تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية إلا ﴿ قل للذين آمنوا يغفروا ﴾ الآية هي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي تفرد بتمام العز والكبرياء ﴿ الرحمان ﴾ الذي أحكم رحمته بالبيان العام للسعداء والأشقياء ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بملابسة طاعته الأولياء.
ﰡ
وتقدم الكلام على قوله تعالى :﴿ حم ﴾ ثم إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه بقوله تعالى :﴿ تنزيل الكتاب ﴾.
﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي : الجامع لكل خير لم يكن بد من حذف مضاف تقديره، تنزيل حم تنزيل الكتاب. وقوله تعالى :﴿ من الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل الكتاب مبتدأ والظرف خبراً ﴿ العزيز ﴾ في ملكه ﴿ الحكيم ﴾ في صنعه.
ولما كانت الحواميم كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس لبيان القرآن حذف ما ذكر في البقرة من قوله تعالى ﴿ خلق ﴾ ليكون ما هنا أشمل فقال تعالى :﴿ إن في السماوات ﴾ أي : ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة، وما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب ﴿ والأرض ﴾ كذلك وبما حوت من المعادن والمعاش ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار ؛ فإن من المعلوم أنه لا بد لكل ذلك من صانع متصف بذلك، وقال تعالى ﴿ للمؤمنين ﴾ لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر ؛لأن ربهم يهديهم بإيمانهم، فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة وأدلة الإلهية فيهما واضحة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى النظر في آيات الآفاق أتبعها آيات الأنفس بقوله تعالى :
﴿ وفي خلقكم ﴾ أي : خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنساناً المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار ﴿ وما ﴾ أي : وخلق ما ﴿ يبث ﴾ أي : ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية على سبيل التجدد والاستمرار ﴿ من دابة ﴾ مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزيئات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والطبائع والمنافع وغير ذلك ﴿ آيات ﴾ دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته.
وقرأ حمزة والكسائي آيات بكسر التاء حملاً على اسم إن، والباقون بالرفع حملاً على محل إن واسمها، ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف قال تعالى ﴿ لقوم ﴾ أي : فيهم أهلية القيام بما يحاولونه ﴿ يوقنون ﴾ أي : يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان فلا يخالجهم شك في وحدانيته.
﴿ واختلاف الليل والنهار ﴾ بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره ﴿ وما أنزل الله ﴾ أي : الذي تمت عظمته فنفذت كلمته ﴿ من السماء من رزق ﴾ أي : مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق ﴿ فأحيا به ﴾ أي : بسببه ﴿ الأرض ﴾ أي : الصالحة للحياة، ولذلك قال تعالى ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها وتهشيم ما كان فيها من النبات ﴿ وتصريف ﴾ أي : تحويل ﴿ الرياح ﴾ باختلاف جهاتها وأحوالها.
وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع. وقوله تعالى ﴿ آيات ﴾ فيه القراءتان المتقدمتان، أما الرفع فظاهر وأما الكسر ففيه وجهان ؛ أحدهما : أنها معطوفة على اسم إن والخبر قوله ﴿ وفي خلقكم ﴾ كأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، والثاني : أن تكون كررت تأكيداً لآيات الأولى ويكون ﴿ في خلقكم ﴾ معطوفاً على ﴿ في السماوات ﴾ كرر معه حرف الجر توكيداً، ونظيره أن تقول : إن في بيتك زيداً وفي السوق زيداً فزيداً الثاني تأكيد للأول كأنك قلت : إن زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين ألبتة.
ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها ﴿ لقوم يعقلون ﴾ الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفاً فقال : إن المنصفين إذا نظروا في السماوات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم.
