تفسير سورة البقرة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ

﴿ آلم ﴾ قيل في المقطعات في أوائل السور أنها أسماء السور، وقيل : هي مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام واستئناف آخر، وقيل : هي إشارة إلى كلمات منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر : فقلت لها قفي فقالت لي قاف. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية : الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه الر وحم ون مجموعها الرحمن، وعن ابن عباس أن الم معناه أنا الله أعلم، وقال البغوي : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : المص أنا الله أعلم وأفصل والر أنا الله أرى والمر أنا الله أعلم و أرى، وقيل : إشارة إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل. روى البخاري في تاريخه وابن جرير من طريق ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم لما أتاه إليهم تلا عليهم ألم البقرة فحسبوا فقالو : كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : فهل غيره ؟ فقال : المص والر، والمر، فقالوا : خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ. ورد هذه الأقوال بأن كونها أسماء السور مستلزم لوقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد وذلك ينافي المقصود بالعلمية، وأيضا التسمية بثلاثة أسماء فصاعدا مستنكر وأيضا تسمية بعض السور دون بعض بعيد، وبأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للدلالة على الفصل والاستئناف، وإن كان كذلك كانت على كل سورة، وبأن الاقتصار على بعض حروف الكلمة غير مستعمل وأما الشعر فشاذ على أن في الشعر قوله قفي في السؤال قرينة على أن قولها قاف من وقفت بخلاف أوائل السور إذ لا قرينة هناك على أن الألف من آلاء الله واللام لطفه ونحو ذلك، وما روي عن بعض الصحابة والتابعين فمصروف عن الظاهر وإلا فهي أقوال متعارضة، وتخصيص حرف بكلمة من الكلمات المشتملة على تلك الحروف دون غيرها ترجيح بلا مرجح وبأن تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فهم اليهودي. الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم تعجب على جهله، وقيل : أنه مقسم بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه وهذا التأويل يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، واختار البيضوي أن حروف التهجي لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها افتتحت السور بطائفة منها إيقاظا لمن يتحدى بالقرآن وتنبيها على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن الإتيان بملثه وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف من الأمي معجزة كالكتابة سيما وقد روعي في ذلك ما يعجز عنه الأديب الفائق في فنه حيث أورد أربعة عشر اسما و نصف عدد أسامي الحروف في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف المشتملة على أنصاف جميع أنواعها من المهموسة والمجهورة والشديدة الرخوة وغيرها كما ذكر تفصيله، وأيضا الكلام غالبا يتركب من تلك الحروف الأربعة عشر دون البواقي، قال : والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والحق عندي أنها من المتشابهات وهي أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن شاء إفهامه من كل أتباعه، قال البغوي : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : في كل كتاب سر وسر الله تعالى في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، وحكاه الثعلبي عن أبي بكر وعن علي وكثير، وحكاه السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أجميعن وحكاه القرطبي عن سفيان الثوري والربيع بن خثعم وأبي بكر ابن الأنباري وابن أبي حاتم وجماعة من المحدثين، قال السجاوندي : المروي عن الصدر الأول في حروف التهجي أنها سر بين الله وبين نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد يجري بين المحرمين كلمات معميات يشير إلى أسرار بينهما، وقيل : إن الله تعالى استأثر بعلم المقطعات والمشابهات ما فهمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أتباعه، وهذا بعيد جدا فإن الخطاب للإفهام فلو لم يكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل أو الخطاب بالهندي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى، ويلزم أيضا الخلف في الوعد بقوله تعالى :﴿ ثم إن علينا بيانه ﴾ ١ فإنه يقتضي أن بيان القرآن محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم واجب ضروري، وروي عن ابن عباس : أنا من الراسخين في العلم وأنا ممن يعلم تأويله، وكذا عن مجاهد وادعى المجدد للألف الثاني رضي الله عنه «من الأمة المرحومة التي لا يدري أولها خير أم آخرها ولعل آخرها فوجا هي أعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا » إن الله تعالى أظهر عليه تأويل المقطعات وأسرارها لكنها مما لا يمكن بيانها للعامة فإنه ينافي كونها سرا من أسرار الله تعالى والله تعالى أعلم، وقيل : إنها أسماء الله تعالى أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه في الأسماء والصفات عن ابن عباس وسنده صحيح، وروى ابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : يا كهيعص اغفر لي، وعن الربيع بن أنس كهيعص معناه من يجير ولا يجار عليه، وقيل : إنها أسماء القرآن أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، قالوا ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن، قلت : إن كانت أسماء الله تعالى كانت دالة على بعض صفات القرآن كما أن لفظ القرآن والفرقان والنور والحياة والروح والذكر والكتاب تدل على صفة من صفاته، وعلى كلا التقديرين فدلالة تلك الألفاظ ليست مما يفهمه العامة بل هي مختصة بفهم المخاطب ومن شاء الله تعالى تفهيمه، والحكم بأنها من أسماء الله تعالى لا يتصور إلا بعد فهم معناها –فهذان القولان على تقدير صحتهما راجعان إلى ما حققناه أنها أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لا يفهمه غيره إلا من شاء الله من كمل أتباعه وكذلك قوله تعالى :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ ٢ وقوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ ٣ و﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾٤ وقال عز من قائل :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾ ٥ ولا شك أن الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني متناهية، والعقول قاصرة عن درك كنه ذات الله تعالى وكنه صفاته، وإنما يتصور دركه بنوع من المعية الذاتية أو الصفاتية الغير المتكيفة –هيهات هيهات عن فهم العوام بل الخواص مع دركهم لا يدركون ذلك الدرك في مرتبة الذات حيث قال رئيس الصديقين ( شعر ) :
العجز عن درك الإدراك إدراك والبحث عن سر الذات إشراك
غير أن بعض صفاته تعالى لما شارك صفات الممكنات في الغايات أو بعض وجوه المشاكلات عبر عنها بالأسماء التي تدل على صفات في المخلوقات كالحياة والعلم والسمع والبصر والإرادة والرحمة والقهر وغيرها فزعم البشر أنه فهمها وفي الحقيقة لم يفهم إلا بعض وجوهها –وبعضها ليست بهذه المثابة، فمنها ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنها ما أفهم الخواص من خلقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه «اللهم إني أسألك بكل اسم هو سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك »٦ رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وأحمد وأبو يعلى في حديث ابن مسعود لمن أصابه هم، و الطبراني في حديث أبي موسى. فلعل الله سبحانه من ذلك الأسماء الخفية عن العامة التي لم يوضع بإزائها ألفاظ في لغاتهم علم وألهم بعضها لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أتباعه بهذه الحروف وخلق فيهم علما ضروريا مستفادا من هذه الحروف كما علم آدم الأسماء وخلق فيهم علما ضروريا من غير سبق علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى كيلا يلزم التسلسل، وتتجلى تلك الأسماء والصفات على النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الحروف، قال شيخي وإمامي قد سنا الله بسره السامي : إنه يظهر ينظر الكشف القرآن كله كأنه بحر ذخار للبركات الإلهية ويظهر تلك الحروف في ذلك البحر كأنها عيون فوارات تفور ويخرج منها البحر، فعلى هذه المكاشفة لا يبعد أن يجعل هذه الحروف أسماء للقرآن كأن القرآن تفصيل لذلك الإجمال والله علم بمراده، وهذا التوجيه لا ينافي ما اختاره البيضاوي فإن القرآن لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع، ويروي لكل حرف حد ولكل حد مطلع رواه البغوي من حديث ابن مسعود، فكما أن هذه الحروف في الظاهر عنصر للقرآن وبسائطه وغالب ما يتركب منه، وفيه لطائف الإيراد ووجوه الإعجاز كذلك المراد من تلك الحروف إجمال للقرآن وعيون فوارات وأسرار بين الله وبين رسوله لا يطلع عليه أحد إلا المخاطب أو من في معناه والله سبحانه أعلم.
١ سورة القيامة، الآية: ١٩.
٢ سورة الفتح، الآية: ١٠.
٣ سورة طه، الآية: ٥.
٤ سورة البقرة، الآية: ٢١٠ [ونحو ذلك مما يستحيل حملها على ظواهرها التي تتبعها الذين في قلوبهم زيغ من المجسمة، فإن كلا منها تدل على صفة من صفات الله تعالى بحيث فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الكمل من أتباعه، وتوضيح ذلك أن لله تعالى صفات غير متناهية حيث قال الله تعالى: ﴿لو كان البحر مدادا لكمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي﴾ [سورة الكهف، الآية: ١٠٩.
٥ سورة لقمان، الآية: ٢٧.
٦ رجال أحمد يعلى رجال الصحيح غير أبي مسلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. أنظر مجمع الزوائد في كتاب: الأدعية، باب: دعاء من أصابه هم أم حزن (١٧٤٤٥).
﴿ ذلك الكتاب ﴾ أي هذا الكتاب الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم ويكذب به المشركون، فالمشار إليه ما سبق نزوله من القرآن على سورة البقرة أو القرآن كله الذي سبق بعضه، فذلك مبتدأ والكتاب خبره أي الكتاب العهود الموعود –أو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا، أو صفة وخبره ما بعده، وقيل : هذا فيه مضمر أي هذا الذي يوحى إليك ذلك الكتاب الذي وعدنا إنزاله في التوراة والإنجيل، أو وعدناك من قبل بقولنا :﴿ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ﴾١ فذلك خبر مبتدأ محذوف والكتاب صفته. والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصل الكتب الضم والجمع يقال للجند كتيبة لاجتماعها سمي به لأنه قد جمع في الكتاب حرف إلى حرف، أو لأنه مما يكتب، والإشارة بذلك وهي للبعيد تعظيما لشأنه.
﴿ لا ريب فيه ﴾ لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب فيه العاقل بعد النظر الصحيح في كونه حيا، وقيل خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه، ولا لنفي الجنس وفيه خبره، او فيه صفته، وللمتقين خبره وهدى نصب على الحال، أو الخبر محذوف كما في ﴿ لا ضير ﴾ ٢ وفيه خبر قدم عليه لتنكيره والتقدير لا ريب فيه فيه هدى، والأولى أن يقال إنها جمل متناسقات يقرر اللاحقة السابقة ولذا لم يعطف، فلذلك الكتاب جملة تفيد أنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال حيث ﴿ لا ريب فيه ﴾. وكذا قوله :﴿ هدى للمتقين ﴾ قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء ضمير الغائب قبلها ساكن يشبعها وصلا بالياء إن كان الساكن ياء وإلا بالواو ونحو منه، كما يشبع القراء كلهم كل هاء قبلها متحرك مكسور ياء نحو به أو غير مكسور واوا نحو يضربه له، ما لم يلقها ساكن فإذا لقيها ساكن سقط مدة الإشباع لاجتماع الساكنين إجماعا –نحو ﴿ عليه الكتاب ﴾ و﴿ وله الحكم ﴾ غير أن الكلمة إذا كانت ناقصة حذف آخرها لأجل الجزم نحو ﴿ يؤدهي ﴾ و﴿ نولهي ﴾ ﴿ ونصلهي ﴾ ﴿ فألقه ﴾ ﴿ ويتقه ﴾ و﴿ يأته ﴾ و﴿ يرضه ﴾ وبقي ما قبل الهاء متحركا ففيها خلاف القراء نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى، فقرأ بعضهم بالإشباع نظرا إلى تحرك ما قبلها وبعضهم بالاختلاس نظرا إلى كون الحركة عارضية وتنبيها على الحرف المحذوف وبعضهم بالسكون لحلوله محل المحذوف.
﴿ هدى للمتقين ﴾ أي هو هدى فهو جملة ثالثة يؤكد كونه حقا لا ريب فيه، أو يكون كل جملة منها يستتبع السابقة اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فإنه لما كان بالغا حد الكمال لا يسوغ فيه الريب فيكون البتة هدى، وهدى مصدر بمعنى الدلالة على الطريق الموصل أول الدلالة الموصلة إلى المقصود بمعنى الهادي أو ذكر مبالغة كزيد وتخصيص الهدى بالمتقين إما على المعنى الأولى فلأنهم هم المنتفعون به وإن كانت الدلالة عامة ولذا قال :﴿ هدى للناس ﴾ ٣ وإما على الثاني فظاهر لأنه لا يكون دلالة موصلة إلا لمن صقل عقله كالغذاء الصالح ينفع الصحيح دون المريض ولذا قال :﴿ شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾ ٤ والمتقي من يقي نفسه عما يضره في الآخرة من الشرك وذلك أدناه، ومن المعاصي وذلك أوسطه، ومن الاشتغال بما لا يعينه ويشغله عن ذكر الله تعالى وذلك أعلاه وهو المراد بقوله تعالى :﴿ حق تقاته ﴾٥ وقال ابن عمر : التقوى أن لا ترى نفسك خيرا من أحد، وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي يترك ما لا بأس به حذرا عما به بأس. روى الشيخان وابن عدي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشتبهات استبرا لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعهن ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب »٦ وروى الطبراني في الصغير :«الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك » قلت : صلاح القلب المذكور في الحديث هو المعتبر باصطلاح الصوفية بفناء القلب وهو أول مراتب الولاية وهو المستلزم لصلاح الجسد والاتقاء عن المشتبهات حذرا من ارتكاب المحرمات، فالتقوى لازم للولاية قال الله تعالى :﴿ إن أولياءه إلا المتقون ﴾ ٧ وفي الآية سمى المشارف للتقوى متقيا مجازا على طريقة من قتل قتيلا.
١ سورة المزمل، الآية: ٥.
٢ سورة الشعراء، الآية: ٥٠.
٣ سورة البقرة، الآية: ١٨٥.
٤ سورة الإسراء، الآية: ٨٢.
٥ سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه ﴿٥٢﴾ وأخرجه مسلم في كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات ﴿١٥٩٩﴾. وهو موجود أيضا عند أصحاب السنن.
٧ سورة الأنفال، الآية: ٣٤.
﴿ الذين يؤمنون بالغيب ﴾ صفة مقيدة للمتقين إن فسر بالتقوى عن الشرك وإلا فموضحة مشتملة على أصول الأعمال من الإيمان فإنه رأس الأمر كله، والصلاة فإنها عماد الدين، والزكاة فإنها قنطرة الإسلام، أو مادحة، أو مبتدأ وخبره ﴿ أولئك على هدى ﴾ قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش يؤمنون بالوال بدلا من الهمزة، وكذلك أبو جعفر يترك كل همزة ساكنة ويبد لها واوا بعد ضمة وياء بعد كسرة إلا في ﴿ أنبئهم ﴾ ﴿ ونبئهم ﴾ و﴿ نبئنا ﴾ وأبو عمرو كلها إلا ما كان السكون فيه للجزم نحو يهيئ أو يكون فيه خروج من لغة إلى لغ ك﴿ المؤصدة ﴾ و﴿ رءيا ﴾ وورش كل همزة ساكنة في فاء الفعل إلا ﴿ تؤى ﴾ و﴿ تؤيه ﴾ ولا يترك الهمزة في عين الفعل إلا باب الرؤيا وما كان على وزن فعل مكسور العين، والإيمان في اللغة التصديق كما في قوله تعالى :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾١ وذلك يكون بالقلب واللسان وفي الشرع التصديق بالقلب واللسان جميعا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلم قطعا، ولا يعتبر التصديق بالقلب بدون اللسان إلا في حالة الإكراه، قال الله تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ﴾٢ وقال :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾٣ وقال :﴿ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ﴾٤ ولا يعتبر التصديق باللسان بدون القلب أصلا قال الله تعالى :﴿ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ﴾٥ وأما الأعمال فغير داخلة في الإيمان، ولذا صح عطف ﴿ يقيمون الصلاة ﴾ على ﴿ يؤمنون ﴾ وعطف ﴿ ءامنوا وعلموا الصالحات ﴾ روى مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال : صدقت، فعجنبا له يسأله ويصدقه، قال : أخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال : صدقت، قال : فأخبرني عن الإحسان ؟ قال : أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال : أخبرني عن الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال : ثم انطلق فلبث مليا ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال : فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم »٦ ورواه أبو هريرة مع اختلاف وفيه «إذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ ﴿ إن اله عنده علم الساعة وينزل الغيث » الآية متفق عليه. وهذا الحديث يدل على أن الإسلام اسم لما ظهر من الأعمال، وكذا قوله تعالى :{ قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ﴾٧ ويطلق الإسلام أيضا على الإيمن كما في قوله تعالى :﴿ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾٨ فهو في اصطلاح الشرع مشترك في المعنيين، والغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة قال الله تعالى :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾٩ والمراد به : ما غاب عن أبصارهم من ذات الله وصفاته والملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان وعذاب القبر وغير ذلك فهو واقع موقع المفعول به للإيمان والباء صلة، أو بمعنى الفاعل وقع حالا من فاعل يؤمنون يعني يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين في حضور المؤمنين خاصة دون الغيبة وقيل عن المؤمن به، روي عن ابن مسعود أنه قال إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله غيره ما من أحد قط أفضل إيمانا من إيمان بغيب ثم قرأ :﴿ ألم ذلك الكتاب ﴾ إلى قوله :﴿ المفلحون ﴾.
﴿ ويقيمون الصلاة ﴾ أي يحافظون على حدودها وشرائطها وأركانها وصفاتها الظاهرة من السنن والآداب والباطنة من الخشوع والإقبال، من أقام العود إذا قومه، أو يديمونها ويواظبون عليها من قامت السوق إذ نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة. والصلاة أصله الدعاء وسميت بها لاشتمالها عليه، قرأ ورش بتغليظ اللام إذا تحرك بالفتح بعد الصاد- او الطاء- والظاء- نحو الصلوات- مصلى- واظُلَمُ- والطلاق- ومعطلة- وبطل- ونحو ذلك وقرأ الباقون بالترقيق إلا في لفظة الله خاصة إذا انفتح أو انضم ما قبله فيفخمونه أجمعون. ﴿ ومما رزقهم ينفقون ﴾ الرزق في اللغة : الحظ، قال الله تعالى :﴿ ويجعلون رزقكم أنكم تكذبون ﴾١٠ ويطلق على كل ما ينتفع به الحيوان، والإنفاق في الأصل : الإخراج عن اليد والملك، ومنه نفاق السوق حيث يخرج فيه السلعة، والمراد به صرف المال في سبيل الخير هذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب.
