- شكر النعمة: أمر الله تعالى بتذكر نعمه علينا من الإسلام وبيان الأحكام، وتشريع الأنظمة، وتبيان القرآن بالحكمة أي الأسرار التشريعية والسّنة النّبوية. كل ذلك للتخويف وإعداد النفس للتقوى، لأن الله عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
نهي أولياء المرأة عن أن يعضلوها: أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء، وتراضت المرأة والخاطب لها.
٧- لا يجوز النّكاح بغير ولي: دلّت الآية على أنه لا يجوز النّكاح بغير ولي، بدليل سبب النزول في أخت معقل، فقد كانت ثيّبا، ولو كان الأمر إليها دون وليّها لزوّجت نفسها، ولم تحتج إلى وليّها: معقل، فالخطاب إذن في قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهنّ، ولأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بدون رضا وليّها، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء. وهذا رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).
وقال الحنفية: للمرأة أن تزوّج نفسها، لأن الله تعالى أضاف ذلك إليها، كما قال: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ولم يذكر الولي، ولأن الخطاب في آية
355
فَلا تَعْضُلُوهُنَّ للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارّة عضلا عن نكاح الغير، بتطويل العدّة عليها، ولأن قوله إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها، ويتّفق معها على التزوّج بها.
والعضل يكون بعد انتهاء الأجل أي بعد انتهاء العدّة.
ودلّ قوله بِالْمَعْرُوفِ على أن العضل من غير الكفء غير محرم. وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل. والمدار في الكفاءة على العرف الشرعي السائد، لا على التقاليد المصطنعة.
٨- الإيمان مدعاة الاتّعاظ: دلّت الآية: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على أن المؤمن حقّا لا بدّ له أن يتّعظ، فالذين لا يتّعظون ولا يعملون بأوامر الله ليسوا بمؤمنين، وإنما آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
٩- التشريع الإلهي يحمي المصالح الاجتماعية العامة البعيدة الأمد التي لا يتنبه لها الناس أحيانا، بسبب قصور العقل البشري وعدم قدرته على الاستيعاب، والاطّلاع على المستقبل.
الاسترضاع بأجر ومدّة الرضاع ونفقة الأولاد وأحكام أخرى
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
356
الإعراب:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ خبر بمعنى الأمر، أي ليرضعن، مثل وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، ومجيء الخبر بمعنى الأمر كثير في العربية. لِمَنْ أَرادَ اللام إما متعلّق بيرضعن، فهو منصوب، وإما متعلق بمحذوف على أنه مرفوع خبر مبتدأ تقديره: هذا الذي ذكرنا لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة.
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ تقديره: وعلى المولود له الولد، والولد نائب فاعل للمولود. لا تُضَارَّ قراءة الفتح على أن يكون لا نهيا، وتضارّ مجزوم بها، وحرّكت بالفتح لأن الفتحة أخف الحركات، وقراءة الرفع على أن يكون لا نفيا يراد به النهي مثل قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ويصحّ كون الفعل مبنيّا للمعلوم أو للمجهول. والِدَةٌ فاعل تضارّ، على أن أصله:
تضارر بكسر الراء الأولى، ويقدر مفعول محذوف، تقديره: لا تضارر والدة بولدها أباه، ولا يضارر مولود له بولده أمّه.
أَوْلادَكُمْ أي لأولادكم، فحذف حرف الجرّ، فاتّصل الفعل بالاسم، فنصبه. ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ آتى: يتعدى إلى مفعولين، لأنه بمنزلة أعطى، وتقديره: آتيتموه المرأة، أي أعطيتموه المرأة.
البلاغة:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ خبر بمعنى الأمر للمبالغة في الحمل على تحقيقه، أي ليرضعن، كما بيّنا.
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي تسترضعوا المراضع لأولادكم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والغيبة في قوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا والالتفات لتحريك مشاعر الآباء نحو الأبناء.
المفردات اللغوية:
يُرْضِعْنَ أي ليرضعن. حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الحول: العام أو السنة. وكاملين: صفة مؤكّدة. الْمَوْلُودِ لَهُ هو الأب الوالد. رِزْقُهُنَّ إطعام الوالدات. وَكِسْوَتُهُنَّ على الإرضاع إذا كنّ مطلّقات. بِالْمَعْرُوفِ بقدر طاقته. وُسْعَها طاقتها، وهي آخر درجات القدرة، وما بعدها العجز. والتكليف: الإلزام. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بسببه بأن تكره على
357
إرضاعه إذا امتنعت. وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ أي بسببه بأن يكلّف فوق طاقته. وإضافة الولد إلى كلّ منهما في الموضعين للاستعطاف. والمضارّة: تقتضي المشاركة أي مشاركة كلّ من الوالدين للآخر في الضّرر. وهذا يدلّ على أن الإضرار بالآخر إضرار بنفسه، وينعكس أثر المضارّة على الولد. وَعَلَى الْوارِثِ وارث الأب وهو الصّبي مثل ذلك، أي على الولد في ماله للوالدة من الرزق (النفقة) والكسوة وعدم الإضرار بها مثل الذي على الأب للوالدة، إن كان له مال، أي إن نفقة إرضاعه تكون من ماله إن كان له مال، وإلا فهي على عصبته. وقال بعضهم: إن المراد بالوارث: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه، وهو قريبه إذا مات، فتؤخذ النفقة ممن يرث الطفل إذا لم يكن له مال، لو مات. واللفظ يحتمل المعنيين، والأول: اختيار الطبري والزمخشري وغيرهما، وهو معطوف على قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وما بينهما تفسير للمعروف، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، ويكون المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي إن مات المولود له، لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بشرط المعروف وتجنّب الضّرار.
فَإِنْ أَرادا أي الوالدان. فِصالًا فطاما له قبل الحولين، وسمّي بذلك، لأنه يفصل الولد من أمه، ويفصلها منه، فيكون مستقلا في غذائه دونها. عَنْ تَراضٍ اتّفاق بينهما.
وَتَشاوُرٍ بينهما فيما يحقق مصلحة الصبي. والتشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي من المستشارين. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي لا حرج. أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ تتخذوا مراضع غير الوالدات. ما آتَيْتُمْ سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه لهنّ من الأجرة.. بِالْمَعْرُوفِ بالجميل كطيب النفس.
المناسبة:
لما ذكر الله أحكام النكاح والطلاق الذي يحصل به الفراق، ذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، لأن المطلّقات قد يكون لهنّ أولاد رضّع، وربّما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلّقات، فربما حرمتهم الرضاع انتقاما من الأبّ، فأوصى الوالدات بالأولاد، فجعل مدّة الرّضاع حولين كاملين إذا شاء الوالدان إتمام الرضاعة، وألزم الآباء بكسوة الوالدات ونفقتهن مدّة الرّضاع بقدر سعتهم أو طاقتهم، ونهى عن مضارّة أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، فترفض الأمّ إرضاعه لتضرّ أباه بتربيته، أو تبالغ في طلب النفقة والكسوة، وينتزع الأبّ
358
الولد منها إضرارا بها وهي تريد إرضاعه، أو يكرهها على الإرضاع، أو يمنعها حقّها في النفقة والكسوة، كما أنه تعالى نهى الوالدين عن إلحاق الضرر بالولد، فيحدث تقصير فيما ينبغي له، وكل ذلك رعاية من الله للصبي، لأنه عاجز عن نفع نفسه ودفع الضرر عنها.
وعلى هذا تكون الآية في المطلّقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ، فهنّ أحقّ برضاع أولادهنّ من الأجنبيّات، لأنهنّ أحنى وأرقّ، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها. وسبب كون المراد بالوالدات المطلّقات: أن الله تعالى قال:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ولو كانت الزوجية قائمة باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالولادة، وأيضا ذكرت هذه الآية عقب آيات الطّلاق.
ورأى بعضهم: أن المراد بالوالدات: كلّ والدة مطلّقة أو زوجة، أخذا بعموم اللفظ.
التفسير والبيان:
على الوالدات المطلقات، أو على جميع الوالدات مطلقات أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدة سنتين كاملتين دون زيادة عليهما، إذا أريد إتمام المدة، ولا مانع من نقص ذلك إذا رئيت المصلحة فيه، والأمر متروك للاجتهاد والتقدير.
والرضاع مندوب للأم بصفة عامة، لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء، وقد يجب إذا امتنع الطفل من الرضاع من غيرها، أو لم يجد الوالد مرضعة لفقر أو غيره. ورغبة بعض النسوة عن الإرضاع ترفعا أو محافظة على الجمال والصحة مناف لمقتضى الفطرة، مسيء لمصلحة الولد.
وهل الرضاع حق للوالدة أو واجب عليها؟ فيه اختلاف.
359
فقال مالك: الرضاع حق على الوالدة إذا كانت زوجة أو لم يقبل الولد ثدي غيرها، واستثنى من ذلك الشريفة فلم يجعل حقا عليها، عملا بالعرف الذي كان عليه العرب وقت نزول الآية «١»، فكان نساء قريش يلتمسن المراضع بأجر أنفة واعتزازا.
وقال الجمهور: إن ذلك مندوب، إلا عند الضرورة كأن لم يقبل ثدي غير الأم، لقوله تعالى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق ٦٥/ ٦].
ومدة الرضاع التام: سنتان، لاحتياج الطفل إلى اللبن فيهما، ولا مانع من جعله أقل من ذلك حسبما يرى الوالدان المصلحة، ويعوّد الولد الآن بتناول شيء من الغذاء مع اللبن في أواخر الحول الأول، ثم يفطم إذا استغنى عن اللبن بالطعام المعتاد.
وإنما قال الله حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لئلا يتوهم أنه أراد حولا وبعض الثاني.
والمقصود من تحديد مدة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك، لأنه قال:
لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فهو يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد أدنى لا يتعدى، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ الحولين إذا لم يكن فيه ضرر للولد، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما [البقرة ٢/ ٢٣٣] فالمقصود بيان المدة التي يرجع إليها عند الاختلاف، أو بيان المدة القصوى قضاء.
وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة، للقيام بحق الولد، وأجرة لها على الإرضاع، واستئجار الأم غير جائز ما دامت في الزواج أو العدة، ويجوز عند الشافعي رضي الله عنه مطلقا. وتقدير الأجرة على قدر حال الأب من اليسار والإعسار والتوسط، كما قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ١٦١ [.....]
360
عليه رزقه، فلينفق مما آتاه الله، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها [الطلاق ٦٥/ ٧] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦] والآية هنا لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها أي لا تلزم نفس إلا بقدر سعتها.
وأخذ من الآية أيضا وجوب نفقة الولد على الوالد، لأن الله أوجب نفقة المطلقة على الوالد في زمن الرضاع، لأجل الولد، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه، والوالد أقرب الناس إليه.
وعلة تشريع الأحكام السابقة منع الضرار من جانبي الرجل والمرأة، بإعطاء كل ذي حق حقه، فيحرم إضرار أحدهما الآخر بسبب الولد، فلا تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للأب بالتماس الظئر (المرضع)، أو تكلفه من النفقة فوق طاقته، أو تقصّر في تربية الولد، كذلك لا يجوز أن يمنعها من إرضاع ولدها وهي ترغب به، لأنها أرأف الناس به، وأحناهم عليه، وأنفعهم له، أو يضيّق عليها في النفقة، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.
وعلى وارث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة وترك الضرار للمرضع، وقيل: على وارث الصبي الذي لو مات ورثه، فدل هذا القول على وجوب النفقة على أقارب الصبي عند عدم الوالد.
وهذا أصل في وجوب نفقة الأقارب، وهو مذهب أبي حنفية، وأحمد، إلا أن الحنفية أوجبوا النفقة لكل ذي رحم محرم كالعمة والخال، ولا تجب لغير ذي الرحم المحرم كابن العم وبنت العم، وأوجبها الحنابلة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة والعمة ونحوهم ممن لا يرث بفرض ولا تعصيب، لأن قرابتهم ضعيفة.
ورأى مالك والشافعي أن النفقة لا تجب إلا على الوالدين، فنفقة الولد على أبيه، فإن مات ففي مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الأم. والآية تؤيد
361
الرأي الأول، إلا أن يراد بالآية: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ترك الإضرار فقط، أو يراد من الوارث الولد نفسه.
وتحديد مدة الرضاع بحولين كاملين إنما كان لبيان المدة القصوى التي يرجع إليها عند الاختلاف كما بينها الله، فإن أراد الوالدان فطام الولد قبل الحولين أو بعدهما، برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل، فلا إثم عليهما فيه، حيث اقتضت المصلحة ذلك، ولم يلحق ضرر بالولد.
ولا مانع من استئجار المراضع، وهو ما أبانته الآية التي أفصحت عن أنه:
إذا أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم أو لأولادكم بسبب حمل أو مرض أو عدم اتفاق، فلا حرج فيه، بشرط إعطاء المرضعة أجرها بالمعروف أي بحسب أجرة أمثالهن في كل عصر ومكان، لما في الأجر من تحقيق مصلحة الولد والوالدين أيضا. وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب، للإشارة إلى أنه من الأدب والمصلحة تشاور الأبوين في الاسترضاع، لأنه ولدهما.
والقول بجواز استرضاع المراضع الأجنبيات هو مذهب أبي حنيفة. وقوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ليس شرطا لجواز الاسترضاع، وإنما هو ندب إلى الأولى، تطييبا لنفس المرضع.
ثم ضرب الله نطاقا محكما لتنفيذ الأحكام السابقة: وهو أن يتم في ظل تقوى الله، فعلى المؤمن أن يخشى الله، فلا يفرط في شيء من الأحكام المذكورة، لأن الله تعالى خبير وبصير بكل شيء، فيجازيكم على أعمالكم، فإن أنتم أديتم حقوق النساء والأطفال، واجتنب الوالدان المضارّة، كان الأولاد مثلا صالحا في الدنيا وسبب مثوبة في الآخرة، وإن سرتم على وفق الأهواء، كان الأولاد نذير سوء، وعنوان بلاء وفتنة في الدنيا، وسبب عذاب في الآخرة.
362
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات، لأنهن أحنى وأرقّ، وانتزاع الولد الصغير من والدته إضرار به وبها. وهذا يدل على أن الولد، وإن فطم، فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، ما لم تتزوج بزوج آخر باتفاق العلماء
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لامرأة- فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو-: «أنت أحق به ما لم تنكحي».
وإذا كانت المطلقة أولى بالرضاع والحضانة فإن الزوجات حال الزوجية أولى بهما أيضا، بل إن الزوجة تستحق النفقة والكسوة، أرضعت أو لم ترضع، في مقابلة التمكين من الاستمتاع. وأما إيجاب النفقة في حال الرضاع بعد الطلاق فبسبب اشتغال المرأة في مصالح الزوج، لذا قال الله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الزوج رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ دفعا لتوهم سقوط النفقة إذا اشتغلت المرأة بالإرضاع ولم يحدث التمكين.
ودل قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ على أن إرضاع الحولين ليس حتما، فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكن التحديد بالحولين لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل الحولين، ولم ترض الأم، لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود، وعند رضا الوالدين.
وقد أخذ مالك في موطئه والشافعي وأحمد من آية: يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ أن مدة الرضاع المحرّم أي التي يحرّم الرضاع فيها المصاهرة كما يحرّم بالنسب: هي حولان فقط، فإذا لم يقع الرضاع فيهما لا يحرم.
363
ولم يعتبر الحنفية، والمالكية أخذا بما روى ابن القاسم عن مالك «١» : أن الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم، فذهب أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وقال زفر: ثلاث سنين، وذهب المالكية في الصحيح إلى أن ما قرب من زمان الفطام عرفا لحق به، وما بعد عنه خرج عنه، من غير تقدير.
قال القرطبي «٢» : والصحيح الأول، لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين» «٣»
فهذا الخبر مع الآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير، وأنه لا حرمة له.
واستنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أقل مدة الحمل، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا، يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل المدة.
وأرشدت الآية: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ.. إلى وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. والمراد بالمولود له: الذي ولد له، والذي يعبر به عن الواحد والجمع. ويجوز في العربية القول: «وعلى المولود لهم» كقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس ١٠/ ٤٢].
والنفقة الواجبة من الطعام والكسوة (اللباس) هي بالمعروف أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. والإنفاق يكون على قدر غنى الزوج وحال الزوجة في رأي المالكية.
(١) قال مالك: الرضاع: الحولين والشهرين بعد الحولين.
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ١٦٢
(٣) قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ.
364
ودلت الآية على أن الحضانة للأم، وهو حق لها، وبه أخذ مالك وأبو حنيفة، ومدة الحضانة عند مالك في الغلام إلى البلوغ، وفي الفتاة إلى الزواج. وقال الشافعي وأحمد: إذا بلغ الولد ثمان سنين، وهو سن التمييز، خيّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم العلوم ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والفتاة، بدليل تخيير النّبي صلّى الله عليه وسلّم ولدا حينئذ، فلحق بأمه، كما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة.
ويظل الحق للأم بالحضانة ما لم تتزوج اتفاقا كما سبق بيانه، قال ابن المنذر:
«وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حقّ للأم في الولد إذا تزوجت» وينقطع حقها بمجرد عقد الزواج عند الشافعي، وقال مالك: إذا تزوجت الأم لم ينزع منها ولدها، حتى يدخل بها زوجها.
ولا فرق في رأي الحنفية بين الذمية والمسلمة في أحقية الأم بالحضانة إذا افترق الزوجان بطلاق. وقال مالك والشافعي: الولد مع المسلم من الزوجين.
وإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهي فارغة غير مشغولة بزوج، ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا، لم يكن لها بعدئذ أخذه.
وتحرم المضارّة بين الزوجين وغيرهما، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ولقوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ.. أي لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، كما بينا.
ودل قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ على وجوب نفقة الأقارب، كما بينا، كما أنه يدل على وجوب النفقة على الصبي نفسه من ماله إن كان له مال.
365
ومدة الرضاع الكاملة حولان كاملان عند اختلاف الزوجين في تحديد المدة القصوى التي تجب فيها أجرة الرضاع. ويجوز اتفاقهما على أقل من ذلك من غير مضارّة الولد. وقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما، لا على الحقيقة واليقين. وإذ أرشد القرآن إلى التشاور في أدنى الأعمال لتربية الولد، فهو مطلوب بالأولى في أجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، وهي مشورة الحكام في مصالح الأمة، لذا أمر الله رسوله بمشاورة أصحابه قائلا: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران ٣/ ١٥٩] ومدح المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى ٤٢/ ٣٨].
ودل قوله سبحانه: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ على جواز اتخاذ الظئر (أي استئجار المرضع) إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك، ويجب حينئذ تسليم الأجرة إلى المرضعة الظئر لقوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ..
والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها، كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة كما بينا، فقال: لا يلزمها رضاعه، فأخرجها من الآية، وخصصها بأصل من أصول الفقه، وهو العمل بالعادة: وهو ما كان عليه عرب الجاهلية، فجاء الإسلام ولم يغيره، واستمر ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمّهات للمتعة، بدفع الرّضعاء للمراضع إلى زمن مالك فقال به، وكذا إلى زماننا «١».
وجاء الأمر الإلهي بإرضاع الأمهات أولادهن على مقتضى الفطرة، فأفضل
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ١٧٢
366
اللبن للولد لبن أمه باتفاق الأطباء، ولبن المرضع يؤثر في جسم الطفل وفي أخلاقه وسجاياه، ولذلك يحتاط في انتقاء المراضع، ويجتنب استرضاع المريضة، والفاسدة الأخلاق والآداب «١».
عدة المتوفى عنها زوجها
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
الإعراب:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ.. الذين: مبتدأ، وفي الخبر أربعة أوجه:
الأول- أن يكون خبره مقدرا، وتقديره: فيما يتلى عليكم الذين، مثل وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أي فيما يتلى عليكم.
الثاني- أن يكون خبره: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ على تقدير: يتربصن بعدهم بأنفسهن، فحذف «بعدهم» للعلم به، لأن الجملة إذا وقعت خبرا للمبتدأ، فلا بد من أن يعود منها عائد إليه.
الثالث- أن يكون التقدير: فأزواجهن يتربصن، والجملة من المبتدأ أو الخبر: خبر الَّذِينَ.
الرابع- أن يكون الخبر: يَتَرَبَّصْنَ، على أن يكون التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن.
المفردات اللغوية:
يُتَوَفَّوْنَ يموتون بأن يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر ٣٩/ ٤٢] فإذا حذف الفاعل أسند الفعل إلى المفعول وَيَذَرُونَ: ويتركون
(١) تفسير المنار: ٢/ ٣٢٩- ٣٣٠
367
أَزْواجاً يطلق الزوج على الذكر والأنثى، كما قال تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يَتَرَبَّصْنَ أي ليتربصن أي لينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ بعدهم عن الزواج أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً من الليالي، وهذا في غير الحوامل، أما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق (٤). فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي أتممن عدتهن وانتهت مدة تربصهن وانتظارهن. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للخطاب. بِالْمَعْرُوفِ شرعا خَبِيرٌ عالم بباطن العمل وظاهره.
المناسبة:
هذا بيان متصل في أنواع العدة، فقد ذكر أولا عدة الطلاق بالحيض، وذكر هنا عدة الوفاة المخالفة لها.
التفسير والبيان:
ذكر الله في هذه الآية حكم الحداد على الأزواج ووجوب العدة على النساء، عقب بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وواجبات الوالد نحو ولده وزوجته، وكان بيان عدة الوفاة لئلا يتوهم أنها مثل عدة الطلاق.
والعدة: هي المدة التي تمكث فيها المرأة في بيت الزوجية دون زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعي للتعرف على براءة الرحم أو للحداد على الزوج.
وعدة المطلقة: ثلاثة قروء، وعدة المتوفى عنها زوجها غير الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام، أما الحامل فعدتها بوضع الحمل، ولو بعد الوفاة بساعة. ولا حداد على غير الزوج من أخ أو أب أو قريب أكثر من ثلاثة أيام.
ولا فرق في حال الوفاة بين الصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغير المدخول بها، لأن العدة في الأصل للحداد، وبراءة الرحم تبعا.
وقد بدأ الله تعالى بذكر الرجال الذين يتوفون، وترك الخبر عنهم إلى الإخبار عن أزواجهم، ليبين صلة العدة بالرجل، ومعنى الآية: إن زوجات
368
الذين يموتون: عدتهن أربعة أشهر وعشرة أيام، قال الزمخشري: وقيل: عشرا، ذهابا إلى الليالي، والأيام داخلة معها.
فلا يحل لهن فيها الخطبة والزواج والخروج من المنزل إلا لعذر شرعي. وهذا الحكم لغير الحوامل، أما الحامل التي يموت زوجها فتنقضي عدتها بوضع الحمل، ولو بعد الموت بساعة، عملا بآية الطلاق السابق الإشارة إليها، وبما روى أبو داود من حديث سبيعة الأسلمية أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أفتاها بأنها حلت حين وضعت حملها، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.
ما تمتنع منه المعتدة:
اختلف العلماء في الذي يتربص عنه هذه المدة، فقال بعضهم: يتربصن عن النكاح والطيب والزينة والنقلة من المسكن الذي يسكنه في حياة أزواجهن، وأدلتهم من السنة الصحيحة كثيرة، منها: ما
رواه الشيخان عن زينب بنت أم سلمة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة- خلوق وغيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا».
وقالت زينب: سمعت أمّي أمّ سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر».
والكحل الذي منعه النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو كحل الزينة، لا كحل التداوي بدليل
369
حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار».
وقال بعضهم: إنما عدة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل، فلم تنه عن ذلك. واحتجوا بما
روي عن أسماء بنت عميس قالت: «لما أصيب جعفر، قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تسلّبي «١» ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت»
ويرد عليهم بأنه يحتمل أن يكون أمرها بالتسلب ثلاثا، ثم لبس ما شاءت من الثياب التي يجوز للمعتدة لبسها، مما لم يكن زينة، ولا تطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة، ولا ثياب تسلب.
وتقدير المدة بأربعة أشهر وعشر أمر تعبدي، لا يبحث عن حكمته، فهو كأعداد الركعات ومقادير الزكوات.
والحكمة في هذه العدة: استبراء الرحم من ماء الزوج المتوفى، فيمنع نكاح المعتدة حتى تمضي مدة تتبين فيها: أهي حامل، فيلحق ولدها بالزوج المتوفى؟
أم حائل (غير حامل) فإذا تزوجت وولدت لحق الولد بالزوج الثاني. ومنعت الطيب والزينة، لأنهما من دواعي الزواج، وذريعة إليه. ومنعت الخروج من البيت الذي كانت تسكنه لأن هذه الرقابة أدعى إلى الصيانة. ومنع عقد الزواج عليها وخطبتها صراحة في العدة، لأن ذلك ذريعة، ورخص في التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة.
أما في الجاهلية فكانت المرأة تحد على زوجها سنة كاملة لا تمس طيبا ولا زينة، ولا تبدو للناس في مجتمعهم.
(١) تسلّبي: البسي ثياب الحداد السواد، وهي السّلاب على وزن كتاب.
370
ثم أبان الله تعالى ما يباح بعد انتهاء العدة بقوله: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. «١» فخاطب الأولياء بأنه إذا أتممن عدتهن، فلا إثم عليكم أيها الأولياء وجميع الناس فيما فعلن في أنفسهن ما كان محظورا عليهن قبل ذلك من التزوج فما دونه من التزين، والتعرض للخطاب، واختيار الأزواج وتقدير الصداق، والخروج من البيت على الوجه المعروف شرعا وعرفا: وهو ما أذن الله لهن فيه، والله بما تعملون خبير، فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، ويعلم من يعضل النساء فيجازيه، ويعلم من يحسن توجيه النساء نحو التزام حدود الشرع، أو يتساهل ويفرط في حقوق الله، فإن جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع سعدتم، وإن فرطتم وانحرفتم عن حدود الله وقعتم في الشقاء والعذاب.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية في عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم، ومعناها الخصوص فهي مخصوصة بغير الحوامل، لقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ٤].
وأكثر العلماء على أن هذه الآية ناسخة لقوله عز وجل: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة ٢/ ٢٤٠]. لأن الناس كانوا في مبدأ الإسلام إذا توفي الرجل وخلّف امرأته حاملا أوصى لها زوجها بنفقة سنة، وبالسكنى ما لم تخرج فتتزوج، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر، وبالميراث.
(١) بلوغ أجلهن: هو انقضاء المدة المضروبة في التربص، والمخاطبون بعليكم: الأولياء أو الأئمة والحكام والعلماء، إذ هم المرجع.
371
وعدة الحامل المتوفى عنها زوجها: وضع حملها عند جمهور العلماء. وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين. لكن روي عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. وحجتهما الجمع بين قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وبين قوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. لأنها إذا قعدت أقصى الأجلين، فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل، فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق علماء الأصول ما عدا الحنفية الذين يقدمون الترجيح على الجمع. ويرد على هذا الاتجاه
بحديث سبيعة الأسلمية في الصحيح، كما تقدم، وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأباح لها أن تتزوج.
قال الزهري: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها، غير أن زوجها لا يقربها حتى تطهر، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفقهاء.
واتفق العلماء على أن عدة الحامل المطلقة تنتهي بوضع الحمل.
وليس لمعتدة الوفاة نفقة في رأي الجمهور، لانتهاء الزوجية بالموت، وأوجب لها المالكية السكنى مدة العدة إذا كان المسكن مملوكا للزوج، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة، وإلا فلا، بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام للفريعة: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله».
وأجمع أهل العلم على وجوب نفقة الحامل المطلقة ثلاثا أو الرجعية، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق ٦٥/ ٦].
وعلى المرأة في رأي مالك إذا أتاها نعي زوجها، وهي في بيت غير بيت زوجها، الرجوع إلى مسكنه. وقال سعيد بن المسيب والنخعي: تعتد حيث أتاها الخبر حتى تنقضي العدة.
372
والإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيّب والحليّ والكحل والخضاب بالحنّاء ما دامت في عدتها، لأن الزينة داعية إلى الأزواج. فنهيت عنها سدا للذرائع، وحماية لحرمات الله تعالى أن تنتهك.
والحداد على القريب ثلاثة أيام فقط، وعلى الزوج أربعة أشهر وعشر، وهو مقصور على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة أو عذر «١»،
روى البخاري ومسلم عن أم عطية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحدّ امرأة على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب «٢»، ولا تكتحل، ولا تمسّ طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار»
«٣»
وفي حديث أم حبيبة: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا»
الحديث، وهو يدل على تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، خلافا للأعراف الفاسدة السائدة اليوم.
وأجاز الحنفية والمالكية «٤» للمتوفى عنها زوجها لا المطلقة أن تخرج من منزل العدة نهارا في حوائجها الضرورية، لاكتساب ما تنفقه، لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى، بل نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة، ثم تعود فتبيت في ذلك المنزل، ولا تخرج بالليل، لعدم الحاجة إلى الخروج ليلا، كما لا تخرج لزيارة ولا تجارة ولا تهنئة ولا تعزية.
(١) قال المالكية: ولا تدخل حماما ولا تكتحل إلا لضرورة، وتمسح الكحل نهارا (الشرح الصغير: ٢/ ٦٨٦)
(٢) العصب: من برود اليمن، وهو الذي يصبغ غزل السدي فيه دون اللحمة، ثم ينسج مصبوغا فيخرج موشيا، لبقاء بعض ما عصب منه أبيض ولم ينصبغ.
(٣) النّبذة: الشيء اليسير، والقسط والأظفار: نوعان من البخور، ونبذة: منصوب على الاستثناء.
(٤) البدائع: ٣/ ٢٠٤- ٢٢٠، الشرح الصغير: ٢/ ٦٨٩، تفسير القرطبي: ٣/ ١٧٩
373
ولا خلاف في أن الخضاب والكحل داخلان في جملة الزينة المنهي عنها، وأنه لا يجوز لبس الثياب المصبوغة والمعصفرة، إلا ما صبغ بالسواد فإنه مرخص فيه في المذاهب الأربعة.
وأجمع الناس على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، واتفقوا على عدم وجوبه على المطلقة طلاقا رجعيا، لأنها في حكم الزوجة، لها أن تتزين لزوجها، ليرغب في إعادتها إلى الزوجية. أما المطلقة طلاقا بائنا فلا يجب عليها الحداد عند الجمهور، وإنما يستحب فقط، لأن الزوج أذاها بالطلاق البائن، فلا تلزم بإظهار الحزن والأسف على فراقه، واستحباب الحداد لها لئلا تدعو الزينة إلى الفساد.
وأوجب الحنفية الحداد على المبتوتة والمطلقة طلاقا بائنا، لأنه حق الشرع، ولإظهار التأسف على فوات نعمة الزواج، كالمتوفى عنها.
وتبدأ العدة في المذاهب الأربعة في الطلاق والوفاة من يوم الموت أو الطلاق. وأجمع العلماء على أن من طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها، ثم توفي قبل انقضاء العدة: أن عليها عدة الوفاة وترثه. واختلفوا في عدة المطلقة ثلاثا في المرض، فقالت طائفة: وهي مالك والشافعي: تعتد عدة الطلاق، لأن الله جعل عدة المطلقات الأقراء. وقال أبو حنيفة ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر، تستكمل في ذلك ثلاث حيض.
وتلزم عدة الوفاة الحرة والأمة والصغيرة والكبيرة، والتي لم تبلغ المحيض، والتي حاضت، واليائسة من المحيض، والكتابية، دخل بها أو لم يدخل، إذا كانت غير حامل، ومدة العدة كما بينا أربعة أشهر وعشرة أيام، لعموم الآية:
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
وقوله تعالى: عَشْراً: سئل أبو العالية: لم ضمت العشر إلى الأربعة الأشهر؟ قال: لأن الروح تنفخ فيها.
374
وقال الخطابي: قوله وَعَشْراً يريد- والله أعلم- الأيام بلياليها.
وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر: فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول، وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليال، كان باطلا، حتى يمضي اليوم العاشر.
وإنما ورد لفظ العشر مذكرا، فلأن المراد به المدة، في رأي المبرد، المعنى:
وعشر مدد، كل مدة من يوم وليلة. والمراد به الليالي في رأي الزمخشري، كما تقدم، فلم يقل «عشرة» تغليبا لحكم الليالي، إذ الليلة أسبق من اليوم، والأيام في ضمنها. ثم إن قوله عَشْراً أخف في اللفظ.
وفي آية فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ.. دليل على أن للأولياء والحكام منع النساء من التبرج والتشوف للزوج في زمان العدة، بل إن الأولياء من آباء وإخوة وغيرهم ممن له شأن مؤاخذون ومعاقبون على خروج النساء وتهتكهن وفعلهن غير المعروف شرعا، فإن ذلك مما يضعف الأمة، ويهدم الأخلاق.
خطبة المتوفى عنها زوجها تعريضا ووقت العقد
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
375
الإعراب:
عُقْدَةَ النِّكاحِ منصوب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ولا تعزموا على عقدة النكاح، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، فنصبه، كقولهم: ضرب زيد البطن والظهر، أيّ على البطن والظهر. ويجوز نصبه على المصدر بمعنى: تعقدوا عقدة النكاح، والوجه الأول أولى وأوجه.
البلاغة:
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ عبر بالعزم للمبالغة في تحريم مباشرة الزواج، فإذا نهي عن العزم، كان النهي عن فعل الزواج من باب أولى أو أشد نهيا. وقيل: لا تقطعوا عقد عقدة النكاح، لأن العزم: القطع، فيكون الكلام صريحا في النهي عن اليأس من الزواج وتحطيم الآمال، وتدمير الثقة بالنفس وتفويت عقد الزواج.
المفردات اللغوية:
عَرَّضْتُمْ لوّحتم، والتعريض في الكلام: أن تفهم المخاطب المقصود الذي تريد بلفظ لم يوضع له صراحة، وإنما بالإشارة والتلويح، ويحتاج فهمه إلى قرينة، لبعده عن ذهن السامع، وبعبارة موجزة: هو القول المفهم للمقصود، وليس بنص فيه.
خِطْبَةِ النِّساءِ المتوفى عنهن أزواجهن، والخطبة: طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس. والتعريض بخطبة معتدة الوفاة في أثناء العدة: أن يقول الإنسان مثلا: إنك لجميلة، ومن يجد مثلك، ورب راغب فيك. أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أضمرتم في النفس قصد النكاح أو العزم عليه بعد انقضاء العدة.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بالخطبة ولا تصبرون عنهن، فأباح لكم التعريض وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي زواجا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي ما عرف شرعا من التعريض، فالقول المعروف:
ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة ورحابة الصدر للزوجات ونحو ذلك.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي عقده، والعزم: التصميم على تنفيذه الْكِتابُ أي المكتوب المفروض من العدة أَجَلَهُ أي نهايته.
ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم وغيره فَاحْذَرُوهُ أن يعاقبكم إذا عزمتم غَفُورٌ لمن يحذره حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عن مستحقها.
376
التفسير والبيان:
لا يزال الكلام في أحكام النساء، ففي الآيات السابقة بيان أحكام الطلاق والرجعة والإرضاع وحقوق الزوجات والأولاد، وواجبات الأب من نفقة وسكنى وكسوة، ووجوب العدة والحداد على المرأة المتوفى عنها زوجها، وفي هذه الآية توضيح جواز خطبة معتدة الوفاة في العدة تلميحا لا تصريحا، وصحة إبرام العقد عليها بعد انقضاء العدة. فأبان الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض بالخطبة للمرأة المتوفى عنها زوجها أو لوليها، ومثلها المطلقة طلاقا بائنا، في أثناء العدة، أو يضمر في نفسه قصد زواجه بها، لأن التعريض لا يمس حق الزوج السابق، وربما كان فيه نوع من الإيحاء بالثقة والطمأنينة على أوضاع المستقبل، حيث تصبح المرأة لا عائل لها، ولأن إضمار شيء في النفس أمر طبيعي يشق الاحتراز عنه، لذا قال الله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم، ولا ضرر ولا خطر في قصد شيء بالنفس. ولكن يحرم المواعدة على الزواج في السر، لأن في المواعدة مدرجة للفتنة، ومظنة للقيل والقال، ولا تحرم المواعدة بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات ونحو ذلك، فيكون المراد بالقول المعروف: هو التعريض لا التصريح، أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض.
والمراد بالسر في الأصل: هو الوطء، ويقصد به هنا عقد الزواج في العدة سرا، فأطلق على العقد الذي هو سبب الوطء، وقيل كما اختار الطبري: المراد به هنا هو الزنى، أو القول لها: إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري. قال ابن كثير: وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك.
والتعريض بالخطبة للمعتدة بسبب الوفاة أو لوليها في العدة: كأن يقول:
إنك لجميلة، أو عسى أن ييسر الله لي امرأة صالحة بنت حلال مثلك، حتى تدخر
377
نفسها له، أو يمتدح نفسه أمامها فيقول: إني حسن الخلق، كريم الأصل، سخي النفس، جميل العشرة، محسن إلى الزوجة، ونحو ذلك من الكنايات التي يستعملها الناس، ويتفننون فيها بأنواع من الذكاء وحسن الدهاء في كل عصر.
وفائدة ذلك ظاهرة: هي أن تختار من الخطّاب من هو الأفضل والأكرم.
أما خطبة المعتدة من طلاق رجعي تلميحا أو تصريحا فحرام، لأنها لا تزال في عصمة زوجها، ما دامت في العدة.
وأما التصريح بخطبة المعتدة من وفاة أو طلاق بائن فحرام أيضا. ودليل جواز التعريض: ما
أخرج الطبري عن سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر: محمد بن علي الباقر، وأنا في عدتي، فقال:
يا ابنة حنظلة، أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي، قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة.
فالقول المعروف غير المنكر شرعا: وهو القول العفّ والإشارة الخفيفة والكلام اللطيف غير الجارح الذي يدخل في التعريض هو الجائز، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها، حيث ذكر لها منزلته عند الله تعالى.
ثم ذكر سبحانه وقت إباحة عقد الزواج على المعتدة: وهو ما بعد انقضاء العدة، ونهى نهيا شديدا عنه قبل ذلك، فقال: ولا تصمموا على إبرام الزواج
378
الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهي عدتها من زوجها السابق: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام.
وحذر الله تعالى من تجاوز هذا الحد، فقال: اعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم على ما لا يجوز، فاحذروا التجاوز من قول أو فعل على ما منع الله، وفي هذا التحذير قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا، لتأكيد المحافظة عليها.
ومع هذا اعلموا أن الله غفور لمن تعدى حدود الله وفرط بارتكاب الذنب ثم تاب وأصلح، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل عباده ليصلحوا أعمالهم، فلا تغتروا بإمهاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- يحرم التصريح بالخطبة للمعتدة أيا كانت عدتها، فلا يجوز بالإجماع «١» الكلام مع المعتدة في أمر الزواج سرا، أو التواعد معهن عليه، لكن يجوز التعريض بالخطبة لمعتدة الوفاة والمطلقة طلاقا بائنا، تمهيدا للمشاورة والتفكير بالموافقة على مبدأ الزواج الجديد في المستقبل. ولا يجوز إجماعا التعريض لخطبة الرجعية، لأنها كالزوجة.
قال سحنون وكثير من العلماء: والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض.
٢- يحرم شرعا إبرام عقد الزواج على أية معتدة في العدة، لقوله تعالى:
(١) الإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ولا التنبيه عليه ولا الرفث وذكر الجماع والتحريض عليه (البحر المحيط: ٢/ ٢٢٥).
379
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وهذا من المحكم المجمع على تأويله: أن بلوغ أجله: انقضاء العدة، مراعاة لحقوق الزوجية والتعرف على براءة الرحم من الحمل لئلا تختلط الأنساب.
٣- استدل الشافعية بهذه الآية على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح، دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح قائما مقام التصريح. ورد عليهم بأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف، والأعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرّض، لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح، ويلزم على قول الشافعية: أن التعريض بالقذف جائز مباح، كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح «١».
٤- اختلف العلماء في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة: فقال مالك في رواية أشهب وابن القاسم: إنه يفرّق بينهما إيجابا. وقال الشافعي: إن صرّح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح، حتى تنقضي العدة، فالنكاح ثابت، والتصريح لهما مكروه، لأن النكاح حادث بعد الخطبة.
٥- إذا عقد على المعتدة في العدة، وبنى بها، فسخ الحاكم النكاح، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه، فلا يحل نكاحها أبدا عند مالك والشعبي، وبه قضى عمر رضي الله عنه قائلا: «ثم لا يجتمعان أبدا»، لأنه استحل ما لا يحل، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله.
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ١٩٠، أحكام القرآن للجصاص الرازي: ١/ ٤٢٢
380
وقال الجمهور: يفسخ النكاح، فإذا انتهت عدتها، كان خاطبا من الخطاب، ولم يتأبد التحريم، لأن الأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم دليل على الحرمة: من كتاب أو سنة أو إجماع، وليس في المسألة شيء من هذا، ورأي الصحابي ليس حجة، وأنكر علي هذا القضاء من عمر، وقال المحدثون: هذا الأثر عن عمر منقطع، وقد روي عن مسروق: أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان، ولذا جعل القرطبي رأي عمر مع الجمهور الذين احتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها، لم يحرم عليه تزوجها، فكذلك وطؤه إياها في العدة. وهو قول علي وابن مسعود والحسن البصري.
٦- لا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة زواجا، وهي في العدة من غيره أن النكاح فاسد، واتفق عمر وعلي أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد، وذلك أمر متفق عليه مع الجهل بالتحريم، ومختلف فيه مع العلم بالتحريم.
واختلفوا هل تعتد منهما جميعا؟ وهذه مسألة العدتين.
قال مالك في رواية المدنيين عنه والشافعي وأحمد والليث وإسحاق: إنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر، وهو رأي عمر وعلي رضي الله عنهما، أي فعليها عدتان.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرّق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالأقراء أو بالشهور. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه، فدل على أنها في عدّة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه.
أجاب الأولون فقالوا: هذا غير لازم، لأن منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين، كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه.
381
٧- قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه، لأن الله توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
المطلقة قبل الدخول ومتعتها أو وجوب نصف المهر لها
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٦ الى ٢٣٧]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
الإعراب:
ما لَمْ ما: إما شرطية، أي إن لم تمسوهن، وإما ظرفية زمانية مصدرية، أي مدة لم تمسوهن.
مَتاعاً اسم أقيم مقام التمتع، وهو منصوب على المصدر، أي متعوهن متاعا حَقًّا منصوب أيضا على المصدر، وتقديره: حقّ ذلك حقا فَنِصْفُ مرفوع إما مبتدأ وخبره محذوف وتقديره: فعليكم نصف ما فرضتم وإما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فالواجب نصف ما فرضتم إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أن: حرف ناصب، والنون في يعفون نون النسوة، فهي علامة جمع، لا علامة رفع، وإذا اتصلت بالفعل المضارع صار مبنيا، كاتصاله بنون التوكيد. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى مبتدأ وخبر.
