تفسير سورة الحجرات

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سورة الحجرات مدنيةوهي ثمان عشرة آيةأي بالإجماع، وهذه أوائل السور المسماة بالمفصل، واختلف في تسميته بذلك، فقيل: لكثرة الفصل فيه بين السور، وقيل: لكون جميعه محكماً لا نسخ فيه، قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ذكر هذه اللفظة في هذه السورة خمس مرات، اعتناء بشأن المؤمنين في الأوامر والنواهي، نظير خطابات لقمان لابنه في قوله:﴿ يٰبُنَيَّ ﴾[لقمان: ١٦] ولئلا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً، وذكر﴿ يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾[الحجرات: ١٣] مرة خطابا لما يعم المؤمن والكافر، لمناسبة ما يترتب عليه من قوله تعالى﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ﴾[الحجرات: ١٣] وهذه السورة جمعت آداباً ظاهرية وباطنية، وأوامر ونواهي ظاهرية وباطنية، عامة وخاصة، فهي متضمنة طريقة الصوفية التي من تمسك بها وصل. قوله: (من قدم بمعنى تقدم) العامة على ضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة، وفيها وجهان أحدهما: إنه متعد حذف مفعوله اقتصاراً كقولهم: هو يعطي ويمنع، وكلوا واشربوا، والأصل لا تقدموا ما لا يصلح، والثاني: أنه لازم نحو وجه وتوجه، ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك ﴿ لاَ تُقَدِّمُواْ ﴾ بالفتح في الثلاثة، والأصل لا تتقدموا، فحذفت إحدى التائين، وفي الآية استعارة تمثيلية، حيث شبه تجري الصحابة على الحكم، في أمر من أمور الدين، بغير إذن من الله ورسوله، بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريقه من غير إذن، فإنه في العاة مستهجن، ثم استعمل في في جانب المشبه ما كان في جانب المشبه به من الألفاظ، والغرض التنفير من التجري بغير إذن الله ورسوله، ومثله قوله تعالى في حق الملائكة﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ ﴾[الأنبياء: ٢٧] أصله لا يسبق قولهم قوله، فمدحهم بنفي السبق، تنبيهاً على استهجان السبق، أو المراد بين يدي رسول الله، وذكر لفظ الله تعظيماً للرسول، وإشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله، وعلى هذا فلا استعارة. قوله: (بقول أو فعل) مثال القول ما ذكره المفسر في سبب النزول أيضاً، من أنهم ذبحوا يوم النحر قبل رسول الله، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال: من ذبح قبل الصلاة، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء، وما ورد عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم، وقال الضحاك: وهو عام في القتال وشرائع الدين، أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله، وهو الأولى. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي في التقدم الذي نهاكم عنه. قوله: (على النبي) الأولى أن يقول عند النبي، ففي الحديث، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم وطلبوا أن يؤمر عليهم واحداً منهم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا أي تخاصما، حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت تلك الآيات الخمس إلى قوله: ﴿ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ومعنى قول عمر: ما أردت مخالفتك تعنتاً، وإنما أردت أن تولية الأقرع أصلح بهم، ولك يظهر لك ذلك. قوله: (ونزل فيمن رفع صوته) الخ، كأبي بكر وعمر في القصة المذكورة، كما أن قوله: (ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي) أي كأبي بكر وعمر، حين بلغهما النهي عن رفع الصوت، فصار يخفضان صوتهما عند النبي، كما أن قوله: (ونزل في) الخ، هم بنو تميم الذين تكلم في شأنهم أبو بكر وعمر، فتلخص أنه لما اختلف أبو بكر وعمر في تأمير الأمير على الوفد المذكور، ولم يصبرا حتى يكون رسول الله هو الذي يشير بذلك، نزل قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ الآية، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية، نزل قوله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ ﴾ الآية، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ الآية، ولما نادى الركب المذكور النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات نزل﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ ﴾[الحجرات: ٤] الآيتين. قوله: (إذا نطقتم) أي تكلمتم، وقوله: (إذا نطق) أي تكلم. قوله: ﴿ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ ﴾ لما كانت هذه الجملة كالمكررة مع ما قبلها، مع أن العطف يأباه، أشار المفسر إلى أن المراد بالأول، إذا نطق ونطقتم، فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حداً يبلغه صوته، بل يكن كلامكم دون كلامه، والمراد بالثاني أنكم إذا كلمتموه وهو صامت، فلا ترفعوا أصواتكم، كما ترفعونها فيما بينكم. قوله: (ناجيتموه) أي كلمتموه وهو صامت. قوله: (بل دون ذلك) راجع لكل من النهيين، أي بل اجعلوا أصواتكم دون صوته، ودون جهر بعضكم لبعض، وقوله: (إجلالاً له) تعليل لما تضمنه قوله: (بل دون ذلك). قوله: ﴿ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ﴾ أي يبطل ثوابها، وقوله: ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ أي بحبوطها. قوله: (أي خشية ذلك) أشار إلى ﴿ أَن تَحْبَطَ ﴾ على حذف مضاف، أي خشية الحبوط، والخشية منهم وقد تنازعه، لا ترفعوا ولا تجهروا، فيكون مفعولاً لأجله، والعامل فيه الثاني أو الأول. قوله: (بالرفع والجهر) الباء سببية متعلقة باسم الإشارة، لأنه واقع على الحبوط، فكأنه قال: أي خشية الحبوط بسبب الرفع والجهر، لأن في الرفع والجهر استخفافاً بجانبه، فيؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم له قصد الإهانة وعدم المبالاة. روي أنه لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به ابن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا رفيع الصوت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول فقال لها: اذهب فادعه لي، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره قال: فادعه لي، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقال: اكسر الضبة، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يبكبك؟ فقال: أنا صيّت، وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، فأنزل الله ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ ﴾ الآية، قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت من المسلمين بعد انكسار، وانهزمت طائفة منهم، قال: أف لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا، واستشهد ثابت لسالم مولى حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا، ثم تبتا وقاتلا حتى قتلا، واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له: اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين، نزع درعي فذهب بها، وهي في ناحية من العسكر، عند فرس يستن في طيله، وقد وضع على درعي برمة، فائت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي، وائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: إن علي ديناً حتى يقضي عني، وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً، فوجد الدرع والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيته، قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قوله: (فيمن كان يخفض صوته) أي مخالفة النهي السابق، وإجلالاً وتعظيماً. قوله: (كأبي بكر وعمر) الخ، أي فكان الجميع يخفضون أصواتهم عند رسول الله، إجلالاً له وتعظيماً. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾ الخ، اسم الإشارة مبتدأ، والموصول بعد خبره، والجملة خبر ﴿ إِنَّ ﴾ وجملة ﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ مستأنفة لبيان ما أعد لهم. قوله: ﴿ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ الامتحان افتعال، من محنت الأديم محناً أوسعته، ومعنى ﴿ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ﴾ ووسعها. قوله: (أي لتظهر منهم) أي فإنها لا تظهر، إلا بالاصطبار على أنواع المحن والتكاليف الشاقة، فالاختبار يظهر ما كان كامناً في النفس من التقوى، كما أن سماع الألحان، يظهر ما كان كامناً في النفس من الحب فتدبر. قوله: (ونزل في قوم) أي وهم وفد بني تميم.