١ سورة يوسف، الآية: ١٧.
٢ سورة النمل، الآية: ١٤.
٣ سورة البقرة، الآية: ١٤٦.
٤ سورة النحل، الآية: ١٠٦.
٥ سورة المنافقون، الآية: ١.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿إن الله عنده علم الساعة﴾﴿٤٧٧٧﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى﴿٨﴾.
٧ سورة الحجرات، الآية: ١٤.
٨ سورة البقرة، الآية: ١٣١.
٩ سورة الأنعام، الآية: ٧٣.
١٠ سورة الواقعة، الآية: ٨٢.
﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ يعني القرآن ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام، هم المؤمنون من أهل الكتاب، كذا أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنه فعلى هذا الآيتان تفصيل للمتقين، أو المراد بهم هم الأولون من قبيل قوله : شعر.
إلى الملك القوم وابن الهمام وبيست الكتيبة في المزدحم
على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة وإتيان الشرائع وبين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع، أو من قبيل عطف الخاص على العام كقوله تعالى :﴿ تنزل الملائكة والروح ﴾١ تعظيما بشأنهم. روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد »٢ الحديث والإنزال : نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل ويلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها كجبرئيل، أو المراد العلو والسفل في الرتبة أنزل من علم الله تعالى إلى علم البشر. يقصر أبو جعفر وابن كثير ويعقوب والسوسي كل مد وقع بين كلمتين وقالون والدوري يمد ويقصر والباقون يمدونها ولذا سمي هذا المد المنفصل مدا جائزا بخلاف المتصل الواقع في كلمة واحدة نحو السماء فإنهم اتفقوا على مده فيسمى اجبا. لكنهم اختلفوا في مقدار المتصل والمنفصل ؟ فابن كثير وأبو عمرو قالون يمدون على قدر ثلاث حركات وابن عامر والكسائي على قدر أربع حركات وعاصم على قدر خمس حركات وورش وحمزة على قدر ست حركات. هذا في المد الذي يقع بعد المد همزة، أما إذا وقع بعده ساكن نحو ﴿ ولا الضالين ﴾ فجميع القراء اتفقوا على أن القارئ مخير في مده على قدر حركتين أو أربع حركات أو ست حركات وفيما كان الساكن في الأصل مضموما نحو ﴿ نستعين ﴾ يمدونها إلى سبع حركات، والله أعلم.
﴿ وبالآخرة هم يوقنون ﴾ أي بالدار الآخرة سميت الدنيا لدنوها، والآخرة لتأخرها فهما صفتان في الأصل غلبتهما الاسمية فصارا اسمين –والإيقان إتقان العلم بنفي الشك عنه نظرا و استدلالا، فلا يسمى الله موقنا. قرأ ورش بنقل حركة الهمزة إلى اللام وحذف الهمزة وكذلك كلما وقع الهمزة أول كلمة، والسابق عليه حرف ساكن غير مد ولين من آخر كلمة أخرى فإنه يلقي حركة الهمزة على الساكن قبلها ويحذفها سواء كان الساكن نون تنوين أو لام تعريف أو غير ذلك نحو ﴿ من شيء إذ كانوا ﴾ و﴿ مبين أن اعبدوا ﴾ و﴿ كفؤا أحد ﴾ و﴿ بالآخرة ﴾ ﴿ الأرض ﴾ ﴿ الأول ﴾ واستثنى أصحاب يعقوب عن ورش من ذلك ﴿ كتابيه إني ظننت ﴾ واختلفوا في آلئن في موضعين و﴿ عاداً الأولى ﴾ ثم ورش يمد مدا قصيرا ومتوسطا وطويلا على هذه المدة، وكذا على كل مدة وقع بعد الهمزة سواء كانت الهمزة ثابتة نحو آمن وأوحى –وإيمانا- أو محذوفة بعد نقل الحركة نحو بالآخرة –قل أوْحِيَ- ومن آمن أو مبدلة نحو هؤلاء آلهة فقرأ ورش هؤلاء يالهة بالإبدال والمد أو المسهلة نحو جاء آل إلا ياء إسرائيل تحرزا عن ثلاث مدات في بني إسرائيل، وبعضهم لا يرون لورش المد إلا في الثابتة، وقرأ حمزة من رواية خلف بالسكت عليه سكتة لطيفة من غير قطع نحو من آمن –وهل آتاك- وعليهم ءأنذرتهم ابني آدم وخلوا إلى شياطينهم –الآخرة- الأرض- وعنه السكتة على لام التعريف وشيء وشيئا لا غير –وقدم الضمير للحصر أي هم الموقنون بالآخرة دون غيرهم من أهل الكتاب لعدم مطابقة اعتقادهم الواقع حيث قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ونحو ذلك.
١ سورة القدر، الآية: ٤.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: تعليم الرجل أمته وأهله ﴿٩٧﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ﴿١٥٤﴾.
﴿ أولئك على هدى من ربهم ﴾ الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين منفصلا عن المتقين كأنه نتيجة للأحكام بالصفات المذكورة فإن اسم الإشارة كإعادة الموصوف بصفاته، ففيه إيذان بأن تلك الصفات موجبة لهذا الحكم، وفي كلمة على إيذان على تمكنهم واستقرارهم على الهداية، ونكر هدى للتعظيم وأكد التعظيم بأن الله معطيه وموفقه ﴿ أولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بالمطلوب مدا اللفظ وما يشاركه في الفاء والعين من فلق وفلذ وفلى يدل على الشق والقطع كأن المفلح انشق من غيره وصار بينهما بون بعيد، أو صاروا مفطوعا لهم بالخير في الدنيا والآخرة، كرر اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات قتضي كل واحدة من الآثرتين ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين بخلاف قوله :﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾١ وهو ضمير يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد الاختصاص، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك، وتمسك المعتزلة بأن الحصر تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار، ورد بأن المراد المفلحون الكاملون في الفلاح ويلزم منه عدم كمال الفلاح لمن ليس مثلهم لا عدم الفلاح مطلقا، ثم لما ورد ذكر خاصة عباد الله وأوليائه في ضمن ذكر الكتاب أو مستقلا إن جعل الموصول منفصلا عن المتقين، عقبهم أضدادهم المردة ولم يعطف لاختلاف السياق.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٧٩.
﴿ إن الذين كفروا ﴾ الكفر لغة : ستر النعمة، وفي الشرع : ضد الإيمان وستر نعمة الله. ﴿ سواء ءأنذرتهم أم لم تنذرهم ﴾ –خبر إن- وسواء اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت المصادر، ما بعده مرفوع على الفاعلية كأنه قيل مستو عليهم إنذارك وعدمه، أو خبر لما بعد، بمعنى أنه إنذارك وعدمه سيان عليهم، والفعل وقع مخبرا عنه باعتبار المعنى التضمني أي الحدث مجازا، وإنما عدل عن المصدر إلى الفعل لإيهام التجدد، والهمزة وأم جردتا عن معنى الاستفهام وذكر التقرير معنى الاستواء وتأكيده، والإنذار : التخويف من عذاب الله واقتصر عليه لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. قرأ ورش بإبدال الهمزة الثانية ألفا، وقالون وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية بين بين لكن قالون يدخل ألفا بينهما مع التسهيل، وهشام يدخل ألفا بينهما من غير تسهيل، والباقون يحققون الهمزتين من غير إدخال، وكذلك المقال في كل همزتين مفتوحتين في كلمة واحدة، وذكر في التيسير مذهب هشام كقالون، وأما إذا اختلفنا بالفتح والكسر في كلمة نحو ﴿ أءذا كنا ترابا ﴾ فالحرميان وأبو عمرو يسهلو الثانية وقالون أبو عمرو يدخلان قبلها ألفا والباقون يحققون الهمزتين واختلف الرواية عن هشام في إدخال الألف بينهما ففي رواية يدخل مطلقان وفي رواية إلا في سبعة مواضع ﴿ أئنكم ﴾ في الأعراف وفصلت ﴿ أئنَّ لنا لأَجْرا ﴾ في الأعراف والشعراء – وفي مريم ﴿ ويقول الإنسان أءذا ما مت ﴾ وفي الصافات ﴿ إءِنَّكَ ﴾ و﴿ أَئِفْكاً ﴾ وإذا اختلفتا بالفتح والضم في كلمة فالحرميان وأبو عمرو يسهلون الثانية، وقالون يدخل بينهما ألفا –وهشام كقالون في ص ﴿ أءُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴾ وفي ﴿ القَمَرَ ﴾ ﴿ أَءُلقِيَ ﴾ وكالجمهور في آل عمران ﴿ قل أؤنبئكم ﴾ والباقون يحققون ول رابع لها ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ جملة مفسرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة أو بدل عنه أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم.
﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾ فلا تعي خيرا، والقلب : هو المضغة وقد يطلق على المعرفة العقل قال الله تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾١ اعلم أن الله تعالى خالق الأشياء كلها أعراضها وجواهرها، والأسباب أسباب عادية يخلق الله تعالى عقييها المسببات فالله سبحانه بعد استعمال الحواس من السمع والبصر وغيرهما يخلق علما بالمحسوسات وبعد استعمال الذهن في ترتيب المقدمتين يخلق علما بالنتيجة جريا على عادته، ولو شاء لا يخلق ويتعطل الحواس ويتخبط الذهن، ولو شاء يحصل العلم بالمحسوس ولا يفيد ذلك العلم أثرا في القلب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء » ثم قال :«اللهم مصرف القلوب صرف قلبنا على طاعتك »٢ رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو. فالله سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب الكفار صرفهم عن التفكر في الآيات ولم يخلق في قلوبهم تأثرا بالإيمان واليقين بعد رؤية الآيات والمعجزات وعبر عن ذلك وعدم التأثر بالختم والطبع والإغفال والإقساء والغشاوة مجازا، أو مثل قلوبهم ومشاعرهم بأشياء ضرب عليها الحجاب، أو يقال إن المراد بالختم ما يخلق الله تعالى من السواد على القلوب باقتران المعاصي، روى البغوي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلكم الران الذي ذكر الله في كتابه :﴿ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾٣ قلت : وسواد القلب المذكور هو المعبر فيما مر من الحديث بفاسد القلب حيث قال :«وإذا فسدت فسد الجسد » وهو ضد صلاح القلب، ولما كان حال ذنب المؤمن كذلك فما بال الكافر، وعبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع والإغفال والإفساد ونحوها، والختم : في اللغة الكتم، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له، والبلوغ آخره سمي به نظرا إلى أنه آخر فعل يفعل في إحرازه.
﴿ وعلى سمعهم ﴾ أي أسماعهم، وحده للأمن عن اللبس واعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تجمع، معطوف على قلوبهم لقوله تعالى :﴿ وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ﴾٤ ولما كان درك السمع والقلب من جميع الجهات جعل مانعهما من جنس واحد وهو الختم بخلاف البصر فإنه مختص بالمقابلة فجعل مانعها الغشاوة المختصة بجهة المقابلة ﴿ وعلى أبصارهم غشاوة ﴾ جمع بصر وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع. أمال أبو عمرو والدوري عن الكسائي كل ألف بعده راء مجرور في لام الفعل نحو :﴿ وعلى أبصارِهِمْ ﴾ وصلا ووقفا وكذا آثارهم –والنار- وبقِنْطَارٍ- وبدينارٍ- والأبرَارِ- وشبهه وتابعهما أبو الحارث فيما تكررت فيه الراء من ذلك الأشرارِ- الأبرارِ وقرأ ورش كل ذلك بين بين وتابعه حمزة فيما كان الراء فيه مكررا وعلى قوله القهَّارِ حيق وقع و دارَ البُوَارِ لا غير- وأمال ابن ذكوان إلى حِمَارِكَ والحِمَارِ في البقرة والجمعة لا غير. والغِشَاوَةُ : ما يشتمل على الشيء فيغطيه مرفوع على أنه مبتدأ أو فاعل للظرف.
﴿ ولهم عذاب عظيم ﴾ في الآخرة، والعذاب : من أعذب الشيء إذا أمسك أي عقابا يمنع الجاني عن المعاودة ثم اتسع فأطلق على كل ألم وإن لم يكون عقابا مانعا، وقيل : من التعذيب بمعنى إزالة العذب، والعظيم ضد الحقير يعني إذا قيس مع ما يجانسه قصر عنه جميعه.
١ سورة ق، الآية: ٣٧.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب: تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء ﴿٢٦٥٤﴾.
٣ سورة المطففين، الآية: ١٤.
٤ سورة الجاثية، الآية: ٢٣.
﴿ ومن الناس ﴾ روي عن أبي عمرو إمالة فتح النَّاسِ في موضع الجر حيث وقع بخلاف عنه وصلا ووقفا.
﴿ من يقول ءامنا بالله وباليوم الآخر ﴾ أي بيوم القيامة نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس وأصحابهم وأكثرهم من اليهود. والناس : أصله أناسُ فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يجمع بينهما جمع إنسان، وقيل : اسم جمع إذ لم يثبت فُعَالٌ من أبنية الجمع، مشتق من أنس لأنهم يستأنسون بينهم، أو أَنَسَ لأنهم ظاهرون مبصرون، كما سمي اجن لاجتنانهم واللام فيه للجنس ومَنْ موصوفة إذ لا عهد، وقيل : للعهد والمعهود هم الذين كفروا –أو مَنْ موصولة أريد بها ابن أبيّ وأمثاله حيث دخلوا في الكفار المختوم على قلوبهم واختصوا بزيادة الخداع، وتخصيص الذكر بالإيمان بالله واليوم الآخر لما هو مقصود الأعظم من الإيمان.
﴿ وما هم بمؤمنين ﴾ إنكار لما أدّعوه وكان أصله وما آمنوا حتى يطابق قولهم في تصريح الفعل دون الفاعل لكن عكس مبالغة في التكذيب لأن إخراجهم من المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان في ماضي الزمان ولذلك أكد النفي بالباء.
﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ الخدع : أن توهم عيرك خلاف ما تخفيه من المكروه، من قولهم خدع الضب إذا توارى في جحره وأصله الإخفاء، وخداعهم مع الله أي مع رسلوله بحذف المضاف، أو من حيث أن معاملتهم مع الرسول معاملتهم مع الله من حيث أنه خليفته قال عز وجل :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾١ وقال عز من قائل :﴿ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ﴾٢ وهو بعنى يخدعون، وصيغة المفاعلة للمبالغة فإن الفعل مع المقابل أبلغ أو أن صورة صنيعهم مع الله من إظهار الإيمان مع إبطال الكفر وصنع الله معهم بإجراء أحكام الإسلام عليهم صورة صنيع المتخادعين وهو بيان ليقول أو استئناف بذكر ما هو الغرض منه.
﴿ وما يخدعون ﴾ قراءة الحرميين وأبي عمرو وما يخادعون ﴿ إلا أنفسهم ﴾ فإنه لا يخفى على الله خافية، وهو يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهم غروا أنفسهم حيث أوهموا أنفسهم أنهم أمنوا من العذاب والفضيحة فضرر خداعهم راجع إليهم دون غيرهم.
﴿ وما يشعرون ﴾ أي لا يحسون لتمادي غفلتهم، الشعور الإحساس بالمشاعر أي الحواس، جعل رجوع الضرر إليهم كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على المعدوم الحواس.
١ سورة النساء، الآية: ٨٠.
٢ سورة الفتح، الآية: ١٠.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾ لا المرض ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال ويضعفه ويفضيه إلى الهلاك، ويطلق على الأعراض النفسانية من الجهل والحسد والكفر وسوؤ العقيدة مجازا فإنه مانع من نيل الفضائل ومفضي إلى الهلاك الأبدي، وهم كانوا على أخبث الأعراض النفسانية وكانوا أيضا متألمين على فوت الرياسة واستعلاء شأن المحسودين من المؤمنين.
﴿ فزادهم مرضا ﴾ بتقوية تلك الأعراض الخبيثة بالختم والرين، وإنزال الآيات، فكلما كفروا بآية ازدادوا كفرا، أو نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفضيحهم. قرأ حمزة بإمالة زاد وكذا جاء وشاء وران –وخَانَ- وخَابَ، وطَابَ- وحَاقَ- حيث وقع وزَاغَ- في والنجم وزَاغُوا في الصف لا غير سواء اتصلت هذه الأفعال بضمير أو لا إذا كانت ثلاثية ماضية، وتابعه ابن ذكوان على إمالة جَاءَ وشَاءَ حيث وقعا وزَادَ هاهنا خاصة وقيل حيث وقع.
﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم، وصف به العذاب مبالغة.
﴿ بما كانوا يكذبون ﴾ ما مصدرية –قرأ الكوفيون بالتخفيف أي بكذبهم في قوله آمنَّا- والباقون بالتشديد أي بتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم في السر.
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ﴾ الفساد : ضد الصلاح يعمان كل ضار ونافع –وفسادهم في الأرض : هيجان الحروب المخادعة المسلمين وممالئة الكفار عليهم بإفشاء الأسرار وتعويق الناس عن الإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. قرأ الكسائي وهشام –قيل- وغِيضَ- وجِيءَ- وحِيُلَ- وسِيُقَ- وسٍئَتُ وسِيءَ بالإشمام ووافق ابن عامر في الأربع الأخيرة ووافق نافع في الأخيرين، والمراد بالإشمام ههنا أن ينحا بكسر فائها نحو الضمة والياء نحو الواو – وقيل بضم الفاء مشبعة، وقيل مختلسا، وقيل بل إيماء بالشفتين إلى ضمة مقدرة مع إخلاص الكسرة، والأول أصح والباقون بالكسرة.
﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾ وهم كاذبون، رد للناصح على سبيل المبالغة بكلمة إنما أو قالوا ذلك فيما بينهم تصوروا الفساد بصورة الصلاح لما زين لهم سوء أعمالهم.
﴿ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾ ردَّ لما ادعوه أبلغ رد كما ادعوه لأنفسهم، مع تعريض للمؤمنين بأبلغ الوجوه بالاستئناف وحرف التنبيه المفيدة للتحقيق وكلمة أن وتعريف الخبر وضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.
﴿ وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس ﴾ يعني المهاجرين والأنصار أو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام – هذا من تمام النصح، فإن الإعراض عن الفساد والإتيان بشرائع الإيمان كمال الإنسان، وكما آمن الناس في محل النصب على المصدرية وما مصدرية أو كافة كما في ﴿ رُّبَمَا ﴾ ﴿ قَالُوا ﴾ فيما بينهم ﴿ أنؤمنُ كَمَا ءامن السفهاءُ ﴾ والسفه : خفة العقل وضده الحلم، وقيل : السفيه من تعمد بالكذب، وإنما سفهوهم اعتقادا لفساد رأيهم أو تحقيرا لشأنهم.
﴿ ألا إنهم هم السفهاء ﴾ فإنهم ما كانوا يرون من المعجزات وعرفون من التوراة أهملوا عقولهم وأنكروا الرسول صلى الله عليه وسلم :﴿ فما أصبرهم على النار ﴾١ وفيه رد ومبالغة كما سبق. قرأن الحرميان وأبو عمرو السُّفَهَاءُ إلا في الوصل خاصة بتسهيل الهمزة الثانية، وكذا كل ما اجتمعا في كلمتين واختلف حركتهما نحو مِنَ الماءِ أو مِمَّا –وشُهَدَاءَ إذْ حضَرَ- ومَنْ يَشَاءُ إلىَ صِرَاظٍ- وَجَاءَ أمَّةٌ وحكم التسهيل أن يجلع بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ما لم ينفتح وينكسر ما قبلها أو ينضم فإنها تبدل مع الكسرة ياء مفتوحة ومع الضمة واو مفتوحة والمكسورة المضموم ما قبلها تبدل واوا مكسورة والباقون يحققونهما ﴿ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ إنما ذكر ههنا ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ وفيما قبله ﴿ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ لأن الوقوف على أمور الدين يحتاج إلى فكر وأما الفساد فيدرك بالحس وأدنى التفات.
١ سورة البقرة، الآية: ١٧٥.
﴿ وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا ﴾ كإيمانكم، بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة سبق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم ﴿ وإذا خلوا ﴾ من خلوات بفلان وإليه إذا انفردت معه، أو من خلاك دم أي عداك ومنه القرون الخالية ﴿ إلى شياطينهم ﴾ أي رؤسائهم، قال ابن عباس : وهو خمسة نفر من اليهود كعب بن أشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء بالشام. والشيطان : المتمرد العاتي من الجن والإنس، قال الله تعالى :﴿ شياطين الإنس والجن ﴾١ وقال :﴿ من الجنة والناس ﴾٢ أو المراد الكهنة ولا يكون كاهن إلا ومعه الشيطان تابع له، والشيطان مشتق من شَطَنَ أي بَعُدَ يقال بئر شطون أي بعيد العمق سمي لامتداده في الشر وبعده من الخير، أو من شَاطَ أي بطل من أسمائه الباطل، وحينئذ النون زائدة ﴿ قالوا إنا معكم ﴾ في الدين والاعتقاد، خاطبهم بالجملة الإسمية المؤكدة بأن للدلالة على تحقيق ثباتهم على ما كانوا ﴿ إنما نحن مستهزءون ﴾ تأكيد لما قبله لأن المستهزئ بالشيء المستخف به مصر على خلافه، أو بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف كأن الشياطين قالوا لهم لما قالوا إنا معكم إن صح ذلك فما لكم تدعون الإيمان فأجابوا، والاستهزاء السخرية والاستخفاف، هزأت واستهزأت كأجبت واستجبت بمعنى وأصله الخفة ناقة تهزئ أي تسرع. قرأ أبو جعفر مُسْتَهْزُوُنَ- ويَسْتَهْزِؤونَ – وستَهُزُوْا- وليُطْفُوا لِيُوَاطُوا- ويَسْتَنْبَونكَ وخطُونَ- وخَاطِينَ- ومُتَّكُونَ- ومُتَّكيْنَ – فَمَالُونَ- والمُنْشُؤون- بترك الهمزة فيهن -.
١ سورة الأنعام، الآية: ١١٢.
٢ سورة الناس، الآية: ٥.
﴿ الله يستهزئ بهم ﴾ أي يجازيهم على استهزائهم سمي الجزاء به للمقابلة، قال البغوي قال ابن عباس : هو أن يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهو إليه سُد عنهم وردوا إلى النار، وقيل : هو أن يجعل للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حبل بينهم وبين المؤمنين قال الله تعالى :﴿ فضرب بينهم بسور له باب ﴾١ الآية. قال الحسن : معناه أن الله يظهر على المؤمنين نفاقهم انتهى، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن : إن المستهزءين بالناس يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم، فيجئ فإذا أتاه غلق دونه فما يزال كذلك الحديث، وهذا مرسل جيد وإنما استؤنف ولم يعطف ليدل على أن الله تعالى كاف في مجازاتهم لا حاجة للمؤمنين أن يعارضوهم ولم يقل الله مستهزئ بهم لتجدد الاستهزاء بهم حينا بعد حين ﴿ أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ﴾٢ ﴿ وبمدهم ﴾ يتركهم ويمهلهم، من مد الجيش إذا زاده وقواه أصله الزيادة، والمد والإمداد واحد غير أن المد كثير إما يستعمل في الشر والإمداد في الخير كما في ﴿ أمددناكم بأموال وبنين ﴾٣ ﴿ في طغيانهم ﴾ أي : تجاوز الحد في العصيان والكفر –أماله الكسائي حيث وقع ﴿ يعمهون ﴾ يترددون، العمه في البصيرة كالعمى في البصر.
١ سورة الحديد، الآية: ١٣.
٢ سورة التوبة، التوبة، الآية: ١٢٦.
٣ سورة الإسراء، الآية: ٦.
﴿ أولئك الذين اشتروا ﴾ استبدلوا ﴿ الضلالة ﴾ الكفر ﴿ بالهدى ﴾ بالإيمان ﴿ فما ربحت تجارتهم ﴾ التجارة طلب الربح أي الفضل على رأس المال بالبيع والشراء، وأسند الربح إليها مجازا لتلبسها بالفاعل أو لأنها سبب الربح كالفاعل ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ بالتجارة إذ المقصود من التجارة حصول الربح مع سلامة رأس المال، وهم ضيعوا رأس المال وهي الفطرة وما حصلوا الفضل بإدراك الحق ونيل الكمال.
﴿ مثلهم ﴾ المَثَلُ- والمِثْلُ- والمُثَيْلُ- بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربة بمورده ولا يضرب إلا ما فيه غرابة، ثم استعير لكل حال غريب أي حالهم الغريب.
﴿ كمثل الذي ﴾ أي الذين كما في قوله :﴿ وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضوا ﴾ وإنم جاز ذلك دون القائم مقام القائمين لأنه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هي صلة، ولأن ليس باسم تام بل كالجزء منه وحقه أن لا يجمع وليس الذين جمعه بل ذو زيادة تدل على زيادة المعنى ولذا جاء بالياء أبدا.
﴿ استوقد نارا فلما أضاءت ﴾ –النار- ﴿ ما حوله ﴾ –أي المستوقد-.
﴿ ذهب الله بنورهم ﴾ جواب لمَّا ولم يقل بنارهم لأن النور هو المقصود، وإسناد الفعل إلى الله لأن الكل لفعله، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي، أو سماوي، أو للمبالغة، و الجواب محذوف للإيجاز وعدم الالتباس كما في قوله تعالى :﴿ فلما ذهبوا به ﴾١ والجملة استئناف جواب سائل يقول ما بالهم شبههم بحال من استوقد فانطلقت ناره، أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان في الضمير على هذين الوجهين للمنافقين ﴿ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾ ذكر الظلمة وجمعها ونكرها ووصفها بأنه لا يُتَراءى فيها شيء للمبالغة في بيان شدته كأنها ظلمات متراكمة، ولما تضمن ترك معنى صبر جرى مجرى أفعال القلوب، وتُرِكَ مفعول لا يبصرون، كأن الفعل غير متعد بمعنى لا يقع منهم الأبصار، والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى، فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر، أو مثل لإيمانهم من حيث أنه يعود عليهم يحقن الدماء والأموال ومشاركة المسلمين في المغانم والأحكام بالنار ولذهاب أثره بإهلاكهم في الآخرة أو إفشاء حالهم في الدنيا بإطفاء الله إياه.
١ سورة التوبة، الآية: ٦٩.
﴿ صم بكم عمي ﴾ أي هم صم بكم عمي، يعني الذي استوقد نارا –لما ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات أدهشهم واختلت حواسهم فالكلام على الحقيقة، وإن كان ضمير بنورهم راجعا إلى المنافقين فالمعنى أنهم لما لم يصيخوا إلى الحق وأبو أن ينطقوا عليهم من قبيل التمثيل دون الاستعارة، لأن المستعار له يعني كلمة هم وإن كان محذوفا لفظا لكنه منطوق حكما ففات شرط الاستعارة، والآية نتيجة التمثيل.
﴿ فهم لا يرجعون ﴾ أي هم متحيرون فلا يدرون كيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه، و أنهم لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي ضيعوه.
﴿ أو كصيب من السماء ﴾ أي كأصحاب صيب وهو فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر لنزوله وفيه مبالغة، فإن الصوب فرط الانسكاب والصيغة للمبالغة والتنكير للتفخيم، وكلمة أو للتساوي في الشك ثم اتسع فيه فأطلق للتساوي من غير شك يعني التشبيه بالقصتين سواء، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت، كما قيل أنت مخير في خصال الكفارة، وتعريف السماء للدلالة على أن الغمام مطبق بآفاق السماء كلها فإن كل أفق منها يسمى سماء، وقيل : معناه السحاب فإن ما علاك سماء، واللام لتعريف الجنس لكن الظواهر دالة على أن المطر من السماء قاله الله تعالى :﴿ وأنزلناه من السماء ماء طهورا ﴾١ وقال :﴿ من جبال فيها من برد ﴾٢ وأخرج بن حبان عن الحسن : أنه سئل عن المطر من السماء أم من السحاب ؟ قال : من السماء إنما السحاب علم. وأخرج ابن أ بي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال : المطر يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع يقاله له الأثرم فيجيئ السحاب السود فيدخله فيشربه فيسوقه الله حيث شاء، وأخرجا عن عكرمة قال : ينزل المطر من السماء السابعة ﴿ فيه ﴾ أي الصيب أو السماء، والسماء يذكر ويؤنث قال الله تعالى :﴿ السماء منفطر به ﴾٣ و﴿ انفطرت ﴾٤.
﴿ ظلمات ﴾ ظلمة تتابع القطر والسحاب والليل ﴿ ورعد ﴾ وهو الصوت الذي يسمع منه.
﴿ برق ﴾ وهو النار التي تخرج منه، وهما مصدران ولذلك لم يجمعا، قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين : الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق : لمعان سوط من نار يزجر به الملك ويقال لصوته، وجعل المطر مكانا للرعد والبرق لأنهما في منحدره، وارتفاعهما بالظرف.
﴿ يجعلون أصابعهم في ءاذانهم ﴾ الضمير راجع إلى أحاب صيب فإن منوي معنى. أمال الكسائي آذانِهِمْ وآذَانِنَا- وطُغْيَانِهِمُ حيث وقع- وأطلق الأصابع موضع الأنامل مبالغة، والجملة استئناف كأنه قيل كيف حالهم مع ذلك الشدة ﴿ مِّن ﴾ أجل ﴿ الصواعق ﴾ متعلق بيجعلون، والصعق : شدة الصوت بحيث يموت من يسمعها أو يغشى عليه، ويطلق على الموت والغشي الحاصل بها، قال الله تعالى :﴿ فصعق من في السموات ﴾٥ والصواعق : جمع صاعقة رعد هائل مع نار لا تمر بشيء إلا أهلكته، أو المراد به الرعد.
﴿ حذر الموت ﴾ مفعول به ليجعلون.
﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به، ولا يخلصون من عذابه بالخداع. يميل أبو عمر والكسائي في رواية الدوري فتحة الكاف من الكافرين إذا كان بعد الراء ياء حيث وقع وقرأ ورش ذلك بين بين.
١ سورة الفرقان، الآية: ٤٨.
٢ سورة النور، الآية: ٤٣.
٣ سورة المزمل، الآية: ١٨.
٤ سورة الانفطار، الآية: ١.
٥ سورة الزمر، الآية: ٦٨.
﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾ استئناف، كأنه قبل ما حالهم مع تلك الصواعق، وكاد لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد لفقد شرط أو مانع فهي خبر محض بخلاف عسى فإنه رجاء وإنشاء، والخطف : الاستيلاب بسرعة.
﴿ كلما ﴾ تدل على التكرار.
﴿ أضاء لهم ﴾ لازم بمعنى لمع، أو المفعول محذوف أي نور لهم ممشى.
﴿ مشوا فيه ﴾ لحرصهم على المشي دون الوقوف ولذكر ذكر كلما مع الإضاءة دون الإظلام.
﴿ وإذا أظلم عليهم قاموا ﴾ وقفوا، وأظلم أيضا جاء لازما ومتعديا.
﴿ ولو شاء الله ﴾ أي يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق، حذف لدلالة الجواب.
﴿ لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ فإن الرعد والبرق وإن كانا في الظاهر سببين لذهاب السمع والبصر لكن تأثير الأسباب كلها في الحقيقة بمشيئة الله تعالى، فالسبب الحقيقي هو المشيئة والجواهر والأعراض وأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى مرتبطة بمشيئته.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ تصريح وتقرير لما سبق والشيء مصدر شاء يطلق بمعنى الفاعل أي الشاءيُ – فيتناول الباري تعالى قال الله تعالى :﴿ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ﴾١ وبمعنى المفعول أي الشيء وجوده وهو الممكن ومنه قوله تعالى :﴿ خالق كل شيء ﴾٢ فهو على عمومه، وحمزة يسكت على الياء من شيء وشيئا في الوصل خاصة، والقدرة التمكن من إيجاد الشيء، و القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وفي القدير مبالغة قلما يوصف به غير الباري تعالى.
تمثيل لحال المنافقين من الحيرة والشدة بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق، أو يقال شبه للمنافقين بأصحاب الصيب، والدين القويم والقرآن بالصيب، وقال : فيه ظُلُماتٌ يعني مانعة من السير عليه وهي المحن والمكاره من العبادات والجهاد وترك الشهوات. روى مسلم وأحمد والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم :«حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات »٣ وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لما خلق الله ا لجنة قال لجبرئيل : اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها فيها، ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره ثم قال : يا جبرئيل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال : أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، قال : فلما خلق الله النار قال : يا جبرئيل إذهب فانظر إليها، قال : فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال أي رب وعزتك لا يسمع به أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال : يا جبرئيل اذهب فانظر إليها قال : أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها »٤ وقال الله تعالى :﴿ وإنها لكبيرة إلى على الخاشعين ﴾٥ وفيه رعد يعني آيات مخوفة من عذاب الله وبرق يعني فتوح ومغانم كثيرة يأخذونها فيسهل به السير على الطريق ويدفع ظلمة المكاره أو الحجج الواضحة الداعية إلى السلوك على الطريق المستقيم والمسهلة للمكاره، ﴿ يجعلون ﴾ أي المنافقين ﴿ أصابعهم في آذانهم ﴾ من أجل الرعد والصواعق قائلين :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾٦ ﴿ حذر الموت ﴾ بالمحن والمشقات إن آمنوا، وبالقتال إن جاهدوا كما قال في حالهم :﴿ فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ﴾٧ ولأنهم يزعمون أن سدهم آذانهم عن سماء آيات العذاب ينجيهم من عذاب الله كما أن الأحمق إذا هوله الرعد ويخاف صواعقه يسد آذانه مع أنه لا خلاص له منها بسد الآذان، وكما أن الأرنب إذا رأى صائدا مقبلا ولا يرى منه مفرا يغمض عينه زعما منه أن عدم رؤيته ينجيه من قتله.
﴿ والله محيط بالكافرين ﴾ لا يفوتهم ما كتب عليهم من المحن والعذاب في الدنيا بالفضيحة وغيرها وفي الآخرة بالعذاب السرمدي، أو لا يفيدهم ولا ينجيهم سد الآذان من الآيات المخوفة عن وقوع العذاب كما لا ينجي الأرنب تغميض العين من الصائد بل يعينه عليه.
﴿ يكاد البرق ﴾ أي الفتوح والمغانم وشوكة الإسلام لأجل حرصهم على الدنيا ﴿ يخطف أبصارهم ﴾، أو الحجج الواضحة يخطف أبصارهم المؤفة وآرائهم الزائغة التي بها يبصرون الباطل حقا والحق باطلا على ما زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فحينئذ يرون الحق حقا والباطل باطلا فيؤمنوا كلما أضاء لهم البرق وظهر الفتح والدولة للمسلمين ورأوا حجة الإسلام واضحة مشوا فيه و اتبعوا سبيل المؤمنين وإذا أظلم البرق أي لم يظهر الفتح وأدركوا المحنة نسوا الحجة الواضحة وقاموا ووقفوا عن سلوك الطريق، نظيره قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ﴾٨.
﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ المؤفة بقصيف الرعد وأعطاهم السمع والأبصار الصحيحة، نظيره قوله تعالى :﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم ﴾٩ أخرج ابن جرير من طريق السدي الكبير عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة ابن مسعود وناس من الصحابة قال : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد صواعق وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعها فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا، فأتيا مكانهما يمشياء فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا صلى الله عليه وسلم فنضع أيدينا في يده، فأتياه ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم أو يذكروا بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه، وكانوا إذا أكثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا في وقالوا إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق واستقاموا عليه كما ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وإذا أُظلَمَ عليهم قاموا، وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم وارتدوا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم عليهما البرق، انتهى رواية ابن جرير.
قلت : ويحتمل أن يكون الظلمات عبارة عن المتشابهات التي لا سبيل للآراء إلى درجها، والبرق عن المحكمات التي تساعده الآراء، فالمؤمنون من أهل السنة يقولون آمنا به كل من عند ربنا والذين في قلوبهم زيغ سدوا آذانهم عن وعيد حرمة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله حذر الموت، وهو القول بما لا يساعده ولا يوافق مذهبهم حيث زعمونه حيث زعمونه موتا وجعلوا القرآن تابعا لآرائهم الكاسدة، فكلما أضاء لهم وأدرك عقولهم مشوا فيه وآمنوا به وإذا أظلم عليهم ولم تساعده عقولهم قاموا عن الإيمان به ووقفوا الدين وابتغوا تأويله على حسب آرائهم الكاسدة، فمنهم من لم يدرك عقله موجودا يكون جسما ولا يكون كمثله شيء أنكر التنزيه وصار مجسما، ومنهم من أنكر الرؤية، ومنهم من أنكر عذاب القبر ووزن الأعمال والصراط ونحو ذلك، ومنهم من أنكر كون القرآن كلام الله غير مخلوق فصاروا اثنين وسبعين فرقة : روافض، وخوارج، وأهل الاعتزال والمجسمة ونحو ذلك قائلين نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض ﴿ ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ﴾ حيث جعلوا كتاب الله تعالى تابعا لآرائهم وعلى هذا التقدير قوله تعالى :﴿ ومن الناس من يول ءامنا بالله وباليوم الآخر ﴾ شامل لاثنين وسبعين فرقة من أهل الأهواء :﴿ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾١٠ يدعون الإيمان ويقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هو بمؤمنين بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وأنزل الله تعالى في كتابه وتواتر به الأخبار ﴿ يخادعون الله والذين آمنوا ﴾ بتأويلاتهم النصوص وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون بل يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون.
﴿ في قلوبهم مرض ﴾ وزيغ ﴿ فزادهم الله مرضا ﴾ وزيغا حيث ألقى الشيطان في قلوبهم التأويلات الفاسدة.
﴿ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾ على الله ويكذبون ظاهر النصوص.
﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ﴾ بتحريف الكلم عن مواضعه وتعويج الدين القويم ﴿ قالوا إنما نحن مصلحون ﴾.
﴿ ألا إنهم هم المفسدون لكن لا يشعرون ﴾ ﴿ وإذا قيل لهم ءامنوا كما ءامن الناس ﴾ يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وجمهور الناس وهم أهل السنة والجماعة فإنهم أكثر الناس وللأكثر حكم الكل «ويد الله مع الجماعة »١١ رواه الترمذي عن ابن عباس مرفوعا.
﴿ قالوا أنؤمن كما ءامن السفهاء ﴾ فإنه لا يساعد عقائدهم الآراء قالوا ذلك في شأن الصحابة صريحا بالروافض والخوارج ينسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته إلى السفه والكفر، أو قالوا ذلك دلالة حيث خالفوهم وزعموا أن تلك العقائد غير معقولة.
﴿ وإذا لقوا الذين ءامنوا ﴾ الآية، بيان لما في تلك المذاهب من التقية خوفا من الذين استخلفهم الله تعالى في الأرض غالبا، ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم على حسب وعده، وقوله تعالى :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ﴾ يحتمل أن يكون مثالا للفريقين من المنافقين وأهل الأهواء وإيمان أهل الأهواء ولمعان نوره مقتصر على ما حول المستوقد  وقرية يعني في الدنيا حيث يلتبس الحق بالباطل فإذا ماتوا ذهب الله بنورهم، ويحتمل أن يكون مثلا للمنافقين خاصة وأصحاب الصيب مثل أهل الأهواء وكلمة أو للتوزيع كما في قوله تعالى :﴿ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾١٢ والله تعالى أعلم. فإن قيل كيف يتصور حمل هذا المثل على أهل الأهواء ولم يكونوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قلت خطابات القرآن عامة للموجودين ومن سيوجد إجماعا أليس قوله تعالى :﴿ وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ﴾١٣ في حق أهل الأهواء. فإن قيل نزول هذه الآيات كان في حق المنافقين كما تدل عليه الأحاديث وتفاسير السلف ؟ قلت : نعم لكن خصوص المورد لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ، فالآيات وإن كانت نازلة في حق المنافقين لكنها بعموم ألفاظها شاملة لأهل الأهواء والله تعالى أعلم.
١ سورة الأنعام، الآية: ١٩.
٢ سورة الأنعام، الآية: ١٠٢.
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها﴿٢٨٢٢﴾ وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات﴿٢٥٥٩﴾.
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات﴿٢٥٦٠﴾، وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في خلق الجنة والنار﴿٤٧٣١﴾ وأخرجه النسائي في كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحلف بعزة الله تعالى﴿٣٧٦٢﴾.
٥ سورة البقرة، الآية: ٤٥.
٦ سورة فصلت، الآية: ٢٦.
٧ سورة الاحزاب، الآية: ١٩.
٨ سورة الحج، الآية: ١١.
٩ سورة السجدة، الآية: ١٣.
١٠ سورة الروم، الآية: ٣٢.
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في لزوم الجماعة﴿٢١٦٦﴾.
١٢ سورة المائدة، الآية: ٣٣.
١٣ سورة آل عمران، الآية: ٧.
﴿ يأيها الناس ﴾ خطاب لجميع الناس من أهل الخطاب عموما الموجودين ومن سيوجد تنزيلا لهم منزلة الموجودين لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم أن مقتضى أحكامه وخطابه شامل للقبيلتين ثابت إلى يوم القيامة، وكذا كل جمع أو اسم جمع محلى باللام ويدل عليه استدلال الصحابة بعمومها شائعا، قال ابن عباس :﴿ يأيها الناس ﴾ خطاب أهل مكة و﴿ يأيها الذين ءامنوا ﴾ خطاب أهل المدينة فإن أهل مكة لما كان أكثرهم كفارا والمؤمنون كانوا هناك قليلا خاطب بما يعم القبيلتين، وأهل المدينة لما كان أكثرهم مؤمنون خاطبهم بعنوان الإيمان إظهارا لشرفهم.
﴿ اعبدوا ربكم ﴾ فإن التربية باعثة للعبادة وشكر المنعم وإن كان الله تعالى في نفسه مستحقا لها، والخطاب بوجوب العبادة شامل للمؤمنين والكفار، فالكفار مأمورون بها بعد إتيان شرطه من الإيمان، وقال ابن عباس : ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد فالكفار مأمورون بإتيانها والمؤمنون بالثبات عليها.
﴿ الذي خلقكم ﴾ صفة جرت للتعظيم والتعليل، والخلق إيجاد الشيء على غير مثال سبق،
﴿ والذين من قبلكم ﴾ يتناول كل ما تقدم الإنسان، والجملة خرجت مخرج المقرر عندهم لاعترافهم به قال الله تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾١ أو لتمكنهم من العلم بأدنى تأمل.
﴿ لعلكم تتقون ﴾ حال من فاعل اعبدوا أي : راجين الوقاية من عذاب الله، وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء فإن الإيمان يقتضي الخوف والرجاء أو راجين أن تدخلوا في زمرة المتقين على أن التقوى هو التنزه عن المحرمات المستلزم لإتيان الواجبات بل التبرؤ عن كل شيء سوى الله تعالى، أو من مفعول خلقكم يعني مرجوا منكم التقوى أي في صورة من يرجى منه نظرا إلى كثرة الدواعي إليه، وقيل تعليل أي لكي تتقوا، قال البيضاوي : وهو ضعيف لم يثبت في اللغة، قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج وهي من الله تعالى واجب، قلت : إن كان كذلك لزم وجود التقوى من الناس كلهم وليس كذلك اللهم إلا أن يقال المراد خلقكم واجبا صدور التقوى منكم ولو من بعضكم، وتعليل العبادة بالنعم السابقة تدعل على أن الثواب فضل من الله تعالى غير مستحق بالعبادة فإنه كالأجر استوفى أجره قبل عمله وعلى أن الطريق إلى معرفة الله تعالى النظر في صنعه يعني إلى معرفة صفاته، وإما معرفة ذاته فأمر وهبي.
١ سورة لقمان، الآية: ٢٥.
﴿ الذي جعل ﴾ أي صير. ﴿ لكم الأرض فراشا ﴾ بساطا ذلولا يمكن عليها القرار صفة ثانية أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبر ﴿ فلا تجعلوا ﴾.
﴿ والسماء ﴾ اسم جنس يقع على الواحد والكثير ﴿ بناء ﴾ مصدر سمي به المبني يعني قبة مضروبة عليكم.
﴿ وأنزل من السماء ماء ﴾ فإن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض عطف على جعل.
﴿ فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ﴾ خروج الثمار بقدرة الله تعالى لكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ظاهرا عادة، ومن للتبعيض أو التبيين، ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ولكم صفة له، أو رزقا مصدر للتعليل ولكم مفعوله أي رزقا إياكم.
﴿ فلا تجعلوا لله أندادا ﴾ أي أمثالا تعبدونهم كعبادة الله، أو أضدادا والله بريء من المثل والضد، والجملة متعلق باعبدوا نهي معطوف عليه أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له أو منصوب بلعل كما في قوله تعالى :﴿ لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع ﴾١ والمعنى أن تتقوا أن لا تجعلوا لله أندادا، أو متعلق بالذي جعل إن كان استئنافا على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مفعول فيه لا تجعلوا، والفاء للسببية أدخلت لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى من جعلكم بهذه النعم ينبغي أن لا يشرك.
﴿ وأنتم تعلمون ﴾ حال ممن ضمير تجعلوا ومفعول تعلمون مطرح، أي حالكم أنكم من أهل العلم والرأي لو تأملتم أدنى تأمل ما أشركتم والمقصود منه التوبيخ دون التقييد أو المفعول محذوف أي وأنتم تعلمون أي أن خالق هذه الأشياء واحد حيث تعترفون قال الله تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾٢.
١ سورة غافر، الآية: ٣٦-٣٧.
٢ سورة الزخرف، الآية: ٨٧.
ثم لما بين الله سبحانه طريق معرفته التوحيد وهو النظر في صنعه بين طريق معرفة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وحقية القرآن المشتمل على جميع الإيمائيات فقال ﴿ وإن كنتم في ريب ﴾ شك ﴿ مما نزلنا ﴾ يعني نجما نجما بحسب الوقائع، وهذا موجب لريبهم قياسا على كلام الشعراء وقولهم :﴿ لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة ﴾١ فكان الجواب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة ﴿ على عبدنا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم أضاف إلى نفسه تنويها لذكره، وتنبيها على انقياده لحكمه ﴿ فأتوا ﴾ أمر تعجيز ﴿ بسورة ﴾ وهي قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر منقولة من سور المدنية لأنها محيطة بطائفة من القرآن، أو من السورة بمعنى الرتبة فإنه يحصل بها للقارئ رتبة وشرف، والمراد بقدر سورة وهي ثلاث آيات قصار ﴿ من مثله ﴾ صفة سورة أي كائنة من مثله، والضمير لما نزل ومن للتبعيض أو للتبيين أو زائدة أي مثله في البلاغة وحسن النظم أو لعبدنا، ومن للابتداء أي كائنة من مثل هذا الرجل الأمي، أو صلة فأتوا، والأول أولى كيلا يوهم إمكان صدروه من غير الأمي والقرآن معجز في نفسه :﴿ لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾٢.
﴿ وادعوا شهداءكم ﴾ واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها وتزعمون أنها تشهد لكم يوم القيامة أو ادعوا ناسا يحضرونكم ﴿ من دون الله ﴾ أي دون أوليائه يعني فصحاء العرب ليشهدوا لكم ما أتيتم به مثله فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده.
﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أنه من كلام البشر والجواب محذوف دل عليه ما قبله.
١ سورة الفرقان، الآية: ٣٢.
٢ سورة الإسراء، الآية: ٨٨.
﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ فيما مضى ﴿ ولن تفعلوا ﴾ معترضة بين الشرط والجزاء، وفيه إخبار بالغيب إعجازا آخر.
﴿ فاتقوا ﴾ أي لما ظهر أنه معجز فآمنوا به واتقوا بالإيمان.
﴿ النار التي وقودها ﴾ أي ما يوقد به النار.
﴿ الناس والحجارة ﴾ أو المضاف محذوف أي وقودها احتراق الناس والحجارة. أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود وابن جرير عن ابن عباس وأخرج مثله ابن أبي حاتم عن مجاهد وأبي جعفر ولم يحك خلافا في الصدر الأول : أنها حجارة الكبريت الأسود، وقيل جميع الحجارة لتدل على عظم تلك النار، وقيل أراد به الأصنام، وذكر الله تعالى إن وهي للشك مكان إذا فإنه تعالى لم يكن شاكا تهكما بهم أو خطابا معهم على حسب ظنهم فإن العجز قبل التأمل لم يكن متحققا عندهم.
﴿ أعدت ﴾ أي هيئت.
﴿ للكافرين ﴾ استيئناف أو حال بإضمار قد من النار لا من ضمير وقودها للفصل بالخير. عن أبي هريرة أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال :«ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم »١ متفق عليه، وعن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا » ٢ متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة »٣ رواه الترمذي، وعن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«أنذرتكم النار أنذرتكم النار، فما زال يقولها حتى لو كان في مقامي هذا سمعه أهل السوق وحتى سقطت خميصة كانت عليه عند رجليه » رواه الدارمي، وفي الآية والأحاديث دليل على أن النار موجودة الآن.
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار وأنها مخلوقة﴿٣٢٦٥﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في شدة حر نار جهنم﴿٢٨٤٣﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار﴿٦٥٦٢﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: أهون أهل النار عذابا﴿٢١٣﴾.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة جهنم﴿٢٥٦١﴾.
﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ عطف على الجملة السابقة على ما جرت به العادة الإلهية من تشفيع الترهيب بالترغيب وبالعكس لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب المشاكلة، أو على فاتقوا يعني فآمنوا فاتقوا الناس واستبشروا بالجنة، ولم يخاطبهم بالبشارة صريحا تفخيما لشأنهم بعد الإيمان والتقوى وإيذانا بأنهم أحقاء أن يبشروا ويهنئوا، والبشارة الخبر السار، وأما قوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾١ فعلى التهكم، وقيل : يستعمل في الخير والشر لكن في الخير أغلب.
﴿ وعملوا الصالحات ﴾ وهي من الصفات الغالبة الجارية مجرى الأسماء والأعمال الصالحة ما حسنه الشرع، وتأنيث الصالحات على تأويل خصلة، قال البغوي قال معاذ : العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص، وقال عثمان بن عفان ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ أي أخلصو الأعمال عن الرياء، وفيه دليل على أن الأعمال خارج عن الإيمان وإشعار بأن السبب التام في استحقاق البشارة الجمع بين الوصفين.
﴿ أن لهم ﴾ منصوب ينزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره،
﴿ جنات ﴾ جمع جنة بمعنى البستان سميت لاجتنانها بالأشجار.
﴿ تجري من تحتها ﴾ أي تحت أشجارها ومساكنها.
﴿ الأنهار ﴾ أي ماؤها على الإضمار أو المجاز أو أسند الجري إليها مجازا، وفي الحديث «أنهار الجنة تجري من غير أخدود » أخرجه ابن المبارك وابن جرير والبيهقي، واللام للجنس.
﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا ﴾ صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أي فهم قالوا أو جملة مستأنفة تزيح حال أثمارها، وكلما منصوب على أنه ظرف لقالوا ورزقا مفعول به، ومن الأولى والثانية للابتداء أو الثانية للبيان وقعتا موقع الحال أي كل حين رزقوا أي أطعموا مرزوقا مبتدأ من الجنة مبتدأ من ثمره أو ذلك المرزوق ثمره فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا المستمر بتعاقب أفراده، أو كان المضاف في الخبر محذوفا أي هذا مثل الذي رزقنا فحذف المثل إشعارا على استحكام الشبه كأنه هو بعينه.
﴿ من قبل ﴾ أي من قبل هذا يعني في الدنيا جعلت متشابهة بثمار الدنيا كيلا ينتفي الطباع عن غير المألوف، ويظهر المزية، وقيل في الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم والداعي لهم على تكرار هذا القول كلما رزقوا فرط تبهجهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة.
﴿ وأتوا به ﴾ بالرزق.
﴿ متشابها ﴾ وعلى الأول الضمير راجع إلى ما رزقوا في الدارين والجملة اعتراض يقرر الحسن وقتادة : متشابها يشبه بعضها بعضا في الجودة يعني ثمار الجنة كلها خيار لا رذالة فيها، روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون، يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون النفَس طعامهم جشاء ورشحهم المسك »٢ رواه مسلم، وللآية محمل آخر أن يكون المعنى هذا ثواب الذي رزقنا من قبل في الدنيا من المعارف والأعمال نظيره في الوعيد ﴿ ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾٣ روى الترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وإنها قيعان وإن غراسها هذه يعني التسبيح والتحميد والتكبير »٤ قوله تعالى :﴿ وأتوا به ﴾ بالرزق متشابها أي مماثلا لمعارفهم وطالما عاتهم في الشرف والمزية متفاوتا على حسب تفاوت أعمالهم، روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام }٥. وعن عبادة بن الصامت نحوه وفيه :«ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » ذكره صاحب المصابيح في الصحاح ورواه الترمذي.
