ﰡ
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ الآيةَ، اخْتُلِفَ في أول ما نزل من القرآن، فقال الجمهورُ هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وهذَا هو الأَصَحُّ، وقال جابر وجماعة هو:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «١»، - ص-: والتَّدَثَّرُ: لُبْسُ الدِّثَارِ، وهو الثَّوْبُ الذي فَوْقَ الشِّعَارِ، والشِّعَارُ الثَّوبُ الذي يلي الجسد ومنه قوله: ع: «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ» انتهى.
وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ بَعْثَةٌ عامةٌ إلى جميع الخلق.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: فعظمْ.
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال ابنُ زيدٍ وجماعة: هو أمْرٌ بتطهيرِ الثيابِ حَقِيقةً «٢»، وذَهَبَ الشافعيُّ وغيرُه من هذه الآيةِ إلى: وجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مِنَ الثيابِ، وقالَ الجُمْهُورُ:
هَذِه الألْفَاظُ اسْتِعَارَةٌ في تنقيةِ الأفْعَالِ والنَّفْسِ، والعْرِضِ، وهذا كما تقول: فلانٌ طَاهِرُ الثوبِ، ويقال للفَاجِر: دَنِسُ الثَّوْبِ، قال ابن العربي في «أحكامه» : والذي يقول إنها الثيابُ المَجَازِيَّة أكْثَرَ، وكثيراً ما تستعملُه العَرَبُ، قال أبو كبشة: [الطويل]
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٠)، رقم: (٣٥٣٣٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٣)، وابن عطية (٥/ ٣٩٢)، وابن كثير (٤/ ٤٤١) بنحوه.
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طهارى نَقِيَّةٌ | وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانُ «١» |
[الطويل]
فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ | لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «٢» |
تَقْصِيرُ الأَذْيَالِ فإنَّها إذا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ، وتَقْصِيرُ الذيلِ أَنْقى لثَوْبِه وأتْقَى لربِّه، المَعْنَى الثَّاني: غَسْلُها من النَّجاسَةِ فهو ظَاهِرٌ منها صحيحٌ فيها، انتهى، قال الشيخ أبو الحسن الشاذليُّ- رضي اللَّه عنه-: رأَيْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في المَنَامِ، فقالَ: يَا عَلِيُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ الدَّنَسِ، تَحْظَ بمَدَدِ اللَّهِ في كُلِّ نَفَسٍ، فَقُلْتُ: وَمَا ثِيَابي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ كَسَاكَ [حُلَّة المَعْرِفَةِ، ثُمَّ] «٥» حُلَّةَ المَحَبَّةِ، ثُمَّ حلةَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ حُلَّةَ الإيمان، ثمّ حلّة
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩٢)، «البحر المحيط» (٨/ ٣٦٣)، القرطبي (١٩/ ٤٢). [.....]
(٣) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٢/ ١٥٢)، «سلاسل الذهب» له ص: (١٨٢)، «التمهيد» للأسنوي ص: (١٨٥)، «نهاية السول» له (٢/ ١٤٥)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٣٢٧)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (٤٦)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١/ ٢٢١)، «المستصفى» للغزالي (١/ ٣٤١)، «حاشية البناني» (١/ ٣٠٠)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٢٧١)، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (٢/ ١٥٢)، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (٦٨)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٩٣)، «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ١٤، ٢/ ٤٠٥)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤/ ٤٣٧)، «التحرير» لابن الهمام ص: (١٦٠)، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١/ ٧٢، ٢/ ٢).
(٤) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٢/ ١٥٨)، «سلاسل الذهب» له ص: (١٩٠)، «التمهيد» للأسنوي ص: (١٨٥)، «نهاية السول» له (٢/ ١٤٥)، «منهاج العقول» للبدخشي (١/ ٣٥٤)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (٤٧)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١/ ٢٢١)، «المستصفى» للغزالي (١/ ٣٤١)، «حاشية البناني» (١/ ٣٠٤)، «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٢٧١)، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (٢/ ١٥٢)، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (٣٨٧)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٩٩)، «المعتمد» لأبي الحسين (١/ ١٤، ٢/ ٤٠٥)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤/ ٤٣٧)، «التحرير» لابن الهمام ص: (١٦٠)، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١/ ٧٣، ٢/ ٣)، «كشف الأسرار» للنسفي (١/ ٢٢٦).
