تفسير سورة النساء

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة النساء من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة النساء مدنية
حروفها ١٤٥٣٥ كلماتها ٣٧٤٥
آياتها مائة وست وسبعون

(سورة النساء
مدنية حروفها ١٤٥٣٥ كلماتها ٣٧٤٥ آياتها مائة وست وسبعون
[سورة النساء (٤) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
القراآت:
تَسائَلُونَ خفيفا بحذف التاء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين. وَالْأَرْحامَ بالجر حمزة.
الباقون بالنصب. ما طابَ بالإمالة: حمزة. فَواحِدَةً بالرفع: يزيد. الباقون بالنصب.
هنيّا مريّا بالتشديد فيهما: يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف، وإذا انفرد هَنِيئاً
338
همزها كل القرآن: يزيد. قيما ابن عامر ونافع. الباقون قِياماً ضِعافاً بالإمالة:
خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء: ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها.
الوقوف:
وَنِساءً ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات وَالْأَرْحامَ ط رَقِيباً هـ بِالطَّيِّبِ ص إِلى أَمْوالِكُمْ ط كَبِيراً هـ وَرُباعَ ج أَيْمانُكُمْ ط أَلَّا تَعُولُوا ط لابتداء حكم آخر نِحْلَةً ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب. مَرِيئاً هـ مَعْرُوفاً هـ النِّكاحَ ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح، أو مجموع الشرط والجواب جواب «إذا» و «حتى» تكون داخلة على جملة شرطيه مقدمها حملية، وثالثها شرطية أخرى. أَمْوالَهُمْ ج أَنْ يَكْبَرُوا ط لابتداء جملتين متضادتين فَلْيَسْتَعْفِفْ ج بِالْمَعْرُوفِ ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. عَلَيْهِمْ ط حَسِيباً هـ وَالْأَقْرَبُونَ الأول ص أَوْ كَثُرَ ط بتقدير جعلناه نصيبا مفروضا مَعْرُوفاً هـ خافُوا عَلَيْهِمْ ص سَدِيداً هـ ناراً ط سَعِيراً هـ.
التفسير:
لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، ومن الأمر بالطهارة والصلاة، والجهاد والدية، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى. ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما يا أَيُّهَا النَّاسُ إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضا في الرابعة من سوره.
ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: ١] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة. أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه. وأيضا الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه. وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة. ثم في
339
هذا القيد فوائد أخر منها: أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان، وكونهم متفرعين من أصل واحد وأرومة واحدة أعون على هذا المعنى ولهذا
قال ﷺ «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «١».
ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق. ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء. ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي ﷺ لأنه لم يقرأ كتابا. وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، والتأنيث في الوصف نظرا إلى لفظة النفس. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء من ضلع من أضلاعها. وقال أبو مسلم: المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: ٧٢] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما
روي عن النبي ﷺ «أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها» «٢»
احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال. والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور. قال في الكشاف: قوله: وَخَلَقَ مِنْها معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها، أو معطوف على خَلَقَكُمْ والخطاب للذين بحضرة رسول الله ﷺ أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. أقول: وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعا للتكرار، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. نعم لو كان المراد بقوله: وَخَلَقَ مِنْها إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعا من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال: «فبث» بالفاء. فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا، وأن
(١) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب ١٢، ١٦. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث ٩٣، ٩٤. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٢. الترمذي في كتاب المناقب باب ٦٠. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٦. أحمد في مسنده (٤/ ٥، ٣٢٦).
(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١. مسلم في كتاب الرضاع حديث ٦١، ٦٢. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣٥. أحمد في مسنده (٥/ ٨).
340
التفصيل والترتيب موكول إلى قضية العقل فافهم والله تعالى أعلم. ومعنى بث فرق ونشر.
وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتمادا على الفهم، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر. وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول. وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما، ومن أولادهما جمعا آخرين وهلم جرا، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج. وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى. وقيل: منصوب بالإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها. ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في بِهِ وهذا وإن كان مستنكرا عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت. وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام
وقد قال النبي ﷺ «لا تحلفوا بآبائكم» «١».
والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وهاهنا حلف أولا بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضا منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها، ولهذا
جاء في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» «٢».
سلمنا أنها منهي عنها مطلقا لكن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض: أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله
(١) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب ٢٦. مسلم في كتاب الأيمان حديث ٣. الترمذي في كتاب النذور باب ٨، ٩. النسائي في كتاب الأيمان باب ٤، ٥، ٦. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب ٢. الموطأ في كتاب النذور حديث ١٤. أحمد في مسنده (٢/ ٧، ٨، ٢٠، ٧٦). [.....]
(٢)
رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٩. بلفظ «دخل الجنة وأبيه إن صدق».
341
والرحم. وقرئ وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي والأرحام كذلك أي أنها مما يتقى ويتساءل به. فإن قيل: لم قال أولا اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُوا اللَّهَ؟
قلنا: أما تكرار الأمر فللتأكيد كقولك للرجل: عجل عجل. وأما تخصيص الرب بالأول والله بالثاني فلأن الغرض في الأول الترغيب بتذكير النعمة والإحسان والتربية، وفي الثاني الترهيب. ولفظ الله يدل على كمال القدرة والقهر فكأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته وإلا فإنه شديد العقاب فاتق سخطه. قال العلماء: في الآية دليل على جواز المسألة بالله.
روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سألكم بالله فأعطوه» «١».
وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع منها إبرار القسم.
ولا يخفى ما في الآية من تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها حيث قرن الأرحام باسمه، وقال في سورة القرة:
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى [البقرة: ٨٣].
وعن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله عز وجل: «أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «٢»
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «٣».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليس الواصل بالمكافىء الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» «٤»
عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «٥».
فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، فلهذا بنى أصحاب أبي حنيفة على هذا الأصل مسألتين: إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت والعم والخال لأنه لو بقي الملك حل الاستخدام بالإجماع، لكن الاستخدام إيحاش وقطيعة رحم. والثانية أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها حذرا من
(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١٠٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٧٢. أحمد في مسنده (٢/ ٦٨، ٩٦).
(٢) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب ٤٥. الترمذي في كتاب البر باب ٩. أحمد في مسنده (١/ ١٩١، ١٩٤).
(٣) رواه مسلم في كتاب البر حديث ١٧. أحمد في مسنده (٢/ ١٦٣).
(٤) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٥. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٤٥. الترمذي في كتاب البر باب ١٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٦٣، ١٩٠).
(٥) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب ٢٦. النسائي في كتاب الزكاة باب ٢٢. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢٨. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٣٨. أحمد في مسنده (٤/ ١٧، ١٨).
342
الإيحاش والقطيعة. ثم إنه ختم الآية بما يتضمن الوعد والوعيد فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مراقبا يحفظ عليكم جميع أعمالكم فيجازيكم بحسبها.
ثم إنه سبحانه بعد تقديم موجبات الشفقة على الضعفة ومن له رحم ماسة قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأصل اليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة. فاليتامى هم الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. فاليتيم لغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه في عرف الشرع اختص بالذي لم يبلغ الحلم.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد الحلم» «١».
والمراد أنه إذا احتلم لا تجري عليه أحكام الصغار لأنه في تحصيل مصالحه يستغني بنفسه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره. فإن قيل: إذا كان اسم اليتيم في الشرع مختصا بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع أمواله إليه، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما فكيف قال: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟
ففي الجواب طريقان: أحدهما أن المراد باليتامى الكبار البالغون، سماهم بذلك على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم كقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الشعراء: ٤٦] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود. ويؤكد هذا الطريق قوله فيما بعد فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ والإشهاد لا يصح قبل البلوغ بل إنما يصح بعد البلوغ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها» «٢»
ولا تستأمر إلا وهي بالغة. وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عند حد البلوغ ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن لا يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار، ويوافقه ما
رواه مقاتل والكلبي أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لأبن أخ يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى رسول الله ﷺ فنزلت الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته. فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر وبقي الوزر. فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده.
قيل: لأنه كان مشركا. الطريق الثاني أن المراد بهم الصغار أي الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتيم أموالهم، وآتوهم من أموالهم ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، والخطاب للأولياء والأوصياء.
(١) رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب ٩.
(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٢٣. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٩. الدارمي في كتاب النكاح باب ١٢. أحمد في مسنده (٤/ ٣٩٤، ٤٠٨).
343
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قال الفراء والزجاج: أي لا تستبدلوا الحرام- وهو مال اليتامى- بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز كالتعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث- وهو اختزال أموال اليتامى والاعتزال عنها حتى تتلف- بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. وقال كثير من المفسرين: هذا التبدل هو أن يأخذ الجيد من مال اليتيم ويجعل مكانه الرديء. قال صاحب الكشاف: هذا ليس بتبدل وإنما هو تبديل. يريد أن الباء في بدل تدخل على المأخوذ، وفي تبدل على المعطى. ولما كان المأخوذ الطيب كان تبديلا. ثم وجهه بأنه لعله يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي فيكون الباء في موضعه. وقيل: معنى الآية أن يأكل مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك فيكون متبدلا الخبيث بالطيب. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ منضمة إِلى أَمْوالِكُمْ وفي الانفاق تسوية بين المالين في الحل إِنَّهُ أي الأكل كانَ حُوباً كَبِيراً ذنبا عظيما. والحاب مثله، والتركيب يدور على الضعف، والمراد بالأكل مطلق التصرف إلا أنه خص بالذكر لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف. وقيل: «إلى» هاهنا بمعنى «مع» والفائدة في زيادة قوله: إِلى أَمْوالِكُمْ أكل أموال اليتامى محرم على الإطلاق زيادة التقبيح والتوبيخ لأنهم إذا كانوا مستغنين عنها بما لهم من المال الحلال ومع ذلك طمعوا في مال اليتيم كانوا بالذم أحرى، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أقسط الرجل عدل وقسط جار. وقال الزجاج: أصلهما جميعا من القسط وهو النصيب. فإذا قالوا قسط فمعناه ظلم صاحبه في قسطه من قولهم:
قاسطته فقسطته أي غلبته على قسطه. وإذا قالوا أقسط بالهمز فمعناه صار ذا قسط مثل أنصف إذا أتى بالنصف فيلزمه العدالة والتسوية. واعلم أن قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شرط وقوله: فَانْكِحُوا جواب له. ولا بد من بيان أن هذا الجزاء كيف يتعلق بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه: الأول ما روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب الرجل في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها. ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة ردية لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها.
فقال تعالى وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا غيرهن ما طاب لكم من العدد.
قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء: ١٢٧] الآية.
فقوله فيها: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ
344
فِي يَتامَى النِّساءِ
[النساء: ١٢٧] المراد منه هذه الآية وهي قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا. وعبر في الكشاف عن هذه الرواية بعبارة أخرى وهي: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طابَ لَكُمْ. الثاني وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي منقولا عن ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة وما في أكل أموال اليتامى من الحوب الكبير، خاف الأولياء لحوق الحوب فتحرجوا من ولاية اليتامى. وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فكونوا خائفين من ترك العدل بين النساء لأنهن كاليتامى في العجز والضعف، فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فكأنه غير متحرج.
الثالث: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم ذلك فكونوا خائفين من الزنا أيضا وانكحوا ما حل لكم من النساء. الرابع روي عن عكرمة كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن. فقيل: إن خفتم أن تظلموا اليتامى بأكل أموالهم عند كثرة الزوجات فقد حظرت لكم أن تنكحوا أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه قيل: إن خفتم الأربع فثلاثا وإن خفتم فاثنتين وإن خفتم فواحدة. قال الظاهريون:
النكاح واجب لقوله: فَانْكِحُوا وظاهر الأمر للوجوب. وعورض بقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: ٢٥] ولو سلم فالوجوب بحالة الخوف فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق وأيضا الآية سيقت لبيان وجوب تقليل الأزواج لا لأصل الوجوب وإنما قال: ما طابَ ولم يقل من طاب لأنه أراد به الجنس. تقول: ما عندك؟
فيقال: رجل أو امرأة. تريد ما ذلك الشيء الذي عندك أو ما تلك الحقيقة. ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء ومنه قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ولأن «ما» و «من» يتعاقبان. قال تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: ٤٥]. قال المفسرون: معنى ما طابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن فيهن من يحرم نكاحها كما سيجيء. واعترض عليه الإمام بأن قوله: فَانْكِحُوا أمر إباحة فيؤل المعنى إلى قوله: أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم وهذا كلام مستدرك سلمناه، لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية. وإذا حملنا الطيب
345
عن استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص وأنه أولى من الإجمال عند التعارض لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا، والجواب عن الأول أن ذكر الشيء ضمنا ثم صريحا لا يعد تكرارا بدليل قوله:
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٥٧] وعن الثاني أن قوله: ما طابَ لَكُمْ بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة إلى ما بقي بعد ما أخرجته آية التحريم فلا إجمال. وأما قوله:
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ولم يوجد في كلام الفصحاء إلا هذه، وأحاد وموحد وجوّزوا إلى عشار ومعشر قياسا على قول الكميت:
ولم يستر يثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا
فاتفق النحويون على أن فيها عدلا محققا. وذلك أن فائدتها تقسيم أمر ذي أجزاء على عدد معين، ولفظ المقسوم عليه في غير العدد مكرر على الإطراد في كلام العرب نحو:
قرأت الكتاب جزءا جزءا، وجاءني القوم رجلا رجلا وجماعة جماعة. وكان القياس في باب العدد أيضا التكرير عملا بالاستقراء وإلحاقا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب، فلما وجد ثلاث مثلا غير مكرر لفظا حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلا ثلاثة ثلاثة. فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفا بخلاف المعدول عنه. وقيل: إن فيه عدلا مكررا من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث. وقيل: إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافا لما في الكشاف. وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالا. فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة. فمن قرأ بالنصب أراد: فاختاروا أو انكحوا أو الزموا واحدة، ومن قرأ بالرفع أراد: فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأسا فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به. ثم قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل. ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائدا على المساوي الآخر. ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلا
346
للمريض: كل التفاح أو الرمان يحتمل أن يكون للتسوية بينهما وقد يكون للمقاربة أي إن لم تجد التفاح فكل الرمان فإنه قريب منه في دفع الحاجة للضرورة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال على أن فضل الحرة على الأمة معلوم شرعا وعقلا. وهاهنا مسألتان:
الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه. وأيضا إنه قال بعد ذلك فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق. وكذا قوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً والعبد لا يأكل فيكون لسيده. وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكا بظاهر الآية. ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس. قالوا: أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر. الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه، وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقا. فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحا في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصا. وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها. ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها. وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه ﷺ مات عن تسع وقد أمرنا باتباعه في قوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] وأقل مراتب الأمر الإباحة.
وقد قال ﷺ «فمن رغب عن سنتي فليس مني» «١»
والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران: أحدهما الخبر كنحو ما
روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق واحدة».
وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع. وأقول: إن القرآن لم
(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ١. مسلم في كتاب النكاح حديث ٥. النسائي في كتاب النكاح باب ٤. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ١٥٨)، (٣/ ٢٤١).
347
يدل على عدم الحصر، غايته أنه لم يدل على الحصر فيكون مجملا. وبيان المجمل بخبر الواحد جائز. وأيضا قوله «أمسك أربعا» على الإطلاق وكذا «فارق واحدة» دليل على أن المانع هو الزيادة على الأربع لا غيرها، وكذا في نظائر هذا الحديث. وثانيهما إجماع فقهاء الأمصار. وضعف بأن الإجماع مع وجود المخالف لا ينعقد، وبتقدير التسليم فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. والجواب أن المخالف إذا كان شاذا فلا يعبأ به، والقرآن لم يدل على عدم الحصر حتى يلزم نسخ الإجماع إياه ولكن الإجماع دل على وجود مبين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولئن سلم أن القرآن دل على عدم الحصر فالإجماع يكشف عن وجود ناسخ في عهده وذلك جائز بالاتفاق. لا يقال: فعلى تقدير الحصر كان ينبغي أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع بأو الفاصلة، لأنا نقول: يلزم حينئذ أن لا يجوز النكاح إلا على أحد هذه الأقسام، فلا يجوز لبعضهم أن يأتي بالتثنية، ولفريق ثان بالتثليث، والآخرين بالتربيع، فيذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أي اختيار الواحدة أو التسري أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا. وكلا اللفظين مروي عن عائشة عن النبي ﷺ من قولهم: عال الميزان عولا إذا مال. وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ومنه عالت الفريضة إذا زادت سهامها. وفيه الميل عن الاعتدال. وقيل:
معناه أن لا تفتقروا. ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر.
ونقل عن الشافعي أنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم. وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى «تعيلوا» لا معنى «تعولوا». يقال: أعال الرجل إذا كثر عياله. ومنه قراءة طاوس أن لا تعيلوا وأيضا إنه لا يناسب أول الآية. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا وأيضا هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن؟
والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور. وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر، وهو أنه جعل قوله تعالى:
أَلَّا تَعُولُوا من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم. ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضا يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا. وعن الثالث أن
348
الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا فكأنه لا عيال. وأيضا إذا عجز المولى باعهن وتخلّص منهن بخلاف المهائر فإن الخلاص عنهن يفتقر إلى تسليم المهر إليهن. وقال في الكشاف: العزل عن السراري جائز بغير إذنهن فكن مظان قلة الولد بالإضافة إلى التزوج. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن. والخطاب للأزواج وهو قول علقمة وقتادة والنخعي واختيار الزجاج لأن ما قبله خطاب للناكحين.
