ﰡ
[الجزء الاول]
مدخلترجع أهمية نشر هذا الكتاب إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما.
فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة ٢٨٣ هـ) وقد طبعته السعادة فى عام ١٩٠٨ م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض.
وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة ٤١٢ هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة ١٥٠ تفسير دار الكتب ص ٢٢١].
ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج ٤ ص ١٥٥).
وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: «.... وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة ١٨٣٩ ص ٣١).
أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى)، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم.
وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران) :«أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة ٢٥٦، ٢٥٧].
وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج ١ ص ١٨).
ففى سورة المزمل عند قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا، يقول: (واذكر اسم ربك الذي هو أنت..) !! ج ٢ ص ٣٥٢.
وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)، يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا، وظهورنا فى صوركم) ج ٢ ص ٢٩١ وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله وحلّ فيها!! وليس من الإنصاف أن يقال للناس هذا هو رأى الصوفية المسلمين ولا رأى بعده، بل يجب أن نضع فى اعتبارنا أن مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفى يبتعد عن المنهج القلبي العرفانى الذي اختطه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود، وفى وحدة الشهود- ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع وباطنه سليم على حدّ تعريف أبى نصر السراج الطوسي للشطح- يبقى دائما شىء هام قوى ناصع أن العبد عبد والرب رب ولا تداخل ولا امتزاج ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته يصل إلى التحقق من ربوبيته الرب وتنزيهه عن كل إفك وباطل... تعالى الله علوّا كبيرا.
ولا ينبغى لنا أن نغض الطرف عن قيمة التفاسير المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإن تبعثر هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حق قدرها، ذلك لأنها غالبا ما سيقت لتدعيم موقف أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة، فهى من هذه الناحية لا تخرج عن كونها تفسيرا صوفيا غير مجموع.
وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير الصوفية التي نعرفها كتابان أولهما «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لأبى محمد روزبهان بن أبى النصر البقلى الشيرازي المتوفى سنة ٦٠٦ هـ[كشف الظنون ج ٢ ص ٢١]
لأجل هذا كله نحتفل «بلطائف الإشارات» فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد، ولا يصحّ أن يكون نموذجا صالحا لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق.
«لطائف الإشارات» سفر نفيس كتبه صاحبه محاولا أن يوفّق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة، وقاصدا إلى هدف بعيد أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأن أي كلام يناقض ذلك خروج على أىّ منهما وعلى كليهما (فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، الشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده) الرسالة القشيرية ص ٤٦.
وهذا ما حدث فعلا.. فأنت خلال قراءة «اللطائف» تشعر أن كل صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا فى النص القرآنى كالذكر والتوكل والرضا، والولي والولاية والحق والظاهر والباطن، والقبض والبسط... إلخ فلا تملك إلا أن تحكم أن الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة ولا مستوردة كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامى بالتأثر بالتيارات الأجنبية: اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية ونحوها.
كذلك تلحظ عبقرية القشيري إزاء اللفظة أو الآية حيثما لا يكون فيها اصطلاح صوفى، فإنه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات فى الصحبة والصاحب، ومن علاقة النبي بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات رائعة تتصل اتصالا وثيقا بالرياضيات والمجاهدات أو بالمواصلات والمكشوفات.
وربما قيل إن صنيع القشيري مسبوق وملحوق، ولكن ها نحن منذ قليل أوضحنا مقدار ما أصاب التفاسير الصوفية من سهام النقد، وبقي أن نتعرف الأسباب التي جعلتنا نحكم بأن لطائف الإشارات، خير مناضل عن التفسير الصوفي بعامة، بل بأنه من أفضل الأعمال
ومن أعجب الأمور أن القشيري يشتهر «بالرسالة» التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الأسانيد المنسوبة إلى الشيوخ فى موضوعات بعينها، ومجموعة من التراجم لأبرز الشيوخ الذين ظهروا منذ نهاية القرن الثاني الهجري حتى بداية القرن الخامس فى صفحات قليلة ربّما أغنت عنها الكتب المطوّلة التي وضعت خصيصا لهذا الغرض مثل تذكرة العطار أو طبقات السلمى أو طبقات الشعراني ونحوها. ومع تقديرنا «للرسالة» إلا أننا لا نعتبرها بحال من الأحوال أفضل أعمال القشيري، وأنها ظلمته حين شهرته، وحين أوقفت اسمه عليها، وأصبح حتما منذ الآن أن يقول الناس «القشيري صاحب اللطائف» لا صاحب «الرسالة». فاللطائف هى أبلغ أعماله التي تزيد على العشرين- فى نقل صورة واضحة لشخصيته، ولست أدرى لماذا لم يجد هذا الكتاب ما هو جدير به من الاهتمام فى العصور الماضية؟ لماذا حكم عليه دائما أن يبقى فى منطقة الظل؟ حتى صار ما نعرفه عن نسخه كما نفهم من «تذكرة النوادر» وكما يقول بروكلمان- محدودا ومبعثرا بين روما وبرلين واسطنبول وتونس والهند والقاهرة، ومعظمها كما سنذكر بعد قليل غير كامل.
ولكى ندرك أهمية هذا الكتاب فى تصحيح كثير من المقاييس العلمية عن التصوف والتفسير الصوفي لا بدّ لنا أن نلم بشىء من سيرة صاحبه، ونكتفى من معالم هذه السيرة بما يمكن أن يتبرر به وصول هذا العمل الجليل بتلك الأوصاف وإلى تلك النتائج. وذلكم هو العامل الثاني لأهمية نشر هذا الكتاب:
ثانيا: صاحب هذا الكتاب هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ولقبه زين الإسلام، وشهرته القشيري.
وتوفى فى يوم الأحد السادس عشر من ربيع الآخر عام ٤٦٥ هـ وهو عربى النسب من جهة أبيه فهو من قبيلة قشير العدنانية المتصلة بهوازن، ويذكر ابن حزم أن سلالات من قشير اتجهت إلى المغرب نحو الأندلس إبّان الفتح الإسلامى زمن الأمويين، واتجه بعضها إلى المشرق وكان منها ولاة وقواد على خراسان ونيسابور. (جمهرة الأنساب ٢٧٣ و ٤٥٩) كذلك فإن القشيري عربى النسب من جهة أمه فهى سلمية وأخوها أبو عقيل السلمى من وجوه دهاقين أستوا، واستوا هى الناحية التي ولد فيها القشيري وتلقى بها تعليمه الأولىّ.
وحدث أن اجتاحت المنطقة ضائقة اقتصادية، ففكر الأهالى فى إرسال لفيف من أبنائهم إلى نيسابور لكى يتلقوا من دروس الحساب ما يمكّنهم- بعد عودتهم- من المشاركة فى تنظيم الأمور الاقتصادية، وكان القشيري أحد هؤلاء الأبناء.
وبدأ القشيري فى نيسابور يتهيأ لهذا اللون من الدراسة، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها عند ما اجتذبته مجالس الفقه والكلام والحديث والتفسير والأدب، ولم تبخل نيسابور عليه بزاد، فلقد كانت فى ذلك الوقت تعج بالنشاط الفكرى، وتحفل بكبار الشيوخ أمثال ابن فورك، ومحمد بن أبى بكر الطوسي، وأبى إسحق الاسفرايينى، وقد ظفر القشيري فى كنف هؤلاء الأئمة برعاية خاصة حينما أتيح له الاتصال بهم، وأتيح لهم معرفته عن قرب، ووضح لهم فيه حسن الاستعداد، والدأب، واستقامة الخلق.
ولم يكن القشيري يضيع فترة ما بعد الدرس هباء، بل كان ينكب على القراءة والاستذكار وكان شديد الولع بالعلوم العقلية، وبخاصة تلك التي تتناول المسائل التي طالما اشتجر الخلاف حولها بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، واستوعب فى هذه الفترة معظم ما صنّف الباقلاني.
وجاء يوم سأل فيه الإمام الاسفرايينى تلميذه القشيري- حين وجده لا يكتب كما يكتب سائر الطلاب: أما علمت يا بنى أن هذا العلم لا يحصل بالسماع؟
(ولكن القشيري أعاد عليه كل ما سمعه، وقرره أحسن تقرير، من غير إخلال بشىء فتعجّب منه وأكرمه، وقال له ما كنت أدرى يا بنى أنك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درس يكفيك أن تطالع مصنفاتى، وتنظر فى طريقتى، وإن أشكل عليك شىء طالعتنى به
وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض.
ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه.
وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا:
- إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل.
وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها)، وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٧٥.
وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق.
كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل.
ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه.
يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- رحمه الله- فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله عزّ وجلّ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص ١٤٧.
وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق،
يقول المناوى «هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى الشافعي، كان لسان وقته وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة، سرّىّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفال والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدّت إليه الرّحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي، قال ابن شهبه: وزاد عليه حالا ومقاما... وقد أخذ عنه القشيري صاحب «الرسالة» وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة ١٠٤ هـ كلام المناوى بعد أن أخذ يضرب أمثلته لأقواله المنثورة والمنظومة [الكواكب الدرية فى تراجم الصوفية ترجمة الدقاق].
أمّا فى مجال الصداقة فلعلّ أوثق من نعرف اتصالا به صديقه أبو عبد الرحمن السلمى وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين.
وترجع أهمية السّلمى فى حياة القشيري إلى أنه غزير الإنتاج فى العلوم الصوفية، وأن القشيري استفاد من علمه، وآية ذلك أنك تجد السلمى فى «الرسالة» حلقة اتصال بارزة فى العديد من الأسانيد والأخبار التي عليها يعتمد القشيري موصولة بالدارقطنى والسّراج والنصرآباذي وغيرهم، ولكن الأهم من ذلك- فى تقديرنا- أن القشيري استفاد من السّلمى فائدة أبعد أثرا، ذلك أنه تجنّب التورط فى المزالق التي أدّت بصديقه إلى أن يتّهم وأن يكون موضع نقد معاصريه ومن جاء بعده، وقد نوّهنا بشىء من ذلك عند كلامنا عن «حقائقه».
أمّا الجويني فقد كان- كالقشيرى- شافعيا من حيث المذهب الفقهي، أشعريا من حيث العقيدة الكلامية، وقد تعرّض- كالقشيرى- لآلام المحنة التي اكتوى بنارها الأشاعرة، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهاجر البلاد وجاور الحرمين، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد انجلاء الغمّة.
وإذا كان السّلمى صديقا أقرب إلى الأستاذ فإن الجويني كان صديقا أقرب إلى التلميذ، فقد استفاد من علم القشيري، فإذا تذكرنا أن الجويني أستاذ الغزالي أمكن أن نقول إن
وفى مجال الحياة العملية نجد القشيري يضطلع بأعمال تتفق واستعداده وثقافته، فقد اشتغل بالتدريس فى مسجد المطرز وهو فى الثلاثين من عمره ويتضح ذلك من هذا النص:
«كنت فى ابتداء وصلتي بالاستاذ أبى علىّ- رضى الله عنه- عقد لى المجلس فى مسجد المطرز، فاستأذنته وقتا للخروج إلى «نسا»، فكنت أمشى معه يوما فى طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عنّى فى مجالسى أيام غيبتى.... إلخ» الرسالة ص ١١٦.
وإلى جوار ذلك كان القشيري يعكف على التأليف دون انقطاع فانتهى من التفسير الكبير المعروف (بالتيسير في التفسير) قبل عام ٤١٠ هـ، ومن اللطائف عام ٤٣٤، ومن الرسالة عام ٤٣٧ واستمر يمارس هذا النشاط فى دأب لا يعرف الكلال حتى وصلت كتبه إلى خمسة وعشرين كتابا أو نحوها، ومن أهمها إلى جوار ما سبق: ترتيب السلوك، والتحبير فى التذكير، والأربعون حديثا، وشكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، واستفادات المرادات، والقصيدة الصوفية، والتوحيد النبوي، واللّمع، والفصول، والفتوّة، ونحو القلوب الصغير، والكبير، والمقامات الثلاثة، وفتوى، والمعراج.
ولم يطبع من هذه الكتب إلا النذر اليسير، وفى النية أن نقوم- بعون من الله- بإخراج ما وقع لنا منها خلال رحلات طويلة عديدة، حتى يزداد الناس علما به وتقديرا له.
ولم يسلم القشيري خلال حياته من المحن والآلام، وربّما كانت أشدها جميعا ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ووزيره اللعين الكندري.
كان السلطان طغرل سنيا حنفيا، ووزيره أبو نصر الكندري معتزليا رافضيا، خبيث العقيدة، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال، والقدر، وكان متعصبا فى ذلك أشد التعصب.
وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامة والخاصة نفوذ كبير، ومحبة فائقة، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعية،
وفى وسط هذه المحنة، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق، ونفيهم، ومنعهم من المحافل، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر.
أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان، واتجه إلى الحجاز، وهناك جاور، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي.
وبقي السجينان الجليلان فى المحبس، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق.
فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما، حتى لقد خصص الخليفة العباسي- القائم بأمر الله- له مجلسا خاصا فى مسجد قصره، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه، ويكرمه، ويحظى ببركته.
(تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٨٣).
وذهب القشيري الحج، وهناك التقى بصديقه الجويني وبعدد كبير من الأئمة الذين شردتهم المحنة طوال سنوات عديدة، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم، واستقر رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة حتى يتم الاتفاق على مبدأ ثابت يسرى عليهم جميعا، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيري.
فصعد المنبر، وظل يتكلم، وهم يجدون لكلامه وقعا مؤثرا على قلوبهم وعقولهم، ثم مرّت لحظات صمت، بعدها شخص القشيري ببصره إلى السماء ضارعا ثم أطرق، والناس من حوله يتابعون أمره، ويتفرّسون ملامحه... ثم قبض على لحيته وصاح بصوت عال:
«يا أهل خراسان.. بلادكم بلادكم، إن الكندري غريمكم يقطّع الآن إربا إربا، وإنى أشاهده الساعة وقد تمزّقت أعضاؤه ثم أنشد:
عميد الملك ساعدك الليالى | على ما شئت من درك المعالي |
فلم يك منك شىء غير أمر | بلعن المسلمين على التوالي |
فقابلك البلاء بما تلاقى | فذق ما تستحق من الوبال |
وهكذا عاد القشيري بعد هذه السنوات العشر الثّقال (من ٤٤٥ إلى ٤٥٥) إلى بلاده، وهى وإن كانت أقسى فترات عمره، وأشدها آلاما إلا أنها كانت حافلة بالتجارب، وأعانته على زيادة خبرته بالحياة والأحياء، وساعدت على توثيق الصلة بينه وبين الأوساط العلمية والأدبية خارج المشرق، ودفعته إلى أن يصنّف العديد من المصنفات المتصلة بالمذهب الأشعري
وجاء السلطان ألب أرسلان خلفا لعمه طغرل، وبمجىء أرسلان ووزيره الهمام الفذ نظام الملك استقبل العالم الإسلامى كله والأشاعرة بوجه خاص والقشيري بوجه أخص عهدا زاهرا آمنا، وعاد القشيري إلى مدينته الحبيبة نيسابور حيث قضى بها بقية عمره، وقضى بها عشر سنوات (كان فيها مرفها محترما، ومطاعا معظما، وأكثر صفوه فى آخر أيامه التي شاهدناه فيها آخرا، وازداد من يقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إليه من نصرة المذهب حتى بلغ المنتمون إليه آلافا، فأملوا تذكيره وتصانيفه أطراف) «تاريخ نيسابور لعبد الغافر الفارسي حفيد القشيري».