﴿ ولهم فيها ﴾ أي في الجنان.
﴿ أزواج ﴾ نساء من حور عين.
وقال الحسن : هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا.
﴿ مطهرة ﴾ من الغائط والبول والحيض والبصاق والمخاط والمني وكل قذر ومن مساوئ الأخلاق فإن التطهير يستعمل في الأجسام والأفعال والأخلاق، والمطهرة أبلغ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بأن الله طهرهن، والزوج يقال للذكر والأنثى وفي الأصل يقال لما له قرين من جنسه كزوج الخف.
﴿ وهم فيها ﴾ في الجنان.
﴿ خالدون ﴾ دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها، لما ذكر الله سبحانه نعماء الجنة أزال عنهم خوف الزوال فإنه منفض للنعمة، روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الإلوة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء »٦ متفق عليه.
وعن سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة صورة وجوههم صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على لون أحسن الكواكب في السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها »٧ رواه الترمذي، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا ومافيها »٨ رواه البخاري، وعن أسامة بن زيد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ألا هل من مشمر للجنة وإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد. . . وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة مقام أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وصبرة ونعمه في محلة عالية بهيئة، قالوا نعم يا رسول الله صلى نحن المشمرون لها، قال : قولوا إن شاء الله » رواه البغوي، وروى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أهل الجنة جرد مرد كحلى لا يفنى شبابهم ولا يبلى ثيابهم »٩ وروى مسلم نحوه، وعن علي رضي الله عنه قال :«إن في الجنة لسوقا ليس فيها بيع ولا شرى إلا الصور من الرجال والنساء وإذا اشتهى الرجل صورة دخلها وإن في المجتمع حور العين ينادين بصوت لم يسمع الخلائق بمثلها نحن الخالدات فال نبيد أبدا، ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا وكنا له أو نحن له »١٠ رواه البغوي وروى الترمذي نحوه عنه مرفوعا، وروى أحمد بن منيع عن أبي معاوية نحوه مرفوعا. وروى مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فتقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا »١١ قلت ولما كان مطمح نظر أهل الدنيا في النعماء منحصرا على المساكن والمطاعم والمناكح اقتصر الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم غالبا في الذكر عليها وفي الحقيقة نعماء أهل الجنة أجل وأعلى، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » واقرؤوا إن شئتم ﴿ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ﴾١٢ متفق عليه، وعنه مرفوعا «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها »١٣ متفق عليه، وعن أبي سعيد مرفوعا «يقول الله أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده أبدا »١٤ متفق عليه، وروى مسلم في حديث طويل عن جابر بن عبد الله مرفوعا «فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ »١٥ وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ :( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة١٦ رواه الترمذي.
١ سورة التوبة، الآية: ٣٤.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا﴿٢٨٣٥﴾.
٣ سورة العنكبوت، الآية: ٥٥.
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات﴿٣٤٦٢﴾.
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة درجات الجنة﴿٢٥٢٩﴾.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما جاء في صفة الجنة فإنها مخلوقة﴿٣٢٤٥﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر﴿٢٨٣٤﴾.
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿٢٥٢٢﴾.
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الحور العين وصفتهن يحار فيها الطرف﴿٢٧٩٦﴾.
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة﴿٢٥٣٩﴾.
١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في كلام الحور العين﴿٢٥٦٤﴾ وما ينالون فيها من النعيم والجمال﴿٢٨٣٣﴾.
١١ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة يفهمها وأهلها وأهلها، باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال﴿٢٨٣٣﴾.
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنا مخلوقة﴿٣٢٤٤﴾، وأخرجه مسلم في أوائل كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها ﴿٢٨٢٤﴾.
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة﴿٣٢٥٠﴾.
١٤ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار﴿٦٥٦٨﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة﴿٢٨٢٩﴾.
١٥ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى﴿١٨١﴾.
١٦ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى﴿٢٥٥٣﴾.
أخرج بن جرير عن السدي الكبير بأسانيده : أنه لما ضرب الله تعالى هذين المثلين للمنافقين قوله :﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ﴾ وقوله :﴿ أو كصيب من السماء ﴾ قال المنافقون الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله سبحانه ﴿ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة ﴾ وقيل : إن الله تعالى ذكر آلهة المشركين فقال :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا ﴾١ وذكر كيدهم فجعله كبيت العنكبوت فقالوا : أرأيت الله ذكر الذباب والعنكبوت أخرجه الواحدي من طريق عبد الغني عن ابن عباس وعبد الغني واه جدا، والآية مدنية ومعارضة المشركين كانت بمكة، فالأول أصح إسنادا ومعنى.
والحياء : انقباض النفس من القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة وهو الجرأة وعدة المبالاة بالقبائح والخجل وهو انحصار النفس عن النفس مطلقا، وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث :«إن الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه »٢ أخرجه البيهقي في الزهد عن أنس، وابن أبي الدنيا عن سليمان، وحديث :«إن الله حيي كريم إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا »٣ رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن سلمان. فالمراد به الترك اللازم للانفباض، وإيراد لفظ الحياء ههنا مع أن ترك مخصوص بالقبيح، وضرب المثل ليس بقبيح مبني على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة واستقر في أذهانهم نحو ﴿ وجزؤا سيئة سيئة مثلها ﴾٤ وضرب المثل احتماله و أصله وقع شيء على آخر، وأن بصلتها مجرور عند الخليل بإضمار مِنْ، ومنصوب عند سيبويه بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها، وما إبهامية يزيد للنكرة إبهاما ويسد عنها طريق التقيد أو مزيدة وضعت لأن يذكر مع غيرها فتزيد له قوة، والبعوض فَعُولٌ من البعض بمعنى القطع غلب على صغار البق كأنها بعض البق والتاء للوحدة، وهو عطف بيان لمثلا أو مفعول ليضرب، ومَثَلاً حال أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل.
﴿ فا فوقها ﴾ عطف على بعوضة، ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت يعني لا يستحي عن ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو أكبر منه، أو ما فوقها في الحقارة يعني ما دونها في الجنة.
﴿ فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه ﴾ أي المثل أو أن يضرب هو ﴿ الحق ﴾ الثابت على ما ينبغي الذي لا يجوز إنكاره يقال : ثَوُبٌ محقق أي محكم نسجه فإن الشيء الحقير لا بد أن يمثل بالحقير، كالعظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كائنا.
﴿ من ربهم وأما الذين كفروا ﴾ فلا يعلمون ذلك لكمال جهلهم.
﴿ فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ﴾ ما استفهافية مبتدأ وذا بمعنى الذي مع صلته خبره، أو المجموع اسم واحد بمعنى أي شيء منصوب المحل على المفعولية، والإرادة : صفة ترجح أحد المقدورين على الآخر وفي هذا استحقار ومثلا منصوب على التميز أو الحال.
﴿ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ﴾ جواب ماذا أي إضلال كثير وإهداء كثير وكثرة كل فريق بالنظر إلى أنفسهم، ووضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث والتجدد يعني كلما أنزلت آية فآمنت به قوم فاهتدوا وكفرت به قوم فضلوا ﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ الخارجين عن حد الإيمان وعن أمر الله تعالى يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفسق في اصطلاح الشرع : ارتكاب الكبيرة وله درجات ثلاث أعلاها الكفر بما يجب الإيمان به فإن الكفر أعظم الكبائر وهو المراد بالفسق في القرآن غالبا، ثانيها انهماك الكبائر، ثالثها ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة مستقبحا إياها.
١ سورة الحج، الآية: ٧٣.
٢ ذكره الغزالي في الدرة الفاخرة، ورواه السيوطي في الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف. انظر كشف الخفاء﴿٧٤٢﴾.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات﴿٣٦٩٦﴾، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: الدعاء﴿١٤٨٧﴾.
٤ سورة الشورى، الآية: ٤٠.
﴿ الذين ﴾ صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق، أو للتقييد إن كان المراد بالفاسقين أعم من الكفار والعصاة.
﴿ ينقضون عهد الله ﴾ الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعتة ولا يكتمونه أو الذي عهد إليهم بقولهك ﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾١ والنقض في الأصل : فسخ تركيب الحبل يستعمل في إبطال العهد والميثاق مصدر بمعنى الوثوق، أو اسم لما وثق به العهد من الآيات والكتب ومن للابتداء فإن ابتداء النقض بعد الميثاق.
﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾ أن يوصل بدل من الضمير المجرور أي أمر الله بأن يوصل الإيمان بالأنبياء كلهم ويقال لا نفرق بين أحد من رسله، وهم يقطعونه ويقولون نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض أو يقطعون كل ما أمر الله به أن يوصل كالأرحام وغيرها ﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ بالمعاصي والكفر بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم ويهلكون الحرث والنسل ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ المغبونون حيث اشتروا الفساد بالصلاح.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٧٢.
ولما ذكر أوصاف الكفار ومقالاتهم الخبيثة خاطبهم على سبيل الالتفات باستفهام إنكاري عن الحالة التي يقع عليها الكفر لأن كل حالة معتورة عليهم من الأحوال الموت والحياة بعدها، والموت بعدها، والحياة بعدها والرجوع إلى الله تعالى وغيرها من الأحوال حادثة صادرة من الواجب الوجود مقتضية للإيمان به تعالى نعمة من الله مقتضية لشكره دون كفرانه ففيه إنكار وتوبيخ على كفرهم بأبلغ الوجوه فقال :﴿ كيف تكفرون بالله ﴾ مع قيام الدلائل على وجوده ﴿ وكنتم أمواتا ﴾ عناصر وأغذية وأخلاطا ونطفا وعلقات ومضغات وأجساد بلا روح/ وفيه دليل على أن الإنسان وإن كان مركبا من الأجزاء العشرة خمسة منها من عالم الخلق، العناصر الأربعة والنفس الحيواني المنبعثة عنها وخمسة من عالم الأمر، القلب والروح والسر الخفي والأخفى كما يظهر بالفراسة الصحيحة الإسلامية لكن العمدة فيها العناصر الأربعة لاسيما عنصر التراب ولذا قال الله تعالى :﴿ خلقكم من تراب ﴾١ ويقول الكافر أي الشيطان ﴿ يا ليتني كنت ترابا ﴾٢ ولذا اختص الإنسان برؤية الله سبحانه دون غيره، ويزعمون المشاهدة القلبية كالمطروح في الطريق.
﴿ فأحياكم ﴾ بتأليف الأرواح الخمسة وتوديعها فيكم، وعطف بالفاء لعدم التراخي بين الأحياء والموت اللازم للعناصر ﴿ ثم يميتكم ﴾ بعد انقضاء آجالكم، وعد الإماتة الأولى من النعم لأن الوجود بعد العدم خير محض فلم يناسبه بالموجود الحقيق، والإماتة الثانية لكونها وصلة إلى الحياة الأبدية ﴿ ثم يحييكم ﴾ يوم ينفخ في الصور وأما في القبر فليس بحياة فإن الحياة عبارة عن تأليف الأجزاء العشرة وليست في القبور، وانتفاؤها لا ينافي الثواب والعذاب في القبر فإنهما على بسائط الأجزاء ولا سبيل إلى إنكاره لمن يؤمن بقوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾٣ وقوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ﴾٤ قوله صلى الله عليه وسلم :«إن الجبل ينادي الجبل باسمه : أي فلانا هل من مر بك أحد ذكر الله ؟ فإذا قال : نعم، استبشر »٥ الحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود، وقوله تعالى :﴿ إن عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ﴾٦ وليس المراد التسبيح والسجود بدلالة الأحوال لأن قوله تعالى :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ وكثير من الناس ﴾ يأبى عنه ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ بعد الحشر فيجزيكم بأعمالكم، قرأ يعقوب ترجعون في كل القرآن بفتح التاء والياء على صيغة المبني للفاعل، والآية مدنية خطاب للكفار والمنافقين من اليهود العالمين بالبعث والنشور، وإن كان خطابا لمنكري البعث فذلك لتمكنهم من العلم بالبعث بعد نصب الدلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وللتنبيه على أن من أحياهم أولا قادر على أن يحييهم ثانيا.
١ سورة الروم، الآية: ٢٠.
٢ سورة النبأ، الآية: ٤٠.
٣ سورة الإسراء، الآية: ٤٤.
٤ سورة الحج، الآية: ١٨.
٥ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الأذكار، باب: في البقاع التي يذكر الله تعالى عليها﴿١٦٧٨٣﴾.
٦ سورة الأحزاب، الآية: ٧٢.
﴿ هو الذي خلق لكم ﴾ أي لانتفاعكم في الدنيا في مصالحكم بوسط أو بغير وسط وفي دينكم بالاستدلال والاعتبار ﴿ ما في الأرض جميعا ﴾ بيان للنعمة الأخرى مرتبة على الأولى ﴿ ثم استوى إلى السماء ﴾ قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف أي ارتفع إلى السماء، فهو من المتشابهات نحو :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾١ وقال ابن كيسان والفراء وجماعة النحويين أي أقبل على خلق السماء وقصد من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا متسويا من غير أن يلوي على شيء، قال البيضاوي : كلمة ثم لعله لتفاوت ما بين الخلقتين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾٢ لا للتراخي في الوقت فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى : ذ :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾٣ فإنها تدل على تأخر دحوى الأرض المتقدم على خلق ما فيها من خلق السماء وتسويتها، وذكر البغوي في تفسير قوله تعالى :﴿ والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ أنه قال ابن عباس خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحى الأرض بعد ذلك، وقيل : معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى :﴿ عتل بعد ذلك زنيم ﴾٤ أي مع ذلك، وذكر البغوي في حم السجدة : خلق الأرض في يومين يوم الأحد والاثنين وقدر فيها أقواتها في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام فقال :﴿ وقدر فيها أقواتها في أٍربعة أيام ﴾ ﴿ فقضاهن سموات في يومين ﴾٥ ويم الخميس والجمعة، وهذا هو المستفاد من أقوال السلف والله تعالى أعلم ﴿ فسواهن سبع سماوات ﴾ أي خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع، وهو ضمير السماء إن فسرت بالأجرام لأنه جمع أو في معنى الجمع وسبع سماوات بدل منه، وإلا فمبهم تفسيره ما بعده كقولهم ربه رجلا. فإن قيل أليس أصحاب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك كلية منها الفلك الأطلس فلك الأفلاك وفلك الثوابت الفلك التاسع لا جزء لهما، وأثبتوا للأفلاك السبعة أجزاء منها ما هو مركب من ثلاثة أفلاك خارج المركز وفيه الكوكب ومتمما حاويا ومتمما محويا، ومنها ما هو مركب من خمسة خارج المركز ومتممين حويين وكذا محويين وأفلاك أخر غير مجوفة ارتكزت فيها الكواكب المتحيرة يسمونها فلك التدوير. قلت : إنما أثبتوا عدد الأفلاك بعدد حركات الكواكب، فإنهم لما رأوا جميع الكواكب والشمس دائرة في يوم وليلة أثبتوا فلك الأفلاك حاوية على جميع الأفلاك محركة لكلها بالقسر من المشرق إلى المغرب، ولما رأوا حركة جميع الكواكب سوى السبعة على نسق واحد وحركات السبعة على أنحاء مختلفة في السرعة والبطئ في العرض من البروج الشمالية إلى الجنوبية وبالعكس أثبتوا على حسب حركاته أعداد الأفلاك، ولما رأوا حركة السيارات غير الشمس تارة سريعة وتارة بطئية وتارة إلى المشرق وتارة إلى المغرب وتارة متوقفة ولذا يسمونها متحيرة أثبتوا التدويرات، فارتقى عدد الأفلاك إلى قريب من الثلاثين، من أراد الاطلاع عليه فليرجع إلى علم الهيئة، وهذا أعني إثبات الأفلاك على حسب حركات الكواكب باطل مبني على أمور باطلة، منها اعاؤهم بامتناع الخرق والالتئام على الأجرام الفلكية، ومنها أن الأفلاك كلها متلاصقة بعضها ببعض كتلاصق قشور البصل بعضها على بعض، وذلك يستلزم تحرك الأفلاك جميعها بحركة تلك الأفلاك قسرا وغير ذلك، وكل ذلك باطل فإن انشقاق السماء جائز عقلا واجب سمعا، قال الله تعالى :﴿ إذا السماء انشقت ﴾٦ ونحو ذلك وكذا عدم تلاصق السماوات وبعد ما بين كل سمائين ثابت شرعا، عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه، ثم قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، ثم قال : هل تدرون ما بينكم وبينها ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : بينكم وبينها خمسمائة عام، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال : سماآن بعد ما بينهما خمس مائة سنة، ثم قال : كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سمائين ما بين السماء والأرض، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال إن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السمائين، ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : إنها الأرض، ثم قال : هل تدرون ما تحت ذلك ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : إن تحتها أرض أخرى ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال :﴿ هو الأول والآخر و الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ﴾٧ رواه أحمد والترمذي، وقال الترمذي : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه، قلت قوله صلى الله عليه وسلم لهبط على الله من المتشابهات، كما أنه :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾٨ من المتشابهات، ولعل مراده صلى الله عليه وسلم لهبط على عرش الله بحذف المضاف وهذا يدل على كون العرش وكذا ما فيه من السماوات والسبع كرويا حاويا لجميع جهات الأرض حتى أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على السماوات السبع وعلى عرش الله، والصوفية العلية كما أثبتوا معية لا كيف لها وتجليات خاصا لله سبحانه على قلب المؤمن وهو عرض الله سبحانه في العالم الصغير وأثبتوا تجليا مخصوصا بالكعبة الحسناء بيت الله واختصاصا برب هذا البيت كذلك أثبتوا تجليا خاصا رحمانيا على العرش وهو قلب للعالم الكبير وذلك التجلي هو المومي إليه بقوله تعالى :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾٩ وروى الترمذي وأبو داود من حديث العباس وفيه :«إن بعد ما بينهما يعني السماء والأرض إما واحدة أو اثنان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ودركهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء ثم الله فوق ذلك »١٠ قلت : هذا الاختلاف الوارد في الأحاديث في مسافة إما باختلاف اعتبار السائرين، أو المراد كثرة البعد لا تعيين المسافة، وقوله إما واحدة أو اثنان أو ثلاث شك الراوي والله أعلم، طال الكلام وحاصل المرام أن علم الهيئة باطل أساسا وبناء، والجائز عقلا والثابت شرعا أن الكواكب كلها مرتكزة في السماء الدنيا، قال الله تعالى :﴿ وزينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾١١ ﴿ كل في فلك يسبحون ﴾١٢ أي فلك واحد، حسب إرادة الله تعالى في السرعة والبطوء والجهة كما يسبح السمك في الماء فحينئذ لا حركة للمساوات والله أعلم، قال الله تعالى ﴿ وهو بكل شيء عليم ﴾ فيه تعليل كأنه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على النمط الأتم الأكمل الأنفع، قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهُوَ وَ هِيَ بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء وكما ههنا ونحو :﴿ وَهِيَ تَجْرِي بهم ﴾ أو فاء أو لام نحو :﴿ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ﴾ ﴿ إن الله لهو الولي ﴾ ﴿ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ ﴾ ﴿ لَهِيَ الحيوان ﴾ زاد الكسائي وقالون كلمة ثم نحو :﴿ ثم هُوَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ ﴾ وقال البغوي : إن في ﴿ أن يُمِلَّ هُوَ ﴾ أيضا أسكن الكسائي وقالون لكن المشهور عند القراء عدم الإسكان هناك بالإجماع كذا قال الشاطبي.