وقيل: خطاب للأولياء لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة: هينئا لك النافجة- يعنون أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة فيكونوا قد أمروا بدفع المهور التي سموها لهن، ويحتمل أن يراد الالتزام كقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة: ٢٩] أي حتى يضمنوها ويلتزموها. فيكون المعنى أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول ﷺ من الموهوبة. قال: ويجوز أن يراد الوجهان جميعا. أما قوله نحلة فقد قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: أي شريعة وديانة. فيكون مفعولا له، أو حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه. وقال الكلبي: أي عطية وهبة فيكون نصبا على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء من غير مطالبة منهن، لأن ما يؤخذ بالمطالبة لا يسمى نحلة، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيب نفس. وإنما سميت عطية من الزوج لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. وإنما الذي استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. والنحلة العطية من غير بدل. وقال قوم: إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر وكان ذلك عطية من الله تعالى ابتداء. ثم لما أمرهم بإيتاء الصدقات أباح لهم جواز قبول إبرائها وهبتها. وانتصب نَفْساً على التمييز وإنما وحد لأنه لا يلبس أن النفس لهن لأنهن أنفس ولو جمعت لجاز. والضمير في مِنْهُ للصداق أو للمذكور في قوله: طِبْنَ وبناء الكلام على الإبهام ثم التمييز دون أن يقول سمحن أو وهبن. وفي قوله: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ دون أن يقول عنه تنبيه على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك وبعث لهن على تقليل الموهوب،
349
ولهذا ذكر الضمير في مِنْهُ لينصرف إلى الصداق الواحد فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله لأن بعض الصدقات واحدة منها أو أكثر. ومن هذا التقرير يظهر أن «من» في قوله: مِنْهُ للتبعيض إخراجا للكلام مخرج الغالب مع فائدة البعث المذكور لأنه لا يجوز هبة كل الصداق إذا طابت نفسها عن المهر بالكلية، ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن «من» للتبيين والمعنى عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته. وقيل: هو ما ينساغ في مجراه ومنه يقال: المريء لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة. وقيل: أصله من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من الجرب. وبالجملة فهو عبارة عن التحلل أو المبالغة في إزالة التبعة في الدنيا والآخرة. وهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على قوله: فَكُلُوهُ ويبتدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء أو على أنهما قاما مقام مصدريهما أي هنأ مرأ. والمراد بالأكل التصرف الشامل للعين والدين. قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت علم أنها لم تطب عنه نفسا. وعن عمر أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ سئل عن هذه الآية فقال: إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة.
ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء. فورد أن الأنسب أن لو قيل أموالهم. وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله:
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٨٥] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا فقيل: «أنفسكم» لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب. وقيل: خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم. فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة.
والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته. وقد يرجح القول الأول بأن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على
350
أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله. وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم، وأيضا قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً هذه الأوامر تناسب حال الأولياء لا الآباء. وأقول: لا يبعد حمل الآية على كلا القولين، لأن الإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص سواء كان اختصاص الملكية أو اختصاص التصرف. واختلفوا في السفهاء فعن مجاهد والضحاك أنها النساء أزواجا كن أو أمهات أو بنات، وهو مذهب ابن عمرو يدل عليه ما
روى أبو أمامة عن النبي ﷺ «ألا إنما خلقت النار للسفهاء» يقولها ثلاثا.
وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها. وقد جمع فعلية على فعلاء كفقيرة وفقراء. وقال الزهري وابن زيد: هم الأولاد الخفاف العقول. وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله. والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده. ومعنى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به. سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب. ومن قرأ قيما فعلى حذف الألف من قِياماً وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله. فإن لم يكن مصدرا لم يعل كقوام لما يقام به. وكان السلف يقولون:
المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس. وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك. وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟
قال: هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في تشييع جنازة فقالوا له: اذهب إلى مكانك. وقال بعض الحكماء: من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين: الدين والعرض. وفي منثور الحكم: من استغنى كرم على أهله. وفيه: الفقر مخذلة، والغنى مجدلة، والبؤس مرذلة، والسؤال مبذلة. وكان يقال: الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح. وقال أبو العتاهية:
351
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت إليه ومال الناس حيث تميل
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم. فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز. وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى، لأن الفقير تارك والغنى ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة. وقال الباقون: خير الأمر أوساطها، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين.
ومن كلفته النفس فوق كفافها فما ينقضي حتى الممات عناؤه
والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه هاهنا. وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة. ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما لم يقل «منها» كيلا يكون أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم فيأكلها الإنفاق، بل أمر بأن يجعلوها مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها وَاكْسُوهُمْ كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج ومجاهد: هو عدة جميلة من البر والصلة. وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا. وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل: عافانا الله وإياك وبارك الله فيك. وقال الزجاج: علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل. وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: ٩] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيها، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج. وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف، وما نفرت منه لقبحه فمنكر. ثم بيّن أن السفهاء متى يؤتون أموالهم فشرط في ذلك شرطين: أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس
352
الرشد منهم. فبلوغ النكاح أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد ومناط الاحتلام خروج المني، ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين قمرية أو يبلغ خمس عشرة سنة تامة قمرية عند الشافعي، وثماني عشرة عند أبي حنيفة. وهذان مشتركان بين الغلام والجارية ولها أمارتان أخريان: الحيض أو الحبل، ولطفل الكفار أمارة زائدة هي إنبات الشعر الخشن على العانة. وأما الإيناس ففي اللغة الإبصار. والمراد في الآية التبين والعرفان. والرشد خلاف الغيّ. ومعنى قوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى اختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ، ومن هنا قال أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور به قبل بلوغهم إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء. وقال الشافعي: الابتلاء قبل البلوغ لا يقتضي الإذن في التصرف لأن الإذن يتوقف على دفع المال إليهم، ولكن لا يصح دفع المال إليهم لأنه موقوف على الشرطين. بل المراد بالابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله حسبما يليق بكل طائفة. فولد التاجر يختبر في البيع والشراء بحضوره، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح والمفاسد. وقد يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري فيعرف بذلك مقدار فهمه وعقله، ثم الولي بعد ذلك يتم العقد لو أراد. وولد الزارع يختبر في أمر المزارعة والإنفاق على القوّام بها، وولد المحترف فيما يتعلق بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة وما أشبهها. ولا يكفي المرة الواحدة في الاختبار بل لا بد من مرتين وأكثر على ما يليق بالحال ويفيد غلبة الظن أنه رشد نوعا من الرشد يختص بحاله، لا الرشد من جميع الوجوه وعلى أكمل ما يمكن ولهذا ورد منكرا. وقد ظهر مما ذكرنا أنه لا بد بعد البلوغ من الرشد فيما يتعلق بصلاح ماله بحيث لا يقدر الغير على خديعته. ثم إن أبا حنيفة قال: إذا بلغ مهتديا إلى وجوه مصالح الدنيا فهو رشيد يدفع إليه ماله. وقال الشافعي:
لا بد مع ذلك من الاهتداء لمصالح الدين، فإن الفاسق لا يخلو من إتلاف المال في الوجوه الفاسدة المحرمة، وقد نفى الله تعالى الرشد عن فرعون في قوله وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧] مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا. ويتفرع على القولين أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه. ثم إنه إذا بلغ غير رشيد واستمر على ذلك لم يدفع إليه ماله بالاتفاق إلى خمس وعشرين سنة، وفيما وراء ذلك خلاف. فعند أصحاب أبي حنيفة وعند الشافعي لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد كما هو مقتضى الآية. وعند أبي حنيفة يدفع لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة
353
في تغير أحوال الإنسان
لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع» «١»
دفع إليه ماله، أونس منه رشد أو لم يؤنس. ثم قال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. والإسراف التبذير ضد القصد والإمساك. والكبر في السن وقد كبر الرجل بالكسر يكبر بالفتح كبرا أي أسن، وكبر بالضم يكبر كبرا وكبارة أي عظم. نهاهم عن الإفراط في الإنفاق كما يشتهون قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيديهم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليمتنع منه وليتركه. وفي السين زيادة مبالغة كأنه طلب مزيد العفة وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وللعلماء خلاف في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ قال الشافعي: له أن يأخذ قدر ما يحتاج إليه وبقدر أجرة عمله، لأن النهي في الآية عن الإسراف مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، ولا سيما إذا كان فقيرا، ولما
روي عن النبي ﷺ أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله. قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك.
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم. أما بعد فإني قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله منزلة والي مال اليتيم، مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وأيضا قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هنا. وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وأكثر العلماء على أن هذا الاقتراض إنما جاء في أصول الأموال من الذهب والفضة وغيرهما. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال. وقال أبوبكر الرازي:
الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا، واحتج بقوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأجيب بأنها عامة.
وقوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ خاص والخاص مقدم على العام. قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وأجيب بأن محل النزاع هو أن أكل الوصي مال اليتيم ظلم أو لا؟ قال:
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وهو أيضا عين النزاع. ثم اعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه رشيدا فالأولى والأحوط أن يشهد عليه إظهارا
(١)
رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٨٢. بلفظ «علموا الصبي الصلاة ابن سبع».
354
للأمانة وبراءة من التهمة. ولكن اختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه فهل هو مصدق؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق بيمينه كسائر الأمناء. وقال مالك والشافعي: لا يصدق إلا بالبينة لأنه تعالى نص على الإشهاد فقال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وظاهر الأمر للوجوب، ولأنه أمين من جهة الشرع لا من جهة اليتيم، وليس له نيابة عامة كالقاضي، ولا كمال الشفقة كالأب. نعم يصدق في قدر النفقة وفي عدم التقتير والإسراف لعسر إقامة البينة على ذلك وتنفيره الناس عن قبول الوصاية وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا كالشريب بمعنى المشارب، وفيه تهديد للولي ولليتيم أن يتصادقوا ولا يتكاذبوا. والباء في بِاللَّهِ زائدة نظرا إلى أصل المعنى وهي كفى الله. وحَسِيباً نصب على التمييز، ويحتمل الحال. ثم من هاهنا شرع في بيان المواريث والفرائض.
قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها. فقام رجلان- هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة- فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، إنما يورثون الرجال الكبار وكانوا يقولون لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة. قال:
فجاءت أم كحة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن ثابت مات وترك لي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته من المال شيئا. فدعاهما رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكي عدوّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن. فانصرفوا فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية. فبعث إليهما لا تقربا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا، ولم يبين حتى يتبين فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فأعطى أم كحة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم.
وسبب الإجمال في الآية ثم التفصيل فيما بعد، هو أن الفطام من المألوف شديد، والتدرج في الأمور دأب الحكيم، وهكذا قد نزل الأحكام والتكاليف شيئا بعد شيء إلى أن كملت الشريعة الحقة وتم الدين الحنيفي مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مِمَّا تَرَكَ بتكرير العامل ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص تقديره أعني نصيبا ومقطوعا مقدرا لا بد لهم أن يحوزوه، أو على المصدر المؤكد كأنه قيل: قسمة مفروضة. احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام كالعمات والخالات والأخوال وأولاد البنات، لأن الكل من الأقربين. غاية ما في الباب أن مقدار أنصبائهم غير مذكور هاهنا إلا أنا
355
نثبت بالآية استحقاقهم لأصل النصيب، ونستفيد المقادير من سائر الدلائل. وأجيب بأنه تعالى قال: نَصِيباً مَفْرُوضاً وبالإجمال ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر. وأيضا الواجب عندهم ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية. وأيضا ليس المراد بالأقربين من له قرابة ما وإن كانت بعيدة وإلا دخل جميع أولاد آدم فيه. فالمراد إذن أقرب الناس إلى الوارث، وما ذاك إلا الوالدين والأولاد. ودخول الوالدين في الأقربين يكون كدخول النوع في الجنس، فلا يلزم تكرار والله تعالى أعلم. قال المفسرون: إنه تعالى لما ذكر في الآية للنساء أسوة بالرجال في أن لهن حظا من الميراث، وعلم أن في الأقارب من يرث وفيهم من لا يرث وربما حضروا القسمة فلا يحسن حرمانهم قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. ثم منهم من قال بوجوبه ومنهم من قال باستحبابه. وعلى الوجوب فعن سعيد بن المسيب والضحاك أنها منسوخة بآية المواريث، وعن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير أنها محكمة لكنها مما تهاون به الناس، قال الحسن: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من الورق والذهب، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولا معروفا. كانوا يقولون لهم: ارجعوا بورك فيكم. وعلى الاستحباب وهو مذهب فقهاء الأمصار اليوم قالوا: إن هذا الرضخ يستحب إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف كأن يقول الولي: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعرفون ما عليهم من الحق، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم. والضمير في مِنْهُ إما أن يعود إلى ما ترك، وإما إلى الميراث بدليل ذكر القسمة. وقيل: المراد قسمة الوصية.
وإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين، أمر الله الموصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا. وقيل: أولو القربى الوارثون واليتامى والمساكين الذين لا يرثون. وقوله: وَقُولُوا لَهُمْ راجع إلى هؤلاء الذين لا يرثون. ويحكى هذا القول عن سعيد بن جبير. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الجملة الشرطية وهي «لو» مع ما في حيزه صلة الذين. والمعنى ليخشى الذين من صفتهم وحالهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم. وأما المخشى فغير منصوص عليه. قال بعض المفسرين:
هم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، أو أمروا بأن يخشوا على اليتامى من الضياع كما يخشون على أولادهم لو تركوهم، وعلى هذا فيكون القول السديد أي الصواب. القصد هو أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالقول الجميل ويدعوهم بيا بني ويا ولدي، وهذا
356
القول أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام. نبههم الله على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ليكون ذلك أجدر ما يدعوهم إلى حفظ مال اليتيم كما قال القائل:
لقد زاد الحياة إليّ حبا بناتي إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي وأن يشربن رنقا بعد صافي
وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا. فقدّم مالك، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن يستغرق المال بالوصايا. فأمروا بأن يخشوا ربهم ويخشوا على أولاد المريض خوفهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. وعلى هذا تكون الآية نهيا للحاضرين عن الترغيب في الوصية. والقول السديد أن يقولوا للمريض لا تسرف في الوصية فتجحف بأولادك مثل
قول رسول الله ﷺ لسعد: الثلث كثير.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وإن الخمس أفضل من الربع والربع من الثلث. وقيل: يجوز أن تتصل الآية بما قبلها فيكون أمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من الضعفاء، وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم خافوا عليهم الحرمان. وعن حبيب بن ثابت سألت مقسما عن الآية. فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك.
مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له. وعلى هذا يكون نهيا عن الوصية ولا يساعده قوله:
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ثم أكد الوعيد في باب إهمال مال اليتيم فقال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي ظالمين أو على وجه الظلم من ولاة السوء وقضاته لا بالمعروف إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم نارا أي ما يجر إلى النار وكأنه نار في الحقيقة. وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقال جبريل:
هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما»
.
وَسَيَصْلَوْنَ من قرأ بفتح الياء فهو من صلى فلان النار بالكسر يصلى صليا احترق. ومن قرأ بالضم فمعناه الإلقاء في النار لأجل الإحراق من الإصلاء. وقد يشدد من التصلية والمعنى واحد. والسعير النار، وسعرت النار والحرب هيجتها وألهبتها فهي سعير أي مسعورة. والتنكير للتعظيم أي نارا مبهمة الوصف لا يعلم شدتها إلا خالقها. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد آكل اليسير من
357
ماله، بل لا بد أن يكون مقدار خمسة دراهم لأنه القدر الذي وقع عليه الوعيد في آية الكنز في منع الزكاة ولا بد مع ذلك من عدم التوبة. فقيل لهم: إنكم خالفتم هذا العموم من وجهين: من جهة شرط عدم التوبة، ومن جهة شرط عدم كونه صغيرة، فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ وهاهنا نكتة وهي أنه أوعد مانع الزكاة بالكي، وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار. ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتى يملكه المالك، واليتيم مالك لماله فكان مع اليتيم أشنع. وأيضا الفقير يقدر على الاكتساب من وجه آخر أو على السؤال، واليتيم عاجز عنهما فكان ضعفه أظهر وهذا من كمال عنايته تعالى بالضعفاء فنرجو أن يرحم ذلنا وضعفنا بعزته وقوته.
التأويل:
ذكر الناسين بدء خلقهم بالأشباح والأرواح فخلقوا بالأشباح من آدم، وبالأرواح من روح محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أول ما خلق الله روحي فهو أبو الأرواح.
وخلق من الروح زوجه وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد ﷺ وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أرواحا كاملين وَنِساءً أرواحا ناقصات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي اتقوه أن تساءلوا به غيره وَالْأَرْحامَ ولا تقطعوا رحم رحمتي بصلة غيري وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تزكية عن آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ تزكية عن آفة الخيانة والخديعة وتحلية بالأمانة وسلامة الصدر وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ تزكية عن الجور وتحلية بالعدل، فإن اجتماع هذه الرذائل كان حوبا كبيرا حجابا عظيما فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ تزكية عن الفاحشة وتحلية بالعفة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تزكية عن الحدة والغضب، وتحلية بالسكون والحلم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ تزكية عن البخل والغدر وتحلية بالوفاء والكرم فَكُلُوهُ هَنِيئاً تزكية عن الكبر والأنفة وتحلية بالتواضع والشفقة. فهذه كلها إشارات إلى تربية يتامى القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف وتحليتهم بهذه الأخلاق. ثم نهى عن إيتاء النفوس الأمارة حظوظها فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ وإنما قال: أَمْوالَكُمُ لأن الخطاب مع العقلاء والصلحاء وقد خلق الله الدنيا لأجلهم أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. وَارْزُقُوهُمْ فِيها قدر ما يسد الجوعة وَاكْسُوهُمْ ما يستر العورة وما زاد فإسراف في حق النفس. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً كنحو: أكلت رزق الله فأدّي شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وإلا أذيبي طعامك بذكر الله كما
قال ﷺ «أذيبوا طعامكم بذكر الله».
