تفسير سورة الأحقاف

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الأحقاف مكية
وهي أربع أو خمس وثلاثون آية وأربع ركوعات

﴿ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾، قد مر تفسيرها في التي قبلها.
﴿ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ﴾، أي : إلا خلقا متلبسا بما يقتضيه الحكمة، تقدير مدة معينة تنتهي إليها السماوات والأرض، وهو إشارة إلى فنائها وقيل : خلقها بمدة معينة وهي قوله :﴿ في ستة أيام ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، ﴿ والذين كفروا عما أنذروا ﴾، من هول ذلك اليوم، ﴿ معرضون ﴾
﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ﴾، بدل من أرأيتم، ﴿ ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ﴾، أي : أخبروني عما تدعون من دون الله وتجعلون له شريكا، أخبروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله تعالى ؟ ! أم لهم مع الله تعالى شركة في خلق السماوات ؟ ! ﴿ ائتوني بكتاب من قبل هذا ﴾، الإشارة إلى القرآن١، ﴿ أو أثارة من علم ﴾ : بقية من علم بقيت من علوم الأولين تدل على صحة ما أنتم عليه من الشرك، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾، في دعواكم،
١ يعني القرآن المعجز ناطق بالتوحيد، وكذلك جميع كتب الله، وطلب منهم إتيان كتاب واحد يشهد بصحة دينهم، أو بقية من علوم الأولين الراسخين والإثارة مستعملة في بقية الشرف، يقال: لبني فلان أثارة من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة/١٢ وجيز..
﴿ ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب١ له إلى يوم القيامة٢، أي : لا أضل ممن يعبد من لا يستجيب له لو سمع دعاءه أبدا، ويتجاوز عن عبادة سميع مجيب خبير، ﴿ وهم عن دعائهم٣ غافلون ﴾، لأنهم جمادات صم لا تبصر ولا تعقل،
١ أي: لا أحد أضل منه ولا أجهل، فإنه دعي من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة؟! فضل عن جلب نفع أو دفع ضر، فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين، والاستفهام للتوبيخ والتقريع/١٢ فتح، وقال القاضي البيضاوي إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين، حيث تركوا عبادة السمع المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لو سمع دعاءهم فضلا أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم/١٢..
٢ أي: أبدا فهذا كناية عن التأبيد، قال تعالى: ﴿لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم﴾ (فاطر: ١٤) /١٢ وجيز..
٣ لأنهم إما جمادات، وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم/١٢ بيضاوي..
﴿ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء ﴾، أي : كان الناس للمعبودين أعداء، لأنهم بسببها وقعوا في الهلكة، ﴿ وكانوا ﴾، أي : العابدون، ﴿ بعبادتهم كافرين ﴾ : جاحدين، يقولون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ ( الأنعام : ٢٣ )، أو كان المعبودون للناس أعداء، وكانوا جاحدين لعبادتهم يقولون :" تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون "،
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات١ قال الذين كفروا للحق ﴾، أي : قالوا لأجل الآيات الواضحات وفي شأنها، ﴿ لما جاءهم ﴾، من غير تأمل، ﴿ هذا سحر٢ مبين ﴾
١ واضحات المعاني ظاهرات الدلالات/١٢ فتح..
٢ لما رأوه شيئا خارقا للعادة وليست لهم بعادة نسبوها إلى السحر/١٢ وجيز..
﴿ أم يقولون ﴾ : بل يقولون، ﴿ افتراه ﴾، إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحرا إلى ما هو أشنع، فالهمزة للإنكار والتعجب، ﴿ قل إن افتريته ﴾، على الفرض، ﴿ فلا تملكون لي من الله شيئا ﴾ : لا تقدرون على دفع١ عقاب الافتراء، فكيف اجترئ عليه من أجلكم ؟ ! ﴿ هو أعلم بما تفيضون ﴾ : تخوضون، ﴿ فيه ﴾، من القدح٢، ﴿ كفى به ﴾ : كفى بالله، ﴿ شهيدا بيني وبينكم ﴾ : يشهد بصدقي وبلاغي، وبكذبكم وإنكاركم، ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾، لمن تاب وآمن فلا إقناط من رحمته،
١ في صفة الله، وفي رسوله/١٢..