وكان نظام الملك أحد تلاميذه والمقربين إليه، وأعاد الوزير- بفضل توجيه القشيري- للأشاعرة وللزهاد وللعلماء كل ما فقدوه إبّان المحنة الأليمة من كرامة وحظوة.
أمّا أبناء القشيري فلا نعرف له إلا بنتا واحدة هى أمة الرحيم أم عبد الغافر الفارسي (قاموس الأعلام باللغة الأوزبكية ط اسطانبول سنة ١٣١٤ ص ٣٠٨٠).
ونعرف له ستة أبناء كلهم عبادلة وكلهم أئمة، سلكوا مسلك أبيهم وقد ترجم لهم السبكى فى طبقاته كما تحدّث عنهم ابن عساكر وابن خلكان.
ولهذا ينبغى أن نتحفظ فى نسبة الأقوال المنسوبة إلى القشيري فى بعض المراجع فقد تكون هذه الأقوال صادرة عن أحد أبنائه فهم جميعا أشاعرة وهم جميعا شافعية وهم جميعا سلكوا طريق الإرادة.
لبث القشيري فى نيسابور فى أخريات حياته لم يكد يبرحها إلا لزيارة أقاربه فى البلاد المجاورة مثل نسا وأبيورد، ولكنه كان يعود مسرعا إلى نيسابور بعد كل زيارة.
وقبل أن تبزغ شمس السادس عشر من ربيع الآخر من عام ٤٦٥ هـ، كانت روحه الطاهرة قد عادت إلى بارئها. فوورى جثمانه إلى جوار صهره وشيخه وملهمه وصديقه أبى على الدقاق فى مقبرة خاصة بالأسرة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر يزورها الناس للتبرك.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم- كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ- وهو يستخرج إشارة من العبارة- إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني
ثالثا: ننتقل بعد ذلك إلى العامل الثالث فى أهمية إخراج هذا الكتاب، وهو فى هذه المرة يعود إلى النسخة أو النسختين اللتين نعتمد عليهما فى التحقيق.
النسخ الكاملة من «اللطائف» نادرة فهى حسبما تقول تذكرة النوادر لا تزيد على خمس إحداها فى خزانة بانكى پور مكتوبة فى القرن التاسع، والثانية فى المكتبة الحبيبية تاريخ كتابتها عام ٨٤٤ وهى ناقصة من أولها، والثالثة فى الخزانة الآصفية بخط قديم جدا، والرابعة فى مكتبة الجامعة العثمانية بحيدرآباد مكتوبة بخطوط مختلفة سنة ٧٢٦ والخامسة فى مكتبة محمد باشا باسطنبول.
غير أننا نعتقد أن هناك عددا أكبر من النسخ يزيد عما ذكرت التذكرة وأنها منبثة فى أنحاء متفرقة من العالم، ونرجح أن النسخ الكاملة نادرة جدا كما يشير بروكلمان. وإنه لمن دواعى التوفيق أن يتاح لنا أن نحصل- لأول مرة- على الكتاب كاملا، فقد وجدنا فى مدينة طشقند عاصمة جمهوريات أوزبكستان السوفيتية فى المركز الديني لمسلمى آسيا الوسطى وقازاخستان نسخة شبه كاملة تحت رقم ١٣٠٢ تفسير تبدأ بمقدمة بقلم القشيري- وهى على جانب كبير من الأهمية- لأنها تكشف عن منهجه فى الدراسة، ثم بعدها الفاتحة والبقرة و.... حتى سورة قريش، ومعنى ذلك أنها تنقص فقط سور الماعون والكوثر والكافرون والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس. وهذه السور القصيرة موجودة فى النسخة الأخرى التي عندنا فى مصر ورقمها ٢٦٦ تفسير (أنظر فهرس الخزانة التيمورية ط تفسير ص ٢٣٠) والتي تبدأ بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل... ) فى سورة الأنبياء وقد قمنا بنسخ هذه المخطوطة، كما قمنا بالتقاط صورة بالميكروفيلم للنسخة الطشقندية ثم أجرينا تصويرها
النسختان إذا تتكاملان، ويصبح هذا السفر النفيس كاملا، ويقع فى نحو ألف ومائتين صفحة، اخترنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء تصدر متلاحقة فى مدى عام أو عامين حسبما تساعدنا الظروف ويرزقنا الله العافية.
وصف عام للنسخة السوفيتية
تبلغ أوراقها ٥٩٧ ورقة، والأرقام التي كتبها الناسخ مطموسة فى كثير من الأحيان ولذا حرصنا عند تكبير الميكروفيلم والتصوير والطبع أن نرقمها نحن من خلف حتى لا تضطرب الأمور عند القراءة والدراسة.
وعلى الورقة الأولى توجد تعليقة مكتبة الإدارة الدينية هكذا:
تفسير أبو القاسم القشيري
٢٠٠- صو ا ١٣٠٢- II ٣٥ أما الورقة الثانية فيبدو أنها كانت خالية فملأها أحد القراء بأحاديث وشواهد شعرية وكتابة باللغة الفارسية.
ثم تبدأ مقدمة الكتاب بقلم القشيري منذ الورقة الثالثة.
وقد وقع خطأ فى ترقيم الصفحات، فبينما نجد الحديث متصلا غير منقطع بعد الورقة ٢١٤ نجد رقم الورقة التالية هو ٢٢٥ بدلا من ٢١٥، وهناك خطأ آخر ربما حدث قبل تغليف الكتاب: فالأوراق من ٣٩٤ إلى ٤٠١ كلها موجودة عقب الورقة ٤٣١ دون أن يحدث خلل أو سقوط، ومعنى هذا أن الكتاب رغم هذا- كامل لم يضع منه شىء.
كذلك يقع تفسير أواخر طه وأوائل الأنبياء- خطأ- ضمن تفسير الفرقان. وقد صححنا هذا الوضع.
(تمّ بعون الله وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ شهر شوال سنة ١٢٢٤).
ومن هذه العبارة يتضح أن الناسخ غير عربى، وأنه ربما كان فارسيا أو أفغانيا أو أوزبكيا أو أذربيجانيا، فكثرة من سكان أفغانستان وأزبكستان وأذربيجان يعتبرون الفارسية لغة اتصالهم بالعلوم الإسلامية حتى اليوم.
وقد نجم عن كون الناسخ فارسيا جنسا أو لغة أن كتابته ومراعاته للإملاء لم تكونا جيدتين، وكان علينا أن نقرأ الكتاب قراءة متفحصة لنحاول أن نحدد الطريقة التي اتبعها، لأنها- بما فيها من خطأ أحيانا أو خروج على المألوف فى الرسم أحيانا أخرى- هى التي جرى عليها عند نقله من النسخة الأخرى التي يحتمل أنها تجرى على هذا النحو، وربما كان الناسخ ينقل على نحو يكون مفهوما لديه، وميسور القراءة له وحده.
وهو لا يهتم بضبط الكلمات، ولا بترقيم العبارات فليس هناك ضبط أو فاصلة أو علامات استفهام أو أقواس أو علامات تعجب أو نحو ذلك. وقد وقع الناسخ فى أخطاء عديدة أثناء النسخ، وربّما كان مسئولا عن ذلك أو يحتمل أن النسخة التي نقل عنها بهذا الوصف.
وهامش النسخة وبخاصة فى القسم الأول من الكتاب حافلة بالتعليقات، بعضها مكتوب بالفارسية قصد منها شرح المفردات وترجمتها.
وهناك عناوين جزئية مكتوبة باللغة العربية بخط حسن تشير إلى موضوعات متنوعة ربما قصد بعض القراء إلى أن يجمعها ليستفيد منها، وليحدد موقف المصنّف إزاءها مثل (الروح- حقوق الوالدين- الدعاء- النّفس... إلخ).
وعند ما كانت تسقط بعض الكلمات أو العبارات من الناسخ أثناء النقل كان يستدرك
ولم يحدث أن وضع الناسخ ترجمة فارسية لكلمة داخل المتن بل كان يكتب الترجمة أسفل نظيرها، اللهم إلا فى حالة واحدة داخل شاهد شعرى:
آن كه شاد شود در عطا دادن ومعناها: أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء.
ونستبعد أن القشيري يفعل ذلك، فعلى الرغم من إتقانه للغة الفارسية إلا أنه حرص فيما نعرف له من مصنفات أن يكتب بالعربية خالصة.
ويبدو أن النسخة أتيح لها أن تراجع ذات مرة، فهناك تصحيحات مختلفة فى رسم الكتابة موجودة فى الهامش فى أماكن مقابلة لموضع التصحيح فى المتن. ومن أمثلة ذلك ما جاء فى الورقة ٣٥٠ أول سورة الإسراء (وتوحّد بعلو قعونه) تصحح فى المراجعة (وتوحّد بعلو نعوته).
وفى الورقة ٣٦١ (لبلاء أو شدة يقاليها) تصحح فى الهامش (لبلاء أو شدة يقاسيها).
وفى الورقة ٣٧٢ جاء فى سياق وصف الدنيا (نعمها مشوقة بنقمتها تصحح فى المراجعة (نعمها مشوبة بنقمها).
وقد كنا نحكّم الدقة عند الاستفادة من هذه المراجعة لأننا نفترض أنها قد تكون نوعا من الاجتهاد الشخصي وليست تصويبا على نسخه أفضل.
بقي شىء هام جدا، وهو توضيح موقفنا من أخطاء الناسخ، ويمكن أن نقول إننا اتخذنا منها ثلاثة مواقف.
(ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكّدا ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.
(ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا | أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب. |
وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش.
وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له، وله أن يرفض.
ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة، على أننا نعد- إن أعاننا الله- أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة.
تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل... ) حتى نهاية الكتاب، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور، كما أنها ساعدت- نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها- على التقليل من المشتبهات، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني.
ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء.
منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته
صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن، وسائله وغاياته.
أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج ٢ ص ٢٥٧ ط ثالثة سنة ١٣٣٩ غير صحيحة حيث يقول:
«لطائف الإشارات فى حقائق العبارات».
ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ- مفردة أو مركبة- دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم- بفضل من الله- العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر.
وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة، وصفّى نفسه من كل كدورة، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة: دراسة كلام الحق جلّ ذكره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ويتضح- بادئ ذى بدء- أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك، وكان لديك استعداد ملائم، وخصصته بعنايتك، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة.
وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه- زورا أو خطأ- عن التفسير الإشارى السديد.
فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم
فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب.
قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد.
ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء، ولا عقيدة باطنية مستورة، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله- جل ذكره، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟! وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة»
لماذا كل ذلك؟ لكى يثبت أن هناك لقاء بين الشريعة والحقيقة، وأنهما وجهان لشىء واحد..
تلك هى الغاية القصوى التي يطمح إليها هذا الإمام الجليل، والتي من أجلها نذر عمره، وخصص جهده، ولم يضن عليها بشىء في استطاعته، ولم يفارقه الطموح إليها فى مصنّف من مصنفاته... وما أعظمها وما أشرفها من غاية! فإذا كنّا أخرجنا من نطاق التفسير الإشارى هذه التفاسير المنسوبة لبعض المنتسبين للتصوف فأولى أن نخرج من هذه التأويلات الاعتزالية والشيعية والبدعية والإلحادية وغيرها مما تعتمد فى مباحثها على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدّامة، وارتكبت فى حق الظاهر القرآنى جرائم خطيرة حين أريد له أن يؤول لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة، وفى ذلك يقول التفتازانيّ فى شرح العقائد النسفية: «سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية»، ويستدرك التفتازانيّ قائلا: «وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان ومحض الإيمان» (شرح العقائد النسفية ط الحلبي سنة ١٣٢ هـ).
والذي نحمده للقشيرى وينبغى أن نشيد به فى هذا التقديم أنه حرص أشد الحرص على النص القرآنى، وأنه التزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس، وكان عمله أشبه بمن يقبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الزهاد والعارفين، دون أن يتورط فى تعسّف أو ينزلق فى درب من دروب الشطط، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج
ولقد أعان القشيري فى عمله أنه صنّف قبل «اللطائف» كتابا كاملا فى تفسير القرآن على نحو تقليدى هو «التيسير فى التفسير» - الذي حصلنا على مصورة للجزء الخامس منه من أكاديمية العلوم السوفيتية- ونجده فى «التيسير» يعنى أشد العناية باللغة والاشتقاق والنحو وأسباب النزول والأخبار والقصص. وقد صنّفه قبل أن يلتقى بشيخه الدقاق أي قبل أن يسلك المسلك الصوفي، فأعانه ذلك على أن يفقه العبارة من معظم زواياها المتصلة بالظاهر، حتى إذا بدأ يكتب «اللطائف» كان طريقه إلى الإشارة وإلى فقه الباطن ممهدا، ومناله ميسورا، وآفاقه مفتّحة.
سار القشيري فى «اللطائف» على خطة واضحة محددة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة، وأحيانا حرفا حرفا، والبسملة تتكرر بلفظها فى مفتتح كل سورة، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر إذ هى تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلّما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلّها، فالله والرحمن والرحيم لها دلالات خاصة فى سورة القارعة، ولها دلالات أخرى فى سورة النساء ولها دلالات خاصة فى الأنفال وهكذا...
ونستنتج من ذلك عدّة نتائج:
أولا: أنه يعتبر البسملة قرآنا وليست كما يقول البعض- شيئا يستفتح به للتبرك، شأن ما نصنع فى بداية أقوالنا وأفعالنا (انظر «المغني» للقاضى عبد الجبار المتوفى سنة ٤١٥ هـ ج ١١ ط وزارة الثقافة (تراثنا) ص ١٦١).
ثانيا: أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا، ومادام يجد لها مقاصد متجددة، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار فى القرآن، وفى ذلك يقول فى الورقة الثالثة من
ثالثا: أن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا عند استبطان الظاهر، لأننا نجده أمام أربع كلمات تتكرر بلفظها ومعناها من بداية القرآن إلى نهايته، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه سار على هذه السّنّة فى «التيسير» ازداد إعجابنا به وعجبنا له.
ومن الخير أن نضرب هنا مثلين لما صنع فى بسملة «اللطائف» لنستوضح مقاصده من هذا الاتجاه.
يقول فى بسملة سورة «الحجر» :«سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب (لاستحقاق) علة. فإن قيل العلة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء فى بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود.
فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء».
ويتضح من هذا أن استنباط الإشارة ليس- كما قلنا من قبل- مسألة عشوائية إنما هو خاضع لقواعد وأصول، وإلى تفنيد لمختلف الآراء، ومحاولة للإقناع.