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي قلوب السائرين بأدنى توسع في المعيشة بعد أن كانوا محجورين عن التصرف حَتَّى إِذا بَلَغُوا مبلغ الرجال البالغين فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
358
رُشْداً
بأن استمروا بذلك التوسع على السير وزادوا في اجتهادهم وجدهم كما قال الجنيد:
أشبع الزنجي وكدّه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فالعبد في هذا المقام يكون جائز التصرف في مماليك سيده كالعبد المأذون، ولهذا قال هاهنا أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً أي فإن آنستم يا أولياء الطريقة من المريدين البالغين رشد التصرف في أصحاب الإرادة فادفعوا إليهم عنان التصرف بإجازة الشيخوخية، ولا تجعلوا الشيخوخية مأكلة لكم غيرة وغبطة عليهم أن يكبروا بالشيخوخية. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا بالله من قوة الولاية مستظهرا بالعناية فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الانتفاع بصحبتهم، وَمَنْ كانَ فَقِيراً مفتقرا إلى ولاية المريد فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فلينتفع بإعانته وليجزله بالشيخوخية مع الإمداد في الظاهر والباطن. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ سلمتم إليهم مقام الشيخوخية فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله ورسوله وأرواح المشايخ وأوصوهم برعاية حقوقها مع الله والخلق. ثم أخبر عن نصيب كل نسيب فقال: لِلرِّجالِ وهم الأقوياء من الطلبة وَلِلنِّساءِ وهم الضعفاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وهم المشايخ والإخوان في الله وتركتهم بركتهم وأنوارهم نَصِيباً مَفْرُوضاً على قدر استعدادهم وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي في محافل صحبتهم ومجالس ذكرهم أُولُوا الْقُرْبى المنتمون إليهم المقتبسون من أنوارهم والمقتفون لآثارهم فَارْزُقُوهُمْ من مواهب بركاتهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً في التشويق وإرشاد الطريق وتقرير هوان الدنيا عند الله، وعزة أهل الله في الدارين. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً من متوسطي المريدين أو المبتدئين خافُوا عَلَيْهِمْ آفات المفارقة بسفر أو موت فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ أي يوصونهم بالتقوى وأن يقولوا قولا سديدا هو لا إله إلا الله. فإن التقوى ومداومة الذكر خطوتان يوصلان العبد إلى الله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ يضيعون أطفال الطريقة بعدم التربية ورعاية وظائف النصيحة إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نار الحسرة والغرامة يوم لا تنفع الندامة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
359
القراآت:
واحِدَةً بالرفع: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب. فَلِأُمِّهِ وما بعده
360
بكسر الهمزة لأجل كسرة ما قبلها: حمزة وعلي. الباقون بالضم يُوصِي وما بعد مبنيا للمفعول: ابن كثير وابن عامر ويحيى وحماد والمفضل وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية. الباقون: مبنيا للفاعل. ندخله بالنون في الحرفين: نافع وابن عامر وأبو جعفر.
الباقون بالياء. وكذلك في سورة الفتح والتغابن والطلاق. وَالَّذانِ بتشديد النون: ابن كثير، وكذلك قوله: هذانِ [طه: ٦٣] وهاتان وأَرِنَا الَّذَيْنِ [فصلت: ٢٩] وأشباه ذلك. وأما قوله فَذانِكَ فابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعباس مخير. الباقون:
بالتخفيف كَرْهاً بالضم وكذلك في التوبة، حمزة وعلي وخلف. الباقون بالفتح مُبَيِّنَةٍ مبينات بفتح الياء: ابن كثير وأبوبكر وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب مُبَيِّنَةٍ بالكسر مبينات بالفتح. الباقون كلها بالكسر.
الوقوف:
الْأُنْثَيَيْنِ ج ما تَرَكَ ج فَلَهَا النِّصْفُ ط لانتهاء حكم الأولاد إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ج فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ج أَوْ دَيْنٍ ط وَأَبْناؤُكُمْ ج لتقديرهم أبناؤكم، ولاحتمال كون آباؤكم مبتدأ وخبره. لا تَدْرُونَ نَفْعاً ج مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ج دَيْنٍ ط مِنْهُمَا السُّدُسُ ج دَيْنٍ ط لأن غير حال عامله يُوصى مُضَارٍّ ج لاحتمال نصب وصية به كما يجيء. مِنَ اللَّهِ ط حَلِيمٌ هـ ط لأن تِلْكَ مبتدأ حُدُودُ اللَّهِ ط خالِدِينَ فِيها ط لأن ما بعده اعتراض مقرر للجزاء.
الْعَظِيمُ هـ خالِداً فِيها ص لأن ما بعده من تتمة الجزاء. مُهِينٌ هـ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع الفاء. سَبِيلًا هـ فَآذُوهُما ج عَنْهُما ط رَحِيماً هـ عَلَيْهِمْ ط حَكِيماً هـ السَّيِّئاتِ ط لأن حتى إذا تصلح للابتداء وجوابه قالَ إِنِّي تُبْتُ [النساء:
١٨] وتصلح انتهاء لعمل السيئات وَهُمْ كُفَّارٌ ط أَلِيماً هـ كَرْهاً ط للعدول عن الإخبار إلى النهي. مُبَيِّنَةٍ ج للعارض بين المتفقين بِالْمَعْرُوفِ ج كَثِيراً هـ شَيْئاً ط مُبِيناً هـ غَلِيظاً ط وَمَقْتاً ط سَبِيلًا هـ.
التفسير:
إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بيّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثا ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث. أو نقول: أجمل حكم الميراث في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ ثم فصل ذلك بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: النسب والعهد. أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء: ٢٣] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين: أحدهما الهجرة. فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه
361
إذا كان بينهما مزيد مخالطة ومخالصة، ولا يرثه غيره وإن كان من أقاربه. والثاني المؤاخاة.
كان رسول الله ﷺ يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سببا للتوارث. والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: قرابة ونكاح وولاء. والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق.
روي أن رسول الله ﷺ ورث بنت حمزة من مولى لها.
ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية.
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه» «١»
وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثا، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت. أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معا، أو إناث فقط، أو ذكور فقط. أما الحالة الأولى فبيانها قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للذكر منهم، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة: أحدها: خلف ذكرا واحدا وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد. وثانيها: خلف ذكورا وإناثا لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم. وثالثها: خلف مع الأولاد جمعا آخرين كالزوجين، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين. وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعارا بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك، ولأن الابتداء بما ينبىء عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبىء عن النقص، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم: كفى الذكور تضعيف من النصيب، فليقطعوا الطمع عن الزيادة. وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سببا لزيادة فجورهن كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده.
فكيف حال المرأة؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ورفعتها إلى آدم.
فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة. وحكم
(١) رواه أبو داود في كتاب الفرائض باب ٨. ابن ماجه في كتاب الديات باب ٧. أحمد في مسنده (٤/ ١٣١).
362
القسم الأول مبين في قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وحكم القسم الثالث في قوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فمن قرأ بالرفع على «كان» التامة فظاهر، ومن قرأ بالنصب فالضمير في كانت إما أن يعود إلى النساء وجاز لعدم الإلباس بدليل واحدة، وإما أن يعود إلى غائب حكمي أي إن كانت البنت أو المولودة. وقراءة النصب أوفق لقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وقراءة الرفع أيضا حسنة لئلا يحتاج إلى التكلف في عود الضمير. وجوّز صاحب الكشاف أن يكون الضمير في كُنَّ وكانَتْ مبهمة وتكون نِساءً وواحِدَةً تفسيرا لهما على أن «كان» تامة. وأما القسم الثاني وهو حكم البنتين فغير مذكور في الآية صريحا فلهذا اختلف العلماء فيه. فعن ابن عباس أن فرضهما النصف كما في الواحدة، لأن الثلثين فرض البنات بشرط كونهن فوق اثنتين، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وعورض بأن النصف أيضا مشروط بالوحدة. أقول: ولعله نظر إلى أن الاثنتين أقرب إلى الواحد من الأعداد الغير المحصورة التي فوق الإثنتين سوى الثلاثة، والحمل على الأقرب أولى. وقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم: إن فرضهما الثلثان لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فللبنت الثلث بالآية، فيلزم أن يكون للبنتين الثلثان. وأيضا نصيب البنت مع الولد الذكر الثلث، فلأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى. وعلى هذا فكان قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دالا على أنثيين، فذكر بعد ذلك أنهن وإن بلغن ما بلغن من العدد لم يتجاوز الثلثين. وقيل: إن البنتين أمس رحما بالميت من الأختين، لكنه تعالى يقول في آخر السورة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ فالبنتان أولى وهذا قياس جلي، ومما يؤيده أنه تعالى لم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ليقاس ميراثهن على ميراث البنات الكثيرة كما يقاس ميراث البنتين على الأختين. وقيل:
لفظ فَوْقَ وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: ١٢] وقيل: فيه تقديم وتأخير والمراد: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس، أو قالت: سعد بن الربيع. قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما. فقال: يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك.
وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكورا فقط فلم يذكر في الآية، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف، علم منه أن للابن الواحد الكل، وإذا كان للواحد الكل، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا
363
ترجيح بعضهم فيكون المال مشتركا بينهم بالسوية. وأيضا
قال صلى الله عليه وسلم: «وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر»
ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة. والنص: سألت عن ولد الولد فقيل: اسم الولد يقع على ولد الابن أيضا لقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الأعراف: ٣١] يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٤٠، ٤٧، ١٢٢ وغيرها من الآيات]. وقيل: قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب، ولكنه لا يستحق شيئا مع أولاد الصلب على وجه الشركة، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأسا، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين. واعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مخصوص بصور منها: أن العبد والحر لا يتوارثان. ومنها أن القاتل لا يرث. ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سواء اكتسب في الإسلام أو في الردة. وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون. ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافا للشيعة.
روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلبت الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «١»
واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: ٦] وبقوله: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: ١٦]، والأصل في التوريث للمال، ووراثة العلم أو الدين مجاز. وبعموم قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا عليا وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين. وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يليق بالرسول ﷺ أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟ وأيضا يحتمل أن يكون
قوله: «ما تركناه صدقة»
صلة
لقوله: «لا نورث»
والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم. أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبوبكر. واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ والمراد بالأبوين الأب والأم. فغلب جانب الأب لشرفه، ومثله من التغليب في التثنية «القمران» و «العمران» و «الخافقان».
(١) رواه البخاري في كتاب الخمس باب ١. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٤٩- ٥٢. أبو داود في كتاب الإمارة باب ١٩. الترمذي في كتاب السير باب ٤٤. النسائي في كتاب الفيء باب ٩، ١٦. الموطأ في كتاب الكلام حديث ٢٧. أحمد في مسنده (١/ ٤، ٦، ٤٧، ١٧٩).
364
والضمير في لِأَبَوَيْهِ يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث ولِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لأوهم اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالتساوي أو بالتفاوت. ولو قيل: ولكل واحد من أبويه السدس لفاتت فائدة الإجمال والتفصيل والإبهام والتفسير. فقوله: السُّدُسُ مبتدأ وخبره لِأَبَوَيْهِ وقد توسط البدل بينهما للبيان. واعلم أن للأبوين ثلاث أحوال: الأولى أن يحصل معهما ولد ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى فههنا ثلاثة أوجه: أحدها أن يحصل معهما ولد ذكر واحد أو أكثر فللأبوين لكل واحد منهما السدس. والباقي للأولاد بالسوية. وثانيها أن يحصل معهما بنتان أو أكثر، فالحكم كما ذكر. وثالثها أن يكون معهما بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم الآية، والباقي للأب بحكم التعصيب. فإن قيل: إن حق الوالدين على الولد مما لا يخفى فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟ فالجواب- والله أعلم- أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل غالبا، أما الأولاد فهم في زمان الصبا فاحتياجهم إلى المال أكثر وأيضا كأنهما قالا بلسان الحال للأطفال: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. وأيضا ولد الولد ولد، وترفيه حال الولد أهم عند الوالدين من ترفيه حالهما. الحالة الثانية أن لا يكون معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما وهو المراد بقوله: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ أي فقط فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ويعلم منه أن الباقي يكون للأب فيكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحصل للأب السدس بالفرضية، والنصف بالعصوبة، ولأنه تعالى قيد فرضية الثلث للأم بأن يكون الوارث منحصرا في الأبوين اختلف العلماء في أنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فكيف يكون فرض الأم؟ فقال ابن عباس: يدفع إلى الزوج نصيبه أو إلى الزوجة نصيبها، وللأم الثلث بحاله والباقي وذهب الأكثرون إلى أن الزوج أو الزوجة لهما نصيبهما، وثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم والباقي للأب ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذكر والأنثى، فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأوّل. وأيضا الزوج إنما يأخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي. وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين. فإنا إذا دفعنا الربع إلى الزوجة، والثلث إلى الأم بقي للأب الثلث ونصف السدس أكثر ما للأم، وخالفه في الزوج والأبوين لأنه إذا دفع إلى الزوج النصف وإلى الأم الثلث يبقى للأب السدس فيكون للأنثى مثل حظ الذكرين. هذا عكس قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الحالة الثالثة أن يوجد معها الإخوة
365
والأخوات وذلك قوله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ واتفقوا على أن واحدا من الإخوة أو الأخوات لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن ثلاثة منهم يحجبون لكن الاثنين مختلف فيهما. فالأكثرون من الصحابة ذهبوا إلى إثبات الحجب بهما كما في الثلاثة بناء على أن الاثنين جمع لوجود التعدد في التثنية فما فوقها، فصح أن يتناول الإخوة للأخوين واستقراء باب الميراث يؤيد ذلك، فإنه جعل نصيب البنتين الثلثين مثل نصيب البنات وكذلك للأختين والأخوات. وذكر الشيخ الكامل محيي الدين بن العربي في الفتوحات أنه رأى رسول الله ﷺ في المنام فسأله عن خلاف الأئمة في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، فعلمه أن أقل الجمع في الشفع اثنان وفي الوتر ثلاثة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «١»
وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال: كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان.
فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف. ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب. ذهب ابن عباس إلى الأوّل، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجبا كونه وارثا ولم يرد لهم ذكر إلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين. ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين. حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق. وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى.
عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول ﷺ قضى بالدين قبل الوصية.
والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أولا تفيد الترتيب البتة، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ. وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما. ولكنها تفارق الدين من جهة
(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٣٥. النسائي في كتاب الإمامة باب ٤٣- ٤٥. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٤٤. أحمد في مسنده (٥/ ٢٥٤، ٢٦٩).
366
أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله.
ثم قال: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قال أبو البقاء أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خبره، والجملة في موضع نصب ب تَدْرُونَ وهي معلقة عن العمل لفظا لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان أَيُّهُمْ مفعوله مبنيا لحذف صدر الصلة نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: ٦٩]. قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أم أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا لأن أحدهما لا يعرف ان انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرنه وبالضد، والقول هو الأوّل. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بكل المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد حَكِيماً لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح. قال الخليل: «كان» هاهنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال
367
إما أن يكون هو النسب أو الزوجية. فهذه ثلاثة أقسام: الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة، ولهذا قدّم في الذكر. ويتلوه في الشرف القسم الثاني لمثل ما قلنا ولهذا أردفه بالقسم الأول وذلك قوله:
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ثم بيّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وهاهنا مسألة.
قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون: ٦] وأجيب بأنه لو لم تكن زوجة له لكان قوله ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه.
وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضا حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة. أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط. وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهن الرسول ﷺ لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق:
368
والمختار الصحيح من الأقوال قول أبي بكر لأن الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لأنها بالإضافة إلى قرابة الأصول والفروع كلالة ضعيفة. ويحتمل أن يقال: هي من الإكليل لأنهم يحيطون بالإنسان إحاطة الإكليل بالرأس بخلاف قرابة الولادة فإنها تذهب على الاستقامة كما قال:
نسب تتابع كابرا عن كابر كالرمح أنبوبا على أنبوب
وأيضا فإنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [الآية: ١٧٦] فاحتج عمر بذلك. والجواب أنه تعالى حكم في تلك الآية بتوريث الإخوة والأخوات حال كون الميت كلالة. ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فيلزم أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين. وأيضا إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها ذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن يكون الكلالة من عدا الوالدين والولد، ثم الكلالة قد يجعل وصفا للمورث. والمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، ويمكن أن يحمل عليه بيت الفرزدق أي ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء، فسمى العم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث. وقد يجعل وصفا للوارث ومنه قول جابر: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد. ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والجلالة، وإذا جعلت صفة للوارث أو المورث كانت بمعنى ذي كلالة كما يقال: فلان من قرابتي أي من ذوي قرابتي.
ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذا من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر «كان» ويُورَثُ صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنيا للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة. قيل:
ما السبب في أنه قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثم قال: وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير
369
إلى أيهما أريد، وجاز إسناده إليهما أيضا. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله أو فليصلها. والترجيح بالتذكير للشرف معارض بالتأنيث للقرب. وإن قلت: فليصلهما جاز أيضا. ولعل التوحيد والتذكير في الآية أولى إما لأن الرجال في الأحكام أصل والنساء تبع لهم، وإما بتأويل أحد المذكورين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد من الأخ والأخت هاهنا الأخ والأخت من الأم، ويدل عليه ما نسب إلى أبيّ وسعد بن أبي وقاص:
وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما أي من الأخ والأخت السُّدُسُ من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: ١٧٦] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وهاهنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات هاهنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد هاهنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيننا. غَيْرَ مُضَارٍّ حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ يُوصِي مبنيا للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصيا والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثا وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئا بثمن بخس، أو يشتري شيئا بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة. وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر.
ويروى مرفوعا وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل
370
ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» «١»
وعنه «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة». وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول مُضَارٍّ أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار في وصيته أو عدل حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور.
وإنما قيل: يُدْخِلْهُ وخالِدِينَ حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالِدِينَ وخالِداً على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين ل جَنَّاتٍ وناراً لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذ أن يقال: خالدين هم فيها وخالدا هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود. وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطا آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعاصي. فلو كان المراد من قوله: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أيضا ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. قوله عم طوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ الآية.
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الوصايا باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٧٨). [.....]