382
البلاغة:
ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ كنّى تعالى بالمسّ عن الجماع تأديبا للعباد في اختيار أحسن الألفاظ في التخاطب. الخطاب في قوله وَأَنْ تَعْفُوا ولا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عام للرجال والنساء، ولكن بطريق التغليب. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ إظهار لفظ الجلالة لتربية المهابة والخوف.
المفردات اللغوية:
لا جُناحَ لا إثم ولا تبعة عليكم، والمراد لا شيء عليكم تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن أَوْ تَفْرِضُوا أي ولم تفرضوا لهن فرضا أي تقدروا لهن مقدارا توجبونه على أنفسكم وهو المهر، أي لا تبعة ولا مسئولية عليكم بإثم ولا مهر في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم فرض المهر. وَمَتِّعُوهُنَّ أي فطلقوهن وأعطوهن ما يتمتعن به عَلَى الْمُوسِعِ الغني منكم الْمُقْتِرِ: الفقير قَدَرُهُ: أي قدر الإمكان والطاقة.
مَتاعاً أي متعوهن تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ شرعا، وهو صفة مَتاعاً. حَقًّا صفة ثانية أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا ثابتا واجبا. والمعروف: ما يتعارفه الناس ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم. الْمُحْسِنِينَ المطيعين الذين يحسنون في معاملة المطلقات.
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ: لكن إذا ترك الزوجات المطلقات حقهن أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الولي يعني: إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن، فلا يطالبنهم بنصف المهر، إن كن مالكات أنفسهن، أو يسقط الولي الذي يلي عقد النكاح ما وجب للمطلقات قبل الدخول من نصف الصداق، إن لم يكنّ مالكات أنفسهن. والولي: هو الأب في ابنته البكر، وهو رأي مالك وابن عباس وجماعة من التابعين. وقيل: هو الزوج، وعفوه: تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي أعطاه للمرأة. ويكون المعنى: إلا أن يعفو المطلقات، أو يعفو الزوج عن نصف الصداق، فيجعل المهر كله لها، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي في قوله الجديد، والثوري وابن شبرمة والأوزاعي، وهو رأي علي وشريح وسعيد بن المسيب، وحجتهم: أن الله قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس إعطاء المرء مال غيره فضلا، فلا ينطبق على الولي.
وحجة الفريق الأول: أن الخطاب في أول الآية للأزواج، فلو أراد الزوج، لقال: أو يعفو، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر. ولأن معنى يَعْفُونَ، يسقطن وكذلك معنى يَعْفُوَا يسقط، والولي هو الذي يسقط، أما الزوج فيعطي.
383
قال الزمخشري: والأول ظاهر الصحة، وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيها نظر «١».
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي أن يتفضل بعضكم على بعض، والفضل: المودة والصلة.
إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خبير بأعمالكم، فيجازيكم عليها.
سبب النزول:
روي أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة، ولم يسم لها صداقا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أمتعها ولو بقلنسوتك» «٢».
التفسير والبيان:
لا شيء عليكم أيها الأزواج من الصداق المسمى أو مهر المثل إن لم يسمّ المهر إن طلقتم النساء قبل الدخول وقبل تحديد أو تقدير مهر لهن. وقد دل على أن الجناح هنا تبعة المهر قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً، فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ فأوجب نصف المهر في مقابله. وقوله أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً: بمعنى إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة: تسمية المهر، لأن المطلقة قبل الدخول بها إن سمي لها مهر، فلها نصف المهر المسمى، وإن لم يسم، فليس لها نصف مهر المثل، ولكن المتعة. وقال بعضهم: إن أَوْ بمعنى الواو.
وإنما الواجب عليكم المتعة، أي إعطاء المطلقات شيئا من أموالكم يتمتعن به بحسب حالكم من الثروة والغنى والمنزلة والفقر، جبرا للخاطر، ولم يحدده الله تعالى، وإنما ترك تقديره لحالة الزوج من غنى وفقر حسب الطاقة. وكان ابن
(١) الكشاف: ١/ ٢٨٥ [.....]
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٣١
384
عباس يقول: متعة الطلاق: أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
وجعل الله تعالى هذه المتعة حقا واجبا على الذين يحسنون معاملة المرأة.
وللفقهاء فيها آراء، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر، لظاهر قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ وقوله حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وهي مستحبة لسائر المطلقات، كالمطلقة بعد الدخول، والمطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر «١».
وذهب مالك في المشهور عنه: إلى أن المتعة مندوبة ما عدا المطلقة قبل الدخول التي لم يسم لها المهر، وقيل بوجوبها.
ورأى الشافعي وأحمد: أنها واجبة للمطلقة قبل الدخول سواء التي فرض لها مهر أو لم يفرض لها إلّا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر، وأوجبها الشافعية أيضا للمطلقة بعد الدخول، لقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢٤١] يعني أن المتعة واجبة لكل مطلقة في مذهب الشافعي الجديد ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر.
والظاهر القول بالوجوب، لظاهر الأمر: وَمَتِّعُوهُنَّ وكأن الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل المسمى لها من نصف الصداق حال التسمية. وأما قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فليبين أن مقتضى الإحسان يوجب ذلك.
هذا هو القسم الأول المذكور في الآية وهو حكم المطلقة قبل الدخول والتي لم يسم لها المهر، وهذه لها المتعة. ثم بيّن الله تعالى حكم القسم الثاني وهو المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، وهذه لها نصف الصداق، فقال الله تعالى فيما معناه:
(١) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٢٨
385
إذا طلقت المرأة قبل الدخول، وقد سمّي لها صداق، فيجب لها نصفه ولها حق أخذه في كل حال، إلا أن تعفو المطلقة، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي، وعفوه: إسقاط الحق في نصف المهر، وقيل: هو الزوج وعفوه:
التنازل عن نصف الصداق المستحق له، فتأخذ المهر كله، كما بينا في شرح المفردات. والعفو أقرب لتقوى الله، أي أن من عفا من الرجال والنساء فهو المتقي.
ولا تنسوا التفضل بينكم بالإحسان، فتتركوه وتستقصوا أخذ كل المستحق، فإن العفو خير لكم جميعا، والله بما تعملون بصير، فيجازي كلا على حسب نيته وعمله، ويعلم من عفا، وعامل بالإحسان من لم يفعل ذلك. وهذه خاتمة للتذكير باطلاع الله على كل ما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا، ترغيبا في الإحسان والفضل، وترهيبا من المخاشنة والجهل.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- ذكر الله تعالى في هذه الآية حكم حالتين من الطلاق: المطلقة قبل الدخول وقبل تسمية المهر، فجعل لها المتعة، والمطلقة قبل الدخول وبعد تسمية المهر، وجعل لها نصف الصداق.
والحكمة في المتعة وإيجاب نصف المهر قبل الدخول: جبر وحشة الطلاق، والتعويض عما لحق المرأة من أذى وسوء سمعة، فيكون ذلك سبيلا لرفع معنويات المرأة المطلقة، ودفع الشبهات والريبة عنها، وتوفير حسن الصيت وطيب الشهرة لها، حتى لا تتضرر باحتمال إعراض الخطّاب عليها، وتعكير صفو المستقبل المنتظر لها.
وهناك صنفان آخران من المطلقات: المطلقة المدخول بها المفروض لها المهر، وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية (في الآية: ٢٢٩)، وأنه لا يسترد
386
منها شيء، وأن عدتها ثلاثة قروء. والمطلقة المدخول بها غير المفروض لها المهر، وقد ذكر الله تعالى حكمها في قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن [النساء ٤/ ٢٤].
٢- إن قسمة الله تعالى حال المطلقة قبل الدخول إلى قسمين: مطلقة مسمى لها المهر، ومطلقة لم يسمّ لها، يدل على أن نكاح التفويض جائز: وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق، ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق.
فإن فرض بعد العقد وقبل الطلاق، كان من المسمى، فيكون لها نصف المسمى، ويلتحق الفرض بالعقد في رأي مالك، ولا يكون لها نصف المسمى ولا يلتحق بالعقد في رأي أبي حنيفة، نظرا إلى أنها لم يسم لها في العقد.
وأما إن لم يفرض لها، وكان الطلاق، لم يجب صداق إجماعا، كما قال ابن العربي «١».
٣- إذا مات الزوج قبل أن يفرض لها، فقال مالك: يكون حكمها حكم المطلقة، لها الميراث دون الصداق، وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد: لا يكون لها حكم المطلقة، فيجب لها الصداق والميراث «٢».
وحجة مالك: أنه فراق في نكاح قبل الفرض، فلم يجب فيه صداق، أصله الطلاق، أي كالحكم في الطلاق.
وحجة الشافعي وأحمد وأبي حنيفة: ما رواه النسائي وأبو داود عن ابن مسعود: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق- وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها- بالمهر، والميراث، والعدة. قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، وقد روي عنه من غير وجه.
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢١٨
(٢) المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: ٣/ ١٩٨
387
٤- ومذهب أبي حنيفة وأحمد: أن المهر جميعه يتقرر بالخلوة الصحيحة، لخبر ابن مسعود قال: «قضى الخلفاء الراشدين فيمن أغلق بابا أو أرخى سترا: أن لها الميراث، وعليها العدة» «١». ومشهور مذهب مالك، والشافعي: أنه لا يتقرر المهر بالخلوة إلا إذا اقترن بها مسيس (وطء)، وظاهر القرآن يعضدهما.
٥- ليس للمتعة بمقتضى القرآن والسنة حد معروف في قليلها ولا كثيرها.
لذا اختلف الناس فيها، فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها، وهو قول الشافعي القديم، وقال في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ: أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم، ثم كسوة، ثم نفقة.
وقال عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. وقال أبو حنيفة: ذلك أدناها.
وقال الحسن البصري ومالك: يمتّع كل بقدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة.
وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلّق قبل الدخول والفرض لا يتجاوز بها نصف مهر مثلها، لا غير، لأن مهر المثل مستحق بالعقد، والمتعة:
هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلّق قبل الدخول، فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة، وهي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت، كثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار «٢».
وروى الدارقطني أن الحسن بن علي رضي الله عنه متّع زوجته: عائشة الخثعمية بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
٦- قال ابن القاسم من المالكية: من جهل المتعة حتى مضت أعوام، فليدفع
(١) وروي أيضا مرفوعا، أخرجه الدارقطني.
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٣٣- ٤٣٤
388
ذلك إليها، وإن تزوّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، لأنه حق ثبت عليه، وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق. وهذا يشعر بوجوبها في المذهب المالكي.
وقال أصبغ: لا شيء عليه، لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق، وقد فات ذلك.
٧- دل قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ على وجوب المتعة. والموسع: الذي اتسعت حاله، والمقتر: المقل القليل المال. وكذلك قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي يحق ذلك عليهم حقا: دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها، فقوله حَقًّا تأكيد للوجوب.
٨- الواجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر المسمى بالإجماع. ولا خلاف أن من دخل بزوجته ثم مات عنها، وقد سمّى لها مهرا: أن لها ذلك المسمّى كاملا، والميراث، وعليها العدة.
٩- لكل امرأة تملك أمر نفسها وكانت بالغة عاقلة راشدة أن تترك النصف الذي وجب لها عند الزوج، لأن معنى يَعْفُونَ: يتركن ويصفحن، وقوله إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء منقطع، لأن عفوهنّ عن النصف ليس من جنس أخذهنّ.
وأما التي في حجر أب أو وصي: فلا يجوز وضعها لنصف صداقها بلا خلاف.
ولولي المرأة في مذهب مالك العفو عن نصف الصداق، لأن الذي بيده عقدة النكاح: هو الولي، لأوجه أربعة:
الأول- لأن الزوج قد طلق، فليس بيده عقدة.
الثاني- أنه لو أراد الأزواج لقال: إلا أن تعفون، فلما عدل عن مخاطبة
389
الحاضر المبدوء به في أول الكلام: وهو الزوج، إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره.
الثالث- أنه تعالى قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني يسقطن، ولا يتصور الإسقاط عن شيء من المهر إلا من الولي، أما الزوج فيعطي.
الرابع- أنه تعالى قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني يسقطن أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يعني يسقط، وكل هذا يرجع إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة، فأما النصف الذي لم يجب، فلم يجر له ذكر.
ورجح ابن العربي هذا القول قائلا: والذي تحقق عندي بعد البحث والسّبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه «١».
وللزوج في رأي الشافعي وأبي حنيفة: أن يترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي سماه للزوجة، لما
رواه الدارقطني عن ابن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولي عقدة النكاح: الزوج».
وروى الدارقطني عن جبير بن مطعم: أنه تزوج امرأة من بني نصر (بطن من هوازن) فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها بالصداق كاملا، وقال: أنا أحق بالعفو منها، قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وأنا أحق بالعفو منها.
١٠- أقرب الزوجين للتقوى: الذي يعفو. وعلى الزوج ألا ينسى مودة أهل البيت الذين تزوج منهم ثم طلق، وألا يهجرهم أو يسبهم ويلعنهم ويحقد عليهم، كما هو حال الناس اليوم مع الأسف بعد حدوث الطلاق بين زوجين، فصارت رابطة المصاهرة بعد انفصالها مرتعا للمخاصمات والمنازعات والمهاترات والمكائد، وهذا كله مناقض لكتاب الله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ.
(١) راجع أحكام القرآن: ١/ ٢٢١
390
قال مجاهد: الفضل: إتمام الرجل الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها. بل إن الآية تذكّر بالإحسان واستعمال الفضل في المعاملات، لأن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه ولا يستغل حاجته ويعطيه إذا كان محتاجا، ولا يبخل ولو بالدعاء له.
١١- دلت آية إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ... على صحة هبة المشاع، لأن الله تعالى أوجب للمرأة بالطلاق نصف الصداق، فعفوها للرجل عن جميعه كعفو الرجل، ولم يفصل بين مشاع ومقسوم.
وقال أبو حنيفة: لا تصح هبة المشاع إلا بعد القسمة، لأن القبض شرط صحة الهبة، وقبض المشاع أمر متعذر.
الحفاظ على الصلاة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
الإعراب:
قانِتِينَ حال أي ذاكرين الله في قيامكم، والقنوت: أن تذكر الله قائما. فَرِجالًا حال منصوب، وعامله محذوف تقديره: فصلوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام. كَما عَلَّمَكُمْ الكاف بمعنى مثل، وما: المصدرية أو موصولة مفعول لفعل «علمكم».
البلاغة:
الصَّلاةِ الْوُسْطى عطف خاص على عام، تنويها بفضلها وتنبيها على شرفها في جنسها.
هناك طباق بين خِفْتُمْ وأَمِنْتُمْ. وعبر بكلمة الشرط فَإِنْ لعدم تحقق وقوع الخوف،
391
وأورد الثانية بكلمة فَإِذا لتحقق وقوع الأمن وكثرته، وأوجز في جواب الأولى مراعاة لظرف الخوف، وأطنب في جواب الثانية لمناسبته ظرف الأمن والاستقرار.
المفردات اللغوية:
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ داوموا على الصلوات الخمس بإتقان وأداء في أوقاتها وإتمام أركانها وشروطها مع خشوع القلب، دون تضييع ولا عجلة ولا تأجيل. الصَّلاةِ الْوُسْطى من الوسط:
وهو العدل والخيار، والوسطى: الفضلى، ويحتمل أنها وسط أو متوسطة في العدد، لأنها متوسطة بين صلاتين قبلها وصلاتين بعدها، وقيل: إنها وسط من الوقت. والراجح من الأقوال: أنها صلاة العصر، لما
رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن علي مرفوعا يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى- صلاة العصر»
وروى أحمد والشيخان: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذا اليوم: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس»
ولم يذكر العصر.
وفي رواية عن علي عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه: «كنا نعدّها الفجر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي العصر»
وأخرج الشيخان: «الذي تفوته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله».
وَقُومُوا لِلَّهِ في الصلاة قانِتِينَ ذاكرين الله تعالى في القيام، مداومين على الضراعة والخشوع، وقيل: مطيعين، لما رواه أحمد: «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» وقيل: ساكتين، لما رواه الشيخان عن زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت».
فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو سيل أو سبع فَرِجالًا جمع راجل، أي مشاة صلوا أَوْ رُكْباناً جمع راكب، أي كيف أمكن، مستقبلي القبلة أو غيرها، ويومئ بالركوع والسجود، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله. وعن أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلون في حال المشي والمسابقة، ما لم يمكن الوقوف.
فَإِذا أَمِنْتُمْ من الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي صلوا على النحو الذي علمكم إياه من الإتيان بالفرائض وحقوق الصلاة كاملة.
سبب النزول:
أخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والبيهقي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهاجرة، وكانت أثقل الصلوات
392
على أصحابه، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
وهذا يدل على أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر، وبه قال جماعة.
وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير الطبري عن زيد بن ثابت أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى.
وأخرج الأئمة الستة وغيرهم عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
المناسبة:
ختمت آيات الأحكام السابقة في العبادات والمعاملات ومعاملة الزوجات بالأمر بتقوى الله والتذكير بعلمه بحال عباده وما أعد لهم من جزاء على العمل، لتقوية الوازع الديني في النفوس، كما هي سنة القرآن.
ثم توسطت آيات المحافظة على الصلاة آيات أحكام الأسرة لحكمة «١» : وهي الحاجة إلى مذكّر عملي يصل الإنسان بالله، للترفع عن البغي والعدوان، والميل إلى العدل والإحسان في معاملة الأسر، ولا سيما بعد الطلاق الذي يولد الشحناء والبغضاء، وذلك المذكّر هو الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتدعو إلى الإحسان والتسامح، وتنفي الجزع وتنسي هموم الدنيا، فتتربى النفس الإنسانية على أفضل سلوك، وأقوم طريق، وإشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وأوضاعها ولا أنفسنا عن الصلاة.
(١) قال المفسرون: هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها والمطلقات، وهي متقدّمة عليهن في النزول متأخرة في التلاوة ورسم المصحف (البحر المحيط: ٢/ ٢٣٩).
393
التفسير والبيان:
داوموا على الصلوات جميعها، لما فيها من مناجاة الله ودعائه والثناء عليه، ولأنها عماد الدين، ولما لها من الأثر الفعال في تطهير النفس، إذا كانت على النحو المقرر
في الحديث: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» «١».
والصلاة الوسطى داخلة في الصلوات، وإنما خصها الله بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها، وتذكيرا بها، سواء أكانت صلاة الظهر بسبب شدة الحر في الأقاليم الحارة، ولأنها في وسط النهار، كما رجح القرطبي، أم صلاة العصر حيث يشغل الناس عنها لإنهاء أعمالهم اليومية، وشكرا لله تعالى على التوفيق في إنجاز العمل اليومي الذي يعود بالثمرة الطيبة على النفس والأهل والوطن، أم صلاة الصبح، كما قال ابن عباس وابن عمر وأبو أمامة وعلي، بسبب الحرص على النوم والتكاسل عن أدائها، ولأنها أثقل صلاة على المنافقين، أم غير ذلك وهي المغرب أو العشاء أو الجمعة، وفي ذلك سبعة أقوال للعلماء، رجح ابن العربي أن تعيينها متعذر «٢».
وقوموا خاشعين لله في صلاتكم، متفرغين من كل مشاغل الدنيا التي تصرف القلب عن الخشوع، ذاكرين الله دون سواه، ساكتين لا تتكلمون بغير آي القرآن والدعاء والمناجاة بحسب تنظيم الشرع أحوال الصلاة. والقنوت في رأي مجاهد:
هو السكوت، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في سبب النزول المتقدم.
والمحافظة على الصلاة في وقتها مع الخشوع وحضور القلب دليل الإيمان وصحة الإسلام، وأخوة الدين، وحفظ الحقوق، والمحافظ عليها هو الذي يرجى خيره، ويؤمن شره،
روى أحمد وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: سمعت
(١) أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(٢) أحكام القرآن: ١/ ٢٢٤، وانظر أيضا البحر المحيط: ٢/ ٢٤٠ وما بعدها.
394
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «العهد الذي بيننا وبينكم: الصلاة، فمن تركها فقد كفر»
وروى أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه ذكر الصلاة يوما، فقال: من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف».
وكان من أثر ترك الصلاة على الوجه الشرعي فشو المنكرات والفواحش، وظهور الخيانة، وزعزعة الأمن على النفس والمال، وكثرة الاعتداءات، وانقباض الأيدي عن فعل الخير، وقلة التراحم والتعاطف، وسوء الظن، وضعف الثقة بين الناس.
ونظرا لأهمية الصلاة وخطورتها لم يجز الإسلام تركها في أي حال من الأحوال، لذا قال الله تعالى ما معناه: لا عذر لأحد في ترك الصلاة، حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض من العدو، فإن خفتم أي ضرر من القيام، فصلوا كيفما كان راجلين (مشاة) أو ركبانا. فإذا أمنتم أي زال الخوف عنكم، فاذكروا الله واعبدوه، واشكروه على نعمة الأمن، كما علمكم من الشرائع، وكيفية صلاة الأمن، ما لم تكونوا تعلمون.
والمراد: ما لم تكونوا تعلمون من صلاة الأمن، أو فإذا أمنتم فاشكروا الله على الأمن، واذكروه بالعبادة، كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن «١». وقال القرطبي: المعنى: ارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الأركان، واشكروا الله على هذه النعمة في تعليمكم هذه الصلاة التي وقع بها الإجزاء، ولم تفتكم صلاة من الصلوات، وهو الذي لم تكونوا تعلمونه «٢».
(١) الكشاف: ١/ ٢٨٥- ٢٨٦
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٢٥
395
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، لفضلهن، وتخصيص الفضلى منهن بزيادة محافظة، أي الزائدة الفضل «١»، تشريفا لها، كما قال الله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ [البقرة ٢/ ٩٨] وقال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب ٣٣/ ٧] وقال: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن ٥٥/ ٦٨].
٢- لا تسقط الصلاة بحال، ولا يجوز تركها لأي عذر، ولو في حال اللقاء مع العدو، أو في وسط المعارك الحربية، أو في شدة المرض، إذ شرع الإسلام أداءها بكيفية تتناسب مع كل الأحوال، ففي أثناء الخوف تؤدى إما حال الركوب أو حال المشي، أو حال الوقوف إيماء على أي وضع كان. وفي حالة المرض تصلى قياما أو قعودا أو اضطجاعا، أو على جنب، أو بالإشارة إلى الأركان بجفن العين، أو بإجراء الأركان على القلب، كما أبان الشافعية والمالكية وغيرهم،
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حصين- فيما رواه الجماعة-: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
وسبب عدم سقوطها في كل حال: أنها تذكر بسلطان الله على كل شيء، وبأنه وحده الغاية والهدف، وإليه المرجع والمآل، فإن الأعمال الظاهرة تساعد القلب على استحضار الذات الإلهية، والإقبال على الله في كل شيء صعب أو
(١) قال صاحب تفسير المنار (٢/ ٣٤٧) : إن المراد بالصلاة: الفعل، وبالوسطى: الفضلى، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة: وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب، وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى، ويخشع لذكره وتدبر كلامه، لا صلاة المرائين ولا الغافلين.
396
سهل، وفي حال الصحة أو حال المرض، وفي حال الأمن أو الخوف، فسبحانه وتعالى هو المهيمن على كل شيء، وهو صاحب الجلال والعظمة، وهو وحده الفعال لما يريد، وهو الذي ينجز مطلب عبده إذا أخلص الدعاء له، وكل ذلك أمر مجرب يحتاج إلى الإيمان الصحيح، والعمل الصالح، وصدق الطلب.
٣- دل قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى على أن الوتر ليس بواجب، لأن المسلمين اتفقوا على أعداد الصلوات المفروضات أنها تنقص عن سبعة وتزيد عن ثلاثة، وليس بين الثلاثة والسبعة فرد إلا الخمسة، والأزواج لا وسط لها فثبت أنها خمسة،
وفي حديث الإسراء: «هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي».
٤- إذا كان المراد من قوله تعالى: قانِتِينَ ساكتين وأن القنوت هنا:
السكوت كما صحح القرطبي، كانت الآية آمرة بالسكوت في الصلاة، ناهية عن الكلام فيها. قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة، إذا كان المصلي يعلم أنه في صلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته: أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه قال: «من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام، لم تفسد صلاته بذلك» وهو قول ضعيف في النظر، لقول الله عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.
وقال مالك: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، فلو صلّى الإمام ركعتين، وسلّم ساهيا، فسبّحوا للتنبيه، فلم يفقه، فقال له رجل من خلفه ممن هو معه في الصلاة: إنك لم تتمّ، فأتم صلاتك.
فالتفت إلى القوم، فقال: أحقّ ما يقول هذا؟ فقالوا: نعم، صحت صلاة الجميع. ودليله قصة ذي اليدين: وهي
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سلّم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: كلّ ذلك لم
397
يكن، فقال: بعض ذلك قد كان، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أصحيح ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم».
وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صلاته.
ووافق الشافعية والحنابلة مالكا في أن الصلاة لا تبطل بكلام لمصلحتها إن صدر ذلك سهوا، فمن تكلم بعد أن سلّم قبل إتمام صلاته سهوا بكلام يسير عرفا لمصلحة الصلاة، بأنه سبق لسانه إليه أو نسي الصلاة، لا تبطل صلاته عملا بقصة ذي اليدين، وأضاف الشافعية القول بأن الصلاة لا تبطل بكلام من جهل تحريم الكلام في الصلاة إن قرب عهده بالإسلام.
وذهب الحنفية: إلى أن الصلاة تفسد بالكلام عمدا أو سهوا، أو جاهلا، أو مخطئا، أو مكرها، على المختار، بالنطق بحرفين أو بحرف مفهم مثل: «ع» و «ق»، لتحريم الكلام في الصلاة،
ولقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» «٢».
وقالوا: إن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم «٣».
٥- ذكر أبو بكر الأنباري أن القيام أحد أقسام القنوت، وأجمعت الأمة على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، منفردا كان أو إماما.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه الأئمة-: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما، فصلوا قياما»
وهو بيان لقوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.
(١) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. [.....]
(٢) أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود عن معاوية بن الحكم السّلمي.
(٣)
قال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله أحدث من أمره ألا تكلّموا في الصلاة»
وقال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: «وقوموا لله قانتين».
398
وأجاز جمهور العلماء للمأموم الصحيح أن يصلي قائما خلف إمام مريض لا يستطيع القيام، لأن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته، تأسّيا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ صلّى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا، وأبو بكر إلى جنبه قائما، يصلي بصلاته، والناس قيام خلفه.
والمشهور عن مالك: أنه لا يؤمّ القيّام أحد جالسا، فإن أمّهم قاعدا بطلت صلاته وصلاتهم،
لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمّنّ أحد بعدي قاعدا».
٦- دلت آية فَإِنْ خِفْتُمْ على جواز الصلاة حالة القتال، أو الخوف الطارئة أحيانا، رجالا (مشاة) على الأقدام، وركبانا على الخيل والإبل ونحوها، إيماء وإشارة بالرأس حيثما توجه، ولا تبطل بالقتال، ويسقط استقبال القبلة. وهو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد)، بدليل ظاهر الآية، ويؤيده ما
روي في الصحيح عن ابن عمر في حال الخوف: «فإن كان خوف أكثر من ذلك، صلوا قياما وركبانا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها».
وذهب أبو حنيفة: إلى أن الصلاة تبطل بالقتال. لكن ظاهر الآية حجة عليه، وحديث ابن عمر يرد عليه.
واختلف العلماء في تحديد صفة الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالا وركبانا: فقال الشافعي: هو إطلال العدو عليهم، فيتراءون معا، والمسلمون في غير حصن، حتى ينالهم السلاح من الرمي أو أكثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب، أو يأتي من يصدق خبره، فيخبر بأن العدو قريب منهم ويصف مسيرهم، جادّين فيه، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين، فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف.
فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف، ثم ذهب العدو، لم يعيدوا، وقال أبو حنيفة: يعيدون.
399
أما صلاة الخوف مع الإمام وقسمة الناس قسمين فليس حكمها في هذه الآية، وإنما في سورة النساء.
ولا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعي وجماهير العلماء.
وتشريع صلاة الخوف دليل على أن الصلاة لا تسقط بحال ولا بعذر، فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف، فأحرى ألا تسقط بغيره من مرض أو نحوه، والله سبحانه وتعالى أمر بالمحافظة على الصلوات في كلّ حال من صحة أو مرض، وحضر أو سفر، وقدرة أو عجز، وخوف أو أمن، لا تسقط عن المكلّف بحال، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال.
والمقصود من هذا أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين، لزم فعلها.
وبهذا تميزت الصلاة عن سائر العبادات، كلّها تسقط بالأعذار، ويترخّص فيها بالرّخص.
قال ابن العربي: ولذلك قال علماؤنا- وهي مسألة عظمي- إن تارك الصلاة يقتل، لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال، وقالوا فيها: إحدى دعائم الإسلام، لا تجوز النيابة فيها ببدن ولا مال، فيقتل تاركها، وأصله الشهادتان «١».
(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٢٨
400
وصية الحول للمتوفى عنها زوجها ومتعة كلّ مطلّقة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
الإعراب:
وَالَّذِينَ مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: يوصون وصية، والوصية هاهنا: قائمة مقام المصدر وهو الإيصاء، واللام في لِأَزْواجِهِمْ تتعلّق بالمصدر، أو بالفعل المقدر.
مَتاعاً منصوب على المصدر، وغير إخراج: صفة له، أي: متاعا لا يخرجهن، أو منصوب على الحال من الموصين المتوفين، وتقديره: متاعا إلى الحول غير ذوي إخراج، أي مخرجين لهن. وهذه الآية منسوخة بما تقدّمها وهي آية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.. [البقرة ٢/ ٢٣٤].
المفردات اللغوية:
وَيَذَرُونَ يتركون زوجات بعد وفاتهم. وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ أي فليوصوا وصية، أو يوصي الله وصية لأزواجهم، ومن قرأ: وصية بالرفع: كان مرفوعا على أنه مبتدأ، وخبره مقدر، وتقديره: فعليهم وصية لأزواجهم، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر الَّذِينَ أو مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتبت. مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ أي ليعطوهن ما يتمتعن به من النفقة والكسوة إلى تمام الحول من موتهم، أو جعل الله لهن ذلك متاعا مدّة الحول. غَيْرَ إِخْراجٍ حال أي غير مخرجات من مسكنهن، أي لهنّ ذلك المتاع، وهنّ مقيمات في البيت غير مخرجات منه، ولا ممنوعات من السكنى فيه. فَإِنْ خَرَجْنَ بأنفسهن. فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا إثم عليكم يا أولياء الميت.
401
فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ شرعا كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٤٠) :
أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حيان: أنّ رجلا من أهل الطائف قدم المدينة، وله أولاد ورجال ونساء، ومعه أبواه وامرأته، فمات بالمدينة، فرفع ذلك إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعطى الوالدين، وأعطى أولاده بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنهم أمروا أن ينفقوا عليها من تركة زوجها إلى الحول، وفيه نزلت: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً الآية «١».
نزول الآية (٢٤١) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: لما نزلت: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة ٢/ ٢٣٦] قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
المناسبة:
هذه الآيات تتمة ما في السورة من أحكام الزواج، وتوسطت بينها آية الأمر بالمحافظة على الصلاة، لأنها عماد الدين، للعناية بها، فمن حافظ على الصلوات، كان جديرا بالوقوف عند حدود الله تعالى والعمل بشريعته، كما قال الله تعالى:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة ٢/ ٤٥] وقد سبق بيان ذلك.
(١) أسباب النزول للنيسابوري: ص ٤٤- ٤٥
402
قال الإمام محمد عبده: وقد خطر لي وجه آخر: هو الذي يطّرد في أسلوب القرآن الخاص في مزج مقاصد القرآن بعضها ببعض، من عقائد وحكم ومواعظ وأحكام تعبديّة ومدنيّة وغيرها، وهو نفي السآمة عن القارئ والسامع من طول النوع الواحد منها، وتجديد نشاطهما وفهمهما واعتبارهما في الصلاة وغيرها «١».
التفسير والبيان:
على الذين يشرفون منكم على الموت، ويتركون زوجات بعدهم أن يوصوا لهنّ بوصية التّمتع المستمر في البيت إلى نهاية الحول، بدون إخراج منه أو منع السكنى فيه. فيكون للزوجة الأرملة النفقة من مال زوجها المتوفى مدّة سنة كاملة، ويجب على الورثة ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها ولا يمنعوا النفقة عنها قبل مضي السنة. وهل هذا الأمر أمر وجوب وإلزام أو أمر ندب واستحباب؟
قولان «٢» :
١- قول الجمهور: كانت عدّة الوفاة في أول الإسلام سنة كاملة، مجاراة لعادة العرب، ثم نسخت هذه الآية بآية المواريث في سورة النساء والآية المتقدمة المتأخرة في النزول: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة ٢/ ٢٣٤]، فصارت عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام، بدل السّنة، وتأخذ حقّها المقرر في الميراث. أخرج ابن جرير الطبري عن همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، كان لها السكنى والنفقة، حولا في مال زوجها، ما لم تخرج،
(١) تفسير المنار: ٢/ ٣٥٣
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٤٤
403
ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: الثّمن إن كان له ولد، والرّبع إن لم يكن له ولد، وعدّتها: أربعة أشهر وعشرا، فقال الله تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، وَيَذَرُونَ أَزْواجاً.. الآية، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.
٢- قول مجاهد وأبي مسلم الأصفهاني من قدماء المفسّرين: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء. ورجح الرازي في تفسيره هذا القول.
أما مجاهد: فروى عنه ابن جرير أنه يقول: نزل في عدّة المتوفى عنها زوجها آيتان: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وقد تقدمت، وهذه الآية، أما الآية الأولى:
فكانت هذه للمعتدة تعتدّ عند أهل زوجها واجبا ذلك، فأنزل الله هذه الآية:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ.. إلى قوله: عَزِيزٌ حَكِيمٌ، قال: جعل الله تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ، فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ والعدّة كما هي.
أي أنه يجب حمل الآيتين على حالتين: فإن اختارت الإقامة في دار زوجها المتوفى، والنفقة من ماله، فعدّتها سنة، وإلا فعدّتها أربعة أشهر وعشر، فيكون للعدّة على قوله أجل محتم وهو الأقل، وأجل مخيّر فيه، وهو الأكثر.
وأمّا أبو مسلم: فيقول: إن معنى الآية: من يتوفون منكم، ويذرون أزواجا، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصية الأزواج، بعد أن يقمن المدّة التي ضربها الله تعالى لهنّ، فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة، قال: والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون
404
بالنفقة والسكنى حولا كاملا، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب، على هذا التقدير، فالنسخ زائل.
أما الفقهاء: فذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إلى أنه لا يجب لها السكنى مدة الأربعة الأشهر والعشر في تركة زوجها، وتعتدّ حيث شاءت. وذهب مالك:
إلى أن لها السكنى مدّة العدّة إذا كان المسكن مملوكا للزوج، أو مستأجرا ودفع أجرته قبل الوفاة وإلا فلا، لحديث الفريعة وهو: ما
رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عجرة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم، فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت:
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم»، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة، ناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أمر بي، فنوديت له، فقال: «كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله».
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت:
فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي، فسألني عن ذلك، فأخبرته، فاتبعه وقضى به «١».
وأما بقية تفسير الآية فهو: فإن خرجن من تلقاء أنفسهن بعد مضي العدّة، فلا إثم عليكم أيها الورثة المخاطبون بتنفيذ الوصية، فيما فعلن في أنفسهن من المعروف شرعا وعادة كالخروج والتعرّض للخطّاب والزينة والتّزوج، ما دام ذلك
(١) رواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به، ورواه النسائي أيضا وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
405
لا يتنافى مع الشرع، إذ لا ولاية لكم عليهن، والله عزيز لا يغالب ويعاقب من خالفه، حكيم في كل أمر يراعي مصالح عباده.
ثمّ بيّن تعالى حكم متعة المطلّقات عموما، فذكر أنه شرعت المتعة (وهي ما يتّفق عليه الزوجان أو يقدرها القاضي) لكل مطلّقة مدخول بها أو غير مدخول بها، وهذا حقّ على المتّقين الذين يخافون الله ويرهبون عقابه، ومثل ذلك البيان السابق لحقوق الأزواج يبيّن الله لكم سائر الأحكام بآياته المحكمة مع توضيح فائدتها، لتدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة، ولنتدبر الأشياء ونتعقل ما فيها من الحكمة والموعظة الحسنة والمصلحة الحقيقية.
وهل الأمر بالمتعة على سبيل الوجوب أو الندب؟
بيّنا سابقا آراء الفقهاء، وموجزها أن الأمر بالمتعة هنا مستحب عند الجمهور، واجب عند الشافعية، وهو رأي ابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وآخرين من التابعين، أما المالكية فقالوا: إن المتعة مستحبة لكل مطلقة، ما عدا المطلقة قبل الدخول التي سمي لها مهر، وقال الشافعية:
المتعة واجبة لكل مطلقة قبل الدخول أو بعده، إلا المطلقة قبل الدخول المسمى لها المهر، وقال الحنفية والحنابلة برأي متوسط: المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول التي لم يسمّ لها مهر، مستحبة لغيرها من المطلقات. ولا متعة للمتوفى عنها زوجها لورود النص في المطلقات.
والراجح لدي ما ذهب إليه الشافعية وموافقوهم، لأن هذه الآية أثبتت المتعة لكل مطلقة، سواء أكانت مدخولا بها أم لم تكن مدخولا بها، فيكون تعالى قد ذكر أولا المتعة، وأثبتها أو أوجبها لمن طلقت قبل الدخول (المسيس) وعمّ هنا المتعة لكل مطلّقة، فهو تعميم بعد تخصيص. وروى ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً
406
بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ
[البقرة ٢/ ٢٣٦]، قال رجل: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ، حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
وعلى هذا فإن من طلّق ظلما، أو مللا وسآمة، أو تعسّفا، يحكم عليه بالمتعة، أخذا برأي سعيد بن جبير والشافعية، أو ما يسمى بالتعويض عن الطلاق التعسّفي، ويكون ذلك بقدر حال الزوج من عسر ويسر، وهذا الرأي يحقق المصلحة ويدفع الضرر عما أصاب المرأة من طلاق جائر، ويقلل حالات الطلاق.
وتكون أحوال المطلّقات أربعة:
١- مطلّقة مدخول بها قد فرض لها مهر، فلها كل المفروض، لقوله تعالى:
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [البقرة ٢/ ٢٢٩]، وقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء ٤/ ٤]، وعدتها ثلاثة قروء.
٢- ومطلّقة غير مدخول بها ولا مفروض لها: فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلّق، ولا مهر لها، لقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة ٢/ ٢٣٦] ولا عدة عليها.
٣- ومطلّقة مفروض لها غير مدخول بها: لها نصف المهر المفروض، لقوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة ٢/ ٢٣٧] ولا عدّة عليها.
٤- ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها: لها مهر مثلها من قريباتها وأسرتها العصبات بلا خلاف، لقوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النساء ٤/ ٢٤]، ومعناه في رأي بعضهم: فأعطوهنّ مهورهنّ بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى.
407
هذا مع ملاحظة أن الله تعالى لم يأمرنا بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلّقات إلا غير المدخول بهنّ (غير الممسوسات) مطلقا أي سواء سميّ لهنّ مهر أو لم يسم كما في آية الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الأحزاب ٣٣/ ٤٩]، أو مقيّدا بحالة عدم تسمية المهر بقوله: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة ٢/ ٢٣٦]، أي مدّة عدم مسّكم إياهنّ وتسمية المهر لهنّ، أي فحينئذ يجب عليكم شيء وهو المتعة بقوله:
وَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهنّ شيئا يتمتّعن به، كما بيّنا سابقا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على أمرين:
الأول- عدّة المتوفى عنها زوجها: وهي حول كامل تسكن فيه في بيت المتوفى عنها، وينفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل، فإن خرجت، لم يكن على الورثة جناح في قطع النفقة عنها. ثمّ نسخ الحول بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالرّبع والثّمن في سورة النساء، كما قال ابن عباس وقتادة والضّحاك وابن زيد والرّبيع.
وقال الطبري عن مجاهد: إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثمّ جعل الله لهنّ وصية منه سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله عزّ وجلّ: غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.
الثاني- متعة المطلّقات: واختلف الناس في الآية، فقال أبو ثور: هي محكمة، والمتعة لكلّ مطلّقة، وكذلك قال الزّهري، وسعيد بن جبير، والشافعي في الأصحّ، لكنه استثنى المطلّقة قبل الدخول المسمّى لها المهر. وقال مالك:
408
تستحب المتعة لكل مطلّقة إلا المطلّقة قبل الدّخول، وقد سمّى لها صداقا، فحسبها نصفه، ولو لم يكن سمّى لها، كان لها المتعة أقل من صداق المثل أو أكثر، وليس لهذه المتعة حدّ.
وزعم ابن زيد أن هذه الآية نسختها الآية المتقدمة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة ٢/ ٢٣٧]، وهي المطلّقة التي سمّي لها المهر ولم يدخل بها، لها نصف المسمّى، فأخرجت من المتعة.
وأوجب الشافعية المتعة للمختلعة والمبارئة. وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطي، فكيف تأخذ متاعا؟! لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة أو مفتدية أو مبارئة أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمّى لها صداقا أم لا.
موت الأمم بالجبن والبخل وحياتها بالشجاعة والإنفاق
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
409
الإعراب:
مَنْ ذَا الَّذِي من: استفهامية مبتدأ، وذا: خبره، والذي: صفة: ذا أو بدل منه.
قَرْضاً منصوب، لأنه اسم أقيم مقام المصدر، وهو الإقراض، فانتصب انتصاب المصدر.
فَيُضاعِفَهُ بالنصب، معطوف بالفاء حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: من ذا الذي يكون منه قرض، فتضعيف من الله تعالى، فقدر (أن) بعد الفاء ونصب بها الفعل، وصيّرها مع الفعل في تقدير مصدر، ليعطف مصدرا على مصدر. وعلى قراءة الرفع: إما معطوف على صلة الَّذِي وهو يُقْرِضُ، وإما منقطع عما قبله.
البلاغة:
قال أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط: ٣/ ٢٥٣) : تضمنت الآية الكريمة من ضروب البلاغة وصنوف البيان أمورا كثيرة، منها الاستفهام الذي أجري مجرى التعجّب في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ والحذف بين مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أي فماتوا ثمّ أحياهم، والطّباق في قوله: مُوتُوا وأَحْياهُمْ، وكذلك في قوله: يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، والتكرار في قوله: فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ووَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ، والالتفات في وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، والتشبيه بدون الأداة في قوله: قَرْضاً حَسَناً شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله بالقرض الحقيقي، فأطلق عليه اسم القرض، والتجنيس في قوله: فَيُضاعِفَهُ وقوله: أَضْعافاً.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ استفهام تعجيب واعتبار وتشويق إلى استماع ما بعده، أي ألم ينته علمك، والرؤية بمعنى العلم، إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله. وَهُمْ أُلُوفٌ أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون أو سبعون ألفا، وهو جمع كثرة، والقلّة: آلاف، ومعناه كثرة كاثرة وألوف مؤلفة. حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول لأجله، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففرّوا، والحذر: الخوف والخشية. مُوتُوا أي فماتوا. ثُمَّ أَحْياهُمْ بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيّهم حزقيل، فعاشوا دهرا عليهم أثر الموت، لا يلبسون ثوبا إلا عاد كالكفن، واستمرت في أسباطهم.