قوله: ﴿ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ ﴾ أي من خارجها، خلفها أو قدامها، لأن ﴿ وَرَآءِ ﴾ من الأضداد تكون بمعنى خلف، وبمعنى قدام، قال مجاهد وغيره: نزلت في أعراب بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلى الله عليه وسلم فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، أن أخرج الينا، فإن مدحنا زين، وذمنا شين، وكانوا سبعين رجلاً، قدموا لفداء ذراري لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً للقائلة، وسئل صلى الله عليه وسلم فقال: هم جفاة بني تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال، لدعوت الله عليهم أن يهلكهم، وقيل: كانوا جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. قوله: (وهي ما يحجر عليه) أي يحوط عليه للمنع من الدخول. قوله: (كأن لكل واحد منهم) الخ، أتى بصيغة لا جزم فيها، لأن المقام مقام احتمال، وذلك لأن مناداتهم، يحتمل أن تكون كما قال المفسر، أو الكل وقفوا على كل حرة ونادوه منها. قوله: (مناداة الأعراب) معمول لينادوك. قوله: ﴿ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ المراد بالأكثر الكل، لأن العرب قد تعبر بالأكثر وتريد الكل. قوله: (محلك الرفيع) معمول ليعقلون، وفي نسخة بمحلك، فيكون معمولاً لفعلوه، فالمحل على الأول المكانة والرتبة، وعلى الثاني الدار المحسوسة، ومعنى الرفيع على الأول العلي القدير، وعلى الثاني المحفوظ من إساءة الأدب لحلولك فيه، فإن الظرف يعظم بالمظروف، قال الشاعر: وما حب الديار شغفن قلبي   ولكن حب من سكن الدياراقوله: (أنهم في محل رفع بالابتداء) هو قول سيبويه، ولا يحتاج إلى خبر، لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقيل: الخبر محذوف وجوباً لوقوعه بعد ﴿ لَوْ ﴾.
قوله: (أي ثبت) بيان للفعل المقدر، والمعنى ثبت صبرهم وانتظارهم، وهذا قول المبرد والزجاج والكوفيين، ورجح بأن فيه إبقاء له على الاختصاص بالفعل. قوله: ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ أي لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول، الموجبين للثناء والثواب، قال العارفون: الأدب عند الأكابر، يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى، وسعادة الدنيا والآخرة. قوله: (ونزل في الوليد بن عقبة) بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان لأمه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة معهم، والياً يجبي الزكاة، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله، فبدا له الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك، لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فاتهمهم رسول الله، وبعث خالد بن الوليد في عسكره خفية، وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال: انظر، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك، فافعل فيهم ما تفعل في الكفار، ففعل ذلك خالد، ووافاهم عند الغروب، فسمع منهم أذان صلاة المغرب والعشاء، ووجدهم مجتهدين في امتثال أمر الله، فأخذ منهم صدقات أموالهم، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير، ولا يليق إطلاق لفظ الفاسق عليه، فإن المراد به الكافر، قال تعالى:﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾[الكهف: ٥٠]﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ ﴾[السجدة: ٢٠] إلى غير ذلك. وأجيب: بأن الذي وقع من الوليد توهم وظن، فترتب عليه الخطأـ وإنما سماه الله فسقاً، تنفيراً عن هذا الفعل، وزجراً عليه، ويؤخذ من الآية حرمة النميمة، وتعظيم كيفية ردها على صاحبها. قوله: (مصدقاً) بتخفيف الصاد، أي يأخذ الصدقات. قوله: (لترة) بكسر التاء وفتح الراء، أي عداوة.
قوله: ﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ ﴾ المقصود من الآية أي نمام، فإن النمام فاسق، وليس المقصود عين الوليد، فإنه ليس بفاسق، بل هو صحابي جليل، وإن كان سبب الزول واقعته. قوله: ﴿ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا ﴾ أي بالقتل والسبي. قوله: ﴿ نَادِمِينَ ﴾ أي مغتمين لما وقع منكم.