371
وجه النظم فيه أن التغليظ عليهم في باب الفاحشة من جملة الإحسان إليهن المأمور به في الآيات المتقدمة. وفيه أن مدار الشرع على العدل والإنصاف والاحتراز في كل باب من طرفي التفريط والإفراط، فلا ينبغي أن يصير الإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن. واللاتي جمع التي وفيه لغات: اللائي بالهمزة، واللواتي واللوائي فكأنهما جمعا الجمع. وقد تحذف الياءات من الأربعة، وقد تسهل همزة اللائي بين الهمزة والياء لكونها مكسورة لقراءة ورش واللاء يئسن من المحيض [الطلاق: ٤] وقد يقال: اللاي بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، وقد يقال: اللوا بحذف التاء والياء معا. وقد يقال: اللاآت كاللامات. قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي، ومن الحيوان اللاتي كقوله: أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: ٥] وقال في هذه الآية وَاللَّاتِي لأن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد بخلاف جمع الحيوان فإن كل واحد منهما متميز عن غيره بخواص وصفات. ومن العرب من يلغي هذا الفرق.
والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا هاهنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى مِنْ نِسائِكُمْ من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ احتياطا لأمر الزنا. والمراد بقوله: مِنْكُمْ أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله ﷺ والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلا مفسرا كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ خلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بالنكاح أو بالحد. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط فَآذُوهُما فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام. واعلم أن للعلماء خلافا في الآيتين. فعن الحسن أن الثانية مقدمة في النزول. أمروا بإيذاء الزانيين أولا ثم أمروا بإمساك النساء في
372
البيوت إلى أن يتبين أحوالهن. وقال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجال والنساء، وبالآية الأولى الثيب. وعن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وحدّها الحبس إلى الموت إلا أن يخلصهن الله، والثاني في اللائطين وحدّهما الأذى بالقول والفعل. والدليل على ذلك تذكير اللذان ولفظ منكم أي من رجالكم كما في قوله: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأما الزنا من الرجل والمرأة فذلك في سورة النور وحدّه في البكر الجلد وفي المحصن الرجم، وعلى هذا لا يلزم نسخ شيء من الآيات ولا تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين.
وزيف قول أبي مسلم بأنه قول لم يقل به أحد، وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواطة ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية. وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم دليل على أن الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين- على أنه بيّن في الأصول أن استنباط تأويل جديد جائز، وأيضا كان مطلوب الصحابة معرفة حدّ اللوطيّ وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح للحد. وجمهور المفسرين على أن الآيتين في الزنا وأنهما منسوختان لما
روى مسلم في كتابه عن عبادة بن الصامت كان نبي الله ﷺ إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال: خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم استقر الأمر آخرا على أن البكر يجلد ويغرّب والثيب يرجم فقط.
وقيل: إن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وعن أصحاب أبي حنيفة أن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد نسخت بدلائل الرجم. وقال في الكشاف: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال.
وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث. وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا. ثم إن ذلك السبيل كان مجملا، فلما
قال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني الثيب يرجم والبكر يجلد وينفى.
صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها، وصار أيضا مخصصا لعموم آية الجلد والله تعالى عليم. ثم أخبر عن المستحقين لقبول التوبة وعن المستحقين لعدم القبول فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ واجبة وجوب الوعد والكرم لا وجوبا يستحق بتركه الدم لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال أكثر المفسرين: كل من عصى فهو جاهل وفعله جهالة. ولهذا قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: ٦٧] لأنه حيث لم
373
يستعمل ما معه من العلم بالعقاب والثواب فكأنه لا علم له. وبهذا التفسير تكون المعصية مع العلم بأنها معصية جهالة. وقيل: المراد أنه جاهل بعقاب المعصية. وقيل: المراد أن يكون جاهلا بكونها معصية لكنه يكون متمكنا من تحصيل العلم بكونها معصية، ولهذا أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية لأنه متمكن من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، وأن النائم أو الساهي لا يستحق العقاب لأنه أتى بالقبيح غير متمكن من العلم بكونه قبيحا. أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس، وإنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد أولى لأنه عالم بقبح تلك المعصية. أما قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب قبل حضور زمان الموت ونزول سلطانه ومعاينة أهواله. وإنما كان ذلك الزمان قريبا لأن الأجل آت وكل ما هو آت قريب، ولأن مدة عمر الإنسان وإن طالت إذا قيست إلى طرفي الأزل والأبد كانت كالعدم، ولأن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. و «من» في مِنْ قَرِيبٍ إما لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته من زمان قريب من المعصية، أو للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا لما قلنا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ألا ترى إلى قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراء ذلك في حكم القرب.
ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١»
والفائدة في قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان، والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حَكِيماً يجب في كرمه قبول توبة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذ أولى بالقبول لقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: ٦٢] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث
(١) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٨. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٣٢، ١٥٣).
374
تصير معرفته بالله ضرورية كما لأهل الآخرة، وحينئذ يسقط التكليف عنه إذ لم يبق في يده زمام الاختيار، وأفضى الأمر إلى حد الإلجاء والإجبار. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا أهوال القيامة فيستدلون بها على وجود الفاعل، فكيف يكون ذلك العلم ضروريا؟ وبتقدير كونه ضروريا فلم يمنع ذلك صحة التكليف؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا تنفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه.
وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري البتة، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجبا للتكليف، والضروري مانعا من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] وأقول: التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله صدق وأمره حق، وقد عين لعبيده حالين: دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل، والعقبى دار الجزاء، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وليس ببعيد أن لا يكون علم اليقين منافيا للتكليف، ويكون عين اليقين منافيا له. ثم عطف قوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ على الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة. فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي أعددنا الوعيد نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية: المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن أُولئِكَ إشارة إلى أقرب المذكورين، ويعضده أن الكفار أشنع قولا من الفساق، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمروذ مثلا.
375
قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً من هاهنا شروع في النهي عما كانوا عليه في الجاهلية من إيذاء النساء بصنوف من العذاب وضروب من البلاء وذلك أنواع: الأول قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا وفيه قولان: أحدهما الوراثة تعود إلى المال أي لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثوهن أموالهن وهن كارهات لإمساككم، وثانيهما أنها ترجع إلى أعيانهن. وكانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الأوّل الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فنزلت. النوع الثاني: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ قال أكثر المفسرين: كان الرجل منهم يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيىء العشرة معها ويضيق الأمر عليها حتى تفتدي منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك. وقيل: إنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوّج بمن شاءت وأرادت لتبذل امرأة الميت ما أخذت من الميراث كما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: إنه نهي للأولياء عن عضل المرأة، أو للأزواج كما مر في سورة البقرة. قال في الكشاف: إعراب تَعْضُلُوهُنَّ النصب عطفا على أَنْ تَرِثُوا ولا لتأكيد النفي. قلت: الظاهر أنه النهي لعطف الأمر وهو قوله: وَعاشِرُوهُنَّ عليه وصاحب الكشاف نظر إلى لما قبله وذهل عما بعده إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ من قرأ بالفتح فلأن الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة وإنما الله تعالى هو الذي بينها، أو الشهود الأربعة هم بينوها. ومن قرأ بالكسر فلأنها إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: ٣٦] لما صرن أسبابا للضلال. ثم إنه استثناء مماذا؟ قيل: من أخذ المال أي لا يحل له أن يحبسها ضرارا لتفتدي إلا إذا زنت فحينئذ حل لزوجها أن يسألها الخلع. وكان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وقيل: استثناء من العضل نهوا عن حبسهن في بيوت الأولياء والأزواج إلا بعد وجود الفاحشة. ومن هؤلاء القائلين من زعم أن هذا الحكم منسوخ
بآية الجلد.
وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذ في طلب الخلع. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ورغبتم في فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدينا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول
376
ولد نجيب ومال كثير لليمن في صحبتها.
قال صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في المرأة والفرس والدار» «١»
وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا بأن تتخلص من زوج سيىء العشرة وتجد زوجا آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة.
يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة
روي يريدها فنهوا عنه.
والقنطار المال العظيم، وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بطريق الإنكار بُهْتاناً وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير.
وفي الحديث «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته» «٢»
وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبنا. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل:
بمضمر أي تصيبون بهتانا. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتانا أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتانا أي باطلا، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك. وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في
(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٤٧. مسلم في كتاب السلام حديث ١١٥- ١٢٠. أبو داود في كتاب الطب باب ٢٤. الترمذي في كتاب الأدب باب ٥٨. النسائي في كتاب الخيل باب ٥. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٥. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث ٢٢. أحمد في مسنده (٢/ ٨، ٣٦، ١١٥).
(٢)
رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٣٠، ٢٨٤). مسلم في كتاب البر حديث ٧٠. أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٥. الترمذي في كتاب البر باب ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦. بلفظ «... وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهّته».
377
ذاتها من حيث إنه مشعر بأنها قد أتت بفاحشة وقبض على مالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر. وقيل: المراد عقاب البهتان والإثم كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] ثم عجب من الأخذ مستفهما فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ عن ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج وابن قتيبه وإليه ذهب الشافعي أن المراد بالإفضاء الجماع إذ الفضاء الساحة ويقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء. وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع. وقيل: الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها وهو قول الكلبي واختاره الفراء، ويوافقه مذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قريبا في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضا الإفضاء لا بد أن يكون مفسرا بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخرة. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافيا في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟
فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأيضا الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر.
ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار
في الحديث «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «١»
وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظ لقوّته فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وهاهنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه. وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] وبالاتفاق
(١) رواه مسلم في كتاب الحج حديث ١٤٧. أبو داود في كتاب المناسك باب ٥٦. ابن ماجه في كتاب المناسك باب ٨٤. الدارمي في كتاب المناسك باب ٣٤. أحمد في مسنده (٥/ ٧٣).
378
لا يحصل التحليل بمجرد العقد. ولقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء:
٦] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبدا. ولقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: ٣]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون»
فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: ٣٢] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣]
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي» «١»
ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له.
وبقوله: «ولدت من نكاح لا من سفاح»
وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقا لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معا، فتكون الآية نهيا عن الوطء وعن العقد معا، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهيا عن القدر المشترك بينهما وهو الضم.
والنهي عن المشترك يكون نهيا عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهيا عن التسويد والتبييض لا محالة. وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصورّ في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: ما نَكَحَ لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قاله محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن «من» تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقدا كان صحيحا. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ما أخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:
٢٤]
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» «٢»
وقوله: «زوّجوا أبناءكم
(١) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب ١.
(٢) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ٣. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٤٦.
379
الأكفاء»
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرام لا يحرّم الحلال» «١».
ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: أنتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله: «ولا عيب فيهم» يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه.
وقيل: «إلا» بمعنى «بعد» كقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
٥٦] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه ﷺ أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف؟؟؟ بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية.
وروي أنه ﷺ بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة،
أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبدا ممقوتا عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفا بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم.
التأويل:
الوراثة الدينية أيضا سبب ونسب. فالسبب هو الإرادة بلبس خرقة المشايخ والتشبه بهم، والنسب هو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا مستسلما لأحكام التسليل والتربية ليتولد السالك بالنشأة الثانية من صلب ولايتهم. ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم:
(١) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٦٣.
380
«الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» «١»
وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية
كقوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «٢»
وقول موسى للخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: ٦٦]. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ هي النفوس الأمارات بالسوء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشره، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة فَإِنْ شَهِدُوا بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ في سجن الدينا وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب وَالَّذانِ يَأْتِيانِها أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهرا في الأعمال وباطنا في الأحوال والأخلاق فَآذُوهُما ظاهرا بالحدود وباطنا بالرياضات وترك الحظوظ فَأَعْرِضُوا عَنْهُما باللطف بعد العنف، وباليسر بعد العسر. بِجَهالَةٍ أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبه التوبة كما قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي عقيب المعصية.
قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» «٣»
والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال: من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرف فيها آباؤكم العلوية إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم.
تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس أوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ..
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ٤٨. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٤٣، ١٤٤. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٣.
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).
(٣) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٥٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٧٤. أحمد في مسنده (٥/ ١٥٣، ٢٢٨).
381
(بسم الله الرحمن الرحيم) الجزء الخامس من أجزاء القرآن الكريم
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
القراآت:
وَالْمُحْصَناتُ في كل القرآن بكسر الصاد إلّا قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ على الباقون بالفتح. وَأُحِلَّ مبنيا للمفعول: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون: مبنيا للفاعل. أُحْصِنَّ بفتح الهمزة والصاد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: أُحْصِنَّ بضم الهمزة وكسر الصاد. تِجارَةً بالنصب:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: بالرفع.
الوقوف:
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الأولى (ز) لابتداء الشرط مع اتحاد المقصود فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (ز) لذلك فإن جملة الشرط معترضة أَصْلابِكُمْ (لا) للعطف سَلَفَ (ط)
382
رَحِيماً (هـ) لا للعطف أَيْمانُكُمْ (ج) لأن كِتابَ اللَّهِ يحتمل أن يكون مصدر التحريم لأنه في معنى الكتابة، ويحتمل أن يكون مصدر محذوف أي كتب الله كتابا، والأحسن أن يكون مفعولا له أي حرمت لكتاب الله. من قرأ وَأُحِلَّ بالفتح لم يحسن الوقف له على عَلَيْكُمْ للعطف على «كتب»، ومن قرأ وَأُحِلَّ بالضم عطفا على حُرِّمَتْ جاز له الوقف لطول الكلام. مُسافِحِينَ (ط) لابتداء حكم المتعة. فَرِيضَةً (ط) الْفَرِيضَةِ (هـ) حَكِيماً (هـ) فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ (ط) بِإِيمانِكُمْ (ط) مِنْ بَعْضٍ (ج) لعطف المختلفين أَخْدانٍ (ج) لذلك مِنَ الْعَذابِ (ط) الْعَنَتَ مِنْكُمْ (ط) خَيْرٌ لَكُمْ (ط) رَحِيمٌ (هـ) وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ (ط) حَكِيمٌ (هـ) عَظِيماً (هـ) يُخَفِّفَ عَنْكُمْ (ج) لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أي يخفف لضعفكم ضَعِيفاً (هـ) أَنْفُسَكُمْ (ط) رَحِيماً (هـ) ناراً (ط) يَسِيراً (هـ).
التفسير:
إنه سبحانه نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان، سبعة من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، وبنات النساء بشرط الدخول بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء- وهذه في الآية المتقدمة- والجمع بين الأختين، والمحصنات من النساء. وذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال وذلك غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض وهذا معنى الإجمال. والجواب من المعلوم بالضرورة من دين محمد ﷺ أن المراد منه تحريم نكاحهن لا سيما وقد تقدم قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا لإحدى خصال ثلاث» «١»
فإنه لا يشتبه أن المراد لا يحل إراقة دمه.
ثم إنّ قوله: حُرِّمَتْ إنشاء للتحريم كقول القائل «بعت» أو «طلقت» لا إخبار عن التحريم في الزمان الماضي ولا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى كقوله: بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: ٩، ١٠] والخطاب لأولئك الحاضرين بالذات ولمن عداهم من الأمة بالتبعية. والأصل في كل حكم هو الاستمرار والتأبيد ما لم ينسخه ناسخ، والقرينة
(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥، ٢٦. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥، ١١. الدارمي في كتاب السير باب ١١. أحمد في مسنده (١/ ٦١، ٧٠).
383
تدل على أن المراد أنه تعالى حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة. واعلم أنّ حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمان آدم إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، بل إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله إلّا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا. أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمان آدم عليه السلام وذلك للضرورة، وبعض المسلمين ينكره ويقول: إنه تعالى بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم، ويرد عليه أنّ هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك بالإجماع باطل. قال العلماء: السبب في تحريم الأمهات والبنات أن الوطء إذلال وإهانة فلا يليق بالأصل والجزء. والأمهات جمع الأم والهاء زائدة. ووزن أم «فعل» أو أصلية ووزنه «فع». وقد يجيء جمعه على «أمات» وقد يقال الأمهات للإنسان، والأمات لغيره. وكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو درجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ولا شك أن لفظ الأم حقيقة في التي ولدتك، أما في الجدة فيحتمل أن يكون حقيقة أيضا وحينئذ يكون اللفظ متواطئا فيها إن كان موضوعا بإزاء قدر مشترك بينهما، وتكون الآية نصا في تحريمها أو يكون مشتركا بينهما. وحينئذ إن جوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه فالآية نص في تحريمها أيضا وإلّا فطريقان:
أحدهما أن تحريم الجدات مستفاد من الإجماع، والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين لكل من المفهومين. وكذا الكلام إن قلنا إنّ الأم حقيقة في الوالدة مجاز في الجدات. قال الشافعي: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لكونه محرّما قطعا في حكم الشرع فيكون وطؤها زنا محضا.
الصنف الثاني من المحرمات البنات ويراد بهن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو بذكور. والكلام في أن إطلاق لفظ البنت على بنت الابن وبنت البنت حقيقة أو مجاز كما مر في الأمهات. قال أبو حنيفة: البنت المخلوقة من ماء الزنا تحرم على الزاني. وقال الشافعي: لا تحرم لأنها ليست بنتا له شرعا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش»
وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش، ولأنها لو كانت بنتا له لأخذت الميراث ولثبت له ولاية الإجبار عليها، ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحل الخلوة بها، لكن التوالي باطلة بالاتفاق فكذا المقدم. وأيضا إنّ أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا. أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره إلى أن تلد
384
فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلّا عند الاستلحاق، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه. والثاني أيضا باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزاني من الزاني، ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه. الصنف الثالث: الأخوات ويشمل الأخوات من الأب والأم، ومن الأب فقط، ومن الأم فقط. الصنف الرابع والخامس العمات والخالات. قال الواحدي: كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، ولا تحرم أولاد العمات وأولاد الخالات.