لَذُو فَضْلٍ ومنه إحياء هؤلاء. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار. لا يَشْكُرُونَ القصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه الأمر بالقتال بقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دينه. سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأحوالكم فيجازيكم.
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أي يتصدّق لوجه الله. قَرْضاً حَسَناً بأن ينفقه لوجه الله عن طيب قلب.
410
فَيُضاعِفَهُ يضيف له مثله ومثله. أَضْعافاً كَثِيرَةً من عشرة إلى أكثر من سبعمائة.
يَقْبِضُ يقتر أو يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء. وَيَبْصُطُ يوسعه لمن يشاء امتحانا.
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٤٥) :
روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر، قال: لما نزلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة ٢/ ٢٦١] الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ، زد أمتي فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في الآيات السابقة أحكام الأسرة لتنظيم العلاقة بين أفرادها، وبنائها على دعائم وطيدة وأسس ثابتة راسخة، ثم ذكر بعدها أحكام الجهاد للدفاع عن الأمة وصون مقدّساتها والدّفاع عن عقيدتها، إذ لا صلاح للأسرة إلا بصلاح المجتمع، وللجمع بين الحفاظ على المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، فيتحقق التوازن والتعادل بين ما يحفظ الجماعة وما يحفظ الفرد والأسرة، بل إن صون المصالح الخاصة لا يتمّ في الحقيقة بدون صيانة المصالح العامة وحماية الأمة، والذود عن حياضها ووجودها أمام أعدائها.
التفسير والبيان:
ألم يصل إلى علمك حال هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم، وهم قوم كثيرون من بني إسرائيل، لما لحقهم العدو وطاردهم؟ خرجوا وهم كثرة تعدّ بالألوف المؤلفة، حذر الموت والخوف منه، بسبب الجبن والخوف والهلع، وضعف
411
العزيمة، وعدم الإيمان بالله ورسله، مع أن كثرتهم تدعو إلى الثبات، والشجاعة، والصمود، والدفاع عن النفس والحمى.
ولم يبيّن الكتاب الكريم عددهم وجنسهم وبلدهم، لأن المقصود هو العظة والاعتبار، وذكر جماعة من السلف أنهم قوم من بني إسرائيل أو في زمان بني إسرائيل وهم أهل قرية يقال لها: داوردان: قرية على فرسخ من قبل واسط، أو أهل أذرعات، خرجوا هاربين فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، فتمكن منهم العدو، ففتك بهم، وقتل أكثرهم، وفرّق شملهم، أو أنّ الله أماتهم دون قتال ثم أحياهم، ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم الله وقضائه.
وعلى التأويل الأول: لما فرّوا أماتهم الله ببطش أعدائهم وتنكيله بهم وتعذيبه لهم، ولم يكن تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم وتخاذلهم، ثم أحياهم الله بدعاء نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فأحسّوا بخطئهم الفاحش، وكتّلوا صفوفهم، وقاتلوا عدوهم بإخلاص، واستعادوا عزّتهم وكرامتهم واستقلالهم.
وقيل عن الضّحّاك: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فهربوا، حذرا من الموت، فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم، ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال ابن عطية: وهذا القصص كلّه ليّن الأسانيد.
وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة.
وقوله: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه دليل على الألوف الكثيرة.
وقوله: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا قال فيه الزمخشري: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة، للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد، بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقّف، كقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ:
412
كُنْ فَيَكُونُ
[يس ٣٦/ ٨٢]. وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرّض للشهادة، وأن الموت إذا لم يكن منه بدّ، ولم ينفع منه مفرّ، فأولى أن يكون في سبيل الله «١». وقال أبو حيان: وفي الكلام حذف، التقدير: فماتوا، وظاهر هذا الموت: مفارقة الأرواح الأجساد، قيل: ماتوا ثمانية أيام، وقيل: سبعة أيام «٢».
وعلى أي حال فقد وقع الموت والإحياء فعلا، كما يدل عليه ظاهر الآية، والله على كل شيء قدير، وتكرر مثل هذا في زمان بني إسرائيل وغيرهم في قصص القرآن.
وإذ لم تثبت الروايات المنقولة في سبب خروج القوم، أهو الفرار من الحمّى أو الطاعون، أو الفرار من الجهاد، فإني أرى أن المعنى ما رآه الطبري: وهو أن الله تعالى أخبر نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إخبارا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله تعالى. ثم أحياهم، ليروا هم وكلّ من خلف من بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى، لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، ولا لاغترار مغتر. وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد.
إن الله لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة، وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، أو لذو فضل عليهم فيما ابتلاهم به من الطاعون أو المرض أو العدو، ليعتبروا ويتعظوا ويأخذوا من المصائب عبرة ودرسا في الإيمان، أو فيما تتمخض عنه الحوادث من تصفية وصقل وتمييز الخبيث من الطيب، لأن الحوادث تنبت الرجال، وتحيي الأمة، وتوقظها من رقادها، وتنبهها إلى أخطائها ومفاسدها.
(١) الكشاف: ١/ ٢٨٦
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٥٠
413
ولكن أكثر الناس لا يؤدون شكر ما أنعم الله عليهم في دينهم ودنياهم، لذا أمر الله تعالى بالتضحية والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق ونشر الدين، لأنه لا يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، والله سميع لكل قول، عليم بكل فعل، يحاسب كل إنسان على ما قدم.
وبما أن لفناء الأمم سببين: الجبن والبخل، قرن الله الآية السابقة التي تندد بالجبن والخوف والفرار من قدر الله، بالآية التي تدعو إلى البذل والإنفاق:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ.. إذ عبر الله تعالى عن الإنفاق بالقرض، ليحث عباده على الإنفاق في سبيل الله، وكرر الله تعالى هذه الآية في غير موضع من كتابه العزيز، ولله ملك السموات والأرض، وبيده وحده خزائن السموات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويضاعف ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله، ومن نماذج تضعيف الثواب ما قاله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ٢٦١]، فأنفقوا ولا تبالوا، فالله هو الرزاق، يضيق على من يشاء من عباده في الرزق، ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك، وإليه المرجع والمآب يوم القيامة، فاعملوا أيها المؤمنون عملا صالحا تجدون ثمرته عند الرجوع إلى الله في الدار الآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يرى القرطبي أن أصح الأقوال وأشهرها عملا بما روي عن ابن عباس: أنهم خرجوا فرارا من الوباء، فقال ابن عباس: خرجوا فرارا من الطاعون، فماتوا، فدعا الله نبي من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم الله. وروي عن الحسن البصري أيضا أنهم فروا من الطاعون «١».
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٣٢، وانظر أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٤٥٠
414
وعلى هذا تترتب الأحكام في هذه الآية:
١- الأعمار والأقدار والبلايا والأمراض بيد الله
، والإيمان بذلك واجب، ولن يغني في الواقع حذر من قدر، ولكن لما كانت الأقدار غير معروفة لدينا، جاز للإنسان اتخاذ أسباب الوقاية من المكاره، وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، والحذر من المهالك، قال الله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء ٤/ ٧١] وقال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥] فإذا نزلت المصيبة فعليه الصبر وترك الجزع، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها، فرارا منه. وهكذا الواجب على كل متقّ من الأمور غوائلها، سبيله في ذلك سبيل الطاعون. وهذا المعنى نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» «١».
وهذا ما دلت عليه الأحاديث، روى الأئمة، واللفظ للبخاري من
حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر الوجع «٢»، فقال: «رجز أو عذاب عذّب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض، فلا يقدمنّ عليه، ومن كان بأرض وقع بها، فلا يخرج فرارا منه».
وبمقتضى هذا الحديث ونحوه عمل عمر والصحابة رضوان الله عليهم، لما رجعوا من سرغ «٣» حين أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بالحديث، على ما هو مشهور في الموطأ وغيره. روى الزهري عن ابن عباس: أن عمر خرج إلى الشام،
(١) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أبي هريرة.
(٢) ورد الحديث في البخاري في كتاب الحيل بلفظ الوجع، وفي كتاب الطب بلفظ الطاعون.
(٣) سرغ: قرية بوادي تبوك على طريق الشام، وهي على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة.
415
حتى إذا كان بسرغ، لقيه التجار، فقالوا: الأرض سقيمة، فاستشار المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه، فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟! فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت بها واديا له عدوتان «١» : إحداهما خصيبة، والأخرى جديبة، ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله، فجاء عبد الرحمن بن عوف، فقال: عندي من هذا علم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به في أرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه»
فحمد الله عمر وانصرف.
ومعنى قول عمر: لا محيص للإنسان عما قدره الله له وعليه، لكن أمرنا الله تعالى بالتحرز من المخاوف والمهالك، وباستفراغ الوسع في التوقي من المكروهات. وإذا كانت الآجال محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها، فإن وجه النهي عن دخول أرض الطاعون في الحديث: هو أن الإنسان لو مات فيها فلا يقول: لو لم يدخلها ما مات.
٢- وجوب القتال:
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. خطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقتال في سبيل الله، في قول الجمهور، وهو الذي ينوى به أن تكون كلمة الله هي العليا، وسبل الله كثيرة، فهي عامة في كل سبيل. قال مالك: سبل الله كثيرة، وما من سبيل إلا يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دين الإسلام، لا خلاف في هذا.
(١) العدوة: جانب الوادي وحافته، قال الله تعالى: وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى والخصيبة والخصبة بمعنى واحد. [.....]
416
وقيل: الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك.
والواو في قوله وَقاتِلُوا على القول الأول: عاطفة جملة كلام على جملة ما تقدم، ولا حاجة إلى إضمار في الكلام. وعلى القول الثاني عاطفة على الأمر المتقدم، وفي الكلام متروك تقديره: وقال لهم: قاتلوا.
٣- الإنفاق في سبيل الله:
لما أمر الله تعالى بالجهاد والقتال على الحق، حرّض على الإنفاق في ذلك، لأن إعداد المقاتلة والجيش يحتاج إلى نفقات كثيرة، وفي النفقة في سبيل الله ثواب عظيم، كما فعل عثمان رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة.
قصة أبي الدحداح:
روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصاري:
يا رسول الله، أو إن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: «نعم، يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي عز وجل حائطي (بستاني) وكان له فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه، وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها يا أم الدحداح، قالت:
لبيك، قال: اخرجي، فقد أقرضته ربي عز وجل.
٤- أداء القرض:
يجب على المستقرض رد القرض، لأن الله تعالى بيّن أن من أنفق في سبيل الله لا يضيع عند الله تعالى، بل يردّ الثواب قطعا، وأبهم الجزاء،
وفي الخبر: «النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر».
٥- ثواب القرض:
ثواب القرض عظيم، لأن فيه توسعة على المسلم وتفريجا عنه،
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض
417
بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة».
٦- بعض أحكام القرض:
على المقترض رد مثل ما أقرضه، ويجوز إقراض النقود والأطعمة والحيوان، وأجمع المسلمون على أن اشتراط الزيادة في السلف ربا، ولو حبة واحدة. ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه نصا أو عرفا، لأن ذلك من باب المعروف، استدلالا
بحديث أبي هريرة لدى البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة في البكر «١» :«إن خياركم أحسنكم قضاء».
ولا يجوز- في رأي مالك- أن يهدي من استقرض هدية للمقرض، ولا يحل للمقرض قبولها، إلا أن يكون عادتهما ذلك، كما جاء في السنة،
أخرج ابن ماجه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أقرض أحدكم أخاه قرضا فأهدى له أو حمله على دابته، فلا يقبلها ولا يركبها، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك».
وهل يجوز القرض أو التصدق بالعرض؟
أي من سبّك فلا تأخذ منه حقا ولا تقم عليه حدا حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. فيه رأيان: رأي يجوز عملا
بحديث أبي ضمضم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك».
وقال أبو حنيفة وروي عن مالك: لا يجوز التصدق بالعرض، لأنه حق الله تعالى،
وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام».
(١) البكر: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة.
418
قصة النّبي صمويل والملك طالوت وترك بني إسرائيل الجهاد
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٦ الى ٢٤٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
الإعراب:
عَسَيْتُمْ من أفعال المقاربة، يشبه «كان» في رفعه الاسم ونصبه الخبر، ولا يكون خبرها إلا «أن» مع الفعل، والتاء والميم في عسيتم: اسمها، وألا تقاتلوا: خبرها، وقد فصل الشرط بين الاسم والخبر وهو: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ.
وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ: ما: مبتدأ، و «لنا» خبره، وتقديره: أي شيء لنا في ألا نقاتل، فحذف حرف الجر. وقيل: أن: زائدة، ولا نقاتل: جملة فعلية في موضع الحال، وتقديره: وما لنا غير مقاتلين. وطالوت: اسم أعجمي كجالوت وداود، وإنما امتنع من الصرف للعلمية والعجمة.
وَاللَّهُ واسِعٌ فيه وجهان: إما بمعنى ذو سعة، مثل: لابن وتامر، أي ذو لبن وتمر، وإما
419
بمعنى: موسع، على طريقة حذف الزوائد، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر ١٥/ ٢٢] بمعنى ملقحات.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ استفهام مفاده: ألم ينته إلى علمك خبر الملأ: وهم الجماعة الأشراف أو القوم، سموا بذلك لأنهم يملئون العيون رهبة إذا اجتمعوا. والنّبي: هو شمويل معرّب صمويل أو صموئيل ابْعَثْ أقم لنا ملكا نقاتل معه في سبيل الله لتنتظم به كلمتنا ونرجع إليه. هَلْ عَسَيْتُمْ أراد بالاستفهام، التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان ٧٦/ ١] معناه التقرير وأَلَّا تُقاتِلُوا: خبر عسى وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ: وأيّ داع لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه. وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي بسبيهم وقتلهم، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت، أي لا مانع من القتال مع وجود مقتضيه، وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون على ساحل البحر المتوسط بين مصر وفلسطين، فأسروا أربعمائة وأربعين.
تَوَلَّوْا عنه وجبنوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين عبروا النهر مع طالوت. قيل: كان عددهم ثلثمائة وثلاثة عشر، على عدد أهل بدر.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد، فهو مجازيهم، وسأل النّبي ربه إرسال ملك، فأجابه إلى إرسال طالوت.
أَنَّى كيف ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لأنه ليس من سبط المملكة ولا النّبوة، وكان دباغا أو راعيا. والواو في وَنَحْنُ للحال، وفي وَلَمْ يُؤْتَ لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالا، والمعنى: كيف يتملك علينا؟ والحال أنه لا يستحق التملك، لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير، ولا بد للملك من مال يعتضد به، وإنما قالوا ذلك لأن النّبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين، ولأنه كان رجلا سقاء أو دباغا فقيرا.
وطالوت: معرب شاول، لقب به لطوله.
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ يستعين بها على إقامة الملك.
اصْطَفاهُ اختاره للملك بَسْطَةً سعة فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا، وكان أطول من كل الشعب، وبسطة الجسم: عظمه وامتداده.
420
والظاهر: أن المراد بالعلم: المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب، ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها، فمقومات الملك وهي العلم والجسامة متوافرة فيه، لأن الجاهل مزدرى غير منتفع به، والجسيم أعظم في النفوس وأهيب في القلوب.
المناسبة:
قال البقاعي: ولعل ختام بني إسرائيل بهذه القصة، لما فيها للنبي صلّى الله عليه وسلّم من واضح الدلالة على صحة رسالته، لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل «١».
وبعد أن بيّن الله تعالى في الآيات السابقة حكمة تشريع القتال لحماية الحق وصون عزة الأمة وكرامتها، بيّن هنا قصة قوم من بني إسرائيل أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن، لكن جاءت هذه القصة مفصلة تبين ما في القصة الأولى المجملة.
والهدف من هذه الآيات البيان للمؤمنين بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة، فليس حكما مخصوصا بهم «٢».
التفسير والبيان:
ألم ينته إلى علمك قصص جماعة من بني إسرائيل بعد موسى في عصر داود عليهما السلام، حين قالوا لنبيهم، قيل: إنه «صمويل» : اختر لنا قائدا للحرب وجمع الكلمة، فإنا صممنا على طرد أعدائنا واسترداد حقوقنا المغتصبة، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله، كما قال الله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء ٤/ ٨٤] وقال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا.. [آل عمران ٣/ ١٦٧].
(١) محاسن التأويل للقاسمي: ٣/ ٦٥٠
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٥٣
421
ولكن نبيهم بسبب معرفته لهم وتجربته معهم قال لهم: أتوقع منكم التخلي عن القتال إن فرض عليكم، فردوا عليه: أي شيء يدعونا إلى ترك القتال، وقد أخرجنا من ديارنا وأوطاننا، ومنعنا من أبنائنا، واغتربنا عنهم؟! فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا، تخلفوا عن الجهاد وجبنوا وأعرضوا إلا قليلا منهم، عبروا النهر مع طالوت، وانتحلوا المعاذير، ولكن الله عليم بالذين يظلمون أنفسهم، بتركهم الجهاد في سبيل الله، دفاعا عن أمتهم ووطنهم، وردا لحقهم المغتصب، فصاروا أذلة في الدنيا، معذبين في الآخرة.
ثم أوضح القرآن ما دار من نقاش بين شيوخ بني إسرائيل وبين نبيهم صمويل، إذ طلبوا منه أن يختار لهم ملكا، لأن أهل فلسطين تسلطوا عليهم، وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم.
فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك، فألحوا، فاختار لهم طالوت (شاول) ملكا وقائدا حربيا.
فقالوا: كيف يكون ملكا علينا؟ وهو لا يستحق هذا الملك، لأنه ليس من سلالة الملوك ولا من سلالة الأنبياء، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب، ومنهم داود وسليمان، وكانت النّبوة في سبط لاوي بن يعقوب، ومنهم موسى وهرون، وهناك من هو أحق بالملك منه، ولأنه فقير لا مال له فلا يستطيع الحكم، وهذا قائم على وهم أن الغنى شرط أساسي في الملك، وأن الملك حق موروث، لا يتجاوز أبناء الملوك أو الأشراف، حتى يخضع الناس له، فقولهم أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا.. ؟ كلام من تعنت وحاد عن أمر الله، وهي عادة بني إسرائيل «١».
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٥٧
422
فقال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره ملكا عليكم، والله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم، وما عليكم إلا الطاعة والامتثال، ومقومات الملك متوافرة فيه وهي ما يأتي:
الاستعداد الفطري، وسعة العلم والمعرفة بتدبير الأمور، وبسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر والهيبة وفرض النفوذ، وتوفيق الله تعالى له بسبب أهليته وصلاحه، وهذا هو المراد بقوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ أي الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء ومن يصلح للملك، فلا اعتراض على حكم الله، وهو أعلم بخلقه وبالصالح منكم، وبما يستحقونه، والله واسع عليم، أي واسع التصرف والقدرة، لأحد لسعة قدرته وتصرفه، وواسع الفضل والعطاء يوسع على من يشاء ويغنيه بعد فقر، عليم بما يحقق الحكمة والمصلحة، وبما يؤدي إلى الفوز والنصر، وبمن يصطفيه للملك.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه قصة أخرى للتحريض على القتال، جرت في بني إسرائيل، يستفاد منها ما يأتي:
١- الجهاد في سبيل الله يتطلب إعدادا نفسيا وتربويا وعلميا، وخبرة وكفاءة ومهارة، وجرأة وشجاعة، وعزيمة صادقة وإخلاصا، وتضحية وتفانيا في سبيل المبدأ والعزة والكرامة، فهو لا يكون بالأماني والتعللات، وإنما بالبطولة ومضاء العزيمة وقوة الإرادة.
ولم يكن لدى بني إسرائيل شيء من هذه المقومات لسببين جوهريين: هما خبث النفوس وعدم طهارتها وصدقها، وضعف الإيمان وحب الحياة بدون تضحيات وعناء، لذا تولوا وأعرضوا عن المشاركة في القتال، لفقد مقوماته السابقة.
423
مع أن القتال يحقق لهم أسمى الآمال من استرداد الحقوق المغتصبة، وتطهير البلاد من المحتل والعدو القاهر، وتتويج الجهود بالعزة والكرامة والفوز والغلبة.
٢- إن الملك أو الحكم ليس بالوراثة أو بالغنى، وإنما بالكفاءة والعلم والمهارة، وقوة الشخصية، وصلابة الإرادة. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه، وزيادة الجسم مما يهيب العدو. وقيل:
سمي طالوت لطوله.
وقد بين الله في هذه الآية تعليل اصطفاء طالوت، وهو بسطته في العلم الذي هو ملاك الإنسان، والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته عند اللقاء.
فتضمنت الآية بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة، وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة، لا بالنسب، فلا حظّ للنسب فيها، مع العلم وفضائل النفس، وأنها متقدمة عليه، لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوّته، وإن كانوا أشرف نسبا.
ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ على أن الله مالك جميع ما في الكون من إنسان وحيوان وجماد، إذ إن إضافة ملك الدنيا إلى الله تعالى في الآية إضافة مملوك إلى ملك. ودلت الآية أيضا على أن منح الملك أو السلطة لإنسان إنما هو بمشيئة الله الذي لا يصدر عنه إلا الخير للناس، فهو يصطفي لهم من يحقق المصلحة وتتوافر فيه الكفاءة المطلوبة.
٣- لا ينضب الخير في الأمة، فإن تولى الأكثرون عن واجب الجهاد، فإن الخير في القليل، والخيار هم الأقلون، وهم يعملون ما لا يعمله الأكثرون، والله عليم بأعمال هؤلاء فيجازيهم خيرا، وعليم بأفعال الظالمين، فيعذبهم بما يستحقون.
424
إثبات ملك طالوت واختباره الأتباع وانهزام الفئة الكثيرة أمام الفئة القليلة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٨ الى ٢٥٢]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
425
الإعراب:
آيَةَ أصلها: «أيية» فقلبت العين التي هي الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من التابوت، وكذلك تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من التابوت أيضا. غُرْفَةً قرئ بفتح الغين وضمها مثل حسوة وحسوة. كَمْ مِنْ فِئَةٍ.. كم: للعدد وهي هنا خبرية، ويراد بها الكثرة، وهي مبنية كنقيضتها «ربّ»، وهي مبتدأ، وغلبت: خبره. دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قرئ أيضا:
دفاع الله، وهما مصدران لدفع، وكل من المصدرين مضاف إلى الفاعل. والناس: مفعول المصدر المضاف، وبعضهم: بدل من الناس.
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، ونَتْلُوها جملة فعلية حال من آياتُ.
البلاغة:
أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً: فيه استعارة تمثيلية، فقد شبه حالهم والله تعالى يفيض عليهم بالصبر، بحال الماء الذي يصب على الجسم كله.
المفردات اللغوية:
آيَةَ علامة التَّابُوتُ الصندوق المحفوظ فيه التوراة، ويروى أنه مصنوع من خشب مموه (مطلي) بالذهب، أخذه العمالقة ثم ردوه إلى بني إسرائيل الذين كانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال، ويسكنون إليه، كما قال تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ فيه طمأنينة لقلوبكم. ثم أخذه الفلسطينيون من بني إسرائيل حينما انتصروا عليهم، ولما طلب الإسرائيليون من نبيهم صمويل الذي كان قاضيا أن يبعث لهم ملكا، ففعل، وجعل رجوع التابوت إليهم آية لملك طالوت.
وَبَقِيَّةٌ أي قطع الألواح، وعصا موسى ونعلاه، وعمامة هارون، وقفيز من المن الذي كان ينزل عليهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ على ملكه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت، فأقروا بملكه، وسارعوا إلى الجهاد، فاختار من شبابهم سبعين ألفا.
فَلَمَّا فَصَلَ خرج عن بلده بيت المقدس مصاحبا الجنود، لقتال العمالقة، وكان الحر شديدا، وطلبوا منه الماء قالَ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ مختبركم، والابتلاء: الاختبار والامتحان بِنَهَرٍ كان بين فلسطين والأردن، وكان الاختبار بشرب شيء من مائه ليظهر المطيع من العاصي. فَلَيْسَ مِنِّي أي من أتباعي وأنصاري وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يذقه غُرْفَةً المقدار
426
الذي يملأ الكف بالاغتراف، وكان المسموح به هو غرفة واحدة لا زيادة عليها. وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أصحاب الغرفة الذين اقتصروا عليها، وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا لا طاقَةَ قوة بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا طاقة بقتالهم وقد جبنوا ولم يجاوزه الذين شربوا من النهر، وجالوت:
أشهر أبطال الفلسطينيين أعدائهم. كَمْ مِنْ فِئَةٍ كم: خبرية بمعنى كثير، والفئة: الجماعة من الناس، سواء كانوا قليلين أو كثيرين وَلَمَّا بَرَزُوا ظهروا لقتالهم وتصافوا أَفْرِغْ أصبب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا قونا على الجهاد ولا تزلزلنا عند المقاومة.
فَهَزَمُوهُمْ كسروهم بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وَقَتَلَ داوُدُ وكان في عسكر طالوت، وهو داود بن يسّى، وكان راعي غنم، وله سبعة إخوة هو أصغرهم.
وَآتاهُ أي داود الْمُلْكَ في بني إسرائيل وَالْحِكْمَةَ النبوة بعد موت شموئيل (صموئيل) وطالوت، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبل داود، وعليه نزل الزبور، كما قال تعالى:
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء ٤/ ١٦٣]. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٥١] كصنعة الدروع، كما قال تعالى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ، لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء ٢١/ ٨٠] ومعرفة منطق الطير، كما قال تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل ٢٧/ ١٦] وفصل الخصومات، لقوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص ٣٨/ ٢٠].
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بغلبة المشركين، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد.
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فدفع بعضهم ببعض تِلْكَ هذه الآيات نَتْلُوها نقصها عَلَيْكَ يا محمد بِالْحَقِّ بالصدق وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أكد الكلام بإن واللام ردا لقول الكفار: لست مرسلا.
التفسير والبيان:
كان لبني إسرائيل مواقف تشدد وغلو ومطالب مادية مع أنبيائهم، ومنها هذا الموقف، إذ لم يقبلوا باختيار طالوت ملكا عليهم واشتدوا في عنادهم، فقال لهم نبيهم: هناك دليل مادي على صحة اختياره ملكا وقائدا لكم، وعلامة ذلك عودة التابوت (وكان له شأن ديني عندهم) إليكم عن طريقه ووصوله إلى بيته، وفيه تحقيق الطمأنينة لقلوبكم وارتياح ضمائركم، وبخاصة عند ما تقدمونه رمزا وشعارا وحاميا في قتالكم، وفيه أيضا بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وتلك
427
البقية: هي قطع الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون وشيء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون.
وقول النبي لهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ لا يكون إلا بوحي، لأنهم سألوه تعيين ملك لهم يقاتل في سبيل الله، فأخبرهم النبي أن الله قد بعثه لكم.
وستحمل الملائكة التابوت إلى طالوت تشريفا وتكريما له، وإن في مجيئه أو عودته دليلا على عناية الله بكم، واختيار طالوت قائدا لكم، لينهض بشؤونكم، وينتصر على عدوكم، فعليكم مؤازرته والرضا بملكه إن كنتم صادقي الإيمان بالله تعالى.
فالتفّ الناس حول قيادته واختار من شبابهم سبعين أو ثمانين ألفا، وكان الوقت حرا، فأراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدقهم في القتال، فلما خرج طالوت من البلد مع هؤلاء الجند، بدأ بالاختبار، كما يفعل كل قائد حكيم.
فقال لهم: إن الله مختبركم- وهو الأعلم بكم- بنهر يصادفنا في أثناء الطريق إلى الأعداء، فمن شرب منه فليس من أتباعي وأنصاري، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبي وأعواني، وكذا من اغترف بيده غرفة فقط يبل بها ريقه ويدفع بها شيئا من العطش، فالمرفوض هو النوع الأول، والمقبول: النوعان الآخران.
فكانت نتيجة الاختبار: أن شربوا منه جميعا، لاعتيادهم العصيان، وضعف الإيمان، إلا قليلا منهم وهم أهل الإيمان، وصدق الاتباع، والإخلاص في الدين. والخير في الواقع في هذه الفئة القليلة، التي تفعل بصدق إيمانها، وصلابة عزيمتها ما لا تفعله الفئة الكثيرة العدد، ولكنها غثاء كغثاء السيل.
فلما جاوز طالوت النهر مع هذه القلة من المؤمنين الصادقين الذين أطاعوه ولم يخالفوه فيما منعهم منه، ثم تبعهم الذين شربوا من النهر أخيرا، قال بعض
428
الجيش المؤمن لبعض، لما رأوا جالوت وكثرة جنوده، وتفوقهم عددا وعددا:
لا قدرة لنا على محاربة هؤلاء الأعداء، وهم جالوت وجنوده، فضلا عن الأمل في التغلب عليهم، فرد عليهم بقية المؤمنين الذين يوقنون بلقاء ربهم ومجازاته على أعمالهم في الآخرة، والذين ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة في سبيل الله، وإما النصر على الأعداء: لا تغرنكم كثرة الأعداء، فكثيرا ما غلبت الفئة القليلة العدد بقوة إيمانها ومشيئة الله الفئة الكثيرة العدد، والله مع الصابرين بالتأييد والعون، فإن النصر مع الصبر.
ولما ظهر طالوت ومن معه من جماعة المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين:
جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد وقوة العدد، لجأوا إلى الله يدعونه، كما هي عادة المضطر الخائف الذي لا يجد ملاذا غير الله في وقت الشدة وعسر المحنة، فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي ألهمنا الصبر، وثبّت نفوسنا في القتال، وحقق النصر لنا على الكافرين: عبدة الأوثان، الذين يحبون الدنيا وتمتلئ قلوبهم بالأباطيل.
وهذا دعاء عظيم في مثل هذا الموقف الرهيب، وفيه حكمة وعقل، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأحق الناس بالنصر هم المؤمنون.
وهنا تجلت عظمة الله ونعمته عند صدق الإيمان وصدق اللجوء إليه، فأذن بنصر المؤمنين، واستجاب دعاءهم، وهزمت الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته، وقتل داود الفتى القوي جالوت جبار الفلسطينيين في مبارزة، إذ رماه بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ثم دنا منه، وأخذ سيفه، واحتزّ به رأسه، وجاء به فألقاه بين يدي طالوت، وانهزم جنوده وأتباعه.
فاشتهر داود بين الناس، وورث ملك بني إسرائيل، وآتاه الله النبوة، وأنزل عليه التوراة، وعلمه صنعة الدروع، وعرفه منطق الطير، وعلمه علوم
429
الدين وكيفية فصل الخصومات، كما قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص ٣٨/ ٢٠] ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله، إذ كان لبني إسرائيل في الماضي نبي وملك، وكان النبي قبل داود هو شمويل (صموئيل)، والملك هو طالوت، فلما توفيا صار له الملك والنبوة.
ثم بيّن الله تعالى الحكمة من القتال، فإذا كانت الحرب ظاهرة اجتماعية منذ أن اقتتل أبناء آدم، فقتل قابيل هابيل، ولا تخلو من ضرر وخطر، فإنها لا تخلو أيضا من نفع وخير، فلولا دفع الله أهل البغي والشر بأهل العدل والإصلاح والخير، وتسليط جماعة على أخرى، لغلب أهل الفساد، وفسدت الأرض، وعمت الفوضى، وساد الظلم، وهدّمت أماكن العبادة لذكر الله، ولكن الله ذو فضل كبير على الناس جميعا، وذو رحمة بهم، حيث يسلط على الظالم من يهلكه، ويدحر أهل الباطل بجند الحق، فإذا ظهر ظالم آخر، أرسل الله له في الوقت المناسب من يخلص الناس منه، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب، ويؤيد أعوانه في اللحظة الحاسمة التي يريدها.
تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد، وتلك القصص الغابرة نعرفك بها، فهي مطابقة للواقع والتاريخ، ولم تكن تعلمها، لأنك نبي أمي، لتكون دليلا على صدق نبوتك وصحة رسالتك، وليقتنع بها معاصروك وتصدّق بها الأجيال المتلاحقة على ممر الزمان، وهكذا تكون القصص عبرة وعظة يستفيد منها كل إنسان، كما قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً، وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف ١٢/ ١١١].
430
أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت «١» :
ظل بنو إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السّلام من غير ملك ٣٥٦ سنة، وتعرضوا في تلك الفترة لغزوات الأمم القريبة منهم كالعمالقة من العرب، وأهل مدين وفلسطين والآراميين وغيرهم، فمرة يغلبون وتارة يغلبون.
وفي أواسط المائة الرابعة أيام «عالي الكاهن» تحارب العبرانيون مع الفلسطينيين سكان أشدود قرب غزة، فغلبهم الفلسطينيون، وأخذوا تابوت العهد منهم، وهو التابوت (الصندوق) الذي فيه التوراة أي الشريعة، فعزّ عليهم ذلك، لأنهم كانوا يستنصرون به.
وكان من قضاة بني إسرائيل نبي اسمه صمويل، جاء إليه جماعة من أشرافهم وشيوخهم في بلدة الرامة، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم، يقودهم إلى قتال أعدائهم الذين أذلوهم وقهروهم زمنا طويلا، فلم يقتنع بمطلبهم لما يعلمه من تخاذل نفوسهم، إن فرض عليهم القتال، فأجابوه بأن دواعي القتال موجودة:
وهي إخراج الأعداء لهم من أوطانهم وأسرهم أبناءهم.
فجعل عليهم طالوت ملكا، واسمه في سفر صمويل: شاول بن قيس، من سبط بنيامين، وكان شابا جميلا عالما وأطول بني إسرائيل، فرضي به جماعة، ورفضه آخرون، لأنه ليس من سلالة الملوك، وهو راع فقير.
وحاول صمويل إقناعهم بكفاءة طالوت وجدارته للملك والسلطة، وحسن الاختيار، ورضا الله عنه، وأن الدليل المادي على ملكه هو عودة التابوت الذي أخذه منهم الفلسطينيون إليهم، وأن الملائكة تحمله إلى بيت طالوت تشريفا وتكريما له، فرضوا به.
قام طالوت بتكوين الجيش وجمع الجنود لمحاربة الفلسطينيين (العمالقة)
(١) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص ٣٠٣، ط رابعة.
431
بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلا اختيار سبعين أو ثمانين ألفا من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء.
ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم، دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم:
لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيرا ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله.
وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شابا صغيرا راعيا للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا.
فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسدا أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته «ميكال» وجعله رئيس الجند.
فقه الحياة أو الأحكام والعبرة من هذه القصة:
ذكر أن التابوت أنزله الله على آدم عليه السّلام، ثم وصل إلى يعقوب عليه
432
السلام، فكان في بني إسرائيل، يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا، فغلبوا على التابوت، غلبهم عليه العمالقة: جالوت وأصحابه، وسلبوا منهم التابوت.
وهذا أدل دليل على أن العصيان سبب الخذلان، كما أوضح القرطبي «١».
وظاهر بداية الآية: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ... وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوة هذا النبي الذي كان معهم «٢».
ودل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ على مبدأ سد الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، لذا لم يقل: «ومن لم يشرب منه».
ودل ذلك أيضا على أن الماء طعام، وإذا كان طعاما كان قوتا لبقائه واقتيات الأبدان به، فوجب أن يجري فيه الربا، وهو الصحيح من مذهب مالك، وهو أيضا مذهب الشافعي، فلا يجوز بيع الماء متفاضلا، ولا يجوز إلى أجل، والعلة فيه: كونه مأكولا ومتحد الجنس. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:
لا بأس ببيع الماء على الشط بالماء متفاضلا وإلى أجل. ولا يجوز بيعه كذلك عند محمد بن الحسن، لأن علته في الربا الكيل والوزن، وهو مما يكال ويوزن.
ودفع الله الناس بعضهم ببعض قد يكون بجماعة في مواجهة أخرى، وقد يكون بالفرد الواحد،
قال ابن عمر: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مائة من أهل بيته وجيرانه البلاء»
، ثم قرأ ابن عمر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة ٢/ ٢٥١]،
وروى جابر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله ليصلح بصلاح الرجل ولده، وولد ولده، وأهل دويرته، ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم».
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٤٧
(٢) البحر المحيط: ٢/ ٢٦١
433
وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ بيان واضح أن دفعه سبحانه بالمؤمنين شر الكافرين فضل منه ونعمة.
ونبه تعالى نبيه بقوله: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبي مرسل.
وفي هذه القصة القرآنية أحكام عامة أهمها ما يأتي:
١- إن الشعور بالظلم والذل والاستعباد هو الذي يولد الانفجار، وإن الأمم إذا اعتدي عليها لا سبيل إلى استرداد عزتها إلا بتوحيد صفوفها تحت قيادة زعيم عادل وقائد باسل، كما فعل بنو إسرائيل حينما تغلب عليهم أهل فلسطين.
٢- إن أول من يتنبه للخطر والضرر اللاحق بالأمة هم خواصها وعلماؤها وأشرافها وأهل الفضل فيها، كما حدث من ملأ بني إسرائيل حينما طلبوا تنصيب ملك عليهم.
٣- يظن الجهال أن أحق الناس بالزعامة والقيادة أصحاب النفوذ والثروة، كما زعم بنو إسرائيل: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ مع أن الأجدر بالقيادة أهل العلم والخبرة والمقدرة الشخصية والخلق الكريم.
٤- إن من شأن الأمم الاختلاف في اختيار القائد أو الرئيس، فيجب أن يكون هناك مرجح وحاسم للخلاف، وكان ذلك المرجح هو ما يختاره نبي بني إسرائيل بطلب الملأ منهم، والمرجح في الإسلام بعد النبي رأي أهل الحل والعقد:
وهم العلماء وأصحاب المكانة في الأمة.
٥- تتجلى شروط الإمامة في اختيار الأكفاء، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وإذا انضم إلى ذلك قوة العصبة والقبيلة
434
والنفوذ كان أولى،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمة من قريش» «١».
٦- دل قوله تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ على أن التوفيق الإلهي في اختيار القائد قائم على العدل التام والسنة الحكيمة ورعاية المصلحة العامة.
٧- إن من أوليات شروط النصر والغلبة توافر الطاعة التامة للقائد من قبل الجنود، وهذا ما أخذت به قوانين الجيوش الحالية.
٨- إن الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة بقوة الإيمان والصبر والثبات وإطاعة القواد. والمقصود بالإيمان: هو الإيمان بالله تعالى والتصديق بلقائه، وانتظار الثواب العظيم، وتحقيق المكانة العالية للشهداء في الجنة.
٩- إن الدعاء في وقت الشدة وفي أثناء المعركة مفيد ومحقق للغاية، لأن الدعاء آية الإيمان، والعون على الثبات، كما قال الله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً... الآية، وقال: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وقال الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال ٨/ ٤٥].
١٠- إن نظرية تنازع البقاء وبقاء الأصلح تشبه إلى حد كبير قوله تعالى:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وقوله عز وجلّ:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد ١٣/ ١٧].
انتهى الجزء الثاني
(١) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني عن بكير بن وهب.
435

[الجزء الثالث]

[تتمة سورة البقرة]
درجات الرسل وأحوال الناس في اتباعهم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
الإعراب:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا: تلك: مبتدأ، والرسل: صفة له أو عطف بيان، وفضلنا: جمله فعلية في موضع رفع خبر المبتدأ ولم يقل: ذلك، وقال: تلك، مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ من: اسم موصول يفتقر إلى صلة وعائد، فصلته: كَلَّمَ اللَّهُ والعائد محذوف تقديره: كلمه الله، وهو وصلته: في موضع رفع مبتدأ، وخبره: منهم.
البلاغة:
تِلْكَ الرُّسُلُ أشار بالبعيد لعلو مرتبتهم في الكمال وسمو درجتهم.
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ يسمى في البلاغة: التقسيم، وهو تفصيل ذلك التفضيل. ويوجد طباق بين قوله: آمَنَ وكَفَرَ.
كرر جملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ في الآية، ويسمى ذلك إطنابا، لتأكيد المقصود.
المفردات اللغوية:
فَضَّلْنا بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ كموسى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم دَرَجاتٍ على غيره بعموم الدعوة، وأنه رحمة للعالمين، وختم النبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة والخصائص العديدة الْبَيِّناتِ الآيات الواضحات الدالات على رسالته وَأَيَّدْناهُ قويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل يسير معه حيث سار. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة إلجاء وقسر. مِنْ بَعْدِهِمْ أي الأمم التي أتت بعد الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
5
ثبت على إيمانه وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ كالنصارى بعد المسيح واليهود بعد موسى، والكفر: ضد الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من توفيق من شاء وخذلان من شاء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة طالوت وجالوت وداود، وأعقبها بقوله:
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ليقيم الدليل بمعرفة تلك القصص على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم من المرسلين الذين أوحي إليهم الوحي المبين لأحوال الماضين.
ذكر تعالى هنا أن الرسل درجات، ميّز الله بعضهم على بعض، بمزايا ومناقب ليست لغيره، وأن أحوال الناس عموما في اتباع الرسل: إما مؤمنون وإما كفار، وإما مسالمون وإما متقاتلون، لحكمة ربانية مردها إلى قضاء الله وقدره.
التفسير والبيان:
هؤلاء الرسل المشار إليهم في الآية السابقة: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على مراتب في الكمال، وقد فضل الله بعضهم على بعض بتخصيصه بمآثر أو خصائص أو مفاخر جليلة ليست لغيره، مع استوائهم جميعا في اختيارهم لتبليغ الرسالة الإلهية وهداية الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجاءت عبارة التفضيل في آية أخرى هي: وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [الإسراء ١٧/ ٥٥] وهنا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ.
من هؤلاء الرسل: من فضله الله بأنه كلمه مشافهة من غير واسطة وهو موسى عليه السلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء ٤/ ١٦٤]، وَلَمَّا جاءَ
6
مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
[الأعراف ٧/ ١٤٣]، فسمي «كليم الله».
ومنهم من رفعه الله على غيره درجات ومراتب في الفضل والشرف، والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما رواه الطبري عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا.
وتفضيله بأوجه ذكرناها، وبأوجه أخرى منها رؤيته الأنبياء في السموات ليلة الإسراء والمعراج بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل، ومنها سمو أخلاقه الشريفة، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم ٦٨/ ٤]، ومنها تأييده بالقرآن الخالد إلى يوم القيامة كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر ١٥/ ٩] وقال في فضل القرآن: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء ١٧/ ٩] ومنها تفضيل أمته: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران ٣/ ١١٠] وجعل أمته وسطا بين الأمم عدولا وشهداء على الأمم:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة ٢/ ١٤٣].