قوله: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ ﴾ أي فلا تكذبوا عليه، فإن الله يعلمه ببواطنكم فتفضحوا. قوله: ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ﴾ الخ، حال من الضمير المجرور في ﴿ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ ﴾ والمعنى: أنه فيكم كائناً على حالة منكم يجب تغييرها، وهي أنكم تودون أن يتبعكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل، لكن عصمه الله رحمة بكم. قوله: (لأثمتم دون) أي فلا يأثم لعذره، وقوله: (إثم التسبب) أي لا إثم الفعل، لأنكم لم تفعلوا، قوله: (إلى المرتب) أي الذي يرتبه النبي صلى الله عليه وسلم على أخباركم ويفعله، كقتال بني المصطلق. قوله: ﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ ﴾ أي الكامل، وهو التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، وإذا حبب إليهم الإيمان، الجامع للخصال الثلاث، لزم كراهتهم لأضدادها، فلذلك قال: ﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ ﴾ الذي هو مقابلة التصديق بالجنان، والفسوق الذي هو مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان الذي هو مقابلة العمل بالأركان. قوله: (استدرك من حيث المعنى) الخ، أشار بذلك لدفع ما قيل إن، لكن يشترط أن يكون ما بعدها مخالفاً لما قبلها، نفياً وإثباتاً، وتوضيح الجواب: أن الذين حبب إليهم الإيمان، قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم، فإن ما قيل: لكن يوهم أنهم على غير استقامة مع الله ورسوله، فهو استدراك بحسب المعنى. قوله: (مصدر منصوب) الخ، فيه مسامحة، إذ هو اسم مصدر، والمصدر إفضال، ويصح أن يكون مفعولاً لأجله عامله حبب، وما بينهما اعتراض، وفي هذه الآية تنبيه على أن السعادة العظمى، محبة الله ورسوله، وكراهة أهل الكفر والفسوق. قوله: (هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً) الخ، ذكر القصة مختصرة، ورواه الشيخان بطولها وحاصلها: أنه روي عن أسامة بن زيد، أنه صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغيروا عليناـ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، أي لا شيء أحست منه إن كان حقاً، فلا تؤذنا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك، فمن جاء فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فأغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فما لبث المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتحاربون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا. اهـ. قوله: (ومر على ابن أبي) أي وكان من الخزرج، وقوله: (فقال ابن رواحة) أي وكان من الأوس. قوله: (وسد ابن أبي أنفه) أي وقال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك. قوله: (فكان بين قوميهما) أي وهما الأوس والخزرج. قوله: (والسعف) أي وهو جريدة النخل، إذا كان عليه الخوص، فإن جرد منه قيل له عسيب. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: ﴿ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا ﴾ أي أبت النصحية والإجابة إلى حكم الله. قوله: ﴿ حَتَّىٰ تَفِيۤءَ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ ﴾ هنا للغاية، والنصب بأن المضمرة بعدها، أي إلى أن ترجع إلخ. قوله: ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ ﴾ أي النصح والدعاء إلى حكم الله. قوله: (بالإنصاف) أي فلا تجوروا على إحدى الطائفتين، بل احكموا بينهما بالإنصاف. قوله: (اعدلوا) أشار به أن أقسط معناه عدل، فهمزته للسلب، بخلاف قسط، فمعناه جار، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾[الجن: ١٥].
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ كالتعليل لما قبله. قوله: ﴿ إِخْوَةٌ ﴾ (في الدين) أي من حيث إنهم ينتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان. قوله: ﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ خص الاثنين بالذكر، لأنهما أقل من يقع بينهما النزاع، فإذا ألزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر أولى. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً، وهذه القراءة تدل على أن قراءة التثنية معناها الجماعة. قول: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي على تقولكم، وفي هذا الترجي إطماع من الكريم الرحيم.