الصنف السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت، والقول فيهما كالقول في بنت الصلب. الثامن والتاسع: قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ سمى المرضعات أمهات تفخيما لشأنهن كما سمى أزواج النبي ﷺ أمهات لحرمتهن. وليس قوله:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ كقول القائل: وأمهاتكم اللاتي كسونكم أو أطعمنكم. وإلّا كان تكرارا لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بل المراد أن الرضاع هو الذي تستحق هي بسببه الأمومة ويعلم من تسمية المرضعة. أما والراضعة أختا إنه أجرى الرضاع مجرى النسب لأن المحرمات بسبب النسب سبع: اثنتان بالولادة وهما الأمهات والبنات، والباقية بطريق الإخوة وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فذكر من كل واحد من القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي منهما. فذكر من قسم الولادة الأمهات، ومن قسم الإخوة الأخوات. ثم إنه ﷺ أكد هذا البيان بصريح
قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»
فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف فأمك من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك من الآباء والأمهات، أو ولدت المرضعة، أو الفحل الذي منه اللبن بواسطة أو بغير واسطة.
وبنتك من الرضاع كل أنثى أرضعت بلبنك، أو أرضعت بلبن من ولدت من الأبناء أو البنات. وأختك من الرضاع كل أنثى أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك، أو ولدتها المرضعة أو الفحل الذي در لبنه على المرضعة. وعمتك كل أنثى من الرضاع من جهة الأب، وكل أنثى أرضعت بلبن واحد من أجدادك، أو كانت أخت الفحل الذي أرضعت
(١) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب ٧. مسلم في كتاب الرضاع حديث ١، ٢. أبو داود في كتاب النكاح باب ٦. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٤. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٨. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١، ٢، ١٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٧٥، ٢٩٠).
385
بلبنه. ومن جهة الأم كل أنثى هي أخت ذكر أرضعت أمك بلبنه بواسطة أو بغير واسطة.
وخالتك من الرضاع من جهة الأم كل أنثى هي أخت أمك من الرضاع، أو أخت من أرضعتك من النسب أو الرضاع. ومن جهة الأب كل أنثى هي أخت أنثى أرضعت أباك من الرضاع أو النسب. وبنات الإخوة والأخوات من الرضاع كل أنثى ولدها ابن مرضعتك أو بنتها أو ولدها ابن الفحل الذي منه اللبن، أو بنته من الرضاع أو النسب، أو أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك. وكذلك حكم بنات أولاد من أرضعته أختك أو أرضعت بلبن أخيك من الرضاع أو النسب، وكذلك بنات من أرضعته أمك أو أرضع بلبن أبيك وبنات أولادهما من الرضاع أو النسب. والرضاع المحرّم قد يسبق النكاح فيمنع انعقاده، وقد يطرأ عليه فيقطعه. وللرضاع أركان: أحدها المرضع ويجب أن تكون امرأة. فلبن البهيمة لا يثبت تحريما بين الذكر والأنثى للذين شربا منه وكذا لبن الرجل، وأن تكون حية. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يتعلق بلبن الميتة التحريم، وأن تكون محتملة للولادة بأن بلغت تسع سنين. وثانيها اللبن ويتعلق به التحريم ولو تغيّر بحموضة أو انعقاد أو إغلاء أو اتخذ منه جبن أو زبد أو مخيض أو أقط أو ثرد فيه طعام أو عجن به دقيق وخبز أو خلط بمائع حلال أو حرام. وثالثها المحل وهو معدة الصبي الحي فلا أثر للحقنة، ولا بعد الحولين الهلاليين، ولا للوصول إلى معدة الصبي الميت. ولا بد مع ذلك من خمس رضعات
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان» «١»
، ولما
روت عائشة «خمس رضعات يحرّمن» «٢»
وعند أبي حنيفة: الرضعة الواحدة كافية. الصنف العاشر قوله:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم. الحادي عشر وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ والربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة لأنّ الرجل يربها. والحجور جمع حجر بالفتح والكسر. وكونها في حجره عبارة عن تربيته وهو بناء للكلام على الغالب ومثله هو في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط.
وقال أبو عبيد: في حجوركم أي في بيوتكم.
وعن علي عليه السلام أنه جعل كونها ربيبة له وكونها في حجره شرطا في التحريم
وهو استدلال حسن. وأما سائر العلماء فذهبوا إلى
(١) رواه مسلم في كتاب الرضاع حديث ١٧، ٢٠، ٢٣. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٠. الترمذي في كتاب الرضاع باب ٣. النسائي في كتاب النكاح باب ٥١. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٥.
الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٩. أحمد في مسنده (٤/ ٤، ٥، ٣١).
(٢)
رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٩، ١٠. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١٣. أحمد في مسنده (٦/ ١، ٢٠، ٢٥٥). بلفظ «.. فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة».
[.....]
386
أنّ الكلام أخرج مخرج الأعم الأغلب، وأنه إذا دخل بالمرأة حرمت ابنتها عليه سواء كانت في تربيته أو لم تكن. أما اشتراط الدخول بأمها فلقوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وهو متعلق بربائبكم كما تقول: بنات رسول الله ﷺ من خديجة. وأما عدم اشتراط التربية فلقوله: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن السبب لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وذهب جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس. وحجتهم أنه تعالى ذكر جملتين وهو قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين فعلى أن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل دليل على عود ذلك الشرط إليه إذ الظاهر تعلق الشرط بالثانية، وإذا تعلق الشرط بالثانية أو تعلق بإحدى الجملتين فلا حاجة إلى تعليقه بأخرى.
وأيضا عود الشرط إلى الجملة الأولى وحدها باطل بالإجماع وكذا عوده إليهما معا، لأنّ معنى «من» مع الأولى البيان، ومعناها مع الثانية ابتداء الغاية، واستعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا غير جائز. نعم لو جعل «من» للاتصال كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] أمكن اعتبار الاتصال في النساء والربائب معا، فأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. إلّا أن هذا التفسير فيه خلل من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما اللفظ فلأن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وكذا ربائبكم يكون حينئذ مبتدأ وقوله مِنْ نِسائِكُمُ خبرا ويقع بين المعطوفات فاصلة لأن قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وما بعده معطوف على فاعل حُرِّمَتْ. وأما من جهة المعنى فلأن الحكم بالاتصال والاتحاد يقتضي التحليل لا التحريم ظاهرا. ومما يدل على أن الجملة الأولى مرسلة ما
روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلّقها فإن شاء تزوّج البنت» «١»
وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة. فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت
(١) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ٢٥.
387
قال: إنّ الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فله ذلك، وإن ماتت عنده لم يتزوّج أمها أقام الموت مقام الدخول في التحريم كما قام مقامه في باب المهر. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم: بنى عليها أو ضرب عليها الحجاب. يعني أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية. وقد تقدم أن الخلوة الصحيحة عند أبي حنيفة تقوم مقام الدخول في التحريم. وقد تمسك أبوبكر الرازي بالآية في إثبات أن الزنى يوجب حرمة المصاهرة.
قال: لأنّ الدخول بها اسم لمطلق الوطء من نكاح كان أو سفاح. ورد بأنّ تقديم قوله: مِنْ نِسائِكُمُ يوجب تخصيص الوطء بالحلال.
الصنف الثاني عشر وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ فيخرج المتبنى وكان في صدر الإسلام بمنزلة الابن إلى أن نزل: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: ٣٧] وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته على أبيه
لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»
وإن كان ظاهر قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وظاهر قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقتضي الحل فههنا قد تخصص عموم القرآن بخبر الواحد. واتفقوا على أنّ حرمة التزوّج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ولا تتوقف الحرمة على الدخول. وما روي عن ابن عباس أنه قال: أبهموا ما أبهم الله أراد به التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبع المحرّمات من جهة النسب إنها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على التأبيد؟
واتفقوا أيضا على تحريم حليلة ولد الولد على الجد. أما جارية الابن فقد قال أبو حنيفة:
يجوز للأب أن يتزوّج بها. وقال الشافعي: لا يجوز لأنّ الحليلة فعيلة إما بمعنى المفعول من الحل أي المحللة، أو من الحلول بمعنى أن السيد يحل فيها، وإما بمعنى الفاعل لأنهما يحلّان في لحاف واحد، أو يحل كل واحد منهما في قلب صاحبه لما بينهما من الإلفة والمودّة. وعلى التقادير يصدق على جارية الابن أنها حليلته كما يصدق على زوجته أنها حليلته فتناولها الحرمة بالآية. الصنف الثالث عشر وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرمت عليكم الجمع بينهما والتأنيث للتغليب أو للاكتساب أو بتأويل الخصلة. ويمكن أن يقال:
الواو نائب عن الفعل المطلق من غير اعتبار تذكيره أو تأنيثه، والجمع يكون إما بالنكاح أو بالملك أو بهما. أما النكاح فلو عقد عليهما معا فنكاحهما باطل، وعلى الترتيب بطل الثاني
(١) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب ٧. مسلم في كتاب الرضاع حديث ١، ٢. أبو داود في كتاب النكاح باب ٦. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٣٤. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٨. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١، ٢، ١٦. أحمد في مسنده (١/ ٢٧٥، ٢٩٠).
388
لأنّ الدفع أسهل من الرفع، وأما الجمع بينهما بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلف الصحابة فيه فقال علي وعمرو بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما لإطلاق الآية، ولأنه لو لجاز الجمع بينهما في الملك لجاز وطؤهما معا لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: ٦] ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة، فلو سلم أن الآية تدل على الجواز فالأحوط جانب الترك. وأما سائر الصحابة والفقهاء فقد قالوا: النهي وارد عن نكاحهما، فلو جمع بينهما في الملك جاز إلّا أنه إذا وطئ إحداهما حرّم وطء الثانية عليه، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج. قال أبو حنيفة هاهنا: لا يجوز نكاح الأخت في عدّة الأخت البائن لأنّ النكاح الأول كأنه باق بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة. وقال الشافعي: يجوز لأن نكاح المطلّقة زائل بدليل لزوم الحد بوطئها. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فنقول: متى حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها، ولا يلزم من حصول القدرة على حبسها حصول النكاح لأنّ استثناء عين التالي لا ينتج. وإذا أسلم الكافر وتحته أختان فقد قال الشافعي: اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى سواء تزوّج بهما معا أو على الترتيب، لأنّ الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشرائع في أحكام الدنيا إذا لا يتصوّر تكليفه بالفروع ما دام كافرا. نعم يعاقب بترك الفروع في الآخرة كما يعاقب على ترك الإسلام. ومما يؤيّد قول الشافعي ما روي أن فيروزا الديلي أسلم على ثمان نسوة
فقال صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن أطلق ولم يتفحص عن الترتيب.
وقال أبو حنيفة: إن تزوّج بهما معا تركهما أو على الترتيب فارق الثانية، لأنّ الخطاب في قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا عام فيتناول المؤمن والكافر فخالف أصليه حيث جعل النهي دالا على الفساد، والكافر مخاطبا بالفروع. ومما يدل على أن الخطاب بالفروع لا يظهر أثر في حق الكافر في الأحكام الدنيوية الإجماع على أنه لو تزوج بغير وليّ وشهود أو على سبيل القهر والغصب فبعد الإسلام يقرّر ذلك النكاح، أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فمعناه أن ما مضى مغفور بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقد مرّ نظيره.
واعلم أنّ رسول الله ﷺ ألحق بالأختين جميع المحارم حيث
قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» «١»
وضبط العلماء ذلك بأنّ كل شخصين بينهما قرابة أو رضاع
(١) رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٢٧. مسلم في كتاب النكاح حديث ٣٧- ٣٩. أبو داود في كتاب النكاح باب ١٢. الترمذي في كتاب النكاح باب ٣. النسائي في كتاب النكاح باب ٣١.
الدارمي في كتاب النكاح باب ٨. أحمد في مسنده (١/ ٧٨، ٣٧٣).
389
لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرّم النكاح بينهما فلا يجوز الجمع بينهما. فيحرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أخيها، وكذلك بين المرأة وبنت أختها وبنات أولاد أختها سواء كانت العمومة والخئولة من النسب أو الرضاع. ولا يحرم نكاح المرأة وأم زوجها، ولا نكاح المرأة وبنت زوجها لأنه لا توجد الحرمة على تقدير ذكورة كل واحدة منهما، وإنما توجد على تقدير ذكورة أم الزوج أو بنته فقط لمكان المصاهرة حينئذ بخلاف ما لو فرضت المرأة ذكرا فإنه لا يكون بينهما قرابة ولا رضاع. وقد يضبط تحريم الجمع بعبارتين أخريين: إحداهما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع يقتضي المحرمية، والثانية يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما وصلة قرابة أو رضاع لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة لحرمت عليك. الصنف الرابع عشر وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان: أحدها الحرية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النور: ٤] وثانيها العفة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أحصنت فرجها. وثالثها الإسلام فَإِذا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن. ورابعها كونها ذات زوج وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي ذوات الأزواج منهن. والوجوه كلها مشتركة في أصل المعنى اللغوي وهو المنع. يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة مانعة صاحبها من الآفات والجراحات. والحرية سبب لمنع الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة مانعة من ارتكاب المناهي، وكذا الإسلام والزوج مانع لزوجته من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا. قرىء بكسر الصاد لأنهن أحصن فروجهن بالتزوج. ومعنى قوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أن اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وهكذا إذا سبى الزوجان معا خلافا لأبي حنيفة قياسا على شراء الأمة واتهابها وارثها فإن كلا منها لا يوجب الفرقة. وأجيب بأنّ الحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص، والأول أقوى فظهر الفرق. وقيل: المعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلّا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع الفراق بينهن وبين أزواجهنّ. وقيل:
المحصنات الحرائر. والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلّا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، أو إلّا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك، والقول هو الأول لما
روي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي ﷺ فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللناهن.
ثم أكد تحريم المذكورات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يحتمل أن يكون منصوبا باسم فعل ويكون عَلَيْكُمْ مفسرا له أي الزموا كتاب الله. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن
390
مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو خفية أو ببيان النبي ﷺ كما قلنا في تحريم الجمع بين الأختين وغيرهما. وقد دخل بعد هذه العناية في الآية تخصيصات أخر منها: أنّ المطلقة ثلاثا لا تحل ودليل ذلك قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] ومنها الحربية والمرتدة بدليل قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] ومنها المعتدة بدليل قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: ٢٢٨] ومنها أن من في نكاحه حرة لم يجز له أن ينكح أمة بالاتفاق. وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة بدليل وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ومنها الخامسة بدليل مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: ٣] ومنها الملاعنة
لقوله صلى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا».
وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين لا في حال كونكم مسافحين، لئلّا تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياما فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم. ويجوز أن يكون تَبْتَغُوا بدلا من ما وَراءَ ذلِكُمْ ومفعول تَبْتَغُوا مقدر وهو النساء. والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحا لأنّه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة أي صبّها. قال أبو حنيفة: لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا. وقال الشافعي: يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله: بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء.
وعن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل»
وقال أبو حنيفة: لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع، وكذا قوله وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ [النساء: ٤] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان. ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حرا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي: الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا. وأيضا قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه. ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقا قوله تعالى في قصة شعيب عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [القصص: ٢٧] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ. وأيضا التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئا
قال صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا. فقال: زوّجتكها
391
بما معك من القرآن.
ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقا لها لا سيما
وقد روي عن النبي ﷺ أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي عليه فأسقط الراجع للعلم به. ويجوز أن يراد بما النساء «ومن» للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع، ويكون رجوع الضمير إليه في بِهِ على اللفظ وفي فَآتُوهُنَّ على المعنى. والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرا. وفَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر. قال أكثر علماء الأمة: إنّ الآية في النكاح المؤبد. وقيل: المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة. وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين. قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت:
فما هي؟ قال: هي متعة كما يقال. قال: قلت هل لها عدة؟ قال: نعم، عدّتها حيضة.
قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا. وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال: قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال:
اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة. وأما
عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ﷺ وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء- يريد أن عمر نهى عنها-
وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي.
حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلّا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: ٦] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلّا لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق. وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك، ولو سكتوا لجهلهم
392
بحلها وحرمتها فمحال عادة لشدة احتياجهم إلى البحث عن أمور النكاح، ولو سكتوا مع علمهم بحلها فإخفاء الحق مداهنة وكفر وبدعة وذلك محال منهم. وما روي عن عمر أنه قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته. ثم إنّ الصحابة لم ينكروا عليه مع أنّ الرجم لا يجوز في المتعة فلعله ذكر ذلك على سبيل التهديد والسياسة ومثل ذلك جائز للإمام عند المصلحة. ألا ترى أنه
قال صلى الله عليه وسلم: «من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله» «١»
مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلّا للسياسة. وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. قال: وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله ﷺ فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. القائلون بإباحة المتعة قالوا: الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وبه قرأ ابن عباس أيضا، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعا. وأيضا أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد. وأيضا قال في أول السورة: فَانْكِحُوا [النساء: ٣] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلا يلزم التكرار في سورة واحدة، والحمل على حكم جديد أولى. ومما يدل على ثبوت المتعة ما
جاء في الروايات أنّ النبي ﷺ نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
وأكثر الروايات أنه ﷺ أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح. وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذ طول العزوبة فقال: استمتعوا من هذه النساء. وقول من قال إنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلّا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتا في عهد الرسول، وما كان ثابتا في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين. وأجيب بأنّ المراد من قول عمر «وأنا أنهي عنها» أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول ﷺ وقد سلموا له ذلك فكان إجماعا.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ الذين حملوا الآية على بيان
(١) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب ٧. أحمد في مسنده (٥/ ٢، ٤).
393
حكم النكاح قالوا: المراد أنه إذا كان المهر مقدّرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا أو تبرّئه عنه بالكلية كقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء: ٤] وقال الزجاج: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر، إذا طلّقها قبل الدخول. قال أبو حنيفة: إلحاق الزيادة بالصداق جائز لأنّ التراضي قد يقع على الزيادة وقد يقع على النقصان وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي: الزيادة بمنزلة الهبة. فإن أقبضها ملكته بالقبض وإن لم يقبضها بطلت، والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقدا ثانيا وهو باطل بالإجماع، وإما أن تحصل عقدا مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل. والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا: المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل، فإن قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة والصواب.