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيراً إلى علو رتبتها بأداة البعد :﴿ تلك ﴾ أي : الآيات المذكورة ﴿ آيات الله ﴾ أي : حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته ﴿ نتلوها ﴾ أي : نقصها ﴿ عليك ﴾ سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة ﴿ بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب ﴿ فبأي حديث ﴾ أي : خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى ﴿ بعد الله ﴾ أي : حديث الملك الأعظم وهو القرآن ﴿ وآياته ﴾ أي : حججه ﴿ يؤمنون ﴾ أي : كفار مكة أي : لا يؤمنون، وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب، رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ﴿ نتلوها عليك بالحق ﴾، والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى ﴿ وفي خلقكم ﴾ وهو أقوى تبكيتاً.
ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون ؟ أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال تعالى :﴿ ويل لكل أفاك ﴾ أي : مبالغ في صرف الحق عن وجهه ﴿ أثيم ﴾ أي : مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون : يعني النضر بن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة.
وفسر هذا بقوله تعالى :﴿ يسمع آيات الله ﴾ أي : دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها ﴿ تتلى عليه ﴾ بجميع ما فيها، وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿ ثم يصر ﴾ أي : يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه ﴿ مستكبراً ﴾ أي : طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له ﴿ كأن ﴾ أي : كأنه ﴿ لم يسمعها ﴾ أي : حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء ﴿ فبشره ﴾ أي : على هذا الفعل الخبيث ﴿ بعذاب أليم ﴾ أي : مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص ﴿ أليم ﴾ بالرفع والباقون بالجر.
﴿ وإذا علم ﴾ أي : بلغه
﴿ من آياتنا ﴾ أي : القرآن
﴿ شيئاً ﴾ وعلم أنه من آياتنا
﴿ اتخذها هزواً ﴾ أي : مهزواً بها.
تنبيه : في الضمير المؤنث وجهان ؛ أحدهما : أنه عائد على
﴿ آياتنا ﴾ يعني القرآن، والثاني : أنه يعود على
﴿ شيئاً ﴾ وإن كان مذكراً ؛ لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقة | الله والقائم المهدي يكفيها |
لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها : عنبة، والمعنى : اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال :
﴿ اتخذها ﴾ للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد. وقوله تعالى
﴿ أولئك لهم عذاب مهين ﴾ أي : ذو إهانة إشارة إلى معنى
﴿ كل أفاك أثيم ﴾ ( الشعراء : ٢٢٢ ) ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفرد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى
﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( الروم : ٣٢ ).
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال :
﴿ من ورائهم ﴾ أي : أمامهم ؛ لأنهم في الدنيا
﴿ جهنم ﴾ قال الزمخشري : والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال :
أليس ورائي إن تراخت منيتي | أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر |
ومنه قوله تعالى
﴿ من ورائهم ﴾ أي : من قدامهم ا. ه ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى :
﴿ ولا يغني ﴾ أي : ولا يدفع
﴿ عنهم ما كسبوا ﴾ من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد
﴿ شيئاً ﴾ من الإغناء. وقوله تعالى :
﴿ ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ﴾ أي : من الأوثان عطف على
﴿ ما كسبوا ﴾ و
﴿ ما ﴾ فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي : لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه
﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ أي : لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل : قال تعالى في الأول
﴿ مهين ﴾ وفي الثاني
﴿ عظيم ﴾ فما الفرق بينهما ؟ أجيب : بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر.
وقوله تعالى :﴿ هذا هدى ﴾ إشارة إلى القرآن، يدل عليه قوله تعالى ﴿ والذين كفروا بآيات ربهم ﴾ هي القرآن أي : هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي : كامل في الرجولية وأيما رجل ﴿ لهم عذاب ﴾ كائن ﴿ من رجز ﴾ أي : شديد العذاب ﴿ أليم ﴾ أي : بليغ الإيلام.
ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم :﴿ الله ﴾ أي : الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ الذي سخر ﴾ أي : وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه ﴿ لكم البحر ﴾ أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة ﴿ لتجري الفلك ﴾ أي : السفن ﴿ فيه بأمره ﴾ أي : بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته ؛ لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء ؛ أحدها : الرياح التي توافق المراد، وثانيها : خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك، وثالثها : خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ﴿ ولتبتغوا ﴾ أي : تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك ﴿ من فضله ﴾ لم يصنع شيئاً منه سواه ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ نعمه على ذلك.