٢ لما حكى عنهم أنهم طعنوا في كون القرآن معجزا، بأن قالوا: يختلقه من عند نفسه، ثم ينسبه إلى أنه كلام الله على سبيل الفرية، حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات، وهو أنهم يقترحون منه معجزات عجيبة ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات فأجاب تعالى عنه بأن قال:﴿قل ما كنت بدعا من الرسل﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ قل١ ما كنت بدعا من الرسل ﴾ : بديعا غريبا آمركم بما لا يأمرون به، ﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ : لا أدري إلى ما يصير أمري وأمركم في الدنيا وعن بعض : معناه لا أدري حالي وحالكم في الآخرة، ثم نزل بعده ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾( الفتح : ٢ ) فقالت الصحابة : هنيئا لك، وعلمنا ما يفعل الله تعالى بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ﴾ الآية ( الفتح : ٥ )، وعن بعضهم معناه : لا أدري بماذا نؤمر وبماذا ننهى بعد ذلك ؟ أو لا أدري حالي وحالكم في الدارين على التفصيل إذ لا أدعي علم الغيب، ﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾، لا أبتدع من عندي شيئا، ﴿ وما أنا إلا نذير مبين ﴾، قيل : هو جواب عن اقتراحهم الإخبار عن الغيب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين،
١ أأقتل أم أخرج؟ وأتخسفون أم ترمون بالحجارة؟/١٢ وجيز..
﴿ قل أرأيتم إن كان ﴾ : القرآن، ﴿ من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾، هو عبد الله بن سلام، صرح به جماعة لا يحصى من السلف، وعليه حديث البخاري ومسلم، فهذه الآية مستثناة من كون السورة مكية، كما صرح به في تفسير الكواشي وقد يأول بأن المراد، ويشهد شاهد فيكون على طريقة ﴿ ونادى أصحاب الأعراف ﴾ ( الأعراف : ٤٨ ) فالآية في حقه الحكم بأنه يشهد بعد ذاك، ﴿ على مثله ﴾، أي : على مثل ما أخبر القرآن به، وقيل : المثل صلة، ﴿ فآمن واستكبرتم ﴾، فعطف كفرتم على كان، وعطف واستكبرتم على شهد، وعطف جملة شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم على جملة كان من عند الله وكفرتم وجواب الشرط محذوف، أي : ألستم ظالمين ؟ ويدل عليه قوله :﴿ إن الله يهدي القوم الظالمين ﴾.
﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا ﴾، أي : لأجلهم، ﴿ لو كان ﴾، أي : الإيمان، ﴿ خيرا ما سبقونا إليه ﴾، فإنهم فقراء، وعبيد، وإماء، ونحن أشرف والأشرف للأشرف، ﴿ وإذ لم يهتدوا به ﴾، أي : بالإيمان، ﴿ فسيقولون هذا إفك قديم ﴾، كما قالوا : أساطير الأولين والعامل في إذ محذوف١، والفاء مسبب عنه، أي : ظهر عنادهم فسيقولون، وقيل : السين لمجرد التأكيد، والمضارع للاستقرار أو بحيث يتناول الماضي فلا حاجة إلى تقدير،
١ لأن إذ للماضي، والسين للاستقبال، فلا يكون مدخولها العامل في إذ، فيقدر عامله/١٢ وجيز..
﴿ ومن قبله ﴾، أي : قبل القرآن، ﴿ كتاب موسى ﴾، مبتدأ، وخبر، ﴿ إماما١ ورحمة٢، نصب على الحال، ﴿ وهذا كتاب مصدق ﴾، للكتب السماوية، ﴿ لسانا عربيا ﴾، نصب على الحال، ﴿ لينذر ﴾، النبي، أو الكتاب علة مصدق، ﴿ الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ﴾، عطف على محل لينذر،
١ يهتدى به، وفيه البشارة بمبعث خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين/١٢ وجيز..