ثم وسع الأمر على عبادة فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان. وأَنْ يَنْكِحَ متعلق ب طَوْلًا يقال: طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله. والمحصنات هاهنا الحرائر، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات. تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي» «١»
وقال الشافعي: إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط: اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به. فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن. والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية. والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فالقيد الأول مستفاد من قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات. أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع
(١) رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث ١٤. أحمد في مسنده (٢/ ٤٤٤).
394
للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر. إلّا أن هذا القيد ألغاه أكثر الأئمة لأنّ الولد إذا رق للكافر بيع عليه في الحال. وأما فائدة القيد الثاني فالحذر من اجتماع النقصانين الكفر والرق. وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ومذهب مالك والشافعي. أما أبو حنيفة فإنه يقول: الغني والفقير سواء في جواز نكاح الأمة. وذلك أنه يحمل النكاح في الآية على الوطء ويقول: المراد أن من لم يملك فراش الحرة فله أن ينكح أمة. ثم الأمة لو كانت كتابية جاز له نكاحها ولكن نكاح الأمة المؤمنة أفضل فحمل التقييد في الآية على الفضل لا على الوجوب قياسا على جواز نكاح الحرة الكتابية بالإجماع مع وصف الجرائر أيضا بالمؤمنات. وأجيب بالفرق وهو اجتماع النقصانين. ومن الناس من قال: لا يجوز التزوّج بالكتابيات البتة ولا شك أن في الآية دلالة على الحذر عن نكاح الإماء وأن الإقدام عليه لا يجوز إلّا عند الضرورة وذلك لتباعة الولد الأم في الرق، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة فربما تعوّدت بسبب ذلك فجورا وقحة، ولما للمولى عليها من حق الاستخدام فلا تخلص لخدمة الزوج، ولأنّ السيد قد يبيعها فتصير مطلقة عند من يقول بذلك، ولأنّ مهرها ملك لمولاها فلا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه. وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات. ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلّا بإذنه. ولفظ القرآن مقتصر على الأمة.
وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث.
روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» «١»
واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلّا بإذن الولي لأنّ قوله: فَانْكِحُوهُنَّ الضمير فيه يعود إلى الإماء. والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه
(١) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ١٦. الترمذي في كتاب النكاح باب ٢١. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٤٣. الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٠. أحمد في مسنده (٣/ ٣٠١، ٣٧٧).
395
يحنث في يمينه. فعند زوال الرق عنها وهي حرة عاقلة بالغة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ثبت في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها. وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه. فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه، وأيضا إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلا أو ولي المولى إن كان امرأة. سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه
قوله صلى الله عليه وسلم: «العاهر هي التي تنكح نفسها» «١»
إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق. قلت: الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم. فلقائل أن يقول: لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق.
فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع. فمن المعلوم عرفا أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف: لا أكلم شابا. فحينئذ لو كلّم زيدا وزيد شاب حنث فإذا صار شيخا ثم كلمه لم يحنث. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها- سمى لها المهر أو لم يسم- وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء. وقيل: الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة. وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل: ٧٥] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلا، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها. أما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن. وليس في قوله: وَآتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن. وهب أن المهر ملك لهن
ولكنه ﷺ قال: «العبد وما يملكه لمولاه»
أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف مُحْصَناتٍ قال ابن عباس: أي عفائف وهو حال من قوله:
(١)
رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ١٥. بلفظ «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيّنة».
396
فَانْكِحُوهُنَّ وظاهره يقتضي حرمة نكاح الزواني لكن الأكثرون على أنه يجوز فالآية محمولة على الندب والاستحباب. غَيْرَ مُسافِحاتٍ قال أكثر المفسرين: المسافحة هي التي تؤاجر نفسها أي رجل أرادها، ومتخذة الخدن هي التي لها صديق معيّن. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم فلا جرم أفردهما الله تعالى بالذكر تنصيصا على حرمتهما معا.
والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب. والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن، يقع على الذكر والأنثى. فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة. وهاهنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار. وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا.
والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا ينتصف، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن. وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى.
واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال. والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي، والفقهاء جعلوا الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما. ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق. وللمفسرين هاهنا قولان: أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء. وَأَنْ تَصْبِرُوا أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت
397
والإماء هلاك البيت».
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلّا أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أقيمت اللام مقام «أن» في قولك أريد أن يقوم. وقيل: زيدت اللام وقدر «أن» وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. وقيل: في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل: المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل: بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلّا أنها متفقة في باب المصالح، وقيل: المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي: معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة، وكذا الكلام في قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وقالت المعتزلة: يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم. وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق والقصد مَيْلًا عَظِيماً وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول:
يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولا سيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلّا أتاهم من قبل النساء، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
398
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: ١١٠] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: ١٤٧] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد.
ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة: النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي: يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلا. وأي فرق بين قوله: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله: «لا تبيعوا الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي: لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلّا أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار
بقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» «١».
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه.
عن الحسن البصري قال: حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» «٢».
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراح. فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي ﷺ إلى
(١) رواه البخاري في كتاب البيوع باب ٤٢، ٤٤، ٤٧. مسلم في كتاب البيوع حديث ٤٥. أبو داود في كتاب البيوع باب ٥١. النسائي في كتاب البيوع باب ٩. الموطأ في كتاب البيوع حديث ٧٩. أحمد في مسنده (١/ ٥٦).
(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٣.
399
النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبيناهم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحات شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي ﷺ فقال:
الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «١».
وعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال: يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا.
وقيل: معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلا وآجلا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا قصاصا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج: ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مثل على وفق المتعارف كقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: ٢٧] وإلّا فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه.
التأويل:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات والمتوالدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بأنواع غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية التي تتولد من تصرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع رَحِيماً بالمؤمنين فيما اضطرهم إليه من التصرفات بقدر الحاجة الضرورية. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ هي الدنيا التي تصرف فيها العلويات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بإذن الله تعالى حيث قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١] مُحْصِنِينَ حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه وجوهكم. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ من الضروريات فأعطوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر. ثم إنّ الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا كما أحب
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٧٥. الترمذي في كتاب الطب باب ٧. النسائي في كتاب الجنائز باب ٦٨. الدارمي في كتاب الديات باب ١٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٥٤، ٤٧٨).
400
نزاهة فراشه فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي من لم يقدر أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له ويحصنها بتصرّف شرائع الإسلام بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما، فليتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا ولم تملك قلبه لأنها مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة كما قال ﷺ حكاية عن الله تعالى: «يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك». مُحْصَناتٍ بالصدق والإخلاص غَيْرَ مُسافِحاتٍ بالتبذير والإسراف وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ من النفس والهوى فَإِذا أُحْصِنَّ بالإخلاص في العطاء والمنع والأخذ والدفع فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ هي غلبات شهواتها على القلب فليبذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وغرامة فهو حدها كما أن حدّ عجوز الدنيا إذا أحصنها ذوو الطول من الرجال فأتت بفاحشة إهلاكها بالكلية بالبذل في الله كما كان حال سليمان عليه السلام إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد لما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل فطفق مسبحا بالسوق والأعناق ذلِكَ التصرف في قدر من الدنيا لِمَنْ خَشِيَ ضعف النفس وقلة صبرها على ترك الدنيا وامتناعها عن قبول الأوامر والنواهي وَأَنْ تَصْبِرُوا عن التصرّف في الدنيا بالكلية خَيْرٌ لَكُمْ كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر».
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلكم المعونة ولغيركم المئونة.
قال إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وأخبر عن حال موسى بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: ١٤٣] وعن حال نبينا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] وعن حال هذه الأمة بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا [فصلت: ٥٣] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، ولأمته التقرّب:
«لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» «١»
. والفرق بين النبي والولي، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه.
الصبر يحمد في المواطن كلها إلّا عليك فإنه لا يحمد
وكان أبو الحسن الخرقاني يقول: لو لم ألق نفسا لم أبق. وغير الإنسان يصبر عن الله
(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣٨. أحمد في مسنده (٦/ ٢٥٦).
401
لعدم المحبة. ومن ضعفه أنه لا يصبر مع الله عند غلبات سطوات التجلي كما أنه ﷺ كان يغان على قلبه وكان يقول حينئذ: كلميني يا حميراء. وكان الشبلي يقول: لا معك قرار ولا منك فرار، المستغاث بك منك إليك. ضعف الإنسان سبب كماله وسعادته، فساعة يتصف بصفات البهيمة، وساعة يتسم بسمات الملك. وليس لغيره هذا الاستعداد فلهذا
جاء في الحديث الرباني: «أنا ملك حي لا أموت أبدا فأطعني عبدي لعلك تكون ملكا حيا لا تموت أبدا».
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي تجارة تنجيكم من عذاب أليم. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بصرف أموالكم في شهواتها فإن ذلك سمها القاتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ بيّن لكم هذه الآفات ودلكم على هذه التجارات. وَمَنْ يَفْعَلْ صرف المال إلى الهوى تعديا عن أمر الله وظلما على نفسه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣١ الى ٤٠]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
402
القراآت:
يكفر ويدخلكم بياء الغيبة: المفضل. الباقون بالنون. مُدْخَلًا بفتح الميم وكذلك في الحج: أبو جعفر ونافع. الباقون بالضم. وَسْئَلُوا وبابه مما دخل عليه واو العطف أو فاؤه بغير همزة: ابن كثير وعلي وخلف وسهل وحمزة في الوقف.
عَقَدَتْ من العقد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون عاقدت من المعاقدة. بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب: يزيد. الباقون بالرفع. وَالْجارِ بالإمالة: إبراهيم بن حماد وقتيبة ونصير وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو والنجاري عن ورش وَالْجارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون: المفضل. الباقون بضمتين. بِالْبُخْلِ بفتحتين حيث كان: حمزة وعلي وخلف والمفضل عباس مخير. الباقون: بضم الباء وسكون الخاء.
حَسَنَةً بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. يُضاعِفْها بالتشديد:
ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون يُضاعِفْها بالألف.
الوقوف:
كَرِيماً هـ عَلى بَعْضٍ ط مِمَّا اكْتَسَبْنَ ط مِنْ فَضْلِهِ ط عَلِيماً هـ وَالْأَقْرَبُونَ ط بناء على أن ما بعده مبتدأ نَصِيبَهُمْ ط شَهِيداً هـ مِنْ أَمْوالِهِمْ ج لأن ما يتلو مبتدأ بِما حَفِظَ اللَّهُ ط وَاضْرِبُوهُنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب سَبِيلًا ط كَبِيراً هـ مِنْ أَهْلِها ج لأن «أن» للشرط مع اتحاد الكلام بَيْنِهِما ط خَبِيراً هـ وَابْنِ السَّبِيلِ ط للعطف أَيْمانُكُمْ ط فَخُوراً هـ لا بناء على أن الذين بدل مِنْ فَضْلِهِ ط مُهِيناً هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والعطف بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ط وإن جعل «الذين» مبتدأ لأن خبره محذوف أي فأولئك قرينهم الشيطان قَرِيناً هـ رَزَقَهُمُ اللَّهُ ط عَلِيماً هـ ذَرَّةٍ ط لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى أي لا يظلم بنقص الثواب ومع ذلك يضاعفه عَظِيماً هـ.
التفسير:
هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم. ومن الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو منكرا لقدر. وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: ٥٣] لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] وبأنه ﷺ نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، وبقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الحجرات: ٧] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان. فالكبائر هي الفسوق، والصغائر العصيان. حجة المانع ما روي عن ابن عباس: أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين: لكثرة نعم من
403
عصى فيه ولجلالته، ولا شك أن نعمه تعالى غير متناهية وأنه أجل الموجودات فيكون عصيانه كبيرا. وعورض بأنه أرحم الراحمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين، وكل ذلك يوجب خفة الذنب وإن سلم أن الذنوب كلها كبائر من حيث إنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت. وإذ قد عرفت أن الذنوب بعضها صغائر وبعضها كبائر فالكبيرة تتميز عن الصغيرة بذاتها أو باعتبار فاعلها. ذهب إلى كل واحد طائفة. فمن الأولين من قال: ويروى عن ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة كالقتل المحرم والزنا وأكل مال اليتيم وغيرها. وزيف بأنه لا ذنب إلّا وهو متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا فيكون كل ذنب كبيرا وهو خلاف المفروض. وعن ابن مسعود أن الكبائر هي ما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة، وضعف بأنه تعالى ذكر الكبائر في سائر السور أيضا فلا وجه للتخصيص. وقيل: كل عمد فهو كبير. وردّ بأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه فما هذا حاله فهو الذي نهى الله عنه فيكون كل ذنب كبيرا وقد أبطلناه، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فلا يكون كفر اليهود والنصارى كبيرا وهو باطل بالاتفاق. وأما الذين يقولون الكبائر تمتاز عن الصغائر باعتبار فاعلها، فوجهه أنّ لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب. فإذا وجد للإنسان طاعة ومعصية فالتعادل بين الاستحقاقين وإن كان ممكنا بحسب العقل إلّا أنه غير ممكن بحسب السمع وإلّا لم يكن مثل ذلك المكلف لا في الجنة ولا في النار وقد قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧] فلا بد من ترجيح أحدهما، ويلزم حينئذ الإحباط والتكفير. والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير أنه تعالى لم يميّز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر. فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط واجترأ على الإقدام على الصغائر، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلّا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها، ونظير هذا في الشرع إخفاء ليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جملة الأوقات. هذا ولا مانع من أن يبيّن الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة كما
روي أنه ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «١».
وذكر عند ابن عباس أنها سبعة
(١) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب ٢٣. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٤٤. أبو داود في كتاب الوصايا باب ١٠. النسائي في كتاب الوصايا باب ١٢.
404
فقال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة. وعن ابن عمر أنه عدّ منها:
استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود: زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره.
وفي بعض الروايات عن النبي ﷺ زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة.
وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال: هي التي توجب الحد. وقيل: هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة. وقيل: كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين. وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد.
احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه. والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: ٢٨٣] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه. سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته، فغايته أنه يكون عاما في باب الوعيد. والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة. ثم قالت المعتزلة: إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان. ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضا كبيرة. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا فمن فتح الميم أراد مكان الدخول، ومن ضمها أراد الإدخال. ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، أو هو وصف باعتبار صاحبه.
ثم إنه سبحانه لما أمرهم بتهذيب أعمال الجوارح وهو أن لا يقدموا على أكل الأموال بالباطل وعلى قتل الأنفس، حثهم على تهذيب الأخلاق في الباطن. أو نقول: لما نهاهم عن الأكل والقتل ولن يتم ذلك إلّا بالرضا بالقضاء وتطييب القلب بالمقسوم المقدّر، فلا جرم قال: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قالت المعتزلة: التمني قول القائل: «ليته كذا». وقال أهل السنة: هو عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قالوا: إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن كان متمنيا. ثم مراتب السعادات إما نفسانية نظرية كالذكاء والحدس وحصول المعارف والحقائق، أو عملية كالأخلاق الفاضلة، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر، وإما خارجية كحصول الأولاد النجباء وكثرة العشائر والأصدقاء والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر مطاع الأمر، فهذه مجامع السعادات. وبعضها محض عطاء الله تعالى، وبعضها مما
405
يظن أنها كسبية. وبالحقيقة كلها عطاء منه تعالى فإنه لولا ترجيح الدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وتوفيق الأسباب فلأي سبب يكون السعي والجد مشتركا فيه، والفوز بالبغية والظفر بالمطلوب غير مشترك فيه؟ وإذا كان كذلك فما الفائدة في الحسد غير الاعتراض على مدبر الأمور وكافل مصالح الجمهور؟ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علما بأن ما قسم له هو خير له، ولو كان خلافه لكان وبالا عليه كما قال: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٢٧].
وفي الكلمات القدسية: «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين. ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليخرج من أرضي وسمائي وليطلب ربا سوائي».
قال المحققون: لا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، وزوجة مثل زوجة فلان، وإن كان هذا غبطة لا حسدا، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وعن الحسن: لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال.
أما سبب النزول
فعن مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا فنزلت.
وعن قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١] قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث. وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال.
وفي رواية قلن: نحن أحوج لأن ضعفاءهم أقدر على طلب المعاش فنزلت.
وقيل: أتت وافدة النساء إلى الرسول وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن للحامل منكم أجر الصائم القائم، وإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإن أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من نعيم الدنيا وثواب الآخرة فينبغي أن يرضوا بما قسم لهم، وكذا للنساء، أو لكل فريق جزاء ما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم. وتلخيصه لا تضيع ما لك بتمني ما لغيرك. أو لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب قيامهم بالنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ بحفظ فروجهن وطاعة أزواجهن والقيام بمصالح البيت وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فعنده من ذخائر الإنعام ما لا ينفده مطالب الأنام. و «من» للتبعيض أي شيئا من خزائن كرمه وطوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
406
عَلِيماً
فهو العالم بما يكون صلاحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل وليفوّض التفصيل إليه فإن ذلك أقرب إلى الأدب وأوفق للطلب.
قوله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ يمكن تفسيره.
بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثا منهما. والمعنى على الأول:
لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون فيحسن الوقف على قوله: مِمَّا تَرَكَ وفيه ضمير كل. وأما على الثاني، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورثة، وإما أن يكون جَعَلْنا مَوالِيَ صفة لِكُلٍّ بل محذوف والعائد محذوف وكذا المبتدأ والتقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون كما تقول:
لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أي حظ من رزق الله، والمولى لفظ مشترك بين معان:
منها المعتق لأنه ولي نعمته في عتقه، ومنها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه، وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. ومنها الحليف لأن الحالف يلي أمره بعقد اليمين، ومنها ابن العم لأنه يليه بالنصرة ومنه المولى للناصر قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: ١١] ومنها العصبة وهو المراد في الآية إذ هو الأليق بها
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلا فأنا وليّه» «١».
