وهي مكية بإجماعهم من غير خلاف علمناه. وقال مقاتل : هي مكية غير سجدتها، فإنها مدنية. وقال هبة الله المفسر : هي مكية غير آيتين منها، قوله :﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾ والتي تليها [ مريم : ٥٩، ٦٠ ].
ﰡ
وهي مكّيّة بإجماعهم من غير خلاف علمناه. وقال مقاتل: هي مكّيّة غير سجدتها، فإنها مدنيّة.
وقال هبة الله المفسّر: هي مكّيّة غير آيتين منها، قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ والتي تليها «١».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
قوله تعالى: كهيعص قرأ ابن كثير: كهيعص (١) ذِكْرُ بفتح الهاء والياء وتبيين الدال التي في هجاء «صاد». وقرأ أبو عمرو: «كهيعص» بكسر الهاء وفتح الياء ويدغم الدال في الذال، وكان نافع يلفظ بالهاء والياء بين الكسر والفتح، ولا يدغم الدال التي في هجاء «صاد» في الذال من «ذِكْر». وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي، بكسر الهاء والياء. إِلا أن الكسائي لا يبيِّن الدال، وعاصم يُبيِّنها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، بفتح الهاء وكسر الياء ويدغمان. وقرأ أُبيّ بن كعب: «كهيعص» برفع الهاء وفتح الياء. وقد ذكرنا في أول «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خصَّ المفسرون هذه الحروف المذكورة ها هنا بأربعة أقوال «٢» :
أحدها: أنها حروف من أسماء الله عزّ وجلّ، قاله الأكثرون. ثم اختلف هؤلاء في الكاف من أي اسم هو، على أربعة أقوال. أحدها: أنه من اسم الله الكبير. والثاني: من الكريم. والثالث: من الكافي، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: أنه من الملك، قاله محمد بن كعب. فأما الهاء، فكلُّهم قالوا: هي من اسمه الهادي، إِلا القرظي فإنه قال: من اسمه الله. وأما الياء، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من حكيم. والثاني: من رحيم. والثالث: من أمين، روى هذه الأقوال الثلاثة سعيد بن جبير عن ابن عباس. فأما العين، ففيها أربعة أقوال: أحدها: أنها من عليم. والثاني:
(٢) تقدم الكلام على الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة.
والقول الثاني: أنّ «كهيعص» قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: هو اسم من اسماء الله تعالى. وروي عنه أنه كان يقول: يا كهيعص اغفر لي. قال الزجاج: والقَسَم بهذا والدعاء لا يدل على أنه اسم واحد، لأن الداعي إِذا علم أن الدعاء بهذه الحروف يدلّ على صفات الله تعالى فدعا بها، فكأنه قال: يا كافي، يا هادي، يا عالم، يا صادق، وإِذا أقسم بها، فكأنه قال: والكافي الهادي العالم الصادق، وأُسكنت هذه الحروف لأنها حروف تهجٍّ، النيَّة فيها الوقف. والثالث: أنه اسم للسورة، قاله الحسن، ومجاهد. والرابع: اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة.
فإن قيل: لم قالوا: هايا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصّاد: صا، لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع.
قوله تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ قال الزجاج: الذِّكر مرفوع بالمُضمَر، المعنى: هذا الذي نتلو عليك ذِكْر رحمة ربِّك عبدَه. قال الفراء: وفي الكلام تقديم وتأخير المعنى: ذِكْر ربِّك عبده بالرحمة، و «زكريا» في موضع نصب.
قوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ النداء ها هنا بمعنى الدعاء. وفي علة إِخفائه لذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: ليبعد عن الرياء، قاله ابن جريج. والثاني: لئلا يقول الناس: انظروا إِلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكِبَر، قاله مقاتل. والثالث: لئلا يعاديه بنو عمه، ويظنوا أنه كره أن يلوا مكانه بعده، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وهذه القصة تدل على أن المستحب إِسرار الدعاء، ومنه الحديث: «إِنكم لا تدعون أصمّ». قوله تعالى: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقرأ معاذ القارئ، والضحاك: «وَهُن» بضم الهاء، أي:
ضَعُف. قال الفراء وغيره: وَهَن العظم، ووَهِن، بفتح الهاء وكسرها والمستقبل على الحالين كليهما:
يَهِن. وأراد أن قوَّة عظامه قد ذهبت لِكبَره وإِنما خصّ العظم، لأنه الأصل في التركيب. وقال قتادة:
شكا ذهاب أضراسه. قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يعني: انتشر الشيب فيه، كما ينتشر شعاع النار في الحطب، وهذا من أحسن الاستعارات. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ أي: بدعائي إيّاك رَبِّ شَقِيًّا أي: لم أكن لأتعب بالدعاء ثم أُخيَّب، لأنك قد عودتَني الإِجابة يقال: شقي فلان بكذا: إِذا تعب بسببه، ولم ينل مراده.
قوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعني: الذين يلونه في النسب، وهم بنو العم والعَصبة مِنْ وَرائِي أي: من بعد موتي. وفي ما خافهم عليه قولان:
أحدهما: أنه خاف أن يَرِثوه، قاله ابن عباس. فإن اعترض عليه معترض، فقال: كيف يجوز لنبيّ
والقول الثاني: أنه خاف تضييعهم للدِّين ونبذهم إِيّاه، ذكره جماعة من المفسرين.
وقرأ عثمان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، وابن جبير، ومجاهد، وابن أبي سرح.
عن الكسائي: «خَفَّت» بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى «قلَّت» فعلى هذا يكون إِنما خاف على عِلْمه ونبوَّته ألاَّ يُورَثا فيموت العِلْم. وأسكن ابن شهاب الزهري ياء «المواليْ».
قوله تعالى: مِنْ وَرائِي أسكن الجمهور هذه الياء، وفتحها ابن كثير في رواية قنبل. وروى عنه شبل: «ورايْ» مثل «عصايْ».
قوله تعالى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أي: من عندك وَلِيًّا أي: ولداً صالحاً يتولاَّني.
قوله تعالى: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة:
«يَرِثُني ويَرِثُ» برفعهما. وقرا أبو عمرو، والكسائي: «يَرِثْني ويَرِثْ» بالجزم فيهما. قال أبو عبيدة: من قرأ بالرفع، فهو على الصفة للوليّ فالمعنى: هب لي وليّاً وارثاً، ومن جزم، فعلى الشرط والجزاء، كقولك: إِن وهبتَه لي ورثني.
وفي المراد بهذا الميراث أربعة أقوال «١» : أحدها: يَرِثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال أبو صالح. والثاني: يَرِثني العِلْم، ويَرِث من آل يعقوب المُلْكَ، فأجابه الله تعالى إِلى وراثة العِلْم دون المُلْك، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: يَرِثني نبوَّتي وعِلْمي، ويَرِث من آل يعقوب النبوَّة أيضاً، قاله الحسن. والرابع: يَرِثني النبوَّة، ويرث من آل يعقوب الأخلاق، قاله عطاء، قال مجاهد: كان زكريا من ذرية يعقوب. وزعم الكلبي أن آل يعقوب كانوا أخواله، وأنه ليس بيعقوب أبي يوسف. وقال مقاتل: هو يعقوب بن ماثان، وكان يعقوب هذا وعمران- أبو مريم- أخوين. والصحيح: أنه لم يُرِد ميراثَ المال لوجوه: أحدها: أنه قد صحّ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٥١) «نحن معاشر الأنبياء لا نورَث، ما تركناه صدقة».
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ١٤٢: سأل الله عز وجل ولدا يكون نبيا من بعده، ليسوس الناس بنبوته وما يوحى إليه لا أنه خشي وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجلّ قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حدّه أن يأنف من وراثة عصابته له، ويسأل أن يكون له ولد، ليحوز ميراثه دونهم. ولم يذكر أنه كان ذا مال، بل كان نجارا يأكل من عمل يده. وقد ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة».
وأخرجه باللفظ المذكور الهيثم بن كليب كما في «الفتح» ١٢/ ٨ من حديث أبي بكر.
وأخرجه الدارقطني في «العلل» كما في «الفتح» ١٢/ ٨ من حديث أم هانئ عن فاطمة، عن أبي بكر مرفوعا، وسكت عليه الحافظ، وهو غريب جدا من هذا الوجه.
وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد ٢/ ٤٦٣/ ٩٦٥٥ من طريق الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا به.
وأخرجه ابن عبد البر ٨/ ١٧٥ من طريق الحميدي عن ابن عيينة عن أبي الزناد به.
فهذه أشهر الكتب التي أوردت هذه اللفظة عن هؤلاء الأئمة. والحديث ورد عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما بدون هذه اللفظة وإنما هو بلفظ «لا نورث، ما تركنا صدقة» وفي رواية زيد في أوله «إنا». أخرجه البخاري ٤٠٣٥ و ٤٠٣٦ و ٤٢٤٠ و ٢٢٤١ و ٦٧٢٥ و ٦٧٢٦ ومسلم ١٧٥٩ وأبو داود ٢٩٦٩ و ٢٩٧٠ وأحمد ١/ ٩- ١٠ وابن حبان ٤٨٢٣ من حديث عائشة عن أبي بكر مرفوعا، وله قصة. وورد من مسند أبي بكر وعمر، أخرجه البخاري ٢٩٠٤ و ٣٠٩٤ ومسلم ١٧٥٧ وأبو داود ٢٩٦٣ والترمذي ١٦١٠ والحميدي ٢٢ وعبد الرزاق ٩٧٧٢ وأحمد ١/ ٢٥ وأبو يعلى ٢ و ٣ و ٤ وابن حبان ٦٦٠٨ مطولا. وورد من مسند عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري ٤٠٣٤ و ٦٧٣٠ ومسلم ١٧٥٨ وأبو داود ٢٩٧٦ و ٢٩٧٧ وأحمد ٦/ ١٤٥ وابن سعد ٢/ ٣١٤ وابن حبان ٦٦١١ والبيهقي ٦/ ٣٠٢.
- وورد من مسند أبي هريرة، بلفظ «لا يقتسم ورثتي بعدي دينارا، ما تركت بعد نفقة عيالي ومؤونة عاملي صدقة». أخرجه البخاري ٢٧٧٦ و ٣٠٩٦ و ٦٧٢٩ ومسلم ١٧٦٠ وأبو داود ٢٩٧٤ ومالك ٢٠/ ٩٩٣ وابن سعد ٢/ ٣١٤ والحميدي ١١٣٤ وابن حبان ٦٦٠٩ و ٦٦١٠ و ٦٦١٢ والبيهقي ٦/ ٣٠٢ من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.