٢ على الخلق لأنه سبب الهداية، أي: كتاب موسى كائن من قبل القرآن في حال كونه إماما ورحمة، فإنهم لما طعنوا في القرآن، قيل لهم: أنزل الله قبل القرآن التوراة وأنتم لا تنازعون فيه، فما بالكم في شأن القرآن /١٢ وجيز..
﴿ إن١ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ﴾ : أقروا بوحدانيته ثم استقاموا على التوحيد، وثم لتراخي مرتبة الاستقامة، فإن لها الشأن كله، ﴿ فلا خوف عليهم ﴾، مما يستقبلون، ﴿ ولا هم يحزنون ﴾، على ما خلفوا،
١ لما قرر دلائل التوحيد، والنبوة، وذكر شبهات المنكرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريق المحقين والمحققين فقال:﴿إن الذين قالوا ربنا الله﴾ الآية/١٢ كبير..
﴿ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء ﴾، أي : جوزوا جزاء، ﴿ بما كانوا يعملون ﴾
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه ﴾، لما ذكر التوحيد عطف عليه بالوصية بالوالدين كقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا ﴾ الآية ( الإسراء : ٢٣ ) وقوله :﴿ أن أشكر لي ولوالديك ﴾ ( لقمان : ١٤ )، ﴿ إحسانا ﴾، منصوب بوصينا بأنه بمعنى ألزمناه الحسن في أبويه، ﴿ حملته أمه كرها ووضعته١ كرها ﴾، نصب على الحال، أي : ذات كره، أو صفة لمصدر، أي : حملا ذا كره ومشقة، ﴿ وحمله وفصاله ﴾، أي : مدتهما، والفصال : الفطام، ﴿ ثلاثون شهرا ﴾ فأقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط عنه حولان كاملان لمن أراد أن يتم الرضاعة بقي ذلك، وفي سورة لقمان ﴿ وفصاله في عامين ﴾ ( لقمان : ١٤ ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وإذا وضعت بعد تسعة أرضعت إحدى وعشرين، وإذا وضعت بعد ستة أرضعت أربعة وعشرين، ﴿ حتى إذا بلغ أشده ﴾ : استحكم قواه واكتهل، قيل : هو ما بين ثماني عشر إلى أربعين، وقيل : ثلاث وثلاثون إلى أرٍبعين، وهو غايته، ﴿ وبلغ أربعين٢ سنة قال رب أوزعني ﴾ : ألهمني، ﴿ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ﴾، والنعمة : الهداية والإسلام، ﴿ وأن أعمل صالحا٣ ترضاه وأصلح٤ لي في ذريتي ﴾، اجعل لي الصلاح ساريا فيهم، ﴿ إني تبت إليك وإني من المسلمين ﴾، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، اجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة، وهذا إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد الإنابة إلى الله تعالى : فقد ورد " من بلغ الأربعين، ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار " ٥،
١ ولما كان الاهتمام في شأن الأم لضعفها وكثرة احتياجها إلى الإحسان، ذكر ما للأم من الحقوق/١٢ وجيز..
٢ أي: المحسن في سن كمال العقل/١٢..
٣ وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة، أن يستكثر من هذه الدعوات/١٢ فتح..
٤ اعلم أن مراتب السعادات ثلاثة: أكملها النفسانية، وأوسطها البدنية، وأدونها الخارجية، والسعادات النفسانية: هو اشتغال القلب بشكر آلاء الله ونعمائه، والسعادات البدنية: هي اشتغال البدن بالطاعة والخدمة، والسعادات الخارجية: هي سعادة الأهل والولد، فلما كانت المراتب محصورة في هذه الثلاثة لا جرم رتبها الله تعالى على هذا الوجه /١٢ كبير..