ولو لم يؤت من المعجزات والخصائص إلا القرآن وحده، لكفى به فضلا على سائر الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية أبد الدهر،
روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون».
وآتى الله عيسى بن مريم عليه السلام البينات: وهي الآيات الواضحات التي يتبين بها الحق من الباطل، كتكليمه في المهد، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه
7
والأبرص بإذن الله ومشيئته، وتأييده بروح القدس: جبريل عليه السلام، ردا على اليهود الذين أنكروا نبوته والطعن به، وحفظا له من أذاهم، وتبيانا لحقيقته أنه بشر مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات، لا إله، كما زعمت النصارى في عيسى، فكان الناس في شأنه بين مفرّط ومفرط.
ولو شاء الله ما اقتتلت الأمم التي جاءت بعد الرسل، من بعد ما جاءهم الرسل بالبينات والمعجزات الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل وقبول الحق من ربهم، وإنما ترك لهم حرية التفكير والنظر والإدراك بالعقل الذي أودعه فيهم، ليختاروا طريق الخير والسعادة بأنفسهم، ولكنهم لم يفكروا تفكيرا سليما واختلفوا اختلافا بينا كبيرا في قبول الدين، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر برسالاتهم، وقد اختلف اليهود في دينهم واقتتلوا، وكذلك النصارى اختلفوا وانقسموا، وتعددت الفرق والانقسامات في كل من اليهودية والنصرانية، واتهم كل فريق الآخر بالخروج عن أصل الدين، ووجد هذا الاختلاف أيضا بين المسلمين، حيث عصفت بهم الأهواء، وفرقتهم المصالح، واحتدم القتال فيما بينهم.
ولو شاء الله- بالرغم من اختلاف ميولهم ونزعاتهم وأهوائهم- ما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، ولكن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وكل ذلك من قضاء الله وقدره، فصارت ردود الفعل متفاوتة، إما بخصومة الكلام والطعن والنقد والسب، وإما بالاحتكام إلى حد السيف وإراقة الدماء. وقد كرر تعالى قوله:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا للتأكيد.
والله قادر على كل شيء، فإن أراد التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه، فالخذلان والعصمة من فعل الله وإرادته.
8
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على التفضيل بين الأنبياء في زيادة الأحوال والخصوصيات والكرامات والألطاف الإلهية والمعجزات المتباينات. أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، فكلهم في النبوة والتبليغ ووحدة الهدف والغاية سواء، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليل الله، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات. والرسل أفضل من الأنبياء، فمن أرسل بشرع وأمر بتبليغه أفضل ممن لم يؤمر بالتبليغ، وأولو العزم من الرسل وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أفضل من بقية الرسل. ومحمد صلّى الله عليه وسلّم أفضل الأنبياء والمرسلين على الإطلاق، لأن رسالته عامة للناس جميعا، وللإنس والجن أيضا، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ ٣٤/ ٢٨] ولأن رسالته توجهت بالقرآن المجيد الذي هو شرع الله الدائم والذي ختمت به الشرائع، والمتكفل بحفظه إلى يوم القيامة، ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرناها سابقا، لذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب ٣٣/ ٧] فعمّ ثم خص وبدأ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم-
فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة-: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة».
وأما
قوله عليه السلام: «لا تخيروني على موسى» أو «لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى»
فهو على معنى التواضع.
وهذا القول ينطبق على الصحابة رضوان الله عليهم، اشتركوا في الصحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والخصائص، فهم متفاضلون بالمآثر، مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، ويشير القرآن إلى ذلك بقوله تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ الآية [الفتح ٤٨/ ٢٩] وقوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح ٤٨/ ٢٦] وقوله:
لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ.. [الحديد ٥٧/ ١٠] وقوله: لَقَدْ
9
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
[الفتح ٤٨/ ١٨] فعمّ وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، ووعد كلا منهم الحسنى.
وأما النزاع والاقتتال بين الناس بعد الرسل فكله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان، ولكنه المستأثر بسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد.
الأمر بالإنفاق في سبيل الخير
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
الإعراب:
لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ قرئ بالرفع بالابتداء، أو على أن يجعل: لا بمعنى ليس، وفِيهِ الخبر، وقرئ بالبناء على الفتح، لأنه معه بمنزلة «خمسة عشر».
البلاغة:
وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ مبتدأ محصور في خبره أي قصر صفة على موصوف، وقد أكدت بالجملة الاسمية وبضمير الفصل، أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ وهو كافر وهُمُ: مبتدأ ثان، والظَّالِمُونَ خبر الثاني، أو أن: هُمُ ضمير فصل، والظَّالِمُونَ: خبر. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل: والظالمون هم الكافرون. أي يصبح كل ظالم كافرا، وما أكثر الظلم بين الناس.
المفردات اللغوية:
يَوْمٌ المراد به هنا يوم الحساب لا بَيْعٌ فِيهِ البيع في الأصل: الكسب بأي نوع من أنواع المبادلة أو المعاوضة، والمراد به هنا: لا فداء، فيتدارك المقصّر تقصيره. وَلا خُلَّةٌ أي
10
ولا صداقة ولا مودة تنفع وَلا شَفاعَةٌ بغير إذنه يوم القيامة وَالْكافِرُونَ بالله أو بما فرض عليهم، والمراد به في رأي الحسن البصري: تاركو الزكاة، لأن الأمر بالإنفاق هو الإنفاق الواجب، لاتصال الوعيد به وهو أن تاركي الزكاة هم الظالمون، كما قال الزمخشري. والظالمون: هم الذين جحدوا أمر الله أو أنفقوا المال في غير محله المشروع.
المناسبة:
حثت الآيات السابقة على الجهاد بالنفس، وهذه الآية حث على الجهاد بالمال وإنفاقه في سبيل الخير، ليدخر الناس ثواب ذلك عند ربهم، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا.
التفسير والبيان:
يأمر الله المؤمنين الذين اتصفوا بصفة الإيمان الصادق بالإنفاق في سبيل الله، وذلك يشمل- في رأي ابن جريج وسعيد بن جبير- الزكاة المفروضة والتطوع أو المستحبة، قال ابن عطية: وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك في آخر الآية قوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.
وقوله: مِمَّا رَزَقْناكُمْ يؤكد الحث على الإنفاق، لأنه يدل على أنه لا يطلب إلا بعض ما رزقه الله لعباده.
ويتأكد الأمر أيضا بأنه سيأتي يوم يندم فيه الإنسان ولا يفيده الندم، وهو يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الذي لا ينفع فيه البديل أو الفداء، ولا الصداقة أو المودة، ولا الشفاعة أو الوساطة أو النسب، يوم تختلف فيه مقاييس الآخرة عن مقاييس الدنيا، وذلك مثل آية أخرى هي: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة ٢/ ٤٨].
11
والكافرون وهم كل من كفر بالله أو التاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم، أي فإنهم يقاتلون بالنفس والمال، وإن المنفقين وضعوا المال في غير موضعه، وقد سماهم الله كافرين تهديدا وتغليظا، كما قال: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران ٣/ ٩٧] وإشعارا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار، كما قال تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت ٤١/ ٦- ٧] قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل:
«والظالمون هم الكافرون».
فقه الحياة أو الأحكام:
تأمر الآية بإنفاق المال في وجوه الخير، سواء أكان بطريق الزكاة المفروضة أم بالصدقات والتطوعات المندوبة، فلكل ثوابه العظيم يوم الآخرة، وفيه تحقيق التضامن والتكافل بين أبناء الأمة الواحدة، بل إنه السبيل الواجب للحفاظ على عزة الأمة ومكانتها وهيبتها واسترداد حقوقها المغتصبة، وصون كرامتها وحرماتها وديارها، فمن يقصر في ذلك وهو من الأغنياء القادرين على الإنفاق، كان سببا في تدمير أمته وإذلالها، إذ لا بقاء ولا حياة ولا سعادة للأغنياء أنفسهم إذا فتك الثالوث المخيف (وهو المرض والفقر والجهل) في بقية أفراد الأمة. قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية: أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال «١».
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٧٥، طبعة الرياض.
12
آية الكرسي
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
الإعراب:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ: اللَّهُ مبتدأ أول، ولا: نافية للجنس، وإِلهَ: اسمها، وخبرها محذوف تقديره: لا إله معبود إلا هو، والجملة مبتدأ ثان، وهُوَ ضمير فصل مرفوع على البدل من موضع: لا إِلهَ، ويجوز رفعه خبرا لكلمة: لا.
والْحَيُّ الْقَيُّومُ: مرفوعان إما صفة لله تعالى، أو بدل من هُوَ أو على تقدير مبتدأ. هذا عند ابن الأنباري، والأصح عند العكبري وغيره أن اللَّهُ مبتدأ، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبره، وليس بمبتدإ ثان.
البلاغة:
في الآية حسن افتتاح بأجل أسماء الله تعالى، وفيها تكرار اسمه ظاهرا ومضمرا في ثمانية عشر موضعا، وفيها إطناب بتكرير الصفات، وقطع الجمل حيث لم يصلها بحرف العطف، لأنها كلها في حكم البيان، وطباق في ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. هذا ما قاله أبو حيان في البحر المحيط (٢/ ٢٨١) وعدّ أحمد رحمه الله سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا وخفيا، فالظاهر ستة عشر وهي: الله، هو، الحي، القيوم، ضمير لا تأخذه، وضمير له، وضمير عنده، وضمير إلا بإذنه، وضمير يعلم، وضمير علمه، وضمير شاء، وضمير كرسيه، وضمير: ولا يؤده، وهو العلي، العظيم. وأما الخفي: فالضمير الذي اشتمل عليه مصدر: حفظهما، فإنه مصدر مضاف إلى المفعول، ولا بد له من فاعل وهو الله (حاشية الكشاف: ١/ ٢٩٢).
13
المفردات اللغوية:
اللَّهُ هو المعبود بحق، والعبادة: استعباد الروح وإخضاعها لسلطة غيبية لا تحيط بها علما، ولا تدرك حقيقتها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا معبود بحق في الوجود سوى الله الْحَيُّ: الدائم البقاء أو ذو الحياة، والحياة صفة لله تعالى تستلزم اتصافه بالعلم والإرادة والقدرة الْقَيُّومُ دائم القيام أو القائم بتدبير خلقه في آجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وحفظهم ورعايتهم، كما قال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد ١٣/ ٣٣]. لا تَأْخُذُهُ الأخذ: الغلبة والاستيلاء سِنَةٌ نعاس وهو فتور قبل النوم. والنوم: حال تعرض للحي، بها تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس والشعور. كُرْسِيُّهُ علمه الإلهي بدليل قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر ٤٠/ ٧] ولأن أصل الكرسي: العلم، ومنه يقال للعلماء: كراسي، للاعتماد عليهم، وقيل: المراد بها عظمته ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، كقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر ٣٩/ ٦٧]، وقيل: ملكه، وقال الحسن البصري: الكرسي هو العرش. قال ابن كثير في تفسيره (١/ ٣١٠) : والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.
وَلا يَؤُدُهُ: ولا يثقله ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض ومن فيهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد، وهو القاهر لكل شيء، العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ العلي: المتعالي عن الأشباه والأنداد وهو فوق خلقه بالقهر، والعظيم: هو الكبير الذي لا شيء أعظم منه وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ مثل قوله: وهو الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ.
فضل آية الكرسي: آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، وقد صح الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنها أفضل آية في كتاب الله، وفيها اسم الله الأعظم،
قال أبو بكر بن مردويه بسنده عن أبي أمامة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اسم الله الأعظم الذي إذ دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة، وآل عمران، وطه»
قال هشام بن عمار خطيب دمشق: أما البقرة فقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي آل عمران: الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.
ووردت أحاديث كثيرة أخرى في فضلها، منها
«سيد الكلام: القرآن، وسيد القرآن:
البقرة، وسيد البقرة: آية الكرسي»

، ومنها
«من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد»
ومنها:
«من قرأ دبر
14
كل صلاة مكتوبة آية الكرسي، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت» «١».
وعن علي رضي الله عنه قال: «سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول، وهو على أعواد المنبر: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه، آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله».
وقال ابن كثير: هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة، متعلقة بالذات الإلهية، وفيها تمجيد الواحد الأحد «٢».
المناسبة:
ذكر تعالى في الآيات السابقة أن العمل الصالح الفردي هو أساس النجاة، فلا ينفع المال والشفاعة والصداقة والمودة، وأن الرسل صلوات الله عليهم- وإن تفاوتوا في الفضل- إلا أن دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة ودينهم واحد قائم على دعوة التوحيد وصون الفضائل والأخلاق وعبودية الله تعالى، ثم جاءت آية الكرسي لتقرر أصل التوحيد وأساس العبادة، ولتحصر الاتجاه بأي عمل نحو الله تعالى، وليستشعر العبد عظمة الله وسلطانه، ويطيع أوامره، ويذعن لأحكامه.
التفسير والبيان:
الله هو المتفرد بالألوهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق في الوجود إلا هو، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الواجب الوجود، ذو الملك والملكوت، الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم بذاته على تدبير خلقه، كقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم ٣٠/ ٢٥]، الذي لا يشبه أحد من خلقه في الذات ولا في الصفات، ولا في الأفعال، كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى ٤٢/ ١١].
(١) رواه النسائي وابن حبان في صحيحة عن أبي أمامة.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٠٨
15
لا يعتريه نوم ولا يغلبه نعاس لأنه قائم بتدبير أمور خلقه آناء الليل وأطراف النهار. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها، مقررة لمعنى الحياة والقيومية الدائمة الكاملة، جاء
في الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربع كلمات فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
وجميع ما في السموات وما في الأرض عبيده وفي ملكه، خاضعون لمشيئته، وتحت قهره وسلطانه، كقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ، وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم ١٩/ ٩٣- ٩٥]. وهذه الجملة مؤكدة أيضا لقيوميته وتفرده بالألوهية.
ومن عظمة الله وجلاله وكبريائه أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة، كقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم ٥٣/ ٢٦] وقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨] وقوله: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود ١١/ ١٠٥]
وفي حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش، فأخر ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع، قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة».
وهذا دليل على انفراد الله بالملك والسلطان.
والله محيط علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويعلم أمور الدنيا وأمور الآخرة، كقوله إخبارا عن الملائكة: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا، وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم ١٩/ ٦٤] قال
16
الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر».
ولا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل، وأطلعه عليه، ومن تلك الأشياء: الشفاعة، فهي متوقفة على إذنه تعالى، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه.
والله تعالى واسع الملك والقدرة، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، يحيط علمه بجميع ما في السموات والأرض، ويعلم صغار الأمور وكبارها، دقيقها وعظيمها، لا يشغله سمع عن سمع، ولا شأن عن شأن، ولا يشق عليه أمر.
وقد أورد الزمخشري أربعة أوجه في تفسير قوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ «١» :
أحدها- أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته، وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة، ولا قعود ولا قاعد، كقوله:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر ٣٩/ ٦٧] من غير تصوّر قبضة، وطي، ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي، ألا ترى إلى قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
والثاني- وسع علمه: وسمي العلم كرسيا تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم.
والثالث- وسع ملكه: تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك.
والرابع- ما روي أنه خلق كرسيا هو بين يدي العرش، دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء. وعلى كل حال أرى أنه يجب الإيمان
(١) الكشاف: ١/ ٢٩١- ٢٩٢
17
بوجود العرش والكرسي، كما ورد في القرآن، ولا يجوز إنكار وجودهما إذ في قدرة الله متسع لكل شيء. ولا يثقله تعالى حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه، يسير لديه.
وهو المتعالي عن الأنداد والأشباه، وأعظم من كل شيء، لا تحيط به العقول والمدارك، ولا يعرف حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى. وهذا كقوله: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ والمقصود بالعلو: علو القدر والمنزلة، لا علو المكان لأن الله منزّه عن التحيّز في المكان. وفسر بعضهم العلي: بأنه القاهر الغالب للأشياء.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية تملأ القلب مهابة من الله وعظمته وجلاله وكماله، فهي تدل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية والسلطان والقدرة، قائم على تدبير الكائنات في كل لحظة، لا يغفل عن شيء من أمور خلقه، وهو مالك كل شيء في السموات والأرض، لا يجرأ أحد على شفاعة بأحد إلا بإذنه، ويعلم كل شيء في الوجود، ويحيط علمه بكل الأمور وأوضاع الخلائق دقيقها وعظيمها، ويظل بالرغم من التدبير للخلائق والعلم المحيط بالأشياء هو العلي الشأن، القاهر الذي لا يغلب، العظيم الملك والقدرة على كل شيء سواه، فلا موضع للغرور، ولا محل لعظمة أمام عظمة الله تعالى.
منع الإكراه على الدين والله هو الهادي إلى الإيمان
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٦ الى ٢٥٧]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
18
الإعراب:
لَا انْفِصامَ لَها: هذه الجملة في موضع نصب على الحال من بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ.
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أولياء: مبتدأ، والطاغوت خبره، وبما أن خبر المبتدأ يكون على وفق المبتدأ، فيجب أن يكون الطاغوت جمعا لأن أولياء جمع، والطاغوت: تصلح للواحد والجمع. وأصل طاغوت: طغيوت، إلا أنهم قلبوا الياء التي هي لام إلى موضع العين، فصار طيغوتا، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار طاغوتا.
البلاغة:
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى: استعارة تمثيلية، حيث شبه المتمسك بدين الإسلام بالمتمسك بالحبل المحكم. وعدم الانفصام ترشيح.
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة تصريحية، حيث شبه الكفر بالظلمات، والإيمان بالنور.
المفردات اللغوية:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين، والدين هنا: المعتقد والملة بقرينة قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي ظهر بالآيات البينات الواضحات أن الإيمان رشد، والكفر غي، والرشد والرشاد: الهدى وكل خير، وضده الغي أي الضلال في الاعتقاد أو الرأي. أما الجهل فهو كالغي إلا أنه في الأفعال لا في الاعتقاد.
بِالطَّاغُوتِ الشيطان أو الأصنام، مأخوذ من الطغيان: وهو مجاوزة الحد في الشيء.
ويجوز تذكيره وتأنيثه وإفراده وجمعه، ويتحدد المراد بحسب المعنى.
اسْتَمْسَكَ تمسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى بالعقد المحكم. والعروة: من الدلو والكوز ونحوهما: المقبض الذي يمسك به من يأخذهما. والوثقى: مؤنث الأوثق: وهو الحبل الوثيق المحكم. ويجوز أن يراد بالعروة الوثقى: الشجر الملتف لَا انْفِصامَ لَها لا انقطاع لها.
19
اللَّهُ وَلِيُّ الولي: الناصر والمعين، أي أن الله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية مِنَ الظُّلُماتِ الكفر والضلالات إِلَى النُّورِ الإيمان.
وأفرد النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد لا يتعدد، وأما أنواع الضلال والكفر فكثيرة، كما قال ابن كثير.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٥٦) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: نزلت: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ في رجل من الأنصار من بني سالم يقال له: الحصين «١»، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو مسلما، فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية.
وفي رواية: أنه حاول إكراههما، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: أيدخل بعضي النار، وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما.
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال: كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاة «٢»، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
نزول الآية (٢٥٧) :
أخرج ابن جرير الطبري عن عبدة بن أبي لبابة في قوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم آمنوا به وأنزلت فيهم هذه الآية.
(١) وفي قول السدي: يقال له أبو الحصين.
(٢) المقلاة: هي المرأة التي لا يعيش لها ولد. [.....]
20
المناسبة:
حددت آية الكرسي ما يتصف به الله عز وجل من تفرد بالألوهية والملك والسلطان في السموات والأرض، والحياة، والقيام بأمر الخلائق دون عناء ولا مشقة، وإحاطة العلم بكل شيء، فلا يصح بعدئذ أن يكون هناك إكراه على الدخول في الدين لأن الفطرة، والمشاهدات الكونية، والفكر السليم تهدي إلى الإيمان بوجود الله ووحدانيته والاقتناع بالإسلام دينا ومنهج حياة.
التفسير والبيان:
لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام، فإن دلائل صحته لا تحتاج بعدها إلى إكراه، ولأن الإيمان يقوم على الاقتناع والحجة والبرهان، فلا يفيد فيه الإلجاء أو القسر أو الإلزام والإكراه، كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٩٩].
وقد بان طريق الحق من الباطل، وعرف سبيل الرشد والفلاح، وظهر الغي والضلال، وأن الإسلام هو منهج الرشد، وغيره طريق الضلال، فمن شاء فليؤمن به ومن شاء فليكفر.
وهذه الآية أوضح دليل على بطلان زعم أن الإسلام قام بالسيف، فلم يكن المسلمون قبل الهجرة قادرين على مجابهة الكفار أو إكراههم، وبعد أن تقووا في المدينة وعلى مدى القرون الماضية لم يكرهوا أحدا على الإسلام، كما يفعل أتباع الملل الأخرى كالنصارى، وقد نزلت هذه الآية في بداية السنة الرابعة من الهجرة، حيث كان المسلمون أعزاء وأقوياء.
ولم يلجأ المسلمون إلى الحرب أو الجهاد إلا لرد العدوان، والتمكين من حرية التدين، ومنع تعسف السلطة الظالمة الحاكمة من استعمال المسلمين حقهم في الدعوة
21
إلى الله، ونشر الإسلام في أنحاء الأرض، بدليل قبول المعاهدات والصلح على دفع الجزية وتخيير العدو بين ذلك وبين الاحتكام إلى القتال.
ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، بسبب عدم استخدامه وسائل النظر والمعرفة الصحيحة، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا.
وبناء عليه، من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله، وكفر بعبادة أي مخلوق من الناس أو الجن أو الشيطان أو الكواكب أو الأوثان والأصنام، وعبد الله وحده وشهد أن لا إله إلا هو، فقد تمسك بالحق، وثبت على الهدى، واستقام على الطريق المستقيم، وكان مثله مثل الممسك بعروة حبل محكم مأمون الانقطاع، أي أن الله تعالى شبه من استمسك من الدين بأقوى سبب بمن استمسك بالعروة القوية التي لا تنفصم، فصارت محكمة مبرمة قوية، لا يحلّ ربطها القوي الشديد. والعروة الوثقى فسرت بعبارات ترجع إلى معنى واحد: وهي الإيمان، أو الإسلام، أو لا إله إلا الله.
والله يرصد بدقة أقوال الناس وأفعالهم وتصوراتهم وأفكارهم، فهو سميع لقول من يدعي الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، عليم بما يضمره قلبه من تصديق أو تكذيب لأن الإيمان: ما نطق به اللسان واعتقده القلب، والله سميع عليم بكل شيء ظاهر وباطن، يعلم حقائق الأشياء والأقوال والمعتقدات والأفعال. قال القرطبي: ولما كان الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات: سَمِيعٌ من أجل النطق، عَلِيمٌ من أجل المعتقد.
والله يتولى أمور المؤمنين بالرعاية والعناية والهداية لأرشد الأمور، وهو يخرجهم بهداية الحواس والعقل والدين من ظلمات الشك والشبهة، والجهل
22
والضلالة، والكفر والانحراف، إلى نور العلم والمعرفة واليقين والإيمان الصحيح، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا، فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠١] قال مجاهد وعبدة بن أبي لبابة: نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات «١».
وأما الكافرون بالله ورسوله فلا سلطان على نفوسهم إلا لمعبوداتهم الباطلة التي تقودهم إلى الضلال، فإن لاح لهم نور الحق والإيمان، بادر الشيطان وما يلقيه من وساوس إلى إطفاء هذا النور، وإبقاء الكفار في ظلمات الشك والضلال، والكفر والعصيان، أو النفاق والتردد.
وكان جزاؤهم الحق المنتظر هو الخلود في النار والملازمة لها بسبب بعدهم عن الهدى، وتماديهم في الضلال، وعدم استنارة قلوبهم بنور الحق.
وبما أن الحق واحد وحّد الله تعالى لفظ النور، وجمع الظلمات لأن الكفر أجناس مختلفة كثيرة، وكلها باطلة، كما قال: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام ٦/ ١٥٣] وقال تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام ٦/ ١] ونحو ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق وانتشار الباطل وتشعبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية قاعدة من قواعد الإسلام الكبرى، وركن عظيم من أركان سياسته ومنهجه، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه.
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٨٣
23
وهذا يكون إذا كنا أصحاب قوة ومنعة نحمي بها ديننا وأنفسنا ممن يحاول فتنتنا في ديننا، ويكون الجهاد ضد السلطة الباغية أمرا اضطراريا لتأمين حرية الدعوة، وأمن الفتنة، وتترك قضية التدين أو اعتناق الإسلام في المجال الفردي أو الجماعي أو الشعبي للمجادلة بالتي هي أحسن، وللإقناع بالحجة والبرهان.
وأما ادعاء كون هذه الآية منسوخة بآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة ٩/ ٧٣] كما روي عن ابن مسعود، فهو يتنافى مع كون هذه الآية نزلت في السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة، بعد تشريع الجهاد والإذن بالقتال، ويتناقض مع سبب بالنزول كما بينا، فضلا عن الاختلاف في النسخ على ستة أقوال أوردها القرطبي «١».
فقال الشعبي وقتادة والحسن البصري والضحاك: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون: أهل الأوثان من العرب، فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فهم الذين نزل فيهم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وحجتهم: ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية:
أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق، فقالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
وضعّف ابن العربي القول بنسخ الآية، وقال: لا إِكْراهَ عموم في نفي إكراه الباطل، فأما الإكراه بحق فإنه من الدين، ورأى أن قتل الكافر في الحرب قتل على الدين «٢»،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتواتر الذي رواه الأئمة عن أبي هريرة: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»
وهو مأخوذ من قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٨٠
(٢) أحكام القرآن: ١/ ٢٣٣
24
[البقرة ٢/ ١٩٣] لكن فاته أن المراد بالناس بإجماع العلماء هم مشركو العرب. وهذا راجع لسبب خاص بالعرب لأنهم حملة رسالة الإسلام، وبلادهم منطلق الإسلام، فجاز إكراههم بحق لهذين السببين.
ودلت آية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ على ظهور أدلة الرشد والإيمان وتميز الدين الحق عن الغي والضلال والجهالة، وأن الإسلام هو دين الحق، وأن أنواع الكفر كلها باطلة.
ودلت آية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا على أن من آمن من الناس، فالله متولي أموره، يخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم، الداعي المرسل، فشيطانه مغويه، كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معه. ودلت أيضا على أن الحكم على الكفار بالدخول في النار، لكفرهم هو عدل منه تعالى، ولا يسأل عما يفعل.
وهذه الآية بمثابة الدليل على منع الإكراه في الدين لأن الولاية على العقول والقلوب هي لله تعالى وحده، والهداية إلى الإيمان تكون بتوفيق الله تعالى من شاء، وإعداده للنظر في الآيات والخروج من الشبهات، بما ينقدح لنظره من نور الدليل، لا بالإجبار والإكراه.
والخلاصة: أن المؤمن لا ولي له ولا سلطان لأحد على اعتقاده إلا الله تعالى، وتكوين الإيمان يكون باستعمال الهدايات التي وهبها الله للإنسان وهي الحواس والعقل والدين.
أما الكفار فلا سلطان على نفوسهم إلا لتلك المعبودات الباطلة المؤدية إلى الطغيان، فهي التي تقوده إلى إخلاء قلبه من الإيمان، والانصراف إلى التمتع بالشهوات الحسية أو المعنوية كالسلطة أو الجاه، والاسترسال في الفواحش والمنكرات أو الظلم والطغيان. وعرف ابن القيم الطاغوت: بأنه ما تجاوز به
25
العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، وقال: الطواغيت كثيرة، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، من عبد وهو راض، من دعا الناس إلى عبادة نفسه، من ادعى شيئا من علم الغيب، من حكم بغير ما أنزل الله.
قصة النّمروذ الملك
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
الإعراب:
رَبِّهِ الهاء تعود على الذي وهو نمروذ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في موضع نصب لأنه مفعول لأجله، وتقديره: لأن آتاه الله، فحذف اللام فاتصل الفعل به. والهاء في آتاهُ فيها وجهان:
إما أن تكون عائدة على إبراهيم، أي: أن آتى الله إبراهيم النبوة، وإما أن تعود على الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ وهو نمروذ الذي خاصم إبراهيم لأن آتاه الله الملك. إِذْ قالَ إذ: ظرف زمان والعامل فيه تَرَ. والياء في رَبِّيَ يجوز فيها التحريك والإسكان، فمن حركها شبهها بالكاف في رَأَيْتَكَ، ومن سكّنها استثقل الحركة عليها، لأن الحركات تستثقل على حرف العلة.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب، والرؤية قلبية.
يُحْيِي وَيُمِيتُ عبر بالمضارع لأنه يفيد التجدد والاستمرار. وصيغة رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ تفيد القصر لورود المبتدأ والخبر معرفتين، أي أنه تعالى وحده هو الذي يحيي ويميت.
ويوجد طباق بين يحيي ويميت أو بين المشرق والمغرب.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ يشعر التعبير بأن العلة وسبب الحيرة هو كفره، ولو قال: فبهت الكافر لما أدى ذلك المعنى.
26
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ الاستفهام للتعجب والإنكار حَاجَّ جادل أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي حمله بطره بنعمة الله على ذلك وهو نمروذ.
فَبُهِتَ تحير ودهش،
وفي الحديث: «إن اليهود قوم بهت»
، الظَّالِمِينَ المعرضين عن قبول الهداية بالنظر فيما يؤدي إلى الحق.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى فيما سبق أن الله ولي الذين آمنوا، وأن الطاغوت ولي الكافرين، أعقبه بذكر نموذج للإيمان ونموذج للطغيان، ليبين تلك القضية ويشهد على صدقها وصحتها، وهو أن إبراهيم وفقه الله للأدلة التي تدحض الشبهات، وأن الملك عمي عن نور الحق، فكانت حججه متهافتة ساقطة، تتردد في ظلمات الشكوك والأوهام، فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما «١».
التفسير والبيان:
ألم تعلم قصة النمروذ الملك الذي تجبر وادعى الربوبية وهو النّمروذ بن كوش بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام ملك زمانه، وعارض إبراهيم في ربوبية الله «٢».
والذي حمله على المجادلة: هو الملك وما يعقبه من كبر وبطر وغرور، وهو ملك بابل، وقيل: إنه ملك زمانه، ملك الدنيا بأجمعها، قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران: فالمؤمنان: سليمان بن داود
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٨٦
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣١٣
27
وذو القرنين، والكافران: نمروذ وبختنصّر «١». فالنمروذ الملك لم يشكر النعمة، بل أبطرته، وجعلته يطغى، مع أن النعمة مدعاة الشكر، فجعل ما كان سببا في الطاعة سببا في المعصية.
وهو في رأي ابن عباس ومجاهد وجماعة آخرين: صاحب النار والبعوضة، فهو الذي أضرم النار لإحراق إبراهيم عليه السلام، وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى: بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض، وبعثها على عسكره، فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، ودخلت واحدة منها في دماغه، فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقي في البلاء أربعين يوما «٢».
وكان قوم الملك يعبدون ملوكهم مع آلهتهم، فأحب الملك أن يرجع إبراهيم عن نحلته الجديدة المخالفة لنحلة قومه، وان يعبده وآلهته.
وهذه قصة المجادلة «٣» :
حينما كسّر إبراهيم عليه السلام الأصنام التي تعبد من دون الله، وسفّه عقول عابديها، سأله نمروذ عن ربه الذي يدعو إلى عبادته، فأجابه: ربي الذي يحيي ويميت فهو مصدر الحياة وسبب الممات، أي ينشئ الحياة والموت، فأنكر الملك الطاغية الذي كان أول من تجبر وقال: أنا أحيي بعض البشر بالعفو عمن حكم عليه بالإعدام، وأميت البعض الآخر بالقتل وتنفيذ الحكم المقرر عليه، وأحضر رجلين عفا عن أحدهما، وقتل الآخر، وأخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا وتركهم بدون طعام وشراب، ثم أطعم اثنين فحييا، وترك اثنين فماتا.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣١٣
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٢٨٤
(٣) قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار: ص ٨١
28
وهذا أول السقوط والضعف في حجة النمروذ، لأن المراد في قول إبراهيم:
إنشاء الحياة وتكوينها بعد العدم، وإزالة الحياة القائمة لجميع الكائنات الحية من نبات وحيوان وغيرهما، لا مجرد التسبب في بقاء الحياة، وإعدامها لفئة من الناس حكم عليهم بالإعدام، فجواب النمروذ بمعنى أنه يكون سببا في الإحياء والإماتة.
ولما رأى إبراهيم مغالطة الطاغية وتجاهله المقصود من معنى الإحياء والإماتة، انتقل إلى حجة أخرى لا مجال فيها للمكابرة أو المغالطة، فقال: إن ربي الذي يمنح الحياة ويسلبها بقدرته وإرادته المطلقة هو الذي يطلع الشمس من المشرق، فإن كنت تدعي الربوبية، فغيّر نظام طلوع الشمس وغروبها، وائت بها من جهة المغرب.
فلم يجد من تولى كبره جوابا، ودهش وتحير، وأعجزته الحجة، وأفحمه إبراهيم، وغلبه وأسكته، وقطع حجته، ولم يمكنه، أن يقول: آنا الآتي بها من المشرق، لأن الواقع يكذبه.
والله لا يهدي الظالمين أنفسهم المعرضين عن قبول هداية الله إلى طريق الخير والفلاح أبدا، بل يطمس الله على قلوبهم وبصائرهم، ويفضح شأنهم في أحلك أوقات الشدة والأزمة أمام الملأ من الناس. وهذا يدل على أن عدم الهداية ليس للطائعين، وإنما للظالمين، والمراد: هداية خاصة، أو ظالمون مخصوصون «١».
وقد ذكر السّدّي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك، إلا في ذلك اليوم، فجرت بينهما هذه المناظرة، وكان ذلك نصرا لخليل الله إبراهيم بعد نصر، وهكذا تتوالى الانتصارات لأولياء الله وأصفيائه، وتتعاقب الهزائم لأعداء الله، وتبدو مواقف الخذلان لهم
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٨٩
29
لكل ناظر عاقل متأمل، كما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء ٢١/ ١٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل هذه الآية على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الله الملك والعزّ والرّفعة في الدنيا، وتدل أيضا على جواز أن ينعم الله على الكافرين في الدنيا، ثم يحرم منها في الآخرة، ولا يجد إلا النار. وتدل على إثبات المناظرة وصحة المجادلة في الدين وإقامة الحجة، وفي القرآن والسنة مواقف كثيرة من هذا الجدال، كما في قصة نوح عليه السلام مثلا: قالُوا: يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود ١١/ ٣٢- ٣٥] إلى قوله: وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ، لأن الجدال في الدّين لا يظهر فيه الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الكتاب، وباهلهم «١» بعد بيان الحجة.
وتجادل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم السقيفة وتدافعوا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، ثم تناظروا أيضا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده.
وفي قول الله عز وجل: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [آل عمران ٣/ ٦٦] دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر.
وأدب المجادلة محدد مرسوم في القرآن الكريم في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥].
(١) المباهلة: الملاعنة، ومعنى المباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
30
وذكر الأصوليون في، هذه الآية: أن إبراهيم عليه السلام، لما وصف ربه تعالى بالإحياء والإماتة، قصد إلى الحقيقة، وأما النمرود فلجأ إلى المجاز وموّه على قومه، فسلّم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه إلى أمر لا مجاز فيه، وعارضة بالشمس، فبهت الذي كفر.
ويستفاد من الآية أيضا أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه، وأن طريق معرفته: ما في الكون من الدلائل القاطعة على توحيده، لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك، ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه، وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها وبآثاره عليه.
قصة العزير وحماره
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
الإعراب:
أَوْ كَالَّذِي: الكاف إما زائدة، وتقديره: أو الذي مر على قرية على عروشها، وهي خاوية. والذي: في موضع جر، معطوف على قوله: إِلَى الَّذِي حَاجَّ، وإما للتشبيه، معطوفا على معنى ما تقدمه من الكلام، لأن معنى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ، وألم تر كالذي حاج: واحد. عَلى عُرُوشِها في موضع نصب، لأنه بدل من قوله: عَلى قَرْيَةٍ، ويكون
31
وَهِيَ خاوِيَةٌ جملة اعتراضية. وفسر قوم: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة سقوفها، فلا يكون هناك اعتراض.
كَمْ لَبِثْتَ: كم: في موضع نصب على الظرفية الزمانية، وتقديره: كم لبثت يوما.
لَمْ يَتَسَنَّهْ إما أصله: يتسنّن، من قوله: حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي متغير، قلبت النون الثالثة ياء كراهية اجتماع ثلاث نونات، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «يتسنّى» ثم حذفت الألف للجزم، فصار: يتسن، وأدخلت عليه هاء السكت، وإما مأخوذ من «تسنّه وسانهت» تفعل من السنة، فيكون المعنى: لم يتغير بمرّ السنين، وأصل سنة: سنهة.
وَلِنَجْعَلَكَ الواو عطف على فعل مقدر، تقديره: انظر إلى حمارك لتتيقن ما تعجبت منه، حين قلت: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، ولنجعلك آية للناس.
البلاغة:
بَعْدَ مَوْتِها أي موت سكان القرية، مجاز مرسل من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال.
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فيها استعارة الكسوة للحم الذي غطى العظم، كما يستر الجسد باللباس، ثم حذف المشبه به وهو الثوب، وأتى بشيء من لوازمه وهو الكسوة على سبيل الاستعارة المكنية.
المفردات اللغوية:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ أي عزير الذي مر على ضيعة هي بيت المقدس، راكبا ومعه سلة تين وقدح عصير خاوِيَةٌ ساقطة، أو خالية من السكان، والعروش: السقوف، لما خربها بختنصر. أَنَّى يُحْيِي كيف، وهو استبعاد منه للإحياء بعد الموت، والمراد بالإحياء هنا: العمارة بالبناء والسكان بَعْدَ مَوْتِها خرابها فَأَماتَهُ اللَّهُ أي جعله فاقدا للحس والحركة والإدراك بدون أن تفارق الروح البدن بتاتا، كما حدث لأهل الكهف ثُمَّ بَعَثَهُ أرسله من بعثت الناقة:
إذا أطلقتها من مكانها، وعبر بالبعث دون الإحياء إيذانا بأنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا كامل المدارك. ويرى الأطباء أن من الناس من يبقى حيا زمنا طويلا، لكنه يكون فاقد الحس والشعور، وهو المسمى لديهم بالسبات: وهو النوم المستغرق، ومرد كل ذلك إلى قدرة الله بالحفظ مائة سنة أو ثلثمائة سنة أو أكثر أو أقل، وقال القرطبي: وظاهر هذه الإماتة أنها بإخراج الروح من الجسد. طَعامِكَ التين وَشَرابِكَ العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ لم يتغير مع طول الزمان، والهاء إما للسكت من سانيت، وإما من أصل الكلمة وهي سانهت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف هو، فرآه ميتا وعظامه باقية وَلِنَجْعَلَكَ فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية على البعث، أي علامة على قدرة
32
الله نُنْشِزُها نرفعها من الأرض ثم نردها إلى أماكنها من الجسد وقرئ «ننشرها» أي نحييها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فنظر إليها وقد تركبت وكسيت لحما، ونفخ في الجسد الروح، وظهرت عليه علائم الحياة أَعْلَمُ علم مشاهدة.
المناسبة:
القصة السابقة لإثبات وجود الله، وهذه القصّة والتي تليها في قوله تعالى:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لإثبات الحشر والبعث بعد الفناء.
التفسير والبيان:
أرأيت مثل هذا الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، أي ساقطة جدرانها على سقوفها «١»، وهي معطوفة على قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وهي بمعنى قوله: هل رأيت مثل الذي حاجّ في ربّه. وما هي القرية؟ ومن هو المارّ؟ قيل: إنّه بيت المقدس، والمارّ: هو عزير بن شرخيا، وهو القول المشهور، وقيل: هي دير هرقل على شطّ الدّجلة، والمارّ:
هو أرميا من سبط هارون عليه السلام. وقيل: إنه الخضر عليه السلام، وقيل:
اسمه حزقيل بن بوار، وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل.
فقال: كيف يعمّر الله هذه القرية بعد خرابها، والمراد استبعاد عمرانها بالبناء والسّكان، بعد أن خربت وتفرّق أهلها، ولكنّه في الوقت نفسه يستعظم قدرة الله تعالى لما رأى شدّة خرابها، فقوله: اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الأحياء، واستعظام لقدرة المحيي.
فجعله الله فاقد الحسّ والحركة مائة عام، مع بقائه حيّا، ثمّ أطلق فيه
(١) قال السّدي: يقول: هي ساقطة على سقفها، أي سقطت السّقف، ثم سقطت الحيطان عليها. واختاره الطّبري. وقال غير السّدّي: معناه خاوية من الناس، والبيوت قائمة، وخاوية معناها خالية.
33
الحركة وبعثه بسرعة وسهولة، كأنّه كان نائما ثم استيقظ، فوجد القرية قد عمرت بعد سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، ورجع إليها بنو إسرائيل. فقيل له بواسطة الملك: كم وقتا لبثت؟ وسئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن الإحاطة بشؤون الله تعالى. وأكثر المفسّرين على أن ظاهر هذه الإماتة: أنها بإخراج الرّوح من الجسد، والأظهر أن القائل: هو الله تعالى، من طريق ملك أو هاتف من السماء يقول له ذلك.
فقال: لبثت يوما أو بعض يوم، على التّقريب والظنّ والتّخمين، لأنّه مات أوّل النهار، ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظنّ أنها شمس ذلك اليوم، فقوله هذا على ما عنده وفي ظنّه، فلا يكون كاذبا فيما أخبر به، ومثله قول أصحاب الكهف: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف ١٨/ ١٩]، وإنّما لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين.
فأجيب: بل لبثت مائة عام، فانظر لترى دلائل قدرتنا إلى طعامك وشرابك طوال هذه المدّة، لم يتغيّر ولم يفسد، مع أنّ العادة جرت بفساد مثله بمضي مدّة قليلة.
وانظر أيضا لترى الدّليل على قدرتنا إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطّعت أوصاله، لتتبيّن تطاوّل مرور الزّمان عليه وعليك وأنت راقد أو نائم فعلنا بك ما فعلنا لتعاين ما استبعدته، ولتتيقّن ما تعجبت منه، ولنجعلك دليلا على المعاد، وآية دالّة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة، كقوله تعالى:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨]، فقوله: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ دليل على البعث بعد الموت.