﴿ وسخر لكم ما في السماوات ﴾ من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه ﴿ وما في الأرض ﴾ من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره، ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه. وقوله تعالى ﴿ جميعاً ﴾ توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل : حال من ﴿ ما في السماوات وما في الأرض ﴾ وقوله تعالى ﴿ منه ﴾ حال أي : سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك، قال ابن عباس : كل ذلك رحمة منه، وقال الزجاج : كل ذلك تفضل منه وإحسان، وقال بعض العارفين : سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا ﴿ لقوم ﴾ أي : ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم ﴿ يتفكرون ﴾ فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : يا أفضل الخلق ﴿ للذين آمنوا ﴾ ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى ﴿ يغفروا ﴾ أي : يستروا ستراً بالغاً ﴿ للذين لا يرجون أيام الله ﴾ أي : مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال، فقال ابن عباس :«نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها : المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك ؟ قال غلام عمر : قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله عنه، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ».
وقال مقاتل : إن رجلاً من بني غفار شتم عمر بمكة فهم عمر أن يبطش به، فنزلت بالغفر والتجاوز، وروى ميمون بن مهران :«أن فنحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ﴾ ( البقرة : ٢٤٥ ) قال : احتاج رب محمد، فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرده ».
وقال القرطبي والسدي :«نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ». ثم نسختها آية القتال، قال الرازي : وإنما قالوا بالنسخ ؛ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا، فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخاً، والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، وقال ابن عباس : لا يرجون أيام الله أي : ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية. وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى ﴿ وذكّرهم بأيام الله ﴾ ( إبراهيم : ٥ ) وقوله تعالى ﴿ ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون ﴾ علة للأمر، والقوم : هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أو لكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية أي : ليجزي الله سبحانه وتعالى.
ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لا بد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحاً للجزاء :﴿ من عمل صالحاً ﴾ قل أو جل ﴿ فلنفسه ﴾ أي : خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة، وهو مَثَل ضربه الله تعالى للذين يغفرون ﴿ ومن أساء ﴾ كذلك ﴿ فعليها ﴾ خاصة إساءته كذلك، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين، وذلك في غاية الظهور ؛ لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولاسيما إذا كان حكيماً، وإن كانت نقائص النفوس غطت على كثير من العقول ذلك ﴿ ثم ﴾ أي : بعد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ ﴿ إلى ربكم ﴾ أي : الملك المالك لكم لا إلى غيره ﴿ ترجعون ﴾ أي : تصيرون فيجازي المصلح والمسيء.
﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ بني إسرائيل الكتاب ﴾ أي : الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم عليهم السلام ﴿ والحكم ﴾ أي : العلم والعمل الثابتين ثبات الأحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل وللعمل من الإتقان بالعلم ﴿ والنبوة ﴾ التي تدرك بها الخيرات العظيمة التي لا يمكن إبلاغ الخلق إليها بلوغ اكتساب منهم فأكثرنا فيهم من الأنبياء عليهم السلام.
﴿ ورزقناهم ﴾ بما لنا من العظمة لإقامة أبدانهم ﴿ من الطيبات ﴾ أي : الحلالات من المن والسلوى وغيرهما ﴿ وفضلناهم ﴾ أي : بما لنا من العزة ﴿ على العالمين ﴾ قال أكثر المفسرين : عالمي زمانهم، وقال ابن عباس : لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم، أي : لما آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء مما لم يفعله بغيرهم ممن سبق وكل ذلك فضيلة ظاهرة.