وهذا هو اللفظ المشهور في حديث أبي هريرة، وهكذا رواه مالك في «الموطأ» وأصحاب الصحيح والكتب المشهورة. وهو عند مسلم هكذا من طريق ابن عيينة، وهذا هو الصحيح في هذا المتن.
وللحديث شواهد أخرى، تبلغ به حد الصحة. دون لفظ «معاشر الأنبياء».
- وقال الحافظ في «الفتح» ١٢/ ٨ ما ملخصه:
وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» فقد أنكره جماعة من الأئمة، لكن أخرجه النسائي | فذكر الطرق التي ذكرتها في أول هذا البحث، وقد نقلت عن الحافظ بعض ذلك، والله أعلم. |
(٩٥٢) وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن زكريا كان نجاراً.
قوله تعالى: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قال اللغويون: أي: مرضيّاً، فصُرِف عن مفعول إِلى فَعيل، كما قالوا: مقتول وقتيل.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧ الى ١١]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
قوله تعالى: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ في الكلام إِضمار، تقديره: فاستجاب الله له فقال: «يا زكريّا إِنا نبشِّرك». وقرأ حمزة: «نَبْشُرك» بالتّخفيف. وقد شرحنا هذا في سورة آل عمران «١». قوله تعالى:
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: لم يُسمَّ يحيى قبله، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، وقتادة، وابن زيد، والأكثرون. فإن اعترض معترض، فقال: ما وجه المِدْحَة باسم لم يُسمَّ به أحد قبله، ونرى كثيراً من الأسماء لم يُسبَق إِليها؟ فالجواب: أن وجه الفضيلة أن الله تعالى تولَّى تسميته، ولم يَكِل ذلك إِلى أبويه، فسماه باسم لم يُسبَق إِليه. والثاني: لم تلد العواقر مثله ولداً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لم نجعل له نظيراً. والثالث: لم نجعل له من قبل مِثْلاً وشِبْهاً، قاله مجاهد. فعلى هذا يكون عدم الشَّبَه من حيث أنه لم يعص ولم يهمّ
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، والصواب ما حكيناه عن الجمهور، أن جميع الأنبياء لا يورثون، والمراد بقصة زكريا وداود، وراثة النبوة، والله أعلم.
وذكر الحافظ في «الفتح» ١٢/ ٨- ٦ بعض كلام ابن عبد البر الذي تقدم آنفا، ثم ذكر ما ذهب إليه الحسن، وأنه قول إبراهيم بن إسماعيل بن علية من الفقهاء. قال: وأخرج الطبري عن أبي صالح في الآية، حكاية عن زكريا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ قال: العصبة، ومن قوله يَرِثُنِي يرث مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وأخرج من طريق قتادة عن الحسن نحوه، لكن لم يذكر المال، ومن طريق مبارك بن فضالة عن الحسن رفعه «رحم الله أخي زكريا: ما كان عليه من يرث ماله».
صحيح. أخرجه مسلم ٢٣٧٩ وأحمد ٢/ ٢٩٦- ٤٠٥ وابن ماجة ٢١٥٠ والطحاوي في «المشكل» ١/ ٤٢٩ وابن حبان ٥١٤٢، واستدركه الحاكم ٢/ ٥٩٠ كلهم من حديث أبي هريرة.
__________
(١) سورة آل عمران: ٣٩. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣١٠: وقول من قال: لم يكن ليحيى قبل يحيى أحد سمي باسمه أشبه بتأويل ذلك، وإنما معنى الكلام: لم نجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى باسمه.
والثاني: أنها كانت منذ كانت عاقراً، لم يحدُث ذلك بها، ذكرهما ابن الأنباري، واختار الأول. قوله تعالى: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «عتيّا» و «بكيّا» «٣» و «صليّا» «٤» بضم أوائلها. وقرأ حمزة، والكسائي، بكسر أوائلها، وافقهما حفص عن عاصم، إِلا في قوله: «بُكيّاً» فإنه ضم أوله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد: «عُسِيّاً» بالسين قال مجاهد: «عتيّاً» هو قُحُول العظم. وقال ابن قتيبة: أي: يُبْساً يقال: عَتَا وعَسَا بمعنى واحد. قال الزجاج: كل شيء انتهى، فقد عَتَا يَعْتُو عِتِيّاً، وعُتُوّاً، وعُسُوّاً، وعُسِيّاً.
قوله تعالى: قالَ كَذلِكَ أي: الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكِبَر قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي: خَلْقُ يحيى عليَّ سَهْل. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدري: «هَيْن» باسكان الياء. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ أي: أوجدتُك. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «خَلَقْتُكَ».
وقرأ حمزة، والكسائيُّ: «خَلَقْنَاكَ» بالنون والألف. وَلَمْ تَكُ شَيْئاً المعنى: فخلْقُ الولد، كخلقك.
وما بعد هذا مفسّر في سورة آل عمران «٥» إِلى قوله: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا قال الزجاج: «سَوِيّاً» منصوب على الحال، والمعنى: تُمْنَع عن الكلام وأنت سَوِيّ. قال ابن قتيبة: أي: سليماً غير أخرس.
قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها أمرأته مِنَ الْمِحْرابِ أي: من مصلّاه، وقد ذكرناه في سورة آل عمران «٦». قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما:
أنه كتب إِليهم في كتاب، قاله ابن عباس. والثاني: أومأَ برأسه ويديه، قاله مجاهد. قوله تعالى: أَنْ سَبِّحُوا أي: صلُّوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا قد شرحناه في آل عمران «٧»، والمعنى: أنه كان يخرج إِلى قومه فيأمرهم بالصلاة بُكْرة وعَشِيّاً، فلما حملت امرأته أمرهم بالصّلاة إشارة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
قوله تعالى: يا يَحْيى قال الزجاج: المعنى: فوهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى خُذِ الْكِتابَ يعني التوراة، وكان مأموراً بالتمسك بها. وقال ابن الأنباري: المعنى: اقبل كُتُبَ الله كلَّها إِيماناً بها واستعمالاً لأحكامها. وقد شرحنا في سورة البقرة «٨» : معنى قوله: بِقُوَّةٍ.
قوله تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه الفهم، قاله مجاهد. والثاني: اللُّب، قاله الحسن، وعكرمة. والثالث: العِلْم، قاله ابن السائب. والرابع: حفظ التوراة وعلْمها، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد زدنا هذا شرحاً في سورة يوسف «٩». وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
من قرأ القرآن من قبل أن يحتلم، فهو ممن أُوتيَ الحُكم صبيّاً. فأما قوله: صَبِيًّا ففي سنّه يوم أوتي
(٢) سورة آل عمران: ١١٠.
(٣) سورة مريم: ٥٨.
(٤) سورة مريم: ٧٠.
(٥) سورة آل عمران: ٣٩.
(٦) سورة آل عمران: ٣٩.
(٧) سورة آل عمران: ٣٩.
(٨) سورة البقرة: ٦٣.
(٩) سورة يوسف: ٢٣.
(٩٥٣) أحدهما: أنه سبع سنين، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: ابن ثلاث سنين. قاله قتادة، ومقاتل.
قوله تعالى: وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا قال الزجاج: أي وآتيناه حناناً. وقال ابن الأنباري: المعنى وجعلناه حناناً لأهل زمانه. وفي الحنان ستة أقوال: أحدها: أنه الرحمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء، وأبو عبيدة، وأنشد:
تَحَنَّنْ عليَّ هَدَاكَ الملِيك | فإنّ لكلِّ مقامٍ مَقَالاَ «١» |
أبا مُنْذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بَعضَنَا | حَنَانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بَعْضِ «٢» |
لم يختلف اللغويون أن الحنان: الرحمة، والمعنى: فعلنا ذلك رحمةً لأبويه، وتزكيةً له. والثاني: أنه التعطف من ربِّه عليه، قاله مجاهد. والثالث: أنه اللِّين، قاله سعيد بن جبير. والرابع: البَرَكة، وروي عن ابن جبير أيضاً. والخامس: المَحبَّة، قاله عكرمة، وابن زيد. والسادس: التعظيم، قاله عطاء بن أبي رباح.
وفي قوله: وَزَكاةً أربعة أقوال: أحدها: أنها العمل الصالح، قاله الضحاك، وقتادة. والثاني:
أن معنى الزكاة: الصدقة، فالتقدير: إِن الله تعالى جعله صدقة تصدّق بها على أبويه، قاله ابن السائب.
والثالث: أن الزكاة: التطهير، قاله الزجاج. والرابع: أن الزكاة: الزيادة، فالمعنى: وآتيناه زيادة في الخير على ما وُصف وذُكِر، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَكانَ تَقِيًّا قال ابن عباس: جعلته يتَّقيني، ولا يعدل بي غيري. قوله تعالى:
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
أي: وجعلناه بَرّاً بوالديه، والبَرُّ بمعنى: البارّ والمعنى: لطيفاً بهما، محسناً إِليهما.
والعَصِيَّ بمعنى: العاصي. وقد شرحنا معنى الجبّار في سورة هود «٣».
قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَيْهِ
فيه قولان: أحدهما: أنه السلام المعروف من الله تعالى، قال عطاء:
سلام عليه مِنِّي في هذه الأيام وهذا اختيار أبي سليمان. والثاني: أنه بمعنى: السلامة، قاله ابن السائب. فإن قيل: كيف خَصَّ التسليم عليه بالأيام وقد يجوز أن يولد ليلاً ويموت ليلاً؟ فالجواب: أن المراد باليوم الحِين والوقت، على ما بيّنا في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «٤». قال ابن عباس:
__________
(١) البيت للحطيئة كما في ديوانه: ٢٢٢ و «اللسان» - حنن-.
(٢) البيت في ديوانه: ٢٠٨ و «اللسان» - حنن-.
(٣) سورة هود: ٥٩.
(٤) سورة المائدة: ٣. [.....]
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
يعني: القرآن مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
قال أبو عبيدة: تنحَّت واعتزلت مَكاناً شَرْقِيًّا
مما يلي المشرق، وهو عند العرب خير من الغربيّ. قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ
يعني أهلها حِجاباً
أي: ستراً وحاجزاً، وفيه ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنها ضربت ستراً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن الشمس أظلَّتْها، فلم يرها أحد منهم، وذلك مما سترها الله به، وروي هذا المعنى عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنها اتخذت حجاباً من الجدران، قاله السدي عن أشياخه وفي سبب انفرادها عنهم قولان: أحدهما: أنها انفردت لتطهر من الحيض وتمتشط، قاله ابن عباس. والثاني: لتفلّي رأسها، قاله عطاء.
قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
وهو جبريل في قول الجمهور. وقال ابن الأنباري: صاحب روحنا، وهو جبريل. والرُّوح بمعنى: الرَّوْح والفرح، ثم تضم الراء لتحقيق مذهب الاسم، وإِبطال طريق المصدر، ويجوز أن يُراد بالرُّوح ها هنا: الوحي وجبريل صاحب الوحي.
وفي وقت مجيئه إِليها ثلاثة أقوال: أحدها: وهي تغتسل. والثاني: بعد فراغها، ولبسها الثياب.
والثالث: بعد دخولها بيتها. وقد قيل: المراد بالرّوح ها هنا: الروح الذي خُلق منه عيسى، حكاه الزجاج، والماوردي، وهو مضمون كلام أُبيّ بن كعب فيما سنذكره عند قوله: فَحَمَلَتْهُ قال ابن الأنباري: وفيه بُعد، لقوله: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
، والمعنى: تصوَّر لها في صورة البَشَر التّامّ
أي: استترت منهم وتوارت، فأرسل الله إليها جبريل عليه السلام فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أي: على صورة إنسان تام كامل. وهو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي: لما تبدى لها الملك في صورة بشر، وهي في مكان منفرد، وبينها وبين قومها حجاب، خافته وظنت أنه يريدها على نفسه فقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أي:
إن كنت تخاف الله، تذكيرا له بالله، وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فخوفته أولا بالله عزّ وجل.
قوله تعالى: قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
المعنى: إِن كنتَ تتَّقي الله، فستنتهي بتعوُّذي منك، هذا هو القول عند المحققين، وحكي عن ابن عباس أنه كان في زمانها رجل اسمه تقي، وكان فاجراً، فظنتْه إِياه، ذكره ابن الأنباري، والماوردي. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبي رجاء: «إِلا أن تكون تقيّاً». قوله تعالى: قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
أي: فلا تخافي لِأَهَبَ لَكِ
قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «لأهب لك» بالهمز. وقرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: «ليهب لك» بغير همز. قال الزجاج: من قرأ «ليهب» فالمعنى: أرسَلني ليهب ومن قرأ «لأهب» فالمعنى أُرسلتُ إِليكِ لأهب لكِ، وقال ابن الأنباري المعنى: أرسلني يقول لك: أرسلتُ رسولي إِليكِ لأهبَ لكِ.
قوله تعالى: غُلاماً زَكِيًّا
أي: طاهرا من الذنوب. والبغيّ: الفاجرة والزّانية. قال ابن الأنباري: وإِنما لم يقل: «بغيَّة» لأنه وصف يغلب على النساء، فقلَّما تقول العرب: رجل بغيّ، فيجري مجرى حائض، وعاقر. وقال غيره: إِنما لم يقل: «بغيَّة» لأنه مصروف عن وجهه، فهو «فعيل» بمعنى:
«فاعل». ومعنى الآية: ليس لي زوج، ولستُ بزانية، وإِنما يكون الولد من هاتين الجهتين. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ قد شرحناه في قصة زكريا، والمعنى: أنه يسيرٌ عليّ أن أهب لكِ غلاماً من غير أب. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي: دلالة على قدرتنا كونه من غير أب. قال ابن الأنباري: إِنما دخلت الواو في قوله: وَلِنَجْعَلَهُ لأنها عاطفة لِما بعدها على كلام مضمر محذوف، تقديره: قال ربُّكِ خَلْقُه عليّ هيِّن لننفعكِ به، ولنجعلَه عبرة.
قوله تعالى: وَرَحْمَةً مِنَّا أي: لمن تبعه وآمن به وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي: وكان خَلْقُه أمراً محكوماً به، مفروغاً عنه، سابقا في علم الله تعالى كونه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
قوله تعالى: فَحَمَلَتْهُ يعني: عيسى. وفي كيفية حملها له قولان: أحدهما: أن جبريل نفخ في جيب دِرعها، فاستمرَّ بها حملها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال السدي: نفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قُدَّامها، فدخلت النفخة في صدرها فحملت من وقتها. والثاني: أنّ الذي خاطبها هو الذي حملته، ودخل مِنْ فيها، قاله أبيّ بن كعب «١».
ثلاث ساعات، حملته في ساعة، وصوِّر في ساعة، ووضعته في ساعة، قاله مقاتل بن سليمان.
والخامس: ثمانية أشهر، فعاش، ولم يعش مولود قط لثمانية أشهر، فكان في هذا آية، حكاه الزجاج.
والسادس: في ستة أشهر، حكاه الماوردي. والسابع: في ساعة واحدة، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: فَانْتَبَذَتْ بِهِ يعني بالحَمْل مَكاناً قَصِيًّا أي: بعيداً. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة: «قاصياً». قال ابن إِسحاق: مشت ستة أميال. قال الفراء: القصيّ والقاصي بمعنى واحد.
وقال غير الفراء: القصيّ والقاصي بمنزلة الشهيد والشاهد. وإِنما بَعُدت، فراراً من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج.
قوله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وقرأ عكرمة، وإِبراهيم النخعي، وعاصم الجحدري:
«المِخاض» بكسر الميم. قال الفراء: المعنى: فجاء بها المخاض، فلما أُلقيت الباء، جُعلت في الفعل ألفاً، ومثله: آتِنا غَداءَنا «١» أي: ومثله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ «٢» أي: بزبر الحديد. قال أبو عبيدة:
أفعلها من جاءت هي فأجاءها غيرها. وقال ابن قتيبة: المعنى: جاء بها، وألجأها، وهو من حيث يقال: جاءت بي الحاجة إِليك، وأجاءَتني الحاجة إِليك، والمَخاض: الحمل. وقال غيره: المخاض:
وجع الولادة. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهو ساق النخلة، وكانت نخلة يابسة في الصحراء، ليس لها رأس ولا سعف. قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا اليوم، أو هذا الأمر، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: «مِتُّ» بكسر الميم. وفي سبب قولها هذا قولان: أحدهما: أنها قالته حياءً من الناس.
والثاني: لئلا يأثموا بقذفها.
قوله تعالى: وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، بكسر النون، وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «نَسياً» بفتح النون، قال الفرّاء:
وأصحاب عبد الله يقرءون: «نسيا» بفتح النون وسائر العرب بكسرها، وهما لغتان، مثل الجَسر والجِسر، والوَتر والوِتر، والفتح أحب إِليَّ، قال أبو علي الفارسي: الكسر على اللغتين. وقال ابن الأنباري: من كسر النون قال: النِسي: اسم لما يُنسى، بمنزلة البِغض اسم لما يُبْغَض، والسِّب اسم لما يُسَب. والنَسي بفتح النون: اسم لما يُنسى أيضاً على أنه مصدر ناب عن الاسم، كما يقال: الرجل دَنِف، ودَنَف، فالمكسور: هو الوصف الصحيح، والمفتوح: مصدر سدَّ مسدَّ الوصف. ويمكن أن يكون النِسي والنَسي اسمين لمعنىً، كما يقال: الرِّطل والرَّطل.
وللمفسرين في قوله تعالى: نَسْياً مَنْسِيًّا خمسة أقوال: أحدها: يا ليتني لم أكن شيئاً، قاله الضحاك عن ابن عباس وبه قال عطاء وابن زيد. والثاني: «وكنت نسيا منسيّا» أي دم حيضة ملقاة «٣»،
(٢) سورة الكهف: ٩٦.
(٣) هذا قول باطل، وهو من بدع التأويل، فيه التنقص من مقام السيدة مريم عليها السلام. والصواب قول ابن عباس وغيره المتقدم، وكذا قول قتادة الآتي.
قوله تعالى: فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «مَن تحتها» بفتح الميم، والتاء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «مِن تحتها» بكسر الميم والتاء، فمن قرأ بكسر الميم، ففيه وجهان «١» : أحدهما: ناداها الملك من تحت النخلة. وقيل:
كانت على نَشَز، فناداها الملك أسفل منها. والثاني: ناداها عيسى لما خرج من بطنها. قال ابن عباس:
كلُّ ما رفعت إِليه طرفك، فهو فوقك، وكلُّ ما خفضت إِليه طرفك، فهو تحتك. ومن قرأ مِنْ تَحْتِها بفتح الميم، ففيه الوجهان المذكوران، وكان الفراء يقول: ما خاطبها إِلا الملك على القراءتين جميعاً.
قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا فيه قولان»
: أحدهما: أنه النهر الصغير، قاله جمهور المفسرين، واللغويون، قال أبو صالح، وابن جريج: هو الجدول بالسريانية. والثاني: أنه عيسى كان سرياً من الرجال، قاله الحسن، وعكرمة، وابن زيد، قال ابن الأنباري: وقد رجع الحسن عن هذا القول إِلى القول الأول، ولو كان وصفاً لعيسى، كان غلاماً سريّا أو سريّا من الغلمان، وقلَّما تقول العرب: رأيت عندك نبيلاً، حتى يقولوا: رجلاً نبيلاً.
فإن قيل: كيف ناسب تسليتها أن قيل: لا تحزني، فهذا نهر يجري؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنها حزنت لجدب مكانها الذي ولدت فيه، وعدم الطعام والشراب والماء الذي يتطهّر به، فقيل: لا تحزني قد أجرينا لك نهراً، وأطلعنا لك رطباً، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها حزنت لِما جرى عليها من ولادة ولد عن غير زوج، فأجرى الله تعالى لها نهراً، فجاءها من الأردنِّ، وأخرج لها الرَّطب من الشجرة اليابسة، فكان ذلك آية تدل على قدرة الله عزّ وجلّ في إِيجاد عيسى، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ الهزُّ: التحريك. والباء في قوله تعالى: بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فيها ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ قال الفراء: معناه: فليمدد سبباً.
والعرب تقول: هزَّه، وهزَّ به، وخذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق زيدا وتعلّق به. والثاني: أنها مؤكدة، كقول الشاعر:
نَضْرِبُ بالسَّيفِ ونرجو بالفرَج «٣»
(٢) القول الأول هو الصواب، وهو الذي اختاره الطبري في «تفسيره» ٨/ ٣٣٠.
(٣) هو شطر من الرجز لراجز من بني جعدة، وهو في «الخزانة» ٤/ ١٥٩.