قوله: ﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ ﴾ الخ، يقال: سخر منه سخراً، من باب تعب، والاسم السخرية بضم السين وكسرها، والسخرة بوزن غرفة، ما سخرته من خادم أو دابة بلا أجرة أو ثمن. قوله: (سخروا من فقراء المسلمين) أي لما رأوا من رثاثة حالهم وتقشفهم، وهذا كان في أول إسلامهم قبل تمكنهم منه، وإلا فقد صاروا بعد ذلك إخواناً متحابين في الله. قوله: (كعمار) الخ، أي وهم أهل الصفة، الذين قال الله فيهم﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٧٣] الآية. قوله: (أي رجال منكم) أشار بذلك إلى أن القوم اسم جمع، بمعنى الرجال خاصة، واحدة في المعنى رجل، وقيل: جمع لا واحد له، من لفظه يدل على تخصيصه بالرجال، مقابلته بقوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ ﴾ وهذا هو الموافق لأصل اللغة، قال الشاعر: وما أدري ولست أخال أدري   أقوم آل حصن أم نساءوأما قوله تعالى﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴾[الحج: ٤٢] ونحوه، فالمراد ما يشمل النساء، لكن بطريق التبع، لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وسمي الرجال قوماً، لأنهم قوامون على النساء. قوله: (منكم) قيد به قوم المرفوع، وتركه في المجرور، ويصح تقييده بكل، ويقال نظيره في قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ ﴾ الخ. قوله: ﴿ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ﴾ الجملة مستأنفة لبيان العلة الموجبة للنهي، ولا خبر لعسى، لأنه يغني عنه فاعلها، والمعنى: لا يحتقر أحداً أحداً، فلعل من يحتقر، يكون عند الله أعلى وأجل ممن احتقره، وبالجملة فينبغي للإنسان أن لا يسخر بأخيه في الدين، بل ولا بأحد من خلق الله، فلعله يكون أخلص ضميراً، وأتقى قلباً ممن سخر به، ولقد بلغ بالسلف الصالح هذا الأمر، حتى قال بعضهم: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه، لخشيت أن أصنع مثل ما صنع، وقال عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب، لخشيت أن أحول كلباً. قوله: ﴿ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ ﴾ قال أنس: نزلت في صفية بنت حيي، بلغها أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: ما يبكيك؟ قالت: قالت لي حفصة أني بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وعمك نبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة. وذكر النساء لمزيد الإيضاح والتبيين، ولدفع توهم أن هذا النهي خاص بالرجال. قوله: ﴿ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ﴾ اللمز في الأصل الإشارة بالعين ونحوها. قوله:: (ولا تعيبوا فتعابوا) أشار بذلك إلى توجيه قوله: ﴿ أَنفُسَكُمْ ﴾ وذلك لأن الإنسان إذا عاب غيره، عابه ذلك الغير، فقد عاب الشخص نفسه بتسببه. قوله: (أي لا يعب بعضكم بعضاً) هذا توجيه آخرـ فكان الأولى للمفسر أن يأتي بأو، والمعنى: أن المؤمنين كشخص واحد، فمن عاب غيره، كأنه عاب نفسه، ومن هذا المعنى قول العارف: إذا شئت أن تحيا سعيداً من الردى   وحفظ موفور وعرضك صينلسانك لا تكر به عورة امرئ   فكلك عورات وللناس ألسنوعينك إن أبدت إليك معايباً   فدعها وقل يا عين للناس أعينفعاشر بمعروف وسامح من اعتدى   وفارق ولكن بالتي هي أحسنقوله: ﴿ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ ﴾ النبز بفتح الباء اللقب مطلقاً، حسناً أو قبيحاً، ثم صار مخصوصاً بما يكره الشخص، وسبب نزول هذه الآية كما قال جبيرة بن الضحاك الأنصاري: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا له اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا فلان، فيقولون: مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فأنزل الله هذه الآية، ومن ذلك الشتم كقولك لأخيه: يا كلب يا حمار ونحو ذلك، والمراد بهه الألقاب ما يكرهه المخاطب، وأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها، كالأعمش والأعرج، وما أشبه ذلك، فلا بأس بها، إذا لم يكرهه المدعو بها، وأما الألقاب التي تشعر بالمدح فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عنيق، ولعمر فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي: أبو تراب، ولخالد: سيف الله، ونحو ذلك. قوله: ﴿ بِئْسَ ٱلاسْمُ ﴾ ﴿ بِئْسَ ﴾ فعل ماض، والاسم فاعل، وقوله: ﴿ ٱلْفُسُوقُ ﴾ بدل من الاسم كما قال المفسر، وعليه بالمخصوص بالذم محذوف تقديره هو، والأوضح إعرابه مخصوصاً بالذم، والمراد بالاسم الذكر المرتفع. قوله: ﴿ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ ﴾ أي الاتصاف بالفسوق، بعد الاتصاف بالإيمان، والمراد بالفسوق: الخروج عن الطاعة. قوله: (لإفادة أنه) أي ما ذكر من السخرية، الخ. قوله: (لتكرره عادة) أي وإنه وإن كان المذكور صغيرة لا يفسق بها، لكنه في العادة يتكرر، فيصير كبيرة يفسق بها. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي الضارون لأنفسهم بمعاصيهم ومخالفتهم، ففي هذه الآيات وصف المؤمنين بالفسق والظلم، وإن كان في غالب الآيات، إطلاق الفسق والظلم على أهل الكفر.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ ﴾ قيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما،" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر، ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين، يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل، فهي لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب، فضم سلمان إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدم سلمان إلى المنزل، فغلبته عيناه فنام، ولم يهيء لهما شيئاً، فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئاً؟ قال: لا، غلبتني عيناي، قالا له: انطلق إلى رسول الله فاطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى أسامة بم زيد وقل له: إن كان عنده فضل طعام وإدام فليعطك، وكان أسامة خازن طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئاً، فلما رجع قالوا: لو بعثناك إلى بر سمحة لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسسان، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قال: والله يا رسول الله، ما تناولنا يومنا هذا لحماً، قال: ظلمتما بأكل لحم سلمان وأسامة، "فنزلت الآية، والمعنى: أن الله تعالى نهى المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شراً، كأن يسمع من أخيه المسلم كلاماً لا يريد به سوءاً، أو يدخل مدخلاً لا يريد به سوءاً، فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءاً، لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحاً، وفي نفس الأمر لا يكون كذلك، لجواز أن يكون فاعله ساهياً، ويكون الرائي مخطئاً، فأما أهل السوء والفسق المتجاهرين بذلك، فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم. قوله: ﴿ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ ﴾ أبهم الكثير إشارة إلى أنه ينبغي الاحتياط والتأمل في كل ظن، خوف أن يقع في منهي عنه، قال سفيان الثوري: الظن ظنان: أحدها إثم، هو أن يظن ويتكلم به، والآخرة ليس بإثم، وهو أن يظن ولا يتكلم به. قوله: (وهو) أي بعض الظن كثير، وقوله: (وهم) أي أهل الخير. قوله: (بخلافه بالفساق منهم) أي المؤمنين، وقوله: (في نحو ما يظهر منهم) أي نحو المعاصي التي تظهر منهم، بأن يتجاهروا بها. قوله: ﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ العامة على قراءة بالجيم، وقرئ شذوذاً بالحاء، واختلف فقيل معناهما واحد، وقيل التجسس بالجيم البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء طلب الأخبار والبحث عنها، والمعنى: خذوا ما ظهر، ولا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم، تبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته. قوله: ﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً ﴾ اعلم أن الغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك والبهتان، فأما الغيبة فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه، وقيل: إن كلا يطلق على كل وهو المشهور.- واعلم - أن هذه الأمور المتقدم ذكرها كبائر تحتاج لتوبة، وهل تفتقر لاستحلال المغتاب ونحوه أو لا؟ فقال جماعة: ليس عليه الاستحلال، بل يكفيه التوبة بينه وبين الله، لأن المظلمة ما تكون في النفس والمال، ولم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه، وقال جماعة: يجب عليه أن يستغفر لصاحبها، لما ورد عن الحسن: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته، وقال جماعة: عليه الاستحلال منها ولو إجمالاً، ويستثنى من الغيبة المحرمة سبعة أمور نظمها بعضهم بقوله: تظلم واستغث واستفت حذر   وعرف بدعة فسق المجاهرقوله: ﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الخ، تمثيل لما يناله المغتاب من عرض ما اغتابه على أقبح وجه، وإنما مثله بهذا، لأن أكل لحم الميت حرام في الدين، وقبيح في النفوس. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (لا يحست به) تفسير لميتاً، وقوله: (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله: ﴿ فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ الضمير عائد على الأكل المفهوم من ﴿ يَأْكُلَ ﴾.