﴿ وآتيناهم ﴾ مع ذلك ﴿ بينات من الأمر ﴾ أي : الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى ﴿ فما اختلفوا ﴾ أي : أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم ﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم ﴾ أي : الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق ﴿ بغياً ﴾ أي : للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس ﴿ بينهم ﴾ أي : واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم، وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكداً لأجل إنكارهم ﴿ إن ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ يقضي بينهم ﴾ أي : بإحصاء الأعمال والجزاء عليها ﴿ يوم القيامة ﴾ أي : الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك ﴿ فيما كانوا ﴾ أي : لما هو لهم كالجبلة ﴿ فيه يختلفون ﴾ بغاية الجهد، والمعنى : أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم.
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق، فقال تعالى :﴿ ثم ﴾ أي : بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم ﴿ جعلناك ﴾ أي : بما لنا من العزة والقدرة ﴿ على شريعة ﴾ أي : طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة ﴿ من الأمر ﴾ أي : أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح ﴿ فاتّبعها ﴾ أي : اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج ﴿ ولا تتّبع أهواء ﴾ أي : آراء ﴿ الذين لا يعلمون ﴾ أي : لا علم لهم أو لهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، قال الكلبي :«إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة : ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية ».
ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله تعالى مؤكداً :﴿ إنهم ﴾ وأكد النفي فقال عز من قائل ﴿ لن يغنوا عنك ﴾ أي : لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ ﴿ من الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ شيئاً ﴾ أي : من إغناء أي : إن اتبعتهم، كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم ﴿ وإن الظالمين ﴾ أي : العريقين في هذا الوصف وهم الكفرة، وكان الأصل : وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم ﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم ﴿ والله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ وليّ المتقين ﴾ أي : الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى، والمعنى : إن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا، وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم.
﴿ هذا ﴾ أي : الوحي المنزل وهو القرآن ﴿ بصائر ﴾ أي : معالم ﴿ للناس ﴾ أي : في الحدود والأحكام فيبصروا بها ما ينفعهم وما يضرهم ﴿ وهدى ﴾ أي : قائد إلى كل خير مانع من كل زيغ ﴿ ورحمة ﴾ أي : كرامة وفوز ونعمة ﴿ لقوم يوقنون ﴾ أي : ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له.
وقوله تعالى :﴿ أم حسب ﴾ منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها أو بالهمزة وحدها ومعنى الهمزة فيها : إنكار الحسبان ﴿ الذين اجترحوا ﴾ أي : اكتسبوا، ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي : كاسبهم وقال تعالى ﴿ ويعلم ما جرحتم بالنهار ﴾ ( الأنعام : ٦٠ )
﴿ السيئات ﴾ أي : الكفر والمعاصي ﴿ أن نجعلهم ﴾ أي : بما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة ﴿ كالذين آمنوا وعملوا ﴾ تصديقاً لإقرارهم ﴿ الصالحات ﴾ أي : بأن نتركهم بغير حساب للفصل بين المحسن والمسيء.
ولما كانت المماثلة مجملة بينها استئنافاً بقوله تعالى :﴿ سواء ﴾ أي : مستو استواء عظيماً ﴿ محياهم ومماتهم ﴾ أي : حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما كالذين آمنوا، ويكون المفعول الثاني للجعل كالذين آمنوا أي : أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك، وقرأه الباقون بالرفع على أنه خبر ومحياهم ومماتهم مبتدأ ومعطوف والجملة بدل من الكاف والضميران للكفار، والمعنى : أحسبوا أن نجعلهم في الآخرة في خير كالمؤمنين أي : في رغد من العيش مساوٍ لعيشهم في الدنيا حيث قالوا للمؤمنين : لئن بعثنا لنعطى من الخير مثل ما تعطون، قال تعالى على وفق إنكاره بالهمزة ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ أي : ليس الأمر كذلك، فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم في الدنيا والمؤمنون في الآخرة في الثواب بأعمالهم الصالحات في الدنيا من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك، وما مصدرية أي : بئس حكماً حكمهم هذا.