وأما قوله:
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فإما أن يكون مبتدأ ضمن معنى الشرط، فوقع قوله: فَآتُوهُمْ خبره. وإما أن يكون منصوبا على قولك: «زيدا فاضربه» مما توسط الفاء بين الفعل ومفعول مفسره إيذانا بتلازمهما وإما أن يكون معطوفا على الْوالِدانِ والإيمان جمع اليمين اليد أو الحلف. من الناس من قال: الآية منسوخة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما يهدر، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥] وبقوله:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: ١١] وأيضا: إن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم الأدعياء، وكان النبي ﷺ يؤاخي بين كل رجلين منهم، فكانوا يرثون بالتبني والمؤاخاة فنسخ. ومن المفسرين من زعم أنها غير منسوخة. وقوله: وَالَّذِينَ معطوف على ما
(١) رواه البخاري في كتاب الفرائض باب ١٥. مسلم في كتاب الفرائض حديث ١٦. أحمد في مسنده (٢/ ٣٥٦).
407
قبله. والمعنى: أن ما ترك الذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به فلا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى الوارث، فيكون الضمير في فَآتُوهُمْ للموالي قاله أبو علي الجبائي. أو المراد بالذين عاقدت الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا بين ميراث الزوج والزوجة بعد ميراث الولد والوالدين كما في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: ١١] قاله أبو مسلم. وقيل:
المراد الميراث الحاصل بسبب الولاء. وقيل: هم الحلفاء. والمراد بإيتاء نصيبهم النصرة والنصيحة والمصافاة. وقال الأصم: المراد التحفة بالشيء القليل كقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء: ٨] وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يرث المولى الأسفل من الأعلى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال: يرث، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلّا العتيق فجعل رسول الله ﷺ ميراثه للغلام.
والحديث عند الجمهور محمول على أن المال صار لبيت المال ثم دفعه النبي ﷺ إلى الغلام لفقره. وقال أبو حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث بحق الموالاة، وخالفه الشافعي فيه. وحكى الأقطع أن هذه الموالاة لا تصح عند أبي حنيفة أيضا إلا بين العرب دون العجم لرخاوة عقدهم في أمورهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لأنه عالم بجميع الجزئيات والكليات فشهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، وفيه وعيد للعاصين، ووعد للمطيعين.
هذا وقد مر أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ونحوه، فذكر في هذه الآية ما يشتمل على بعض أسباب التفضيل فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ يقال: هذا قيم المرأة وقوّامها بناء مبالغة للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما يقوم الوالي على الرعية ومنه سمي الرجال قوّاما. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا أي إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم- وهم الرجال- على بعض- وهم النساء. وقيل: وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وذكروا في فضل الرجال العقل والحزم والعزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء والحكماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة، والصغرى وهو الاقتداء بهم في الصلاة، وأنهم أهل الجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي، وزيادة السهم في الميراث والتعصيب فيه، والحمالة تحمل الدية في القتل الخطأ، والقسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب، وكل ذلك يدل على فضلهم، وحاصلها يرجع إلى العلم والقدرة. ومنها سبب خارجيّ وذلك أنهم فضلوا عليهن بما أنفقوا أي أخرجوا في نكاحهن من أموالهم مهرا
408
ونفقة.
عن مقاتل أن سعد بن الربيع، وكان من نقباء الأنصار، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله ﷺ وقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقتص منه، وكانت قد نزلت آية القصاص، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص.
فلهذا قال العلماء:
لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ولكن يجب العقل، وقيل: لا قصاص إلّا في الجرح والقتل، وأما في اللطمة ونحوها فلا. ثم قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات مطيعات لله وللزوج حافظات للغيب قائمات بحقوق الزوج في غيبته، والغيب خلاف الشهادة. ومواجب حفظ غيبة الزوج أن تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلّا يلحق به الولد الحاصل من نطفة غيره، وأن تحفظ أسراره عن الإفشاء وماله عن الضياع ومنزلها عما لا ينبغي شرعا وعرفا.
عن النبي ﷺ «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وتلا الآية» «١».
و «ما» في قوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ موصولة والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل فيهن في قوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] فقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى قولهم «هذا بذاك» أي هذا في مقابلة ذاك، أو مصدرية والمعنى: أنهن حافظات للغيب بحفظ الله إياهن فإنهن لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلّا بتوفيق الله، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على الأمانة، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. ومن قرأ بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب ف «ما» أيضا موصولة أي بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانته وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم، أو مصدرية أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكليف الله وتجتهد في حفظ أوامره وإلا لما أطاعت زوجها. ثم ذكر غير الصالحات منهن فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ تعرفون بالقرائن والأمارات نُشُوزَهُنَّ عصيانهن والترفع عليكم بالخلاف من نشز الشيء ارتفع، ومنه نشز للأرض المرتفعة فَعِظُوهُنَّ وهو أن يقول:
اتقي الله فإن لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي عليك فرض ونحو ذلك. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف. وقيل:
هو أن يوليها ظهره في المضجع. وقيل: في المضاجع أي ببيوتهن التي يبتن فيها أي لا
(١) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب ٣٢. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥. [.....]
409
تبايتوهن. وفي ضمن الهجران الامتناع من كلامها. ولكن ينبغي أن لا يزيد في هجره الكلام على ثلاث، فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتركت النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها فيباح الضرب وذلك قوله: وَاضْرِبُوهُنَّ والأولى ترك الضرب لما
روي أنه ﷺ قال: «لا تضربوا إماء الله» «١» فجاء عمر إلى رسول الله ﷺ فقال: ذئرت النساء على أزواجهن أي اجترأن فرخص في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله ﷺ نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم».
ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. وإذا ضربها وجب أن لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة، وأن يكون مفرقا على بدنها لا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. وقيل: دون عشرين لأنه حد كامل في شرب العبد، ومنهم من لا يرى الضرب بالسياط ولا بالعصا. وبالجملة فالتخفيف مرعي في هذا الباب ولهذا
قال علي بن أبي طالب: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال آخرون: هذا الترتيب مرعي عند خوف النشوز، فأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل.
وروي عن النبي ﷺ «علق سوطك حيث يراه أهلك».
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالأذى والتوبيخ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا لا بالجهة كَبِيراً لا بالجثة فَاحْذَرُوا واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على أزواجكم وأرقائكم.
روي أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاما له فبصر به رسول الله ﷺ فصاح به: أبا مسعود، الله أقدر منك عليه. فرمى بالسوط وأعتق الغلام.
وفيه أنه مع علوه وكبرياء سلطانه تعصونه فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو إذا رجع الجاني عليكم، أو أنه مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فلعلهن لا يقدرن على ذلك، أو أنه مع علو شأنه وكبريائه يكتفي من العبيد بالظواهر ولا يهتك السرائر فأنتم أجدر بأن لا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض إذا صلح حالها في الظاهر، أو أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله تعالى قادر قاهر ينتصف لهن منكم.
ثم بيّن أنه ليس بعد الضرب إلا المحاكمة فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ قال ابن عباس: أي علمتم وذلك لإصرارها على النشوز حيث لم يؤثر فيها الوعظ والهجران والضرب. واعترض
(١) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥١. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣٤
410
عليه الزجاج بأنه إذا علم الشقاق قطعا فلا حاجة إلى الحكمين. وأجيب بأن الشقاق معلوم إلّا أنا لا نعلم أن سبب الشقاق منه أو منها، فالحاجة إلى الحكمين لهذا المعنى. أو نقول:
المراد إزالة الشقاق في الاستقبال. ومعنى شِقاقَ بَيْنِهِما شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع وهو إجراء الظرف مجرى المفعول به، أو على جعل البين مشاقا مثل «نهاره صائم» والضمير للزوجين يدل عليهما مساق الكلام، أو ذكر الرجال والنساء فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعا رضا يصلح لحكومة الإصلاح بينهما ويهتدي إلى المقصود من البعث. ولا بد فيه من العقل والبلوغ والحرية والإسلام، ويستحب أن يكون الحكمان من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما وتسكن إليهما نفوس الزوجين، فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات كل من الأمرين. وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما عن الآخر ما علم. ثم المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين أو موليان من جهة الحكام المخاطبين بقوله: فَابْعَثُوا فيه للشافعي قولان: - أصحهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد- أنهما وكيلان لأن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان. والخطاب في قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ وفي فَابْعَثُوا لصالحي الأمة لأنه يجري مجرى دفع الضرر، فلكل أحد أن يقوم به. وثانيهما- وبه قال مالك- أنهما موليان لأنه تعالى سماهما الحكمين. ولما
روي أن عليا عليه السلام بعث حكمين من زوجين فقال: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرّقا ففرقا. وعلى الأول يوكل الرجل الذي هو من أهله بالطلاق وبقبول العوض في الخلع، والمرأة الآخر ببذل العوض وقبول الطلاق. ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء أدب القاضي الظالم واستوفى حق المظلوم. وعلى الثاني لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين.
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فيه أربعة أوجه: الأول: إن يرد الحكمان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير.
الثاني: إن يرد الزوجان إصلاحا أبدل الله الزوجين بالشقاق وفاقا. الثالث: إن يرد الحكمان إصلاحا يؤلف الله بين الزوجين. الرابع: إن يرد الزوجان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى تتفق كلمتاهما ويحصل الغرض، والتوفيق جعل الأسباب موافقة للغرض ولا يستعمل إلا في الخير والطاعة. وفيه أنه لا يتم شيء من الأغراض إلّا بتوفيق الله تعالى وتيسيره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً فيوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين بمقتضى علمه وإرادته. وفيه وعيد للزوجين والحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق ووعد على الجد في حسم مادة الخصومة والخشونة.
411
ثم أرشد إلى مجامع الأخلاق الحسنة بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن من عبد الله وأشرك به شيئا آخر فقد حبط عمله وضل سعيه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تقديره وأحسنوا بهما إحسانا. يقال: أحسن بفلان وإلى فلان. وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وقد مر تفاسيرها في البقرة. قال أبوبكر الرازي: إن اضطر إلى قتل أبيه بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله جاز له أن يقتله وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي بعد جواره.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، ألا وإن الجوار أربعون دارا» «١».
وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل: الجار ذي القربى الجار القريب النسب، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد، ومنه الجانبان للناحيتين، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ الْجُنُبِ فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر الذي انقطع عن بلده، أو الضيف وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله ﷺ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وذكر اليمين تأكيد كما يقال: مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل:
كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ البخل في اللغة منع الإحسان، وفي الشرع منع
(١)
رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٢٩. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (١/ ٣٨٧). بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا».
412
الواجب. وفيه أربع لغات: البخل مثل الفقر، والبخل بضم الباء وسكون الخاء، وبضمهما، وبفتحهما. وسبب النظم أن الإحسان إلى الأصناف المذكورين إنما يكون في الأغلب بالمال فذم المعرضين عن ذلك الإحسان لحب المال، ويحتمل أن يشمل البخل بالعلم أيضا، أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم مقتا للسخاء وهذه نهاية البخل. وفي أمثالهم «أبخل من الضنين بنائل غيره» وقد عابهم بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى حتى أوهموا الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان فخالفوا سنة نبي الله ﷺ حيث
قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته» «١»
وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس: إنّ الآية في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء فَساءَ قَرِيناً في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم:
ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة.
وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة:
لو كانوا غير قادرين لم يقل: وَماذا عَلَيْهِمْ كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.
(١) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب ٥٤. أحمد في مسنده (٢/ ٣١١).
413
ثم رغب في الإيمان والطاعة قائلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ والمثقال مفعال من الثقل كالميزان من الوزن. والذرة النملة الصغيرة. وعن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وانتصاب مِثْقالَ على أنه مفعول ثان أي لا ينقص الناس مثقال ذرة، أو على المصدر أي ظلما قدر مقدارها، وأراد نفي الظلم رأسا إلا أنه أخرج الكلام على أصغر المتعارف. وهذه الآية مما يتمسك به المعتزلة في أنه تعالى غير خالق لأعمال العباد وإلا كان ظلمهم منسوبا إليه، وفي أن العبد يستحق الثواب على طاعته وإلا كان منعه عنه ظلما. وأجيب بأنه إذا كان متصرفا في ملكه كيف شاء فلا يتصور منه ظلم أصلا. وقد يحتج الأصحاب هاهنا على صحة مذهبهم في عدم الإحباط بأن عقاب شرب قطرة من الخمر لو كان مزيلا لطاعات سبعين سنة كان ظلما، وفي عدم وعيد الفساق بأن عقاب شرب جرعة من الخمر لو كان دائما مخلدا لزوم إبطال ثواب إيمان سبعين سنة وهو ظلم. ثم قال: وَإِنْ تَكُ حذفت النون من هذه الكلمة بعد سقوط الواو بالتقاء الساكنين لأجل التخفيف وكثرة الاستعمال. من قرأ حَسَنَةً بالرفع فعلى «كان» التامة، ومن قرأ بالنصب فالتأنيث في ضمير المثقال لكونه مضافا إلى مؤنث. والمراد بالمضاعفة ليس هو المضاعفة بالمدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد المضاعفة بحسب المقدار، كأن يستحق عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين أو ثلاثين. عن ابن مسعود أنه قال:
يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته ومصداق ذلك في كتاب الله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. قال الحسن: الوعد بالمضاعفة أحب عند العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن هذا يكون مقداره معلوما، أما على هذه العبارة فلا يعلم كميته إلّا الله تعالى.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فبطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» «١»
أما قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فإن لَدُنْهُ بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكنا. يقول الرجل: عندي مال وإن كان المال ببلد آخر. ولا يقول: لديّ مال إلّا إذا كان بحضرته. والمعتزلة حملوا
(١) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث ٥٦. أحمد في مسنده (٣/ ١٢٣).
414
المضاعفة على القدر المستحق وهذا الثاني على الفضل التابع للأجر. ويمكن أن يقال:
الأول إشارة إلى السعادات الجسمانية، والثاني إشارة إلى اللذات الروحانية والله أعلم.
التأويل:
جملة الكبائر مندرجة تحت ثلاث: إحداها اتباع الهوى وينشأ منه البدع والضلالات وطلب الشهوات وحظوظ النفس بترك الطاعات، وثانيتها حب الدنيا وينشعب منه القتل والظلم وأكل الحرام، وثالثتها رؤية غير الله وهو الشرك والرياء والنفاق وغيرها.
ثم أخبر أن الذين ليس بالتمني فقال: وَلا تَتَمَنَّوْا فإنه لا يحصل بالتمني ولكن لِلرِّجالِ المجتهدين في الله نَصِيبٌ مما جدّوا في طلبه وَلِلنِّساءِ وهم الذين يطلبون من الله غير الله نَصِيبٌ على قدر همتهم في الطلب وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فيه معنيان:
سلوه من فضله الخاص وهو العلم اللدني وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
، [النساء: ١١٣] أو سلوه منه ولا تسألوه من غيره وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ لكل طالب صادق جعلنا استعدادا في الأزل للوراثة مما ترك والداه وأقرباؤه، طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة. والذين جرى بينكم وبينهم عقد الأخوة في الله فَآتُوهُمْ بالنصح وحسن التربية والتسليك نَصِيبَهُمْ الذي قدّر لهم الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بمصالح دينهن ودنياهن بتفضيل الله وهو استعداد الخلافة والوراثة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي تجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى. فَالصَّالِحاتُ اللاتي يصلحن للكمال قانِتاتٌ مطيعات لله لهن قلوب حافِظاتٌ لواردات الغيب بِما حَفِظَ اللَّهُ عليهن حقائق الغيب وأسراره. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إذا دارت عليهن كؤوس الواردات كما قيل:
فأسكر القوم دور كاس وكان سكري من المدير
فَعِظُوهُنَّ باللسان وخوّفوهن بالهجران ليتأدب السكران وَاضْرِبُوهُنَّ بسوط الانفصال وفراق الإخوان كما كان حال الخضر مع موسى حيث قال: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: ٧٨] هذا قانون أرباب الكمال إذا رأوا من أهل الإرادة أمارات الملال أو عربدة من غلبات الأحوال. وَإِنْ خِفْتُمْ شقاقا بين الشيخ الواصل والمريد المتكامل فَابْعَثُوا متوسطين من المشايخ الكاملين ومن السالكين المعتبرين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً بينهما بما رأيا فيه صلاحهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالإرادة وحسن التربية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الدنيا والعقبى لتتخلقوا بأخلاق الله وتحسنوا إلى الوالدين وغيرهما إِحْساناً بلا شرك ورياء وفخر وخيلاء والله ولي والتوفيق.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٥٧]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
415
القراآت:
تُسَوَّى بإدغام تاء التفعل في السين: أبو جعفر ونافع وابن عامر تُسَوَّى بالإمالة وحذف التاء الأولى: حمزة وعلي وخلف. الباقون تُسَوَّى مبنيا للمفعول من التسوية لمستم من اللمس وكذلك في المائدة: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: لامَسْتُمُ من الملامسة فَتِيلًا انْظُرْ بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون: بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو مُتَشابِهٍ انْظُرُوا [الأنعام: ٩٩] وبِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا [الأعراف: ٤٩] وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ [إبراهيم: ٢٦] وعَذابٍ
416
ارْكُضْ
[ص: ٤١] وأشباه ذلك. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو.
الوقوف:
شَهِيداً ط الْأَرْضُ ط حَدِيثاً هـ تَغْتَسِلُوا ط وَأَيْدِيكُمْ ط غَفُوراً هـ السَّبِيلَ هـ ط بِأَعْدائِكُمْ ط نَصِيراً هـ فِي الدِّينِ ط وَأَقْوَمَ لا لاتصال لكن قَلِيلًا هـ السَّبْتِ ط مَفْعُولًا هـ لِمَنْ يَشاءُ ج عَظِيماً هـ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ط فَتِيلًا هـ الْكَذِبَ ط مُبِيناً هـ ط سَبِيلًا هـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ط نَصِيراً هـ ط لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار نَقِيراً هـ لا للعطف مِنْ فَضْلِهِ ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء عَظِيماً هـ صَدَّ عَنْهُ ط سَعِيراً هـ ناراً ط الْعَذابَ ط حَكِيماً هـ أَبَداً ط مُطَهَّرَةٌ ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود ظَلِيلًا هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] ووعد المطيعين بقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: ٤٠] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم.