وانظر كيف نرفع عظام حمارك المتناثرة يمينا وشمالا، فيركب بعضها على بعض، ونردها إلى أماكنها من الجسد، ثم نكسوها لحما وعصبا وعروقا وجلدا،
34
كما يستر الثوب الجسد، ثم بعث الله ملكا فنفخ الرّوح في هذا الجسم، فنهق كله بإذن الله عزّ وجلّ، وذلك كلّه بمرأى من العزير. فالقادر على هذا الإحياء بعد موت مائة سنة قادر على الإحياء بعد آلاف السنين، لأن الأفعال الإلهية تشبه بعضها.
فلما تبيّن له هذا كله قال: أنا عالم بهذا، وقد رأيته عيانا، وأعلم علما يقينيا أن الله على كل شيء من الأشياء قدير لا يستعصي عليه أمر.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة دليل واضح على إمكان البعث بعد الفناء، والحشر بعد النشر من القبور، والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتجّ به على البعث في كل زمان ومكان:
هو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه، والإنشاء معناه:
التقوية، والإنشاز معناه: التنمية. وهذه حالة خاصة، وأما الآية الكبرى العامة وهي كيفية التّكوين الدّالة على قدرة الله على البعث، فهي قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف ٧/ ٢٩]، وقوله: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤].
والرّاجح أن الذي مرّ على القرية كان من الصدّيقين أو الأنبياء، وقيل: إنه كان من الكافرين، وهو ضعيف، لأن الكافر لا يؤيّد بآيات الله. والكلام على الوجه الأوّل الصّحيح مثل لهداية الله تعالى للمؤمنين، وإخراجهم من الظّلمات إلى النّور، كما كان شأن إبراهيم مع ذلك الكافر.
والإخبار أو اليمين على الظنّ لا يكون كذبا، ولا يوجب كفارة اليمين، وهذا هو المراد عند الحنفية والمالكية والحنابلة (الجمهور) بلغو اليمين الذي عفا الله عنه، أخذا بقوله تعالى: قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وقوله في سورة الكهف: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف ١٨/ ١٩]، ونظيره
قول
35
النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قصة ذي اليدين (الخرباق بن عمرو) في حديث متفق عليه عن أبي هريرة: «لم أقصر ولم أنس».
وعلى هذا يجوز أن يقال: إن الأنبياء لا يعصمون عن الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، إذا لم يكن عن قصد، كما لا يعصمون عن السّهو والنسيان.
وجعل عزيز آية للناس: كان في إماتته مدة مائة عام، ثم إحيائه بعدها.
حبّ الاستطلاع عند إبراهيم عليه السلام
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
الإعراب:
كَيْفَ تُحْيِ كيف: في موضع نصب بفعل (يحيي) وهو سؤال عن الحال، وتقديره:
بأي حال تحيي؟ ولا يجوز أن يكون العامل فيه أَرِنِي لأن كيف للاستفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
أَوَلَمْ دخلت همزة الاستفهام على واو العطف، ولا يدخل شيء من حروف الاستفهام على حروف العطف إلا الهمزة لأنها الأصل في حروف الاستفهام.
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي اللام إما لام «كي» وهي متعلقة بفعل مقدر، وتقديره: ولكن سألتك ليطمئن قلبي، أو أرني ليطمئن قلبي، وإما لام الأمر والدعاء، كأنه دعا لقلبه بالطمأنينة، والوجه الأول أوجه.
سَعْياً مصدر منصوب في موضع الحال، أي يأتينك ساعيات، كقولهم: جاء زيد ركضا أي راكضا.
36
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ واذكر حين قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكّا في إحياء الله الموتى قط، ولا في قدرة الله، وإنّما طلب المعاينة لكيفية الإحياء لأن النفوس تحبّ الاطلاع على المجهول ورؤية ما أخبرت به، ولهذا
قال عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه الطبراني عن أنس.
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بقدرتي على الإحياء، والسؤال والجواب مع علمه تعالى بإيمان إبراهيم لتعليم السامعين. بَلى حرف جواب أي آمنت. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال.
فَصُرْهُنَّ أي قطعهنّ، وقيل: المعنى: أملهنّ إليك أي ضمهنّ واجمعهنّ إليك، وقوله:
إِلَيْكَ على تأويل التقطيع، متعلق بفعل «خذ» أي اجمعهنّ عندك ثم قطّعهن، واخلط لحمهن وريشهن، ثم وزّع أجزاءهنّ على مجموعة من الجبال، ثُمَّ ادْعُهُنَّ (نادهنّ) إليك، يَأْتِينَكَ سَعْياً مسرعات، طيرانا ومشيّا.
عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ في صنعه وتدبيره.
التفسير والبيان:
ونفّذ إبراهيم الخطّة ولم يعين الله تعالى الأربعة من أي جنس هي من الطّير، وقيل عن ابن عباس: أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا، وفعل بهنّ ما ذكر، وأمسك رؤوسهن عنده، ودعاهنّ، فتطايرت الأجزاء إلى بعضها، حتى تكاملت، ثم أقبلت إلى رؤوسها.
وقال مجاهد: كانت طاووسا وغرابا وحمامة وديكا «١»، فذبحهنّ، ثمّ فعل بهنّ ما فعل، ثمّ دعاهنّ، فأتين مسرعات، وهكذا يحيي الله الموتى بمجرد الأمر الإلهي:
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢]، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت ٤١/ ١١].
(١) البحر المحيط: ٢/ ٢٩٩
37
وخلاصة القصّة: كان إبراهيم عليه السلام محبّا للاستطلاع، فلما أوحى الله تعالى إليه أنه سيحيي الموتى ويحشرهم يوم القيامة، ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فأحبّ أن يرى ميتا عاد حيّا، فسأل الله ذلك، ليطمئن قلبه، فأمره الله تعالى أن يأخذ أربعة طيور، فيذبحها، ويفرّق أجزاءها على الجبال، ثم يدعوها إليه، وحينئذ يرى كيف يعود الميت حيّا، ففعل ودعا الطيور إليه، فجاءت صحيحة، كأنها لم تمت أصلا.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه القصة دليل آخر على إثبات قدرة الله على إحياء الموتى، مهما تلاشت أجزاؤها، وتفتت ذراتها، وتطاول الزمان على موتها. ولم يكن إبراهيم عليه السلام شاكّا في القدرة الإلهية على ذلك، وإنما ليثبت الاعتقاد بالتجربة الحسيّة أو الخبر والمعاينة، وهذا يشير إلى أهمية العلم التجريبي، والاختبارات العملية، لمعرفة كيفية تركيب الأشياء.
ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشّك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث، وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل، فقال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الإسراء ١٧/ ٦٥]، وقال الشيطان: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟! وإنما سأل إبراهيم عليه السلام أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: أَرِنِي كَيْفَ طلب مشاهدة الكيفية، وليس اختبار القدرة الإلهية على الإحياء أو الإنشاء.
ثم إنه طلب طمأنينة القلب: وهي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد،
38
ليتبيّن الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا.
ولقد ذهبت كلمة إبراهيم مثلا بين الناس عند التصديق بالشيء، وطلب التأكّد من حصول الفعل، فيطلب الشخص من غيره ما يؤكد الوعد أو القول أو الفعل قائلا: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي مع توافر الثقة والائتمان.
وطلب إبراهيم وجيه، وبخاصة في عصرنا، حيث كثرت الشكوك، وسخر بعض الناس من احتمال بعث الأجساد والأرواح التي مات أصحابها في البرّ والبحر والجوّ، على مدى مرور آلاف السنين، وكثرة ملايين البشر من بدء الخليقة إلى يوم القيامة، فكان هذا الطلب في محله ليخرس الألسنة، ويطمئن الأفئدة، ويزيل الشكوك في المعتقدات.
وهو أيضا مثال ثالث لولاية الله تعالى للمؤمنين، وإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور، وهو كالذي قبله من آيات البعث. وكان المثال الأول: وهو محاجّة من آتاه الله الملك لإبراهيم، للدّلالة على وجود الله، والمثال الثاني: إماتة العزير مائة عام، والمثال الثالث: إماتة أربعة من الطيور. والحكمة في ذكر مثال واحد في إثبات الرّبوبيّة ومثالين في إثبات البعث أن منكري البعث أكثر من منكري الألوهيّة.
وأرشد قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه. وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن تأديب للمؤمنين كافة، ومنع لهم عن التّفكر في كيفية التّكوين، وشغل نفوسهم بما استأثر الله تعالى به، فلا يليق بهم البحث عنه.
والحكمة في اختيار الطير على غيره: أن الطّير أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان، ولسهولة إجراء التجربة عليها، ولأن الطير أكثر نفورا من الإنسان في الغالب، فإتيانها بمجرد الدعوة أبلغ في المثل.
39
وأما كون الطيور أربعة فيفوّض فيه أمره إلى الله تعالى لأن العدد تعبدي غالبا، وقيل: إنه الموافق لعدد الطبائع أو لعدد الرياح، وهو ليس بشيء، كما جاء في تفسير المنار.
ثواب الإنفاق في سبيل الله وآدابه
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٤]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
الإعراب:
أَنْبَتَتْ جملة فعلية في موضع جر صفة «لحبة». فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ قول: مبتدأ، ومغفرة: معطوف عليه، وخير: خبر.
40
يَتْبَعُها أَذىً جملة فعلية في موضع جر صفة صَدَقَةٍ.
كَالَّذِي يُنْفِقُ الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف وتقديره: إبطالا كالذي.
رِئاءَ النَّاسِ منصوب: إما لأنه مفعول لأجله، أو لأنه حال، أو صفة لمصدر محذوف تقديره، إنفاقا.
كَمَثَلِ في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ وهو: مثله. وصفوان: إما مفرد أو اسم جنس واحده صفوانة، مثل درّ ودرّة. وقال عَلَيْهِ بالتذكير لأن اسم الجنس مذكر.
عَلَيْهِ تُرابٌ جملة اسمية في موضع جر لأنها صفة لصفوان.
البلاغة:
كَمَثَلِ حَبَّةٍ تشبيه مرسل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه، شبه تعالى الصدقة التي تنفق في سبيله بحبة زرعت وباركها الله، فأصبحت سبعمائة حبّة.
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ مجاز عقلي إذا أسند الإنبات إلى الحبة، مع أن المنبت هو الله تعالى.
مَنًّا وَلا أَذىً ذكر العام بعد الخاص لإفادة الشمول لأن الأذى أعمّ من المنّ.
كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فيه تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ صفة نفقات المنفقين في سبيل الله. سَبِيلِ اللَّهِ ما يؤدي إلى مرضاته تعالى.
حَبَّةٍ واحدة الحبّ الذي يزرع. واسِعٌ فضله. عَلِيمٌ بمن يستحقّ مضاعفة الثواب.
مَنًّا المنّ: أن يذكر المحسن إحسانه على المنفق عليه، ويظهر تفضله عليه، فيقول: قد أحسنت إليه وجبرت حاله. أَذىً الأذى: التّطاول والتّفاخر بالإنفاق، وذكره إلى من لا يحبّ اطّلاعه عليه، أو التّبرّم منه.
لَهُمْ أَجْرُهُمْ ثواب إنفاقهم. يَحْزَنُونَ في الآخرة. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام حسن وردّ جميل على السائل. وَمَغْفِرَةٌ ستر وتجاوز لإلحاحه في السؤال وغيره.
خَيْرٌ أنفع وأكثر فائدة. غَنِيٌّ عن صدقة العباد. حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي. لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أي أجورها كإبطال نفقة المرائي للناس.
41
رِئاءَ النَّاسِ مراءة لهم وسمعة، أي يفعل الخير مباهاة أو لأجل أن يروه فيحمدوه.
صَفْوانٍ حجر أملس. وابِلٌ مطر شديد. صَلْداً صلبا أملس ليس عليه تراب أو غبار. لا يَقْدِرُونَ استئناف كلام لبيان مثل المنافق المنفق رئاء الناس. وجمع الضمير باعتبار معنى الذي، والمراد لا يجدون ولا يملكون شيئا. مِمَّا كَسَبُوا عملوا، أي لا يجدون له ثوابا في الآخرة، كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه، لإذهاب المطر له.
سبب النزول:
قال الكلبي: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال:
كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت».
وأما عثمان رضي الله عنه، فقال: عليّ جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهّز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدّق برومة ركية كانت له على المسلمين «١»، فنزلت فيهما هذه الآية.
وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رافعا يده يدعو لعثمان، ويقول: «يا ربّ، إن عثمان بن عفان رضيت عنه، فارض عنه» فما زال رافعا يده حتى طلع الفجر، فأنزل الله تعالى فيه: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية «٢».
(١)
وفي رواية: ووضع بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألف دينار، فصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقلّبها ويقول: «ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم».
(٢) أسباب النزول للنيسابوري: ص ٤٧- ٤٨، تفسير القرطبي: ٣/ ٣٠٣ [.....]
42
المناسبة:
أثبتت الآيات السابقة أمر البعث، وأن الناس يبعثون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، وذكر هنا فضيلة الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، مثل نشر العلم ومحاولة القضاء على الجهل والفقر والمرض، وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله (أي دين الإسلام) هي العليا، فمن جاهد بعد هذا البرهان على البعث الذي لا يأتي به إلا نبيّ، فله في جهاده الثواب العظيم.
وقد رغّب القرآن الكريم في مواضع عديدة بالإنفاق لأنه وسيلة إغناء وتحقيق رفاه للجميع، وواسطة متعيّنة لصون عزّة الأمة وكرامتها ودحر عدوان المعتدين عليها، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذّل والاستعباد، وتكالبت عليها الأمم،
روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ زد أمتي» فنزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ربّ زد أمتي» فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فأبان تعالى أن صفة نفقات المنفقين أموالهم في طاعة الله تعالى وابتغاء رضوانه وحسن مثوبته كنشر العلم والجهاد وإعداد السلاح والحج والدفاع عن الوطن والأهل، كصفة حبة زرعت في أرض خصبة، فأنبتت سبع سنابل، في كلّ سنبلة مائة حبة، وقد ثبت لدى متخصصي الزراعة أن الحبة الواحدة من قمح أو أرز أو ذرة مثلا لا تنبت سنبلة واحدة، بل أكثر، قد تصل إلى أربعين أو ست وخمسين أو سبعين، وأن السنبلة قد تشتمل على أكثر من مائة حبة، وقد أنبتت فعلا مائة
43
وسبع حبات. وهذا تصوير لمضاعفة ثواب المنفق.
وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي بحسب إخلاصه في عمله، فيزيده أكثر من ذلك، والله تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحدّ عطاؤه، ففضله واسع كثير، أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها.
وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة لأن التحديد والتعداد يظل فيه قصور، وأما عدم التحديد بحدّ فيشير إلى احتمال النمو والبركة والزيادة. وفيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزّ وجلّ لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السّنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.
روى ابن ماجه وابن أبي حاتم الحديث الأول عن علي وأبي الدّرداء، والثاني عن عمران بن حصين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة، ومن غزا في سبيل الله، وأنفق في جهة ذلك، فله بكل درهم سبعمائة درهم»، ثم تلا هذه الآية: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ.
وروى الإمام أحمد عن أبي عبيدة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أنفق نفقة في سبيل الله، فسبع مائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو ماز أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنّة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عزّ وجلّ ببلاء في جسده، فهو له حطة» وروى النسائي بعضه في الصوم.
ومن شروط الإنفاق وآدابه لاستحقاق هذا الثواب في الآخرة: ألا يتبعوا ما أنفقوا أو بذلوا منّا على الفقير بأن يحاسبه على ما أعطاه ويظهر تفضّله عليه، ولا أذى أو ضررا بأن يتطاول عليه ويطلب جزاء عمله. فهؤلاء الباذلون الذين
44
لا يمتنون ولا يؤذون من أحسنوا إليهم لهم ثواب كامل لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس، ولا هم يحزنون حين يحزن الناس البخلاء الذين لا ينفقون شيئا في سبيل الله، فيندمون، كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّأَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون ٦٣/ ١٠].
والكلام الحسن، والرّد الجميل على السائل وعدم الصدقة، وستر ما يقع منه من إلحاف في السؤال وغيره، خير للسائل والمسؤول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت للأخذ بيد الضعيف، وتخفيف حدّة الحسد والحقد على الأغنياء، ولتحصين مال الغني من السرقة والنهب والضياع والمنّ والأذى يخرجها عن هذه الغاية السامية التي شرعت لها، والله غني عن صدقة عباده، فيستطيع أن يرزق الجميع، حليم لا يعجل بعقوبة المسيء، كمن يمنّ أو يؤذي، ولكنها الحكمة البالغة التي مدارها الابتلاء والاختبار، ومعرفة من يجاهد نفسه الشحيحة، فيحملها على البذل وتنفيذ التكاليف الإلهية عن رضا وطيب خاطر، وقد شرع الله الصدقة سبيلا لكسب المودّة، وجلب المحبّة، وتأكيد الصلة والتعاطف والتعاون بين الجميع.
ومن أجل استئصال طبيعة المنّ والأذى في نفوس الناس، أكّد سبحانه ما أخبر به من صفات المستحقين للثواب العظيم وهو عدم إتباع صدقاتهم بالمنّ والأذى، وأن الأذى من شوائب الصدقة المكروه الذي يسقط الأجر والثواب، أكّد ذلك بخطاب المؤمنين بصفة الإيمان التي تدعو إلى التقيّد بالأمر الإلهي، فنهاهم وحرم عليهم المنّ والأذى لأن صفاء الصدقة وجعلها خالصة لله أدعى لقبولها واستحقاق ثوابها.
ولأن من يتبع صدقته بمنّ أو أذى يشبه حال من ينفق ماله رياء وسمعة، لأجل أن يحمده الناس، وليقال عنه: إنه كريم جواد، ونحو ذلك من مقاصد
45
الدّنيا الفانية، لا لابتغاء رضوان الله، وترقية شؤون الأمة، وهذا المرائي في الواقع لا يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا، حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا، ومثله الذي يمنّ ويؤذي السائل.
وصفة عمل كل من المرائي والذي يمنّ ويؤذي كصفة تراب على حجر أملس، نزل عليه مطر شديد، فأزال التراب وترك الحجر أملس لا شيء عليه، أي أنه لا ثمرة ولا بقاء لعمله، وإنما يضمحل ويتبدد بالظواهر الطارئة، ويبقى فارغا لا أثر لعمله، ولا ينتفع بشيء مما فعل لا في الدّنيا ولا في الآخرة، أما في الدّنيا فلأنّ المنّان بغيض إلى الناس، والمرائي مذموم منبوذ لدى المجتمع، وأما في الآخرة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه، والرّياء ومثله المنّ والأذى ينافي الإخلاص، وهو نوع من الشرك بالله إذ هو الشرك الخفي فإن صاحبه يقصد به غير الله.
والله لا يهدي القوم الكافرين لما فيه خيرهم ورشادهم ما داموا على الكفر، أو لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر «١»، وأما الإيمان فهو الذي يهدي صاحبه إلى الإخلاص والخير وابتغاء وجه الله، والتأدّب بالإنفاق بما أدّب الله به أهل الإيمان. وهذا يشير إلى أنّ كلّا من الرياء والمنّ من صفات الكافرين لا من صفات المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- تضمنت الآية بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله، والتحريض والحثّ على الإنفاق في سبيل الله، إما عن طريق حذف مضاف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة، وإما بطريق آخر: مثل الذين
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣١٠
46
ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة، فأنبتت الحبة سبع سنابل، فشبه المتصدّق بالزارع، وشبّه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة.
٢- وهي تشمل الإنفاق المندوب إليه، والواجب أيضا لأن سبل الله كثيرة، ولا حاجة للقول: بأنها نزلت قبل آية الزكاة، ثم نسخت بآية الزكاة لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كلّ وقت.
٣- وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، ثم دلّ قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ على أنه تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف، بدليل حديث ابن عمر المتقدم في مناسبة الآية.
٤- وفي هذه الآية دليل على أن اتّخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتّخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل، فقال:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ.
وفي صحيح مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له صدقة»
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض»
يعني الزرع. والزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وغرس الأشجار في معناها.
٥- الإنفاق في سبيل الله دون منّ ولا أذى سبب لرضوان الله، كما رضي الله ورسوله عن عثمان الذي جهز جيش العسرة، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
فقال: «ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان».
وهذا الرضا الإلهي والثواب العظيم إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منّا ولا أذى
47
لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدقة، كما أخبر تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى.. وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا، قال تعالى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان ٧٦/ ٩]. ومن طلب بعطائه الجزاء والشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء. قال ابن عباس: في قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر ٧٤/ ٦]، أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.
٦- المنّ من الكبائر، والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك، ونعشتك ونحوه، وقال بعضهم: المنّ:
التحدّث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ودليل كونه من الكبائر:
ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجّلة تتشبه بالرجال، والدّيوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقّ لوالديه، والمدمن الخمر، والمنّان بما أعطى» «١».
والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ لأن المنّ جزء من الأذى، لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
والمن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها: وهو تخفيف بؤس المحتاجين ودفع غائلة الفقر عنهم.
٧- جعل الله تعالى ثواب النفقة في سبيله أمورا ثلاثة: ضمن الله له الأجر،
(١) وروى القسم الأخير أيضا ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه.
48
والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته في المستقبل، وأذهب عنه الحزن أو الألم على ما سلف في الدنيا لأنه يغتبط بآخرته، فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وفيها دلالة لمن فضّل الغنى على الفقر.
٨- القول المعروف خير من صدقة الأذى، والقول المعروف: هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله. وهذا فيه أجر، ولا أجر فيها،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم: «الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق»
أي يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى، ومعذورا إن منع، وهو نظير قوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الإسراء ١٧/ ٢٨].
وأيضا الفعل المؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والمغفرة: ستر سوء حالة المحتاج، أو التجاوز عن السائل إذا ألحّ وأغلظ وجفا.
ودلت آية قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ على مبدأ مهم عام في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».
٩- لا تقبل الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها، وعبر الله تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال. والمراد إبطال الصدقة المصحوبة بالمن أو الأذى، لا غيرها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، وإنما يقتصر الأمر على حرمان المرائي والمنان من الانتفاع بصدقته المشتملة على الرياء أو المن.
ودل قوله تعالى: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ على تسلية الفقراء، وتعليق قلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني الحليم، وتهديد الأغنياء وإنذارهم بأن لا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم.
49
١٠- كره الإمام مالك لهذه الآية: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه، لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منّته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، وأن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى.
وهذا بخلاف صدقة التطوع السرّية لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد، وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه، لكونه في حكم من لم يفعل.
١١- صاحب المن والأذى مثل المرائي المنافق، عمل كل منهما باطل لا فائدة فيه، ولا فضل له، ولا دوام لأثره. وإنما ينمحي بسرعة، كما تعصف الرياح بالغبار الموجود على الحجارة أو الصخور الصلبة الملساء، وتعد أفعال المرائي الواجبة أو الخيرية من صلاة وصيام وتطوع كلها باطلة، لا تجاه قلبه إلى من يرائيه، لا إلى الله الصمد الذي يستحق العبادة دون سواه.
ويوصف كل من المرائي والمنّان أيضا بأنه لا يؤمن حقا بالله ولا باليوم الآخر لأن قصده من فعله مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكره الناس أو ليقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية.
ولا يقدر المرائي الكافر والمانّ على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم، عند حاجتهم إليه إذ كان لغير الله، فعبّر عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب. وفي قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين، لا المؤمنين، فلا ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها، وعليهم تجنبها لأن الإخلاص لله هو من صفات الإيمان، قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة ٩٨/ ٥].
50
الإنفاق لمرضاة الله والإنفاق لغير وجه الله
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٥ الى ٢٦٦]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
الإعراب:
ابْتِغاءَ ووَ تَثْبِيتاً منصوبان على المفعول لأجله. كَمَثَلِ جَنَّةٍ الكاف في موضع رفع خبر مبتدأ وهو قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ. بِرَبْوَةٍ جار ومجرور في موضع جر صفة لجنة أَصابَها وابِلٌ جملة فعلية في موضع جر صفة لجنة أو لربوة. مِنْ نَخِيلٍ جار ومجرور في موضع رفع وصف لجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا إما مرفوع وصف ثان للجنة، وإما منصوب على الحال من جَنَّةٌ لأنها قد وصفت. لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ في موضع نصب على الحال من أَحَدُكُمْ. ووَ أَصابَهُ الْكِبَرُ عطف على قوله: فِيها. وقال الزمخشري: الواو للحال، لا للعطف، ومعناه: أن تكون له جنة، وقد أصابه الكبر.
البلاغة:
لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ذكر العام بعد الخاص وهو النخيل والعنب لأنهما أكرم الشجر وأكثرهما منافع فخصهما بالذكر تغليبا لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات. ويجوز أن يريد بالثمرات: المنافع التي كانت تحصل له فيها.
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ استعارة تمثيلية، وهي تشبيه حال بحال، لم يذكر المشبه
51
ولا أداة التشبيه، وإنما ذكر المشبه به فقط، ودلت القرائن على إرادة التشبيه. وهمزة أَيَوَدُّ للاستفهام الإنكاري أي ما يود أحد ذلك.
المفردات اللغوية:
وَمَثَلُ صفة نفقات المنفقين ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضوانه وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ تحقيقا للثواب أو تصديقا ويقينا بثواب الإنفاق من عند أنفسهم، ومن: ابتدائية، أي مبتدأ من أنفسهم، أو تمكين أنفسهم في مرتبة الإيمان والإحسان، بخلاف المنافقين المترددين في إيمانهم ولا يرجون الثواب، وقال ابن كثير: أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا
الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا»
أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه كَمَثَلِ جَنَّةٍ بستان بِرَبْوَةٍ مكان مرتفع من الأرض وابِلٌ مطر غزير فَآتَتْ أعطت أُكُلَها ثمرها ضِعْفَيْنِ مثلي ما يثمر غيرها فَطَلٌّ مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى: تثمر وتزكو، كثر المطر أم قل، فكذلك نفقات من ذكر، تزكو عند الله، كثرت أم قلت وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به.
أَيَوَدُّ أيحب، والهمزة للاستفهام الإنكاري والنفي، أي ما يود أحد ذلك.
وَأَعْنابٍ ثمر الكرم وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أولاد صغار لا يقدرون على شيء.
إِعْصارٌ ريح شديدة، تستدير في الأرض بشدة، ثم ترتفع إلى الجو حاملة الغبار، كهيئة العمود وهي الزوبعة نارٌ سموم شديدة، المراد: ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر «١» كَذلِكَ كما بين ما ذكر يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فتعتبروا. وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمانّ، في ذهابها وعدم نفعها، مع أن أحوج ما يكون لثوابها في الآخرة.
التفسير والبيان:
صفة نفقات المنفقين أموالهم طلبا لرضوان الله ومغفرته، وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، أو تثبيتا لأنفسهم على الإيمان
(١) قال الحسن البصري: الإعصار: ريح فيها برد شديد. وقال ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة، وكذا قال السدي: الإعصار: الريح والنار السموم، قال ابن عطية: ويكون ذلك في شدة الحر، ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها.
52
واليقين «١» بترويض أنفسهم على إنفاق المال الذي هو شقيق الروح، وبذل أشق شيء على النفس من سائر العبادات ومن الإيمان، صفة نفقاتهم الكثيرة والقليلة كبستان جيد التربة، ملتف الشجر، خصب النبات، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء، ينزل عليه المطر الغزير، فيثمر ضعفي غلته، وإذا نزل عليه مطر خفيف أثمر أيضا لجودة تربته وكرم منبته، وحسن موقعه.
وإنما وصف البستان بكونه في ربوة: مكان مرتفع، فلأن الشجر في الربوة أزكى وأحسن ثمرا. وإنما قال من أنفسهم أي مبتدأ منها دون عامل خارجي ليدل على أن إنفاقه نابع من ذاته ويقينه، وقناعته بجدوى فعله، ومجاهدته بخل النفس، كما قال تعالى: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال ٨/ ٧٢].
والمعنى في هذا التشبيه: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على بذل المال وفعل الخير أو التأكد من نيل الثواب يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا، وإن أصابه قليل أنفق بقدر طاقته، فخيره دائم وبره لا ينقطع، فهو محسن في كلا الحالين، ويجد ثمرة بذله على كل حال، فهو كالأرض الجيدة التربة الخصبة النبات تثمر مطلقا وتغل الخير، ونتاجها وفير دائما، سواء أصابها مطر كثير أو قليل.
(١) قال ابن عباس: معناه: تصديقا ويقينا، وقال قتادة: معناه: احتسابا من أنفسهم، وقال الشعبي والسدي وغيرهما: معناه: وتيقنا، أي أن نفوسهم لها بصائر، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. قال القرطبي: وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول غيرهم.
والخلاصة: أن لهذه الكلمة معنيين: إما التيقن من ثواب الله، وإما تثبيت النفس على الإيمان ومجاهدتها من أجل البذل في سبيل الله، أي تزكية النفس وتطهيرها من مرض البخل وحب المال، والمعنى الثاني أولى لأنه قال: من أنفسهم، ولم يقل: لأنفسهم، قال أبو حيان: (في البحر المحيط: ٢/ ٣١١) معناه أن من بذل ماله لوجه الله، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها.
53
والله لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ويجازي كلا من المخلص والمرائي بما يستحق.
هذا هو المثال الأول لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الرحمن وطلب رضوانه، والمثال الثاني لمن ينفق على عكس الأول في سبيل الشيطان والهوى أو لغير وجه الله. وبدأه تعالى بالإنكار والنفي لأن شأن المؤمن المخلص ألا يقصد ذلك، فهو مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي وجه الله، فإذا كان يوم القيامة، وجدها محبطة مبددة متلاشية، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنات وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنتعشهم، فهلكت بالصاعقة.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيمن ترون هذه الآية نزلت؟: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ... قالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر نفسك، فقال: ضربت مثلا بعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله «١».
وقال الحسن البصري: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، فجاءها الإعصار فأحرقها، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله، إذا انقطعت عنه الدنيا «٢».
وتوضيح هذا المثل: أتحب أيها المنفق لغير الله أن تكون لك جنة فيها
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣١٩
(٢) تفسير الكشاف: ١/ ٢٩٩
54
النخيل والأعناب ومختلف الأثمار، وتجري فيها الأنهار، فتسقيها، وقد علقت الآمال عليها، ورجوت أن تنتفع بها مع صغارك، وأنت في حال الكبر لا تقدر على الكسب، وهم لا يقدرون على شأنك وشأنهم، ولا مورد لك غير هذه الجنة، ثم أصابتها ريح السّموم «١» اللافحة بحرها أو بردها القارس، فأحرقتها وأبادت ثمرها.
هذا حالك إذ أنفقت مالك رياء، أو بالمن والأذى، لن تجد له أية فائدة في يوم القيامة، ولن تجد لعملك غير الحسرة والندامة، وأنت في ذلك اليوم الرهيب في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك، وثواب ما بذلت لأن إعصار الرياء، والمنّ والأذى بدّد كل ما فعلته من خير في الظاهر، وهو شر في الحقيقة والباطن.
ومثل هذا البيان الجلي الواضح يبين الله لكم الآيات ودلائل الشريعة وأسرارها وغاياتها وفوائدها لتتفكروا فيها، وتتعظوا بما اشتملت عليه من الأمثال والمعاني والعبر، وتنزلوها على المراد بها، فتقصدوا بنفقاتكم أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، دون أن يصاحبها رياء أو منّ وأذى، كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٣]. فقوله لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في العواقب، فتضعون نفقاتكم في مرضاة الله مع الإخلاص وقصد تثبيت النفس على فعل الخير المحض.
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيتين مثلان واضحان يوجبان التأمل والتفكر والمقارنة، ولا شك بأن كل مؤمن عاقل يختار الموقف الأول، فيجعل نفقته خالصة لوجه الله، لأنها هي التي تفيده وتحقق له الثواب يوم القيامة، ولا يغتر العاقل بمظاهر الدنيا الفانية وسمعتها وشهرتها الزائلة لأن كلام الناس في كل حال مؤذ ومضر، فإن راءى
(١) السموم: الريح الحارة، وتؤنث، وجمعها سمائم.
55
بعمله ذمّوه وحسدوه ومقتوه، وقد يتهمونه بالتهور والطيش إن كانت نفقته كثيرة، وإن مدحوه فلا قيمة ولا غناء لمديحهم لأن ما عند الله خير وأبقى أو أنفع وأخلد.
والله تعالى بكرمه وفضله ينمي نفقات المخلصين ويكافئهم بالمزيد، كالبستان الذي يثمر ضعفي ثمرته، تقريبا لأذهاننا،
أخرج مسلم ومالك وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فيربّيها كما يربّي أحدكم فلوه «١»، أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم».
وأما المنفق لغير وجه الله فيتلاشى فضل عمله سراعا في الدنيا، ولا يجد له ثمرة في الآخرة. روي عن ابن عباس وغيره أن هذا- أي الموقف الثاني- مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا، فأكثر فيه من الثمر، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء- يريد صبيانا بنات وغلمانا- فكانت معيشته ومعيشة ذرّيته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار، فأحرقته، ولم يكن عنده قوة، فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير، فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة، ليست له كرّة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عند من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنىّ عنه.
وقد دل تعليل الإنفاق بعلتين في آية: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. على أن نقصد بأعمالنا أمرين:
أولهما- ابتغاء رضوان الله لذاته، تعبدا له.
(١) الفلو: بضم الفاء وفتحها مع ضم اللام، وبكسرها مع سكون اللام: المهر الصغير.
56
وثانيهما- تزكية أنفسنا وتطهيرها من الشوائب التي تعوقها عن الكمال، كالبخل والمبالغة في حب المال، وتوطينها على البذل في سبيل الله.
والخلاصة: أن الله في الآية (٢٦٥) ضرب المثل للمخلصين في الإنفاق وفي الآية (٢٦٦) ضرب مثلا آخر للمرائين، والمؤذين والمنّانين، والقصد هو المقارنة والمقابلة بين حال الفريقين، وأن المثل الثاني ليس خاصا بالآخرة أو المرائي، وإنما ينطبق أيضا على حال الدنيا فيشمل المنان والمؤذي.
إنفاق الطيب من الأموال لا الخبيث
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
الإعراب:
تَيَمَّمُوا أصله تتيمموا، فكرهوا اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد وهما التاءان فسكنوا التاء الأولى، وأدغموها في الثانية تُنْفِقُونَ حال من ضمير تيمموا إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أن وصلتها: في موضع نصب بآخذيه لأن التقدير: بأن تغمضوا، فلما حذفت الباء اتصل بآخذيه.
البلاغة:
تُغْمِضُوا فِيهِ مجاز مرسل يراد به التساهل لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك، أو تشبيه على سبيل الاستعارة.
المفردات اللغوية:
أَنْفِقُوا زكوا مِنْ طَيِّباتِ جياد وحسان، مفرده طيب أي جيد مستطاب، وضده
57
الخبيث المستكره ما كَسَبْتُمْ من المال وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ومن طيبات ما أنبتنا من الحبوب والثمار وَلا تَيَمَّمُوا تقصدوا الْخَبِيثَ الرديء وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي الخبيث لو أعطيتموه في حقوقكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ بالتساهل وغض البصر، فكيف تؤدون منه حق الله؟! غَنِيٌّ عن نفقاتكم حَمِيدٌ مستحق للحمد على نعمه الكثيرة.
سبب النزول:
روى الحاكم والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن البراء بن عازب، قال: نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الناس ممن لا يرغب في الخير، يأتي الرجل بالقنو فيه الشّيص والحشف «١»، وبالقنو قد انكسر، فيعلّقه «٢»، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ.
وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهل بن حنيف قال: كان الناس يتيممون شر ثمارهم، يخرجونها من الصدقة، فنزلت: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ.
وروى الحاكم عن جابر قال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزل القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشترون الطعام الرخيص، ويتصدقون به، فأنزل الله هذه الآية.
(١) القنو: العذق وهو عنقود النخلة والشماريخ مثمرة. والشيص: التمر الذي لا يشتد نواه، وإنما يتشيّص إذا لم تلقح النخل. والحشف: التمر يجف قبل النضج، فيكون رديئا وليس له لحم.
(٢) على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول صلّى الله عليه وسلّم، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف، وهو يظن أنه جائز عنه.
58
المناسبة:
بيّن الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ما يجب أن يتصف به المنفق عند الإنفاق من الإخلاص لله، وقصد تزكية النفس، والبعد عن الرياء، وما يجب أن يتحلى به بعد الإنفاق من البعد عن المن والأذى.
ثم بين تعالى هنا صفة المال المبذول: وهو أن يكون من جيد الأموال.
التفسير والبيان:
يا من اتصفتم بالإيمان آمركم أن تنفقوا الطيب الجيد من الأموال، سواء أكان نقودا أم ماشية أم حبوبا وزروعا أم سلعا تجارية وغيرها، كالمعادن والكنوز والركاز (دفين الجاهلية)، كقوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران ٣/ ٩٢] وأنهاكم أن تقصدوا إلى الخبيث الرديء من أموالكم، فتنفقونه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يقبل ما تكرهه نفوسكم.
والخبيث ينطلق على معنيين: أحدهما- ما لا منفعة فيه، كما
في حديث الشيخين: «كما ينفي الكير خبث الحديد»
والثاني- ما تنكره النفس، وهو مقصود الآية: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ.
وكيف يروق لكم أن تتصدقوا بالخبيث الرديء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم إلا أن تتساهلوا وتتسامحوا فيه تساهل من غض بصره عن شيء فلم ير العيب فيه، ولو كان لأحدكم حق أو دين، فجاءكم دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! فحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه.
واعملوا أن الله- وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها- فهو غني عنها وعن إنفاقكم وغني عن جميع خلقه، وإنما يأمركم به لمنفعتكم، ولتحقيق المساواة بين الغني والفقير، وليختبركم فيما تنفقون، فلا تتقربوا إليه بالرديء، وهو أيضا
59
مستحق للحمد والشكر على جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ونعمه. ومن الحمد اللائق بجلاله: إنفاق الطيب مما أنعم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآية: وجوب اختيار الطيب الجيد من مكاسب الأموال عند إنفاقها في سبيل الله، سواء أكانت من الزكوات الواجبة أم من الصدقات المندوبة لأن القصد هو التقرب إلى الله تعالى، وادخار الثواب على فعل الخير، وذلك لا يتحقق إلا بجياد الأموال وأطيبها.
والآية خطاب لجميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم «١»، واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السّلمانيّ وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد.
وقال البراء بن عازب والحسن البصري وقتادة: إن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد.
والظاهر أن الآية عامة تشمل الزكاة والصدقة، لكن الزكاة الأمر فيها على الوجوب، ومخصوصة بالقدر المفروض، وأما التطوع فالأمر فيه على الندب، وليس مخصوصا بقدر معين، فيجوز بالقليل وبالكثير، لكن يختار الجيد، وليس القصد هو الممتاز، فهو الأولى، ولكن الحد الأدنى المطلوب هو الوسط، كما قرر الفقهاء في الزكاة.
ودلت الآية على أن للوالد أن يأكل من كسب ولده لأن
النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أولادكم من طيّب أكسابكم، فكلوا من أموال أولادكم هنيئا» «٢».
واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣١٦
(٢) رواه البزاز بلفظ: «أولادكم من هبة الله لكم، فكلوا من كسبهم».
60
على وجوب زكاة العشر فيما سقي بالمطر، ونصف العشر فيما سقي بالبئر ونحوه مما فيه كلفة، في كل ما تخرجه الأرض من أصناف زراعية، قليلا كان أو كثيرا، من غير تقدير بنصاب، ولا تخصيص بنوع معين من الأقوات، فتجب الزكاة عنده في الزروع والثمار كلها، ويعضده
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية «١» نصف العشر».
وأجيب من قبل الجمهور: بأنه لا متعلق له من الآية لأنها إنما جاءت لبيان محل الزكاة، لا لبيان نصابها أو مقدارها،
وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم الأنصبة بقوله فيما رواه ابن ماجة: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة» «٢».
وهناك أدلة أخرى للفريقين «٣».
ويلاحظ أن الآيات التي تطالب بالإنفاق تختم عادة أو غالبا إما بقوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أو بقوله: وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ وذلك يرشدنا إلى أن النفقة جزء مما أنعم الله به من رزق على العباد، وأنه تعالى سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة، ويخلف المبذول على المنفق لأنه واسع الفضل والرحمة والعطاء، ويرشدنا أيضا إلى أن القصد هو اختبار الناس فهو لا يأمرهم بالصدقة حين العوز، وإنما حال السعة واليسر، فكل إنسان مكلف حسب طاقته وقدرته على الإنفاق، وهو سبحانه محمود على كل حال، وعلى جميع نعمه،
(١) الدالية: الغرافة التي تديرها البقرة أو الجمل ونحوهما من الدواب، والناعورة التي يديرها الماء. والحديث رواه الجماعة إلا مسلما عن ابن عمر.
(٢) الذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشر، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير:
أذواد. ونصاب الفضة: مائتا درهم، والدرهم العربي (٩٧٥، ٢ غم)، والخمسة الأوسق تعادل (٦٥٣ كغ). [.....]
(٣) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ١/ ٤٥٨، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٢٣٥ وما بعدها.
61
ومقتضى الحمد والشكر تذكر المحتاج ومواساة الفقير والمسكين، ومما يرغب في النفقة أن اليد العليا- المنفقة- خير من اليد السفلى- الآخذة.
تخويف الشيطان من الفقر والفهم الصحيح للقرآن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٨ الى ٢٦٩]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
الإعراب:
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ مبتدأ، وجملة يَعِدُكُمُ خبره، وسمي شيطانا (فيعالا) من شطن أي بعد لأنه بعد عن رحمة الله، وقيل في وجه ضعيف: على وزن فعلان: من شاط يشيط: إذا احترق.
البلاغة:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وفي قراءة «تشاء» على الخطاب، وهو التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب.
المفردات اللغوية:
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يخوّفكم من الفقر إن تصدقتم، فتمسكون ما بأيدكم، فلا تنفقوه في مرضاة الله، والفقر: سوء الحال وضيق ذات اليد. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي يغريكم بالبخل ومنع الزكاة وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ على الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ صفحا من الله عن ذنوبكم. وَفَضْلًا رزقا وخلفا منه وَاللَّهُ واسِعٌ فضله عَلِيمٌ بالمنفق.
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ العلم النافع المؤدي إلى العمل، المؤثر في النفس، واختلف العلماء في
62
الحكمة: فقال السدي: هي النبوة. وقال ابن عباس: هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وغريبه ومقدّمه ومؤخره (أي العلم بأصول الفقه). وقال قتادة ومجاهد: الحكمة: هي الفقه في القرآن. وقال مجاهد: الإصابة في القول والفعل. وقال ابن زيد: الحكمة: العقل في الدّين. وقال مالك بن أنس: الحكمة: التفكر في أمر الله والاتّباع له، أو هي طاعة الله والفقه في الدين والعمل به. وكل هذه الأقوال تشترك في أن الحكمة: هي الفهم الصحيح والعلم النافع واتباع المعلوم المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة «١».