وليس هذا فقط.. بل إنك لو تعمقت داخل السورة لأدهشك- كما أدهشنى- أن هناك صلة وثيقة محكمة بين هذا الذي فسرت به البسملة وبين كلام فى داخل السورة عن رفع الخلق بلا علة، وخفضهم بلا علة، وذلك كما ورد فى قصة خلق آدم، وكيف أن الملائكة (كانوا فى حال سترهم لأنهم نظروا إلى القوالب مع أن الاعتبار بالمعاني التي يودعها، فالملائكة استصغروا قدر آدم وحاله وتعجبوا من الأمر لهم بالسجود فكشف لهم شظيّة مما اختصه فسجدوا للأمر وكذا حال من ادّعى الخيرية) أما إبليس فلم يفطن للمشيئة الإلهية
وفى سورة براءة- التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة، استمع إليه يقول: «الحقّ- سبحانه- جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- إلا أنه ضعيف، وفى التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا... » ومثل قوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ... » فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة فى أوائلها، وهى متضمنة ذكر الكفار.
وقد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق».
...... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته.
ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات». وربما كان أفضل
وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه فالألف من اسم «الله» واللام يدل على اسم «اللطيف»، والميم يدل على اسم «المجيد» و «الملك».
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه، وقيل إنها أسماء السور، وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلّى الله عليه وسلّم فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد (ص).
والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة، فلينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع.
ويقال «١» يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدّس الحق- سبحانه وتعالى- عن التخصص ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج، غير الألف فإنها هويته لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالمرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوي، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير
قلت لها قفى قالت قاف ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب، ومراعاة لقلب الحبيب، وهكذا تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم:
قال لى مولاى ما هذا الدنف... قلت تهوانى قال: لام ألف
...... ويمضى القشيري بعد ذلك فيستخرج للصوفية إشارات ثمينة مما يصادفه فى الآية من حكم تشريعى يتصل بالقتال والغنيمة والأسر والكيل والميزان والدين والشهادة ونحو ذلك أو كلام فى العبادات كالصوم والصلاة والحج والزكاة أو ما يعود بالآية إلى أسباب نزولها والأخبار والقصص التي رويت من حولها، أو ما تحتوى من مظاهر قدرة المولى- جل وعلا- فى خلق الإنسان والكون.
وينبغى ألا ننتظر من القشيري إسهابا فى الأحكام الفقهية والقواعد التعبدية والأسانيد ونحو ذلك فما لهذا ألّف كتابه، ولا يصح للقارئ أن يتوقع منه ذلك فهناك تفاسير مخصوصة وضعت للوفاء بهذه الأمور، إنما قصد القشيري إلى استمداد شىء نافع للصوفية يتدعم به رأى من آرائهم أو عمل من أعمالهم، فهذا هو مقصوده، وتلك مراميه، ونحن من أجل ذلك نقول بلا تحفظ إن «لطائف الإشارات» يمثل تمثيلا صادقا مذهب القشيري فى التصوف أكثر مما تمثله «الرسالة» فهو يغنى عنها وهى لا تغنى عنه.
وعلينا الآن أن نسوق أمثلة قليلة توضح موقف القشيري فى تلك الأمور حتى يعرف القارئ منذ البداية أي نوع من التفسير ذلك الذي نضعه بين يديه. ففيما يختص بالأحكام التشريعية نراه مثلا عند الآية الكريمة «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» يقول:
الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولمّا كان الجهاد قسمين: جهاد الظاهر مع الكفّار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان، وكما أن للجهاد
ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى، وهى: النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه.
ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ... » «حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر».
أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه
فاستقبال القبلة عند الصلاة له عند القشيري إشارة: (لتكن القبلة مقصود نفسك، وسبحانه مقصود مشهود قلبك لا تعلّق قلبك بأحجار وآثار، وأفرد قلبك لى) وعند قوله تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية، وأفضل الحج الشجّ والعجّ فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامى والصفات (أسماء الله الحسنى وصفاته)، وطواف القلوب حول مشاهد العز، والسعى بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه».
وتسمع القشيري عند: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... » يقول: «الصوم على ضربين:
صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات....
ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق فصومهم لله حتى شهودهم، وفطرهم لله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله».
أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟
فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه:
لم؟ لم يفلح، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله- بسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء».
وفى قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يقول: «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة، وكان يتصدّق منها للمساكين، فلما ورثه أهله قالوا: لن نفعل فعله، وأقسموا ألا يعطوا شيئا، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة، ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال، ويقع فى فترة، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله، وردّ عن الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، وصارت صفوته قسوة، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف، وندامة على ما فات من أمره، فقلّما يصل إلى حاله، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله، فيقبله بعد ذلك، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله، فإن الله تعالى رءوف بعباده».
ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» :«مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله،
والإنسان أفضل من الجان لأن الجان من نار، والنار بالماء تنطفىء وتصبح رمادا ولا يجىء منها شىء. أمّا الطين (الإنسان) فإذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، ولذلك العدو (إبليس) انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة، ولكن آدم عليه السّلام لما اغترّ جبره ماء العناية فقال تعالى: ثم اجتباه ربه».
«خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «رضى الله عنهم ورضوا عنه» خلق الإنسان من طين ولكنه يقول «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» خلق الإنسان من طين ولكن:
فكم أبصرت من حسن ولكن... عليك من الورى وقع اختياري
وبعد... فهذه أمثلة سريعة أردنا أن نقدمها للتدليل على المواقف التي يتخذها القشيري فى ظلال القرآن من زوايا مختلفة وفى ظروف متنوعة، ومن مجموع هذه المواقف يتحصل مذهبه فى التصوف فضلا عن مذهبه فى الكلام، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حاول أن يحل بطريق العلم الصوفي ما عجز المتكلمون عن حلّه، فحين حلّ القلب محلّ العقل ليصعد ويقصد نحو الملأ الأعلى، وأصبح الحقّ مناط الأمل لم يعد هناك معنى لأى حديث فى الجبر والاختيار والحسن والقبيح والثواب والعقاب- على النحو الذي اشتجر من حوله الخلاف بين المتكلمين. الله- فى عرف هذا الصوفي وفى عرف الصوفية الخلّص- مشهود ومحبوب لا معبود فقط، وكلّ كلام عن جبر الحب وعذاب الحب يسمج ويسخف، وهل هناك أجمل من أن يتعذب الإنسان فى حبه حتى يهلك؟ ألا ما أروعها من غاية! وما أجدر من أن يضيع العمر بين فقد ووجد! وما أعظم أن يكون الحقّ خلفا لك عن كل حطام الدنيا وأن تكون مشاهدته بديلا لك عن كل نعيم الجنان!
والواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة.
وإنى لأتساءل: إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف، لأن الإنتاج الصوفي- فى كثير من الأحوال- درر من المنظوم والمنثور، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا.
وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة، فهذا له مكان آخر، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء.
وفى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة- مفردة ومركبة- تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا، حيث استكمل ناحيتين: أدب المفسّر وأدب المفسّر.
تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف- راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر- إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية.
ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى.
فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا كأن يقول عند قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته».
والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة».
والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر».
ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» :
كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليه السّلام من غير أب، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها... ».
والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر، والليل والنهار، والجبال والبحار، والسحب والأمطار.... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح، وعلم اليقين وحق اليقين، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية....
إلى آخره.
يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس).
وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة، وشاعر له حس دقيق مرهف، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد.
نفعنا الله بعلمه وبركته.
دكتور ابراهيم بسيونى
قال الإمام جمال الإسلام أبو القاسم القشيري رحمه الله: وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من إشارات القرآن»
على لسان أهل المعرفة، إما من معانى مقولهم، أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلا (ل) خشية الملال، مستمدين من الله تعالى عوائد المنّة، متبرئين من الحول والمنّة «٣» مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوفقين لأصوب القول والعمل، ملتمسين أن يصلى على سيدنا محمد صلّى الله عليه و (سلّم)، ليختم لنا بالحسنى بمنّه وأفضاله. وتيسّر الأخذ
(٢) ما تحته خط هو تكملة اعتمدنا فى إثباتها هنا على ما جاء فى (تذكرة النوادر) التي اقتبست بضع فقرات رجوعا إلى نسخة أخرى.
(٣) المنّة بضم الميم القوة.
سورة فاتحة الكتاب
هذه السورة بدا (ية) الكتاب، ومفاتحة الأحباب بالخطاب والكتاب منه أجلّ النّعمى، وأكرم الحسنى إذ هى (... ) «٢» وابتداء وفى معناه قيل.
أفديك بل أيام دهرى كلها... تفدين أياما (.....)
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن... ما كان قلبى للصبابة معهدا «٣»
ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم غير مرتقب لهذا الشأن، وما كان هذا الحديث منه على بال، وحينما نزل عليه جبريل صلوات الله عليه وسلامه أخذ فى الفرار، وآثر التباعد لهذا الأمر آوى (... ) قائلا: دثرونى دثرونى، زمّلونى زمّلونى، وكان يتحنّث فى حراء، ويخلو هنالك (....) فجأة، وصادفته القصة بغتة كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا «٤»
وكان صلوات الله عليه وسلم رضى بأن يقال له أجير خديجة ولكن (الحق سبحانه وتعالى أراده لأن) «٥» يكون سيد الأولين والآخرين حيث قال. «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ»، (رفعه إلى) أشرف المنازل وإن لم يسم إليه بطرف التأميل سنّة منه تعالى وتقدّس (... ) إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك ما قصّوا العجب من شأنه (... ) يتيم أبى طالب
وبهذا يبطل قول صاحب كشف الظنون (المجلد الثاني ص ١٥٥١) بأن القشيري ألف اللطائف قبل عام ٤١٠، ويبدو أن الأمر قد التبس على حاجى خليفة فظن تاريخ تأليف «التيسير فى التفسير» هو تاريخ تأليف «اللطائف».
(٢) ما بين الأقواس المفرغة ساقط فى ص ومن حسن الحظ أن السقوط الكثير على هذا النحو لا يتكرر بعد الورقتين الأولى والثانية من (ص).
(٣) اعتمدنا فى تكملة البيت على هذا النحو على وروده فى (م) كاملا عند تفسير سورة الحديد.
(٤) الشطر الثاني من البيت ناقص فى (ص) ومكمل فى (م) عند تفسير آية: علم القرآن من سورة الرحمن.
(٥) زيادة أضفناها ليستقيم المعنى
.
هذا (... ) أطمار... وكان فى فقر من السيار
آثر عندى (بالإكبار)... من أخى (ومن) جارى
وصاحب الدرهم (والدينار)... فإن صاحب الأمر مع الإكثار «١»
ولقد كان ﷺ قبل النبوة حميد الشأن، (محمود) الذكر، ممدوح الاسم، أمينا لكل واحد. وكانوا يسمونه محمدا الأمين، ولكن (الكافرين) (... ) حالته، بدّلوا اسمه، وحرّفوا وصفه، وهجّنوا ذكره، فواحد كان يقول ساحر وآخر يقول (... )
وثالث يقول كاذب، ورابع يقول شاعر:
أشاعوا لنا فى الحي أشنع قصة... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
وهكذا صفة المحبّ، لا ينفك عن الملام ولكن كما قيل
أجد الملامة فى هواك لذيذة... حبا لذكرك فليلمنى اللّوم «٢»
وماذا عليه من قبيح قالة (من) يقول، (والحق سبحانه يقول) :«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أي استمع إلى ما يقال فيك بحسن الثناء علينا.
[فصل] وتسمى هذه السورة أيضا أمّ الكتاب، وأم الشيء أصله، وإمام كل شىء مقدّمه. وهذه السورة لما تشتمل عليه من الأمر بالعبودية، والثناء على الله بجمال الربوبية، ثم «٣» كمالها من الفضائل- لا تصح الفرائض إلا بها. وقوله صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» يعنى قراءة هذه السورة، فصارت أمّ الكتاب، وأصلا لما تنبنى عليه من لطائف الكرامات وبدائع التقريب والإيجاب.
وإن كان وزن الشعر ما زال غير سليم.
(٢) وردت خطأ فى (ص) : فليسلمنى اللؤم.
(٣) لا نستبعد أن تكون فى الأصل (تمّ) كمالها...
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بسم الله الذي قصرت عنه العقول فوقفت، وعجزت العلوم فتحيّرت، وتقاصره المعاوف فخجلت، وانقطعت الفهوم فدهشت.. وهو بنعت علائه ووصف سنائه وبهائه وكبريائه يعلم ولكنّ الإحاطة في العلم به محال، ويرى ولكنّ الإدراك في وصفه مستحيل ويعرف ولكنّ الإشراف في نعته غير صحيح. «١»
قوله جل ذكره:
[سورة الناس (١١٤) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
أعتصم بربّ الناس خالقهم وسيّدهم.
«مَلِكِ النَّاسِ» أي مالكهم جميعهم.
«إِلهِ النَّاسِ» القادر على إيجادهم.
«مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ» من حديث النّفس بما هو كالصوت الخفىّ.
ويقال: من شرّ ذى الوسواس.
ويقال: من شرّ الوسوسة التي تكون بين الجنّة والناس.
«الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» قيل: «النَّاسِ» يقع لفظها على الجنّ والإنس جميعا- كما قال تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» «١» فسمّاهم نفرا، وكما قال:
«يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» «٢» فسمّاهم رجالا.. فعلى هذا استعاذ من الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، والشيطان الذي له تسلّط على الناس كالوسواس فللنّفس من قبل العبد هواجس، وهواجس النّفس ووساوس الشيطان يتقاربان إذ أن ما يدعو إلى متابعة الشهوة أو الضلالة في الدين أو إلى ارتكاب المعصية، أو إلى الخصال الذميمة- فهو نتيجة الوساوس والهواجس.
وبالعلم يميّز «٣» بين الإلهام وبين الخواطر الصحيحة وبين الوساوس «٤».
(ومما تجب معرفته) «٥» أن الشيطان إذا دعا إلى محظور فإن خالفته يدع ذلك (ثم) يدعوك إلى معصية أخرى إذ لا غرض له إلا الإقامة على دعائك (... «٦» ) غير مختلفة.
(٢) آية ٦ سورة الجن.
(٣) فى النص كلمة منبهمة اخترنا (يميز) طبقا لرأى القشيري كما سيتضح من الهامش التالي.
(٤) «الخاطر خطاب يرد على الضمائر وقد يكون بإلقاء الشيطان وقد يكون من أحاديث النفس أو من قبل الحق فإذا كان من الملك فهو الإلهام، وإذا كان من قبل النفس قيل له: الهواجس، وإذا كان من قبل الشيطان فهو الوسواس، وإذا كان من قبل الله- سبحانه- وإلقائه في القلب فهو خاطر حقّ.. وإذا كان من قبل الملك فإنما يعلم صدقه بموافقة العلم... » رساله القشيري ص ٤٦ و ٤٧.
(٥) هذه إضافة من جانبنا ليتماسك السياق ويتضح.
(٦) مشتهة.
بعونه تعالى انتهى تحقيق كتاب «لطائف الإشارات» للإمام القشيري في غرّة رجب من عام ١٣٩٠ هـ وقد استغرق هذا العمل نحو خمس سنوات كوامل، قطعنا فيها رحلة أضنت الجسم والبصر والفكر، ولكنها أمتعت القلب، وأيقظت الروح، وأنعشت السّرّ.
ولست أحبّ- متأثرا الصوفية- أن أحدّث القارئ عن مقدار ما لقيت من متاعب.. فهذا ضرب من دعوى النفس. وإنما أترك ذلك للقارئ. وقبل كل شىء أضرع إلى الله- وحده- أن يحتسب هذا العمل لى ذخرا عنده، وأن يمحو- إن شاء- من ديوانى بعض خطاياى.