(٥) سقط في: د.
وَالرُّجْزَ يعني الأصْنَام والأَوثَانَ، وقال ابن عباس: الرُّجْزُ السَّخَط «١» يعني: اهْجُرْ ما يؤدي إليه ويوجبُه، واخْتُلِفَ في معنى قولهِ تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فقالَ ابن عباس وجماعة: معناه لاَ تَعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أكْثَرَ منه «٢»، فكأَنه من قولهم: مَنَّ إذَا أَعْطَى، قال الضحاك: وهذا خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومُبَاحٌ لأُمَّتِه، لكنْ لاَ أجْرَ لهم فيه «٣»، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه ولاَ تَمْنُنْ على اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرْ أعْمَالَك، ويَقَعْ لَكَ بها إعْجَابٌ «٤»، قال ع «٥» : وهَذَا مِنَ المنِّ الذي هو تعديدُ اليَدِ وذكرُها، وقال مجاهد: معناه ولاَ تَضْعُفْ تَسْتَكْثِرْ مَا حَمَّلْنَاك من أعباء الرسالةِ، وتستكثرْ مِنَ الخَيْرِ وهَذَا من قولهم حبل منين أي: ضعيف «٦».
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي لوجهِ ربِّكَ وطَلَبِ رضَاهُ فاصْبِرْ على أذَى الكفارِ، وعلى العبادةِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ وعَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، قال ابن زيدٍ: وعَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ «٧»، ولَقَدْ حُمِّلَ أمْراً عظيما صلّى الله عليه وسلّم، والنَّاقُورُ: الذي يُنْفَخُ فيه، وهو الصُّور قاله ابن عبّاس
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠١)، رقم: (٣٥٣٤٦) عن ابن عبّاس، وغيره رقم: (٣٥٣٤٧)، (٣٥٣٤٨)، (٣٥٣٤٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٣)، وابن كثير (٤/ ٤٤١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٥٢)، وعزاه للطبراني.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٢)، رقم: (٣٥٣٦٢)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٤)، وابن عطية (٥/ ٣٩٣)، وابن كثير (٤/ ٤٤١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٥٢)، وعزاه لعبد بن حميد.
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٢)، رقم: (٣٥٣٦٣)، (٣٥٣٦٤)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٤)، وابن عطية (٥/ ٣٩٣).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩٣).
(٦) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٣)، رقم: (٣٥٣٦٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٤)، وابن عطية (٥/ ٣٩٣)، وابن كثير (٤/ ٤٤١). والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٥٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٧) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٣)، رقم: (٣٥٣٧٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٣).
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١١ الى ١٥]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥)
وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً الآية، لا خلافَ بَيْنَ المفسرين أن هذه الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بن المغيرةِ المخزومي، فَرُوِيَ أنَّه كَانَ يُلَقَّبُ الوحيدَ أي: لأنه لاَ نَظِيرَ له في مالهِ وشَرَفهِ في بيتِه، فَذَكَرَ الوَحِيدَ في جملة النِّعَمِ التي أُعْطِيَ، وإنْ لم يَثْبُتْ هذا فقوله تعالى: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه: منفَرِداً قليلاً ذَلِيلاً، والمالُ الممدودُ قال مجاهد وابن جبير: هو ألْفُ دينار «٤»، وقال سفيان: بلغني أَنَّهُ أربَعة آلافٍ وقاله قتادة «٥»، وقيل عَشَرَةُ آلافِ دينار، قال ع «٦» : وهذا مَدّ في العدَدِ، وقال عمر بن الخطاب: المالُ الممدودُ:
الرَّيْع المستغَلُّ مُشَاهَرةً «٧».