روي أن النبي ﷺ قال لابن مسعود: اقرأ القرآن عليّ. قال: فقلت: يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
قال العلماء: إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ قيل: هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذ تقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله، أو يقال: إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهارا لشرف الرسول وتفظيعا لشأن الجحود به، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى لَوْ تُسَوَّى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠] أما قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم
417
الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ولا كفروا به ولا نافقوا، أو للحال والمراد أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام دون أهل الشرك قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣] رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، هناك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. وإما أن يكون كلاما مستأنفا فإن ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه وإن قصدوه أو توهموه؟ ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وقد مر سبب نزوله في البقرة. وفي لفظ الصلاة هاهنا قولان: أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة. وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى. ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين: إحداهما حالة السكر، وذلك أن جمعا من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها. وثانيهما حالة الجنابة، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه. والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين: الأولى حالة السكر أيضا إلّا إذا علموا ما يقولون، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر. أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة، إلّا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر. ويجوز أن يكون إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ صفة لقوله: جُنُباً أي لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل أي جنبا مقيمين. وإنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة. ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضا إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة، اللهم إلّا أن يقال: إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولا. وسكارى جمع سكران. وقوله: وَأَنْتُمْ سُكارى في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله: وَلا جُنُباً والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال: إن السكر هاهنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق، فإن السكر عبارة عن سد الطريق، ومنه سكر السبيل سد
418
طريقه. والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو، فعند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا
ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومتى استعمل مجازا فإنما استعمل مقيدا كقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: ١٩] وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
[الحج: ٢] وأيضا أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مرادا من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال: إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخا، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا: انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلّا أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال: قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ليس قيدا في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف.
روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم، فاغتسل فمات. فسمع النبي ﷺ فقال: قتلوه قتلهم الله.
وقال مالك وداود: يجوز
419
له التيمم بجميع أنواع المرض. وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، فكنى به عن ذلك. وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر. أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان: أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي. وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: ٢٣٧] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. [المجادلة: ٣] عن ابن عباس: إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضا لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر. ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله: أَوْ لامَسْتُمُ والصحيح أنه ينتقض وضوأهما معا لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة. قوله:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدليل قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئا ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملا بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب، «فعيل» بمعنى «فاعل». وقال ثعلب والزجاج: إنه وجه الأرض ترابا كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة: إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي: لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: ٦] ولا يفهم من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن إلّا معنى التبعيض، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] ولأنه ﷺ خصص التراب بهذا المعنى
فقال: «جعلت لي
420
الأرض مسجدا وترابها طهورا» «١».
أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس: اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط، ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين.
عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله ﷺ على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت: فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي. فنام رسول الله ﷺ حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هاهنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أوتوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل «من» التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: ٤٣] لأنهم عرفوا الأمرين جميعا يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها لأن من اشترى شيئا فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول ﷺ لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل: المراد يستبدلون الضلالة- وهو البقاء على اليهودية- بالهدى- وهو الإسلام- بعد وضوح الآيات لهم على صحته. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين، الضلال والإضلال. عن ابن عباس أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٢٢).
421
المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطانهم عن الإسلام. وقيل: المراد عوام اليهود كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم لينصروا اليهودية فكأنهم اشتروا بمالهم الشبهة والضلالة وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ لأنه عالم بكنه ما في صدورهم من الحنق والغيظ، فإذا أطلعكم على أحوالهم فلا تستنصحوهم في أموركم واحذروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا متوليا لأمور العبد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فثقوا بولايته ونصرته دونهم. وكرر «كفى» ليكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة، وزيدت الباء في الفاعل إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره فكان الباء للسببية. وقال ابن السراج: التقدير كفى اكتفاؤك بالله. وقيل:
فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة.
وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا إما بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة نَصِيراً كقوله: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الأنبياء: ٧٧] وإما كلام مستأنف على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم «آدم طوالا» مكان «أسمر ربعة» وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير «عن» للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: ٤١] نظرا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة.
وقيل: كانوا يدخلون على النبي ﷺ فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.
ومن جملة جهالاتهم أنه ﷺ كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرا إظهارا للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي ﷺ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروها كان مدحا وتوقيرا ونصحا. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأن من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابا يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاما ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون غَيْرَ مُسْمَعٍ
422
مفعول اسْمَعْ لا حالا من ضميره أي اسمع كلاما غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له ﷺ راعِنا وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطبا في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ مفعول لأجله، أو مصدر لمحذوف، أو ل يَقُولُونَ لأنه في معنى اللي أيضا وعينه «واو» بدليل لويت فقلبت وأدغمت. والمعنى: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعِنا موضع انْظُرْنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ موضع لا سمعت مكروها، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعنا على عادة المستهزئين، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعنا في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبيا لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعنا في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا بدل قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات واسْمَعْ دون أن يقال معه غَيْرَ مُسْمَعٍ وَانْظُرْنا مكان راعِنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أعدل لا أشد من قولهم: «رمح قويم» أي مستقيم وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي بسببه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلّا قليلا منهم آمنوا لأن «فعيلا» قد يراد به الجمع كقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] أو أراد بالقلة العدم.
ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية.
والطمس المحو. يقال: طريق طامس ومطموس، ومفازة طامسة الأعلام، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان: إحداهما عقيب الأخرى الطمس، ثم نكس الوجه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: ١٠] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول
423
الثاني فعن الحسن: نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد: نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل: الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل: فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله ﷺ قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضا إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل: هو منتظر ولهذا قيل: وُجُوهاً منكرة دون «وجوهكم» ليشمل وجوها غير المخاطبين من أبناء جنسهم، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل: إنّ قوله: آمِنُوا تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة. فالتقدير: آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك البتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق.
ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الآية.
وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى
424
معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله. واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن ما دون الشرك يشمله. والمعتزلة خصصوا الثاني بمن تاب كما أن الأول مخصص بالإجماع بمن لم يتب. قالوا: ونظيره قولك: «إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء». المعنى لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. والمشيئة تكون قصدا في الفعلين: المنفي والمثبت جميعا، لأنه إن شاء لم يتب المشرك فلا يترتب عليه الغفران، وإن شاء تاب صاحب الكبيرة فيستوجب الغفران. وروى الواحدي في البسيط بإسناده عن ابن عمر قال: كنا على عهد رسول الله ﷺ إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس بمحضر عمر: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. وعن ابن عباس: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك. ثم إنهم ما وفوا بذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي ﷺ ندمهم، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلّا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: ٦٨] فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: ٧٠] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٢] فدخلوا عند ذلك في الإسلام. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى اختلق وافتعل إِثْماً عَظِيماً لأنه ادعى ما لا يصح كونه.
عن ابن عباس في رواية الكلبي أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟
فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلّا كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] فنزل فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما
أخبر عنه رسول الله ﷺ بقوله: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض»
وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقا لقوله: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ «فعيل» بمعنى «مفعول». ابن السكيت: هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أي يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي ﷺ من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال: انْظُرْ كَيْفَ
425
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ
أي بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم.
قال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة:
إنكم أهل كتاب ومحمد ﷺ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ﷺ ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد ﷺ الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني كعبا وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده.
وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي:
الجبت في الآية هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلا وأفضل حالا من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ للنبي أو لكل طالب يفرض: ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و «أم»
426
قيل: إنها متصلة وقد سبقها استفهام في المعنى كأنه لما حكى قولهم للمشركين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين قال: أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنهم لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل؟ وقيل: الميم زائدة والتقدير ألهم نصيب؟ والأصح أنها منقطعة كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل ألهم نصيب من الملك؟ ومعنى الآية أنهم كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم. وقيل: كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ويخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودينهم فكذبهم الله. وقيل: المراد بالملك التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والإثبات؟ وقال أبوبكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة كما تكون أحوال الملوك، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت الآية فيهم. وعلى هذا فإنما يتوجه الإنكار على أنهم لا يؤتون أحدا مما يملكون شيئا. وعلى الأقوال المتقدمة يتوجه الإنكار على أن لهم نصيبا من الملك فكأنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم فإن البخل والملك لا يجتمعان كما قيل: بالبر يستعبد الحر والإنسان عبد الإحسان. والبخيل تنفر الطباع عن الانقياد له فلا يتيسر له أسباب المملكة، وإن اجتمعت بالندرة فسوف تضمحل. وإنما لم يعمل «إذن» لدخول الفاء عليه. وذلك أن ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط العاطف بعض الكلام ببعض فينخرم تصدره فكأنه معتمد فترجح إلغاؤه وارتفاع الفعل بعده. وجاء في قراءة ابن مسعود فإذن لا يؤتوا بالأعمال وليس بقوي. والنقير نقرة في ظهر النواة «فعيل» بمعنى «مفعول» ومنها «نبتت النخلة» وهو مثل في القلة كالفتيل. فإن قيل: كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيرا وكثيرا ما يشاهد منهم بذل الأموال؟ قلنا: المدعى عدم إيتاء النقير على تقدير حصول الملك ويراد به الملك الظاهر كما لملوك الدنيا، أو الباطن كما للعلماء الربانيين، أو كلاهما كما للأنبياء. وحصول شيء من هذه الأقسام لهم ممنوع لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولئن فرض حصول شيء منها فما يدريك لعل الشح يغلب عليهم حتى لا يشاهد منهم بذل نقير كما أخبر عنه علام الغيوب. وأما على تفسير الأصم فلعل المراد لأنهم لا يبذلون شيئا نسبته إلى ما يملكونه كنسبة النقير إلى النواة، أو أنهم لا يطيبون بذلك نفسا لغلبة الشح عليهم والله تعالى أعلم بمراده. هذا بيان بخلهم، أما بيان حسدهم فذلك قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ وهي منقطعة والتقدير: بل أيحسدون الناس يعني النبي والمؤمنين. فإن كان اللام للعهد فظاهر وإن كان للجنس فلأنهم هم الناس والباقون هم النسناس. ومعنى الهمزة إنكار الحسد واستقباحه.
427
والمراد بالفضل ما آتاهم الله من أشرف المناصب وهو النبوة والخاتمية وما كان ينضم إليها كل يوم من النصرة والعزة والاستيلاء والاستعلاء، والفاضل محسود بكل أوان، والحاسد مذموم بكل لسان. ثم نبّه على ما يزيل التعجب من شأن محمد ﷺ فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد الْكِتابَ الذي هو بيان الشرائع وَالْحِكْمَةَ التي هي الوقوف على الأسرار والحقائق والعمل بما يتضمن صلاح الدارين وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً عن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان، فليس ببدع أن يؤتى إنسان ما أوتي أسلافه. وقيل: من جملة حسدهم أنهم استكثروا نساء النبي ﷺ فقيل لهم:
كيف استكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟
فَمِنْهُمْ أي من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله ﷺ ومنهم من أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي ﷺ وتسليته وَكَفى بِجَهَنَّمَ لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً.
ثم أكد وعيد الكفار بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها، أو ينكروها مع العلم بها عنادا وحسدا وبغيا ولددا. وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله، وأبدلت الشيء غيرته، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله: غَيْرَها ولقائل أن يقول: المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب عن السؤال أن المعذب هو الإنسان، والجلد ليس حزءا من ماهيته
428
وإنما هو سبب لوصول العذاب إليه. أو يقال: المراد الدوام وعدم الانقطاع، ولا نضج ولا احتراق أي كلما ظنوا أنهم احترقوا وأشرفوا على الهلاك أعطيناهم قوة جديدة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. وقال السدي: يخرج من لحم الكافر جلد آخر وفي هذا التأويل بعد لأن لحمه متناه فعند نفاده لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد فيعود أول السؤال.
وقيل: المراد بالجلود السرابيل سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يفعل إلّا الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال الواحدي:
الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم: «ليل أليل». قيل: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضا المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفنا فاسدا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل، والمراد بالظل الظليل ما كان فينانا، أي منبسطا لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجساجا لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء: المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوبا عندهم صار موعودا لهم.
التأويل:
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة، كما أن السكران ممنوع من الصلاة.
فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة وَلا جُنُباً بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور، ومن الثانية حالة العبور
«كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل» «١»
فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحب الدنيا أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى
(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٣. الترمذي في كتاب الزهد باب ٢٥. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤، ٤١).
429
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ في قضاء شهوة من الشهوات أَوْ لامَسْتُمُ عجوز الدنيا في تحصيل لذة من اللذات فَلَمْ تَجِدُوا ماءً التوبة والاستغفار فَتَيَمَّمُوا فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يؤولونها على حسب إرادتهم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما في القرآن بالمقال وَعَصَيْنا بالفعال وينكرون على أرباب المقامات والأحوال ويقولون اسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا يخاطبونهم بكلام ذي وجهين لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً في أهل الدين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ظاهرا ولم يؤتوا علم باطن الكتاب آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على الأولياء من علم باطن القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من العلم الظاهر لأن أهل العلم اللدني يصدقون أهل العلم الظاهر، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء لأنه لا يناسب عقولهم مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوه القلوب بالعمى والصمم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرين إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانوا ناظرين في الميثاق إلى يومها أَوْ نَلْعَنَهُمْ نمسخ صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية كما مسخنا أصحاب السبت بالصورة، ومسخ المعنى أصعب من مسخ الصورة لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ للشرك ثلاث مراتب وكذا للمغفرة. فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام من عبدة الكواكب والأصنام فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية. وشرك خفي بالأوصاف للخواص وهو شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية، فلا يغفر إلّا بالوحدانية وهو إفراد الواحد للواحد. وشرك أخفى للأخص وهو رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بتسليم نفوسهم إلى أرباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديما، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما أمر الله به ورسوله. ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ يعني أهل الخلة والمحبة الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ العلم الظاهر والعلم الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً هو معرفة الله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ لأن من
430
العلماء مقبلين ومنهم مدبرين وَكَفى بِجَهَنَّمَ نفسهم الحاسدة سَعِيراً تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نار الحسد والغضب والكبر والعجب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها. ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى البتة ما دامت النفس على صفة الأمرية، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التعلقات وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ أي نجذبهم بجذبات العناية إلى جَنَّاتٍ من الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من تجلي صفات الجمال والجلال مُطَهَّرَةٌ من لوث الوهم والخيال وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلّا ظله.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٧٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
431
القراآت:
أَنِ اقْتُلُوا بكسر النون لالتقاء الساكنين: أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب. الباقون: بالضم نقلا لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها أَوِ اخْرُجُوا بكسر الواو للساكنين: عاصم وسهل وحمزة. الباقون: بالضم. إلا قليلا بالنصب: ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلّا فعلا أو أبوا إلّا قليلا. الباقون: بالرفع على البدل وهو أكثر.
الوقوف:
إِلى أَهْلِها لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. بِالْعَدْلِ ط يَعِظُكُمْ بِهِ ط بَصِيراً هـ مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط تَأْوِيلًا هـ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ج بَعِيداً هـ صُدُوداً هـ ج للآية مع فاء التعقيب يَحْلِفُونَ قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون. وَتَوْفِيقاً هـ بَلِيغاً هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط رَحِيماً هـ تَسْلِيماً هـ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ط تَثْبِيتاً هـ لا عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده من تتمة جواب «لو». مُسْتَقِيماً هـ وَالصَّالِحِينَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. رَفِيقاً هـ مِنَ اللَّهِ ط عَلِيماً هـ.
التفسير:
لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف. وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات. وأيضا قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة، فلما دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله ﷺ المفتاح فقيل له: إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى فقال: لو علمت أنه رسول الله ﷺ لم أمنعه. فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله ﷺ البيت وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة، فأراد النبي ﷺ أن يدفعه إلى العباس ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيبا فأنزل الله هذه الآية. فأمر رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان: يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال: لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان: أشهد
432
أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وأسلم. فجاء جبريل عليه السلام وقال: ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال: خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلّا ظالم. ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم.
ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات. فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه. قال ابن مسعود: الأمانة في الكل لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلّا بحقها وهذا باب واسع. فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب، وكذا القول في سائر الأعضاء. ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية، في التبعات الدائمة. وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: ٧٢] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: ٨]
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له»
والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع. ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وفي قوله:
وَإِذا حَكَمْتُمْ تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء. وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة: الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله. ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعا وخلافا، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده، ويعرف لسان العرب لغة وإعرابا خصوصا وعموما إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها. وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين
433
من بعده، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له.
عن النبي ﷺ قال: «يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط»
وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة، فيجمعون ويلقون في النار». إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ المخصوص بالمدح محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير: نعم الذي أو نعم شيئا يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي.
ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة. وقالت الأشاعرة: الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير: هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة: الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس العطف للمغايرة الكلية، ولكن الكتاب يدل على أمر الله، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلى الإجماع بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصوما لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون، أو على ما
روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله ﷺ في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية.
أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني.
أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام
434
المعصوم والاستفادة منه، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطا، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة. فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معا وهو باطل. وأيضا الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد، ولفظ أولي الأمر جمع. وأيضا إنه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وعلى هذا ينبغي أن يقال: فردوه إلى الإمام. وأما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوب طاعتهم، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب. وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسما منفصلا كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول. أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلا فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة. وأيضا قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع. وأيضا طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق. وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء. فالم