والثالث: أنها دخلت على الجذع لتلصقه بالهزِّ، فهي مفيدة للالصاق، قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: تُساقِطْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تَسَّاقط» بالتاء مشددة السين، وقرأ حمزة، وعبد الوارث: «تَسَاقط» بالتاء مفتوحة مخففة السين، وقرأ حفص عن عاصم: «تُساقِط» بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، وقرأ يعقوب، وأبو زيد عن المفضّل: «يسّاقط» بالياء مفتوحة وتشديد السين وفتح القاف. فهذه القراءات المشاهير. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو حيوة: «يسقط» بفتح الياء وسكون السين ورفع القاف. وقرأ عبد الله بن عمرو، وعائشة، والحسن: «يُساقِط» بألف وتخفيف السين ورفع الياء وكسر القاف. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار:
«يُسْقِط» برفع الياء وكسر القاف مع سكون السين وعدم الألف. وقرأ عاصم الجحدري، وأبو عمران الجوني مثله، إِلا أنه بالتاء. وقرأ معاذ القارئ، وابن يعمر مثله، إِلا أنه بالنون. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة: «تسقط» بالتاء مفتوحة مع سكون السين ورفع القاف. وقرأ أبو السّمّال العدويّ، وابن حذلم: «تتساقط» بتاءين مفتوحين وبألف. وقال الزجاج: من قرأ «يسَّاقط» فالمعنى: يتساقط، فأدغمت التاء في السين. ومن قرأ «تسَّاقط» فكذلك أيضاً، وأنث لأنّ لفظ النّخلة مؤنّث. ومن قرأ «تساقط» بالتاء والتخفيف، فإنه حذف من «تتساقط» اجتماع التاءين. ومن قرأ «يُساقط» ذهب إِلى معنى: يُساقط الجذع عليك. ومن قرأ «نُساقط» بالنون، فالمعنى: نحن نُساقط عليك، فنجعله لك آية، والنحويون يقولون:
إِن «رطباً» منصوب على التمييز إِذا قلت: يسَّاقط أو يتساقط، المعنى: يتساقط الجزع رطباً. وإِذا قلت:
تسَّاقط بالتاء، فالمعنى: تتساقط النخلة رطباً.
قوله تعالى: جَنِيًّا قال الفراء: الجَنِيّ: المجتنى، وقال ابن الأنباري: هو الطريُّ، والأصل:
مجنوٌّ، صُرف من مفعول إِلى فعيل، كما يقال: قديد، وطبيخ، وقال غيره: هو الطريّ بغباره ولم يكن لتلك النخلة رأس، فأنبته الله تعالى، فلما وضعت يدها عليه، سقط الرطب رَطْباً وكان السلف يستحبُّون للنفساء الرطب من أجل مريم عليها السلام.
قوله تعالى: فَكُلِي أي: من الرطب وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً بولادة عيسى عليه السلام. قال الزجاج: يقال: قَرِرت به عيناً أقَر، بفتح القاف في المستقبل وقَرِرت في المكان أقر بكسر القاف، «وعينا» : منصوب على التمييز. وروى ابن الأنباري عن الأصمعي أنه قال: معنى «وقرِّي عيناً» ولتبرد دمعتك، لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارَّة. واشتقاق «قرِّي» من القَرور، وهو الماء البارد. وقال لنا أحمد بن يحيى: تفسير «قرِّي عيناً» بلغتِ غاية أملك حتى تقرَّ عينك من الاستشراف إِلى غيره. واحتج بقول عمرو بن كلثوم:
بيوم كريهةٍ ضرباً وطعناً | أقرَّ به مواليك العيونا «١» |
قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن السّميفع، والضّحّاك، وأبو العالية،
أحدهما: صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك. وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب وأبو رزين العقيلي: «صمتاً» مكان قوله: «صوماً» وقرأ ابن عباس: صياماً. والثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذكر الله عزّ وجلّ. قاله السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها بما يبرئ به ساحتها. وقيل: كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال: صوم لترك الطعام الشراب وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام.
واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: بنت اثنتي عشرة، قاله زيد بن أسلم. والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
قوله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها. وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فلذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ.
فإن قيل: «أتت به» يغني عن «تحمله» فما فائدة التّكرير؟ فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع «فأتت به» أن يكون ساعياً على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب: نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا أنه نظرُ عَيْنٍ. وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قوماً صالحين وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: شيئاً عظيماً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، قال الفراء: الفريُّ: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه.
(٩٥٤) قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فما رأيت عبقريّا يفري فري عمر».
قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ في المراد بهارون هذا خمسة أقوال: أحدها: أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: كان من أبيها وأُمِّها. والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده. والثالث: أنه رجل صالح كان من بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال:
(٩٥٥) بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: «يا أخت هارون» وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم».
والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه.
فعلى هذا يخرج في معنى «الأخت» قولان: أحدهما: أنها الأخت حقيقة. والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «١».
قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ يعنون: عِمران امْرَأَ سَوْءٍ أي: زانياً وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية، فمن أين لكِ هذا الولد؟! قوله تعالى: فَأَشارَتْ أي: أومأت إِلَيْهِ أي: إِلى عيسى فتكلَّم، وقيل المعنى: أشارت إِليه أنْ كلِّموه. وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت به قومها وقال: يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلِّم صبياً في المهد؟! والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث. والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبياً، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج واختار الأخير منها، قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء. والرابع: أن «كان» بمعنى صار، قاله قطرب.
وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قال نوف، وقتادة، والكلبيّ. والثاني: سرير الصّبي
__________
(١) سورة الزخرف: ٤٨.
قال السدي: فلما سمع عيسى كلامهم، لم يزد على أن ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، فقال: إِني عبد الله، قال المفسرون: إِنما قدَّم ذِكر العبودية، ليُبطلَ قول من ادَّعى فيه الربوبية.
وفي قوله: آتانِيَ الْكِتابَ أسكن هذه الياء حمزة. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أنه آتاه الكتاب وهو في بطن أُمه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: علم التوراة والإِنجيل وهو في بطن أُمه. والثاني: قضى أن يؤتيني الكتاب، قاله عكرمة. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة.
والثاني: الإِنجيل. قوله تعالى: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا هذا وما بعده إِخبار عما قضى الله له وحكم له به ومنحه إِيَّاه مما سيظهر ويكون. وقيل: المعنى: يؤتيني الكتاب ويجعلني نبيّاً إِذا بلغتُ فحلَّ الماضي محلَّ المستقبل، كقوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «١». وفي وقت تكليمه لهم قولان: أحدهما: أنه كلَّمهم بعد أربعين يوماً. والثاني: في يومه. وهو مبنيٌّ على ما ذكرنا من الزمان الذي غابت عنهم فيه مريم.
قوله تعالى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ.
(٩٥٦) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: «نفّاعاً حيثما توجهت». وقال مجاهد: معلِّماً للخير.
وفي المراد «بالزكاة» قولان: أحدهما: زكاة الأموال، قاله ابن السائب. والثاني: الطهارة: قاله الزجاج. قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي قال ابن عباس: لمَّا قال هذا، ولم يقل: «بوالديّ» علموا أنه وُلد من غير بَشَر. قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً أي: متعظِّماً شَقِيًّا عاصياً لربه وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ قال المفسرون: السلامة عليَّ من الله يوم وُلدتُ حتى لم يضرَّني شيطان. وقد سبق تفسير الآية. فإن قيل: لم ذكر ها هنا «السلام» بألف ولام، وذكره في قصة يحيى بلا ألف ولام؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لمّا جرى ذِكر السلام قبل هذا الموضع بغير ألف ولام، كان الأحسن أن يَرِد ثانية بألف ولام، هذا قول الزجاج. وقد اعتُرِض على هذا القول، فقيل: كيف يجوز أن يعطف هذا وهو قول عيسى، على الأوّل وهو قول الله عزّ وجلّ؟! وقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال: عيسى إِنما يتعلَّم من ربِّه، فيجوز أن يكون سمع قول الله في يحيى، فبنى عليه وألصقه بنفسه، ويجوز أن يكون الله عزّ وجلّ عرَّف السلام الثاني لأنه أتى بعد سلام قد ذكره، وأجراه عليه غير قاصدٍ به إِتباع اللفظ المحكيّ، لأن المتكلِّم، له أن يغيِّر بعض الكلام الذي يحكيه، فيقول: قال عبد الله: أنا رَجُل منصف، يريد: قال لي عبد الله: أنتَ رَجُل منصِف. والجواب الثاني: أن سلاماً والسلام لغتان بمعنى واحد، ذكره ابن الأنباري.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
__________
(١) سورة المائدة: ١١٦.
«تمترون» بالتاء.
قوله تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ قال الزجاج: المعنى: أن يتخذ ولداً. و «مِنْ» مؤكِّدة تدل على نفي الواحد والجماعة، لأن للقائل أن يقول: ما اتخذت فرساً، يريد: اتخذت أكثر من ذلك، وله أن يقول: ما اتخذت فرسين ولا أكثر، يريد: اتخذت فرساً واحداً فإذا قال: ما اتخذت من فرس، فقد دلَّ على نفي الواحد والجميع. قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ وقرأ أبو عمران الجوني، وابن أبي عبلة:
«فيكونَ» بالنّصب، وقد ذكرنا وجهه في سورة البقرة «١».
قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو: «وأن الله» بنصب الألف، وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «وإِن الله» بكسر الألف. وهذا من قول عيسى فمن فتح، عطفه على قوله: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وبأن الله ربّي ومن كسر، ففيه وجهان: أحدهما:
أن يكون معطوفاً على قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ. والثاني: أن يكون مستأنفا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ قال المفسرون: «مِنْ» زائدة، والمعنى: اختلفوا بينهم.
وقال ابن الأنباري: لما تمسَّك المؤمنون بالحق، كان اختلاف الأحزاب بين المؤمنين مقصوراً عليهم.
وفي الأحزاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود والنصارى، فكانت اليهود تقول: إِنه لغير رِشْدَةٍ، والنصارى تدَّعي فيه ما لا يليق به. والثاني: أنهم فرق النّصارى، قال بعضهم، يعني اليعقوبيّة: هو الله، وقال بعضهم، يعني النّسطوريّة: ابن الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بقولهم في المسيح مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: من حضورهم ذلك اليوم للجزاء.
قوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ فيه قولان: أحدهما: أن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر
قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ أي: خوِّف كفَّار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ يعني: يوم القيامة يتحسَّر المسيء إذا لم يُحْسِن، والمقصِّر إِذ لم يَزْدَدْ من الخير. وموجبات الحسرة يوم القيامة كثيرةٌ، فمن ذلك ما روى أبو سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٥٧) «إِذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة، فيشرئِبُّون وينظرون، وقيل: يا أهل النار فيشرئبُّون وينظرون فيُجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟
فيقولون: هذا الموت، فيُذبَح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩).» قال المفسرون:
فهذه هي الحسرة إِذا ذُبِح الموت، فلو مات أحد فرحاً مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزناً مات أهل النار.