كما أدعو الله أن ينفع به كافة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمقدار ما له من قيمة علمية نادرة، وبمقدار ما لصاحبه- رضى الله عنه- من قدر جليل في تراثنا العظيم.
والواقع.. أنّ أعظم ما يفعمنى بالسعادة من دواع هو هذا الاستقبال الذي حظى به الكتاب، فقد وصلتني رسائل عديدة من أقطار شتّى، ومن علماء أجلاء من نواح نائية كلها تحثّ على المسير، وتغذّى العزم، وتلهم الصبر على إتمام هذا العمل الشاق.
ولا أحب أن أختم كلمتى قبل أن أعتذر للقارئ عما قد يكون في الكتاب من قصور أو تقصير، ترجع أسباب بعضه لى، وتقع تبعته عليّ، ويعود بعضه إلى المطبعة- فنحن شريكان فيه كما يرجع الكثير منها إلى النّسّاخ..
ولا عجب في ذلك فالرحلة طويلة، ودروبها متشعبة. ولكننا نعد- إذا شاء الله وظهرت للكتاب طبعات أخرى- أن نتحاشى قدر الوسع كل هذه الوجوه. وأكون
كما أعد- إن شاء الله- بتدارك ما جاء في الكتاب من عيوب الشعر التي حالت الظروف القاهرة دون تداركها.
لقد كان رائدنا في هذه المرحلة من التحقيق أن يصل المتن الصوفيّ للناس، ولكننا فى المراحل التالية سننهض- بحول الله وقوته- بكثير من الأعمال التي تتصل بالشروح، وبالمصطلحات، وبالقضايا الأساسية التي نهض بها الكتاب.. فليس «لطائف الإشارات» بأقلّ من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الأجيال المتعاقبة.
وأخيرا، فإنى أتمنى أن أكون بإخراج هذا الكتاب قد وفيت بعض الّذين الذي فى عنقى للإمام الجليل عبد الكريم القشيري- رضى الله عنه وأرضاه.
وفقنا الله جميعا إلى الخير.
دكتور إبراهيم بسيونى أستاذ بكلية الألسن- الزيتون- القاهرة
اسم السورة الصفحة الشعراء ٥ النمل ٢٣ القصص ٥٣ العنكبوت ٨٦ الروم ١٠٧ لقمان ١٢٧ السجدة ١٣٨ الأحزاب ١٤٩ سبأ ١٧٥ فاطر ١٩٠ يس ٢١١ الصافات ٢٢٧ ص ٢٤٥ الزمر ٢٦٦ المؤمن (غافر) ٢٩٤ فصلت ٣١٩ الشورى ٣٤١ الزخرف ٣٦١ الدخان ٣٧٩ الجاثية ٣٨٨
[الجزء الاول]
مدخلترجع أهمية نشر هذا الكتاب إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما.
فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة ٢٨٣ هـ) وقد طبعته السعادة فى عام ١٩٠٨ م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض.
وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة ٤١٢ هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة ١٥٠ تفسير دار الكتب ص ٢٢١].
ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج ٤ ص ١٥٥).
وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: «.... وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة ١٨٣٩ ص ٣١).
أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى)، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم.
وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران) :«أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة ٢٥٦، ٢٥٧].
وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج ١ ص ١٨).
ففى سورة المزمل عند قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا، يقول: (واذكر اسم ربك الذي هو أنت..) !! ج ٢ ص ٣٥٢.
وفى سورة الواقعة عند قوله تعالى (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)، يقول: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا، وظهورنا فى صوركم) ج ٢ ص ٢٩١ وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل بنى إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله وحلّ فيها!! وليس من الإنصاف أن يقال للناس هذا هو رأى الصوفية المسلمين ولا رأى بعده، بل يجب أن نضع فى اعتبارنا أن مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفى يبتعد عن المنهج القلبي العرفانى الذي اختطه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود، وفى وحدة الشهود- ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع وباطنه سليم على حدّ تعريف أبى نصر السراج الطوسي للشطح- يبقى دائما شىء هام قوى ناصع أن العبد عبد والرب رب ولا تداخل ولا امتزاج ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته يصل إلى التحقق من ربوبيته الرب وتنزيهه عن كل إفك وباطل... تعالى الله علوّا كبيرا.
ولا ينبغى لنا أن نغض الطرف عن قيمة التفاسير المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإن تبعثر هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حق قدرها، ذلك لأنها غالبا ما سيقت لتدعيم موقف أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة، فهى من هذه الناحية لا تخرج عن كونها تفسيرا صوفيا غير مجموع.
وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير الصوفية التي نعرفها كتابان أولهما «عرائس البيان فى حقائق القرآن» لأبى محمد روزبهان بن أبى النصر البقلى الشيرازي المتوفى سنة ٦٠٦ هـ[كشف الظنون ج ٢ ص ٢١]
لأجل هذا كله نحتفل «بلطائف الإشارات» فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد، ولا يصحّ أن يكون نموذجا صالحا لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق.
«لطائف الإشارات» سفر نفيس كتبه صاحبه محاولا أن يوفّق بين علوم الحقيقة وعلوم الشريعة، وقاصدا إلى هدف بعيد أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأن أي كلام يناقض ذلك خروج على أىّ منهما وعلى كليهما (فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، الشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده) الرسالة القشيرية ص ٤٦.
وهذا ما حدث فعلا.. فأنت خلال قراءة «اللطائف» تشعر أن كل صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحا فى النص القرآنى كالذكر والتوكل والرضا، والولي والولاية والحق والظاهر والباطن، والقبض والبسط... إلخ فلا تملك إلا أن تحكم أن الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة ولا مستوردة كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامى بالتأثر بالتيارات الأجنبية: اليونانية والفارسية والهندية والمسيحية ونحوها.
كذلك تلحظ عبقرية القشيري إزاء اللفظة أو الآية حيثما لا يكون فيها اصطلاح صوفى، فإنه يستخرج لك من آيات الطلاق إشارات فى الصحبة والصاحب، ومن علاقة النبي بأصحابه إشارات عن الشيخ ومريديه، ومن مظاهر الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والجبال إشارات رائعة تتصل اتصالا وثيقا بالرياضيات والمجاهدات أو بالمواصلات والمكشوفات.
وربما قيل إن صنيع القشيري مسبوق وملحوق، ولكن ها نحن منذ قليل أوضحنا مقدار ما أصاب التفاسير الصوفية من سهام النقد، وبقي أن نتعرف الأسباب التي جعلتنا نحكم بأن لطائف الإشارات، خير مناضل عن التفسير الصوفي بعامة، بل بأنه من أفضل الأعمال
ومن أعجب الأمور أن القشيري يشتهر «بالرسالة» التي لا تخرج عن كونها مجموعة من الأسانيد المنسوبة إلى الشيوخ فى موضوعات بعينها، ومجموعة من التراجم لأبرز الشيوخ الذين ظهروا منذ نهاية القرن الثاني الهجري حتى بداية القرن الخامس فى صفحات قليلة ربّما أغنت عنها الكتب المطوّلة التي وضعت خصيصا لهذا الغرض مثل تذكرة العطار أو طبقات السلمى أو طبقات الشعراني ونحوها. ومع تقديرنا «للرسالة» إلا أننا لا نعتبرها بحال من الأحوال أفضل أعمال القشيري، وأنها ظلمته حين شهرته، وحين أوقفت اسمه عليها، وأصبح حتما منذ الآن أن يقول الناس «القشيري صاحب اللطائف» لا صاحب «الرسالة». فاللطائف هى أبلغ أعماله التي تزيد على العشرين- فى نقل صورة واضحة لشخصيته، ولست أدرى لماذا لم يجد هذا الكتاب ما هو جدير به من الاهتمام فى العصور الماضية؟ لماذا حكم عليه دائما أن يبقى فى منطقة الظل؟ حتى صار ما نعرفه عن نسخه كما نفهم من «تذكرة النوادر» وكما يقول بروكلمان- محدودا ومبعثرا بين روما وبرلين واسطنبول وتونس والهند والقاهرة، ومعظمها كما سنذكر بعد قليل غير كامل.
ولكى ندرك أهمية هذا الكتاب فى تصحيح كثير من المقاييس العلمية عن التصوف والتفسير الصوفي لا بدّ لنا أن نلم بشىء من سيرة صاحبه، ونكتفى من معالم هذه السيرة بما يمكن أن يتبرر به وصول هذا العمل الجليل بتلك الأوصاف وإلى تلك النتائج. وذلكم هو العامل الثاني لأهمية نشر هذا الكتاب:
ثانيا: صاحب هذا الكتاب هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري، ولقبه زين الإسلام، وشهرته القشيري.
وتوفى فى يوم الأحد السادس عشر من ربيع الآخر عام ٤٦٥ هـ وهو عربى النسب من جهة أبيه فهو من قبيلة قشير العدنانية المتصلة بهوازن، ويذكر ابن حزم أن سلالات من قشير اتجهت إلى المغرب نحو الأندلس إبّان الفتح الإسلامى زمن الأمويين، واتجه بعضها إلى المشرق وكان منها ولاة وقواد على خراسان ونيسابور. (جمهرة الأنساب ٢٧٣ و ٤٥٩) كذلك فإن القشيري عربى النسب من جهة أمه فهى سلمية وأخوها أبو عقيل السلمى من وجوه دهاقين أستوا، واستوا هى الناحية التي ولد فيها القشيري وتلقى بها تعليمه الأولىّ.
وحدث أن اجتاحت المنطقة ضائقة اقتصادية، ففكر الأهالى فى إرسال لفيف من أبنائهم إلى نيسابور لكى يتلقوا من دروس الحساب ما يمكّنهم- بعد عودتهم- من المشاركة فى تنظيم الأمور الاقتصادية، وكان القشيري أحد هؤلاء الأبناء.
وبدأ القشيري فى نيسابور يتهيأ لهذا اللون من الدراسة، ولكنه ما لبث أن انصرف عنها عند ما اجتذبته مجالس الفقه والكلام والحديث والتفسير والأدب، ولم تبخل نيسابور عليه بزاد، فلقد كانت فى ذلك الوقت تعج بالنشاط الفكرى، وتحفل بكبار الشيوخ أمثال ابن فورك، ومحمد بن أبى بكر الطوسي، وأبى إسحق الاسفرايينى، وقد ظفر القشيري فى كنف هؤلاء الأئمة برعاية خاصة حينما أتيح له الاتصال بهم، وأتيح لهم معرفته عن قرب، ووضح لهم فيه حسن الاستعداد، والدأب، واستقامة الخلق.
ولم يكن القشيري يضيع فترة ما بعد الدرس هباء، بل كان ينكب على القراءة والاستذكار وكان شديد الولع بالعلوم العقلية، وبخاصة تلك التي تتناول المسائل التي طالما اشتجر الخلاف حولها بين الأشاعرة وأهل الاعتزال، واستوعب فى هذه الفترة معظم ما صنّف الباقلاني.
وجاء يوم سأل فيه الإمام الاسفرايينى تلميذه القشيري- حين وجده لا يكتب كما يكتب سائر الطلاب: أما علمت يا بنى أن هذا العلم لا يحصل بالسماع؟
(ولكن القشيري أعاد عليه كل ما سمعه، وقرره أحسن تقرير، من غير إخلال بشىء فتعجّب منه وأكرمه، وقال له ما كنت أدرى يا بنى أنك بلغت هذا المحل، فلست تحتاج إلى درس يكفيك أن تطالع مصنفاتى، وتنظر فى طريقتى، وإن أشكل عليك شىء طالعتنى به
وبينما كان القشيري منصرفا بكل همته إلى هذا اللون من الدراسة، دائب الاتصال بهذا الطراز من الشيوخ ساقه القدر ذات يوم إلى مجلس من لون آخر يتصدره شيخ من طراز آخر. استمع القشيري إلى أبى على الدقاق وهو يعظ على طريقة الصوفية ويتحدث فى الرياضات والمجاهدات، والأحوال والمكشوفات، والأذواق والمواجيد، والمعارف العليا التي تنثال من الحق على عباده الذين اصطفاهم، وإذا بالرجل والحديث يستوليان عليه، ويملكان فيه كل ذرة، وإذا القشيري يحادث نفسه صامتا: إنى لهذا خلقت! وعند ما كان يتهيأ ليغشى ما اعتاد من مجالس كانت أقدامه تسوقه نحو الدقاق ومجلسه فكان أول من يجلس وآخر من ينهض.
ولمحه الشيخ، ورأى فيه إصغاء ملفتا للنظر، فقربه منه، وحباه بعطفه.
وذات يوم تقدم الطالب- فى استحياء- من شيخه، فشكا إليه أمرا حزبه إنه لا يستطيع أن يجمع بين المواظبة على ما اعتاد من مجالس وبين مجلس الدقاق، وهو يؤثر أن ينصرف بكل همته وعزيمته إلى علم القلوب، وابتسم الشيخ للشاب، وتطلع إلى وجهه، وربت على كتفه قائلا:
- إنما ينبغى لك أولا أن تتقن دراستك بقدر طاقتك! ومضى الشاب الطموح يجمع بين الدراستين، وساعده ذلك على أن يتكون تكوينا عقليا ووجدانيا فى مرحلة من أدق مراحل العمر، كما ساعده على أن يتجنّب كثيرا من المشاكل النفسية التي تلم بأمثاله نتيجة الاغتراب عن بلده، ونتيجة الملل.
وأعجب الدقاق بمثابرته وطموحه واستقامته وتواضعه (فاختاره لكريمته فاطمة مؤثرا إياه على سائر أقربائها الذين تقدموا لخطبتها)، وفيات الأعيان ج ٢ ص ٣٧٥.
وهكذا توثقت الصلة بين الشيخ والشاب، وصار الدقاق رائدة وملهمه الذي أعانه على مواجهة مشكلات الحياة، وبصّره بآفات النفس وأدوائها، وكشف له عن الكثير من الخفايا والدقائق.
كل ذلك ترك أثره فى شخصيته، فلسنا نجد فى مؤلفاته اضطرابا أو جموحا أو غموضا، ولسنا نشعر فيما وراء السطور بعقدة من العقد، ولسنا نحس بميل إلى ابتداع، إنما نجد أنفسنا أمام شخصية سويّة، يتميز الخط الفكرى لها بالاستقامة والاعتدال، والوضوح والصدق، والإخلاص والبذل.
ولعلّ أبسط دليل على وفاء القشيري لشيخه أنك لو تصفحت «رسالته» لما غاب اسم الدقاق عن عينك، وهو يذكر اسمه دائما مقرونا بالتكريم والترحم، ويكفيك أن تقرأ هذه الفقرة لتوضح لك أولا شيئا عن مسلك القشيري خلال حياته العلمية وتوضح لك ثانيا مدى ما ينبغى أن تكون عليه علاقة المريد بشيخه، فهذه وتلك تصوّر ما نرمى إليه من بعيد عن كشف جوانب فى سيرة الرجل الذي تقدّم لك كتابه.