ولما بين تعالى أن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة ذلك فقال تعالى :﴿ وخلق الله ﴾ أي : الذي له جميع أوصاف الكمال ﴿ السماوات والأرض ﴾ وقوله تعالى ﴿ بالحق ﴾ متعلق بخلق. وقوله تعالى ﴿ ولتجزى ﴾ أي : بأيسر أمر ﴿ كل نفس ﴾ أي : منكم ومن غيركم معطوف على بالحق في المعنى ؛ لأن كلاً منهما سبب فعطف العلة على مثلها أو أنه معطوف على معلل محذوف والتقدير : خلق هذا العالم إظهاراً للعدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت بين الدرجات والدركات من المحقين والمبطلين ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كسبت ﴾ من خير أو شر ﴿ وهم ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ لا يظلمون ﴾ أي : لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه هذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل، ولو وجد منه سبحانه وتعالى غير ذلك لم يكن ظلماً منه ؛ لأنه المالك المطلق والملك الأعظم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم في نفس الأمر، فهذا الخطاب إنما هو على ما يتعارفونه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر.
ثم عاد سبحانه وتعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طرائقهم فقال :
﴿ أفرأيت ﴾ أي : أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس
﴿ من اتخذ ﴾ أي : بغاية جهده
﴿ إلهه هواه ﴾ أي : ما يهواه من حجر بعد حجر يراه أحسن، روي عن أبي رجاء العطاردي وهو ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة قال : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. قال الأصفهاني : سئل ابن المقفع عن الهوى فقال : هوان سرقت نونه فنظمه من قال :
نون الهوان من الهوى مسروقة | فأسير كل هوى أسير هوان |
وقال آخر أيضاً :إن الهوى لهو الهوان بعينه | فإذا هويت فقد لقيت هوانا |
﴿ وأضله الله ﴾ أي : بما له من الإحاطة
﴿ على علم ﴾ منه تعالى أي : عالماً بأنه من أهل الضلالة قبل خلقه
﴿ وختم ﴾ زيادة على الإضلال الخاص
﴿ على سمعه ﴾ فلا فهم له في الآيات المسموعة
﴿ وقلبه ﴾ أي : فهو لا يعي ما في حقه وعيه.
﴿ وجعل على بصره غشاوة ﴾ أي : ظلمة فلا يبصر الهوى. ويقدر هنا المفعول الثاني لرأيت أي : أيهتدي، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الغين وسكون الشين، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعد الشين وإذا صار بهذه المثابة
﴿ فمن يهديه ﴾ وأشار تعالى إلى قدرته عليه بقوله سبحانه وتعالى
﴿ من بعد الله ﴾ أي : إن أراد الله إضلاله الذي له الإحاطة بكل شيء أي : لا يهتدي
﴿ أفلا تذكّرون ﴾ أي : ألم يكن لكم نوع تذكر فتتعظوا وفيه إدغام إحدى التاءين في الذال.
﴿ وقالوا ﴾ أي : في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه تعالى قادر على كل شيء ﴿ ما هي ﴾ أي : الحياة ﴿ إلا حياتنا ﴾ أي : أيها الناس ﴿ الدنيا ﴾ أي : هذه التي نحن فيها ﴿ نموت ونحيا ﴾، فإن قيل : الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا : نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة ؟ أجيب : من وجوه أولها : أن المراد بقولهم نموت أي : حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقولهم ونحيا ما حصل بعد ذلك في الدنيا، ثانيها : نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا، ثالثها : قال الزجاج : الواو للاجتماع والمعنى : يموت بعض ويحيا بعض، رابعها : قال الرازي : إنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال ﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ ثم قال بعده ﴿ نموت ونحيا ﴾ يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا، ومنها ما لا يطرأ عليه الموت بعد ذلك وهو في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وقال البيضاوي : يحتمل أنهم أرادوا به التناسخ أي : وهو أن روح الشخص إذا خرجت تنتقل إلى شخص آخر فيحيا بعد أن لم يكن، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأصنام ﴿ وما يهلكنا ﴾ أي : بعد الحياة ﴿ إلا الدهر ﴾ أي : مر الزمان الطويل بغلبته علينا وطول العمر واختلاف الليل والنهار، من دهره إذا غلبه ﴿ وما ﴾ أي : قالوه والحال أنه ما ﴿ لهم بذلك ﴾ أي : المقول البعيد من الصواب، وهو أنه لا حياة بعد هذه وأن الإهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه وأغرق في النفي فقال تعالى ﴿ من علم ﴾ أي : كثير ولا قليل ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هم إلا يظنون ﴾ أي : بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى، هذا ظنهم الفاسد.