وَبَنِينَ شُهُوداً أي حُضُوراً، قيل عشَرَةٌ وقِيلَ ثَلاَثَةُ عَشَرَ، قال الثعلبيُّ/: أسْلَم منهم ثلاثةٌ خَالد بْن الوليدِ، وهِشَام، وعِمَارَة، قالوا: فما زال الوليدُ بَعْد نزولِ هذهِ الآيةِ في نُقْصَانٍ من ماله وولده حتى هلك، انتهى.
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٧٤).
(٣) ذكره الرازي (٣٠/ ١٧٤).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٦)، رقم: (٣٥٣٩٥- ٣٥٣٩٦)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٤)، وابن عطية (٥/ ٣٩٤). [.....]
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٦)، رقم: (٣٥٣٩٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٤)، وابن عطية (٥/ ٣٩٤).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩٤).
(٧) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٠٦- ٣٠٧)، رقم: (٣٥٤٠٠، ٣٥٤٠٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٤).
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ١٦ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠)
ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨)
وقوله تعالى: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ له على أمنيّته، وسَأُرْهِقُهُ معناه أُكَلِّفُه بمشقَةٍ وعُسْرُ، وصَعُودٌ عَقَبَةٌ في نَارِ جهنَّمَ، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كُلَّما وُضِعَ عليها شَيءٌ مِن الإنْسَانِ ذَابَ، ثم يَعُودُ، والصَّعودُ في اللغة: العَقَبَةُ الشَّاقَة.
وقوله تعالى مخبراً عن الوليد: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآية، رَوَى جمهورٌ من المفسرينَ:
أن الوليدَ سَمِعَ من القرآن ما أعْجَبَه وَمَدحَه، ثم سمِعَ كذلك مراراً، حتى كَادَ أنْ يُقَارِبَ الإسْلامِ، وقال: واللَّه لَقَدْ سمعتُ من محمدٍ كلاماً مَا هُو مِنْ كلامِ الإنْسِ، ولا هو مِنْ كَلامِ الجنِّ، إنَّ له الحلاوة، وإنَّ عليه لَطَلاَوَةً، وإنَّ أَعْلاَهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإِنَّه يَعْلُو، وَمَا يُعْلَى، فقالتْ قريشٌ: صَبَأَ الوليدُ واللَّه لتصبأَنَّ قريشٌ، فقال أبو جهل: أنا أكْفِيكُمُوه فَحاجَّه أبو جهل وجماعة حتَى غَضِبَ الوليدُ، وقال: تَزْعُمُون أَنَّ محمداً مجنُونٌ، فَهَلْ رأيتمُوه يُخْنَقُ قَط؟ قالوا: لا، قال: تزعمُون أنه شاعر، فهل رأيتموه يَنْطِق بشعرٍ قط؟
قالوا: لا، قال: تَزْعَمُونَ أَنّه كاهنٌ، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا لا، قال: تَزْعمُونَ أَنَّه كذابٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عليه شيئاً من الكذبِ قط؟ قالوا: لا، وكانوا يُسمُّونه قبلَ النبوةِ الأمِينُ لِصِدْقِهِ، فَقَالَتْ قريش: ما عندَك فيه؟ فتفكَّرَ في نفسه، فقال: ما أرى فيه شيئاً مما ذكرتمُوه فقالوا: هو ساحرٌ، فقال: أما هذا فُيُشْبِه، / وألفاظ الرواة هنا مُتَقَارِبَة المعاني مِنْ رواية الزهري وغيره.
وقوله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ قَالَ الثعلبيُّ وغيرُه: قُتِلَ معناه: لُعِنَ، انتهى.
وَبَسَرَ أي قَطَبَ مَا بَيْنَ عينيه واربد وَجْهُه ثم أدْبَر عَنْ الهُدَى بعد أن أقْبَلَ إليهِ، وقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: يُرْوَى، أي: يرويه محمدٌ عن غيره.