خَيْراً كَثِيراً لأن الحكمة أوصلته إلى السعادة الأبدية وَما يَذَّكَّرُ يتعظ، وأصله:
يتذكر، فأدغم التاء في الذال أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
التفسير والبيان:
الشيطان عدو الإنسان من قديم، وهو الذي أقسم فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص ٣٨/ ٨٢- ٨٣] يوسوس للناس ويخوفهم من الفقر إذا تصدقوا أو أنفقوا في سبيل الله ويقول لهم: إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، ويحرضهم ويغريهم على البخل والإمساك إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب:
البخيل. والوعد: يستعمل في الخير والشر، قال الله تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج ٢٢/ ٧٢]. وسمي ذلك التخويف وعدا: مبالغة في الإخبار بتحقق وقوعه، وكأن مجيئه بحسب إرادته، مع العلم بأن الوعد: هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر، والشيطان لم يقل: إني سأفقركم.
ويوضح هذا التخويف:
ما رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمّة «٢» بابن آدم، وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله، فليحمد الله، ومن وجد
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣٢٠
(٢) اللّمّة: المس والشيء القليل من الجن، والمراد: الخطرة التي تقع في القلب بوسوسة الشيطان أو الملك.
63
الأخرى، فليتعوذ من الشيطان» ثم قرأ: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا «١».
والله تعالى في مقابلة إغراءات الشيطان ووساوسه وأمره بالفحشاء (البخل) يعدكم على لسان نبيكم مغفرة بسبب الإنفاق لذنوبكم، وتعويضا وإخلافا في الدنيا لما أنفقتموه، والفضل: المال والخير، والله واسع الرحمة والفضل، فيحقق ما وعدكم به، وهو عليم بما تنفقون، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء، كما قال تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ ٣٤/ ٣٩]
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا»
أي أن الأول يعوضه الله بتسهيل أسباب الرزق له، والآخر يذهب ماله.
والله تعالى يؤتي الحكمة من يشاء من عباده، وليست الحكمة على الصحيح النبوة، ولكنها كما قال الجمهور: العلم والفقه والقرآن، فهي لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، وذلك يرشد إلى تمييز الحقائق من الأوهام، والتفرقة بين الوسواس والإلهام. وآلة الحكمة: العقل، فمن عرف ما في القرآن من أحكام وأسرار، وأدرك بسلامة عقله ما في الإنفاق من فوائد تعود على الأمة بالخير وعلى المنفق بالثواب الجزيل، لم يتأثر بوساوس الشيطان، ولم يتردد في البذل والإنفاق في سبيل الله.
عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» «٢».
ومن يوفقه الله للعلم النافع، وعلى التخصيص فهم القرآن والدين، ويرشده
(١) وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن غريب، والنسائي، وابن حبان في صحيحة.
(٢) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
64
إلى هداية العقل، فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة، وأدرك الأمور على حقيقتها.
ولا يتعظ بالعلم ويتأثر بالموعظة وينتفع بالتذكار إلا كل ذي عقل سليم يفهم به الخطاب الشرعي ومعنى الكلام الإلهي.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية متصلة بما قبلها، فهي تحث المؤمن على الإنفاق في سبيل الله:
سبيل الخير لأن الله وعد بالمغفرة جزاء الإنفاق، وبالإخلاف والتعويض والإمداد بالفضل الإلهي من المال والرزق، والله تعالى يعطي من سعة، فلا تنفد خزائنه، ويعلم حيث يضع ذلك، ويعلم الغيب والشهادة.
وتحذر الآية من وساوس الشياطين، فإن للشيطان مدخلا في تثبيط الإنسان عن الإنفاق في سبيل الله، وهو مع ذلك يأمر بالبخل والفحشاء وهي المعاصي، والإنفاق فيها.
ومن أعطي الحكمة (العلم النافع الصحيح) وفهم القرآن، فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع كتب علم الأولين من الصحف وغيرها. والآية تحض على العلم وترفع شأن الحكمة، وتهدي إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له. قال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم: فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا لأن الله تعالى سمى الدنيا متاعا قليلا، فقال: قُلْ: مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء ٤/ ٧٧] وسمّى العلم والقرآن خَيْراً كَثِيراً.
65
صدقة السر وصدقة العلن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
الإعراب:
فَنِعِمَّا أصله نعم ما وهي لغة هذيل، ونعم فعل ماض مخصوص للمدح، وفيه ضمير مرفوع، والتقدير: نعم الشيء شيئا إبداؤها، وإبداؤها: هو المقصود بالمدح وهو مرفوع لأنه مبتدأ، وما قبله: الخبر، ثم حذف (إبداء) وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فصار الضمير المجرور المتصل ضميرا مرفوعا منفصلا وهو هِيَ مرفوعا بالابتداء، لقيامه مقام المبتدأ. و «ما» في موضع نصب على التمييز. يُكَفِّرُ بالرفع: استئناف وتقديره: ونحن نكفّر ومِنْ سَيِّئاتِكُمْ: من للتبعيض، أي شيئا من سيئاتكم. وقيل: من زائدة، والأكثرون على أنها ليست زائدة لأن «من» لا تزاد في الإيجاب، وإنما تزاد في النفي، نحو: ما جاءني من أحد.
البلاغة:
يوجد جناس اشتقاق بين «أنفقتم ونفقة» وبين «نذرتم ونذر». ويوجد طباق بين «تبدوا وتخفوها».
لمفردات اللغوية:
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أديتم من زكاة أو صدقة أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ النذر: لغة: العزم على التزام شيء خاص، وشرعا: التزام طاعة تقربا إلى الله تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ تظهروا الصدقات النوافل أو التطوعات فَنِعِمَّا هِيَ الأصل: فنعم ما هي، بمعنى شيئا إبداؤها وَإِنْ تُخْفُوها تسروها خير لكم من إبدائها وإيتائها الأغنياء والضمير يعود على الصدقات. أما صدقة الفرض (الزكاة) فالأفضل إظهارها ليقتدى به ولئلا يتهم المزكي بالمنع، وإيتاء الفقراء: متعين.
66
سبب النزول:
قال ابن أبي حاتم في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.. الآية أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، أما عمر فجاء بنصف ماله، حتى دفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا عمر؟» قال: خلفت لهم نصف مالي. وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟» فقال: عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبابكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط، إلا كنت سابقا «١».
وقال الكلبي: لما نزل قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية، قالوا:
يا رسول الله، صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
المناسبة:
بعد أن رغب تعالى في الإنفاق في سبيله، أوضح أن الله يعلم مصرف كل صدقة، سواء أكانت في طاعة أم في معصية، وخيرنا بين إخفاء صدقة التطوع وإظهارها، ولكن الإخفاء هو الأفضل، ويؤيده
حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» «٣»
فكان موضوع الآية الترغيب في إخفاء الصدقات بعدا عن الرياء.
(١) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٢٣
(٢) أسباب النزول للنيسابوري: ص ٤٨- ٤٩
(٣) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة.
67
التفسير والبيان:
ما أنفقتم من نفقة، سواء كانت لله أو للرياء أو كانت مصحوبة بالمن أو الأذى أو لم تصحب بهما أو نذرتم نذرا في طاعة (وهو نذر التبرر) أو في معصية (وهو نذر اللجاج والغضب)، فإن الله عالم به ومجاز عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا ترغيب في الخير وترهيب من الشر. وما للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بأن بخلوا بالمال ولم يتصدقوا من أنصار ينصرونهم يوم القيامة، كقوله: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر ٤٠/ ١٨].
وإن تظهروا صدقات التطوع بقصد حمل الناس على فعلها فنعم ما فعلتم، وإن تخفوها، ولم تعلموا بها أحدا، وتعطوها الفقراء، فهو خير لكم بعدا عن الرياء والسمعة، ويمحو عنكم بالصدقة بعض ذنوبكم لأن الصدقة لا تكفر جميع الذنوب أو السيئات.
والله خبير وبصير بكل عمل تعملونه وبكل دقائق الأمور، فهو يعلم السر وأخفى، فيجازيكم على أعمالكم، واحذروا الرياء والإنفاق لغير الله، فلا تخفى عليه نياتكم في الإبداء والإخفاء.
فقه الحياة أو الأحكام:
كانت العرب تكثر من النذور، فذكر الله تعالى النوعين: ما يفعله المرء تبرعا، وما يفعله نذرا أي بإلزامه نفسه.
ويخبر الله تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، ويجازي كل واحد بحسب فعله، خيرا أو شرا، وفي الآية معنى الوعد والوعيد، فمن كان خالص النية، ينفق في طاعة الله فهو مثاب، ومن أنفق رياء أو قرن صدقته بالمن أو الأذى ونحو ذلك، فهو ظالم، يذهب فعله هدرا، ولا يجد له يوم القيامة ناصرا فيه ينقذه من عذاب الله ونقمته. ولا فرق في
68
مشروعية نذر التبرر بين أن يكون بشرط أو بغير شرط، مثال الأول: أن يقول الناذر: لله علي أن أصوم أو أتصدق بكذا، ومثال الثاني: أن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بكذا.
وقد اتفق العلماء على وجوب الوفاء بنذر الطاعة، وحرمة فعل المعصية المنذورة، بدليل
ما أخرجه النسائي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «النذر نذران: فما كان من نذر في طاعة الله تعالى، فذلك لله تعالى، وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله تعالى، فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه، ويكفّره ما كفّر اليمين».
وأما نذر المباح كالأكل والركوب واللبس فيخير فيه في رأي جمهور الفقهاء بين الفعل والترك،
لخبر أبي داود: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى».
وأما المرأة التي نذرت أن تضرب الدف يوم قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقول الرسول لها:
أوفي بنذرك
، فإن فعلها صار من القرب، لسرور المسلمين بقدومه صلّى الله عليه وسلّم، وإغاظة الكفار، وإرغام المنافقين.
وذهب جمهور المفسرين إلى أن الآية (٢٧١) في صدقة التطوع، وفيها دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، وكذلك سائر العبادات: الإخفاء أفضل في تطوعها لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فمن تصدق لجهة عامة أو لمشروع خيري، أو لأي أمر عام مثلا، فلا بأس من إعلان صدقته أو مشاركته ومساهمته، لترغيب الناس، وللاقتداء به، وليكون أدعى للتسابق في الخيرات.
ويؤكد التخيير ما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر والحاكم عن معاذ: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة».
ويؤكد أفضلية الإسرار بصدقة التطوع ما ذكرناه وهو
69
ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة من حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ومنهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»
وروى أحمد وابن أبي حاتم عن أبي أمامة: «أن أبا ذرّ قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة سرّ إلى فقير، أو جهد من مقلّ، ثم قرأ الآية:
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ
وروى الطبراني مرفوعا: «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب»
.
ودليل إعلان الصدقة المفروضة: ما روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا.
وأما الصدقة الواجبة (الزكاة) : فأكثر العلماء على أن إظهارها أفضل من إسرارها لأن الفرائض لا يدخلها رياء، والنوافل عرضة لذلك،
أخرج مسلم في صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة
»
ومن هنا قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التّهمة. بل إن إظهار الفرائض أمر لا بد منه لإقامة شعائر الدين، وفيه الدلالة على قوة الإسلام، كما أن فيه الأخذ والعمل بمبدإ القدوة الحسنة.
وتجوز صدقة التطوع للمسلم والكافر، والبر والفاجر، والفقير والغني، لأن الله تعالى قال: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فقد أطلق كلمة الْفُقَراءَ ولم يقيدها بفقراء المسلمين، وجعل الخيرية في إعطائها للفقير، ولم يمنعها عن الغني،
وورد في الصحيحين: «في كل كبد حرّى رطبة أجر
»
أي أن رحمة جميع المخلوقات مدعاة للثواب. وأما الزكاة المفروضة وزكاة الفطر فهي خاصة بالمسلمين وبالفقراء، لقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
ولحديث معاذ حينما أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم واليا إلى اليمن: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» «١».
(١) رواه الجماعة عن ابن عباس.
70
والخلاصة: إن الصدقة الواجبة، والإنفاق في المصالح العامة كبناء المدارس والمشافي والدعوة إلى الدين والجهاد، ونفقة التطوع بقصد ترغيب الآخرين في التصدق ينبغي إعلانها، وهو أفضل من الإخفاء. وأما الصدقة على الفقراء لسد حاجاتهم فإسرارها أفضل من إعلانها، سترا لحالهم وحفظا لكرامتهم.
مستحقو الصدقات
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٤]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
الإعراب:
لِلْفُقَراءِ جار ومجرور: إما مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: الصدقات للفقراء، وإما منصوب لتعلقه بفعل: وَما تُنْفِقُوا في الآية السابقة، أي: وما تنفقوا من خير للفقراء، أو متعلق بمحذوف والمعنى اعمدوا للفقراء أو اجعلوها لهم. لا يَسْتَطِيعُونَ جملة فعلية حال
71
منصوب من ضمير أُحْصِرُوا. يَحْسَبُهُمُ جملة فعلية حال من الفقراء، وكذلك: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ويحتمل أن يكون ذلك كله حالا من ضمير أُحْصِرُوا ويحتمل أن يكون مستأنفا، فلا يكون له موضع من الإعراب. ومعنى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون ولا يلحفون.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ مبتدأ موصول، وتمت الصلة عند قوله: سرا وعلانية: وهما مصدران في موضع الحال من ضمير يُنْفِقُونَ. ثم أخبر عن المبتدأ بقوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ودخلت الفاء في خبر المبتدأ، لتضمن المبتدأ الموصول حرف الشرط، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الصلة جملة فعلية، ولم يدخل على عامل يغير معناه نحو ليت ولعل وكأن.
البلاغة:
وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ خبر بمعنى النهي، أي لا تطلبوا غير ثواب الله من أعراض الدنيا. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ إطناب بعد قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. ويوجد طباق بين قوله: بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقوله سِرًّا وَعَلانِيَةً.
المفردات اللغوية:
هُداهُمْ إدخال الناس في الإسلام، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الخير والله هو الهادي إلى الدخول في الإسلام، فالهدى نوعان: هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة وهو مختص بالله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ خَيْرٍ مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ثوابه لأنفسكم لا ينتفع به غيركم ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طلب مرضاته وثوابه أُحْصِرُوا منعوا وحبسوا في طاعة الله لجهاد أو تعلم علم يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يصل إليكم جزاؤه غير منقوص وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون منه شيئا، وهذه الجملة وجملة يُوَفَّ تأكيد للجملة الأولى:
فَلِأَنْفُسِكُمْ.
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً.. سفرا وسيرا في الأرض للكسب والتجارة والمعاش بسبب شغلهم عنه بالجهاد التَّعَفُّفِ إظهار العفة وترك السؤال بِسِيماهُمْ علامتهم من التواضع وأثر الجهد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون الناس أصلا شيئا، ولا يقع منهم إلحاف أي إلحاح: وهو أن يلازم السائل المسؤول حتى يعطيه بِهِ عَلِيمٌ خبير، مطلع عليه ومجاز عليه.
72
سبب النزول:
١- نزول الآية (٢٧٢) :
ورد في سبب نزولها روايات عديدة مضمونها واحد منها: ما رواه النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا «١» لأنسابهم من المشركين، فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية.
وروي أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم.
وقيل: حجت أسماء بنت أبي بكر، فأتتها أمها تسألها، وهي مشركة، فأبت أن تعطيها، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية، فأمر بالتصدق على كل من سأل من كل دين.
وروى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلما كثر فقراء المسلمين، قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدّقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.
وحكى الطبري أن مقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنع الصدقة إنما كانوا ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ.
(١) رضخ له: أعطاه قليلا.
73
والخلاصة: إن مضمون سبب نزول هذه الآية: أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك أو على المشركين أو نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من التصدق عليهم فنزلت الآية.
٢- نزول الآية (٢٧٣) :
نزلت في أهل الصّفّة «١» : وهم أربعمائة من المهاجرين، أرصدوا لتعلم القرآن والخروج مع السرايا «٢».
٣- نزول الآية (٢٧٤) :
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزلت هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، سِرًّا وَعَلانِيَةً، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ في أصحاب الخيل «٣» : وهم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله تعالى، ينفقون عليها بالليل والنهار، سرّا وعلانية، نزلت فيمن لم يرتبطها تخيلا ولا افتخارا.
وروي عن ابن عباس: أن هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ نزلت في علف الخيل. ويدلّ على صحة هذا
حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ارتبط فرسا في سبيل الله، فأنفق عليه احتسابا، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه، وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة».
(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٣٣٧
(٢) كان أهل الصفة من مهاجري قريش، ولم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفّة المسجد: وهي سقيفته، يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار، ويخرجون مع سرية بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
(٣) قال السيوطي: يزيد وأبوه مجهولان.
74
المناسبة:
أرشدت الآية السابقة المؤمنين إلى إعطاء الفقراء عامة، مسلمين وغير مسلمين، وصرحت هذه الآية بإباحة صدقة التطوع لغير المسلمين، سواء أكانوا مشركين أم من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لأن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر من خير الدنيا، وشأن المؤمن أن يتخلّق بأخلاق الله، وأن يكون خيره عاما للناس إشعارا بحبّ الخير والنّفع للبشرية، وإدلالا على توافر صفة الرحمة والمحبة في قلب المسلم لكل إنسان، وإبعادا للعصبية الدّينية التي من شأنها التهديم والتفريق والفتنة، وزرع الأحقاد والضغائن، والتنفير من قبول الإسلام ذاته القائم على التسامح، وترك أمر الهداية للدين لله تعالى، فإن الهداية من الله، وتقتضي الشفقة إعطاء المحتاج أيّا كان دينه.
التفسير والبيان:
ليس عليك أو لا يجب عليك يا محمد أن تقود الناس إلى هداية الإسلام كرها، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الدين فقط، فتبشر من أطاع بالجنة، وتنذر من عصى بالنار، وأمر الهداية بمعنى التوفيق إلى الخير والسعادة والاهتداء إلى الإسلام مردّه إلى الله، بما وضع في النفوس من العقول، وما أبانه لهم من سنن وأدلّة ترشدهم إلى الدين الحق، فأمر يا محمد بالصدقة إلى كل من سألها من كل دين.
وثواب الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله عائد بذاته لأنفسكم، ولا ينتفع به غيركم في الدنيا والآخرة. أما في الدّنيا فيصون المال، ويحصّن الثروة، ويحميكم من أذى الفقراء بالنّهب والسلب والسرقة لأن الجائع يستبيح لنفسه كل شيء.
وأما في الآخرة فثوابه لكم بدخول الجنة وتكفير بعض السيئات والذنوب.
وإنكم لا تنفقون إلا طلبا لرضوان الله، لا لمصلحة دنيوية أو لإرضاء
75
الشيطان، وعلى ذلك فلا فرق بين فقير وفقير أيّا كان دينه، ولا داعي للمنّ والأذى، أو الرياء والسمعة لأنك تقصد بنفقتك وجه الله وحده، وفعل الخير المحض، دون انتظار ثناء، أو جزاء الناس في الدّنيا،
قال صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص في الحديث الصحيح: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلّا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك»
أي فمها.
ثم أكّد سبحانه الآية السابقة: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ بمؤكّدين:
الأول- قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يصلكم ثوابه كاملا غير منقوص في الآخرة.
الثاني- قوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا يضيع عليكم منه شيء، ولا تبخسون منه شيئا، فيكون ذلك البخس ظلما، كقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
وكلّ هذا يدل على أن الإنفاق يكون للفقراء عامة، مسلمين أو غير مسلمين، وذلك نحو قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان ٧٦/ ٨- ٩].
والأسير في دار الإسلام لا يكون عادة إلا مشركا وقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة ٦٠/ ٨].
ويؤيد ذلك
ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدّثون: تصدّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد: على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا
76
يتحدّثون: تصدّق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد: على غني! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته».
ثم بيّن الله تعالى أحقّ الناس بالصدقة وهم الفقراء بالصفات الخمس التالية:
الصفة الأولى- الإحصار في سبيل الله:
أي الذين حبسوا أنفسهم للجهاد أو العمل في مرضاة الله كطلب العلم إذ لو اشتغلوا بالكسب مثل غيرهم لتعطلت المصلحة العامة، فهم فداء الأمة وحماتها وقادتها الموجهون لها في وقت السّلم والحرب، وفي الشدّة والأزمة أو المحنة، والرفاه والرخاء أو السعادة. وقد عرفنا أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفّة: وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا حوالي أربعمائة رجل، وكانوا مرابطين في سقيفة المسجد، يتعلمون القرآن في الليل، ويجاهدون في النهار،
عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصّفّة، فمن بقي من أمتي على النّعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه، فإنه من رفقائي».
الصفة الثانية- العجز عن الكسب:
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي لا يتمكنون من القيام بالسفر أو السّير في البلاد للتجارة والكسب. والضرب في الأرض: هو السّفر، وعجزهم لأسباب عديدة: منها الكبر والشيخوخة، ومنها المرض، ومنها الخوف من العدو، ونحو ذلك من الضرورات.
77
الصفة الثالثة- التّعفف:
إظهار العفّة والتّرفع عن الطّمع مما في أيدي الناس، حتى إن الجاهل بحقيقة حالهم يظنّهم أغنياء، لعفّتهم وصبرهم وقناعتهم وتعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. ورد في هذا المعنى حديث متّفق على صحّته
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» «١».
الصفة الرابعة- القرائن المميزة لهم:
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي علامتهم، والتّعرّف عليهم يحتاج إلى فراسة المؤمن «٢»، وخبرة المجرّب، وحنكة ذوي البصيرة والعقل، والتّحرّي عنهم بالسؤال لمن يعرفهم من جيران وأقارب، وربما يستأنس بمظاهر الضّمور والنّحول والضّعف ورثاثة الثياب، وربما لا يكون ذلك دليلا مقنعا، فقد يتظاهر بعضهم بالفقر، وقد يكتسي بعضهم اللباس المعقول لعزّة نفسه، ويكون هو المحتاج، وغيره هو الكاذب.
الصفة الخامسة- عدم السؤال أصلا وعدم الإلحاح في السؤال:
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ومعناه في رأي جمهور المفسرين: أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.
(١) رواه أحمد أيضا عن ابن مسعود. [.....]
(٢) جاء في حديث السّنن: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
78
وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي إنهم يسألون الناس غير إلحاف، وهذا هو المتبادر إلى الذهن والسابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين، فلا يلحّون في المسألة، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد ألحف في المسألة. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا، وهذا شأن أغلب الشّحاذين اليوم.
روى الأئمة، واللفظ لمسلم، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلحفوا في المسألة، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا، وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته».
ثم ختمت الآية بأنه ما من نفقة صغيرة أو كبيرة إلا ويعلمها الله، ولا يخفى عليه الباعث على النفقة أو النيّة أيضا، فبحسن النية والإخلاص ففي النفقة دون أذى يحسن الجزاء، وبسوء النية يسوء الجزاء. وفي هذا ترغيب في الإنفاق الطيّب، وترهيب من الإنفاق الخبيث.
ثم أوضح الله تعالى ثواب المنفقين وجزاء الإنفاق في جميع الأحوال والأوقات، فمن تصدّق بأمواله ليلا أو نهارا، سرّا أو علانية، ولم يمتنع عن نفقة وقت الحاجة إليها، ومنها النفقة على الأهل، كما دلّ حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد المتقدّم، فله الأجر الكامل عند ربّه وثوابه على الله لا على أحد سواه، ولا خوف عليه في الآخرة، ولا يتعرّض للحزن أبدا، أي فلا خوف عليه فيما يستقبله من أهوال يوم القيامة، ولا يحزن على ما خلّفه من أولاد ولا على ما فاته من الحياة الدّنيا وزهرتها، فلا يأسف عليها لأنه قد صار إلى ما هو خير له من ذلك.
وإنما قدّم الليل على النهار، والسرّ على العلانية، للإشارة إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلانية.
79
فقه الحياة أو الأحكام:
أباحت الآية دفع صدقة التطوع لأي إنسان كان. أما الصدقة المفروضة (الزكاة) فلا يجزئ بالإجماع دفعها لكافر،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن ابن عباس: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم». وكذلك لا يجوز في رأي الجمهور دفع زكاة الفطر لكافر لأنها طهرة للصيام، فلا تصرف إلى الكافر، كصدقة الماشية والنقود،
وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر: «أغنوهم عن سؤال هذا اليوم»
يعني يوم الفطر، لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد، وهذا لا يتحقّق في المشركين.
وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى غير المسلم من أهل الذّمة، أخذا بعموم الآية في البرّ وإطعام الطّعام وإطلاق الصدقات.
ودلّت آية: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ على أن ثمرة النفقة عائد في الواقع إلى المنفق لأنه سيجد جزاء أوفى على فعله، وأكّد تعالى هذا المعنى في جملتين تاليتين وهما: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
وأرشد قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ إلى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله.
وأبانت آية: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا.. صفات مستحقي النفقة وهم الفقراء، وقد أوضحناها في التفسير المتقدّم. وأن من أدب السؤال عدم الإلحاح في المسألة.
والسؤال في الإسلام محرّم إلا لضرورة، فلا يحلّ للقادر على الكسب بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه-: «لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي».
والمرّة: القوة، والسّوي: سليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.
80
ولا تحلّ المسألة إلا لثلاث حددهم
النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «المسألة لا تحلّ إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دمّ موجع» «١»
، والفقر المدقع: هو الشديد، وهو الذي يلصق صاحبه بالدقعاء:
وهي الأرض التي لا نبات فيها، والغرم: ما يلزم أداؤه تكلّفا لا في مقابلة عوض، كالكفالة والنفقة لإصلاح ذات البين ونحوه من أعمال البرّ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة، والمفظع: الشديد، فلمن تحمل ذلك أن يسأل الإعانة على سداد ما غرم، وأما ذو الدّم الموجع: فهو الذي يتحمل الدّية عن الجاني من قريب أو نسيب أو صديق لئلا يقتل، فيتوجع لقتله.
والإلحاح في المسألة مع الغنى عنها حرام لا يحل،
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل الناس أموالهم تكثّرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر»
وأخرج أيضا عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة «٢» لحم»
وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال:
ما يغديه أو يعشيه»
.
أما إذا كان السائل محتاجا فلا بأس أن يكرّر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا، والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك، وهو قادر على ما سئله، وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به، فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله،
(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) المزعة: القطعة، قال القاضي عياض: قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله. وقيل: هو على ظاهره، فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه، عقوبة له، حين سأل بوجهه.
81
فلا يفلح في ردّه «١».
وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ.. مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته، في جميع الأوقات، من ليل أو نهار، وفي جميع الأحوال سرّا أو علانية، لكن تقديم الليل على النهار، والسرّ على العلانية يومئ إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلن، كما بيّنا.
الرّبا وأضراره على الفرد والجماعة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
(١) وأما
حديث أحمد وأبي داود عن الحسين بن علي: «للمسائل حقّ وإن جاء على فرس»
فهو مرسل، وفيه مجهول.
82
الإعراب::
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ الذين وصلته: مبتدأ، ولا يقومون: خبره. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ مبتدأ وخبره بِأَنَّهُمْ. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ إنما ذكّر: جاء، لثلاثة أوجه:
الأول- حملا على المعنى لأن موعظة بمعنى «وعظ». الثاني- لأن تأنيث موعظة مجازي ليس بحقيقي. الثالث- لوجود الفصل بالهاء.
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان هاهنا تامة بمعنى حدث ووقع، ولا خبر لها، كقول الشاعر:
«إذا كان الشتاء فأدفئوني» أي حدث ووقع، وذو عسرة: عام في حقّ كل أحد. فَنَظِرَةٌ خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فشأنه أو حاله فنظرة.
وَأَنْ تَصَدَّقُوا مبتدأ، وخبره لَكُمْ. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ يوما: منصوب لأنه مفعول اتَّقُوا، وترجعون: جملة فعلية في موضع نصب لأنه صفة يوم. ورجع: يكون لازما ومتعديا، يقال: رجع زيد ورجعته، كما يقال: زاد الشيء وزدته، ونقص ونقصته.
البلاغة:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا الأصل أن يقال: الرّبا مثل البيع، ولكنهم قلبوا التّشبيه، فجعلوا المشبّه مكان المشبّه به، على سبيل «التشبيه المقلوب».
ويوجد طباق بين لفظ أَحَلَّ وحَرَّمَ، وبين يَمْحَقُ ويُرْبِي.
كَفَّارٍ أَثِيمٍ كلاهما من صيغ المبالغة، أي عظيم الكفر شديد الإثم.
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ تنكير «حرب» للتهويل أي بنوع شديد من الحرب.
لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ فيه ما يسمى «الجناس الناقص» لاختلاف شكل الحروف.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذون، عبّر بالأكل عن الأخذ أو الانتفاع بالرّبا لأنه الغرض الأساسى منه، أي أن أغلب حالات الانتفاع هو الأكل. ويشمل ذلك الآخذ والمعطي،
83
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء» «١».
والرّبا في اللغة: الزّيادة، وفي الشرع: زيادة مال مخصوص بلا عوض في معاوضة مال بمال، أو الزّيادة في المعاملة من بيع أو قرض بالنقود والمطعومات في القدر أو الأجل. وهذا في رأي الشافعية، وحصره المالكية في ربا الفضل بالمقتات المدّخر، وأما في ربا النّسيئة فهم كالشافعية.
وعمه الحنفية والحنابلة على كل مكيل وموزون.
لا يَقُومُونَ أي من قبورهم. يَتَخَبَّطُهُ يصرعه. الْمَسِّ الجنون والصرع.
بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. مَوْعِظَةٌ وعظ وزجر. فَلَهُ ما سَلَفَ أي لا يسترد منه ما أخذه قبل النّهي. وَأَمْرُهُ في العفو عنه إلى الله. وَمَنْ عادَ إلى أكل الرّبا مشبّها له بالبيع في الحلّ.
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ينقصه ويذهب بركته. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها وينميها ويضاعف ثوابها.
كَفَّارٍ مقيم على كفره بتحليل الرّبا. أَثِيمٍ فاجر أي بأكله الرّبا، ومصرّ على الإثم ومبالغ فيه. لا يُحِبُّ أي يعاقبه.
اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه. وَذَرُوا اتركوا. فَأْذَنُوا اعلموا، من أذن بالشيء: علم به. بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ بغضب منه، وحرب من رسوله: بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كلّ عصر.
وَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم عنه. فَلَكُمْ رُؤُسُ أصول. لا تَظْلِمُونَ لا تأخذون الزّيادة من الغريم. وَلا تُظْلَمُونَ بنقص شيء من رأس المال.
وَإِنْ كانَ وجد غريم. ذُو عُسْرَةٍ معسر بفقد المال أو كساد المتاع. فَنَظِرَةٌ له، أي فعليكم تأخيره وانتظاره. مَيْسَرَةٍ وقت اليسر والرّخاء. وَأَنْ تَصَدَّقُوا على المعسر بالإبراء. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير فافعلوه.
سبب النزول: نزول الآيتين (٢٧٨- ٢٧٩) :
أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده عن ابن عباس قال: بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يربون لثقيف «٢»، فلما أظهر الله رسوله على مكة، وضع يومئذ
(١)
أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود بلفظ: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه».
(٢) أي فكانت الدّيون لبني عمرو من ثقيف، انظر البحر المحيط: ٢/ ٣٣٩
84
الرّبا كلّه، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد، وهو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالرّبا، ووضع عن الناس غيرنا.
فقال بنو عمرو: صالحنا على أن لنا ربانا، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها.
وأخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في ثقيف، منهم مسعود، وحبيب، وربيعة، وعبد ياليل بنو عمرو وبنو عمير.
فقالت ثقيف: لا يد لنا- أي لا طاقة لنا- بحرب الله ورسوله، وتابوا، وأخذوا رؤوس أموالهم فقط.
نزول الآية (٢٨٠) :
قال الكلبي: قالت بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، ولكم الرّبا ندعه لكم، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة، فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن يؤخروهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ الآية.
المناسبة:
كانت الآيات السابقة في النفقة أو الصدقة من المال بغير عوض، تقرّبا إلى الله، وطلبا لمرضاته، وتثبيتا لأنفسهم على الإيمان. وهذه الآيات في المرابين الذين يأخذون المال بلا عوض يقابله، والصدقة يبارك الله فيها، وأما الرّبا فيمحقه الله ويبطل بركته ونماءه، فالمناسبة بين الآيات التّضاد لأن الضدّ أقرب خطورا بالبال من غيره.
التفسير والبيان:
الذين يأخذون الرّبا، ويستحلّونه حبّا في المال وعملا بالأهواء، ويأكلون
85
أموال الناس بالباطل ومن غير عمل ولا جهد: مثلهم في الاضطراب والقلق وتعذيب الضمير والوجدان والانهماك في الأعمال والدّنيا كمثل المصروعين الذين تتخبطهم الشياطين، وتمسّهم الجنّ، وتضربهم وتصرعهم، وهم في الآخرة- من وقت قيامهم من قبورهم إلى البعث والنشور- أشدّ تخبّطا واضطرابا وتثاقلا في حركاتهم، بسبب ثقل المال الحرام الذي أكلوه من الرّبا، مما جعلهم متميزين عن بقية الناس في تعثرهم وسقوطهم كلما همّوا بالنهوض والقيام، وهذه صورة في غاية القبح والبشاعة، ودليل على ما يحدثه النظام الرأسمالي الرّبوي في العالم المعاصر من هزّات وقلق واضطراب وخوف وأمراض عصبية ونفسية.
وجمهور المفسرين على أن المراد بقوله تعالى: لا يَقُومُونَ القيام من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم ونشورهم، فعلامتهم أنهم لا يقومون منها إلا كما يقوم المصروع حال صرعة وتخبّط الشيطان له،
قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم-: «آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق».
واقتصر جماعة (وهم ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة ومقاتل بن حيان) على القول: بأنهم لا يقومون يوم القيامة. وإنما عبّر بالقيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في ممارسة العمل.
وذلك لأنهم فهموا خطأ وتصوروا باطلا أن الرّبا مثل البيع، أي أن الزّيادة الرّبوية عند حلول أجل الدين آخرا كمثل أصل الثمن في أول العقد لأن العرب كانت لا تعرف إلا ذلك، فكانت إذا حلّ دينها قالت للغريم (المدين) : إما أن تقضي، وإما أن تربي، أي تزيد في الدّين، فحرّم الله سبحانه ذلك عليهم.
وبعبارة أخرى: كما يجوز لك أن تبيع الشيء في الحال نقدا بدرهمين، فلماذا لا يصحّ أن تأخذ درهما في وقت الحاجة، ثم تدفع في وقت اليسار درهمين؟! وسبب الزيادتين واحد وهو الأجل.
86
فردّ الله تعالى عليهم وأبان قياسهم الفاسد بقوله الحق: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، وَحَرَّمَ الرِّبا أي أن البيع لا يكون إلا لحاجة وهو معاوضة لا غبن فيه، والرّبا محض استغلال لحاجة المضطر، وليس له مقابل ولا عوض «١»، فقياسهم فاسد، فمن يشتري شيئا من الطعام ويدفع ثمنه في الحال، هو محتاج إليه في الأكل أو البذر أو أي انتفاع يصون به حياته وجسده، أما من يرابي، فلا يعقد عقد معاوضة، وإنما يأخذ الزّيادة عن أصل الدّين وقت حلول أجل الوفاء بدون مقابلة شيء، بل إن المصارف اليوم تشبه في عملها أفعال الجاهلية بتجميع الفوائد المتراكمة أو المركّبة، وأخذ الفائدة وفائدة الفائدة مع مرور السنوات، فصار حملة أسهم المصرف يأكلون الرّبا أضعافا مضاعفة، وأخذ هذه الزّيادة وتوابعها ظلم موجب للإثم والمعصية الكبيرة.
فمن بلغه تحريم الرّبا، فانتهى عمّا كان يفعله، فله ما سلف أخذه من الرّبا في الجاهلية، وأمره بالعفو عنه أو بالحكم فيه بالعدل، وإسقاط التّبعة عنه يوم القيامة إلى الله تعالى.
ومن عاد إلى أخذ الرّبا بعد تحريمه، فقد استوجب العقوبة، واستحقّ الخلود في نار جهنم. والمراد بالخلود هنا: المكث الطويل إذا كان الفاعل مؤمنا، وعبّر به تغليظا لفعله.
ثم نبّه الله تعالى على أضرار الرّبا وتبديد أثره، فالرّبا يذهب الله بركته، ولا ينميه ولا يزيده في الحقيقة والواقع، وإن زاد المال بسببه في الظاهر، فهو إلى ضياع وفناء. أما الصدقة: فالله ينميها ويبارك فيها، ويضاعف ثوابها، ففي الدنيا ما نقصت صدقة من مال قط، والله يعوّض المتصدّق خيرا في بيع أو شراء أو ارتفاع ثمن أرض أو سلعة أو متاع، وفي الآخرة يجد المتصدق ثواب عمله أضعافا
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣٣٥
87
مضاعفة. ومن مظاهر النّماء المعنوية في الصدقة: أنّ المتصدّق محبوب عند الله وعند الناس، فلا حسد ولا بغض ولا سرقة ولا إيذاء، ومن مظاهر المحق الأدبية في الرّبا: أنّ المرابي مبغوض مكروه عند الله وعند الناس، الكلّ حاسد له وشامت إن ألمّ به أمر مكروه، والكلّ ينتظر له المصير المشؤوم، وهذا أمر ملحوظ في واقع المرابين، فسرعان ما يبدّدون المال، وعاقبتهم تكون في صحّتهم وثروتهم سيئة للغاية، فهم إن بدا عليهم الغنى وقتا ما، فإن الفقر في النهاية هو المحدق بهم غالبا.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيّبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل».
هذا في نماء الصدقة، وأمّا الرّبا فقد عبّرت الآية بالإضافة إلى محقه، بأن الله يعاقب صاحبه ويبغضه، ولا يرضى عن كل من يصرّ على ارتكاب المحرّمات ويحلّها، ويبغض كل كفّار أي متماد مبالغ في كفر ما أنعم الله عليه، فلا ينفق منه في سبيله، ويبغض كل أثيم أي منهمك في ارتكاب الآثام أو المعاصي، فيستغل حاجة المعسرين، ففيه تغليظ أمر الرّبا وإيذان بأنه من فعل الكفار، لا من فعل أهل الإسلام.
ثم قارن الله- كما هو شأن القرآن- فعل الكفار الآثمين بفعل المؤمنين الصالحين، ليظهر الفرق واضحا بين الفريقين، فيكون ذلك أدعى إلى امتناع الجاحد وامتثال المؤمن الصادق. فقال: إن الذين صدقوا بالله ورسوله وبما جاءهم من الأوامر والنواهي، وعملوا الصالحات التي تصلح بها نفوسهم كمواساة المحتاجين، وإنظار المعسرين، وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بربّه وتقرّبه إليه، وأتوا الزكاة المفروضة التي تساهم في تخفيف الفقر ومحبة الناس لبعضهم، لهم
88
ثواب كامل مدّخر عند ربّهم الذي تعهدهم بالرّعاية في شؤونهم، ولا يخافون مما هو آت، ولا يحزنون على ما فات.
وخصّ الله تعالى الصّلاة والزّكاة مع شمول الأعمال الصالحة لهما، اهتماما بشأنهما لأنهما أعظم أركان العبادة العملية.
وبعد هذه المقارنة بين جزائي أكلة الرّبا والمؤمنين العاملين الصالحات، جاء الأمر الصريح القاطع بترك الرّبا والتخلّص من مختلف آثاره، ومضمونه: يا من اتّصفتم بالإيمان المتنافي مع كلّ حرام، قوا أنفسكم عقاب ربّكم على ترك الأوامر وفعل المنهيات، واتركوا ما بقي لكم من الرّبا عند الناس حالا، وإياكم والتعامل به من جديد إن كنتم مؤمنين حقّا، وإلا فلستم بمؤمنين كاملي الإيمان لأن الإيمان طاعة والتزام فلا إيمان مع المعاصي، وهو سلام ورحمة وعطف وصلة، فلا إيمان مع تعاطي الرّبا لأن الرّبا ظلم وجشع واستغلال يتنافى مع الإخاء والإنسانية. ثم ذكر الله الوعيد على المخالفة فقال:
فإن لم تتركوا الرّبا وما بقي منه- والخطاب للمؤمنين- فإنكم محاربون لله ولرسوله أي أعداء خارجون عن شريعته، وهذا معنى قوله: فَأْذَنُوا أي اعلموا، وحرب الله: غضبه وانتقامه من أكلة الرّبا، في الدّنيا بإلحاق الضّرر، وفي الآخرة بالعذاب في النار، وحرب رسوله: معاداته، ومن حارب الله ورسوله استحقّ القتال، لتجاوز شرع الله وأحكامه.
وإن رجعتم عن الرّبا امتثالا لأمر الله، فتستحقون رؤوس أموالكم كاملة فقط، لا نقص ولا زيادة، فلا تظلمون أحدا بأخذ الرّبا، ولا تظلمون بنقص شيء من أموالكم.
ثم يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقرر ما يلي:
إن تعاملتم مع فقير معسر. ولم يتمكن من سداد دينه في الأجل المحدد،
89
فأمهلوه وانتظروه إلى وقت اليسر والرّخاء، حتى يتمكّن من أداء الدّين،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة: «من نفّس عن مؤمن كربة، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدّنيا والآخرة»
، والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، والنّظرة:
التّأخير، والميسرة: مصدر بمعنى اليّسر.
وأن تتصدّقوا على المعسر أو الغريم بإبرائه من الدّين كله أو بعضه، فهو خير لكم من الإنظار والتّأجيل، وأكثر ثوابا عند الله، إن كنتم تعلمون أنه خير، ومن علم بشيء عمل به. وفي هذا حثّ على السماحة للمدين المعسر، لما فيه من تعاون وتعاضد وتراحم،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي موسى: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا»
وقوله أيضا- فيما رواه الطّحاوي عن بريدة بن الخصيب-: «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة، ثم قلت: بكل يوم مثله صدقة قال: بكل يوم صدقة ما لم يحلّ الدّين، فإذا أنظره بعد الحلّ، فله بكل يوم مثله صدقة».
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن تستجاب دعوته، وأن تكشف كربته، فليفرّج عن معسر».
وروى مسلم عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلّا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عزّ وجلّ:
نحن أحقّ بذلك منه، تجاوزوا عنه»
.
وفي حديث طويل لأبي اليسر (كعب بن عمرو) أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما رواه أحمد ومسلم: «من أنظر معسرا أو وضع عنه، أظله الله في ظلّه»
، وإنظار المعسر: تأخيره إلى أن يوسر، والوضع عنه: إسقاط الدّين عن ذمّته.