يقول القشيري: «لم أدخل على الأستاذ أبى على- رحمه الله- فى وقت بدايتى إلا صائما، وكنت أغتسل قبله، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه، فإذا تجاسرت مرة ودخلت، كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر حتى لو غرز فىّ إبرة مثلا لعلّى كنت لا أحس بها. ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلساني عن المسألة فكلما كنت أجلس كان يبتدىء بشرح واقعتى، وغير مرة رأيت منه هذا عيانا، وكنت أفكر فى نفسى كثيرا إنه لو بعث الله عزّ وجلّ فى وقتى رسولا إلى الخلق هل يمكننى أن أزيد فى حشمته على قلبى فوق ما كان منه رحمه الله تعالى؟ فكان لا يتصور لى أن ذلك ممكن، ولا أذكر أنّى فى طول اختلافي إلى مجلسه ثم كونى معه بعد حصول الوصلة أن جرى فى قلبى أو خطر ببالي عليه قط اعتراض إلى أن خرج- رحمه الله تعالى- من الدنيا) الرسالة ص ١٤٧.
وليس استطرادا أن نذكر لك كلمة موجزة عن رأى عبد الرءوف المناوى فى الدقاق،
يقول المناوى «هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى الشافعي، كان لسان وقته وإمام عصره، فارها فى العلم، محمود السيرة، مجهود السريرة، جنيدى الطريقة، سرّىّ الحقيقة، أخذ مذهب الشافعي عن القفال والحصرى وغيرهما، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدّت إليه الرّحال فى ذلك، ثم أخذ فى العمل، وسلك طريق التصوف، وأخذ عن النصرآباذي، قال ابن شهبه: وزاد عليه حالا ومقاما... وقد أخذ عنه القشيري صاحب «الرسالة» وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة ١٠٤ هـ كلام المناوى بعد أن أخذ يضرب أمثلته لأقواله المنثورة والمنظومة [الكواكب الدرية فى تراجم الصوفية ترجمة الدقاق].
أمّا فى مجال الصداقة فلعلّ أوثق من نعرف اتصالا به صديقه أبو عبد الرحمن السلمى وصديقه أبو المعالي الجويني إمام الحرمين.
وترجع أهمية السّلمى فى حياة القشيري إلى أنه غزير الإنتاج فى العلوم الصوفية، وأن القشيري استفاد من علمه، وآية ذلك أنك تجد السلمى فى «الرسالة» حلقة اتصال بارزة فى العديد من الأسانيد والأخبار التي عليها يعتمد القشيري موصولة بالدارقطنى والسّراج والنصرآباذي وغيرهم، ولكن الأهم من ذلك- فى تقديرنا- أن القشيري استفاد من السّلمى فائدة أبعد أثرا، ذلك أنه تجنّب التورط فى المزالق التي أدّت بصديقه إلى أن يتّهم وأن يكون موضع نقد معاصريه ومن جاء بعده، وقد نوّهنا بشىء من ذلك عند كلامنا عن «حقائقه».
أمّا الجويني فقد كان- كالقشيرى- شافعيا من حيث المذهب الفقهي، أشعريا من حيث العقيدة الكلامية، وقد تعرّض- كالقشيرى- لآلام المحنة التي اكتوى بنارها الأشاعرة، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهاجر البلاد وجاور الحرمين، ولم يعد إلى وطنه إلا بعد انجلاء الغمّة.
وإذا كان السّلمى صديقا أقرب إلى الأستاذ فإن الجويني كان صديقا أقرب إلى التلميذ، فقد استفاد من علم القشيري، فإذا تذكرنا أن الجويني أستاذ الغزالي أمكن أن نقول إن
وفى مجال الحياة العملية نجد القشيري يضطلع بأعمال تتفق واستعداده وثقافته، فقد اشتغل بالتدريس فى مسجد المطرز وهو فى الثلاثين من عمره ويتضح ذلك من هذا النص:
«كنت فى ابتداء وصلتي بالاستاذ أبى علىّ- رضى الله عنه- عقد لى المجلس فى مسجد المطرز، فاستأذنته وقتا للخروج إلى «نسا»، فكنت أمشى معه يوما فى طريق مجلسه، فخطر ببالي: ليته ينوب عنّى فى مجالسى أيام غيبتى.... إلخ» الرسالة ص ١١٦.
وإلى جوار ذلك كان القشيري يعكف على التأليف دون انقطاع فانتهى من التفسير الكبير المعروف (بالتيسير في التفسير) قبل عام ٤١٠ هـ، ومن اللطائف عام ٤٣٤، ومن الرسالة عام ٤٣٧ واستمر يمارس هذا النشاط فى دأب لا يعرف الكلال حتى وصلت كتبه إلى خمسة وعشرين كتابا أو نحوها، ومن أهمها إلى جوار ما سبق: ترتيب السلوك، والتحبير فى التذكير، والأربعون حديثا، وشكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة، واستفادات المرادات، والقصيدة الصوفية، والتوحيد النبوي، واللّمع، والفصول، والفتوّة، ونحو القلوب الصغير، والكبير، والمقامات الثلاثة، وفتوى، والمعراج.
ولم يطبع من هذه الكتب إلا النذر اليسير، وفى النية أن نقوم- بعون من الله- بإخراج ما وقع لنا منها خلال رحلات طويلة عديدة، حتى يزداد الناس علما به وتقديرا له.
ولم يسلم القشيري خلال حياته من المحن والآلام، وربّما كانت أشدها جميعا ما حدث له إبّان حكم السلطان طغرل ووزيره اللعين الكندري.
كان السلطان طغرل سنيا حنفيا، ووزيره أبو نصر الكندري معتزليا رافضيا، خبيث العقيدة، ذا آراء مسرفة فى التشبيه وخلق الأفعال، والقدر، وكان متعصبا فى ذلك أشد التعصب.
وفى هذا الوقت كان بنيسابور شخصية فذّة لها فى أوساط العامة والخاصة نفوذ كبير، ومحبة فائقة، ذلكم هو الأستاذ أبو سهل بن الموفق أحد رجال الطبقة الرابعة الشافعية،
وفى وسط هذه المحنة، وذات يوم كثيب أسود جاء الأمر من قبل السلطان بالقبض على القشيري وإمام الحرمين والرئيس الفراتي وأبى سهل الموفق، ونفيهم، ومنعهم من المحافل، وحين قرئ الكتاب هجم جماعة من الأوباش على الأستاذ الفراتي وعلى القشيري وأخذوا يجرونهما فى الطرقات، ويكيلون لهما أقذع أنواع التهكم والاستخفاف حتى وصل الشرطة بهما إلى محبس القهندر.
أمّا إمام الحرمين فقد هرب من البلاد على طريق كرمان، واتجه إلى الحجاز، وهناك جاور، وأمّا أبو سهل. فقد كان لحسن الحظ غائبا فى بعض النواحي.
وبقي السجينان الجليلان فى المحبس، وقامت جماعات كبيرة من الناس لإنقاذهما، وحدثت حرب دامية بينهم وبين رجال السلطان انتهت بهزيمة رجال السلطان، وأخرج السجينان الجليلان من سجنهما، ولكن كبار الأشاعرة اجتمعوا وقرروا أن جهاز الحكم لن يهدأ له قرار، وأن الخير فى رحيل أئمة المذهب إلى أماكن نائية عن المشرق.
فترك القشيري وطنه وبيته وأهله وعشيرته، ومضى يضرب فى الأرض الواسعة عشر سنوات كاملة، كان خلالها موضع التكريم والتبجيل، وأقبل الناس عليه وعلى دروسه إقبالا عظيما، حتى لقد خصص الخليفة العباسي- القائم بأمر الله- له مجلسا خاصا فى مسجد قصره، وكان يواظب على شهود وعظه ومجلس حديثه، ويكرمه، ويحظى ببركته.
(تاريخ بغداد ج ١٠ ص ٨٣).
وذهب القشيري الحج، وهناك التقى بصديقه الجويني وبعدد كبير من الأئمة الذين شردتهم المحنة طوال سنوات عديدة، فاجتمعوا وتدارسوا أحوالهم ومستقبلهم، واستقر رأيهم على أن يطيعوا كلمة واحد منهم مهما كانت هذه الكلمة حتى يتم الاتفاق على مبدأ ثابت يسرى عليهم جميعا، ولم يكن ذلك الذي وقع عليه اختيار الجمع غير عبد الكريم القشيري.
فصعد المنبر، وظل يتكلم، وهم يجدون لكلامه وقعا مؤثرا على قلوبهم وعقولهم، ثم مرّت لحظات صمت، بعدها شخص القشيري ببصره إلى السماء ضارعا ثم أطرق، والناس من حوله يتابعون أمره، ويتفرّسون ملامحه... ثم قبض على لحيته وصاح بصوت عال:
«يا أهل خراسان.. بلادكم بلادكم، إن الكندري غريمكم يقطّع الآن إربا إربا، وإنى أشاهده الساعة وقد تمزّقت أعضاؤه ثم أنشد:
عميد الملك ساعدك الليالى | على ما شئت من درك المعالي |
فلم يك منك شىء غير أمر | بلعن المسلمين على التوالي |
فقابلك البلاء بما تلاقى | فذق ما تستحق من الوبال |
وهكذا عاد القشيري بعد هذه السنوات العشر الثّقال (من ٤٤٥ إلى ٤٥٥) إلى بلاده، وهى وإن كانت أقسى فترات عمره، وأشدها آلاما إلا أنها كانت حافلة بالتجارب، وأعانته على زيادة خبرته بالحياة والأحياء، وساعدت على توثيق الصلة بينه وبين الأوساط العلمية والأدبية خارج المشرق، ودفعته إلى أن يصنّف العديد من المصنفات المتصلة بالمذهب الأشعري
وجاء السلطان ألب أرسلان خلفا لعمه طغرل، وبمجىء أرسلان ووزيره الهمام الفذ نظام الملك استقبل العالم الإسلامى كله والأشاعرة بوجه خاص والقشيري بوجه أخص عهدا زاهرا آمنا، وعاد القشيري إلى مدينته الحبيبة نيسابور حيث قضى بها بقية عمره، وقضى بها عشر سنوات (كان فيها مرفها محترما، ومطاعا معظما، وأكثر صفوه فى آخر أيامه التي شاهدناه فيها آخرا، وازداد من يقرأ عليه كتبه وتصانيفه والأحاديث المسموعة له، وما يؤول إليه من نصرة المذهب حتى بلغ المنتمون إليه آلافا، فأملوا تذكيره وتصانيفه أطراف) «تاريخ نيسابور لعبد الغافر الفارسي حفيد القشيري».
وكان نظام الملك أحد تلاميذه والمقربين إليه، وأعاد الوزير- بفضل توجيه القشيري- للأشاعرة وللزهاد وللعلماء كل ما فقدوه إبّان المحنة الأليمة من كرامة وحظوة.
أمّا أبناء القشيري فلا نعرف له إلا بنتا واحدة هى أمة الرحيم أم عبد الغافر الفارسي (قاموس الأعلام باللغة الأوزبكية ط اسطانبول سنة ١٣١٤ ص ٣٠٨٠).
ونعرف له ستة أبناء كلهم عبادلة وكلهم أئمة، سلكوا مسلك أبيهم وقد ترجم لهم السبكى فى طبقاته كما تحدّث عنهم ابن عساكر وابن خلكان.
ولهذا ينبغى أن نتحفظ فى نسبة الأقوال المنسوبة إلى القشيري فى بعض المراجع فقد تكون هذه الأقوال صادرة عن أحد أبنائه فهم جميعا أشاعرة وهم جميعا شافعية وهم جميعا سلكوا طريق الإرادة.
لبث القشيري فى نيسابور فى أخريات حياته لم يكد يبرحها إلا لزيارة أقاربه فى البلاد المجاورة مثل نسا وأبيورد، ولكنه كان يعود مسرعا إلى نيسابور بعد كل زيارة.
وقبل أن تبزغ شمس السادس عشر من ربيع الآخر من عام ٤٦٥ هـ، كانت روحه الطاهرة قد عادت إلى بارئها. فوورى جثمانه إلى جوار صهره وشيخه وملهمه وصديقه أبى على الدقاق فى مقبرة خاصة بالأسرة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر يزورها الناس للتبرك.
فصاحب الكتاب رجل أوتى حظّا وفيرا من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يلج باب الصوفية، وهذه فى حدّ ذاتها ظاهرة لها أهميتها، وقد رأينا كيف نصح الشيخ الدقاق له بالتعمق فى هذه الدراسات قيل البدء بالسير فى دروب الإرادة، وفى ذلك أبلغ رد على من يتخرّصون الاتهامات عن الصوفية فيقولون إنهم قوم يجانبون العقل، ويحتقرون العلم ويأمرون تلامذتهم بكسر محابرهم- كما يدعى ابن الجوزي غفر الله له.
والقشيري بعد ذلك كله أديب ينظم الشعر ويتذوق الأسلوب العربي تذوقا يعتمد على أسس قوية، وقد أوضحنا ذلك بتفصيل كبير فى الأطروحة التي أعددناها عنه ونلنا بها درجة الدكتوراه.
فإذا جاء بعد ذلك ليدرس الأسلوب القرآنى، وليستخرج منه إشارات لطيفة فهو معدّ لذلك أحسن إعداد، وهو قمين بالوصول إلى نتائج باهرة، بقدر ما لديه من تهيؤ صالح مكتمل.
ثم هو شافعى أشعرى، وهو سنى متحفظ، وهو بهذه الأوصاف باحث متعمق منصف، لا يأخذ- وهو يستخرج إشارة من العبارة- إلا جانب الحذر والحيطة والاعتدال، وهو من أجل ذلك لم يخرج قيد أنملة عن هذا الخط، فلم ينصر الحقيقة على حساب الشريعة، ولم ينصر الشريعة على حساب الحقيقة، ولذلك لا نعجب إذا لم نجد عنده جموحا أو ميلا إلى جموح، ولا نعجب إذا ألفيناه لا يسخط أوساط أهل السّنّة حتى من تعصّب منهم ضدّ التّصوف وأهله فقد كان رائده دائما نصرة الحق، فليس غريبا أن يجىء «لطائف الإشارات» تعبيرا صادقا عن التصوف فى أفضل درجات الاعتدال، وأنقى صور التناول. فليس عند القشيري ما عند غيره من مساس بالألوهية، بل هو طالما يعلنها حربا لا هوادة فيها على المبتدعين والمضللين الذين أساءوا إلى التصوف وأهله تارة تحت ستار الثوب، وتارة بدعوى الفناء المغرق، ونحو ذلك من الأباطيل.
والتصوف عند القشيري ليس ثوبا مرقعا، أو خرقة بالية تفرد صاحبها عمن سواه، وتكون علما على تقواه، إنما هو صفاء النفس من كروراتها. وإنّ من كان صادقا فى طويته ونيّته سيكون محفوظا فى حالة انمحائه، سوف يردّ فى حالة الجمع إلى حالة الفرق الثاني
ثالثا: ننتقل بعد ذلك إلى العامل الثالث فى أهمية إخراج هذا الكتاب، وهو فى هذه المرة يعود إلى النسخة أو النسختين اللتين نعتمد عليهما فى التحقيق.
النسخ الكاملة من «اللطائف» نادرة فهى حسبما تقول تذكرة النوادر لا تزيد على خمس إحداها فى خزانة بانكى پور مكتوبة فى القرن التاسع، والثانية فى المكتبة الحبيبية تاريخ كتابتها عام ٨٤٤ وهى ناقصة من أولها، والثالثة فى الخزانة الآصفية بخط قديم جدا، والرابعة فى مكتبة الجامعة العثمانية بحيدرآباد مكتوبة بخطوط مختلفة سنة ٧٢٦ والخامسة فى مكتبة محمد باشا باسطنبول.