ومن موجبات الحسرة ما روى عديُّ بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٥٨) «يؤتى يوم القيامة بناسٍ إِلى الجنة، حتى إِذا دَنَوْا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إِلى قصورها، نودوا: أن اصرفوهم عنها، لا نصيب لهم فيها، فيرجعون بحسرةٍ مَا رَجَعَ الأوَّلُون بمثلها.
فيقولون: يا ربنا لو أدخلْتَنا النار قبل أن تُرِيَنا ما أريتَنا كان أهون علينا قال: ذلك أردتُ بكم، كنتم إِذا خَلَوْتُمْ بارزتموني بالعظائم، وإِذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين «١»، تراؤون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هِبْتم «٢» الناس ولم تهابوني، وأجللتم «٣» الناس ولم تُجِلُّوني، تركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أُذيقكم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب».
ومن موجبات الحسرة ما روي عن ابن مسعود قال: ليس من نفس يوم القيامة إِلا وهي تنظر إِلى بيت في الجنة، وبيت في النار، ثم يقال: يعني لهؤلاء: لو عملتم، ولأهل الجنة: لولا أن منّ الله
وفي الباب أحاديث كثيرة. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٥٦٠ بتخريجنا.
ضعيف جدا. أخرجه ابن حبان في «المجروحين» ٣/ ١٥٥- ١٥٦ وأبو نعيم ٤/ ١٢٥ والطبراني ١٧/ ٨٥- ٨٦ والبيهقي في «الشعب» ٦٨٠٩ من حديث عدي بن حاتم، ومداره على أبي جنادة حصين بن مخارق، وهو متروك، واتهمه الدارقطني بالوضع. وقال ابن حبان: لا يجوز الرواية عنه. ومع ذلك قال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٢٢٠/ ١٧٦٤٩: أبو جنادة ضعيف!!؟. والصواب أنه ضعيف جدا، والخبر شبه موضوع.
__________
(١) الإخبات: الخشوع والتواضع.
(٢) هبتم: خفتم الناس وحسبتم لهم حسابا. [.....]
(٣) أجللتم: عظّمتم.
قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن الأنباري: «قُضي» في اللغة بمعنى: أُتقن وأُحكم، وإِنما سمِّي الحاكم قاضياً، لإِتقانه وإِحكامه ما ينفِّذ. وفي الآية اختصار، والمعنى: إِذ قضي الأمر الذي فيه هلاكهم. وللمفسرين في الأمر قولان: أحدهما: أنه ذبح الموت، قاله ابن جريج، والسدي. والثاني:
أن المعنى: قُضي العذاب لهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ هم في الدنيا في غفلة عما يُصنَع بهم ذلك اليوم وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما يكون في الآخرة.
قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ أي: نُميت سكَّانها فنرثها وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ بعد الموت. فإن قيل: ما الفائدة في «نحن» وقد كفت عنها «إنّا» ؟. فالجواب: أنه لما جاز في قول المعظّم: «إنّا نفعل» أن يتوهّم أنّ أتباعه فعلوا، وأبانت «نحن» بأن الفعل مضاف إِليه حقيقة. فإن قيل:
فلم قال: «ومَنْ عليها» وهو يرث الآدميين وغيرهم؟! فالجواب: أن «مَنْ» تختص أهل التمييز، وغيرُ المميِّزين يدخلون في معنى الأرض ويجرون مجراها، ذكر الجوابين عن السؤالين ابن الأنباري.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ أي: اذكر لقومك قصته. وقد سبق معنى الصِّدِّيق «١».
قوله تعالى: وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
أي: لا يدفع عنكَ ضرّاً.
قوله تعالى: إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله والمعرفة ما لَمْ يَأْتِكَ.
قوله تعالى: لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ أي: لا تُطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي. وقد شرحنا معنى «كان» آنفا. وعَصِيًّا أي: عاصياً، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل».
قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ قال مقاتل: في الآخرة وقال غيره: في الدنيا، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي: قريبا في عذاب الله، فجرت المقارنة مجرى الموالاة. وقيل: إِنما طمع إِبراهيم في إِيمان أبيه، لأنه حين خرج من النار قال له: نِعْمَ الإِله إِلهك يا إِبراهيم، فحينئذ أقبل يعظه، فأجابه أبوه: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ! أي: أتارك عبادتها انت؟! لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن
بالحجارة حتى تتباعدَ عني، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا فيه قولان: أحدهما: اهجرني طويلاً، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والفرَّاء، والأكثرون. قال ابن قتيبة: اهجرني حيناً طويلاً، ومنه يقال:
تَمَليّت حبيبك. والثاني: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبَك عقوبتي، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك فعلى هذا يكون من قولهم: فلان ملهيّ بكذا وكذا: إِذا كان مضطلعاً به، فالمعنى:
اهجرني وعرضك وافر، وأنت سليم من أذايَ، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ أي: سَلِمتَ من أن أُصيبَك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمَر بقتاله على كفره، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: سأسأل الله لك توبةً تنال بها مغفرته. والثاني: أنه وعده الاستغفار وهو لا يعلم أن ذلك محظور في حقّ المُصرّين على الكفر، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لطيفاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، والزجاج. والثاني: رحيماً، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: بارّاً عوّدني منه الإِجابة إِذا دعوتُه، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ أي: وأتنحّى عنكم، وَأعتزل ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام. وفي معنى «تَدْعُون» قولان: أحدهما: تَعْبُدون. والثاني: أنّ المعنى: وما تدعونه ربّا، وَأَدْعُوا رَبِّي أي: وأعبُده عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: أرجو أن لا أشقى بعبادته كما شَقِيتُم أنتم بعبادة الأصنام، لأنها لا تنفعهم ولا تُجيب دعاءَهم فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ قال المفسرون: هاجر عنهم إِلى أرض الشام، فوهب الله له إِسحاق ويعقوب، فآنس الله وحشته عن فراق قومه بأولادٍ كرامٍ. قال أبو سليمان: وإِنما وهب له إِسحاق ويعقوب بعد إِسماعيل.
قوله تعالى: وَكُلًّا أي: وكلاًّ من هذين. وقال مقاتل: وَكُلًّا يعني إِبراهيم وإسحاق ويعقوب جَعَلْنا نَبِيًّا.
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا قال المفسرون: المال والولد والعِلْم والعمل، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا أي: ذِكْراً حَسَناً في النّاس مرتفعاً، فجميع أهل الأديان يتولَّون إِبراهيم وذريَّته ويُثنون عليهم، فوضع اللسان مكان القول، لأن القول يكون باللسان.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، والمفضل عن عاصم: «مُخْلِصاً» بكسر اللام. وقرأ حمزة، والكسائى، وحفص عن عاصم بفتح اللام. قال الزجاج:
المُخْلِص، بكسر اللام: الذي وحَّد الله، وجعل نفسه خالصة في طاعة الله غيرَ دَنِسة، والمُخْلَص، بفتح اللام: الذي أخلصه الله، وجعله مختاراً خالصاً من الدَّنَس.
قوله تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي: من ناحية الطُّور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زَبِير. قال ابن الأنباري: إِنما خاطب الله العرب بما يستعملون في لغتهم، ومن كلامهم: عن يمين القِبلة وشمالها، يعنون: مما يلي يمين المستقبِل لها وشماله، فنقلوا الوصف إِلى ذلك اتِّساعاً عند انكشاف المعنى، لأن الوادي لا يَدَ لَهُ فيكون له يمين. وقال المفسرون: جاء النداء عن يمين موسى، فلهذا قال: «الأيمنِ» ولم يُرِد به يمين الجبل. قوله تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قال ابن الأنباري: معناه:
مناجياً، فعبَّر «فَعيل» عن مُفَاعِل، كما قالوا: فلان خليطي وعشيري: يعنون: مخالطي ومُعاشري.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: «وقرَّبناه» قال: حتى سمع صريف القلم حين كتب له في الألواح. قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي: من نعمتنا عليه إِذ أجبنا دعاءه حين سأل أن نجعل معه أخاه وزيراً له.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ هذا عامّ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس. وقال مجاهد: لم يَعِد ربَّه بوعدٍ قطُّ إِلا وفى له به. فإن قيل: كيف خُصَّ بصدق الوعد إِسماعيل، وليس في الأنبياء من ليس كذلك؟ فالجواب: أن إِسماعيل عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فأُثني عليه بذلك. وذكر المفسرون: أنه كان بينه وبين رجل ميعاد، فأقام ينتظره مدة فيها لهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أقام حَوْلاً، قاله ابن عباس. والثاني: اثنين وعشرين يوماً، قاله الرقاشي. والثالث:
ثلاثة أيام، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا إِلى قومه، وهم جُرْهُم. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ قال مقاتل: يعني: قومه.
وقال الزجاج: أهله جميعُ أُمَّته. فأما الصلاة والزكاة، فهما العبادتان المعروفتان.
قوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه في السماء الرابعة.
(٩٥٩) روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث المعراج: أنه رأى إِدريس في السماء الرابعة، وبهذا قال أبو سعيد الخدريّ، ومجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أنه في السماء السادسة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنه في الجنة، قاله زيد بن أسلم، وهذا يرجع إِلى الأول، لأنه قد روي أن الجنة في السماء الرابعة.
والرابع: أنه في السماء السابعة، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
وفي سبب صعوده إِلى السماء ثلاثة أقوال:
(٩٦٠) أحدها: أنه كان يصعد له من العمل مِثْلُ ما يصعد لجميع بني آدم فأحبّه ملك الموت،
لم أره بهذا اللفظ مسندا. وعزاه المصنف لزيد بن أسلم بمعناه، وهذا مرسل، زيد تابعي، ولم أقف على إسناده إليه، ولا يصح، والأشبه في هذا كونه متلقى عن أهل الكتاب، والله أعلم.
فإن سأل سائل فقال: من أين لإِدريس هذه الآيات، وهي في كتابنا؟! فقد ذكر ابن الأنباري عن بعض العلماء، قال: كان الله تعالى قد أعلم إِدريس بما ذكر في القرآن من وجوب الورود، وامتناع الخروج من الجنة، وغير ذلك فقال ما قاله بعلم.
