تفسير سورة نوح

بيان المعاني
تفسير سورة سورة نوح من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة نوح عدد ٢١- ٧١- ٧٧
نزلت بمكة بعد سورة النحل، وهي ثمان وعشرون آية، ومثلها في الآي سورة التحريم فقط، ومئتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعة وتسعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» وقلنا له «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ١ وهو الغرق العام في الدنيا والعذاب الفظيع في الآخرة وهو أخزى وآلم من عذاب الدنيا، وتقدم نسب سيدنا نوح مع قصته وقومه في الآية ٣٧ من سورة هود المارة، «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ» من الله «نَذِيرٌ مُبِينٌ» ٢ لا أخفي عليكم شيئا مما أرسلني به إليكم وأول ما آمركم به هو «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ» ٣ فيما أرشدكم إليه فإن فعلتم ما أنصح به إليكم «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» السابقة التي بينكم وبينه، أما الحقوق التي بينكم فعليكم أن تؤدوها لمستحقيها، لأن الإيمان لا يسقطها، إلا أن تسامحوا بينكم، وإلا فتعاقبوا عليها وتؤاخذوا بها، ولهذا المغزى قال تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها ولم يقل ذنوبكم، لما فيه من الشمول بحقوق الناس، على أنه إذا شاء فإنه يرضي خصومكم ويتوب عليكم «وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده لم يطلع أحدا عليه ومن رحمته بكم أن أمهلكم ولم يجعل عقوبتكم كي ترجعوا إليه قبل حلوله «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ» أبدا عن وقته، لأن العذاب والموت لهما أجلان عند الله لا ينزلهما بعباده إلا بانقضائهما «لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ٤ حقيقة ما أقوله لكم وعاقبته لسارعتم لما آمركم به ولقبلتموه نوا، ولكنكم لستم من أهل العلم لتفقهوا نفع ما جئتكم به، ولا يقال كيف يقول يؤخركم، ثم قال إذا جاء لا يؤخر، لأن الله تعالى قضى في سابق علمه أن قوم نوح إذا آمنوا يعمرون ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكوا قبل ذلك، فقال لهم رسولهم آمنوا يؤخركم إلى وقت سماه لكم تنتهون إليه، وهو الأطول، ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت الأقل
لأنه بني على سبب وهو معلق على وجوده، وذلك مبرم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية الثانية من سورة الأنعام المارة فراجعه. ولا شك أنهم لو أطاعوه لعمرهم الله كما عمر أهل السفينة الذي يشير إليه قوله (يؤخركم) ولكنهم لمّا أصروا على كفرهم عجل لهم العذاب «قالَ» نوح عليه السلام على طريق الاعتذار والتقدم بأنه قام بواجبه لحضرة ربه أمام قومه بعد أن رأى نفرتهم عن الإيمان وعدم قبولهم النصح، صار يشكوهم إلى ربه «رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً» ٥ دائما مستمرا دائبا في دعوتهم إليك «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً» ٦ مني وإدبارا عني ونفارا من الإيمان بك «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ» منذ أمرتني حتى الآن «لِتَغْفِرَ لَهُمْ» ذنوبهم في المدة التي أمهلتهم بها «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ» لئلا يسمعوا دعوتي وتذكيري بك «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» لئلا يروني «وَأَصَرُّوا» على كفرهم «وَاسْتَكْبَرُوا» عن الإيمان وأنفوا من الطاعة «اسْتِكْباراً» ٧ تعاظما وتطاولا علي وهوانا بي واستخفافا بما جئتهم به من لدنك، حتى انهم كرهوا رؤيتي «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً» ٨ بأعلى صوتي في محافلهم وطرقهم ومجتمعاتهم وحدانا وجماعة «ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ» بدعوتي هذه على ملأ منهم «وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» ٨ فيما بيني وبينهم إذ لم أترك طريقا من طرق الإرشاد والنصح إلا سلكته معهم ودعوتهم به «فَقُلْتُ» في تلك الحالات كلها «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» من كفركم ومن ظلم بعضكم «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» ١٠ عظيم المغفرة كبير العفو لا يؤاخذ على ما سبق، لأن الإيمان به يجبّ ما قبله فإن أجبتم فإنه بمحض كرمه وفيض جوده
«يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» ١١ كثيرا يزيل ما حلّ بكم من الجدب، ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث، وذلك أنه حبس عنهم الغيث وأعقم أرحام نسائهم مدة أربعين سنة لعدم إجابتهم دعوة نبيهم، ولهذا قال لهم ذلك بإلهام من الله تعالى وثقة به أن يفعل لهم ما يقوله، والمراد بالسماء السحاب أو المطر، قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال لهم أيضا «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ
265
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً»
١٢ فيها بأن يعطيكم من الخيرات أكثر مما كنتم عليه قبلا، وقال لهم هذا ليحركهم على الإيمان ويرغبهم بما يحدث عنه، لأنهم كانوا يحبون الأموال والأولاد فأتاهم من حيث تميل إليه نفوسهم وطبعهم، روي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن البصري (واعلم أنه كلما أطلق لفظ الحسن فقط فالمراد به هذا) فشكا إليه الجدب، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال استغفر الله، وشكا إليه آخر قلة النسل فقال استغفر الله، وشكا له آخر قلة ربيع أرضه فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع أتاك رجال يشكون أمورا متباينة فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فيكون دواء واحد لعلل مختلفة، فقال ما قلت من نفسي إنما اعتبرت قول الله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه استغفروا ربكم) الآية. ولما رآهم عليه السلام لا يلتفتون إليه ولا يصغون لهديه هددهم بما حكاه الله عنه بقوله «ما لَكُمْ» يا قوم أي شيء جرى لكم وما شأنكم ولم «لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً» ١٣ فلا تعتقدون عظمته ولا تقدرون هيبته؟ والوقار معنى السكون والحلم، وجاء هنا بمعنى العظمة والجبروت، لأنه يتسبب عنها في الأغلب، وعليه يكون المعنى لماذا لا تأملون لله تعظيما موجبا للإيمان به والطاعة إليه، ومن قال إن رجا بمعنى خاف واستدل بقول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها، غير سديد، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة والقول به يوجب ترجيح رواية الآحاد على التواتر، وهو غير جائز لإمكان التوسع بالألفاظ وجعل المثبت منفيا وبالعكس، وهذه الطريقة لا تسلك في الألفاظ القرآنية قطعا.
مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:
قال تعالى «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» ١٤ من حيث الجنسية كالطير في الضعف والاحتياج عند خروجه من البيضة فلا أضعف ولا أخرج للمداراة منه، وفي الصفة في كمال الخلق، فمنكم العالم والجاهل، والجليل والحقير، والغني والفقير، والكريم والبخيل، والسهل والصعب، والمريض والصحيح، وفي الكيفية في الصور من تمام الخلقة وناقصها، وحسن الخلق وسيئه، وحسن الخلق وقبحه، والدميم والقبيح، وفي ابتداء خلقكم أيضا طورا بعد طور، وتارة بعد تارة، وكرة بعد كرة بصورة
266
تدريجية، من النطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى لحم وعظام، إلى قوام بديع، وبعد تمام خلقكم جعلكم أصنافا مختلفين أيضا في اللون والشكل واللغة والطبع، راجع الآيتين ٦٤/ ٦٧ من سورة المؤمن المارة، والأطوار هي الأحوال المختلفة قال:
فإن أفاق فقد طارت عمايته والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وفي نقصانه أيضا ضعف في القوى والجوارح إلى أضعف تدريجا إلى حالة الهرم والخرف، فسبحان المبدئ المعيد الفعال لما يريد القائل «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» ١٥ بعضها فوق بعض «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً» يضيء ليلا «وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» ١٦ تضيء نهارا، وإنما سمى الأول نورا والآخر سراجا، لأن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد عنها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها ونور الشمس، لا بطريق الانعكاس من كوكب آخر، والله أعلم، راجع الآية ٩ من سورة القيامة في ج ١ وما ترشدك إليه تجد ما يتعلق بالكسوف والخسوف. «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» ١٧ بدأ خلق أصلكم آدم عليه السلام من الأرض والناس كلهم من صلبه ولم يأت المصدر من لفظ الفعل ليكون المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كما هو مشاهد لكم، لأن الإنبات من لفظ الفعل من صفات لله تعالى وصفاته غير محسوسه لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب إلا بإخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» ١٨ بديعا للحشر والحساب، أي يحييكم بعد إماتتكم بصورة لا يعرفها البشر، لأن الإحياء والإماتة من خصائصه جل شأنه، ثم طفق يعدد عليهم بعض نعمه فقال «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً» ١٩ لتمكنوا من التقلب فيها كيفما شئتم، وهذه الآية أيضا لا تنافي كروية الأرض لأنها مبسوطة بالنسبة لما نراه منها، وقد تكون بخلافه، وبسبب عظمها لا تظهر كرويتها للناظرين إلا بأدلة، ثم بين علّة البسط فقال «لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا» طرقا «فِجاجاً» ٢٠ واسعة وضيقة ومختلفة، والطرق تكون في السهل والجبل، والفجاج في الجبل فقط، وبعد أن ذكرهم بذلك كله وعدد عليهم نعم ربه وخوفهم عقابه، علم بإعلام الله إياه عدم إيمانهم، راجع
267
الاية ٣٦ من سورة هود المارة
«قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا» سفلتهم وفقراءهم «مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» ٢١ في الآخرة يعني رؤساءهم وأغنياءهم لأن مالهم وولدهم وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما بسبب الكفر صارا سببا للخسارة في الآخرة، وقرىء وولده بضم الواو لغة بالولد بفتحها ويجوز أن يكون جمعا كالفلك فيصدق على الواحد والمتعدّد، ثم شرع يعدد سيئاتهم فقال «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» ٢٢ مبالغة كبير يقرأ بالتخفيف والتشديد، وذلك لأنهم صدّوا الناس عن اتباعه بشتى الوسائل وسلطوا عليه السفهاء والعيد «وَقالُوا» رؤساؤهم وقادتهم لأتباعهم وسوقتهم وفقرائهم وسفلتهم «لا تَذَرُنَّ» لا تتركوا «آلِهَتَكُمْ» وداوموا على عبادتها، ثم أكدوا النهي وصرحوا بأسمائها فقالوا «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً» ٢٣ كما يقول لكم نوح، فهذه هي آهتكم فتمكوا بها ولا تنظروا إلى ما يقوله لكم، أفردوا هذه الأصنام الخمسة بالذكر مع أنها داخلة في آلهتهم، لأنها عندهم أعظمها، قالوا كانت ودّ بصورة رجل، وسواع بصورة أنثى، ويغوث بصورة أسد، ويعوق بصورة فرس، ونسر بصورة نسر، وكان لكل منها خدم وحشم وجماعة يعظمونها ويرجونها ويخافونها، ومنهم انتقلت عبادة الأوثان لما بعدهم من الخلق. روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت هذه الأوثان التي كانت تعبد قوم نوح في العرب تعبد، أما ود فكانت لكلب دومة الجندل، وسواع فكانت لهذيل، ويغوث لمراد، ثم صارت لبني غطيف بالجرف عند سبأ، ويعوق لهمدان، ونسر لحمير لآل ذي الكلاع، وهذه غير اللات التي كانت تعبدها ثقيف، والعزّى لسليم، وغطفان وجشم ومناة لخزاعة بقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، ولذلك سمت العرب أنفسها بعبد يغوث وعبد ودّ وعبد العزّى وغير ذلك (وكبّارا) لغة أهل اليمن، قال قائلهم:
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضّاء
وقال الآخر:
268
بتشديد الضاء في الأول والراء في الثاني، قال نوح عليه السلام «وَقَدْ أَضَلُّوا» كبراؤهم «كَثِيراً» من الناس «وَلا تَزِدِ» هذه الأصنام «الظَّالِمِينَ» أنفسهم بعبادتها «إِلَّا ضَلالًا» ٢٤ فوق ضلالهم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» العظيمة «أُغْرِقُوا» بسببها «فَأُدْخِلُوا ناراً» عقب إغراقهم بلا فاصلة بدليل العطف بالفاء، وهذه الآية تدل على عذاب القبر قبل البعث ويبعد حمله على عذاب الآخرة لإبطال دلالة الفاء، ولوجوب تفسير ادخلوا بفعل الاستقبال الصرف إلى سيدخلون وهو خلاف الظاهر، وتدل أيضا على أن من مات غرقا أو حرقا أو أكلته السباع أو الطير أو الحوت مثلا، أصابه ما أصاب المقبور من عذاب القبر، قال الضحاك:
كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من آخر، وأنشد ابن الأنباري:
بيضاء تصطاد القلوب وتسمّي بالحسن قلب المسلم القرّاء
الخلق مجتمع طورا ومفترق والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت فالله يجمع بين الماء والنار
«فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» ٢٥ يخلصونهم من الغرق لا من قادتهم ولا من أوثانهم، وفي الآية تعريض بتفنيد زعمهم بأن آلهتهم تنصرهم وتهكم في اعتقادهم بها وتوبيخ لهم لأن أصنامهم وزعماءهم أغرقوا معهم. وقدمنا ما يتعلق بعذاب القبر في الآية ٤٦ من سورة المؤمن وله صلة في الآية ٢٧ من سورة إبراهيم الآتية.
