تفسير سورة البلد

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة البلد من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة البلد مكية وآياتها عشرون، نزلت بعد سورة ق. وأهدافها نفس أهداف السور المكية : من تثبيت العقيدة، والتركيز على الإيمان بالحساب والجزاء، والتمييز بين الأبرار والفجّار.
بدأت السورة بالقسم بالبلد الحرام، موطن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي نشأ فيه، تعظيما لشأنه ؛ وبوالد وما ولد لأن بهما حفظ النوع وبقاء الإنسانية، على أن الإنسان خُلق في مشقة ومكابدة متاعب. ثم بينت أن هذا المخلوق مغترّ بنفسه، ينفق الأموال إرضاء لشهواته وأهوائه. وعددت النعم الكثيرة التي أنعم الله بها على الإنسان، وأن عتق الرقيق، وإطعام المحتاجين من الفقراء والأيتام والمساكين هو أهم سبيل يرضي الله ويوصل إلى الجنة. ثم خُتمت السورة بذكر الفرق بين المؤمنين والكفار ومآل كل منهم.

البلد : مكة المكرمة.
أقسم قسماً مؤكدا بمكة، التي شرّفها الله فجعلَها حَرماً آمنا.
حِل : مقيم فيه.
وأنت يا محمدُ ساكنٌ ومقيم بمكّة تزيدها شَرفا وقدْرا.
ووالدٍ وما ولد : كل والد ومولود من الإنسان والحيوان والنبات.
وأقسَم بكل والدٍ ومولودٍ من الإنسان وغيره، لأن بهما حِفظَ النوع وبقاءَ العمران. وقد أقسم الله تعالى بوالدٍ وما ولد ليوجّه أنظارنا إلى رفعة هذا الطور من أطوار الوجود. وهو طورُ التوالد، والى ما فيه من بالغِ الحكمة وإتقان الصنع، وإلى ما يعانيه الوالدُ والمولود في ابتداء النشء، وتكميلِ الناشئ وإبلاغِه حدَّ النمو المقدَّر له.
في كبَد : في مشقة وتعب.
لقد خلقنا الإنسان في مشقةٍ وتعب منذُ نشأتِه إلى منتهى أمره. فهو في مكابَدة وجَهدٍ وكَدْح، يقاسي من ضروب هذا التعبِ منذ نشأته في بطن أمّه إلى أن يصير رجلا. وكلّما كَبِرَ ازدادت متاعبُه ومطالبه، فهو في كَبَدٍ دائم، ولا تنتهي حاجاتُه إلا بانتهاء أجله ووفاته.
وبعد تقريرِ هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية شَرَعَ يبين لهذا الإنسان المغرور المبذِّر أنّ الله تعالى يراه في جميع أحوالِه، وأنه أنعَم عليه بنعمٍ لا تقدَّر فقال :
﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾
أيظن هذا الإنسانُ المخلوق في مشقة وتعبٍ أن لن يقدِر على إخضاعِه أحد !
أهلكتُ مالاً لبدا : أنفقت مالاً كثيرا.
يقول هذا المغرور بكثرة ماله : لقد أنفقتُ أموالاً كثيرة في سبيل الشهوات والشيطان.
أيظنُّ هذا المفتون بالشُّهرة والظهور أن الله غافلٌ عنه ! وأن أمره قد خفيَ فلم يطَّلع عليه أحد ؟ ! كلاّ إن الله تعالى مطّلعُ على أعماله وسيسأله عنها يوم القيامة ويحاسِبه حسابا عسيرا.
ثم ذكّره اللهُ تعالى بما أنعم عليه من نعمٍ لا تُحصى في خاصة نفسه وفي صَميم تكوينه واستعداده، ولكنه لم يشكر هذه النعم ولم يقُم بحقّها.
ألم نخلق له عينين ينظُر بهما دلائلَ قدرة الله في هذا الكون.
ولساناً وشفتين ليتمكّنَ من النطق والإفصاح عما في نفسه ! ؟ فالكلمةُ أحيانا تقوم مقام السيف والمدفع وأكثر....
وفي الحديث الصحيح عن معاذ بنِ جبلٍ رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركَ برأس هذا الأمرِ وعمودِه وذِروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سنامه الجهاد. ثم قال : ألا أخبرك بمَلاكِ ذلك كلّه ؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : كفَّ عليك هذا، وأشار إلى لسانه. قلت : يا نبيّ الله إلا حصائدُ ألسِنتهم ؟ رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
النَّجدَين : طريقَي الخير والشر، والنجد : المرتفع من الأرض.
بيّنا له طريقَ الخير والشر ليختارَ أيهما شاء، ففي طبيعته هذا الاستعدادُ المزدوج لسلوك أيّ النجدين..
اقتحم العقبة : دخل بشدة في الطريق الصعب.
هلاّ أنفقَ مالَه في سبيل الله حتى يجتازَ العقبة الصعبة.
وما أدراك ما هو اقتحامُ العقبة ؟
فكُّ رقبة : عتق العبيد.
هو إنفاقُ المال في تحريرِ الأرقاء.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : فكَّ رقبةً، والباقون : فَكُّ رقبةٍ.
في يوم ذي مسغبة : في يوم فيه جوع، سَغِبَ الرجلُ يسغب : جاع.
وإطعامُ الطعام في أيام المجاعة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : أو أطعمَ، والباقون : إطعامٌ بالتنوين.
يتيماً ذا مقربة : من أهل قرابته.
وأَولى الناس بالمواساة هم الأيتام من الأقارب.
أو مسكينا ذا متربة : فقيرا جدا.
وإطعامُ المساكين الذي عجزوا عن الكسْب حتى كأنهم لصقوا بالتراب من العجز والفقر.
تواصَوا بالصبر : نصح الناس بعضهم بعضا بالصبر.
ثم إن هؤلاء الذين يقتحمون العقبة بإنفاق أموالهم في وجوه البرّ والإحسان يكونون من المؤمنين الذين يعملون الخير، ويوصي بعضُهم بعضاً بالصبر والرحمة.. يرحمون عبادَ الله ويواسُونهم ويساعدونهم.
الميمنة : طريق النجاة والسعادة.
فهؤلاء هم أصحابُ اليمين، مآلهم الجنة في مقعدِ صِدقٍ عند مليك مقتدِر.
المشأمة : طريق الشقاء.
أما الذين جحدوا واغتَرّوا بأموالهم وأنفسِهم وكفروا بالرسالة فمآلهم كما يقول :
﴿ والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ﴾
أما الكافرون الجاحدون فهم أصحابُ الشِّمال، وهم في نار جهنم في سَمومٍ وحميم.
مؤصَدة : مغلقة مطبقة عليهم. أصَدَ البابَ أصدا : أغلقه. وآصده إيصادا. وأوصده.
عليهم نارُ جهنم مغلَقة مطبَقَة خالدين فيها أبدا.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : مؤصدة بالهمزة، والباقون موصدة بدون همزة.
Icon