ثم أمر الله تعالى بالتّقوى أمرا عامّا ونبّه خلقه على محاسبتهم يوم القيامة،
90
وحدد مصير المتّقين وذكرهم بزوال الدنيا وما فيها من أموال، ومضمون ذلك:
اتّقوا واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه إلى الله تعالى، فيحاسبكم على ما عملتم، ويجازيكم على ما كسبتم من خير أو شرّ، فيثيبكم على الخير ويعاقبكم على الشّر، ويجازى كل امرئ بما يستحق من خير أو شرّ، ولا تظلمون فلا ينقص من ثوابكم شيئا، ولا يزاد في عقوبتكم، كقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
قال ابن جريج: إنّ آية وَاتَّقُوا يَوْماً... نزلت قبل موت النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتسع ليال، ثم لم ينزل بعدها شيء، وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال، وروي: بثلاث ليال، أو بثلاث ساعات،
وقال عليه الصلاة والسلام: «اجعلوها بين آية الرّبا وآية الدّين».
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: «آخر ما نزل من القرآن كله:
وَاتَّقُوا يَوْماً.. وعاش النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول»
.
وروى النسائي وغيره عن عبد الله بن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فكان بين نزولها وموت النّبي صلّى الله عليه وسلّم واحد وثلاثون يوما.
مراحل تحريم الرّبا:
حرّم الله الرّبا في القرآن كتحريم الخمر في أربعة مواضع، وسار التّحريم في مراحل أربع، الموضع الأول منها مكي، والباقي مدني.
١- ففي مكّة أنزل الله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ، فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم ٣٠/ ٣٩]، وهذا يقابل آية الخمر المكيّة: وَمِنْ ثَمَراتِ
91
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً
[النحل ١٦/ ٦٧]، وفي كلا الآيتين تمهيد للتحريم وتعريض به وإيماء إلى ضرورة تجنّبه.
٢- ثم قصّ علينا القرآن في المدينة سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الرّبا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، فقال: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ.. «١» [النساء ٤/ ١٦١]، وهذا نظير المرحلة الثانية في تحريم الخمر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة ٢/ ٢١٩]، وكلا الآيتين إنذار بالتّحريم، وتعريض به، وإيذان بعقوبة المخالف.
٣- ثم نهى تعالى عن الرّبا الفاحش الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة، وهو ما كان في الجاهلية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً.. [آل عمران ٣/ ١٣٠]. وهذا يشابه المرحلة الثالثة من مراحل تحريم الخمر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. [النساء ٤/ ٤٣]، فكلا الآيتين نهي جزئي صريح، إلا أنّ آية الرّبا نهي عن صورة فاحشة من صور الرّبا وهو الرّبا الجاهلي، وآية الخمر نهي جزئي عن تناول المسكر وقت إرادة الصلاة.
٤- ثم جاء التّحريم القاطع لكلّ من الرّبا والخمر، أما الرّبا فقد نهى الله عن كل ما يزيد عن رأس مال المدين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.. الآيات. وأما الخمر فقد أمر الله باجتنابه في كل الأحوال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة ٥/ ٩٠].
(١) قال القرطبي: ولم يرد به الرّبا الشرعي الذي حكم بتحريمه علينا، و٧ نما أراد المال الحرام، كما قال تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي المال الحرام من الرّبا وما استحلوه من أموال غير اليهود.
92
وقوله تعالى: وَحَرَّمَ الرِّبا اللام للجنس أي حرّم جنس الرّبا، وليست للمعهود الذهني وهو ربا الجاهلية أو ربا النّسيئة، وإنما يفيد النّص بإلاقه تحريم جميع أنواع الرّبا، مثل إباحة أنواع البيع في قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ.
فقه الحياة أو الأحكام:
وفيه بيان نوعي الربا وسبب تحريمه:
تضمّنت الآيات أمورا خمسة: إباحة البيوع، وتحريم الرّبا والحملة الشديدة على أكلة الرّبا، والصبر على المعسر (نظرية الميسرة)، وجزاء الإيمان والعمل الصالح، والأمر بالتقوى والتذكير بزوال الدنيا وإتيان الآخرة.
الموضوع الأول:
إباحة سائر البيوع التي ليس فيها نهي شرعي عنها، والبيع: هو تمليك مال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما.
الموضوع الثاني:
تحريم الرّبا وإعلان الحرب على أكلته من الله ورسوله: والرّبا في اللغة:
الزيادة مطلقا، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد. وفي الشرع: فضل مال بدون عوض في معاوضة مال بمال. والرّبا نوعان: ربا النّسيئة وربا الفضل.
وربا النّسيئة: هو الزيادة الفعلية في أحد العوضين بسبب الأجل، أو تأخير تسليم أحد العوضين لأجل بدون زيادة. ويكون إما في القرض أو في البيع.
وصورته في القرض: أن يتمّ إقراض قدر معيّن من المال لزمن محدود كسنة أو شهر، مع اشتراط زيادة عند الوفاء بسبب امتداد الأجل. وهذا هو الذي كان متعارفا في الجاهلية بين العرب، لا يعرفون غيره، فكانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر
93
قدرا معيّنا، فإذا حلّ أجل الدّين طولب المدين بكلّ الدّين، فإذا تعذّر الأداء زادوا في الحقّ والأجل، قائلين: إما أن تقضي أو تربي، أي تزيد الدّين مع زيادة الأجل، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه.
وهذا هو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نصّ القرآن الكريم على تحريمه. وقد اتّفق العلماء على أنّه محرّم، وأنه من الكبائر، وأنّ التّحريم لا يقتصر على آخذ الرّبا، وإنما يشتمل الدافع والكاتب والشاهدين، للحديث المتقدم الذي رواه أحمد وغيره عن ابن مسعود: «لعن الله آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهده».
وأما ربا النّسيئة في البيوع: فمثاله: بيع رطل من القمح برطل ونصف يدفع للبائع بعد شهرين، أو بيع صاع من القمح بصاعين من الشعير يدفعان له بعد ثلاثة أشهر، فهو حرام بسبب الزيادة الواضحة، وقد يكون بدون زيادة وهو حرام أيضا كبيع رطل من التمر ناجز تسليمه برطل آخر من التمر مؤجل التسليم، ولا يلجأ لهذا البيع عادة إلا بسبب كون الرّطل الحالي أكثر قيمة في الواقع من المؤخر تسليمه لأن المعيّن خير من الدّين في الذّمة، والمعجّل أكثر قيمة من المؤجّل. وهذا النوع حرام
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الشيخان من حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة».
وربا الفضل في البيوع: هو أن يباع مال مخصوص مع زيادة أحد العوضين على الآخر، كبيع رطل من القمح أو العسل أو التّمر برطلين، وبيع درهم بدرهمين. وهو حرام
للحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- وأختار هنا ما رواه مسلم- قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه
94
الأجناس، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»
أي مقابضة. وهذا الحديث حينما بلغ ابن عباس الذي كان لا يحرّم إلا ربا النّسيئة، ويجيز ربا الفضل، رجع عن قوله. وأجيب
عن حديث: «إنما الرّبا في النّسيئة»
بأن القصد منه بيان الرّبا الأشد خطورة، الأكثر وقوعا، أو أنه محمول على حالة التفاضل بين جنسين مختلفين كبيع رطل من القمح برطلين من الشّعير إلى أجل، فإن النّسيئة في ذلك حرام، وأما التفاضل في الحال فليس حراما.
وقد يكون ربا الفضل في القرض: وهو الزيادة المشروطة للدّائن بغير مقابل، كأن أقرض خالد عليّا مائة دينار على أن يدفع له في العام القادم مائة وعشرة.
والخلاصة: أن الآية دلّت بإطلاقها عن التقييد بربا النّسيئة على تحريم كل من ربا النّسيئة الجاهلي وربا الفضل أيضا بسبب الزيادة، ويحرم أيضا الصلح على خمسمائة حالّة (معجّلة) مثلا مع من عليه ألف مؤجّلة، فإن هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجّلا بزيادة مشروطة، فكانت الزّيادة عوضا عن الأجل، وفي مسألة الصلح انتفع المدين بباقي الدّين مقابل إسقاط الأجل، فيصبح منتفعا بزيادة (فضل) من المال بدون عوض مالي.
ومن أنواع الرّبا: بيع الدّين بالدّين،
روى الدارقطني عن ابن عمر عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ».
والخلاصة: أن قوله تعالى: وَحَرَّمَ الرِّبا مجمل متوقف على ورود البيان، فمن الرّبا ما هو بيع، ومنه ما ليس ببيع وهو ربا الجاهلية: وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض.
وهل تحريم الرّبا مقصور على الأصناف الستّة المذكورة في الحديث السابق، أو يقاس عليها ما في معناها؟
95
قال نفاة القياس وهم الظاهرية: إن الحرمة مقصورة على هذه الأصناف الستّة، لا يزاد عليها.
وقال جمهور الفقهاء منهم أئمة المذاهب الأربعة: إن الحرمة غير مقصورة على هذه الأصناف، وإنما تتعدّاها إلى كل شيء هو في معناها، لأن النّص معلل بعلة مفهومة منه، فتتعدى الحرمة إلى كلّ ما توجد فيه العلّة، إذ لا تعقل التّفرقة بين متماثلين، وإنما نصّ الحديث على أصول الأشياء في عصر النّبوّة.
فقال الحنفية، والحنابلة في أشهر الروايات الثلاث عندهم: إنّ العلّة هي اتّحاد هذه الأصناف في الجنس والقدر، أي الكيل والوزن، فمتى اتّحد العوضان في الجنس، والقدر الذي يباع به من كيل أو وزن، حرم الرّبا بنوعيه، كبيع الحنطة بالحنطة، والحديد بالحديد، وإذا عدما معا حلّ التفاضل والنّسيئة كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عدم القدر واتّحد الجنس حلّ التفاضل دون النّسيئة، كتفاحة بتفاحتين، وإذا عدم الجنس واتّحد القدر حلّ الفضل دون النّسيئة أيضا كبيع الحنطة بالشّعير.
وقال الشافعية، والمالكية في ظاهر المذهب: علّة تحريم الزيادة في الذهب والفضة هي النقدية (أي الثمنية- كونهما ثمنا للأشياء عادة).
والعلّة في الطّعام في ربا النّسيئة: هي مجرّد المطعومية، لكن عند المالكية:
على غير وجه التداوي، وعند الشافعية: ولو بقصد التداوي، فيحرم هذا الرّبا في الخضار والفاكهة، وأما المأخوذ تداويا فلا ربا فيه عند المالكية، وفيه الرّبا عند الشافعية.
وأما علّة ربا الفضل: فقد اختلف هذان المذهبان فيها، فذهب المالكية إلى أنّ العلّة هي اتّحاد الجنس مع الاقتيات والادّخار، فيجري هذا الرّبا في الحبوب كلّها والزّبيب واللحوم والألبان وما يصنع منها، ولا يجري في الخضروات والفواكه
96
لعدم قابليتها الادّخار، وفي معنى الاقتيات: إصلاح القوت كملح ونحوه من التوابل والخلّ والبصل والثوم والزيت والسّمن.
وذهب الشافعية إلى أن العلة في الطعام: هي اتّحاد الجنس والطعمية أي كونها مطعومة، والمطعوم يشمل كل ما يصلح الجسد مما يؤخذ اقتياتا أو تفكها أو تداويا.
واتفق الجمهور على منع بيع التمرة الواحدة بالتمرتين والحبة الواحدة من القمح بحبتين، إذ لا فرق بين كثرة المال الربوي وقلته، وأجاز الحنفية هذا البيع، لأنه لا مكيل ولا موزون، فجاز فيه التفاضل. وقال الجمهور: عقد الربا مفسوخ لا يجوز بحال، فيجب فسخ صفقة الربا ولا تصح بحال. وقال الحنفية: بيع الربا فاسد، لأنه بيع جائز بأصله من حيث هو بيع، ممنوع بوصفه من حيث هو ربا، فيسقط الربا ويصح البيع.
ويلاحظ أن أكثر البيوع الممنوعة إنما منعت بسبب وجود معنى الزيادة إما في عين المال، وإما في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه. وهناك بيوع ممنوعة ليس فيها معنى الزيادة، كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وكالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة.
ويلاحظ أيضا أن الجودة والصنعة في الأموال الربوية ملغاة، فجيدها ورديئها سواء، سدا للذرائع، ولا ينظر إلى الصنعة، فالدينار الذهبي المسكوك والدرهم الفضي المسكوك والذهب والفضة غير المسكوكين (التبر) سواء، وكذا الذهب أو الفضة غير المصوغ والمصوغ حليا سواء أيضا، خلافا لما كان يراه معاوية بن أبي سفيان، فقد اتفق العلماء على أن ما ذهب إليه معاوية غير جائز، وليس مستبعدا أن يكون قد خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعبادة اللذان جادلا معاوية في خطأ رأيه، لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من تحريم التفاضل في بيع الذهب والفضة والمطعومات.
97
وبناء عليه يجب بيع الشيء بجنسه بوزن مساوله، وإن اختلفا في الصياغة وعدمها، ويصح بيع الذهب أو الفضة بالنقود الورقية الحالية مع التفاضل، لاختلاف الجنس، بشرط التقابض في مجلس العقد لكونهما نقدين، سدا للذرائع، وبسبب تفاوت سعر الذهب والفضة ارتفاعا وانخفاضا بين وقت وآخر، فما يحدث في أسواق الصاغة من بيع وشراء كيلو ذهب مثلا أو سبيكة بوزن معين وبسعر معين دون قبض المبيع ودفع الثمن نقدا: لا يجوز شرعا، درءا للمنازعات.
سبب تحريم الربا:
الإسلام دين الجهد والعمل، والتعاطف والتراحم، والود والحب والوئام، والصفاء وسلامة النفوس من الأحقاد، والحق والعدل.
فلا يجيز كسبا بغير عمل، ويرغب في الصدقة والقرض الحسن، ويحرم استغلال حاجة الضعيف، ويحظر كل ما يؤدي إلى العداوة والبغضاء والمنازعات، ويستأصل الحقد والحسد والجشع والطمع من النفوس، ويوجب أخذ المال من طريق مشروع حلال لا ظلم فيه، ويكره تكديس الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس تتحكم في مصائر الآخرين وأقواتهم وتتلاعب باقتصاديات الدولة والأمة.
لهذه المبادئ السامية كلها، وحفاظا عليها حرم الله الربا للأضرار التالية:
١- إنه يعوّد الإنسان على التكسب بدون عمل أو حرفة، كالتجارة أو الصناعة أو الزراعة أو المهنة الشريفة التي اقتضتها ظروف الحياة المعاصرة مثل الطبابة والهندسة والصيدلة والمحاماة بشرط الدفاع عن الحق والعدل وتحامي الدفاع بالباطل، أو تبرئة الجاني أو المجرم. وهذا يجعل المرابين مصاصين لدماء الفئة العاملة الكادحة، ويعتمد في عيشه ودخله على مورد بغير جهد، وذلك مما يستفيده من فوائد الأموال المودعة في المصارف الربوية للإقراض بفائدة.
98
٢- والربا هو مجرد كسب من غير عوض، والشرع يحرم أخذ المال ظلما بغير حق شرعي، ويمنع استغلال القوي الضعيف.
٣- إنه يؤدي إلى زرع الأحقاد والحسد في قلوب الفئة الفقيرة على الأغنياء، ويولد العداوة والبغضاء، ويثير المشاحنات والخصومات بين الناس، إذ هو يقضي على عاطفة التراحم والتعاون، ويجعل الإنسان عبدا للمال، وكأنه ذئب ينقض على ما في جيوب الناس بأسلوب هادئ ماكر خبيث دون إثارة أو معرفة الغريم.
٤- إنه يقضي على وشائج الصلة بين الناس، ويقطع المعروف بينهم بالقرض الحسن، ويسلب مال الفقير أو المحتاج وهو في أشد حالات الحاجة والعوز، لتسيير شؤون عمله وحياته.
٥- إن عاقبته العامة تدمير القيم الإنسانية وتوليد الصراع بين الأفراد، والتحكم في الاقتصاد العام للأمة، وعاقبته الخاصة الوقوع في الخراب والفقر والحرمان في نهاية الأمر، إذ يمحق الله الربا، ويربي الصدقات، كما بينا.
والخراب يشمل المرابي، كما يشمل دافع الربا، فكثير ما أدى اقتراض المزارعين من المصارف الزراعية إلى بيع أراضيهم لتسديد القروض المصرفية وفوائدها، لأن الزراعة كثيرة النفقات، معرضة للآفات الزراعية، والقحط والجدب.
وكذلك أصحاب المعامل وتجار المحلات إذا اقترضوا من المصارف لا يتمكنون غالبا من سداد الديون، ويصبحون عاجزين عنها وبخاصة في السنوات الأولى من العمل والإنتاج، فكيف يسددون أصل الدين مع ما يضم إليه من فوائد؟! والفوائد المصرفية تتضاعف مع مرور السنوات، فتصبح الفوائد تكاد تعادل أصل القرض.
ولا فرق في تحريم الربا بين ما يسمى بالقروض الإنتاجية، والقروض
99
الاستهلاكية، إذ لا يجوز الاقتراض بفائدة إلا لضرورة قصوى، وهي الحالة التي يغلب على الظن فيها الوقوع في الهلاك أو التسيب في الشارع ونحو ذلك من الحالات النادرة التي لا تنطبق على ما يدعيه أصحاب المعامل والمحلات التجارية من ضرورات، وهم يقصدون بذلك إما توسيع دائرة العمل والنشاط، أو دعم المصنع بآلات حديثه مثلا، وكل هذه المزاعم لا تدخل في دائرة الضرورة بحسب ضوابطها الشرعية، ولا تحل الحرام القطعي التحريم.
والربا حرام ويبطل ما قبض منه، ولا يجوز أخذ ما زاد على أصل رأس المال، قلّ أو كثر، وقد دلت الآية على ذلك: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ودلت أيضا على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر، لكونه سببا في معاداة الله ورسوله، جاء رجل إلى مالك بن أنس رضي الله عنه، فقال:
يا أبا عبد الله، إني رأيت رجلا سكرانا يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت:
امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرّ من الخمر، فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه، فلم أر شيئا أشرّ من الربا، لأن الله أذن فيه بالحرب.
وسبيل التوبة مما بيد الإنسان من الأموال الحرام إن كانت من ربا، فليردّها على من أربى عليه، ويطلبه إن لم يكن حاضرا، فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك عنه. وإن أخذه بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه.
الموضوع الثالث- نظرية الميسرة:
لما حكم جل وعز لأرباب الربا برؤوس أموالهم عند المدينين، حكم في ذي العسرة بالانتظار إلى حال الميسرة، وذلك أن ثقيفا لما طلبوا أموالهم التي لهم على بني المغيرة، شكوا- أي بنو المغيرة- العسرة، كما بينا في سبب النزول، وقالوا:
100
ليس لنا شيء، وطلبوا الأجل إلى وقت ثمارهم، فنزلت هذه الآية: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ.
ودل قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ مع قوله: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على ثبوت حق المطالبة لصاحب الدين (الدائن) على المدين، وجواز أخذ ماله بغير رضاه، ودل أيضا على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان، كان ظالما، فإن الله تعالى يقول: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ فجعل له المطالبة برأس ماله، فإذا كان له حق المطالبة، فعلى من عليه الدين (المدين) لا محالة وجوب قضائه.
ومن كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم، فللحاكم أن يخلعه عن كل ماله ويترك له ما كان من ضرورته، والمشهور عن مالك أنه يترك له كسوته المعتادة، ما لم يكن فيها فضل، ولا ينزع منه رداؤه إن كان ذلك مزريا به. وفي ترك كسوة زوجته وفي بيع كتبه إن كان عالما خلاف. ولا يترك له مسكن ولا خادم، ولا ثوب جمعة ما لم تقلّ قيمتها، والأصل في هذا قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
ويحبس المفلس في قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم حتى يتبين عدمه. ولا يحبس عند مالك إن لم يتّهم أنه غيّب ماله، ولم يتبين لدده أي خصومته ومماطلته. وكذلك لا يحبس إن ثبت عسره، للآية المتقدمة: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ...
وقوله: وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ يدل على أن الله تعالى ندب بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر، وجعل ذلك خيرا من إنظاره. وقد أوردت سابقا الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل إنظار المعسر وإبرائه من الدين، ومدى الثواب العظيم في ذلك عند الله تعالى.
101
الموضوع الرابع- جزاء الإيمان والعمل الصالح:
مدح الحق تعالى المؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مخبرا عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون، ليكون ذلك في خلال المقارنة مع أكلة الربا أدعى إلى الامتثال، والبعد عن الربا الحرام، وفي هذا تعريض بأكلة الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكفوا عن تعاملهم الربوي.
والخلاصة: أن الله تعالى أتبع وعيد المرابي بهذا الوعد، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات لمنزلتهما العظمى في الإسلام.
الموضوع الخامس- التحذير من أهوال يوم القيامة:
ختم الله تعالى آيات الربا بموعظة بالغة، إذا وعاها المؤمن هانت عليه الدنيا ومطامعها وسامح بالمال والنفس، فالدنيا زائلة، والأموال فانية، والآخرة آتية خالدة باقية، والحساب أمام الله أمر حتمي، يجازي كل امرئ بما عمل من خير أو شر، دون بخس أو ظلم أو نقصان، فليحذر المؤمن عقوبة ربه، وليتق الله بامتثال الأوامر الإلهية، واجتناب النواهي ومن أخطرها الربا، فمن التقى وحذر العقوبة لقي خيرا، ونال سعادة دائمة في جنان الخلد الباقية.
آية الدين وآية الرهن توثيق الدين المؤجل بالكتابة أو الشهادة أو الرهن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٢ الى ٢٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
102
الإعراب:
كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ كما: في موضع نصب متعلق بفعل لْيَكْتُبْ أو بقوله: فَلْيَكْتُبْ أو بقوله: يَأْبَ. وَلِيُّهُ الضمير يعود على المدين. فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: فالشاهد رجل وامرأتان، وإما مرفوع بتقدير فعل وتقديره: فليكن رجل وامرأتان. ويكون «فليكن» تامة. ومِنْ رِجالِكُمْ: متعلق باستشهدوا، ومن ابتدائية، أو متعلق بمحذوف صفة لشهيدين، ومن تبعيضية، أي بعض رجالكم المسلمين الأحرار، لأن الكلام في معاملاتهم.
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ في موضعه ثلاثة أوجه: الجر والنصب والرفع، فالجر: على أنه بدل من قوله: مِنْ رِجالِكُمْ والنصب على أنه صفة لشهيدين، والرفع على أنه وصف لقوله: رجل وامرأتان.
أَنْ تَضِلَّ أن: مصدرية في موضع نصب بتقدير فعل، وتقديره: يشهدون أن تضل إحداهما، وقرئ بكسر إن الشرطية ورفع: تذكر.
103
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً منصوبان على الحال من هاء تَكْتُبُوهُ وهي عائدة على الدين.
إِذا ما دُعُوا ما: زائدة.
أَلَّا تَرْتابُوا أن وصلتها في موضع نصب بأدنى، وتقديره: وأدنى من ألا ترتابوا، فحذف حرف الجر فاتصل به.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وتجارة:
بالنصب خبر تكون الناقصة، واسمها مقدر فيها، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة.
وعلى قراءة الرفع: تَكُونَ تامة أي تقع.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ: الكاتب والشهيد إما فاعلان ليضارّ وهو الأحسن، فيكون أصله: يضارر: بكسر الراء. وإما نائب فاعل فيكون أصله: يضارر بفتحها، فأدغمت الراء الأولى في الثانية.
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ حال مقدرة، أو مستأنف.
فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ وقرئ «فرهنّ» وكلاهما جمع رهن عند الأكثرين، وهو مبتدأ، وخبره مقدّر، وتقديره: فرهان مقبوضة تكفي من ذلك.
اؤْتُمِنَ أصله أؤتمن على وزن افتعل، إلا أنه أبدلت الهمزة الثانية واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، فصار: اؤتمن.
آثِمٌ قَلْبُهُ فيه ثلاثة أوجه: أن يكون آثم خبر «إن» وقلبه فاعل له، أو أن يكون قَلْبُهُ مبتدأ، وآثِمٌ خبره، والجملة منهما في موضع رفع خبر إن، أو أن يكون آثِمٌ خبر إن، وقَلْبُهُ: بدل من الضمير المرفوع في آثِمٌ، بدل بعض من كل.
البلاغة:
توجد أنواع من الجناس في قوله تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ واؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ويُعَلِّمُكُمُ وعَلِيمٌ.
ويوجد طباق في قوله: صَغِيراً أَوْ كَبِيراً وأَنْ تَضِلَّ وفَتُذَكِّرَ تضل: أي تنسى.
وتشتمل الآية على إطناب في قوله:
104
وتكرار لفظ الجلالة في جمل وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لتربية المهابة في النفس وتعظيم الأمر.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ الجمع بين لفظ الجلالة والوصف بالربوبية: للمبالغة في التحذير.
المفردات اللغوية:
تَدايَنْتُمْ: داين بعضكم بعضا أي تعاملتم بدين مؤجل بِدَيْنٍ: أي ببيع مؤجل أو سلم أو قرض، والدين: هو المال الذي يثبت في الذمة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى الأجل: هو الوقت المحدد لانتهاء شيء، والمسمى: الموعد المعلوم أو المحدود بالأيام أو الشهور أو السنين، ويشمل الدين المؤجل: بيع الأعيان إلى أجل، والسلم (السلف)، والقرض فَاكْتُبُوهُ ندبا استيثاقا للدين ودفعا للنزاع وَلْيَكْتُبْ سند الدين أو كتابه بِالْعَدْلِ بالحق في كتابته، أو بالتسوية بين الجانبين، من غير ميل إلى أحدهما، ولا زيادة أو نقص في المال والأجل.
وَلا يَأْبَ أي لا يمتنع كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق، فلا يبخل بها ولا يقصر في شيء وَلْيُمْلِلِ أي وليلق على الكاتب ما يكتبه، والإملال والإملاء بمعنى واحد الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي الدين، والمراد به هنا المدين، لأنه المشهود عليه، فيقر بكامل الحق، ليعلم ما عليه.
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في إملائه وَلا يَبْخَسْ لا ينقص من الحق شيئا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً مبذرا ضَعِيفاً عن الإملاء لصغر أو كبر بأن كان صبيا أو شيخا هرما أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ بأن كان جاهلا أو أخرس أو نحو ذلك.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ متولي أمره من والد ووصي وقيّم ومترجم وَاسْتَشْهِدُوا اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لدينه وعدالته.
أَنْ تَضِلَّ لأجل أن تنسى أو تخطئ إحداهما الشهادة لعدم ضبطها وقلة عنايتها فتذكر إحداهما (الذاكرة) الأخرى (الناسية)، وجملة «تذكر» للتعليل أي لتذكر إن ضلت. وقرئ بكسر إن شرطية، ورفع فعل «تذكر» المستأنف، وهو جواب الشرط، والشرط والجزاء يكونان صفة للنكرة: وَامْرَأَتانِ. دُعُوا إلى تحمل الشهادة وأدائها وَلا تَسْئَمُوا تملوا وتضجروا من أَنْ تَكْتُبُوهُ أي ما شهدتم عليه من الحق، لكثرة وقوع ذلك. إِلى أَجَلِهِ وقت حلول أجله.
ذلِكُمْ أي الكتب أَقْسَطُ أعدل وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أعون على إقامتها وأثبت لها، لأنه يذكّرها. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى ألا تشكوا في قدر الدين وأجله
105
تُدِيرُونَها أي تقبضونها ولا أجل فيها، والمراد تتعاملون بها يدا بيد. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ نهي عن وقوع الضرر من الجانبين، فلا يضر الكاتب والشاهد صاحب الحق ومن عليه الحق بتحريف أو زيادة أو نقص، أو امتناع من الشهادة أو الكتابة، ولا يضرهما صاحب الحق بتكليفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة.
وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خروج عن الطاعة لا حق بكم. وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمره ونهيه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مصالح أموركم.
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين وتداينتم، وبينت السنة جواز الرهن ووجود الكاتب في الحضر. وذكرت حالة السفر لأن التوثيق فيه أشد فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ تستوثقون بها، ودل قوله: مقبوضة على اشتراط القبض في الرهن، والاكتفاء بقبض المرهون من المرتهن أو وكيله.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي أمن الدائن المدين على حقه، فلم يرتهن أو لم يكتب الدين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أي المدين أَمانَتَهُ دينه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في أدائه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ إذا دعيتم لأدائها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ خص القلب بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره، فيعاقب عليه معاقبة الآثمين. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى الإنفاق وجزاءه الطيب، والربا وقباحته وخطره، أعقبه بذكر القرض الحسن بلا فائدة، والتعامل بالدين المؤجل، وطريق توثيقه وحفظه بالكتابة والشهادة والرهن، وطريق تنميته بالتجارة التي تقتضي السرعة، ففي الصدقة والقرض الحسن تراحم وتعاون، وفي الربا قسوة وطغيان، وفي أحكام التعامل بالدين المؤجل والتجارة الحاضرة غاية الحكمة والمصلحة والعدل إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة والقرض، وينهى عن التعامل بالربا لا بد له من تنمية ماله بالتجارة، وحفظ حقه من الضياع. فتكون مناسبة الآية لما قبلها بيان حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية بين الناس، ببيع السلع بالدين المؤجل، بطريقة تحفظ الأموال وتصونها عن الضياع، بعد بيان حكم التعامل بالربا ومنعه، أو أن المراد بيان كيفية حفظ المال الحلال، بعد بيان الإنفاق في سبيل الله وتحريم الربا، اللذين يترتب عليهما نقص المال إما حالا أو مآلا.
106
وكون هذه الآية أطول آية في القرآن الكريم دليل على أن المال في ذاته ليس مبغوضا عند الله، وعلى أن الإسلام معني باقتصاديات الأمة، وأنه دين ودولة وحياة ونظام مجتمع، وليس دين رهبنة وفقر، وانعزال عن الحياة، فتنظيم التعامل بين الناس، وتبيان طريق حفظ الحقوق، وتعاطي التجارة وتنمية المال، يدل كل ذلك على أن الإسلام دين عمل وجهد وكفاح، وحرص على الكسب والربح من أوجه الحلال،
روى أحمد والطبراني من حديث عمرو بن العاص: «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح».
وأما البذل في المصالح العامة وتحريم الربا فهو عنوان على تضامن الأمة وتراحمها، ونبذها الظلم والاستغلال والكسب من غير جهد وكدّ وعمل. وأما ذمّ الدنيا أو المال في بعض الآيات والأحاديث: فإنما هو عند نسيان جانب الآخرة، واستعباد المال صاحبه، فيبخل في إنفاقه، ولا يبالي في جمعه من طريق حلال أو حرام، قال تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
[التغابن ٦٤/ ١٥] وقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ، فَتَراهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [الحديد ٥٧/ ٢٠].
وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم».
التفسير والبيان:
يا من اتصفتم بالإيمان إذ تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا، كبيع شيء بثمن مؤجل، أو بيع سلعة مؤجلة إلى أجل مسمى مع بيان الجنس والنوع والقدر، بثمن معجل وهو المسمى بالسلم أو السلف، وقرض مبلغ من المال، إذا تعاملتم ببدل مؤجل، فاكتبوا ما يدل على هذا التعامل، مع بيان الأجل بالأيام أو بالأشهر أو بالسنين، أي بكونه معلوما، لا بالتأجيل إلى
107
الحصاد والدياس مما لا يرفع الجهالة في رأي الجمهور لأن الكتابة أوثق في ضبط المتفق عليه، وأرفع للنزاع.
ثم بيّن الله كيفية الكتابة وعين من يتولاها: بأن يكتب كاتب مأمون عادل محايد، فقيه متدين يقظ: الحقّ دون ميل لأحد الجانبين، مع وضوح المعاني، وتجنب الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة، فهو كالقاضي بين الدائن والمدين. وهذا يدل على اشتراط العدالة في الكاتب.
ثم أوصى الكاتب ونهاه عن الإباء: فلا يمتنع أحد من الكتاب عن كتابة وثيقة الدين، ما دام يمكنه ذلك، على الطريقة التي علمه الله في كتابة الوثائق، أو كالتي علمه الله، فالكاف صفة لموصوف محذوف، فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا، والكتابة نعمة من الله عليه، فمن شكرها ألا يمتنع عنها، وإن كانت بأجر، وهذا يدل على اشتراط كون الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا ونظاما. وقدّم اشتراط العدالة على العلم لأنها أهم من العلم.
فالعادل يمكنه تعلم ما تتطلبه كتابة الوثائق، وأما العالم غير العادل فلا يهديه علمه للعدالة، وإنما يفسد ولا يصلح.
ودل قوله: وَلا يَأْبَ على أن العالم العادل إذا دعي للقيام بالكتابة ونحوها، وجب عليه تلبية الدعوة، ثم أكد الله تعالى النهي عن الإباء بالأمر بالكتابة بالحق، لكون الوثيقة متعلقة بحفظ الحقوق.
ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يتولى إملاء البيانات على الكاتب إنما هو المدين، فإنه المكلف بأداء مضمون الكتابة، ليكون بيانه وإملاؤه حجة عليه، ثم أوصاه تعالى بأمرين: هما تقوى الله في الإملاء، بأن يذكر ما عليه كاملا، وألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا.
ويلاحظ أن الكاتب أمر بالعدل فلا يزيد ولا ينقص، والمدين نهي عن
108
النقص فقط لأن هذا هو المنتظر منه أو المتصور منه دون سواه.
ثم أوضح تعالى أحوال ناقصي الأهلية، فإن كان المدين (الذي عليه الحق) سفيها أي مبذرا في ماله ناقص العقل والتدبير، أو ضعيفا بأن كان صبيا أو مجنونا أو جاهلا أو هرما لم تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور، أو عاجزا عن الإملاء لكونه جاهلا أو ألكن أو أخرس أو معتقل اللسان، أو أعمى، فعلى وليه الذي يتولى أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يملي الحق على الكاتب بالعدل والإنصاف، بلا زيادة ولا نقص.
ثم جاء دور الإثبات، فأرشد تعالى على سبيل الندب لضبط الوقائع وحفظ الأموال إلى الشهادة على المداينة، ونصاب الشهادة: رجلان أو رجل وامرأتان.
وقوله: مِنْ رِجالِكُمْ دليل على اشتراط الإسلام والحرية في الشهود لأن الكلام وارد في معاملاتهم. وأما العدالة في الشهود فاشترطوها بقوله تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق ٦٥/ ٢].
مقبول الشهادة ومرفوضها:
يرى أبو يوسف أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود، وما يجب فيها من العظائم، وأدّى الفرائض، وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار، قبلت شهادته لأنه لا يسلم عبد من ذنب، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر، ولا من يلعب الشطرنج يقامر عليها، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو فسقا، لا أن تركها على تأويل، وكان عدلا، ومن يكثر الحلف بالكذب، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر، ولا معروف بالكذب الفاحش، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا شتام الناس والجيران، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا: سمعناه يشتم.
109
وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة: تقبل شهادة أهل الأهواء العدول إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية. وقال محمد: لا أقبل شهادة الخوارج، وأقبل شهادة الحرورية لأنهم لا يستحلون أموالنا، فإذا خرجوا استحلوا «١».
واشتراط إسلام الشهود هو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض لأنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى.
وقال ابن القيم في (أعلام الموقعين والطرق الحكمية) : البينة في الشرع أعم من الشهادة، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بيّنة، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى، إذا تبين للحاكم الحق بها.
وقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ مؤكد لاشتراط الإسلام والعدالة لأن المعنى: ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء، أو من النساء وجيء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها، والخطاب يعم جميع الناس، حكاما وغيرهم، ولا بد في رأي الجمهور من ثبوت العدالة للشهود بالتزكية. وقال أبو حنيفة: لا حاجة للتزكية، فكل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل، وإن كان مجهول الحال.
وذكر الله تعالى السبب في جعل شهادة المرأتين بشهادة رجل، أي اعتبار العدد في شهادة النساء: وهو التذكير صونا لحكم الشهادة لعدم ضبط المرأة وقلة عنايتها ونسيانها، فتذكر كل منهما الأخرى. وبما أن العلة في الحقيقة هي التذكير، وكان الشأن في النساء النسيان، نزّل النسيان منزلة العلة، أي نزل السبب منزلة المسبب. فقد جرت العادة أن المرأة لا تهتم كثيرا بالمعاملات المالية
(١) البحر المحيط: ٢/ ٣٤٧
110
ونحوها من المعاوضات، فتكون معلوماتها محدودة، وخبرتها قليلة، واهتمامها بالوقائع المالية ضعيفا، وأما اشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية فلا يغير الحكم لأن الأحكام إنما للأعم الأغلب، وبالرغم من إسناد الوظائف المالية للمرأة، فإنها لا تأبه بغير العمل الذي وكّلت به وفوض إليها، فلا تلتفت لما يجري بين الآخرين من منازعات على قضايا مالية، ويظل اهتمامها بالنواحي المالية أو العامة بالرغم من توظفها محصورا بشؤون منزلها أثاثا وترفها ونظافة، وتوفير مواد تموينية، وإعداد طعام وشراب لأسرتها، وتربية أولاد، فكان تذكرها للمعاملات- فيما عدا مشترياتها الخاصة- قليلا. والخلاصة: أن الحكم للأغلب، ولا عبرة بالنادر، والشرع ينظر للمجموع.
ثم نبّه القرآن إلى قضية مهمة، فشا بين الناس في عصرنا بل وفي الماضي نقيضها، وهي الإدلاء بالشهادة، فأوصى تعالى الشهود، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة أو التقاعس في أدائها وتحملها، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة، فلا يجوز للشهود الامتناع عن تحمّل الشهادة (أي استيعاب وقائع القضية المشهود عليها) وأدائها أمام القاضي، كقوله تعالى بعدئذ: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة ٢/ ٢٨٣] إذ بالشهادة تثبت الحقوق ويمنع الجور والظلم والتسلط على الضعفاء. ودلت الآية أيضا على أن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم.
روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير، فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم.
ثم عاد إلى أمر الكتابة، فأكد طلبها في عقود المداينات، فنهى عن الملل أو الضجر من كتابة الدين، فلا ينبغي التكاسل أو التقصير أو الاستحياء في كتابة الدين، مهما قلّ، وسواء أكان صغيرا أم كبيرا تطلب كتابته، قطعا للنزاع والشقاق، وحفظا لأصل الحق.
111
وهذا دليل على اعتبار الكتابة في أدلة الإثبات، وعلى أنها مطلوبة في القليل والكثير إلى أجل الحق، أي وقت وفائه الذي أقر به المدين.
ثم بيّن الله تعالى الحكمة من الأوامر والنواهي المتقدمة، وهو أن ذلك البيان الذي أمر به القرآن من الكتابة والإشهاد أعدل في إصابة حكم الله تعالى لأنه يكون إلى الصدق أقرب وعن الكذب أبعد، وهو أيضا أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأعون على أداء الشهادة على وجهها الصحيح، وأقرب إلى إزالة الشكوك في تعيين جنس الدين ونوعه وقدره وأجله، فهذه مزايا ثلاث تؤكد العمل بكتابة الدين.
وهذا يدل على أن للشاهد طلب وثيقة الدين المكتوب ليتذكر وضعه.
ثم خفف القرآن من قيد المطالبة بالكتابة أخذا بما تقتضيه ظروف التجارة من حرية وحركة وسرعة، فأبان أن الكتابة مطلوبة إلا إذا تمت مبادلة العوضين في التجارة وقبضهما في الحال، فلا داعي للكتابة، ولا حرج ولا إثم في تركها حينئذ، إذ لا يترتب عليها شيء من التنازع والتخاصم، وهذا يدل على أن الإسلام متمش مع الواقع، متجاوب مع ما تقتضيه المعاملات من تطور وسرعة ورعاية مصلحة.
وإذ لا بأس من عدم الكتابة في التجارة الحاضرة أو التعامل يدا بيد، فيطلب الإشهاد على التبايع لأن اليد الظاهرة التي تحوز الشيء قد لا تكون محقة، فيحدث النزاع والخلاف، فكان الإشهاد أحوط، ويكفي. أما المعاملات والديون المؤجلة والسّلم فتجب كتابتها لأن مرور الزمان قد ينسي بعضها، فيقع التنازع.
والمبدأ الواجب اتباعه في علاقة الكاتب والشاهد بالمتعاملين هو عدم المضارّة، فلا يجوز لهما إلحاق ضرر بأحد المتعاملين أو كليهما بزيادة أو نقص أو
112
تحريف أو ترك الإجابة بالاستفسار عن بعض ظروف الواقعة، أو عما يطلب منهما من توضيح بعض الأمور الغامضة، كما لا يجوز أيضا للمتعاملين إلحاق الضرر أو الأذى بالكاتب أو الشاهد، كتحريف وتغيير بعض الوقائع، أو إهمال الإشارة إلى كلمة أو قيد مثلا، أو محاولة المنع من أداء الشهادة بالترهيب أو الترغيب برشوة أو وعد بمال لأن الإسلام دين الحق والعدل، والله تعالى يأمر بإقامة الحق والعدل كاملا غير منقوص.
ويؤيد ذلك الآية التالية: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي أن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة فسق وإثم، أو إن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار، فإن فعلكم هذا فسوق بكم، وخروج عن الطاعة ملتبس بكم.
ومنع المضارّة مستفاد من تحليل أصل يُضَارَّ: فإن كان أصله «يضارر» بكسر الراء الأولى، ثم وقع الإدغام، وفتحت الراء في الجزم لخفة الفتحة، فالمعنى: لا يضر الكاتب ولا الشهيد غيره بترك الإجابة، أو التغيير، والتحريف في الكتابة والشهادة. وإن كان أصله «يضارر» بفتح الراء الأولى، وكذا قرأ ابن مسعود، فالمعنى لا يجوز لطالب الحق أو المطالب به أن يضرّ الكاتب والشهيد، بأن يقهر هما على الانحراف في الكتابة والشهادة.
ثم ذكّر تعالى بالقاعدة العتيدة العامة إثر الأمر والنهي وهي التزام التقوى بامتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، والمعنى: فاتقوا الله في جميع ما أمركم به وما نهاكم عنه، ومن جملة ذلك: ما حذركم منه من الضرار، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح دنياكم وحفظ أموالكم، كما يعلمكم ما يصلح أمر الدين، وهو العليم بكل شيء، لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن، فإذا شرع شيئا فإنما يشرعه عن علم دقيق شامل بما يدرأ المفاسد ويجلب المصالح، وشرعه كله حكمة وعدل.
وختم الآية بهذه الموعظة الحسنة للتذكير بامتثال جميع الأحكام السابقة.
113
وتكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث: وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لتربية المهابة في نفس السامع، ولتقرير استقلال كل منها بحكم معين.
ثم انتقل البيان إلى تشريع حكم يتناسب مع السفر، وهو الرهان التي يستوثق بها في الحصول على الدين، فإن إثبات المبايعات المؤجلة بالكتابة والإشهاد عليها أمر ممكن في الحضر، أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك، فشرع تعالى ما يناسبه وهو الرهن، ودلت السنة على جوازه في الحضر،
فقد أخرج النسائي عن ابن عباس، والشيخان عن عائشة: «أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله».