غير أننا نعتقد أن هناك عددا أكبر من النسخ يزيد عما ذكرت التذكرة وأنها منبثة فى أنحاء متفرقة من العالم، ونرجح أن النسخ الكاملة نادرة جدا كما يشير بروكلمان. وإنه لمن دواعى التوفيق أن يتاح لنا أن نحصل- لأول مرة- على الكتاب كاملا، فقد وجدنا فى مدينة طشقند عاصمة جمهوريات أوزبكستان السوفيتية فى المركز الديني لمسلمى آسيا الوسطى وقازاخستان نسخة شبه كاملة تحت رقم ١٣٠٢ تفسير تبدأ بمقدمة بقلم القشيري- وهى على جانب كبير من الأهمية- لأنها تكشف عن منهجه فى الدراسة، ثم بعدها الفاتحة والبقرة و.... حتى سورة قريش، ومعنى ذلك أنها تنقص فقط سور الماعون والكوثر والكافرون والنصر والمسد والإخلاص والفلق والناس. وهذه السور القصيرة موجودة فى النسخة الأخرى التي عندنا فى مصر ورقمها ٢٦٦ تفسير (أنظر فهرس الخزانة التيمورية ط تفسير ص ٢٣٠) والتي تبدأ بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل... ) فى سورة الأنبياء وقد قمنا بنسخ هذه المخطوطة، كما قمنا بالتقاط صورة بالميكروفيلم للنسخة الطشقندية ثم أجرينا تصويرها
النسختان إذا تتكاملان، ويصبح هذا السفر النفيس كاملا، ويقع فى نحو ألف ومائتين صفحة، اخترنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء تصدر متلاحقة فى مدى عام أو عامين حسبما تساعدنا الظروف ويرزقنا الله العافية.
وصف عام للنسخة السوفيتية
تبلغ أوراقها ٥٩٧ ورقة، والأرقام التي كتبها الناسخ مطموسة فى كثير من الأحيان ولذا حرصنا عند تكبير الميكروفيلم والتصوير والطبع أن نرقمها نحن من خلف حتى لا تضطرب الأمور عند القراءة والدراسة.
وعلى الورقة الأولى توجد تعليقة مكتبة الإدارة الدينية هكذا:
تفسير أبو القاسم القشيري
٢٠٠- صو ا ١٣٠٢- II ٣٥ أما الورقة الثانية فيبدو أنها كانت خالية فملأها أحد القراء بأحاديث وشواهد شعرية وكتابة باللغة الفارسية.
ثم تبدأ مقدمة الكتاب بقلم القشيري منذ الورقة الثالثة.
وقد وقع خطأ فى ترقيم الصفحات، فبينما نجد الحديث متصلا غير منقطع بعد الورقة ٢١٤ نجد رقم الورقة التالية هو ٢٢٥ بدلا من ٢١٥، وهناك خطأ آخر ربما حدث قبل تغليف الكتاب: فالأوراق من ٣٩٤ إلى ٤٠١ كلها موجودة عقب الورقة ٤٣١ دون أن يحدث خلل أو سقوط، ومعنى هذا أن الكتاب رغم هذا- كامل لم يضع منه شىء.
كذلك يقع تفسير أواخر طه وأوائل الأنبياء- خطأ- ضمن تفسير الفرقان. وقد صححنا هذا الوضع.
(تمّ بعون الله وحسن توفيقه نصف أول از تفسير محقق إمام أبو قاسم القشيري رحمة الله عليه بتاريخ شهر شوال سنة ١٢٢٤).
ومن هذه العبارة يتضح أن الناسخ غير عربى، وأنه ربما كان فارسيا أو أفغانيا أو أوزبكيا أو أذربيجانيا، فكثرة من سكان أفغانستان وأزبكستان وأذربيجان يعتبرون الفارسية لغة اتصالهم بالعلوم الإسلامية حتى اليوم.
وقد نجم عن كون الناسخ فارسيا جنسا أو لغة أن كتابته ومراعاته للإملاء لم تكونا جيدتين، وكان علينا أن نقرأ الكتاب قراءة متفحصة لنحاول أن نحدد الطريقة التي اتبعها، لأنها- بما فيها من خطأ أحيانا أو خروج على المألوف فى الرسم أحيانا أخرى- هى التي جرى عليها عند نقله من النسخة الأخرى التي يحتمل أنها تجرى على هذا النحو، وربما كان الناسخ ينقل على نحو يكون مفهوما لديه، وميسور القراءة له وحده.
وهو لا يهتم بضبط الكلمات، ولا بترقيم العبارات فليس هناك ضبط أو فاصلة أو علامات استفهام أو أقواس أو علامات تعجب أو نحو ذلك. وقد وقع الناسخ فى أخطاء عديدة أثناء النسخ، وربّما كان مسئولا عن ذلك أو يحتمل أن النسخة التي نقل عنها بهذا الوصف.
وهامش النسخة وبخاصة فى القسم الأول من الكتاب حافلة بالتعليقات، بعضها مكتوب بالفارسية قصد منها شرح المفردات وترجمتها.
وهناك عناوين جزئية مكتوبة باللغة العربية بخط حسن تشير إلى موضوعات متنوعة ربما قصد بعض القراء إلى أن يجمعها ليستفيد منها، وليحدد موقف المصنّف إزاءها مثل (الروح- حقوق الوالدين- الدعاء- النّفس... إلخ).
وعند ما كانت تسقط بعض الكلمات أو العبارات من الناسخ أثناء النقل كان يستدرك
ولم يحدث أن وضع الناسخ ترجمة فارسية لكلمة داخل المتن بل كان يكتب الترجمة أسفل نظيرها، اللهم إلا فى حالة واحدة داخل شاهد شعرى:
آن كه شاد شود در عطا دادن ومعناها: أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء.
ونستبعد أن القشيري يفعل ذلك، فعلى الرغم من إتقانه للغة الفارسية إلا أنه حرص فيما نعرف له من مصنفات أن يكتب بالعربية خالصة.
ويبدو أن النسخة أتيح لها أن تراجع ذات مرة، فهناك تصحيحات مختلفة فى رسم الكتابة موجودة فى الهامش فى أماكن مقابلة لموضع التصحيح فى المتن. ومن أمثلة ذلك ما جاء فى الورقة ٣٥٠ أول سورة الإسراء (وتوحّد بعلو قعونه) تصحح فى المراجعة (وتوحّد بعلو نعوته).
وفى الورقة ٣٦١ (لبلاء أو شدة يقاليها) تصحح فى الهامش (لبلاء أو شدة يقاسيها).
وفى الورقة ٣٧٢ جاء فى سياق وصف الدنيا (نعمها مشوقة بنقمتها تصحح فى المراجعة (نعمها مشوبة بنقمها).
وقد كنا نحكّم الدقة عند الاستفادة من هذه المراجعة لأننا نفترض أنها قد تكون نوعا من الاجتهاد الشخصي وليست تصويبا على نسخه أفضل.
بقي شىء هام جدا، وهو توضيح موقفنا من أخطاء الناسخ، ويمكن أن نقول إننا اتخذنا منها ثلاثة مواقف.
(ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكّدا ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.
(ح) موقفا فيه خطأ الناسخ محتمل، وعند ذلك ننقل عن الناسخ ما كتب فى المتن، ونشير إلى موقفنا إزاءه فى الهامش قائلين (ونرجح كذا | أو لا نستبعد أنها فى الأصل كذا) تاركين الرأى للقارئ والدارس فى أن يختارا ما يريانه أقرب إلى الصواب. |
وإذا تطلب السياق كلمة أو حرفا ليتماسك ويتضح وضعناها من عندنا بين قوسين مشيرين إليها فى الهامش.
وتجب ملاحظة أننا لا نقحم أنفسنا فى تكملة أو ترجيح إلا بناء على معرفة بأسلوب القشيري الذي ترجع معاشرتنا له إلى سنوات تزيد على العشر، كذلك كثيرا ما نرجع إلى مصنفاته الأخرى لنتبيّن رأيه فى موضع مناظر ومع كل ذلك فإننا دائما نضع الأمر بين يدى القارئ لنترك له أن يشاركنا، وله أن يقتنع بما نقول أو يتقبل ما نقلناه عن الناسخ بحذافيره حسبما يحلو له، وله أن يرفض.
ومع أن الهوامش لا تخلو من تعليقات وشروح وتخريجات للحديث الشريف إلا أننا نشعر أنها مقتضبة وغير كافية، فحرصنا على تزويد الناس بالمتن كان رائدنا الأول فى هذه المرحلة، على أننا نعد- إن أعاننا الله- أن نتمم هذا العمل بشروح أكثر بسطة، فليس «اللطائف» بأقل حاجة إلى الشروح من «الرسالة» التي حظيت باهتمام الدارسين والباحثين طوال أجيال متعاقبة.
تبدأ هذه النسخة كما قلنا من قبل بالآية (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل... ) حتى نهاية الكتاب، وترجع أهمية هذه النسخة إلى أنها أولا أكملت ما ينقص النسخة السوفيتية من قصار السور، كما أنها ساعدت- نظرا لوضوح كتابتها أكثر من زميلتها- على التقليل من المشتبهات، وتتجلى أهمية ذلك فى المجلد الثاني.
ولسنا ندرى شيئا عن الناسخ الذي اضطلع بها ولا عن تاريخ نسخها نظرا لأنها ناقصة من بدايتها كما أن الناسخ لم يترك شيئا عنه فى نهايتها، ونرجح أنها أحدث عهدا من النسخة السابقة اعتمادا على رسم الكتابة وقواعد الإملاء.
منهج القشيري فى تأليف الكتاب وأهميته
صدّر القشيري كتابه بمقدمة مفيدة أوضحت خطته فى تناول الأسلوب القرآنى، وهذه المقدمة لا تلقى ضوءا على الكتاب وحده إنما تقف بنا على المقصود بالتفسير الإشارى للقرآن، وسائله وغاياته.
أطلق القشيري على كتابه اسم «لطائف الإشارات» وإذا فالتسمية التي زعمها صاحب كتاب (تاريخ أدبيات در ايران) ج ٢ ص ٢٥٧ ط ثالثة سنة ١٣٣٩ غير صحيحة حيث يقول:
«لطائف الإشارات فى حقائق العبارات».
ومن المقدمة نفهم أن هذا اللون من التفسير يعتمد على استبطان خفايا الألفاظ- مفردة أو مركبة- دون التوقف عند حدود ظواهرها المألوفة ومعانيها القاموسية، وإنما ينظر إلى اللفظة القرآنية على أنها ذات جوهر يدق على الفهم العادي، وأهل التجريد وحدهم هم الذين يتاح لهم- بفضل من الله- العلم الذي يكشفون به عن هذا الجوهر.
وهناك رباط وثيق بين هذا العلم وبين العمل إذ لا يحظى به إلا من جرّد قلبه من كل سانحة، وصفّى نفسه من كل كدورة، وتهيأ بكل الهمة لهذه المهمة الجليلة: دراسة كلام الحق جلّ ذكره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ويتضح- بادئ ذى بدء- أنّ هذا اللون من الدراسة يفترق عن سائر ألوان الفكر الإسلامى فى أمور كثيرة، لعلّ أهمها عنصر الاصطفاء من قبل الله، فليس يمكن لغير من اختصهم الله بفضله أن يخوضوا فيه. فأنت تستطيع أن تكون متكلما أو فيلسوفا أو نحويا أو أديبا إذا توفّرت لذلك، وكان لديك استعداد ملائم، وخصصته بعنايتك، أمّا أن تكون مستنبطا للإشارة من العبارة فهذه خصوصية فريدة لا بدّ أن يسبقها اجتباء إلهى. كذلك يمكنك أن تكون عالما فى أي فرع من فروع المعرفة دون أن يصحب ذلك عمل، أمّا أن تقبل على القرآن الكريم لتستشف الجواهر من وراء الظواهر فهذه مسألة ينبغى أن تقترن بجهود مضنية فى تصفية النفس والقلب من كل العلائق، وتخليتهما عن كل الشواغل الدنية، وتحليتهما بكل الأوصاف السنيّة.
وربما كانت هذه الشروط المتصلة بالاجتباء المسبوق، والعمل المقترن بالعلم من أسباب ندرة ما وصلنا من هذا اللون من التفسير، كما أنها قد تكون أسباب خروج بعض ما يحشر فى نطاقه- زورا أو خطأ- عن التفسير الإشارى السديد.
فرق آخر يفرق هذا اللون من التفسير عن غيره أنه لا يعتمد اعتمادا كليا أو مسرفا على العقل، إنما هو يعنى بالأمور العقلية بالقدر الذي يعني به الصوفية بالعقل، ونعني به أن الذهن آلة لتصحيح الإيمان فى مراحل البداية، أمّا فيما فوق ذلك وفيما هو حثيث الخطو نحو المعارف العليا فهناك ملكات أخرى يناط بها حمل هذا العبء، وهى فى مذهب القشيري تتدرج صعودا من القلب إلى الروح إلى السر ثم إلى سر السر أو عين السر. معنى هذا أن استنباط الإشارات اللطيفة من النص القرآنى ليس عملية عقلية صرفة إلا فى الحدود التي تضمن عدم
فاللفظة القرآنية فيها حياة وفيها نمو، وفيها عوالم مضيئة متألقة تشبه تلك العوالم التي يتدرج فيها العابد الزاهد المريد العارف المحب.
قد يقال وأي فرق إذا بين التفسير الإشارى وغيره من التفاسير مادام يعنى بالأمور العقلية والنقلية؟ والجواب على ذلك أنه لا يعنى بهذه الأمور لذاتها، ولا يوقف نفسه داخل أسوارها، ولا يقطع العمر فى حزازاتها وخلافاتها، إنما هى وسيلة فى الابتداء يلجأ إليها المفسر بمقدار ما يسعفه حظه منها لكى يفض الأغلفة الظاهرية. وهذه العناية إن التزمت بذلك صارت وسيلة من وسائل إقناعنا بأن التفسير الإشارى ليس عشوائيا يخب فيه كل من هبّ ودبّ ولكنه خاضع لنواميس وقواعد.
ونستطيع بعد ذلك أن نميّز بين تفسير القشيري فى «لطائفه» وبين أولئك الذين ننسب تفاسيرهم إلى التصوف وأهله، أولئك الذين أسرفوا حين حمّلوا النص القرآنى فوق ما يحتمل، وبدلا من أن يخضعوا للنص القرآنى أخضعوا النصّ القرآنىّ لنصرة مذاهبهم، وساروا فى الدروب العقلية حتى جمحوا، وابتعدوا عن الخط الأصيل حتى صارت تفاسيرهم جديرة بالدرس فى مجالس الفلسفة والكلام لا في مجالس الرياضات والمجاهدات والأحوال. أمّا عند القشيري فليس هناك مذهب عقلى خبىء، ولا عقيدة باطنية مستورة، كلّ ما عنده من قصد أن يتمّ لقاء كامل بين الشريعة والحقيقة فى ظلال كلمات الله- جل ذكره، لأنه إذا لم يتم هذا اللقاء فى كنف كلام الله فأين يمكن أن يتم؟! وهنا تلتقى هذه المحاولة التي بذلها فى «اللطائف» مع المحاولة التي بذلها فى «الرسالة»
لماذا كل ذلك؟ لكى يثبت أن هناك لقاء بين الشريعة والحقيقة، وأنهما وجهان لشىء واحد..