١ سورة طه، الآية: ٥.
٢ سورة البلد، الآية: ١٧.
٣ سورة النازعات، الآية: ٣٠.
٤ سورة القلم، الآية: ١٣.
٥ سورة فصلت، الآية: ١٠-١٢.
٦ سورة الإنشقاق، الآية: ١.
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحديد ﴿٣٢٩٨﴾ وقال عنه غريب من هذا الوجه.
٨ سورة طه، الآية: ٥.
٩ قال العراقي: لم أر له أصلا، وقال في المقاصد: ليس له إسناد معروف، وكذلك أغلب العلماء قالوا مثل هذه المقالة. انظر كشف الخفاء﴿٢٢٥٦﴾.
١٠ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحاقة﴿٣٣٢٠﴾.
١١ سورة فصلت، الآية: ١٢.
١٢ سورة الأنبياء، الآية: ٣٣.
﴿ وإذ قال ربك للملائكة ﴾ تعداد لنعمة ثالثة، فإن خلق آدم وتفضيله على الملائكة نعمة تعم ذريته وفيه حث على الإتيان بأوامره تعالى، والانتهاء عن مناهيه، قال البغوي : خلق الله السماء والأرض والملائكة والجن وأسكن الملائكة السماء –والجن الأرض- فمكثوا زمانا طويلا في الأرض، ثم ظهر الحسد والبغي فأفسدوا واقتتلوا- فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن وهم خزان الجنان اشتق اسمه من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم و مرشدهم وأكثرهم علما- فهبطوا إلى الأٍرض وطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور و سكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة فكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة ي السماء و تارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده ﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ ومما ذكر البغوي يظهر أن إبليس كان من الملائكة كما يدل عليه ظاهر الاستثناء، فإن قيل روى مسلم عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال :«خلق الله التربة يوم السبت و خلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل »١ وهذا الحديث يدل على أن خلق آدم بعد خلق الأرض يوم سابعة فكيف يتصور مكث الجن زمانا طويلا في الأرض ثم طردهم إلى شعوب الجبال وسكونة إبليس وجنوده من الملائكة زمانا طويلا، ثم قوله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ قلت : لا دليل في الحديث على أن المراد بالجمعة التي خلق فيها آدم أو جمعة بعد خلق الأرض لعل ذلك الجمعة بعد مضي الدهور- ولولا هذا التأويل لزم خلق السماوات والأرض في سبعة أيام والثابت بالقرآن خلق السماوات والأرض في ستة أيام والله أعلم. والمراد بالخليفة آدم عليه السلام فإنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه وهداية عباده وجذبهم إلى الله وإعطائهم مراتب قربه تعالى وذلك لاحتياج من الله تعالى إلى الخليفة بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط، وكذلك كل نبي بعده خليفة الله ﴿ قالوا ﴾ تعجبا واستخبارا عن مراشد أمرهم لا اعتراضا وحسدا فإنهم عباد مكرمون ﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ﴾ وهم ذرية آدم إنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ﴿ ونحن نسبح بحمدك ﴾ حال مقررة لجهة الإشكال والمعنى أتستخلف العصاة ونحن معصومون أحقاء بالخلافة، والتسبيح : تبعيد الله عن السوء من سبح في الأرض والماء أي بعد، وبحمدك في موضع الحال أي متلبسين بحمدك على ما وقفتنا لتسبيحك ﴿ ونقدس لك ﴾ والتقديس أيضا بمعنى التسبيح ويقال : قدس إذا طهر أي بعد عن الأقذار واللام زائدة أي نقدسك، أو المعنى نقدس أي نطهر أنفسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك بالتسبيح وسفك الدماء بالتقديس. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل قال :«ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده »٢ رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر، وهو صلوات الخلق وعليها يرزقون رواه ابن أبي شيبة عن جابر والبغوي عن الحسن. ﴿ قال إني أعلم ما لا تعلمون ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو إني بفتح الياء والباقون بالسكون إن الملائكة يعلمون بإخبار من الله تعالى من البشر صالحين وعصاة وكفارا فلا جرم زعموا أن الملائكة أفضل منهم لكونهم كلهم معصومين :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾٣ فاستخلافهم أولى واستخلاف البشر موجب للفساد كما وقع من شرارهم، ولم يعلموا أن الله تعالى يستودع في قلوب بعضهم محبة ذاتية منه تعالى موجبة للمعية الذاتية والمحبوبية الصرفة كما نطق برأس المحبوبين، «المرء مع من أحب »٤ رواه الشيخان من حديث ابن مسعود وأنس وابن حبان عن أنس، في الحديث القدسي «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به »٥ الحديث، ويكون لهم قرب ومنزلة من الله تعالى لا يتصور لغيرهم، بحيث يكون التقرب إلى عباد الله الصالحين موجبا للتقرب إليه تعالى، روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن لله تعالى يقول يوم القيامة : ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني »٦ الحديث.
اعلم أنه قد تقرر عند الأكابر من الصوفية أن ضوء الشمس كما يتحملها الأرض لكثافتها دون غيرها من عناصر الخلق كذلك التجلي الذاتي لا يتحملها إلا عنصر التراب وأما غيرها من العناصر فلنوع من الكثافة التي فيها يتحمل التجليات الصفاتية دون الذاتية وأما لطائف عالم الأمر فلا نصيب لها إلا من التجليات الظلية، والإنسان لما كان مركبا من اللطائف العشرة التي هي أجزاء العالم الكبير ولم يجتمع في شيء من أفرادها إلا بعضها كان هو أهلا للخلافة وحاملا للأمانة التي عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما على نفسه بتحمل ما لم يتحمله غيره جهولا لعظمة المحمول ومسمى بالعالم الصغير صورة وأكبر من الكبير معنى، حيث قال الله تعالى :«لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن »٧ فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض أي وجهها بأن قبض من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ في الروح، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم منهم الأحمر والأبيض وبين ذلك، والسهل والحزن و الخبيث والطيب »٨ قلت : والحكمة فيه استجماع استعداده.
١ أخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام﴿٢٧٨٩﴾.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل سبحان الله وبحمده﴿٢٧٣١﴾.
٣ سورة التحريم، الآية: ٦.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: علامة الحب في الله عز وجل﴿٦١٦٨﴾ وأخرجه مسلم وهو مروي أيضا عند أصحاب السنن.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: التواضع﴿٦٥٠٢﴾.
٦ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل عيادة المريض﴿٢٥٦٩﴾.
٧ أغلب أقوال العلماء على أنه موضوع انظر كشف الخفاء﴿٢٢٥٦﴾.
٨ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة﴿٢٩٥٥﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر﴿٤٦٨١﴾.
قال البغوي : لما قال الله تعالى :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة ﴾ قال الملائكة : ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم منا عليه، وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره فأظهر الله تعالى فضله عليهم ﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ قال أهل التفسير : المراد أسماء الخلائق، قال البغوي : قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وقيل : اسم ما كان ويكون إلى يوم القيامة، وقال الربيع بن أنس : أسماء الملائكة، وقيل : أسماء ذريته، وقيل : صفة كل شيء، قال أهل التأويل : علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة، قلت : وهذا الأقوال ليست بمرضية عندي فإن مدار الفضل على كثرة الثواب ومراتب القرب من الله تعالى دون هذه الأمورن ولو كان هذه الأمور مدارا لفضله لزم فضله على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فإنه قال :«أنتم أعلم بأمور دنياكم »١ ولم يكن عليه السلام عالما بجميع اللغات، وعندي أن الله تعالى علم آدم الأسماء الإلهية كلها، فإن قيل : الأسماء الإلهية غير متناهية قال الله تعالى :﴿ أو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ﴾٢ وقال سبحانه :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾٣ فكيف يحيط به علم البشر الممكن المتناهين وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أسئلُكَ بكل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك »٤ رواه ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة والطبراني وأحمد في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري يدل على أن الله استأثر عنده ببعض الأسماء لم يعلمها أحد ؟ قلت : المراد أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها علما إجماليا لما حصل له معية بالذات تعالت وتقدست حصل له بكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته مناسبة تامة ومعية بحيث أنه كلما توجه إلى اسم من أسمائه وصفة من صفاته يتجلى له ذلك الاسم والصفة كما أنه إذا حصل لرجل ملكة في علم من العلوم كان بحيث كلما يتوجه إلى مسألة من مسائله يحضر تلك المسألة، وليس المراد العلم التفصيلي حتى يلزم المحذور. فإن قيل : لم يقل بما قلت أحد من المفسرين فهو قول في القرآن بالرأي وذلك غير جائز، روى البغوي بطرق عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قال في القرآن برأيه » وفي رواية «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار »٥ قلت قال : قال البغوي قال شيخنا الإمام قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم يعني التفسير وهي الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها وذلك لا يجوز إلا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل وأصل التفسير من التفسرة وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيها الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها، فأما التأويل وهو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لأهل العلم، واشتقاق التأويل من الأول وهو الرجوع، يقال : أولته فآل أي صرفته فانصرفت، روى البغوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع »٦ وروى الطبراني عنه بلفظ :«أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع » قال البغوي : قوله لكل حد مطلع أي مصعد يصعد ليه من معرفة علمه، يقال المطلع الفهم، وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتح على غيره :﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾٧ انتهى حاصل كلامه، قلت : وما مر من أقوال المفسرين ليس شيئا منها مرفوعا، ولا علما لا يدرك بالرأي حتى يكون في معنى المرفوع بل تأويلات لمعنى الأسماء على حسب آرائهم ومن ثم ترى الاختلاف وما ذكرت لكل كذلك، وأيضا قول ابن عباس : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة، وما قيل علمه أسماء ما كان وما يكون وأسماء ذريته وصفة كل شيء لا ينافي تعليمه الأسماء الإلهية وهي أفضل مما كان ويكون هو الأول ما كل شيء قبله والآخر لا يكون شيء بعده والظاهر لا شيء فوقه والباطن لا شيء دونه، وإنما اقتصر ابن عباس على ذكر أسماء الممكنات خطابا لإفهام العوام وكذلك شأن الأكابر يكلمون الناس على قدر عقولهم والله أعلم. ﴿ ثم عرضهم على الملائكة ﴾ قال المفسرون : الضمير راجع إلى المسميات المدلول عليها ضمنا إذ التقدير أسماء المسميات فحذف المضاف إليه وعوض عنه اللام كما في قوله تعالى :﴿ واشتعل الرأس شيبا ﴾٨ وتذكير الضمير تغليب ما اشتمل عليه من العقلاء وإذا قلت المراد بالأسماء الإلهية فالضمير راجع إلى آدم وجمع الضمير للتعظيم أو المراد بآدم هو وآله كما يقال ربيعة ومضر، كذا قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى :﴿ على خوف من فرعون وملإيهم ﴾٩ في سورة يونس، ولعل الله سبحانه عرض عليهم آدم ونسمات الأنبياء من ذريته حين أخرجهم من ظهره وأخذ منهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وأخذ من النبيين من محمد صلى الله عليه وسلم ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم السلام أخذ منهم ميثاقا غليظا وهذا أنسب من إرجاع الضمير إلى المسميات، لأن المسميات غير مذكورة فيما قبل، والضمير للمذكورين العقلاء فلا بد فيه من تكلفات. وقرأ أبي بن كعب عَرَضَهَا، وقرأ ابن مسعود عَرَضَهُنَّ، وعلى تينك القراءتين الضمير راجع إلى الأسماء ﴿ فقال ﴾ تبكيتا لهم وتنبيها على عدم صلاحيتهم للخلافة ﴿ أنبئوني بأسماء هؤلاء ﴾ المشار إليه هي المسميات على تفسير المفسرين على ما قلت المشار إليه آدم وأله والإضافة لأدنى ملابسة أي الأسماء التي علمت هؤلاء، حديث :«كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد »١٠ رواه الطبراني عن ابن عباس وأبو نعيم في الحلية وابن سعد عن أبي الجدعاء يدل على أن الله سبحانه علمه ما علمه واصطفاه نبيا بالتجليات الذاتية المختصة بالأنبياء أصالة حين كان آدم بين الروح والجسد يعني حين تركب روح آدم بجسده فإن التجليات الذاتية البحتية كانت مشروطة بالجسد الترابي فإذا صار لآدم جسد واستقر نسمات ذريته في ظهره صاروا أهلا لها. ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ إني لا أخلق خلقا إلا وكنتم أكرم علي منه وأفضل وأعلم. قرأ قنبل وورش بجعل الهمزة الثانية من ﴿ هؤلاء إن كنتم صادقين ﴾ ياء ساكنة، وقالون والبزي يجعلان الأولى ياء مكسورة وأبو عمر يسقطها والباقون يحققون الهمزتين وكذا في كل همزتين مكسورتين اجتمعتا من كلمتين، وفي رواية عن ورش أنه يجعل الثانية ياء مكسورة ههنا وفي النور :﴿ على البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ وأما في غيرهما فكقنبل، وأما إذا اجتمعتا مفتوحتين من كلمتين نحو :﴿ جاءَ أَجَلُهُمْ ﴾ فورش وقنبل يجعلان الثانية مدة كما في المكسورة وقالون والبزي وأبو عمر ويسقطون الأولى والباقون يحققون الهمزتين وأما إذا اجتمعتا مضمومتين من كلمتين وذلك في موضع واحد في الأحقاف ﴿ أولياءُ أُولئك ﴾ فحكمه حكم المكسورة ورش وقنبل يجعلان الثانية واوا ساكنة وقالون والبزي يجعلان الأولى واوا مضمومة وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: وجوب أمثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي﴿٢٣٦٣﴾.
٢ سورة الكهف، الآية: ١٠٩.
٣ سورة لقمان، الآية: ٢٧.
٤ رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الأذكار، باب: ما يقول إذا أصابه هم﴿١٧١٢٩﴾.
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه﴿٢٩٥١﴾.
٦ رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود، وقال عنه السيوطي: حسن انظر الجامع الصغير﴿٢٧٢٧﴾.
٧ سورة يوسف، الآية: ٧٦.
٨ سورة مريم، الآية: ٤.
٩ سورة يونس، الآية: ٨٣.
١٠ فيه قيس بن الربيع قال عنه الذهبي: تابعي له حديث منكر، وأخرجه الحاكم بلفظ. متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» وقال عنه صحيح وأقره الذهبي. انظر فيض القدير﴿٦٤٣٤﴾.
﴿ قالوا ﴾ إقرارا بالعجز واعترافا لفضل البشر واستحقاقهم الخلافة وإظهار الشكر نعمة ما كشف لهم الحكمة في خلقه ﴿ سبحانك ﴾ أي نسبحك سبحانا عن خلو أفعالك عن الحكم والمصالح ﴿ لا علم لنا ﴾ لا نحيط بشيء من علمك ﴿ إلا ما علمتنا إنك أنت العليم ﴾ بخلقك ﴿ الحكيم ﴾ في أمرك، وله معنيان : وهو القاضي العدل المحكم للأمر لا يتطرق إليه الفساد.