قوله: (أي فاغتابه في حياته) الخ، في هذا التمثيل إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه، لأن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه، كما يتألم جسمه من قطع لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الإنسان، لم يحسن منه قرض عرضه، بالأولى. قوله: (قابل توبة التائبين) يشير به إلى أن المبالغة في تواب، للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده، لأنه ما من ذنب إلا ويعفو الله عنه بالتوبة إذا استوفيت شروطها. واعلم أن تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾[الحجرات: ١١] وقال هنا ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴾ لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله:﴿ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ﴾[الحجرات: ١١] ذكر النفي الذي هو قريب من النهي، وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله: ﴿ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ ﴾ ذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر تأمل.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ ﴾ اختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس: لما كان يوم فتح مكة، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا ظهر الكعبة فأذن، فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم، وقال الحرث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، وقال سهل بن عمرو: وإن يرد الله شيئاً يغيره، وقال أبو سفيان: أنا لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره رب السماوات، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، زجراً لهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء، وأن المدار على التقوى، لأن الجميع من آدم وحواء، وإنما الفضل بالتقوى، وقيل: نزلت في أبي هند، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا لرسول الله: نزوج بناتنا موالينا؟ وقيل: نزلت في قيس بن ثابت حين قال له رجل: افسح لي، فقال: إن ابن فلانة يقول: افسح لي، كناية عن استخفافه به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ قال ثابت: رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: إنك لا تفضلهم إلا بالتقوى، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ ﴾[المجادلة: ١١] الآية. قوله: (آدم وحواء) لف ونشر مرتب. قوله: (هو أعلى طبقات النسب) أي فالشعوب رؤوس القبائل، وسمي شعباً لتشعب القبائل منه. قوله: (ثم الفضائل آخرها) أي فالمراتب ست، وزاد بعضهم سابعة وهي العشيرة، وكل واحدة تدخل فيما قبلها، فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل؛ والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل. قوله: (بكسر العين) أي وفتحها، ففيها لغتان، لكن الأفصح الفتح. قوله: (ليعرف بعضكم بعضاً) أي فتصلوا أرحامكم وتنتسبوا لآبائكم. قوله: (وإنما الفخر بالتقوى) أي الافتخار المحمود، إنما يكون على أهل الكفر بترك الشرك والتمسك بالإسلام وشعائره. قوله: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ أي أعزكم عند الله أكثركم تقوى، فهي سبب رفعة القدر في الدنيا والآخرة، وانظر إلى قوله: ﴿ أَتْقَاكُمْ ﴾ ولم يقل أكثركم مالاً ولا جاهاً، ولا أحسنكم صورة، ولا غير ذلك من الأمور التي تفتى. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ ﴾ أي يعلم ظواهركم خبير يعلم بواطنكم، فلا يخفى عليه شيء. قوله: (نفر من بني أسد) أشار بذلك إلى سبب نزول هذه الآية، وذلك أنهم قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طريق المدينة بالعذرات وأعلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن جئناك بالأطفال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون الصدقة ويقولون أعطنا، فنزلت هذه الآية. قوله: (صدقنا بقلوبنا) جواب عما يقال: إن الإسلام والإيمان متلازمان، فأجاب: بأن المنفي هنا الإيمان بالقلب، والمثبت الانقياد ظاهراً، فهما متغايران بهذا الاعتبار، وأما الإسلام والإيمان الشرعيان المعتبران متحدان ما صدقا، وإن ان مفهومهما مختلفاً، إذ الإيمان هو التصديق القلبي بشرط التعلق بالشهادتين، والإسلام الانقياد الظاهري الناشئ عن التصديق القلبي.