تلك هى الغاية القصوى التي يطمح إليها هذا الإمام الجليل، والتي من أجلها نذر عمره، وخصص جهده، ولم يضن عليها بشىء في استطاعته، ولم يفارقه الطموح إليها فى مصنّف من مصنفاته... وما أعظمها وما أشرفها من غاية! فإذا كنّا أخرجنا من نطاق التفسير الإشارى هذه التفاسير المنسوبة لبعض المنتسبين للتصوف فأولى أن نخرج من هذه التأويلات الاعتزالية والشيعية والبدعية والإلحادية وغيرها مما تعتمد فى مباحثها على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ذلك لأن قضية الظاهر والباطن استغلت استغلالا سيئا لخدمة الكثير من العقائد الهدّامة، وارتكبت فى حق الظاهر القرآنى جرائم خطيرة حين أريد له أن يؤول لنصرة الأغراض المريضة والدعوات الجامحة، وفى ذلك يقول التفتازانيّ فى شرح العقائد النسفية: «سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفى الشريعة بالكلية»، ويستدرك التفتازانيّ قائلا: «وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال العرفان ومحض الإيمان» (شرح العقائد النسفية ط الحلبي سنة ١٣٢ هـ).
والذي نحمده للقشيرى وينبغى أن نشيد به فى هذا التقديم أنه حرص أشد الحرص على النص القرآنى، وأنه التزم بالنظر إليه نظرة اعتبار وتقديس، وكان عمله أشبه بمن يقبس قطفات من الضوء من مشكاة كبيرة ينير بها الطريق أمام الزهاد والعارفين، دون أن يتورط فى تعسّف أو ينزلق فى درب من دروب الشطط، والسبب الهام الذي يعود إليه هذا المنهج
ولقد أعان القشيري فى عمله أنه صنّف قبل «اللطائف» كتابا كاملا فى تفسير القرآن على نحو تقليدى هو «التيسير فى التفسير» - الذي حصلنا على مصورة للجزء الخامس منه من أكاديمية العلوم السوفيتية- ونجده فى «التيسير» يعنى أشد العناية باللغة والاشتقاق والنحو وأسباب النزول والأخبار والقصص. وقد صنّفه قبل أن يلتقى بشيخه الدقاق أي قبل أن يسلك المسلك الصوفي، فأعانه ذلك على أن يفقه العبارة من معظم زواياها المتصلة بالظاهر، حتى إذا بدأ يكتب «اللطائف» كان طريقه إلى الإشارة وإلى فقه الباطن ممهدا، ومناله ميسورا، وآفاقه مفتّحة.
سار القشيري فى «اللطائف» على خطة واضحة محددة التزم بها من أول الكتاب إلى آخره، فهو يبدأ بتفسير البسملة كلمة كلمة، وأحيانا حرفا حرفا، والبسملة تتكرر بلفظها فى مفتتح كل سورة، ومع ذلك فإننا نجده يلجأ إلى تفسير كل بسملة على نحو ملفت للنظر إذ هى تختلف وتتنوع ولا تكاد تتشابه، ويزداد إعجابنا بالقشيري كلّما وجدنا تفسير البسملة يتمشى مع السياق العام للسورة كلّها، فالله والرحمن والرحيم لها دلالات خاصة فى سورة القارعة، ولها دلالات أخرى فى سورة النساء ولها دلالات خاصة فى الأنفال وهكذا...
ونستنتج من ذلك عدّة نتائج:
أولا: أنه يعتبر البسملة قرآنا وليست كما يقول البعض- شيئا يستفتح به للتبرك، شأن ما نصنع فى بداية أقوالنا وأفعالنا (انظر «المغني» للقاضى عبد الجبار المتوفى سنة ٤١٥ هـ ج ١١ ط وزارة الثقافة (تراثنا) ص ١٦١).
ثانيا: أنه مادام يعتبر البسملة قرآنا، ومادام يجد لها مقاصد متجددة، فكأنه لا يؤمن بفكرة التكرار فى القرآن، وفى ذلك يقول فى الورقة الثالثة من
ثالثا: أن لدى القشيري قدرة غير عادية ونفسا طويلا عند استبطان الظاهر، لأننا نجده أمام أربع كلمات تتكرر بلفظها ومعناها من بداية القرآن إلى نهايته، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه سار على هذه السّنّة فى «التيسير» ازداد إعجابنا به وعجبنا له.
ومن الخير أن نضرب هنا مثلين لما صنع فى بسملة «اللطائف» لنستوضح مقاصده من هذا الاتجاه.
يقول فى بسملة سورة «الحجر» :«سقطت ألف الوصل من كتابة بسم الله وليس لإسقاطها علة، وزيد فى شكل الباء من بسم الله وليس لزيادتها علة، ليعلم أنّ الإثبات والإسقاط بلا علة فلا يقبل من قبل لاستحقاق علة، ولا ردّ من ردّ لاستيجاب (لاستحقاق) علة. فإن قيل العلة فى إسقاط الألف من بسم الله كثرة الاستعمال فى كتابتها أشكل بأن الباء فى بسم الله زيد فى كتابتها وكثرة الاستعمال موجودة. فإن قيل العلة في زيادة شكل الباء بركة أفضالها بسم الله أشكل بحذف ألف الوصل لأن الاتصال فيها موجود.
فلم يبق إلا أن الإثبات والنفي ليس لهما علة يرفع من يشاء ويمنع من يشاء».
ويتضح من هذا أن استنباط الإشارة ليس- كما قلنا من قبل- مسألة عشوائية إنما هو خاضع لقواعد وأصول، وإلى تفنيد لمختلف الآراء، ومحاولة للإقناع.
وليس هذا فقط.. بل إنك لو تعمقت داخل السورة لأدهشك- كما أدهشنى- أن هناك صلة وثيقة محكمة بين هذا الذي فسرت به البسملة وبين كلام فى داخل السورة عن رفع الخلق بلا علة، وخفضهم بلا علة، وذلك كما ورد فى قصة خلق آدم، وكيف أن الملائكة (كانوا فى حال سترهم لأنهم نظروا إلى القوالب مع أن الاعتبار بالمعاني التي يودعها، فالملائكة استصغروا قدر آدم وحاله وتعجبوا من الأمر لهم بالسجود فكشف لهم شظيّة مما اختصه فسجدوا للأمر وكذا حال من ادّعى الخيرية) أما إبليس فلم يفطن للمشيئة الإلهية
وفى سورة براءة- التي نعرف أنها السورة الفريدة فى القرآن الكريم التي تبدأ بدون بسملة نجد الأمر يستوقف نظر القشيري فلا يتركه كى يمردون استنباط إشارة، استمع إليه يقول: «الحقّ- سبحانه- جرّد هذه السورة عن ذكر البسملة ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء بما يشاء، لا لصنعه سبب، ولا فى أفعاله غرض ولا أرب. ومن قال إنه لم يذكرها لأن السورة مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- إلا أنه ضعيف، وفى التحقيق كالبعيد، لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل قوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا... » ومثل قوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ... » فهذه كلها مفاتح السور، والبسملة مثبتة فى أوائلها، وهى متضمنة ذكر الكفار.
وقد يقال إنها تضمنت ذكر الكفار دون ذكر صريح للبراءة، وإن تضمنته تلويحا هذه البراءة هنا فى ذكر البراءة من الكفار قطعا فلم تصدر بذلك الرحمة، وإذا كان تجرد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرى أن يخشى أن تجرد الصلاة عنها يمنع كمال الوصلة والاستحقاق».
...... وبعد أن ينتهى القشيري من بسط مذهبه فى كل بسملة على هذا النحو الطريف الممتع يبدأ فى تفسير السورة آية آية، ولم يتخلّ عن آية إلا فى مواضع نادرة، بل ربما تكون الآية طويلة نسبيا ومع ذلك لا يتركها دون إشارة حتى ولو كانت سريعة مقتضبة «على سبيل الإقلال خشية الملال» كما يقول فى مقدمته.
ولا بد أن القارئ يتوقع أن تسوق إليه موقف القشيري من الحروف المقطعة التي تلى البسملة فى عديد من السور نظرا لما دار حول هذه الحروف من جدل كثير، ونظرا لأنها لبعدها عن مألوف الكلام العادي أقرب ما تكون إلى الرموز وبمعنى آخر أقرب ما تكون إلى الإشارات أي أدخل فى عمل القشيري فى «لطائف الإشارات». وربما كان أفضل
وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه فالألف من اسم «الله» واللام يدل على اسم «اللطيف»، والميم يدل على اسم «المجيد» و «الملك».
وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه، وقيل إنها أسماء السور، وقيل الألف تدل على اسم «الله» واللام على اسم «جبريل» والميم تدل على اسم «محمد» صلّى الله عليه وسلّم فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد (ص).
والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف فى الخط، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة، فلينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع.
ويقال «١» يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدّس الحق- سبحانه وتعالى- عن التخصص ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج، غير الألف فإنها هويته لا تضاف إلى محل.
ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه.
ويقال يطالب العبد فى سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بشىء من أضرابها من الحروف فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حظى بالمرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوي، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هى غير
قلت لها قفى قالت قاف ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب، ومراعاة لقلب الحبيب، وهكذا تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص أسمع موسى كلامه فى ألف موطن، وقال نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لى الكلام اختصارا» وقال بعضهم:
قال لى مولاى ما هذا الدنف... قلت تهوانى قال: لام ألف
...... ويمضى القشيري بعد ذلك فيستخرج للصوفية إشارات ثمينة مما يصادفه فى الآية من حكم تشريعى يتصل بالقتال والغنيمة والأسر والكيل والميزان والدين والشهادة ونحو ذلك أو كلام فى العبادات كالصوم والصلاة والحج والزكاة أو ما يعود بالآية إلى أسباب نزولها والأخبار والقصص التي رويت من حولها، أو ما تحتوى من مظاهر قدرة المولى- جل وعلا- فى خلق الإنسان والكون.
وينبغى ألا ننتظر من القشيري إسهابا فى الأحكام الفقهية والقواعد التعبدية والأسانيد ونحو ذلك فما لهذا ألّف كتابه، ولا يصح للقارئ أن يتوقع منه ذلك فهناك تفاسير مخصوصة وضعت للوفاء بهذه الأمور، إنما قصد القشيري إلى استمداد شىء نافع للصوفية يتدعم به رأى من آرائهم أو عمل من أعمالهم، فهذا هو مقصوده، وتلك مراميه، ونحن من أجل ذلك نقول بلا تحفظ إن «لطائف الإشارات» يمثل تمثيلا صادقا مذهب القشيري فى التصوف أكثر مما تمثله «الرسالة» فهو يغنى عنها وهى لا تغنى عنه.
وعلينا الآن أن نسوق أمثلة قليلة توضح موقف القشيري فى تلك الأمور حتى يعرف القارئ منذ البداية أي نوع من التفسير ذلك الذي نضعه بين يديه. ففيما يختص بالأحكام التشريعية نراه مثلا عند الآية الكريمة «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» يقول:
الغنيمة ما يحصل عليه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظفروا عند الجهاد والقتال. ولمّا كان الجهاد قسمين: جهاد الظاهر مع الكفّار وجهاد الباطن مع النفس والشيطان، وكما أن للجهاد
ونلفت نظر القارئ إلى ما ورد فى هذا النص من ترتيب الملكات الباطنة للإنسان من أسفل إلى أعلى، وهى: النفس ثم القلب ثم الروح ثم السر، ولكل منها وظيفة ولكل وظيفة غاية، كما أن لكلّ منها آفات ولكن لكل علاج... والكلام فى ذلك كله موزع فى الكتاب حسب السياق الذي توحى به آيات الكتاب الكريم. والقشيري مشكور أعظم الشكر حين التزم بهذا الترتيب، ولم يتخلّ عنه لا فى اللطائف وحده بل فى كل ما بين أيدينا من مصنفاته، حتى صار له مذهب واضح السمات بارز القسمات فى المعراج الروحي، وتفصيل ذلك موضح فى كتابنا عن «مذهبه فى التصوف» الذي هو القسم الأول من بحثنا للدكتوراه.
ويطابق القشيري بين ما يحدث من نسخ لبعض الأحكام وبين ما يحدث من نسخ فى السلوك الصوفي حيث يقول عند قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ... » «حكم هذه الآية كان ثابتا فى الشرع، ولكنه نسخ بعده. والنسخ هو الإزالة، ومعنى النسخ فى سلوك المريدين أنهم فى الابتداء فرضهم القيام بالظاهر من حيث المجاهدات، فإذا لاح لهم من أحوال القلوب شىء آلت أحوالهم إلى مراعاة القلوب فتسقط عنهم أوراد الظاهر».
أما فيما يختص بالعبادات فإننا نلحظ أن القشيري يغتنم كل فرصة كى يوضح ضرورة التزام العبد بأدائها مهما أوغل فى الفناء عن نفسه، فليس ثمة عذر لسقوطها عنه أو إعفائه
فاستقبال القبلة عند الصلاة له عند القشيري إشارة: (لتكن القبلة مقصود نفسك، وسبحانه مقصود مشهود قلبك لا تعلّق قلبك بأحجار وآثار، وأفرد قلبك لى) وعند قوله تعالى «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» يقول: «إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته، وإراقة الدماء التي تجب فيه، وعلى لسان أهل الإشارة الحج هو القصد، فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص، وكما أن الذي يحج بنفسه يحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق، فكذلك من يحج بقلبه فإحرامه بعقد صحيح على قصد صحيح، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره، وإمساكه عن متابعة حظوظه من اتباع الهوى وإطلاق خواطر المنى، وما فى هذا المعنى، ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع والتلبية، وأفضل الحج الشجّ والعجّ فالشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها، ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الالتجاء والوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامى والصفات (أسماء الله الحسنى وصفاته)، وطواف القلوب حول مشاهد العز، والسعى بالأسرار بين صفى كشف الجلال ولطف الجمال، ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيار والمنى والمعارضات بكل وجه».
وتسمع القشيري عند: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ... » يقول: «الصوم على ضربين:
صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات....
ونهاية الصوم إذا هجم الليل، ولكن من أمسك عن الأغيار فصومه نهايته أن يشهد الحقّ. والصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته كما يقول عليه السلام فالرؤية عائدة على الهلال، وعند أهل التحقيق فالرؤية عائدة إلى الحق فصومهم لله حتى شهودهم، وفطرهم لله، وإقبالهم على الله، والغالب عليهم الله».
أمن الصلاح قطع النخل وعقر الشجر؟
فوجد المسلمون فى أنفسهم من قولهم، فأنزل الله تعالى الآية، وأن ذلك بإذن الله، وانقطع الكلام وفى هذا دليل على أنّ الشريعة غير معلّلة، وأنه إذا جاء الأمر الشرعىّ بطل طلب التعليل، وسكتت الألسنة عن المطالبة: بلم؟ وهكذا من قال لأستاذه وشيخه:
لم؟ لم يفلح، وكلّ مريد يكون لأمثال هذه الخواطر فى قلبه جولان لا يجىء منه شىء، ومن لم يتجرد قلبه عن طلب الاعلال ولم يباشر حسن الرضا لكل ما يجرى، واستحسان ما يبدو من الغيب من الله- بسرّه وقلبه- فليس من الله فى شىء».