وبعد أن عدد مساوئهم وتحقق إياسه منهم وقد توغر صدره عليه السلام طيلة عشرة قرون تقريبا وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله وترك لأوثان ولم يصغوا له وأصروا على تكذيبهم له وازدادت إهانتهم له، دعا عليهم كما ذكر الله «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» ٢٦ يدور عليها أو يسكن فيها، وهذه الكلمة لا تستعمل إلا بالنفي العام ولم تكرر في القرآن، يقال ما بالدار ديار أو ديّور، أي ما بها أحد، وأصله ديوارا اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في مثلها. وإشراك غير قومه بالدعاء يثبت عموم بعثته عليه السلام من حيث آخرها كما أشرنا إليه في الآية ٧٣ من سورة يونس المارة، واستدل بعضهم في هذه الآية على عموم الطوفان، على أن لفظ الأرض يطلق على قطعة منها، قال تعالى (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية ١٠٣
269
من سورة الإسراء ج ١، إذ المراد بها أرض مصر فقط، وقال تعالى (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) الآية ٧١ منها، والمراد بها مكة، لأنه لا قدرة لهم على غيرها، كما أن سلطان مصر لا حكم له على غيرها لقوله تعالى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الآية ٢٥ من القصص في ج ١ أيضا، إذ لو كان لسلطان مصر سلطان على أرض مدين التي فيها شعيب لما قال هذا الكلام لموسى وفي هذه الآية دليل أيضا على أن البلاء يعم لأن الله تعالى أغرق معهم أطفالهم وحيواناتهم، قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ٢٥ من الأنفال في ج ٣، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٤٤ من سورة يونس فراجعه. ثم بين السبب في طلب إهلاكهم جميعا بقوله «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ» يا سيدي على ما هم عليه من الكفر «يُضِلُّوا عِبادَكَ» بسوقهم إلى الضلال، قال ابن عباس:
كان الرجل منهم يأخذ ابنه إلى نوح عليه السلام ويحدره من اتباعه ويقول له إن أبي حذرني اتباعه وها أبي أحذرك منه فاحذره، فأوص ولدك من بعدك بعدم اتباعه، ولهذا قال عليه السلام «وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» ٢٧ عريقا في الكفر، إذ تلقاه عن أبيه كما تلقاه أبوه عن جده، ولشدة إصراره عليه بوصي به ولده من بعده. ثم انه عليه السلام لما رأى دعوته هذه قد أجيبت بإلهام من الله تعالى له وظن أن ذلك ناشىء من عدم قيامه بالدعوة الإلهية كما ينبغي من إدمان الصبر وتحمل الأذى استغفر ربه عز وجل وقال «رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما وقع مني من التقصير في خدمتك ودعوة عبادك واستعجالي عليهم بالدعاء، وهذا على الاحتمال وهضما للنفس، وإلا فهو عليه السلام مبرا من التقصير وحاشاه أن يوصف بالاستعجال بعد صبره عليهم ألف سنة تقريبا، ولكن الأنبياء يخافون ربهم بقدر قربهم منه، والعبد كلما قرب من ربه عظمت هيبته في صدره وازداد خوفا منه وبدأ بطلب المغفرة لنفسه أولا، لأنها أولى بالتقديم، وهكذا كان محمدا ﷺ يبدأ بنفسه بالدعاء ثم يثني بالمتصلين به لأنهم أحق من غيرهم، فقال «وَلِوالِدَيَّ» أبيه لمك بن متوشلح وأمه شمناء بنت انوش، قالوا وكان بينه وبين آدم عليه السلام عشرة آباء كلهم مؤمنون، ثم عمم بدعائه فقال «وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً» قيد بالمؤمن
270
Icon