٥ "موضوع" ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"، (١/١٧٨)، والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة"، (١/٧١)..
﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ﴾ أي : طاعتهم فإنها أحسن من المباح، ﴿ ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ﴾ : كائنين معدودين فيهم، ﴿ وعد الصدق ﴾، مصدر مؤكد لأن يتقبل ويتجاوز وعد، ﴿ الذي كانوا يوعدون ﴾، بلسان الأنبياء، وعن علي رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ أولئك الذين نتقبل عنهم ﴾ الآية قال : والله عثمان وأصحاب عثمان قالها ثلاثا،
﴿ والذي قال لوالديه أف لكما ﴾، هو صوت يعلم منه أن قائله متضجر، واللام للبيان أي : هذا التأفيف لكما خاصة، لما ذكر تعالى حال البارين بهما عقب بحال العاقين لهما، ﴿ أتعدانني أن أخرج ﴾، من قبري حيا، ﴿ وقد خلت ﴾ : مضت، ﴿ القرون من قبلي ﴾، ولم يبعث منهم أحد، ﴿ وهما ﴾ : الوالدان، ﴿ يستغيثان الله ﴾ : يسألانه أن يغيثه بالهداية، وقيل : الغياث بالله منك، ﴿ ويلك آمن ﴾ : يقولان له ذلك دعاء عليه بالهلاك، والمقصود التحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك نصب على مصدر، ﴿ إن وعد الله حق فيقول ﴾، الولد :﴿ ما هذا ﴾، الذي تدعونني إليه، ﴿ إلا أساطير الأولين ﴾ : أباطيلهم التي كتبوها،
﴿ أولئك ﴾، خبر لقوله :" والذي قال "، فالمراد " بالذي " للجنس القائل ذلك القول حتى جاز أن يكون خبره مجموعا، ﴿ الذين حق عليهم القول ﴾ : كلمة العذاب وأنهم أهل النار، ﴿ في أمم ﴾، كائنين معدودين فيهم، ﴿ قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ﴾، في الدنيا، والآية في كل كافر عاق، وفي الآية أدلة على ضعف قول من قال : إنها في شأن عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه١، وفي النسائي لما بايع معاوية لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن : سنة هرقل وقيصر، فقال مروان : هذا الذي أنزل الله تعالى فيه :﴿ والذي قال لوالديه ﴾ الآية، فبلغ عائشة رضي الله عنها فقالت : والله ما هو به، ولو شئت أن أسمى الذي أنزل الله فيه لسميته٢، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض٣ من لعنة الله تعالى٤،
١ قال الحافظ ابن كثير في " التفسير" (٣/ ١٥٨): "هذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه"..
٢ وهذا منها رضي الله عنها دال على أن الآية في معين/١٢ وجيز..
٣ فضض- بفتحتين-: ما انتشر من الماء عند الاغتسال به، أو كل متفرق ومنتشر/.
٤ أخرجه النسائي في "التفسير"، من طريق شعبة ابن محمد بن زياد:.... فذكره عن عائشة، وهو ضعيف لانقطاعه، فإن محمد لم يسمع عائشة، ولذا قال الذهبي متعقبا الحاكم لما صححه في المستدرك (٤/٤٨١):" محمد لم يسمع من عائشة"..
﴿ ولكل ﴾، من الفريقين، ﴿ درجات مما عملوا ﴾ : مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، تسمية الدركات درجات للتغليب، ﴿ وليوفيهم أعمالهم ﴾، أي : جزاءها، ومعلله محذوف، أي : وقدر لهم درجات ليوفيهم، ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ : بزيادة عقاب ونقص ثواب،
﴿ ويوم يعرض١ الذين كفروا على النار ﴾، من باب القلب للمبالغة، أي : يعرض النار عليهم، أو معناه يعذبون عليها، ﴿ أذهبتم ﴾، أي : يقال لهم يوم القيامة ذلك، ﴿ طيباتكم ﴾ : لذائذكم، ﴿ في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ﴾، فلم يبق لكم منها شيء، ﴿ فاليوم تجزون عذاب الهون ﴾ : الذل، ﴿ بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ﴾، فإن التكبر يمكن أن يكون بحق، ﴿ وبما كنتم تفسقون ﴾، رأى٢ عمر رضي الله عنه في يد جابر لحما فقال : ما هذا ؟ فقال : لحما اشتهيته، فقال : أو كل ما اشتهيت اشتريت، أما تخاف هذه الآية ﴿ أذهبتم طيبات في حياتكم الدنيا ﴾.