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما ». وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يسب أحدكم الدهر فإن الدهر هو الله تعالى ولا يقولن للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم ». ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبُّه عند النوازل ؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان يرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سبه.
﴿ وإذا تتلى ﴾ أي : تتابع بالقراءة من أي تال كان ﴿ عليهم آياتنا ﴾ أي : على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها ﴿ بينات ﴾ أي : في غاية المكنة في الدلالة على البعث فلا عذر لهم في ردها ﴿ ما كان ﴾ أي : بوجه من وجوه الكون ﴿ حجتهم ﴾ أي : قولهم الذي ساقوه مساق الحجة ﴿ إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا ﴾ أي : أحياء ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في أنا نبعث فهو لا يستحق أن يسمى شبهة فسمي حجة بزعمهم أو لأن من كانت حجته هذه فليست له ألبتة حجة كقوله :
تحية بينهم ضرب وجيع ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى :﴿ قل الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ يحييكم ﴾ أي : حين كنتم نطفاً ﴿ ثم يميتكم ﴾ أي : بأن يخرج أرواحكم من أجسادكم فتكونون كما كنتم قبل الإحياء كما تشاهدون ﴿ ثم يجمعكم ﴾ أي : بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد منتهين ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ أي : القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك بوجه من الوجوه ﴿ فيه ﴾ بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ أي : وهم القائلون ما ذكر ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : لا يتجدد لهم علم لما لهم من النفوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل، فهم واقفون مع المحسوسات لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور.
وقوله تعالى :﴿ ولله ﴾ أي : الملك الأعظم وحده ﴿ ملك السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ والأرض ﴾ أي : التي ابتدأكم منها تعميم للقدرة بعد تخصيصها ﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ أي : توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمام أمره الناهض بأعباء ما يريد، ثم كرر للتأكيد والتهويل قوله تعالى ﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم تقوم يخسرون هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعالى للتعميم والتعليق بالوصف ﴿ يخسر المبطلون ﴾ أي : الداخلون في الباطل الغريقون في الاتّصاف به الذين كانوا لا يرضون بقضائي.
تنبيه : الحياة والعقل والصحة كأنها رأس مال والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجري مَجرى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلا الحرمان والخذلان ودخول النار، وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
﴿ وترى ﴾ أي : في ذلك اليوم ﴿ كل أمة ﴾ أي : أهل دين ﴿ جاثية ﴾ أي : مجتمعة لا يخالطها غيرها، وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها تؤمر به جلسة المخاصم بين يدي الحاكم تنتظر القضاء الحاتم والأمر الجازم اللازم لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم ﴿ كل أمة ﴾ من الجاثين ﴿ تدعى إلى كتابها ﴾ أي : الذي أنزل عليها وتعبدها الله تعالى به والذي نسخته الحفظة عليهم السلام من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خالفه هلك، ويقال لهم حالة الدعاء ﴿ اليوم تجزون ﴾ أي : على وفق الحكمة بأيسر أمر ﴿ ما ﴾ أي : عين الذي ﴿ كنتم ﴾ بما هو لكم كالجبلات ﴿ تعملون ﴾ أي : مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر، فإن قيل : الجثو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة ؟ أجيب : بأن الجاثي الآمن يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
﴿ هذا كتابنا ﴾ أي : الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام ﴿ ينطق ﴾ أي : يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق ﴿ عليكم بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم وذلك بأن يقول : من عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع فينطبق ذلك على ما عملتموه سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان، وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق وكانوا كأنهم يقولون : ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان ؟ قال تعالى مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك ﴿ إنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة المغنية عن الكتابة ﴿ كنا ﴾ على الدوام ﴿ نستنسخ ما كنتم ﴾ طبعاً لكم وخلقاً ﴿ تعملون ﴾ قولاً وفعلاً ونية أي : نأمر الملائكة عليهم السلام بكتبها وإثباتها عليكم، وقيل : نستنسخ أي : نأخذ نسخه وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله تعالى منه ما كان له من ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، والاستنساخ من اللوح المحفوظ، تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ من كتاب كتاب، وقال الضحاك : نستنسخ أي : نثبت، وقال السدي : نكتب، وقال الحسن : نحفظ.