فلما اعترفوا بعجزهم أنعم الله عليهم و﴿ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ﴾ الضمير في ﴿ بأسمائهم ﴾ على قول المفسرين راجع إلى المسميات، و أما على ما قلت فراجع إلى الملائكة أي أنبئهم بالأسماء كلها لا يمكن إلا إجمالا بالوصول إلى حضرة الذات وذلك مختص بالبشر دون الملائكة ﴿ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فيه استذكار لقوله :﴿ أعلم ما لا تعلمون ﴾ قرأ الحرميان وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء وكذلك يفتحون كل ياء إضافة بعدها ألف قطع مفتوحة إلا أحرفا معدودة تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى والباقون لا يفتحون إلا أحرفا معدودة تذكر إن شاء الله تعالى. ﴿ وأعلم ما تبدون ﴾ قال الحسن وقتادة : يعني قولهم ﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ﴾ ﴿ وما كنتم تكتمون ﴾ قالا قولهم لن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا، قال البغوي قال ابن عباس : هو أن إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه فقال ولأمر ما خلق هذا، ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتماسك لأنه أجوف ثم قال للملائكة الذين معه : إن فُضل عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون ؟ قالوا : نطيع أمر ربنا، فقال إبليس في نفسه : والله لئن سطلت عليه لأهلكته ولئن سلط علي لأعصينه فقال الله تعالى :﴿ وأعلم ما تبدون ﴾ يعني ما تبديه الملائكة من الطاعة ﴿ وما كنتم تكتمون ﴾ يعني ما كتم إبليس من المعصية. وفي الآية دليل على أن خواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم كما ذهب أهل السنة والجماعة إليه، وأما ما قالوا أن عوام البشر أصفى الأولياء منهم الصالحون المتقون أفضل من عوام الملائكة فثابت بالسنة. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته »١ رواه ابن ماجة، وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة قال الله تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فيكون » رواه البيهقي في شعب الإيمان، ويدل على أفضليتهم اختصاصهم برؤية الله سبحانه في الجنة دون الملائكة. فإن قيل رؤية سبحانه في الجنة غير مختص بالأولياء بل يكون لجميع المؤمنين وإن كانت على قدر تفاوت درجاتهم فمنهم من يراه غدوة وعشية ومنهم من يراه كل جمعة أو بعد سنة أو نحو ذلك فيلزم من ذلك أفضلية جميع المؤمنين وإن كانوا فساقا على عوام الملائكة فإن المؤمنين كلهم يدخلون الجنة ولو بعد العذاب قال الله تعالى :﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ﴾٢ وقال صلى الله عليه وسلم :«يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير أو من إيمان، ويخرج من النار من قالها وفي قلبه وزن ذرة من خير أو إيمان »٣ متفق عليه من حديث أنس، وقال :«ما من عبد قالها ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، وإن وزنى وإن سرق، وغن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر »٤ رواه مسلم من حديث أبي ذر. والقول بأفضلية الفساق على المعصومين لا يجوز عقلا ولا شرعا قال الله تعالى :﴿ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ﴾٥ قلت : دخول الجنة للفساق لا يتصور إلا بعد المغفرة سواء كانت المغفرة بعد العقاب بمصائب الدنيا أو بعذاب في القبر أو بعذاب في النار أو بغير شيء من ذلك بالتوبة أو بغير التوبة فضلا من الله تعالى وبعد المغفرة لم يبق فسق ولا معصية بل التحقوا بالأولياء المتقين الصلحاء وإن كانت مراتب الأولياء أعلى وأجل فحينئذ لا محذور في أفضليتهم على الملائكة والله أعلم، وأيضا في الآية دليل على أن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وأنهم يستفيدون من البشر، وأما قوله تعالى :﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾٦ فمقتضاه عدم الترقي من مقام إلى مقام يعني من مقام الأسماء والصفات إلى مقام الذات فإنه لا يجوز وصولهم إلى مقام الذات بخلاف البشر فإن له ترقيات من مقام الحجب والحرمان إلى مقام الظلال ومنها إلى مقام الصفات والأسماء والشيونات ومنها إلى مقام الوصول إلى الذات وفي ذلك الوصول درجات واعتبارات لا يسعه المقال و المقام.
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب: المسلمون في ذمة الله عز وجل﴿٣٩٤٧﴾ وهو من رواية أبي المهزم يزيد بن سفيان، قال الحافظ العراقي أبو المهزم تركه شعبة ابن معين. انظر فيض القدير﴿٩١٥٥﴾.
٢ سورة الزلزلة، الآية: ٧.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: زيادة الإيمان ونقصانه﴿٤٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها ﴿١٩٣﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار﴿٩٤﴾.
٥ سورة القلم، الآية: ٣٥.
٦ سورة الصافات، الآية: ١٦٤.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ﴾ قرأ أبو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء بإعطاء حركة همزة الوصل وكذلك :﴿ قل رب احكم ﴾١ بضم الباء والباقون بالكسر، والسجود في الأصل : التذلل، وفي الشرع : وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة، والمأمور به إما المعنى الشرعي فالمسجود له يكون بالحقيقة هو الله تعالى، وجعل آدم قبلة تفخيم الشأن واعترافا لما أنكروا أولا من فضله، ويدل على إرادة هذه المعنى الشرعي ما رواه أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار »٢ واللام في لآدم حينئذ بمعنى إلى كما قي قول حسان في مدح الصديق :
أليس أول من صلى لقبلتكم-وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو جعل آدم سببا لوجوب السجود وتوبة لما صدر عنهم صورة الاعتراض، واللام حينئذ للسببية نحو صل لدلوك الشمس، وإما المعنى اللغوي وهو التواضع والتذلل لآدم تحية وتعظيما كسجود إخوة يوسف، قال البغوي : هذا القول أصح قال : ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض إنما كان انحناء فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام. قلت : لعلهم إنما أمروا بتعظيم آدم شكرا له وأداء لحقه في التعليم قال رسول صلى الله عليه وسلم :«من لم يشكر الناس لم يشكر الله »٣ رواه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد.
﴿ فسجدوا ﴾ يعني الملائكة كلهم أجمعين.
﴿ إلا إبليس ﴾ هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة لصحة الاستثناء كما مر عن ابن عباس، فعلى هذا لا يكون الملائكة كلهم معصومين بل الغالب منهم العصمة كما أن بعضا من الإنس معصومون والغالب منهم عدم العصمة، وقيل كان جنيا نشأ بين الملائكة ومكث فيهم ألوف سنين فغلبوا عليه ويحتمل كون الجن أيضا مأمورين بالسجود مع الملائكة لكنه استغنى عن ذكرهم بذكر الملائكة لأن الأكابر لما أمروا بالسجود فالأصاغر أولى، ولعل ضربا من الملائكة كانوا متحدي الجنس بالشياطين مختلفين بالعوارض وما روى مسلم عن عائشة «خلقت الملائكة من نور وخلقت الجن من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم »٤ يحمل على اختلاف حقيقة بعض الملائكة من حقيقة الجن دون بعضهم وهم الذين لا يوصفون بالذكورة والأنوثة ولا يتوالدون، أو يقال النار والنور حقيقة واحدة والامتياز بينهما بالتهذيب والصفاء وبدونه، وقوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ﴾٥ وهو قولهم الملائكة بنات الله دليل على اتحاد حقيقتهما والله أعلم بحقيقة الحال.
﴿ أبى ﴾ امتنع من السجود.
﴿ واستكبر ﴾ من أن يعظم آدم، أو يتخذه وصلة في عبادة ربه.
﴿ وكان ﴾ في علم الله، أو صار ﴿ من الكافرين ﴾ باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا منه أنه أفضل من آدم حيث قال :﴿ أنا خير منه ﴾ لا بترك الواجب وحده.
١ سورة الأنبياء، الآية: ١١٢.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة﴿٨١﴾. وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إنامة الصلاة والسنة فيها، باب: سجود القرآن﴿١٠٥٢﴾.
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك ﴿١٩٤٥﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها﴿٢٢٣٦﴾.
٥ سورة الصافات، الآية: ١٥٨.
﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ قال البغوي : إن آدم لم يكن له في الجنة من يجالسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيري شقه الأيسر، فلما هب من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال لها : من أنت ؟ قالت : زوجتك خلقني الله لك تسكن إلى وأسكن إليك. وإنما لم يخاطبهما أولا تنبيها على أنه هو المقصود بالحكم.
﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ واسعا كثيرا.
﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ أين شئتما.
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾ منع عن قرب الشجرة مبالغة في النهي عن أكله لأن قرب الشيء يورث داعية وميلانا إلى ذلك الشيء فيلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع، فالاقتران بما هو يقرب إلى المعصية مكروه. والشجرة هي السنبلة على قول ابن عباس ومحمد بن كعب، والعنب على قول ابن مسعود والتين على قول ابن جريج والكافور على قول علي، وقال قتادة : شجرة العلم وفيها من كل شيء، فقيل وقع النهي على جنس من الشجرة، وقل : شجرة مخصوصة.
﴿ الْظَّالِمِينَ ﴾ أي الضارين أنفسكما بالمعصية، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ أي أصدر زلتهما عن الشجرة أي بسبب الشجرة ومن أجل أكلها، أو أزلهما أي أذهبهما أي أبعدهما عن الجنة ويعضده قراءة حمزة فأَزَالَهُما أي نحاهما، والشيطان من الشطن بمعنى البعد سمي به لبعده من الخير والرحمة. واختلفوا في أنه كيف يلقي إبليس آدم بعد ما قيل له اخرج فإنك رجيم ؟ قال البغوي : إن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس آدم و حواء فمنعته الخزنة فأتته الحية وكانت صديقة لأبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزان الجنة فسألها إبليس أن يدخله في فمها فأدخلته فمرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة، وكذا أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس، وقال الحسن : إنما رآها على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منها، وقال البغوي : وقد كان آدم لما دخل الجنة قال : لو أن خلدا فلما دخل الشيطان الجنة وقف بين آدم وحواء لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما وهو أول من ناح، فقالا : ما يبكيك ؟ قال أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما فقال إبليس ﴿ هل أدلك على شجرة الخلد ﴾ فأبى أن يقبل منه وقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين فاغترا وما ظنا أن أحدا يحلف بالله كاذبا فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها، وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء أسقته الخرم فلما سكر قادته إليها فأكل.
﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ من النعيم، قال ابن عباس وقتادة : قال الله تعالى لآدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب ولكن ما ظننت أن أحدا يحلف بك كاذبا، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال الله تعالى يا آدم ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رب زينته لي حواء، قال : فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها وديتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك.
﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ﴾ أي انزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية.
﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ ﴾ حال استعنى عن الواو بالضمير أي متعادين، روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا أعلم إلا رفع الحديث أنه كان يأمر بقتل الحيات، وقال «من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا » وفي رواية : ما سالمناهن منذ حاربناهن، وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم :«إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك قاقتلوه فإنه شيطان »١.
﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ موضع قرار واستقرار.
﴿ وَمَتَاعٌ ﴾ أي تمتع.
﴿ إلى حين ﴾ إلى انقضاء آجالكم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها﴿٢٢٣٦﴾.
﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ قرأ ابن كثير آدم بالنصب وكلمات بالرفع يعني جاءت الكلمات آدم من ربه وكانت سبب توبته، وقرأ الباقون بالعكس أي تعلم. والكلمات ﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾ الآية، كذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن، وقيل : غير ذلك من كلمات الدعاء والاستغفار والتضرع، قال ابن عباس : بكى آدم وحواء مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة، وروي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا ولو أن دموع أهل الأرض جمعت لكان دموع داود أكثر أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود مع دموع أهل الأرض جمعت لكان دموع آدم أكثر، قال شهر بن حوشب : بلغني أنه مكث ثلاثمائة سنين لا يرفع رأسه حياء من الله عز وجل.
﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ أي قبل توبته، والتوبة عبارة عن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود، واكتفى آدم لأن حواء كانت تبعا له في الحكم ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن.
﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ الرجاع على عباده بالمغفرة وأصل التوبة الرجوع فمن العبد الرجوع عن المعصية ومن الله الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة.
﴿ الرَّحِيمُ ﴾ المبالغ في الرحمة.
﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾ قيل : الهبوط الأول من الجنة والثاني من السماء إلى الأرض، وقيل : كرر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإن المقصود من الأول العقاب على المعصية ومن الثاني التكليف. وجميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فلا يستدعى اجتماعهم.
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ الفاء للعطف وإن حرف شرط وما زائدة أكدت به إن ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وإن لم يكن فيه معنى للطلب، يعني أن يأتي لكم مني هدى يعني رسول وكتاب، الخطاب به إلى ذرية آدم.
﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾ الشرط الثاني مع جزائه جزاء للشرط الأول وإنما جاء بإن حرف الشك لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا. أمال الكسائي هُدَايَ ومَثْوايَ، ومَحْيايَ حيث وقع رُؤْيَاكَ في أول يوسف خاصة، وأبو عمرو ورش قرآ رؤْيَاك خاصة بين بين، قال البيضاوي : كرر لفظ الهدى ولم يضم لأنه أراد بالثاني أعلم من الأول وهو ما أتى به الرسل واقتضاء العقل أي : تبع ما آتاه مراعيا فيه ما شهده العقل.
﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فبما يستقبلهم.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ في الآخرة بفوات محبوب، نفى عنهم العذاب وأثبت لهم الثواب على أبلغ الوجوه، قرأ يعقوب ﴿ فلا خوف ﴾ بالفتح بإعمال لا والآخرون بالرفع والتنوين.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ ﴾ عطف على ما تبع كأنه قال : ومن لم يتعب هداي بل كفروا به. ﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ بالقرآن وغيره من الكتب.
﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ يوم القيامة ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، في القصة دليل على أن الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية وأن عذاب النار للكفار مخلد، تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام قالوا كان آدم نبيا وارتكب النهي عنه، وأجيب بأنه لم يكن نبيا حينئذ والمدعي يطالب بالبرهان، أو كان النهي للتنزيه وإنما سمي نفسه ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الأولى، أو أنه فعل ناسيا لقوله تعالى :﴿ فنسي ولم نجد له عزما ﴾١ لعله لما قاله إبليس :﴿ ما نهاكما ربكما ﴾ وقاسمهما أورث فيه ميلانا طبعيا ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله إلى أن نسي ذلك وزال شعوره بشرب الخمر فحمله الطبع عليه وإنما عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان، ولعله وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم، ويحتمل أن يكون رفع الخطأ والنسيان خاصة لهذه الأمة، وستجئ المسألة آخر السورة، أو فعله بسب خطأ في اجتهاده حيث ظن النهي للتنزيه، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة آخر السورة، أو فعله بسبب خطأ في اجتهاده حيث ظن النهي للتنزيه، أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها وكان المراد في النهي الإشارة إلى النوع، وإنما جرى عليه ما جرى على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة كتناول السم على الجهل والله أعلم.
١ سورة طه، الآية: ١١٥.
ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد والنبوة وخاطب الناس عامة وعد إنعاماته العامة، خاطب بني إسرائيل خاصة وذكَّرهم النعماء التي اختصت بهم لأن السورة مدنية وكان غالب الخطاب في المدينة مع اليهود لأنهم كانوا أهل علم والناس تبع لهم فلو اعترفوا بالنبوة اعتراف غيرهم بتقليدهم وكان حجة على غيرهم. فقال :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أولاده، والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى الصانع، ويقال أبو الحرب وبنت فكر، وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية عبد الله وايل هو الله، وقيل صفوة الله، وقرأ أبو جعفر إسرائيل بغير همزة ﴿ اذكروا ﴾ احفظوا، والذكر يكون بالقلب وباللسان فإنه دليل على ذكر القلب، وقيل : اشكروا لأن في الشكر ذكرا، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ﴿ نعمتي ﴾ لفظها واحد معناها جمع.
﴿ التي أنعمت عليكم ﴾ قيد النعمة بهم حتى يحملهم على الرضاء والشكر، وأما النعمة على غيرهم فقد يوجب الغيرة والحسد، قال قتادة : هي النعم التي خصت بها بنوا إسرائيل من فلق البحر وأنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام في التيه، وإنزال المن والسلوى وبعث الأنبياء فيهم، وجعلهم ملوكا وإنزال التوراة وغيرها، وقال غيره : هي جميع النعم على العباد.
﴿ وأوفوا بعهدي ﴾ بالإيمان والطاعة ﴿ أوف بعهدكم ﴾ بالإثابة، والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد، ولعل أولا أضاف إلى الفاعل وثانيا إلى المفعول فإن الله تعالى عهد إليهم بالإيمان ووعدهم بالثواب، أو في كليهما أضاف إلى المفعول أي أوفوا بما عاهدتموني أوف بما عاهدتكم. أخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال :﴿ أوفوا بعهدي ﴾ في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أوف بعهدكم ﴾ في رفع الآصار والأغلال، قال البغوي : قال الكلبي : عهد الله إلى بني إسرائيل على لسان موسى إلى باعث في بني إسماعيل نبيا أميا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين وهو قوله :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب ﴾١ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قلت : وهذا قوله تعالى في جواب ما قال موسى :﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإنني ﴾٢ إلى قوله :﴿ إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ ٣ الآية، وقال قتادة ومجاهد : أراد بها ما ذكر في المائدة :﴿ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ﴾ إلى أن قال :﴿ لأكفرن عنكم سيئاتكم ﴾٤ الآية، وقال الحسن : هو قوله :﴿ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ﴾٥ فهو شريعة التوراة، قلت : وإن هذين القولين راجعان إلى ما قال ابن عباس والكلبي فإن في الأول :﴿ وءامنتم برسلي وعزرتموهم ﴾٦ وكذلك شريعة التوراة حاكمة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا فهي منسوخة.