١ من عرض فلان على السيف إذا قتل به، والعرض: المباشرة، كما تقول: عرضت العود على النار، وأيضا في الكتاب والسنة ما يدل على أن لجهنم عينا وكلاما وعلى الوجهين لا يكون الآية من باب القلب القليل النزر/١٢ وجيز..
٢ أخرجه أحمد في الزهد/١٢ در منثور. [أخرجه أحمد في الزهد عن الأعمش، وهو منقطع؛ لأن الأعمش لم يدرك عمر]..
﴿ واذكر١ أخا عاد ﴾، أي : هودا، ﴿ إذ أنذر ﴾، بدل من أخا عاد، ﴿ قومه بالأحقاف ﴾ : منازلهم فهم ساكنون بين رمال، جمع حقف، وهو الرمل الكثير، ﴿ وقد خلت النذر ﴾، حال من مفعول اذكر، أو معترضة بين انذر وبين أن لا تعبدوا، ﴿ من بين يديه ﴾ : قبله، ﴿ ومن خلفه٢ : بعده فأنذروا كما أنذر، ﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ أن مفسرة، أو بألا تعبدوا، فإن النهي عن شيء إنذار عن مضرته، ﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾
١ ولما هدد بالعقوبات الأخروية، أعقبه بالعقوبات الدنيوية التي وقعت على قوم في جزيرة العرب معروفين بالقوة الغالبة والاستكبار والبنيان، الذي ليس له نظير في الدنيا، ولقريش معرفتهم بالأخبار ورؤية آثارهم فقال:﴿واذكر أخا عاد﴾/١٢ وجيز..
٢ عطف "من خلفه" على "من بين يديه" أما تنزيل الآتي منزلة الماضي، على طريقة "ونادى أصحاب الأعراف" (الأعراف: ٤٨) وإما على تقدير: ويأتي من خلفه على طريقة: علفته تبنا وماء بارد/١٢ منه..
﴿ قالوا أجئتنا لتأفكنا ﴾ : تصرفنا، ﴿ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا ﴾، من العذاب، ﴿ إن كنت من الصادقين ﴾
﴿ قال إنما العلم عند الله ﴾، هو يعلم متى يأتيكم العذاب، ولا مدخل لي في الاستعجال، ﴿ وأبلغكم ما أرٍسلت به ﴾ : فما على الرسول إلا البلاغ، ﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾، لأنكم تستعجلون بعذاب يحتمل الوقوع،
﴿ فلما رأوه ﴾، الضمير مبهم يفسره قوله :﴿ عارضا ﴾، وهو إما تمييز، أو حال، أو الضمير لما طلبوا إتيانه يعني سحابا عرض في أفق السماء، ﴿ مستقبل أوديتهم ﴾ : متوجه أوديتهم، والإضافة لفظية، لذا وقع صفة لنكرة، ﴿ قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾، وكذا هذه الإضافة لفظية، استبشروا لأنه قد حبس عنهم المطر، ﴿ بل هو ما استعجلتم به ﴾ من العذاب، أي : قال هود بل هو، أو الإضراب من الله تعالى، ولا قول ثمة، بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم كقوله تعالى :﴿ فقال لهم موتوا ﴾ بعد قوله :﴿ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ﴾( البقرة : ٢٤٣ ) فإن معناه فأماتهم الله، ﴿ ريح ﴾، أي : هي ريح، ﴿ فيها عذاب أليم ﴾
﴿ تدمر١ : تهلك، ﴿ كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى ﴾، أي : جاءتهم الريح ودمرتهم، فأصبحوا بحيث لو حضرتهم لا ترى، ﴿ إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾، قيل : كانوا تحت الرمال ثمانية أيام ولهم أنين، ثم قذفتهم الريح في البحر،
١ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، قلت يا رسول الله: إذا رأوا الغيم فرحوا أن فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قال (يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال:(اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه فسألته، فقال: (لا أدري لعله كما قال قوم عاد ﴿هذا عارض ممطرنا﴾"/١٢ فتح..