ثم بين تعالى أحوال المطيعين بقوله تعالى :﴿ فأما الذين آمنوا ﴾ أي : من الأمم الجاثية ﴿ وعملوا ﴾ أي : تصديقاً لدعواهم الإيمان ﴿ الصالحات ﴾ أي : الطاعات فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه ﴿ فيدخلهم ﴾ أي : في ذلك اليوم ﴿ ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم بالتوفيق بالإيمان ﴿ في رحمته ﴾ التي من جملتها الجنة والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو الغاية القصوى، وتقول لهم الملائكة تشريفاً : سلام أيها المؤمنون. ودل على عظمة الرحمة بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الإحسان العالي المنزلة ﴿ هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ الفوز المبين ﴾ أي : الظاهر الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره ؛ لأنّه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا فإنها مع كونها كانت فوزاً كانت خفية جداً على غير الموقنين.
ثم بين تعالى أحوال الفريق الآخر بقوله تعالى :﴿ وأما الذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما أمر الله تعالى به ﴿ أفلم ﴾ أي : فيقال لهم ألم ﴿ تكن ﴾ تأتيكم رسلي فلم تكن ﴿ آياتي ﴾ على ما لها من عظمة إضافتها إلي وأعظمها القرآن ﴿ تتلى ﴾ أي : تواصل قراءتها من أي تال كان فكيف إذا كانت بواسطة الرسل تلاوة مستعلية ﴿ عليكم ﴾ لا تقدرون على دفع شيء منها.
تنبيه : حذف المقول المعطوف عليه كما تقرر اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة ﴿ فاستكبرتم ﴾ أي : فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع إن طلبتم الكبر لأنفسكم أوجدتموه على رسلي وآياتي ﴿ وكنتم قوماً ﴾ أي : ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه ﴿ مجرمين ﴾ أي : غريقين في قطع ما يستحق الوصل وذلك هو الخسران المبين.
﴿ وإذا ﴾ أي : وكنتم إذا ﴿ قيل ﴾ أي : من أي قائل كان ولو على سبيل التأكيد ﴿ إن وعد الله ﴾ أي : الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال ﴿ حق ﴾ أي : ثابت لا محيد عنه مطابق للواقع من البعث وغيره ؛ لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى، فكيف إذا كان الإخلاف فيه متناقضاً للحكم، وقرأ ﴿ والساعة ﴾ حمزة بالنصب عطفاً على وعد الله، والباقون برفعها وفيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : الابتداء وما بعدها من الجملة المنفية وهو قوله تعالى ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيها ﴾ خبرها، ثانيها : العطف على محل اسم إن ؛لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، ثالثها : أنه عطف على محل إن واسمها معاً ؛ لأن بعضهم كالفارسي والزمخشري يرون أن لأن واسمها موضعاً وهو الرفع بالابتداء ﴿ قلتم ﴾ أي : راضين لأنفسكم بحضيض الجهل ﴿ ما ندري ﴾ أي : الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه ﴿ ما الساعة ﴾ أي : لا نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها.