وفى قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ» يقول: «نزلت هذه الآية فى أهل رجل من اليمن ترك لهم جنة متمرة، وكان يتصدّق منها للمساكين، فلما ورثه أهله قالوا: لن نفعل فعله، وأقسموا ألا يعطوا شيئا، فأهلك الله جنتهم. وندموا وتابوا» وهذه حال من له بداية حسنة، ويجد التوفيق على التوالي، ويجتنب المعاصي، فيعوضه الله فى الوقت نشاطا، وتلوح فى باطنه أحوال فإذا بدر منه سوء دعوى، وترك أدبا من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال، ويقع فى فترة، فإذا حصل منه بالعبادات والفرائض إخلال انقلب حاله، وردّ عن الوصال إلى البعاد، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب، وصارت صفوته قسوة، فإن كان له بعد ذلك توبة على ما سلف، وندامة على ما فات من أمره، فقلّما يصل إلى حاله، ولكن لا يبعد أن ينظر إليه الحق بأفضاله، فيقبله بعد ذلك، رعاية لما سلف منه فى البداية من أحواله، فإن الله تعالى رءوف بعباده».
ومن مظاهر القدرة الإلهية فى الكون والحياة والإنسان لا يغيب عن القشيري أن يستمد إشارات مناسبة يوجهها نحو الموضوعات الصوفية فيقول مثلا عند «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» :«مهين أي حقير ذكّرهم أصل خلقتهم لئلا يعجبوا بأحوالهم، فإنه لا جنس من المخلوقات والمخلوقين أشد دعوى من بنى آدم، ومن الواجب أن يتفكر الإنسان فى أصله،
والإنسان أفضل من الجان لأن الجان من نار، والنار بالماء تنطفىء وتصبح رمادا ولا يجىء منها شىء. أمّا الطين (الإنسان) فإذا انكسر عاد به الماء إلى ما كان عليه، ولذلك العدو (إبليس) انطفأ ما كان يلوح عليه من سراج الطاعة، ولكن آدم عليه السّلام لما اغترّ جبره ماء العناية فقال تعالى: ثم اجتباه ربه».
«خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» خلق الإنسان من طين ولكنه تعالى «رضى الله عنهم ورضوا عنه» خلق الإنسان من طين ولكنه يقول «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» خلق الإنسان من طين ولكن:
فكم أبصرت من حسن ولكن... عليك من الورى وقع اختياري
وبعد... فهذه أمثلة سريعة أردنا أن نقدمها للتدليل على المواقف التي يتخذها القشيري فى ظلال القرآن من زوايا مختلفة وفى ظروف متنوعة، ومن مجموع هذه المواقف يتحصل مذهبه فى التصوف فضلا عن مذهبه فى الكلام، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه حاول أن يحل بطريق العلم الصوفي ما عجز المتكلمون عن حلّه، فحين حلّ القلب محلّ العقل ليصعد ويقصد نحو الملأ الأعلى، وأصبح الحقّ مناط الأمل لم يعد هناك معنى لأى حديث فى الجبر والاختيار والحسن والقبيح والثواب والعقاب- على النحو الذي اشتجر من حوله الخلاف بين المتكلمين. الله- فى عرف هذا الصوفي وفى عرف الصوفية الخلّص- مشهود ومحبوب لا معبود فقط، وكلّ كلام عن جبر الحب وعذاب الحب يسمج ويسخف، وهل هناك أجمل من أن يتعذب الإنسان فى حبه حتى يهلك؟ ألا ما أروعها من غاية! وما أجدر من أن يضيع العمر بين فقد ووجد! وما أعظم أن يكون الحقّ خلفا لك عن كل حطام الدنيا وأن تكون مشاهدته بديلا لك عن كل نعيم الجنان!
والواقع أن المسألة أكثر شمولا وأوسع أبعادا من أن تنصرف إلى «لطائف الإشارات» وحده أو حتى إلى أعمال القشيري كلها، إنها تتصل بقضية أعظم هى الطريقة التي يؤخذ بها الإنتاج الصوفي عموما، فما زلنا حتى الآن نكتفى بدراسة الأعمال الصوفية ضمن الدراسات الفلسفية والعقلية، فالتصوف فى جامعاتنا يدرس فى أقسام الفلسفة بينما لا يدرس فى أقسام اللغة العربية وآدابها، وإذا حدث شىء من ذلك فهو ينتقل إليها بطريق أساتذة الفلسفة.
وإنى لأتساءل: إلى متى يظل الحال هكذا؟ إن الوضع مقلوب، فالمشتغلون بالأدب أولى باحتضان التصوف، لأن الإنتاج الصوفي- فى كثير من الأحوال- درر من المنظوم والمنثور، والصوفية أنفسهم قوم يصرحون أن مذهبهم لا يعنى بالعقل إلا فى مراحل البداية من أجل تصحيح الإيمان، أمّا طريقهم بعد ذلك فوثيق الصلة بالقلب والوجدان، فهم بذلك يقتربون من أهل الفن وينأون عن أهل العقل، هم فى حاجة إلى من يتذوق أقوالهم أكثر مما هم فى حاجة إلى من يتفكر فيها، وتجربتهم فى الفناء تدنو من تجربة الإلهام فى الفن، ومصطلحاتهم التي وضعوها لأنفسهم تنم عن بصر نافذ فى الأسلوب العربي والاشتقاق، وهكذا يفرض الإنتاج الصوفي نفسه على الدراسات الأدبية، بينما المشتغلون بهذه الدراسات لا يكادون يحركون ساكنا.
وليس بمعقول أن أقنع القارئ بجدوى دراسة «اللطائف» من الناحية الأدبية بواسطة هذه السطور القليلة، فهذا له مكان آخر، إنما قصدت لأثير قضية عامة قد يؤدى الأخذ بها إلى تصحيح كثير من المقاييس التي تتصل بالتصوف وبالأدب على حدّ سواء.
وفى تقديرنا أن منهج القشيري فى استخراج الإشارة من العبارة منهج أدبى، لأنه يعتمد على تذوق اللفظة- مفردة ومركبة- تذوقا ينبنى على أصول من اللغة والاشتقاق والإعراب والبلاغة، ثم إن التعبير الذي يفصح به القشيري تعبير أدبى له خصائص الأسلوب الأدبى والصياغة الفنية، ومعنى هذا أنه نظر للقرآن بمنظار أدبى وعبّر عن نظرته بطريقة أدبية، وليس أدخل فى التفسير الأدبى من منهج كهذا، حيث استكمل ناحيتين: أدب المفسّر وأدب المفسّر.
تخرج من هذا إلى أن دراسة إعجاز القرآن إن أغفلت تفسيرا كاللطائف- راعى فيه صاحبه أدب المفسّر وأدب المفسّر- إنما تغفل عن رافد غنى من روافد الدراسات القرآنية.
ويمكن أن نضرب أمثلة سريعة توضح طريقة القشيري عند ما يتصدّى لبعض الجوانب فى الأسلوب القرآنى.
فمن اللفظة المفردة تنبعث إيحاءات جميلة مؤثرة تزيد المعنى قوة وتأكيدا كأن يقول عند قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» : اللعب فعل يجرى على غير ترتيب، تشبيها باللّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص، فوصف المنافق باللعاب تصويرا لتردده وتحيره وشكه فى عقيدته».
والتسبيح عنده مرتبط «بالسباحة فى بحار التوحيد بلا شاطئ، فبعد ما حصلوا فيها فلا خروج ولا براح فحازت أيديهم جواهر التفريد، نظموها فى عقود الإيمان ورصعوها فى أطواق الوصلة».
والفجر «انفجار الصبح كما يتفجّر الماء من الصخر».
ومن القصة تنبعث إيحاءات ممتعة فمريم حين خوطبت «وهزّى إليك بجذع النخلة» :
كان ذلك الجذع يابسا أخرج الله سبحانه فى الوقت الرّطب الجنىّ، وكان ذلك آية ودلالة على أن الذي قدر على فعل هذا قادر على خلق عيسى عليه السّلام من غير أب، وقد أمرت بهز النخلة اليابسة حينما جاءتها علاقة الولد بعد أن كانت لا تتكلف السعى إذ كان زكريا يدخل عليها المحراب فيجد عندها رزقا، أمرت بهز النخلة وهى فى أضعف حالها زمان قرب عهدها بوضع الولد ليعلم أن العلاقة توجب المشقة والعناء، أمرت بهز النخلة اليابسة وأمكنها ذلك وهى فى حال ضعفها وفى ذلك أوضح دلالة على صدقها... ».
والمظاهر الكونية فى القرآن مصادر إشارات لا تنتهى وهى من أقوى الوسائل التي استغلّها القشيري لتوضيح حقائق العلم الصوفي فالشمس والقمر، والليل والنهار، والجبال والبحار، والسحب والأمطار.... كلها توحى بمعان كثيرة لتوضيح الفروق الدقيقة بين الطوالع واللوامع واللوائح، وعلم اليقين وحق اليقين، وعلوم الإنسان العقلية والمعارف اللدنية....
إلى آخره.
يقول عند «كلا والقمر» : أقمار العلوم إذا أخذ هلالها فى الزيادة بزيادة البراهين فإنها تزداد حتى إذا صارت إلى حد التمام وبلغت الغاية تبدو أعلام المعرفة، ثم تأخذ علوم البراهين فى النقصان حين تطلع شموس المعرفة، وكما أن القمر كلما قرب من الشمس يزداد نقصانه حتى يصير محاقا كذلك إذا ظهر سلطان العرفان تأخذ أقمار العلوم فى النقصان بزيادة المعارف كالسراج فى ضوء الشمس).
وتوقف القشيري طويلا عند المواقف النفسية وعند الاستدلالات الوجدانية فى الأسلوب القرآنى فكشف الكثير من أسرار الإعجاز القرآنى كما أبان عن عبقريته فى التذوق الفنى، وليس ذلك غريبا بالنسبة لصوفىّ ذى بصيرة كاشفة، وشاعر له حس دقيق مرهف، وباحث متعمق فى أغوار النفس البشرية، وأديب يحسن التعبير عما يذوق ويجد.
نفعنا الله بعلمه وبركته.
دكتور ابراهيم بسيونى
قال الإمام جمال الإسلام أبو القاسم القشيري رحمه الله: وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من إشارات القرآن»
على لسان أهل المعرفة، إما من معانى مقولهم، أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلا (ل) خشية الملال، مستمدين من الله تعالى عوائد المنّة، متبرئين من الحول والمنّة «٣» مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوفقين لأصوب القول والعمل، ملتمسين أن يصلى على سيدنا محمد صلّى الله عليه و (سلّم)، ليختم لنا بالحسنى بمنّه وأفضاله. وتيسّر الأخذ
(٢) ما تحته خط هو تكملة اعتمدنا فى إثباتها هنا على ما جاء فى (تذكرة النوادر) التي اقتبست بضع فقرات رجوعا إلى نسخة أخرى.
(٣) المنّة بضم الميم القوة.
سورة فاتحة الكتاب
هذه السورة بدا (ية) الكتاب، ومفاتحة الأحباب بالخطاب والكتاب منه أجلّ النّعمى، وأكرم الحسنى إذ هى (... ) «٢» وابتداء وفى معناه قيل.
أفديك بل أيام دهرى كلها... تفدين أياما (.....)
سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن... ما كان قلبى للصبابة معهدا «٣»
ولقد كان صلّى الله عليه وسلّم غير مرتقب لهذا الشأن، وما كان هذا الحديث منه على بال، وحينما نزل عليه جبريل صلوات الله عليه وسلامه أخذ فى الفرار، وآثر التباعد لهذا الأمر آوى (... ) قائلا: دثرونى دثرونى، زمّلونى زمّلونى، وكان يتحنّث فى حراء، ويخلو هنالك (....) فجأة، وصادفته القصة بغتة كما قيل:
أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى... فصادف قلبى فارغا فتمكّنا «٤»
وكان صلوات الله عليه وسلم رضى بأن يقال له أجير خديجة ولكن (الحق سبحانه وتعالى أراده لأن) «٥» يكون سيد الأولين والآخرين حيث قال. «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ»، (رفعه إلى) أشرف المنازل وإن لم يسم إليه بطرف التأميل سنّة منه تعالى وتقدّس (... ) إلا عند من تقاصرت الأوهام عن استحقاقه، ولذلك ما قصّوا العجب من شأنه (... ) يتيم أبى طالب
وبهذا يبطل قول صاحب كشف الظنون (المجلد الثاني ص ١٥٥١) بأن القشيري ألف اللطائف قبل عام ٤١٠، ويبدو أن الأمر قد التبس على حاجى خليفة فظن تاريخ تأليف «التيسير فى التفسير» هو تاريخ تأليف «اللطائف».
(٢) ما بين الأقواس المفرغة ساقط فى ص ومن حسن الحظ أن السقوط الكثير على هذا النحو لا يتكرر بعد الورقتين الأولى والثانية من (ص).
(٣) اعتمدنا فى تكملة البيت على هذا النحو على وروده فى (م) كاملا عند تفسير سورة الحديد.
(٤) الشطر الثاني من البيت ناقص فى (ص) ومكمل فى (م) عند تفسير آية: علم القرآن من سورة الرحمن.
(٥) زيادة أضفناها ليستقيم المعنى
.
هذا (... ) أطمار... وكان فى فقر من السيار
آثر عندى (بالإكبار)... من أخى (ومن) جارى
وصاحب الدرهم (والدينار)... فإن صاحب الأمر مع الإكثار «١»
ولقد كان ﷺ قبل النبوة حميد الشأن، (محمود) الذكر، ممدوح الاسم، أمينا لكل واحد. وكانوا يسمونه محمدا الأمين، ولكن (الكافرين) (... ) حالته، بدّلوا اسمه، وحرّفوا وصفه، وهجّنوا ذكره، فواحد كان يقول ساحر وآخر يقول (... )
وثالث يقول كاذب، ورابع يقول شاعر:
أشاعوا لنا فى الحي أشنع قصة... وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
وهكذا صفة المحبّ، لا ينفك عن الملام ولكن كما قيل
أجد الملامة فى هواك لذيذة... حبا لذكرك فليلمنى اللّوم «٢»
وماذا عليه من قبيح قالة (من) يقول، (والحق سبحانه يقول) :«وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ» أي استمع إلى ما يقال فيك بحسن الثناء علينا.
[فصل] وتسمى هذه السورة أيضا أمّ الكتاب، وأم الشيء أصله، وإمام كل شىء مقدّمه. وهذه السورة لما تشتمل عليه من الأمر بالعبودية، والثناء على الله بجمال الربوبية، ثم «٣» كمالها من الفضائل- لا تصح الفرائض إلا بها. وقوله صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عنه سبحانه وتعالى: «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» يعنى قراءة هذه السورة، فصارت أمّ الكتاب، وأصلا لما تنبنى عليه من لطائف الكرامات وبدائع التقريب والإيجاب.
وإن كان وزن الشعر ما زال غير سليم.
(٢) وردت خطأ فى (ص) : فليسلمنى اللؤم.
(٣) لا نستبعد أن تكون فى الأصل (تمّ) كمالها...