﴿ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ﴾، أي : في الذي ما مكناكم فيه من المال والقوة والعمر، فإنه نافية، وقيل : شرطية محذوفة الجواب، أي : في شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر، وقيل : صلة، ﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ﴾ : شيئا من الإغناء، أو ما دفع عنهم شيئا من العذاب، ﴿ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ﴾، ظرف جرى مجرى التعليل، ﴿ وحاق ﴾ : أحاط، ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون١، أي : العذاب، فإنهم استهزءوا به.
١ ولما تم حكاية قوم عاد، هدد قريشا بغيرهم من الأمم المجرمين، فقال:﴿ولقد أهلكنا ما حولكم﴾الآية/١٢ وجيز..
﴿ ولقد أهلكنا ما حولكم ﴾، يا أهل مكة، ﴿ من القرى ﴾، كحجر ثمود، وقرى قوم لوط، ﴿ وصرفنا الآيات ﴾ : بيناها مكررا، ﴿ لعلهم يرجعون ﴾، عن ضلالتهم،
﴿ فلولا ﴾ : فهلا، ﴿ نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة ﴾ أي : الذين اتخذوهم متجاوزين الله تعالى آلهة متقربا بهم، كما قالوا :﴿ هؤلاء شفعاؤنا ﴾( يونس : ١٨ ) فقربانا حال من المفعول الثاني، أي : آلهة، أو مفعول له، ﴿ بل ضلوا عنهم ﴾، لم ينفعهم عند نزول العذاب، ﴿ وذلك ﴾، أي : ضلالهم عنهم، ﴿ إفكهم ﴾ أي : أثر صرفهم عن الحق، ﴿ وما كانوا يفترون١، وإفترائهم، وهذا كمن أدب أحدا فلم يتأدب، وظهر منه سوء أدب، فيقال له تقريعا : هذا تأديبك،
١ ولما ذكر صريحا وكناية عناد قريش، ووبخهم بعذاب دنيوي وأخروي، أعقب ذلك تقريعا بمن هو أنقى قلبا وأبعد سجيا وطبعا، فقال:﴿وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ وإذ صرفنا ﴾ : أملنا، ﴿ إليك نفرا ﴾، هو ما دون العشرة، ﴿ من الجن يستمعون القرآن١، وهو عطف على قوله :﴿ أخا عاد ﴾ أي : واذكر إذ صرفنا، ﴿ فلما حضروه ﴾ : القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ قالوا ﴾، بعضهم لبعض :﴿ أنصتوا ﴾ : نستمع القرآن، ﴿ فلما قضي ﴾ : فرغ عن قراءته، ﴿ ولوا ﴾ : رجعوا، ﴿ إلى قومهم منذرين ﴾، إياهم بما سمعوا، والأحاديث الصحاح والحسان بطرق مختلفة، وتدل على أنه عليه السلام ذهب إلى الجن قصدا فتلا عليهم، والأظهر كما قاله كثير من العلماء : أن استماعهم القرآن ليس مرة واحدة ولا يمكن توفيق الأحاديث المتضادة إلا بذلك، فمرة في طريق الطائف، ومرة في شعاب مكة، ومرة في بوادي المدينة،
١ أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم الشجرة، وأخرج أحمد ومسلم، والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا: اغتيل أستطير ما فعل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح، إذا نحن به يجئ من قبل حراء، فأخبرناه، فقال:(إنه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن) فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرة بعد مرة، وأخذوا عنه الشرائع/١٢ فتح..