والثاني: أن ملَكاً من الملائكة استأذن ربه أن يهبط إِلى إِدريس، فأذن له، فلما عرفه إِدريس، قال: هل بينك وبين ملك الموت قرابة؟ قال: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني عند ملك الموت؟ قال: سأكلِّمه فيك، فيرفق بك، اركب بين جناحيّ، فركب إِدريس، فصعد به إِلى السماء، فلقي ملك الموت، فقال: إِن لي إِليك حاجة، قال أعلم ما حاجتك، تكلِّمني في إِدريس وقد محي اسمه من الصحيفة ولم يبق من أَجَله إِلا نصف طرفة عين؟! فمات إدريس بين جناحي ملك، رواه عكرمة عن ابن عباس «٤» وقال أبو صالح عن ابن عباس: فقبض ملك الموت روح إِدريس في السماء السادسة.
والثالث: أن إِدريس مشى يوماً في الشمس، فأصابه وهجها، فقال: اللهم خفِّف ثقلها عمَّن يحملها، يعني به الملك الموكَّل بالشمس، فلما أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف، فسأل الله تعالى عن ذلك، فقال: إِن عبدي إِدريس سألني أن أُخفِّف عنكَ حِملها وحرَّها، فأجبْتُه، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه، واجعل بيننا خلّة، فأذن له، فأتاه، فكان مما قاله إِدريس: اشفع لي إِلى ملك الموت ليؤخِّر أجَلي، فقال: إِن الله لا يؤخِّر نفساً إِذا جاء أَجَلُها، ولكن أُكلِّمه فيك، فما كان مستطيعاً أن يفعل بأحد من بني آدم فعل بك ثم حمله الملك على جناحه، فرفعه إِلى السماء، فوضعه عند مطلع الشمس، ثم أتى ملكَ الموت فقال: إِن لي إِليك حاجة صديق لي من بني آدم تشفَّعَ بي إِليك لتؤخِّر أجَلَه، قال: ليس ذاك إِليَّ، ولكن إِن أحببتَ أعلمتُه متى يموت، فنظر في ديوانه،
(٢) سورة مريم: ٧١.
(٣) سورة الحجر: ٤٨.
(٤) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين، لا حجة في شيء منها.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٨ الى ٦٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
قوله تعالى: أُولئِكَ يعني الذين ذكرهم من الأنبياء في هذه السورة مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعني إِدريس وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ يعني إِبراهيم، لأنه من ولد سام بن نوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يريد: إِسماعيل وإِسحاق ويعقوب وَإِسْرائِيلَ يعني ومن ذرية إِسرائيل وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى.
قوله تعالى: وَمِمَّنْ هَدَيْنا أي: وهؤلاء كانوا ممن أرشَدْنا، وَاجْتَبَيْنا أي: واصطَفَيْنا. قوله تعالى:
خَرُّوا سُجَّداً قال الزجاج: «سُجَّداً» حال مقدَّرة، المعنى: خرُّوا مقدِّرين السجود، لأن الإِنسان في حال خروره لا يكون ساجداً، ف «سُجَّداً» منصوب على الحال، وهو جمع ساجد وَبُكِيًّا معطوف عليه، وهو جمع باكٍ فقد بيَّن الله تعالى أن الأنبياء كانوا إِذا سمعوا آيات الله سجدوا وبَكَوْا من خشية الله.
قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قد شرحناه في سورة الأعراف «٢». وفي المراد بهذا الخَلْف ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي. والثالث: أنهم من هذه الأُمَّة، يأتون عند ذهاب صالحي أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم يتبارون بالزّنا، وينزو بعضهم على بعض في الأزقّة زناة، قاله مجاهد، وقتادة. قوله تعالى: أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرأ ابن مسعود، وأبو رزين العقيلي، والحسن البصري: «الصلوات» على الجمع. وفي المراد باضاعتهم إِياها قولان «٣» : أحدهما: أنهم أخَّروها عن وقتها، قاله ابن مسعود، والنّخعيّ، وعمرو بن عبد العزيز،
(٢) سورة الأعراف: ١٦٩.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٨/ ٣٥٥: وأولى التأولين في ذلك عندي بالصواب بتأويل الآية، قول من قال: إضاعتها تركهم إياها، لدلالة قوله تعالى ذكره بعده على ذلك كذلك، وذلك قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنين لم يستثن منهم من آمن وهم مؤمنون، ولكنهم كانوا كفارا لا يصلون لله ولا يؤدون له فريضة.
وقد قيل: هم قوم من هذه الأمة يكونون في آخر الزمان.
(٩٦١) أحدها: أنه وادٍ في جهنّم، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبه قال كعب.
والثاني: أنه نهر في جهنم، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الخسران، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه العذاب، قاله مجاهد. والخامس: أنه الشرُّ، قاله ابن زيد، وابن السائب.
والسادس: أن المعنى: فسوف يلقون مجازاة الغي، كقوله: يَلْقَ أَثاماً «٢» أي: مجازاة الآثام، قاله الزجاج.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فيه قولان: أحدهما: تاب من الشّرك، وآمن بمحمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثاني: تاب من التقصير في الصلاة، وآمن من اليهود والنصارى.
قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ وقرأ أبو رزين العقيلي، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:
«جناتُ» برفع التاء. وقرأ الحسن البصري، والشعبي، وابن السميفع: «جنةُ عدن» على التوحيد مع رفع التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو المتوكل الناجي: «جنةَ عدن» على التوحيد مع نصب التاء. وقوله: الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ أي: وعدهم بها، ولم يَروْها، فهي غائبة عنهم.
قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا فيه قولان: أحدهما: آتياً، قال ابن قتيبة: وهو «مفعول» في معنى «فاعل»، وهو قليل أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به. وقال الفراء: إِنما لم يقل: آتياً، لأن كل ما أتاك، فأنت تأتيه ألا ترى أنك تقول: أتيت على خمسين سنة، وأتت عليَّ خمسون سنة. والثاني:
مبلوغاً إِليه، قاله ابن الأنباري. وقال ابن جريج: «وعده» ها هنا: موعوده، وهو الجنة، و «مأتيّاً» : يأتيه أولياؤه.
قوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فيه قولان: أحدهما: أنه التخالف عند شرب الخمر، قاله مقاتل. والثاني: ما يلغى من الكلام ويؤثَم فيه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: اللغو في العربية:
الفاسد المطَّرَح. قوله تعالى: إِلَّا سَلاماً قال أبو عبيدة: السلام ليس من اللغو، والعرب تستثني الشيء بعد الشيء وليس منه، وذلك أنها تضمر فيه، فالمعنى: إِلا أنهم يسمعون فيها سلاماً. وقال ابن
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٥٧: وكل هذه الأقوال متقاربات المعاني.
(٢) سورة الفرقان: ٦٨.
قوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال المفسرون: ليس في الجنة بُكْرة ولا عشيَّة، ولكنَّهم يُؤتَوْن برزقهم- على مقدار ما كانوا يعرفون- في الغداة والعشي. قال الحسن: كانت العرب لا تعرف شيئاً من العيش أفضل من الغداة والعشاء، فذكر الله لهم ذلك. وقال قتادة: كانت العرب إِذا أصاب أحدُهم الغداءَ والعشاء أُعجب به، فأخبر الله أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيّاً على قدر ذلك الوقت، وليس ثَمَّ ليل ولا نهار، وإِنما هو ضوء ونُور. وروى الوليد بن مسلم، قال: سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى: بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقال: ليس في الجنة ليل ولا نهار، هم في نور أبداً، ولهم مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بارخاء الحُجُب وإِغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب.
قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الإِشارة إِلى قوله: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
قوله تعالى: نُورِثُ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وقتادة، وابن أبي عبلة: بفتح الواو وتشديد الراء. قال المفسرون: ومعنى «نورث» : نعطي المساكن التي كانت لأهل النار- لو آمنوا- للمؤمنين. ويجوز أن يكون معنى «نورث» : نعطي، فيكون كالميراث لهم من جهة أنها تمليك مستأنف. وقد شرحنا هذا في سورة الأعراف «٢».
قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وقرأ ابن السميفع، وابن يعمر: «وما يَتنزَّل» بياء مفتوحة.
وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٩٦٢) أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا»، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٩٦٣) والثاني: أن الملَك أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه، فقال: لعلِّي أبطأتُ، قال: «قد فعلتَ»، قال: وما لي لا أفعل، وأنتم لا تتسوَّكون، ولا تقصُّون أظفاركم، ولا تُنَقُّون براجمكم، فنزلت الآية، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: البراجم عند العرب: الفصوص التي في ظهور الأصابع، تبدو إِذا جُمعت، وتغمض إِذا بُسطت. والرواجب: ما بين البراجم، بين كل برجمتين راجبة.
ضعيف جدا. ذكره الواحدي ٦٠٧ عن مجاهد مرسلا. وبدون إسناد! ومع ذلك هو منكر، يخالف ما رواه البخاري وغيره وقد تقدم. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٢٥٣.
__________
(١) سورة الشعراء: ٧٧.
(٢) سورة الأعراف: ٤٣.
وفي سبب احتباس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قولان: أحدهما: لامتناع أصحابه من كمال النظافة، كما ذكرنا في حديث مجاهد. والثاني: لأنهم سألوه عن قصة أصحاب الكهف، فقال: «غداً أُخبركم»، ولم يقل: إِن شاء الله وقد سبق هذا في سورة الكهف.
وفي مقدار احتباسه عنه خمسة أقوال: أحدها: خمسة عشر يوماً وقد ذكرناه في الكهف عن ابن عباس. والثاني: أربعون يوماً، قاله عكرمة، ومقاتل. والثالث: اثنتا عشرة ليلة، قاله مجاهد. والرابع:
ثلاثة أيام، حكاه مقاتل. والخامس: خمسة وعشرون يوماً، حكاه الثعلبي. وقيل: إِن سورة الضحى نزلت في هذا السبب. والمفسرون على أن قوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ قول جبريل. وحكى الماوردي: أنه قول أهل الجنة إِذا دخلوها، فالمعنى: ما ننزل هذه الجنان إِلا بأمر الله. وقيل: ما ننزل موضعاً من الجنة إِلا بأمر الله.
وفي قوله ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا قولان «١» : أحدهما: ما بين أيدينا: الآخرة، وما خلفنا:
الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل. والثاني: ما بين أيدينا: ما مضى من الدنيا، وما خلفنا من الآخرة، فهو عكس الأول، قاله مجاهد: وقال الأخفش: ما بين أيدينا:
قبل أن نُخلَق، وما خلفنا بعد الفناء.