تنبيه : الساعة هنا مرفوعة باتفاق ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ نظن ﴾ أي : نعتقد ما تخبروننا به عنها ﴿ إلا ظناً ﴾ وأما وصوله إلى درجة العمل فلا ﴿ وما نحن ﴾ وأكدوا النفي فقالوا ﴿ بمستيقنين ﴾ أي : بموجود عندنا اليقين في أمرها، قال الرازي : القوم كانوا في هذه المسألة على قولين : منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى ﴿ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا ﴾ ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه ؛ لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم السلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم المذكورون في هذه الآية، ويدل على ذلك أنه حكى تعالى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء، فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشدة الغضب عليهم فقال تعالى :﴿ وبدا ﴾ أي : ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال والزلازل والأهوال وظهر ﴿ لهم ﴾ غاية الظهور ﴿ سيئات ما عملوا ﴾ في الدنيا فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك ﴿ وحاق ﴾ أي : أحاط ﴿ بهم ﴾ على حال القهر والغلبة قال أبو حيان : ولا يستعمل إلا في المكروه ﴿ ما كانوا ﴾ جبلة وطبعاً ﴿ به يستهزئون ﴾ أي : يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك، وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا : إن نظن إلا ظناً، إنما ذكروه استهزاء وسخرية فصار هذا الفريق أشر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء، وقرأ حمزة في الوقف بتسهيل الهمزة بعد الزاي كالواو وله أيضاً إبدالها ياء ونقل عنه أيضاً غير ذلك.
﴿ وقيل ﴾ أي : لهم على أفظع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له فكأنه بلسان كل قائل ﴿ اليوم ننساكم ﴾ أي : نترككم في العذاب ﴿ كما نسيتم لقاء يومكم هذا ﴾ أي : كما تركتم الإيمان والعمل للقائه، وقيل : نجعلكم منزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه ﴿ ومأواكم النار ﴾ ليس لكم براح عنها ﴿ وما لكم من ناصرين ﴾ ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة، فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب ثلاثة أشياء : قطع الرحمة عنهم، وتصيير مأواهم النار، وعدم الأنصار ؛ لأنهم أتوا بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة وهي : الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية، والاستغراق في حب الدنيا.
وهو المراد بقوله تعالى :﴿ ذلكم ﴾ أي : العذاب العظيم ﴿ بأنكم اتخذتم ﴾ أي : بتكليف منكم لأنفسكم ﴿ آيات الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ هزواً ﴾ أي : استهزاء بها ولم تتفكروا فيها، وقرأ ﴿ اتخذتم ﴾ ابن كثير وحفص بإظهار الذال عند التاء والباقون بالإدغام ﴿ وغرتكم الحياة الدنيا ﴾ الدنيئة لضعف عقولكم فآثرتموها لكونها حاضرة وأنتم كالبهائم فقلتم : لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالآخرة ﴿ فاليوم ﴾ أي : بعد إيوائهم فيها ﴿ لا يخرجون منها ﴾ أي : النار ؛ لأن الله تعالى لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ أي : لا يطلب من طالب ما منهم الإعتاب وهو الاعتذار ؛ لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة.
ولما تم الكلام في المباحث الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال عز من قائل :﴿ فلله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿ رب السماوات ﴾ أي : ذوات العلو والاتساع والبركات ﴿ ورب الأرض ﴾ أي : ذات القبول للواردات ﴿ رب العالمين ﴾ أي : خالق ما ذكر إذ الكلُّ نعمة منه دال على كمال قدرته فاحمدوا الله الذي هو خالق السماوات والأرضين وخالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.
ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفء له عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال تعالى :﴿ وله ﴾ أي : وحده ﴿ الكبرياء ﴾ أي : الكبر الأعظم الذي لا نهاية له ﴿ في السماوات ﴾ كلها ﴿ والأرض ﴾ جميعاً اللتين فيهما آيات الموقنين. روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يقول الله عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار ». وفي رواية عذبته وفي رواية قصمته ﴿ وهو ﴾ وحده ﴿ العزيز ﴾ الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿ الحكيم ﴾ الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات وفواصل وغايات بعد أن حرر معانيه وتنزيله فصار معجزاً في نظمه ومعناه. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ سورة حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب » حديث موضوع.