وسَقَرُ هي الدَّرْكُ السادسِ منَ النَّارِ، لاَ تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقي فيها وَلا تَذَرُ غايةً من العذاب إلا وصّلته إليه.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣)
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥)
وقولُه تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ لاَ خِلاَفَ بينَ العلماءِ أنهم خَزَنَةُ جهنمَ المحيطونَ بأمْرِها الذين إليهم جِمَاع أمْرِ زبانِيَتِها، ورُوِي أن قريشاً لما سَمِعَتْ هذا كَثُرَ لَغَطُهم فيه، وقالوا: ولَوْ كَانَ هذا حقاً، فإن هَذَا العَدَدَ قليلٌ، وقالَ أبو جهل: هؤلاء تسعةَ عشَرَ، وأنْتُمْ الدُّهْمُ أي: الشُّجْعَانُ: أفَيَعْجَزُ عشرةٌ منا عن رجلٍ منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفةِ.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً تَبْيينٌ لفسادِ أقوالِ قريشٍ، أي:
إنا جَعَلْنَاهم خَلْقاً لا قِبَلَ لاًّحَدٍ من الناس بهم وجعلنا عِدَّتَهم هذا القدرَ فتنةً للكفارِ لِيَقَع منهم من التعاطِي والطَّمَعِ في المغالَبَةِ ما وقع، ولِيَسْتَيْقِنَ أهلُ الكتابِ- التوراةِ والإنجيلِ- أنَّ هذا القرآنَ مِنْ عندَ اللَّهِ، إذْ هُمْ يَجِدُونَ هذهِ العدةَ في كُتُبِهم المنزَّلةِ، قال هذا المعنى ابنُ عباسٍ وغيرُه «٣»، وبوُرُودِ الحقائقِ من عند الله- عز وجل- يَزْدَادُ كلُّ ذِي إيمانٍ إيمَاناً، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِنْ أهْلِ الكتابِ ومِنَ المؤمنين.
وقوله سبحانه: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.... الآية، نوعٌ من الفتنةِ لهذا الصِّنفِ المنافِق أو الكافرِ، أي حَارُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَقْصِدِ الحقِ، فجعلَ بَعْضُهم يَسْتَفْهِمُ بَعْضاً عن مرادِ اللَّه بهذا المثل، استبعاداً أنْ يكونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ، قال الحسين بن الفضل: السورة مكيَّةٌ وَلَمْ يكن بمكةَ نِفَاقٌ وإنَّما المرض في هذه الآيةِ الاضْطِرَابُ وضَعْفُ الإيمانِ «٤»، ثم قَالَ تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إعْلاماً بأن الأمْرَ فَوْقَ ما يتوهّم،
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٤١٦)، وابن عطية (٥/ ٣٩٦).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٣١٣)، رقم: (٣٥٤٤٧)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٦).
(٤) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٦).
وَما هِيَ يرادُ بها الحالُ والمخَاطبةُ والنِّذَارَةُ، وأقْسَمَ تعالى بالقَمَرِ وما بَعدَه تَنْبيهاً عَلَى النَّظَرِ في ذلكَ والفكرِ المؤدِّي إلى تعظيمهِ تعالَى وتحصيلِ معرفتِه تعالى مالك الكلّ وقوام الوجود، ونور السموات والأرضِ، لاَ إله إلاَّ هو العزيزُ القهارُ، وأدْبَرَ الليلُ معناه ولّى، وأسْفَرَ الصبح أضَاءَ وانتشرَ ضوؤه، قال ابن زيد وغيره: الضميرُ في قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ لجهنمَ، ويحتملُ أنْ يكُونَ الضميرُ للنِّذَارَةِ وأمْرِ الآخرة فهو للحالِ والقِصَّة «٢»، - ص-: والكُبَرُ جَمْعُ كُبْرى، وفي ع «٣» : جَمْعُ كبيرةٍ ولَعَلَّه وَهْمٌ من الناسِخ، انتهى.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١)
وقوله سبحانه: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الحسن: لا نَذِيرَ أدْهَى مِنَ النارِ «٤»، وقال ابن زيد: نَذِيراً لِلْبَشَرِ هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم «٥».