وفي قوله تعالى: وَما بَيْنَ ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: ما بين الدنيا والآخرة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: ما بين النفختين، قاله مجاهد، وعكرمة، وأبو العالية. والثالث: حين كوَّنَنا، قاله الأخفش. قال ابن الأنباري: وإِنما وحَّد ذلك، والإِشارة إِلى شيئين: أحدهما: «ما بين أيدينا».
والثاني: «ما خلفنا»، لأن العرب توقع ذلك على الاثنين والجمع.
قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا النَّسِيُّ، بمعنى الناسي. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: ما كان تاركاً لك منذ أبطأ الوحي عنك، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: ما نسيك عند انقطاع الوحي عنك.
والثاني: أنه عالم بما كان ويكون، لا ينسى شيئا، قاله الزّجّاج.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٦٠: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة، لأن ذلك لم يجيء وجاء، فهو بين أيديهم، فإن أغلب الناس إذا قالوا: هذا الأمر بين يديك، أنهم يعنون به ما لم يجئ وأنه جاء. وبالتالي- وما خلفنا من أمر الدنيا، وذلك ما قد خلفوه فمضى، وما بين ذلك: ما بين ما لم يمض من أمر الدنيا إلى الآخرة. [.....]
اصبر على توحيده وقيل: على أمره ونهيه. قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا روى هارون عن أبي عمرو أنه كان يُدغم «هل تعلم»، ووجهه أن سيبويه يجيز إِدغام اللام في التاء والثاء والدال والزاي والسين والصاد والطاء، لأنّ آخر مخرج من اللام قريب من مخارجهن، قال أبو عبيدة: إِذا كان بعد «هل» تاء، ففيه لغتان وبعضهم يُبين لام «هل»، وبعضهم يدغمها. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: مِثْلاً وشبهاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة. والثاني: هل تعلم أحداً يسمّى «اللهَ» غيرُه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: هل تعلم أحداً يستحق أن يقال له:
خالق وقادر، إلّا هو، قاله الزّجّاج.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ.
(٩٦٥) سبب نزولها أن أُبيَّ بن خلف أخذ عظماً بالياً، فجعل يفتّه بيده ويذريه في الريح ويقول:
زعم لكم محمد أن الله يبعثنا بعد أن نكون مثل هذا العظم البالي، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وروى عطاء عن ابن عباس: أنه الوليد بن المغيرة.
قوله تعالى: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إِن قيل: ظاهره ظاهر سؤال، فأين جوابه؟ فعنه ثلاثة أجوبة ذكرها ابن الأنباري: أحدها: أن ظاهر الكلام استفهام، ومعناه معنى جحد وإِنكار، تلخيصه: لستُ مبعوثاً بعد الموت. والثاني: أنه لمّا استفهم بهذا الكلام عن البعث، أجابه الله عزّ وجلّ بقوله: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ، فهو مشتمل على معنى: نعم، وأنت مبعوث. والثالث: أن جواب سؤال هذا الكافر في يس عند قوله عزّ وجلّ: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا «١»، ولا يُنكَر بُعْد الجواب، لأن القرآن كلَّه بمنزلة الرسالة الواحدة، والسورتان مكيَّتان.
قوله تعالى: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بفتح الذال مشددة الكاف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر: «يَذْكُرُ» ساكنة الذال خفيفة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو المتوكّل النّاجي أو لا يتذكَّر الإِنسان: بياء وتاء. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «يذْكُر» بياء من غير تاء ساكنة الذال مخففة مرفوعة الكاف، والمعنى: أولا يتذكّر
__________
(١) سورة يس: ٧٨.
قياماً، قاله أبو مالك. والخامس: قياماً على رُكَبهم، قاله السدي، وذلك لضيق المكان بهم.
قوله تعالى: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: لنأخذنّ من كل فِرقة وأُمَّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: أعظمهم له معصية، والمعنى: أنه يُبدَأ بتعذيب الأعتى فالأعتى، وبالأكابر جُرْماً، والرؤوس القادة في الشرِّ. قال الزجاج: وفي رفع «أَيُّهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الاستئناف، ولم تعمل «لننزعنّ» شيئا، وهذا قول يونس. والثاني: أنه على معنى الذي يقال لهم: أيُّهم أشدُّ على الرحمن عِتِيّاً؟ قاله الخليل، واختاره الزجاج، وقال: التأويل: لننزعنّ الذي من أجل عُتُوِّه يقال: أيُّ هؤلاء أَشَدُّ عِتِيّاً؟ وأنشد:
وَلَقَدْ أَبِيتُ عن الفَتَاةِ بمنزل | فأبيت لا حرج ولا محروم |
والثالث: أنّ «أيّهم» مبنية على الضمّ، لأنها خالفت أخواتها، فالمعنى: أيُّهم هو أفضل. وبيان خلافها لأخواتها أنك تقول: اضرب أيُّهم أفضل. ولا يَحْسُن: اضرب مَنْ أفْضل، حتى تقول: من هو أفضل، ولا يَحْسُن: كُلْ ما أطيب، حتى تقول: ما هو أطيب، ولا خُذْ ما أفضل، حتى تقول: الذي هو أفضل، فلما خالفت «ما» و «مَنْ» و «الذي» بُنيت على الضم، قاله سيبويه.
قوله تعالى: هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا يعني: أن الأَوْلى بها صِلِيّاً الذين هم أشدُّ عِتِيّاً فيُبْتَدَأُ بهم قبل أتباعهم. و «صِلِيّاً» : منصوب على التفسير، يقال: صَلي النار يصلاها: إِذا دخلها وقاسى حَرَّها. قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها في الكلام إِضمار تقديره: وما منكم أحد إِلا وهو واردها. وفيمن عُني بهذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه عامّ في حق المؤمن والكافر، هذا قول الأكثرين. وروي عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية للكفار. وأكثر الروايات عنه كالقول الأول. قال ابن الأنباري: ووجه هذا أنه لما قال: لَنُحْضِرَنَّهُمْ وقال: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا كان التقدير وإِن منهم، فأبدلت الكاف من الهاء، كما فعل في قوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً «١» المعنى: كان لهم، لأنه مردود على قوله:
وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ «٢»، وقال الشاعر:
شطّت مزار العاشقين وأصبحت | عسرا عليّ طلابك ابنة مخرم |
(٢) سورة الإنسان: ٢١.
أحدها: أنه الدخول. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٩٦٦) «الورود: الدخول لا يبقى بَرّ ولا فاجر إِلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم، حتى إِن للنار- أو قال: لجهنم- ضجيجاً من بردهم».
وروي عن ابن عباس أنه سأله نافع بن الأزرق عن هذه الآية، فقال له: «أمّا أنا وأنت فسندخلها، فانظر أيُخرجنا الله عزّ وجلّ منها، أم لا؟ فاحتج بقوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ «٢» وبقوله تعالى:
أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «٣». وكان عبد الله بن رواحة يبكي ويقول: أُنبئت أني وارد، ولم أُنبَّأ أني صادر.
وحكى الحسن البصري: أن رجلاً قال لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك واردٌ النار؟ قال: نعم قال: فهل أتاك أنك خارجٌ منها؟ قال: لا قال: ففيم الضحك؟! وقال خالد بن معدان: إِذا دخل أهل الجنة الجنة، قالوا: ألم يَعِدْنا رَبُّنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: بلى، ولكن مررتم بها وهي خامدة. وممن ذهب إِلى أنه الدخول: الحسن في رواية، وأبو مالك. وقد اعتُرِض على أرباب هذا القول بأشياء. فقال الزجاج: العرب تقول: وردت بلد كذا، ووردت ماء كذا: إِذا أشرفوا عليه وإِن لم يدخلوا، ومنه قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «٤» والحجة القاطعة في هذا القول قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها «٥»، وقال زهير:
فَلَمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ | وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخيِّم «٦» |
والثاني: أن الورود: الممرُّ عليها، قاله عبد الله بن مسعود، وقتادة. وقال ابن مسعود: يَرِد الناس النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأولُهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحُضْر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدِّ الرحل، ثم كمشيه. والثالث: أن ورودها: حضورها، قاله عبيد بن عمير. والرابع:
أن ورود المسلمين: المرور على الجسر، وورود المشركين: دخولها. قاله ابن زيد. والخامس: أن ورود المؤمن إِليها: ما يصيبه من الحمَّى في الدنيا، روى عثمان بن الأسود عن مجاهد أنه قال: الحمّى
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي ٧/ ٥٥: رجال أحمد ثقات اه. وهو حديث حسن.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٦٧: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: يردها الجميع ثم يصدر عنها المؤمنون فينجيهم الله ويهوي فيها الكفار.
(٢) سورة هود: ٩٨.
(٣) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٤) سورة القصص: ٣٣.
(٥) سورة الأنبياء: ١٠١ و ١٠٢.
(٦) البيت في «شرح ديوان زهير» ١٣، و «اللسان» - زرق-. والزّرق: المياه الصافية. وجمامة: راحة وشبع وريّ.
قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ يعني: الورد حتماً والحتم: ايجاب القضاء، والقطع بالأمر.
والمقضيُّ: الذي قضاه الله تعالى، والمعنى: إِنه حتم ذلك وقضاه على الخلق.
قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وقرأ ابن عباس، وأبو مجلز، وابن يعمر، وابن أبي ليلى، وعاصم الجحدري: «ثَمَّ» بفتح الثاء. وقرأ الكسائي، ويعقوب: «نُنْجي» مخففة. وقرأت عائشة، وأبو بحرية، وأبو الجوزاء الربعي: «ثم يُنجي» بياء مرفوعة قبل النون خفيفة الجيم مكسورة. وقرأ أُبيّ بن كعب، وأبو مجلز، وابن السميفع، وأبو رجاء: «ننحِّي» بحاء غير معجمة مشددة. وهذه الآية يحتج بها القائلون بدخول جميع الخلق، لأن النجاة: تخليص الواقع في الشيء، ويؤكِّده قوله تعالى: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ولم يقل: ونُدخلهم وإِنما يقال: نذَر ونترك لمن قد حصل في مكانه. ومن قال: إِن الورود للكفار خاصة، قال: معنى هذا الكلام: نخرج المتَّقين من جملة من يدخل النار. والمراد بالمتقين: الذين اتَّقَوْا الشرك، وبالظالمين: الكفار، وقد سبق معنى قوله عزّ وجلّ: جِثِيًّا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤)
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعني: المشركين آياتُنا يعني: القرآن قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني:
مشركي قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لفقراء المؤمنين أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وحفص عن عاصم مَقاماً بفتح الميم وقرأ ابن كثير بضم الميم.
قال أبو علي الفارسي: المقام: اسم المثوى، إِن فُتحت الميم أو ضُمَّتْ.