ومعنى آية الرهان: إن كنتم مسافرين، ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة، أو لم تسمح ظروف السفر بالجلوس والكتابة، أو لم تجدوا أدوات الكتابة، فاستوثقوا برهن تقبضونه.
وتقييد الرهان في الآية بوصف السفر، وعدم وجود الكاتب: بيان للعذر الذي رخص في ترك الكتابة، ووضع الرهن وثيقة للدين محلها. وإنما نص على السفر دون الأعذار الأخرى لأنه هو غالب الأعذار، لا سيما في وقت نزول القرآن، لكثرة المعارك والحروب. ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، مثل ظرف الليل، وزحمة الأشغال والأعمال، وتهديد حالة الغريم (المدين) بالإفلاس.
وأشارت الآية إلى أن عدم وجود الكاتب مقيد بحال السفر، لا في حال الإقامة والحضر.
لكن وصف الرهان بكونها مقبوضة: يدل على أنه ما لم يقبض المرهون لا يظهر وجه للتوثق به. واشتراط القبض يستلزم عند الحنفية أن يكون المرهون معينا مفرزا، فلا يجوز لديهم رهن المشاع سواء فيما يقسم وفيما لا يقسم لتعذر
114
القبض، وأجاز الجمهور رهن المشاع مثل بيعه وهبته، ويسلّم للمرتهن كل الشيء المشترك، ويتم التناوب عليه بطريق المهايأة.
ثم عادت الآية إلى تقرير احتمال وجود الثقة والائتمان بين المتعاملين، فصرحت بأنه إن أمن بعض الدائنين بعض المدنيين، لحسن ظنه به، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره، وهذا هو البيع بالأمانة، فليؤد المدين الذي اؤتمن أمانته أي دينه الذي ائتمنه الدائن عليه، فلم يأخذ منه رهنا، وليكن عند حسن ظن الدائن به، وليتق الله ربه في رعاية حقوق الأمانة، وعدم خيانتها ولا جحودها ولا التأخر في دفعها، فالله خير الشاهدين، وهو أولى أن يتّقى.
وسمي الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان عليه.
وجمع في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ بين الألوهية وصفة الربوبية للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب الإله المعبود بحق، وربه الذي يربيه ويلي شؤونه ويدبر مصالحه.
ثم أكد سبحانه النهي السابق عن الإباء عن أداء الشهادة وتحملها، فنهى عن كتمانها أي إخفائها بالامتناع عن أدائها، مجددا النهي فيما يليق ببيع الأمانة، مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد، وتهدده بعقوبة كتمان الشهادة واستحقاق الإثم، والآثم والفاسق متقاربان، فقال بالمعنى: لا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا احتيج إليها، ومن يكتمها أو يمتنع عنها كان مرتكبا للذنب، مجترحا للمعصية والإثم، وخص القلب بالذكر في تحمل الإثم لأنه مركز الإحساس والشعور ووعي الوقائع وإدراكها، ولأنه أحد الأعضاء التي تقترف ذنبا، كما يسند الزنى إلى العين والأذن ونحوهما، فالإثم قد يكون بعمل القلب كما يكون بعمل بقية الأعضاء، كقوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء ١٧/ ٣٦] ومن آثام القلب:
إضمار السوء وسوء النية والقصد، والحقد والحسد.
115
وكل ما سبق من أعمال كأداء الشهادة وكتمها وغيرها يعلمه الله، والله بكل شيء عليم وبصير، يجازي عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاحذروا مخالفة الأوامر واقتراف المعاصي، ومنها كتمان الشهادة، واعلموا بما أمركم به، فإن علم الله عام في جميع الأعمال.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع آية الدين في توثيق المبايعات المؤجلة والديون والسّلم «١» بالكتابة والشهادة والرهن، فإن لم يكن توثيق برهن أو بكتابة جاز البيع بالأمانة، فالمبايعات في هذه الآية ثلاثة أنواع: بيع بكتابة وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة.
قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السّلم خاصة، معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا.
وقال ابن خويز منداد: إنها تضمنت ثلاثين حكما، منها ما يلي:
١- استدل بها بعض علماء المالكية على جواز التأجيل في القروض، على ما قال مالك إذ لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات. وخالف في ذلك الشافعية وقالوا: الآية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه.
٢- مشروعية تأجيل الديون، لقوله تعالى: بِدَيْنٍ: وحقيقة الدين: عبارة عن كل معاملة، كان أحد العوضين فيها نقدا، والآخر في الذمة
(١) السّلم: هو بيع آجل بعاجل. ويقال له السلف، غير أن السلم خاص به، والسلف يطلق أيضا على القرض.
116
نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضرا، والذين: ما كان غائبا. وتشمل الآية كلا من بيع العين بالدين كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجل، وبيع الدين بالعين: وهو السلم. أما بيع العين بالعين كبيع سلعة حاضرة بنقد حاضر فهو جائز، وأما بيع الدين بالدين كبيع صاع من القمح في ذمة إنسان، بصاعين من الشعير في ذمة إنسان آخر، فهو باطل للنهي عنه.
٣- دل قوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى على أن السلم إلى الأجل المجهول غير جائز، وأكدت السنة ذلك،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف في تمر، فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» «١».
وأجمع أهل العلم على مشروعية السلم: وهو أن يسلم الرجل إلى صاحبه في طعام معلوم موصوف، من طعام أرض عامّة لا يخطئ مثلها، بكيل معلوم، إلى أجل معلوم بدنانير أو دراهم معلومة، يدفع ثمن ما أسلم منه قبل أن يفترق العاقدان من مقامهما الذي تبايعا فيه، وسمّيا المكان الذي يقبض فيه الطعام. والسلم بيع من البيوع الجائزة بالاتفاق، وهو مستثنى من نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عندك، وأرخص في السلم، لحاجة الناس إليه، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج أو بيع المفاليس.
وأجاز المالكية السّلم إلى الحصاد والجذاذ، إذ ذاك يختص بوقت وزمن معلوم. وأجازوا أيضا تأخير قبض رأس المال (الثمن) يومين أو ثلاثة، بشرط وبغير شرط، لأن ذلك في حكم المقبوض في المجلس، لقرب هذه المدة. ولم يجز باقي الأئمة تأخير شيء من رأس مال السّلم عن مجلس العقد والاتفاق ورأوا أنه كالصرف، وتحرزا من بيع الدّين بالدّين.
(١) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس.
117
وأجاز الشافعي السلم الحالّ، ولم يجزه باقي الأئمة، للحديث المتقدم: «إلى أجل معلوم».
٤- ودل قوله: فَاكْتُبُوهُ أي الدّين والأجل على مشروعية الاحتجاج بالكتابة. ويقال: أمر بالكتابة، ولكن المراد الكتابة والإشهاد لأن الكتابة بغير شهود لا تكون حجة.
وهل كتابة الكاتب فرض أو ندب؟ قيل: إنها فرض كفاية، وقيل:
فرض عين على الكاتب متى طلب منه، وكان في حال فراغه لقوله تعالى:
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقوله: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ وقيل: إنه ندب، والصحيح أنه أمر إرشاد، فيجوز له أن يتخلف عن الكتابة، حتى يأخذ أجره إذ لو كانت الكتابة واجبة على الكاتب ما صح الاستئجار بها لأن الإجارة على فعل الفروض باطلة.
٥- هل الكتابة والإشهاد واجبان؟ ذهب جماعة إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجلة واجبان، بقوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ وقوله:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ثم نسخ الوجوب بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ. واختار الطبري أن كتب الديون واجب على أربابها بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود.
وقال الجمهور: الأمر بالكتابة والإشهاد للندب، وهما مندوبان، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل، وقد تطرأ عوارض من موت أو غيره، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنهم كانوا يتشددون فيهما، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد، ولم يقع نكير منهم، فدل ذلك على أن الأمر للندب.
118
وقرينة صرف ظاهر الأمر من الوجوب إلى الندب منصوص عليها في الآية ذاتها، وهو قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ.
٦- التزام العدل: طالبت الآية بالتزام العدل في الكتابة، وفي الإملاء، وفي إملاء الولي عن السفيه والضعيف، وهذا واضح من قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقوله: كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ وقوله: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وقوله: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. وهل يحجر على السفيه؟ أجاز الجمهور الحجر على السفيه المبذر من قبل القاضي حتى لا يصبح عالة على الناس، وقال أبو حنيفة: يمنع السفيه من ماله ما لم يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه رشد لأن الحجر عليه إهدار لآدميته.
٧- نصاب الشهادة: رجلان أو رجل وامرأتان. وتجوز شهادة النساء مع الرجال عند المالكية في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود والقصاص، والنكاح والطلاق والرجعة. وتجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة. واتفق الفقهاء على رد الشهادة بسبب التهمة: وهي التي تجلب للمشهود له نفعا أو تدفع عنه ضررا، وترد شهادة أحد الزوجين للآخر في رأي الجمهور، ولا ترد في رأي الشافعية وإنما تقبل لأن عقد الزوجية أمر طارئ ويزول. وقال أبو حنيفة: إن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء، وإن كان عدلا استحسانا.
ولا يجوز في رأي الحنفية القضاء بشاهد ويمين المدعي لأن الله لم يذكر في الآية إلا قسمين وهما: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، فلا ثالث لهما.
وأجاز الجمهور القضاء بشاهد ويمين في الأموال لا في الأبدان، لا باعتباره قسما ثالثا للشهادة، وإنما هو باعتبار اليمين مع الشاهد ترجيحا لجانب المدعي، بدليل ما ثبت
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه قضى بشاهد ويمين» «١».
وأما عدم ذكر ذلك في
(١) رواه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس.
119
القرآن، فلا يمنع مشروعيته والعمل به، بدليل جواز القضاء بالنكول عند الحنفية، وهو قسم ثالث لم يذكره القرآن.
٨- ودل قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا على منع الإباء عن تحمل الشهادة وأدائها وإثباتها عند اللزوم أمام القاضي، وأن الشاهد هو الذي يمشي إلى الحاكم. وهذا في حال طلب الشهادة، فأما في غير حال طلبها من القاضي فأداؤها مندوب، فقد فرض الله الأداء عند الدعاء (الطلب)، فإذا لم يدع الشاهد، كان أداء الشهادة ندبا
لقوله عليه الصلاة والسلام: «خير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» «١».
ورأى المالكية في الصحيح أن أداء الشهادة فرض، وإن لم يسألها، إذا خاف على الحق ضياعه أو فوته، حتى لا يضيع الحق، سواء في حقوق الله تعالى، وحقوق الآدميين، لقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ [الطلاق ٦٥/ ٢] وقوله: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف ٤٣/ ٨٦]
وفي الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»
فقد تعين عليه نصره إذا كان مظلوما بأداء الشهادة التي له عنده، إحياء لحقه الذي أماته الإنكار.
وذهب الحنفية إلى أن أداء الشهادة في حقوق الله تعالى قبل سؤالها مطلوب، أما في حقوق العباد فلا يشهد الشاهد قبل أن يستشهد،
لما أخرجه الصحيحان عن عمران بن حصين: «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن»
وأوّله المالكية وحملوه على شاهد الزور فإنه يشهد بما لم يستشهد، أي بما لم يتحمّله ولا حمّله، أو على الذي يحمله الشّرة على تنفيذ ما يشهد به، فيبادر بالشهادة قبل أن يسألها، فهي شهادة مردودة، أو على الغلمان. واتفق الجميع على أن أداء الشهادة فرض كفاية،
(١) رواه مسلم عن زيد بن خالد الجهني.
120
فإذا أداها اثنان واجتزأ بهما الحاكم، سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يجتزئ بهما تعينت الشهادة على الآخر.
٩- الكتابة مندوبة في المبايعات والديون المؤجلة، سواء أكان المؤجل صغيرا أم كبيرا. ولا تطلب الكتابة في التجارة الحاضرة التي يتم فيها التبادل في الحال، ويحدث التقابض في البدلين عقب العقد، إذ يقلّ في العادة خوف التنازع إلا بأسباب غامضة. قال الشافعي: البيوع ثلاثة: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهان، وبيع بأمانة، وقرأ هذه الآية. وكان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب.
١٠- ودل قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ على طلب الإشهاد على صغير ذلك وكبيره، وهل الإشهاد على البيع على الوجوب أو الندب؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وجماعة من التابعين: هو على الوجوب، أخذا بظاهر الأمر في هذه الآية، ورجحه الطبري.
وذهب الشعبي والحسن البصري إلى أن ذلك على الندب والإرشاد، لا على الحتم والإيجاب. وهذا قول مالك والشافعي وأهل الرأي، وزعم ابن العربي أن هذا قول الكافّة، قال: وهو الصحيح، ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك. روي عن ابن عباس أنه قال لما قيل له: إن آية الدّين منسوخة قال:
لا والله، إن آية الدّين محكمة ليس فيها نسخ، قال: والإشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب، ومنها الرهن، ومنها الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب، لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد. وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير
121
نكير، ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه.
١١- أداء الشهادة، وكتابة الكاتب يكونان بالحق والعدل، فلا يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ولا يزيد الشاهد في شهادته ولا ينقص منها، فالكاتب والشاهد يعصيان بالزيادة أو النقصان، وذلك من الكذب المؤذي في الأموال والأبدان، وفيه إبطال الحق، وكذلك إذايتهما من الخصوم معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لأمر الله بقول الحق، فلا يجوز إلحاق الضرر بهما، ولا إضرارهما المشهود له أو عليه إذ لا مضارّة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام، وإن تفعلوا المضارة، فإنه فسوق (أي معصية) حالّ بكم.
١٢- وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه. أما قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو إشارة إلى إحاطته تعالى بالمعلومات، فلا يشذ عنه منها شيء، وفيها إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي.
١٣- دلت آية فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ على مشروعية الرهن في السفر إذا لم يتوافر الإشهاد وكتابة الدين. وجاءت السنة مبينة جواز الرهن في الحضر، كما بيّنا.
والرهن: احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحقّ من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم.
ولا يظهر وجه للتوثق بالمرهون من غير قبضه، وقد اتفق الفقهاء على أن القبض شرط في الرهن، واختلفوا في نوع الشرط، فقال الجمهور: القبض شرط لزوم للرهن، فلا يلزم إلا بالقبض، وما لم يلزم للراهن أن يرجع عنه لأن مشروعية الرهن للتوثق، ولا توثق إلا بالقبض. وقال المالكية: القبض شرط تمام الرهن، أي لكمال فائدته، وليس شرط صحة أو لزوم، فإذا انعقد الرهن لزم
122
بمجرد العقد، ويجبر الراهن على الإقباض، ومتى قبض تم وكمل، قياسا على سائر العقود، فإنها تلزم بمجرد العقد.
والمعتمد لدى المالكية أن الرهن متى رجع إلى الراهن باختيار المرتهن، بطل الرهن. وهو قول أبي حنيفة أيضا، للآية: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. فإذا خرج عن يد القابض، لم يصدق ذلك اللفظ عليه لغة، فلا يصدق عليه حكما.
وقال الشافعي: إن رجوعه إلى يد الراهن مطلقا، لا يبطل حكم القبض المتقدم.
ويصح قبض المرتهن أو وكيله، وقال الجمهور: يصح أيضا قبض عدل (طرف ثالث محايد غير العاقدين) يوضع الرهن في يديه لأنه إذا صار عند العدل، صار مقبوضا لغة وحقيقة لأن العدل نائب عن صاحب الحق، وبمنزلة الوكيل. والعدل أمين غير ضامن، فلو ضاع المرهون منه دون تهاون ولا تقصير، لم يضمنه.
ويجوز رهن المشاع عند الجمهور، خلافا للحنفية، كما بينا.
ويجوز لدى المالكية خلافا للجمهور رهن ما في الذمة لأنه مقبوض، ومثاله: رجلان تعاملا، ولأحدهما على الآخر دين، فرهنه دينه الذي عليه.
قالوا: وكل عرض جاز بيعه جاز رهنه، فيجوز رهن ما في الذمة لأن بيعه جائز، ولأنه مال تقع الوثيقة به، فجاز أن يكون رهنا، قياسا على سلعة موجودة.
وقال الجمهور: لا يجوز رهن الدين في الذمة لأنه لا يتحقق إقباضه، والقبض شرط في لزوم الرهن لأنه لا بد أن يستوفي الحق منه عند حلول أجل وفاء الدين المرهون به، ويكون الاستيفاء من مالية المرهون، لا من عينه، ولا يتصور ذلك في الدّين.
123
ولا يجوز غلق الرهن «١» : وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه، إن لم يأته به عند أجله، وكان هذا من فعل الجاهلية، فأبطله النبي صلّى الله عليه وسلّم
بقوله فيما رواه الشافعي والدارقطني وغيرهما عن أبي هريرة: «لا يغلق الرهن من صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه».
قال الجمهور: منفعة الرهن للراهن، ونفقته عليه، والمرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن خلا الإحفاظ للوثيقة، فإذا آجر المرتهن المرهون بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن، فقد خرج من الرهن ولا يعود.
وأجاز الحنابلة انتفاع المرتهن بالرهن مقابل نفقته إذا كان المرهون مركوبا أو محلوبا،
لما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة».
انطباعات عامة مستفادة من آية الدين:
١- إن الذي أمر الله تعالى به في آية الدين من الشهادة والكتابة «٢» : قصد به الحفاظ على ووشائج الود والصلة والمحبة وصلاح ذات البين بين الناس، ومنع وقوع التنازع المؤدي إلى فساد علاقات الناس، وسدّ كل المنافذ أمام الشيطان الذي قد يسول للمدين جحود الحق، وتجاوز ما حدّ له الشرع، أو ترك الاقتصار على المقدار المستحق.
ومن أجل هذه الغايات السامية، حرّم الشرع البيوع المجهولة التي تؤدي إلى
(١) غلق الرهن: كان من فعل الجاهلية أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين، ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإسلام. [.....]
(٢) يلاحظ أن صيغة الشهادة تكررت في الآيتين ثمان مرات، وصيغة الكتابة تكررت عشر مرات.
124
الاختلاف والتنازع وفساد العلاقات وإيقاع التضاغن والتباين. وبناء عليه أيضا حرم الله الميسر والقمار وشرب الخمر بقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة ٥/ ٩١] فمن تأدب بأدب الله في أوامره وزواجره، حاز صلاح الدين والدنيا، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ [النساء ٤/ ٦٦].
٢- لا ينبغي للإنسان استدانة دين إلا لضرورة قصوى أو حاجة ملحّة لأنه
كما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الديلمي في الفردوس عن عائشة، وهو ضعيف: «الدّين همّ بالليل، ومذلّة بالنهار».
لما فيه من شغل القلب والبال والهمّ اللازم في قضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمّل منّته بالتأخير إلى حين أوانه.
وقد يقع المدين في عجز مستحكم فلا يستطيع وفاء دينه، لذا تعوّذ منه النبي صلّى الله عليه وسلّم-
فيما يرويه البخاري عن أنس- فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل، وضلع الدّين، وغلبة الرجال»
قال العلماء:
ضلع الدين: هو الذي لا يجد دائنه من حيث يؤديه.
وإذا حسنت نية المدين أعانه الله على إيفاء الدين،
روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله».
٣- لما أمر الله تعالى بكتابة الدين والإشهاد وأخذ الرهان، كان ذلك نصا قاطعا على مراعاة حفظ الأموال وتنميتها، وردا على الجهلة المتصوفة ورعاعها الذين لا يرون ذلك، فيخرجون عن جميع أموالهم ولا يتركون كفاية لأنفسهم وعيالهم، ثم إذا احتاج أحدهم أو افتقر عياله، فهو إما أن يتعرض لمنن الإخوان أو لصدقاتهم، أو أن يأخذ من أرباب الدنيا وظلمتهم، وهذا الفعل مذموم منهي عنه.
125
لله ملك السموات والأرض وإحاطة علمه بكل شيء ومحاسبة العباد على أفعالهم ونواياهم
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
الإعراب:
فَيَغْفِرُ ومثله وَيُعَذِّبُ: يجوز فيه الرفع والجزم والنصب، فالرفع على الاستئناف وتقديره: فهو يغفر، والجزم بالعطف على يُحاسِبْكُمْ، والنصب ضعيف، على تقدير (أن) بعد الفاء، والفعل وما بعده في تأويل المصدر لعطف مصدر على مصدر حملا على المعنى دون اللفظ، كأنه قال: إن يكن إبداء أو إخفاء منكم، فمحاسبة، فغفران منّا.
البلاغة:
يوجد طباق بين: وَإِنْ تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ وبين فَيَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ.
المفردات اللغوية:
تُبْدُوا.. تظهروا ما في أنفسكم من السوء والعزم عليه أَوْ تُخْفُوهُ تسرّوه يُحاسِبْكُمْ..
يخبركم به الله يوم القيامة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يستر من أراد المغفرة له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعاقب من أراد تعذيبه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عظيم القدرة على أي شيء، ومنه محاسبتكم وجزاؤكم، قال أبو حيان: لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء، عقب ذلك بذكر القدرة إذ ما ذكر جزء من متعلّقات القدرة.
المناسبة:
هذه الآية متممة لآخر كل من الآيتين السابقتين وهما: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
126
عَلِيمٌ
، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ودليل على إحاطة علم الله بالأشياء لأن من ملك شيئا وخلقه، فلا بد من أن يعلمه، كقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ، وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك ٦٧/ ١٤]، وكذلك من ملك شيئا فله حسابه على أفعاله وما يخفيه صدره، ومنها كتمان الشهادة، وصاحب السلطة المطلقة في شيء وهو الحساب، له الإرادة المطلقة في العفو عمن شاء ممن أخطأ، وعقاب من شاء، وذلك كله مقترن بالقدرة المطلقة على كل شيء.
وللآية أمثال كثيرة في القرآن الكريم نحو: قُلْ: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران ٣/ ٢٩] ونحو: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه ٢٠/ ٧] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر ٤٠/ ١٩].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى في هذه الآية أن له ملك السموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وأنه المطلع على ما فيهن، لا تخفى عليه الظواهر والسرائر والضمائر وإن دقت وخفيت، وأنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم، كما قال ابن كثير فلله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما، وهو العليم بكل شيء، فإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه، أو تكتموه عن الناس وتخفوه، فالله يحاسبكم عليه ويجازكم به، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وهو يغفر بفضله لمن يشاء من عباده، ويعاقب من يشاء عقابه، ومما يكون عونا على المغفرة توفيق الله عبده إلى التوبة والعمل الصالح، كما قال تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
127
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[غافر ٤٠/ ٧- ٩].
والحساب من الله لعباده: أن يطلعهم على جميع أعمالهم، ثم يسألهم: لم فعلوها؟.
فقه الحياة أو الأحكام:
تتضمن الآية إنذارا وتخويفا شديدا من الحساب الإلهي، لكون الإنسان مملوكا لله، والله مطلع على كل أفعاله، محاسب له على جليل الأعمال وحقيرها، مما أدى إلى إيقاع الرهبة في النفوس والإشفاق عليها من شدة العذاب، وتفويض أمره مطلقا إلى الله وحده
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا، وإليك المصير؟». فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها:
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ.. الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية.
وظاهر قوله: «نسخها الله» يدل على نسخ هذه الآية بالآية التي بعدها وهي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ.. وقد فهم بعض المفسرين «١» من ذلك أن هذه الآية
(١) وهم الإمام علي وابن عمر وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وآخرون من الصحابة والتابعين.
128
منسوخة لأنها تثبت الحساب على الوساوس وخواطر النفوس. والراجح أن الآية غير منسوخة، وأن المراد من قوله: «نسخها الله» : أزال ما أخافهم، وأن آية: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ليست ناسخة، ولكنها موضحة، أيدها
الحديث الذي رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلّم أو تعمل»
، وقد قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد: إن الآية محكمة مخصوصة، وهي في معنى الشهادة التي نهى الله عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب.
ويدل على منع القول بالنسخ الأدلة التالية:
١- إن قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ خبر، والأخبار لا تنسخ عند جمهور الأصوليين.
٢- إن كسب القلب وعمله مما دل الكتاب والسنة والإجماع والقياس على ثبوته والجزاء عليه، ظهر أثره على الجوارح أم لم يظهر، كقوله تعالى:
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٥] وقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء ١٧/ ٣٦].
٣- إن الوساوس العارضة وحديث النفس الذي لا يصل إلى درجة القصد الثابت والعزم الراسخ لا يدخل في مفهوم الآية، كما قال المحققون.
٤- إن تكليف ما ليس في الوسع ينافي الحكمة الإلهية.
٥- لا يظهر معنى للنسخ وهو تغيير الحكم لتغير مصلحة المكلفين لأن ما في النفس لا يتغير ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال.
129
وأما قول الصحابة والتابعين بالنسخ فهو مما يتفق مع علو مرتبة هؤلاء وكمالهم، حتى إنهم ليجدون أن وسوسة النفس مما تخضع للحساب، وهم يريدون التطهر من كل آثار الإثم، لذا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتحرجهم من باب كمال التزكية وتمام الطهاوة واعتقاد النقص في أنفسهم.
الإيمان برسالات الرسل والتكليف بالطاقة
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٥ الى ٢٨٦]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
الإعراب:
وَالْمُؤْمِنُونَ إما معطوف على الرَّسُولُ فكأنه قال: آمن الرسول والمؤمنون. وإما مبتدأ، وكُلٌّ: مبتدأ ثان، وآمَنَ بِاللَّهِ: خبره، والجملة من المبتدأ والخبر: خبر المبتدأ الأول. والعائد من الجملة إليه محذوف، وتقديره: كلهم آمن بالله. وقال: آمَنَ: بالإفراد، ولم يقل: آمنوا بالجمع، حملا على لفظ كل. وأضيف بَيْنَ إلى أَحَدٍ لأن المراد به هاهنا الكثرة لأن «أحدا» في سياق النفي يدل على الكثرة، كقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ..
ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما [البقرة ٢/ ١٠٢]. إذ لا تجوز إضافة بَيْنَ إلى الواحد.
130
غُفْرانَكَ منصوب على المصدر بفعل مقدر تقديره: اغفر لنا غفرانك، أو نسألك غفرانك، وحذف للعلم به لوجود الدلالة عليه.
البلاغة:
يوجد طباق بين كَسَبَتْ في الخير واكْتَسَبَتْ في الشر. ويوجد جناس اشتقاق بين آمَنَ.. وَالْمُؤْمِنُونَ وهناك إطناب في قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. وإيجاز بالحذف في قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ أي آمنوا بالله ورسله.
المفردات اللغوية:
آمَنَ الرَّسُولُ صدّق النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من القرآن وَرُسُلِهِ يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي في الرسالة والتشريع، فلا نفضل بعضهم على بعض في ذلك، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض سَمِعْنا ما أمرنا به سماع قبول وتدبر الْمَصِيرُ المرجع بالبعث.
وُسْعَها طاقتها: وهو ما تسعة قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.
كَسَبَتْ من الخير وثوابه مَا اكْتَسَبَتْ من الشر أي وزره، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد، ولا بما لا يكسبه مما وسوست به نفسه لا تُؤاخِذْنا تعاقبنا أَوْ أَخْطَأْنا تركنا الصواب لا عن عمد، كما آخذت به من قبلنا إِصْراً أمرا أو حملا يثقل علينا حمله أو يشق تحمله كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي بني إسرائيل، من قتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقرض موضع النجاسة. ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي ما لا قدرة لنا عليه من التكاليف والبلاء، فالتكليف بما يطاق: هو ما يمكن الإتيان به ولو بمشقة معتادة متحملة، والتكليف بما لا يطاق: هو ما لا يدخل في مكنة الإنسان وقدرته، بأن اقترن بمشقة زائدة غير معتادة. وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا الرحمة أمر زائد على المغفرة مَوْلانا مالكنا وسيدنا ومتولي أمورنا.
جاء في الحديث الذي يرويه مسلم عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم، قال الله عقب كل كلمة: قد فعلت.
سبب النزول:
سبق بيان سبب نزول هذه الآية فيما رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة في بحث «فقه الحياة» في الآية السابقة. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه.
131
المناسبة:
بدأ الله تعالى هذه السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين ومقارنتهم بالكافرين، ولا سيما أخبار اليهود، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطالق، ثم أرشد تعالى إلى كثير من الأحكام كالصيام والحج والطلاق، ومحاجة الضالين، وختم السورة بالكلام عن إيمان الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بالكتب السماوية وبالرسل الكرام دون تفريق أو تفضيل في أصل الرسالة والتشريع، وكان مسك الختام إبداء ما تفضل الله به على هذه الأمة من التكاليف السمحة السهلة التي لا ضيق ولا حرج فيها، وأن الإيمان وأهله منصور على الكفر وأعوانه، إذا صح وصدقت العزيمة وتوافر الإخلاص والصدق وتنفيذ الأحكام الشرعية.
فضل هاتين الآيتين:
ورد في السّنة النّبوية أحاديث كثيرة تشير إلى فضائل هاتين الآيتين، منها:
ما رواه البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»
ورواه مسلم عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».
ومنها:
ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن نبيّ قبلي».
وروى ابن مردويه عن علي قال: «لا أرى أحدا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز أعطيه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم من تحت العرش».
ومنها:
ما رواه مسلم عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: هذا باب قد
132
فتح من السماء، ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له:
أبشر بنورين قد أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته».
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين بالإيمان بأصول الاعتقاد فقال:
صدّق الرسول محمد والمؤمنون برسالته، بالذي أنزل على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربّه، من العقائد والأحكام تصديق يقين واطمئنان.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية فيما رواه الحاكم في مستدركه: «حقّ له أن يؤمن».
كلّ منهم آمن بوجود الله ووحدانيته وتمام حكمته في خلقه، وبوجود الملائكة الذين لهم مهام عديدة منها السفارة بالوحي بين الله ورسله، وبالرّسل الكرام الذين أنزل الله عليهم كتبا وصحفا لهداية البشر، قائلين جميعا: لا نفرق بين الرّسل في الرّسالة والتّشريع من حيث المبدأ، وأن دعوتهم واحدة هي الإقرار بوجود الله ووحدانيته والدّعوة إلى مكارم الأخلاق. وأما التّفضيل بين الرّسل في آية سابقة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة ٢/ ٢٥٣]، إنما هو في مزايا أخرى غير الرّسالة والتّشريع. وفي هذا إشارة إلى فضيلة المؤمنين على غيرهم من أهل الكتاب الذين يؤمنون ببعض الرّسل ويكفرون بالبعض الآخر.
وقال المؤمنون: بلّغنا الرّسول بالوحي، فسمعنا القول سماع تدبّر وفهم وقبول، وأطعنا الأوامر إطاعة إذعان وانقياد، معتقدين أن كل أمر ونهي إنما هو لسعادة الدّنيا والآخرة.
ويسألون الله تعالى المغفرة بالسّتر في الدّنيا وترك الجزاء في الآخرة، فأنت المتصرف في أمورنا وإليك المرجع والمآب، فتفعل فينا ما تشاء. قال جبريل:
«إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك، فسل تعطه، فسأل: لا يُكَلِّفُ
133
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلى آخر الآية».
لا يكلّف الله أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى ورأفته بهم، وهذه الآية هي التي أوضحت للصحابة ما أشفقوا منه في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي أنه تعالى وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذّب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلّف به الإنسان، علما بأن كراهية وسوسة السّوء من الإيمان.
ومنع التّكاليف الشّاقة والتّكليف باليسير مشار إليه في كثير من آي القرآن، نحو: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥]، ونحو:
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج ٢٢/ ٧٨].
وللنّفس الإنسانيّة من الأعمال التي تدخل تحت التّكليف المحتمل غير الشّاق ما كسبت من خير وما اكتسبت من شرّ، ولها الثواب على الخير، وعليها العقاب على الشّر.
وأضيف الاكتساب إلى الشّر لبيان أنه يحتاج إلى تكلّف وعناء وتخطيط ومصادمة الطبيعة والأعراف، أما الخير فلا يحتاج إلى جهد كثير لأنه مما أودع الله في طبع الإنسان، وترتاح النفس لفعله، ولا يحتاج إلى حذر وتدبير، ويقدم الإنسان عليه كلما صفت نفسه وأحسّت بضعفها أمام الخالق، وبفقرها إليه يوم المحنة الكبرى وكشف الحساب الدّقيق الشامل الرّهيب أمام الله والنّاس.
ثم أرشد الله تعالى عباده إلى هذا الدّعاء، وقد تكفّل لهم بالإجابة وهو:
رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي إن تركنا فرضا نسيانا، أو فعلنا حراما ناسين، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي، فلا تعاقبنا عليه، يؤيده
ما رواه ابن ماجه والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي ذرّ
134
وابن عباس وثوبان أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
- رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً، كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أي لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها، كما كلفت الأمم الماضية قبلنا كبني إسرائيل الذين كانت توبتهم بقتل التائب نفسه، وإيجاب ربع المال في الزّكاة، وقطع موضع النّجاسة من الثوب إذا تنجّس. أما رسالة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ففيها التّخفيف والتّيسير والسّماحة والسّهولة لأنه نبيّ الرحمة المهداة للأمم قاطبة،
روى الخطيب وغيره عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت بالحنيفية السّمحة».
- رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء، فلا تبتلينا بما لا قدرة لنا عليه من الفتن. وَاعْفُ عَنَّا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا. وَاغْفِرْ لَنا فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة. وَارْحَمْنا فيما يستقبل، فجنبنا بتوفيقك الوقوع في ذنب آخر.
ويلاحظ أن عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ يستتبع العفو، وأن عدم حمل الإصر (الحرج والحمل الثقيل) يستوجب المغفرة، وأن عدم تحميل ما لا يطاق يتطلب الرحمة.
- أَنْتَ مَوْلانا متولي أمورنا ومالكنا، وناصرنا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بك.
- فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدّنيا والآخرة.
وكان معاذ رضي الله عنه إذا فرغ من هذه السورة قال: آمين.
135
وقد تكفّل الله بالإجابة،
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: نعم»
وعن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله: قد فعلت».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
١- الإيمان لا يتجزّأ: فالمؤمن يجب عليه الإيمان بكل ما أوحى الله به، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا ربّ سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون، راشدون، مهديون، هادون إلى سبيل الخير.
وليس المؤمنون كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.
٢- الإيمان يستلزم الطاعة: المؤمن بالله يؤمن بصدق لقائه، ويسمع ويطيع أوامره، ويتجنّب نواهيه، فلا يقصر في واجب، ولا ينغمس في معصية، فذلك يتصادم مع الإيمان.
٣- الإسلام دين اليسر: فهو يمتاز بقلّة التّكاليف والفرائض والواجبات، وبيسر تكاليفه، وعدم التّكليف بالشّاق من الأعمال، فلا تكليف فوق الطاقة، وإنما التّكليف بحسب الوسع والقدرة، والطاعة على قدر الطاقة، فقد يكلّفنا الله بأمور فيها شيء من المشقّة لكنها معتادة متحمّلة مقدور عليها، كثبوت الواحد للعشرة من الكفار في مبدأ الإسلام حينما كان المسلمون قلّة، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه، ومفارقة أهله ووطنه وعادته، أما المشقات الثّقيلة والأمور المؤلمة فهي مرفوعة عنا، وكان بعضها على الأمم السابقة، كتكليفهم بقتل أنفسهم
136
للتوبة، وقرض موضع النّجاسة كالبول من ثيابهم وجلودهم، فلله الحمد والمنّة، والفضل والنّعمة.
والخلاصة: إن قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نصّ على أن الله تعالى لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه، ولو كلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه، لكان مكلّفا له ما ليس في وسعه. وهذا أصل عظيم في الدّين وركن من أركان الإسلام.
هذا من حيث الواقع الفعلي، أما من حيث الجواز العقلي، فلم يمنع الأشاعرة من تكليف ما لا يطاق، فهو جائز عقلا وإن لم يقع شرعا.
٤- المسؤولية الشخصية: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة ٢/ ٢٨٦] : للإنسان ما كسب من الحسنات، وعليه ما اكتسب من السّيئات، مثل قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤]، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها [الأنعام ٦/ ١٦٤].
روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي، ضحك، وقال: إنهما من كنز الرحمن تحت العرش»، وإذا قرأ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء ٤/ ١٢٣]، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى [النجم ٥٣/ ٣٩- ٤١] استرجع واستكان.
٥- ودلّت آية لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ على أنه يطلق على أفعال العباد الكسب والاكتساب، وعلى أن من قتل غيره بمثقّل كحجر وخشب، أو بخنق أو تغريق، فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لأبي حنيفة الذي جعل ديته على العاقلة (القبيلة) وذلك يخالف الظاهر. ودلّت على أن سقوط القصاص عن الأب بقتل ولده لا يقتضي سقوطه عن شريكه، فالقود واجب على
137
شريك الأب في رأي المالكية خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك المخطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة، ودلّت أيضا على وجوب الحدّ على المرأة العاقلة البالغة إذا مكنت مجنونا من نفسها.
٦- رفع الإثم عن الخطأ والنسيان: دلّت الآية على أن الإثم مرفوع حال الخطأ والنسيان. وأما الأحكام الدّنيوية المتعلّقة بهما فالصّحيح أنها تختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتّفاق كالغرامات والدّيات والصّلوات المفروضات، وقسم يسقط باتّفاق كالقصاص والنّطق بكلمة الكفر. وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا. وهذا يدل على أن أحكام العباد وحقوق الناس ثابتة، كما سنبيّن في سورة النساء.
خلاصة أهم الأحكام في سورة البقرة المسمّاة «فسطاط القرآن» :
أولا- العقائد:
١- دعوة جميع الناس إلى عبادة الله تعالى.
٢- تحريم اتّخاذ الأنداد والشركاء مع الله.
٣- إثبات الوحي والرّسالة بالقرآن وتحدّي الناس بالإتيان بسورة من مثله.
٤- أساس الدّين: توحيد الله، وإثبات البعث ومحاجة الكافرين الضالين في ذلك.
ثانيا- الأحكام العملية الفرعية:
١- إباحة الأكل من الطّيّبات.
٢- الحفاظ على حق الحياة بتشريع القصاص والقتال في سبيل الله.
138
٣- أحكام أركان الإسلام: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج والعمرة.
٤- إنفاق المال في سبيل الله تحقيقا للتّكافل الاجتماعي في الإسلام.
٥- تحريم الخمر والميسر والرّبا.
٦- الولاية على اليتامى ومخالطتهم في المعيشة.
٧- أحكام الزواج من طلاق ورضاع وعدّة ونفقة.
٨- الوصية الواجبة.
٩- كتابة وثيقة الدّين والإشهاد عليه والرّهان وكتمان الشهادة ونصاب الشهادة المطلوب في المعاملات.
١٠- أداء الأمانة.
١١- صيغة الدّعاء المطلوبة في التّشريع.
139

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة آل عمران
هي السّورة الثالثة، وهي سورة مدنيّة وآياتها مائتان. نزلت بعد الأنفال
مدى صلتها بسورة البقرة:
هناك أوجه اتّصال وشبه ومقارنة بين السورتين: البقرة وآل عمران، وهي ما يأتي:
١- موقف الناس من القرآن: بدئت السورتان بذكر القرآن (أو الكتاب) وحدد موقف الناس منه، ففي البقرة: ذكر حال المؤمنين وغير المؤمنين به، وفي آل عمران: ذكر موقف الزائغين الذين يتصيّدون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وموقف الرّاسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه، قائلين: كلّ من عند ربّنا.
٢- عقد التّشابه بين خلق آدم وخلق عيسى: ففي البقرة تذكير بخلق آدم، وفي آل عمران تذكير بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في خلق غير معتاد.
٣- محاجّة أهل الكتاب: في السورة الأولى: إفاضة في محاجّة اليهود وبيان عيوبهم ونقائصهم ونقضهم العهود، وفي الثانية: إيجاز في محاجّة النصارى، لتأخرهم في الوجود عن اليهود.
٤- تعليم صيغة الدّعاء في ختام كلّ منهما: في الأولى دعاء يناسب بدء الدّين ويمسّ أصل التّشريع وبيان خصائصه في قلّة التّكاليف ودفع الحرج والأخذ باليسر والسماحة، وفي الثانية: دعاء بالتّثبيت على الدّين وقبول دعوة الله إلى الإيمان، وطلب الثواب عليه في الآخرة.
140
٥- إثبات الفلاح للمؤمنين: ختمت السورة الثانية بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهو ما بدئت به السّورة الأولى بقوله تعالى واصفا المؤمنين:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ما اشتملت عليه السورة:
تضمّنت هذه السّورة الكلام على جانبي العقيدة والتّشريع، أما العقيدة:
فقد أثبتت الآيات وحدانية الله، والنّبوة، وصدق القرآن، وإبطال شبهات أهل الكتاب حول القرآن والنّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإعلان كون الدّين المقبول عند الله هو الإسلام، ومناقشة النصارى في شأن المسيح وألوهيته والتكذيب برسالة الإسلام، واستغرقت المناقشة قرابة نصف السورة، كما استغرقت سورة البقرة ما يزيد عن ثلثها في مناقشة اليهود وتعداد قبائحهم وجرائمهم، بالإضافة إلى ما تضمنته هذه السّورة من تقريعاتهم، والتحذير من مكائد أهل الكتاب.
وأما التّشريع: فقد أبانت الآيات بعض أحكام الشرع مثل فرضية الحج والجهاد وتحريم الرّبا وجزاء مانع الزّكاة، وبعض الدروس والعبر والعظات من غزوتي بدر وأحد، والتّنديد بمواقف أهل النّفاق.
ثم ختمت السورة بما يناسب الجانبين، فطالبت بالتّفكير والتّدبّر في خلق السّموات والأرض وما فيهما من عجائب وأسرار، وأوصت بالصبر على الجهاد والمرابطة في سبيل الله، ليحظى الإنسان برتبة الفلاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
سبب التّسمية:
سميت السورة سورة آل عمران لإيراد قصة أسرة عمران والد مريم أم عيسى فيها، وإعداد مريم التي نذرتها أمها للعبادة، وتسخير الله الرّزق لها في المحراب
141
واصطفائها وتفضيلها على نساء عالمي زمانها، وتبشيرها بإنجاب عيسى صاحب المعجزات «١» وسميت آل عمران والبقرة بالزّهراوين لأنّهما النّيّرتان الهاديتان قارئهما للحقّ بما فيهما من أنوار، أي معان، أو لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، أو لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم،
روى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن أسماء بن يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، والتي في آل عمران: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».
فضلها:
أخرج مسلم عن النّواس بن سمعان قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران»
وأخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزّهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «٢».
(١) وسميت السورة أيضا: الزهراء والأمان والكنز والمعينة والمجادلة وسورة الاستغفار وطيبة (البحر المحيط: ٢/ ٣٧٣).
(٢) الغمامة: السحاب الملتف، وهو الغياية، إذا كانت قريبا من الرأس، وهي الظّلّة أيضا، والمعنى أن قارئهما في ظل ثوابهما،
كما جاء في حديث «الرجل في ظل صدقته».
تحاجان:
أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة. والبطلة: السّحرة.
142
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ وفي وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وفي أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.