وقوله سبحانه: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ قال الحسن: هو وعيد نحو قوله: فَمَنْ/ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٦» [الكهف: ٢٩]، ثم قوَّى سبحانه هذا المعنى بقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ: إذ لزم بهذا القول أنَّ المُقَصِّرَ مرتهن بسوءِ عمله، وقال الضَّحَّاكُ: المعنى: كل نفس حَقَّتْ عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٣١٦)، رقم: (٣٥٤٦٣).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩٧).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣١٦)، رقم: (٣٥٤٦٧)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٨)، وابن عطية (٥/ ٣٩٨).
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٣١٧)، رقم: (٣٥٤٦٩)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٨)، وابن عطية (٥/ ٣٩٨).
(٦) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٩٨). [.....]
وقوله تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناءٌ ظاهره الانفصال، تقديره: لكن أصحاب اليمين في جنات.
- ص-: فِي جَنَّاتٍ أي: هم في جنات، فيكون خبر مبتدإ محذوف.
- م-: وأعربه أبو البقاء حالاً من الضمير في يَتَساءَلُونَ، انتهى.
قال ابن عباس: أَصْحابَ الْيَمِينِ هنا الملائكة «٢»، وقال الضَّحَّاكُ: هم الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى «٣»، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين «٤».
ت: وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال: أصحاب اليمين: أطفال المسلمين «٥»، انتهى من «التمهيد».
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٤٢ الى ٤٩]
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)
وقولهم: مَا سَلَكَكُمْ أي: ما أدخلكم، فيحتمل أنْ يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة.
وقوله تعالى: قالُوا يعني الكفار لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ... الآية، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان باللَّه، والمعرفة به، والخشوع له وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ يشمل الصدقة فرضاً كانت أو نفلاً، والخوض مع الخائضين: عَرَّفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت قاله المفسرون.
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٤١٨)، وابن عطية (٥/ ٣٩٨).
(٣) ذكره ابن عطية (٥/ ٤٩٨).
(٤) ذكره البغوي (٤/ ٤١٨)، وابن عطية (٥/ ٤٩٨).
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٤١٨)، رقم: (٣٥٤٧٩)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٨)، وابن عطية (٥/ ٤٩٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٥٩)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم.
[سورة المدثر (٧٤) : الآيات ٥٠ الى ٥٦]
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)
وقوله تعالى في صفة الكفار/ المعرضين: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ إثبات لجهلهم لأَنَّ الحمر من جاهل الحيوان جدًّا، وفي حَرْفِ ابن مسعود «٣» :«حُمُرٌ نَافِرَةٌ» قال ابن عباس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد «٤»، وقيل غير هذا، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي: من هؤلاء أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي: يريد كل إنسان منهم أنْ ينزل عليه كتاب من اللَّه، ومنشرة، أي: منشورة غير مطوية.
وقوله: كَلَّا رَدٌّ على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ المعنى: هذه هي العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سَبَبَ امتناعهم من الهدى حتى هلكوا، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: كَلَّا وأخبر أنَّ هذا القولَ والبيانَ وهذه المحاورة بجملتها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ: ووفقه اللَّه لذلك، ذَكَرَ معادَه فعمل له، ثم أخبر سبحانه أنَّ ذكر الإنسان مَعَادَهُ وجريَه إلى فلاحه إنَّما هو كله بمشيئة اللَّه تعالى، وليس يكون شيء إلاَّ بها، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير: «يَذْكُرُونَ» بالياء من تحت «٥».
وقوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ خبر جزم معناه: أنّ الله عز وجل
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٨٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٩٩).
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٣٢٢)، رقم: (٣٥٥١٢، ٣٥٥١٥)، وذكره البغوي (٤/ ٤١٩) عن أبي هريرة فقط، وابن عطية (٥/ ٣٩٩)، وابن كثير (٤/ ٤٢٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٦١)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ولعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي هريرة.
(٥) ينظر: «إعراب القراءات» (٢/ ٤١٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٠٤)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٨٠)، و «العنوان» (١٩٩)، و «شرح شعلة» (٦١٣)، و «حجة القراءات» (٦٣٥)، و «إتحاف» (٢/ ٥٧٢).