قوله: ﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ﴾ أي فلا تقولوا آمنا، وقوله: ﴿ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا ﴾ أي فحصل منكم الإسلام ظاهراً، ففي الآية احتباك، حذف من كل نظير ما أثبت في الآخر. قوله: (إلى الآن) أخذه من لما، لأن نفيها مختص بالحال، وقوله: (لكنه يتوقع منكم) أشار إلى أن منفي لما متوقع الحصول، ففيه بشارة لهم بأنهم سيؤمنون وقد حصل، وبهذا اندفع ما قد يتوهم من أن هذه الجملة مكررة مع قوله: ﴿ لَّمْ تُؤْمِنُواْ ﴾ وإيضاح الجواب أن هذه الجملة أفادت معنى زائداً، وهو نفي الإيمان مع توقع حصوله، بخلاف الأولى فإنها أفادت نفيه فقط، قوله: (بالهمز) أي من ألت من بابي ضرب ونصر. قوله: (وتركه) أي من لات يليت كباع يبيع، فحذفت منه عين الكلمة وهي الياء، وقيل: هو من ولت يلت، كوعد يعد، فحذفت منه فاء الكلمة وهي الواو قوله: (وبإبداله ألفاً) أي فالقراءات ثلاث سبعيات. قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ مبتدأ خبره قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾.
قوله: ﴿ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ﴾ أتى بثم إشارة إلى أن نفي الريب لم يكن وقت حصول الإيمان، بل هو حاصل فيما يستقبل فكأنه قال: ثم داموا على ذلك. قوله: ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي طاعته. قوله: (فجاهدهم يظهر صدق إيمانهم) أي أن الجهاد في سبيل الله، دل على أنهم صادقون في الإيمان وليسوا منافقين، وهو جواب عن سؤال وهو أن العمل ليس من الإيمان، فكيف ذكر أنه منه في هذه الآية؟ وإيضاح الجواب عنه: أن المراد من الآية الإيمان الكامل. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾ فيه تعريض بكذب الأعراب في ادعائهم الإيمان، فلما نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسول الله يحلفون أنهم مؤمنون صادقون، وعلم الله منهم غير ذلك، فأنزل الله ﴿ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ ﴾ الخ. قوله: (مضعف علم بمعنى شعر) أي وهو بهذا المعنى متعد لواحد فقط، وبواسطة التضعيف يتعدى لاثنين، أولهما بنفسه، والثاني بحرف الجر. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ الخ، الجملة حالية. قوله: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾ أي يعطون إسلامهم منه عليك. قوله: (من غير قتال) أي لك ولأصحابك. قوله: (ويقدر) أي الخافض الذي هو الباء. والحاصل أنه مقدر في ثلاثة مواضع: الأول منها قوله: ﴿ أَنْ أَسْلَمُواْ ﴾.
الثاني قوله: ﴿ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ ﴾.
الثالث قوله: ﴿ أَنْ هَداكُمْ ﴾ فموضعان فيهما ﴿ أَنْ ﴾ وموضع خال عنها. قوله: ﴿ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ أي على حسب زعمكم، كأنه قال: إن إيمانكم على فرض حصوله منه من الله عليكم. قوله: ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ أي فلا يخفى عليه شيء فيهما. قوله: بالياء) أي نظراً لقوله: ﴿ يَمُنُّونَ ﴾ وما بعده، وقوله: (والتاء) أي نظراً لقوله: ﴿ لاَّ تَمُنُّواْ ﴾ وهما قراءتان سبعيتان.
Icon