﴿ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ﴾، لم يذكروا عيسى لأن الإنجيل فيه مواعظ، وقليل نادر من الأحكام، فهو كالمتمم للتوراة، وقيل : لأنهم كانوا يهودا، ﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾، من كتب الله، ﴿ يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ﴾
﴿ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ﴾ أي : بعضها، فإن المظالم لا تغفر في حق الذمي بالإيمان بخلاف الحربي، فإنه لا تبقى عليه تبعة١، ﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾
١ أي: الحرب تسقط عنه القتل والغصب/١٢ كمالين..
﴿ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ﴾، لا يعجز الله تعالى فيفوته، ﴿ وليس له من دونه أولياء ﴾، ينصرونهم، ﴿ أولئك في ضلال مبين ﴾
﴿ أو لم١ يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي ﴾ : لم يتعب، ﴿ بخلقهن ﴾، ولم يضعف عن إبداعهن، ﴿ بقادر ﴾، خبر أن، والباء لاشتمال النفي على أن وما في حيزها كأنه قال :﴿ أليس الله بقادر ﴾٢، ﴿ على أن يحيي الموتى بلى ﴾، مقررة للقدرة الواقعة بعد ليس تقديرا٣، ﴿ إنه على كل شيء قدير ﴾
١ الأظهر أن قوله: ﴿أو لم يروا﴾ كلام الله لا حكاية كلام الجن/١٢ وجيز..
٢ إنما جاز إدخال الباء على خبر أن، لدخول حرف النفي على أن وما يتعلق بها، فكأنه قيل: أليس الله بقادر قال الزجاج: لو قلت: ما ظننت أن زيدا بقائم جاز، ولا يجوز ظننت أن زيدا بقائم، والله أعلم/١٢ كبير..
٣ لا للرؤية الواقعة بعد لم تحقيقا /١٢ وجيز..
﴿ ويوم١ يعرض الذين كفروا على النار ﴾ : يعذبون عليها، ﴿ أليس هذا بالحق ﴾، أي : قال لهم في ذلك اليوم أليس هذا، تقريعا، ﴿ قالوا بلى وربنا٢ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون٣ : بسببه،
١ واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على صحة القول بالحشر والنشر، وذكر بعض أحوال الكفار، فقال:﴿ويوم عرض الذين كفروا على النار﴾ الآية /١٢ كبير..
٢ إن كان المراد من الحق العدل، فحلفهم بقوله: "وربنا " ظاهر موقعه، وإن كان المراد الوقوع فحلفهم جبر لمبالغتهم في الدنيا في نفيه/١٢ وجيز..
٣ واعلم أنه تعالى لما قرر المطالب الثلاثة، وهي: التوحيد والنبوة والمعاد، وأجاب عن الشبهات، أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوجسون صدره، فقال تعالى: ﴿فاصبر كما صبر أواوا العزم من الرسل﴾/١٢ كبير..
﴿ فاصبر١، يا محمد، ﴿ كما صبر أولوا العزم ﴾، أي : أولو الثبات والجد منهم، والأشهر أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام، ﴿ من الرسل ﴾، حال، ومن للتبعيض وعن بعضهم : إن جميع الأنبياء أولوا العزم، فمن للتبيين، ﴿ ولا تستعجل ﴾، بالعذاب، ﴿ لهم ﴾ : لقريش، ﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾، أي : يحسبون يوم القيامة أن مدة لبثهم في الدنيا ساعة فإنه نازل بهم لا محالة، ﴿ بلاغ ﴾، أي : هذا يعني القرآن، أو ما وعظتم به بلاغ كفاية، أو تبليغ من الرسول، ﴿ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾ : الخارجون عن الاتعاظ٢ والطاعة.
١ أي: لما عرفت أن هذا حال من لم يؤمن بالله فاصبر/١٢ وجيز..
٢ اللهم لا تجعلنا منهم/١٢..
Icon