قوله تعالى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا والنديُّ والنادي: مجلس القوم ومجتمَعهم. وقال الفراء: النديُّ والنادي، لغتان. ومعنى الكلام: أنحن خير، أم أنتم؟ فافتخروا عليهم بالمساكن والمجالس، فأجابهم الله تعالى فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ وقد بينا معنى القرن في الأنعام «١» وشرحنا الأثاث في النّحل «٢».
فأمّا قوله تعالى: وَرِءْياً فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «ورئياً» بهمزة بين الراء والياء في وزن: «رِعيا» قال الزجاج: ومعناها: منظراً، من «رأيت». وقرأ نافع، وابن عامر: «رِيّاً» بياء مشددة من غير همز، قال الزجاج: لها تفسيران. أحدهما: أنها بمعنى الأولى.
والثاني: أنها من الرِّيّ، فالمعنى: منظرهم مرتوٍ من النعمة، كأن النعيم بَيِّنٌ فيهم. وقرأ ابن عباس، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن أبي سريج عن الكسائي: «زيّاً» بالزاي المعجمة مع تشديد الياء من غير همز. قال الزجاج: ومعناها: حسن هيئتهم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
(٢) سورة النحل: ٨٠.
ومعنى مدِّ اللهِ تعالى له: إِمهالُه في الغَيِّ. حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني الذين مَدَّهم في الضلالة. وإِنما أخبر عن الجماعة، لأنّ لفظ «من» يصحّ للجماعة. ثم ذكر ما يوعدون فقال: إِمَّا الْعَذابَ يعني: القتل، والأسر وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني: القيامة وما وُعدوا فيها من الخلود في النار فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً في الآخرة، أهم، أم المؤمنون؟ لأن مكان هؤلاء الجنّة، ومكان هؤلاء النار، وَيعلمون بالنصر والقتل من أَضْعَفُ جُنْداً جندهم، أم جند رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهذا ردٌّ عليهم في قولهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
قوله تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً فيه خمسة أقوال: أحدها: ويزيد الله الذين اهتدَوا بالتوحيد إِيماناً. والثاني: يزيدهم بصيرةً في دينهم. والثالث: يزيدهم بزيادة الوحي إِيماناً، فكلما نزلت سورة زاد إِيمانهم. والرابع: يزيدهم إِيماناً بالناسخ والمنسوخ. والخامس: يزيد الذين اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ. قال الزجاج: المعنى: إِن الله تعالى يجعل جزاءهم أن يزيدهم يقيناً، كما جعل جزاء الكافر أن يمدَّه في ضلالته.
قوله تعالى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قد ذكرناها في سورة الكهف «١».
قوله تعالى: وَخَيْرٌ مَرَدًّا المردّ ها هنا مصدر مثل الردّ، والمعنى: وخيرٌ ردّاً للثواب على عامليها، فليست كأعمال الكفار التي خسروها فبطلت.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا في سبب نزولها قولان:
(٩٦٧) أحدها: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث مسروق عن خبَّاب بن الأرتِّ قال: كنت رجلاً قَيْنَاً، أي حداداً، وكان لي على العاص بن وائل دَيْن، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم حتى تموت، ثم تبعث. قال:
__________
(١) سورة الكهف: ٤٦.
فَرْداً. والثاني: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وهذا مروي عن الحسن. والمفسرون على الأول.
قوله تعالى: لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: بفتح الواو. وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الواو. وقال الفرّاء: وهم لغتان، كالعُدم، والعَدم، وليس يجمع، وقيس تجعل الوُلد جمعاً، والوَلد، بفتح الواو، واحداً.
وأين زعم هذا الكافر أن يؤتى المال والولد؟ فيه قولان: أحدهما: أنه أراد في الجنة على زعمكم. والثاني: في الدنيا. قال ابن الأنباري: وتقدير الآية: أرأيته مصيباً؟! قوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ قال ابن عباس في رواية: أَعَلِمَ ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو، أم لا؟! وقال في رواية أخرى: أَنَظَر في اللوح المحفوظ؟! قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أم قال: لا إِله إِلا الله، فأرحمه بها؟! قاله ابن عباس. والثاني: أم قدَّم عملاً صالحاً، فهو يرجوه؟! قاله قتادة. والثالث: أم عهد إِليه أنه يدخله الجنة؟! قاله ابن السائب.
قوله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر على ما قال من أن يؤتَى المال والولد. ويجوز أن يكون معنى «كلاَّ» أي: إِنه لم يطَّلع الغيبَ، ولم يتخذ عند الله عهداً. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي: سنأمر الحفظة بإثبات قوله لنجازيَه به، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي: نجعل بعض العذاب على إِثر بعض. وقرأ أبو العالية الرياحي، وأبو رجاء العطاردي: «سيكتب» «ويرثه» بياء مفتوحة.
قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ فيه قولان: أحدهما: نرثه ما يقول أنه له في الجنة، فنجعله لغيره من المسلمين، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. والثاني: نرث ما عنده من المال، والولد، باهلاكنا إِياه، وإِبطال ملكه، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال قتادة. قال الزجاج:
المعنى: سنسلبه المال والولد، ونجعله لغيره.
قوله تعالى: وَيَأْتِينا فَرْداً أي: بلا مال ولا ولد.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٤]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤)
قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني: المشركين عابدي الأصنام لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا قال الفراء: ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة. قوله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما قدَّروا، سَيَكْفُرُونَ يعني الأصنام بجحد عبادة المشركين، كقوله عزّ وجلّ: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ لأنها كانت جماداً لا تعقل العبادة، وَيَكُونُونَ يعني: الأصنام عَلَيْهِمْ يعني: المشركين ضِدًّا أي: أعواناً عليهم في القيامة، يكذِّبونهم ويلعنونهم.
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ قال الزجاج: في معنى هذا الإِرسال وجهان:
أحدهما: خلّينا بين الشياطين وبني الكافرين فلم نعصمهم من القبول منهم. والثاني: وهو المختار: سَلَّطناهم عليهم، وقيَّضْناهم لهم بكفرهم. تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تزعجهم إزعاجاً حتى يركبوا
أحدها: أنه أنفاسهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال طاوس، ومقاتل. والثاني: الأيام، والليالي، والشهور، والسنون، والساعات، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنها أعمالهم، قاله قطرب.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ قال بعضهم: هذا متعلّق بقوله تعالى: وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وقال بعضهم: تقديره: اذكر لهم يوم نحشر المتقين، وهم الذين اتَّقَوْا الله بطاعته واجتناب معصيته. وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «يَوم يحشُر» بياء مفتوحة ورفع الشين «ويَسُوق» بياء مفتوحة ورفع السين. وقرأ أُبيُّ بن كعب، والحسن البصريّ، ومعاذ القارئ، وأبو المتوكل الناجي: «يوم يُحشَر» بياء مرفوعة وفتح الشين «المتقون» رفعاً «ويُسَاق» بألف وياء مرفوعة «المجرمون» بالواو على الرفع. والوفد: جمع وافد، مثل: ركَبْ، ورَاكِب، وصَحْب، وصاحِب. قال ابن عباس، وعكرمة، والفراء: الوفد: الركبان. قال ابن الأنباري: الركبان عند العرب: ركَّاب الإِبل.
وفي زمان هذا الحشر قولان: أحدهما: أنه من قبورهم إِلى الرحمن، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: أنه بعد الحساب، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يعني: الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً قال ابن عباس، وأبو هريرة، والحسن: عِطَاشاً. قال أبو عبيدة: الوِرد: مصدر الورود. وقال ابن قتيبة: الوِرد: جماعة يَرِدون الماء، يعني: أنهم عطاش، لأنه لا يَرِد الماءَ إِلا العطشان. وقال ابن الأنباري: معنى قوله: «وِرْداً» : واردين.
قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ أي: لا يشفعون، ولا يُشفَع لهم. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال الزجاج: جائز أن يكون «مَن» في موضع رفع على البدل من الواو والنون، فيكون المعنى: لا يملك الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهداً وجائز أن يكون في موضع نصب على استثناءٍ ليس من الأول، فالمعنى: لا يملك الشفاعة المجرمون، ثم قال: «إِلا» على معنى «لكن» مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فإنه يملك الشفاعة. والعهد ها هنا: توحيد الله والإِيمان به. وقال ابن الأنباري: تفسير العهد في اللغة: تقدمة أمر يُعْلَم ويُحْفَظ، من قولك: عهدت فلاناً في المكان، أي: عرفته، وشهدته.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٥]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
الأمر المتناهي العِظَم.
قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «تكاد» بالتاء. وقرأ نافع، والكسائي: «يكاد» بالياء. وقرءا جميعا: «يتفطرن» بالياء والتاء مشدّدة الطّاء، ووافقهما ابن كثير، وحفص عن عاصم في «يتفطَّرن» وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «ينفطرن»، بالنون وهذا خلافهم في عسق. وقرأ حمزة، وابن عامر في سورة مريم مثل أبي عمرو، وفي «عسق» «١» مثل ابن كثير. ومعنى «يتفطَّرن منه» : يقاربن الانشقاق من قولكم. قال ابن قتيبة: وقوله تعالى: هَدًّا أي: سقوطاً.
قوله تعالى: أَنْ دَعَوْا قال الفراء: من أن دعوا، وَلأَن دعوا. وقال أبو عبيدة: معناه: أن جعلوا، وليس هو من دعاء الصوت، وأنشد:
أَلا رُبَّ مَنْ تَدْعُو نَصِيحاً وَإِن تَغِب | تَجِدْهُ بغَيْبٍ غيرَ مُنْتَصِح الصَّدْرِ «٢» |
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال ابن عباس: نزلت في عليّ رضي الله عنه، وقال معناها: يحبُّهم، ويُحبِّبُهم إِلى المؤمنين. قال قتادة: يجعل لهم وُدّاً في قلوب المؤمنين. ومن هذا حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:
(٢) في «اللسان» : النّصح: نقيض الغش. [.....]
قوله تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ يعني: القرآن. قال ابن قتيبة: أي، سهَّلناه، وأنزلناه بلغتك واللُّدُّ: جمع أَلَدٍّ، وهو الخَصِمُ الجَدِل.
قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ هذا تخويف لكفّار مكّة هَلْ تُحِسُّ قال الزجاج: أي: هل ترى يقال: هل أحسستَ صاحبَك، أي: هل رأيتَه؟ والرِّكز: الصوت الخفيُّ وقال ابن قتيبة: الصوتُ الذي لا يُفْهَم، وقال أبو صالح: حركة، والله تعالى أعلم.