﴿ وَإِيَّايَ ﴾ منصوب بفعل مقدر بعده يفسره ﴿ فَارْهَبُونِ ﴾ فخافون في نقض العهد وفي كل فعل وترك، والرهبة خوف معه تحرز، وهذا آكد في إفادة التخصيص من ﴿ إياك نعبد ﴾ لما فيه من تقديم المفعول وتكريره وتكرير الفعل تقديرا أو لفظا والفاء الجزائية، تقدير الكلام إن كنتم راهبين فإياي ارهبوا فارهبوني، والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلا الله. أثبت يعقوب الياآت المحذوفة في الخط مثل :﴿ فَارْهَبُونِ ﴾ ﴿ فَاتَقُونِ ﴾ ﴿ واخْشَوْنِ ﴾ كلها وجملتها إحدى وستون ياء لا غير وأثبت نافع رواية ورش منها في الوصل سبعا وأربعين وفي رواية قالون عشرين، واختلف عن قالون في اثنين وهما ﴿ التَّلاَقِ ﴾ و﴿ التَناد ﴾ في غافر وأثبت ابن كثير في الوصل والوقف إحدى وعشرين واختلف عنه ست ﴿ وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ في إبراهيم ﴿ يَدْعُ الدَّاعِ ﴾ في القمر ﴿ بالوَادِ ﴾ و﴿ أَكْرَمَنِ ﴾ و﴿ أَهَانَنِ ﴾ في الفجر فأثبت الخمس البزي في الحالين، وأثبت قنبل ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ﴾ في يوسف في الحالين وبالواو في الفجر في الوصل فقط وفيه خلاف عنه وأثبت أبو عمرو من ذلك في الوصل خاصة أربعا وثلاثين وخير في ﴿ أكرمن ﴾ و﴿ أهنن ﴾ وأثبت الكسائي ياءين ﴿ يوم يأْتِ ﴾ في هود و﴿ ما كنا نبغ ﴾ في الكهف لا غير، وأثبت حمزة في الوصل خاصة ﴿ وتقبَّلْ دُعاءِ ﴾ في إبراهيم، وفي الحالين ﴿ أتُمِدُّونَنِ ﴾ في النمل لا غير وحذف كلهن عاصم، واختلف عنه في يائين في النمل ﴿ فما ءاتنيَ الله ﴾ فتحها حفص في الوصل وأثبتها ساكنة في الوقف وفي الزخرف ﴿ يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ ﴾ فتحها أبو بكر في الوصل وأسكنها في الوقف وشعبة بحذف الأولى كحفص في الأخرى، وأثبت ابن عامر في رواية هشام ﴿ ثم كيدون ﴾ في الأعراف وفي رواية ابن ذكوان في الكهف ﴿ فلا تسألن ﴾ وسيأتي جميع ما ورد من ذلك الاختلاف في أماكنها إن شاء الله تعالى.
١ سورة آل عمران، الآية: ١٨٧.
٢ سورة الأعراف، الأية: ١٥٥.
٣ سورة الأعراف، الآية: ١٥٦-١٥٧.
٤ سورة المائدة، الآية: ١٢.
٥ سورة البقرة، الآية: ٦٣.
٦ سورة المائدة، الآية: ١٢.
﴿ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ ﴾ يعني القرآن عطف تفسيري على أوفوا، أو تخصيص بعد التعميم فإن الإيمان هو العمدة في الوفاء بالعهود ﴿ مصدقا ﴾ أي موافقا في القصص وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ونعته وفي الوعد والوعيد والدعوة إلى التوحيد، والإيمان بالأنبياء بلا تفريق بينهم وبما جاؤوا به من ربهم وإلى امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي، أو شاهدا على كونها من الله تعالى. ﴿ لما معكم ﴾ من الكتب الإلهية التورية وغيرها، وفي التقييد بكون القرآن مصدقا لما معهم تنبيه على أن اتباعها يوجب الإيمان به ولذلك عرّض بقوله :﴿ ولا تكونوا أول كافر به ﴾ بل الواجب أن تكونوا أول من آمن به كما أن ورقة بن نوفل لما كان عالما بالتوراة صار أول من آمن به، فالمراد به التعريض دون الحقيقة كقولك أما أنا فلست بجاهل فلا يقال كيف نهوا عن التقدم في الكفر مع سبق مشركي مكة فيه ؟ أو المراد ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب أو أول من كفر بما معه فإن الكفر بالقرآن كفر بما يصدقه ؟ قلت : أو المراد بالأولية الأولية بالذات يعني كونهم سببا لكفر غيرهم فإن إيمان العلماء والأحبار والرؤساء سبب لإيمان غيرهم وكفرهم سبب لكفر غيرهم، فلذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ألا إن شر الشرار شرار العلماء، وإن خير الخيار خيار العلماء »١ رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم عن أبيه، والمعنى لا تكونوا سبب لكفر أتباعكم فيكون عليكم إثم الأريسيين، وأول كافر خبر من ضمير الجمع بتأويل أو فريق، أو بتأويل أول فريق، أو بتأويل لا يمكن كل واحد منكم أول كافر كقولك كساناحلة، وأول فعل لا فعل له من لفظه، وقيل : أصله أَوَالُ من وال على وزن سَأَلَ أبدلت همزته واوا من غير قياس أو آاَوَلُ من أوعل قلبت الهمزة واوا وأدغمت، قال البغوي : نزلت الآية في كعب بن أشرف وأصحابه من علماء اليهود.
﴿ ولا تشتروا ﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي أي بالإيمان بأيات القرآن أو لا تستبدلوا بآيات التوراة ببيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ثمنا ﴾ أي عرضا من الدنيا ﴿ قليلا ﴾ فإن أعراض الدنيا وإن جلت فهي قليلة رذيلة بالإضافة إلى ما يفوتهم من حظوظ الآخرة، وذلك أن رؤساء اليهود وعلماؤهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون كل عام منهم شيئا معلوما من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا فواتها إن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه، فاختاروا الدنيا على الآخرة وغيروا نعته وكتموا اسمه.
﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ بالإيمان واختيار الآخرة على الدنيا وهذا مثل ﴿ وفإياي فارهبون ﴾ غير أن في الآية السابقة خطاب لعوام بني إسرائيل ولذا فصلت بالتقوى الذي هو منتهى الأمر.
١ أخرجه الدارمي في المقدمة، باب: التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله﴿٣٧٤﴾.
﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾ أي لا تخلطوا، واللبس : الخلط، وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره، يعني لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تكتبون بأيديكم من التغير حتى لا يميز بينهما، وقال مقاتل : إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضا ليصدقوا في ذلك فألحق إقرارهم وبيانهم والباطل كتمانهم.
﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾ مجزوم داخل تحت حكم النهي أي لا تكتموا، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو وللجمع أي لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ﴿ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه نبي مرسل وأنكم تكتمون صفته فإنه إقبح فإن الجاهل قد يعذر.
﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ أي صلاة المسلمين وزكاتهم، فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع، والزكاة مشتق من زكا الزرع إذا نما، أو من تزكى أي تطهر فإن فيه تطهير المال وتنميته قال الله تعالى :﴿ يمحو الله الربا ويربي الصدقات ﴾١.
﴿ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ مع المصلين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ذكر بلفظ الركوع وهو ركن من أركان الصلاة لأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع، وفيه حث على الصلاة بالجماعة.
مسألة : الجماعة ركن عند داود، وقال أحمد : فريضة وليست بركن، وعند الجمهور سنة مؤكدة قريب من الواجب يترك سنة الفجر مع كونها آكد السنن عند خوف فواتها، قال رسول صلى الله عليه وسلم :«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة »٢ متفق عليه من حديث بن عمر.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٧٦.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، فضل صلاة الجماعة﴿٦٤٥﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة ﴿٦٥٠﴾.
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ أي بالطاعة وفيه تقرير مع توبيخ وتعجيب. والبر : التوسع في الخير مشتق من البر هو الفضاء الواسع يتناول كل خير، قال البغوي : نزلت في علماء اليهود وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم أثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق، وكذا أخرج الواحدي عن ابن عباس، وقيل : هو خطاب لأحبارهم حيث أمروا أتباعهم بالتمسك بالتوراة وهم خالفوا التوراة وغيروا نعت محمد صلى الله عليه وسلم فيه. ﴿ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ تتركونها من البر كالمنسيات ﴿ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ التوراة وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وفيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل وترك البر. ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ قبح صنعكم أو أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون قبح عاقبته، والعقل في الأصل الحبس ومنه عقال الدابة، فإن العقل يمنع الإنسان عما يضره يعني ما تفعلون مخالف للعلم والعقل، روى البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب »١ وروى أيضا عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك ؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه »٢ قال البيضاوي : المراد بالآية حث الواعظ على تزكية النفس وتكميله لا منع الفاسق عن الوعظ فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر، قلت : فمعنى قوله تعالى :﴿ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾٣ إن معصية العالم أكبر مقتا عند الله من معصية الجاهل لا أن أمره بالمعروف ممقوت والله أعلم.
١ رواه البيهقي في شعب الإيمان. انظر كنز العمال﴿٢٩٠٢٦﴾ وأخرج أحمد نحوا منه.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار وأنها مخلوقة﴿٣٢٦٧﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله﴿٢٩٨٩﴾.
٣ سورة الصف، الآية: ٢.
ثم لما أمرهم الله تعالى بما شق عليهم من ترك الرياسة والإعراض عن الدنيا أرشدهم بما يعينهم على ذلك ويكفيهم في إنجاح حوائجهم فقال ﴿ وَاسْتَعِينُواْ ﴾ على ما يستقبلكم من الحوائج وأنواع البلاء ﴿ بالصبر ﴾ بانتظار النجاح والفرج توكلا على الله وحبس النفس عن الجزع فإن لا يغني من القدر شيئا وحبس النفس عن المعاصي وعلى الطاعات فإنه تعالى يقول :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾١ وقال مجاهد : أراد بالصبر الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر وذلك أن الصوم يزهده في الدنيا والصلاة ترغبه في الآخرة ﴿ وَالصَّلاَةِ ﴾ قيل الواو بمعنى على أي استعينوا بالصبر على الصلاة، قال الله تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾٢ أو هي بمعناها وللصلاة مدخلا في دفع الهموم وإنجاح الحوائج، روى أحمد وأبو داود وابن جرير من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان أنه عليه السلام : كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ٣، ويجوز أن يراد بها الدعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين ثم يثني على الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل : لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين »٤ رواه الترمذي من حديث عبد الله بن أبي أوفى، والحاكم في المستدرك نحوه ﴿ وإنها لكبيرة ﴾ أي الاستعانة بهما، أو جملة ما أمروا بها ونهو عنها، أو كل واحد من الخصلتين كما في قوله تعالى ﴿ كلتا الجنتين ءاتت أكلها ﴾٥ أي كل واحدة منهما أو الصلاة إن كانت الواو في ﴿ والصلاة ﴾ بمعنى على، وقيل خصت الصلاة برد الضمير إليها لعظم شأنها، أو استجماعها ضروبا من الصبر كما قال الله تعالى :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه ﴾٦ أن رضاء الرسول داخل في رضاء الله تعالى، وقيل : معناه استعينوا بالصبر وإنه لكبير بالصلاة وإنها لكبيرة أي ثقيلة شاقة فحذف أحدها اختصارا.
﴿ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ والخشوع السكون ومنها الخشعة للراحلة المطمئنة، وهو في الصوت والبصر، قال الله تعالى :﴿ وخشعت الأصوات للرحمن ﴾٧ قال :﴿ خاشعة أبصارهم ﴾٨ والخضوع : اللين والانقياد، ولذلك يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب، والمراد المؤمنين الساكنين إلى طاعة الله تعالى الخائفين المتواضعين.
١ سورة الشورى، الآية: ٣٠.
٢ سورة طه، الآية: ١٣٢.
٣ عند أبي داود وأحمد: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى في كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم﴿١٣١٨﴾.
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الوتر، باب: ما جاء في صلاة الحاجة﴿٤٧٩﴾ وقال: في إسناده مقال.
٥ سورة الكهف، الآية: ٣٣.
٦ سورة التوبة، الآية: ٦٢.
٧ سورة طه، الآية: ١٠٨.
٨ سورة القلم، الآية: ٤٣.
﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ أي يتوقعون لقاء الله أو يستيقنون به، قال البغوي : الظن من الأضداد يكون شكا ويقينا يعني مشترك بينهما، أو يقال أطلق على اليقين مجازا شابهه في الرجحان، قلت : وفي إيراد لفظ الظن ههنا دون العلم واليقين إشعار بأن من كان غالب ظنه أنه ملاقي الله وأن الله تعالى مجازيه على أعماله فالعقل الصحيح يهون عليه الصبر على الطعة وعن المعصية مخافة الضرر، ألا ترى أن من كان غالب ظنه أن ماء القدح مسموم فهو يصبر على مشقة العطش ولا يشرب من ذلك الماء وكذا من كان غالب ظنه أن ما في القدح يورث الشفاء والقوة فهو يصبر على مرارة شربه، فكيف من كان يؤمن بالله وبجزائه فإنه يستحقر المشقة نظرا إلى تحصيل رضائه وعظم جزائه بل يستلذ بامتثال أمر المحبوب وتوقع لقائه، ومن ثم قال عليه السلام :«جعلت قرة عيني في الصلاة »١ أخرجه الحاكم والنسائي.
﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ ﴾ أي معاينوه يرونه في الآخرة، والصلاة معراج المؤمن تكون للعبد وسلية إلى رؤية الله قال الله تعالى :﴿ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾٢ وعن ربيعة بن كعب قال : كنت أبِيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي :«سل » فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة، قال : أو غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك، قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود »٣ رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أقرب ما يكون العبد إلى الرب وهو ساجد »٤ رواه مسلم، وقيل : المراد باللقاء الصيرورة والحشر إليه.
﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ فيجازيهم بأعمالهم، وملاحظة الرجوع إلى الله يهون الصبر عليه ولذلك سن للمصاب قول :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾.
١ أخرجه النسائي في كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء﴿٣٩٣٩﴾.
٢ سورة الإسراء، الآية: ٧٩.
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: فضل السجود والحث عليه﴿٤٨٩﴾وأخرجه النسائي في كتاب: التطبيق، باب: فضل السجود﴿١١٣٢﴾ وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل﴿١٣١٨﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود﴿٤٨٢﴾.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ كرره للتأكيد وتذكير التفضيل وهو أجل النعم وربطه بالوعيد الشديد ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ ﴾ يريد تفضيل آبائهم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام وبعده ما لم يغيروا دينهم، فضلهم الله تعالى بما منح عليهم من النبوة والكتاب و الإيمان والعلم والأعمال الصالحة والملك والعدالة ومناصرة الأنبياء وإنما عد نعمه عليهم لأن فضل الآباء يوجب شرفا في الأبناء، وفيه حثهم على تحصيل ذلك الفضل إذ لم يكن فضلهم إلا باتباع الوحي والأنبياء والكتاب ويمكنهم تحصيله باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وفيه اتباع موسى والتوراة.
﴿ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ أي على عالمي زمانهم كذا أخرج ابن جرير عن مجاهد وأبي العالية وقتادة، أو على من لم يستجمع ذلك الفضائل من العالمين.
﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً ﴾ أي ما فيه من العذاب.
﴿ لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ ﴾ كافرة، للآيات والأحاديث الدالة على الشفاعة ولأهل الكبائر وعليه انعقد الإجمع.
﴿ شَيْئاً ﴾ من الحقوق، فنصبه على المفعولية أو لا تجزي شيئا من الجزاء فنصبه على المصدرية، وقيل : لا تغني شيئا من الإغناء وقيل : لا تكفي شيئا من الشدائد والعائد محذوف تقديره لا تجزي فيه، ومن لم يجوز حذف العائد قال اتسع فيه فحذف الجار وأجرى مجرى المفعول به ثم حذف.
﴿ وَلاَ يُقْبَلُ ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالتاء النقوطة من فوق، والباقون بالياء فإن الفاعل مؤنث غير حقيقي يجوز فيه التذكير والتأنيث ﴿ منها ﴾ أي من العاصية أو من الشافعة.
﴿ شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي فدية، وقيل البدل وأصله التسوية.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ يمنعون من عذاب الله تعالى، والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي الدالة على العموم والكثرة، أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب عن أحد من الكفار أحد بوجه من الوجوه، فإنه إما أن يكون قهرا فهو النصرة، أو بلا قهر فهو مجانا وهو الشفاعة، أو بأداء ما كان عليه وهو أن يجزي عنه أو بغيره وهو أن يعطي عنه عدلا، والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم يشفعهم.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم ﴾ أي أسلافكم، تفصيل لما أجمله من النعم عطف على نعمتي عطف الخاص على العام وفيه منة عليهم حيث نجوا بنجاتهم.
﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ أي أتباعه وأهل دينه أصله أهل بدليل أهيل خص بالإضافة إلى العظماء من الأنبياء والملوك، وفرعون لقب لملك العمالقة وكان فرعون مولى وليد بن مصعب بن الريان عمَّر أكثر من أربعمائة سنة، و فرعون يوسف ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة.
﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾ يكلفونكم ويذيقونكم. وأصل السوم : الذهاب في طلب الشيء، وقيل : معناه يصرفونكم في أصناف العذاب كالإبل السائمة في البرية، وذلك أنه فرعون جعل بني إسرائيل أصنافا في الأعمال يبنون ويحرثون، ويحملون الأنفال، ويؤدون الجزية والنساء يغزلن لهم.
﴿ سُوَءَ الْعَذَابِ ﴾ أي أشده وأسوأه وهو مصدر ساء يسُوءُ، مفعول ليسومنكم، والجملة حال من الضمير في نجيناكم، أو من آل فرعون، أو منهما جميعا.
﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ﴾ بيان ليسومونكم، ولذلك لم يذكر بالعطف بل على البدل.
﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ قال البغوي : وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن نارا أقلبت من بيت المقدس وأحاطت بمصر وأحرقت لكل قبطي بها ولم يتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة عن رؤياه ؟ فقالوا : يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، كذا أخرج ابن جرير عن السدي. قال البغوي : فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يولد غلام من بني إسرائيل إلا قتل ولا جارية إلا تركت حتى قيل إنه قتل في طلب موسى اثني عشر ألف صبي، وقال وهب : بلغني أنه ذبح تسعين ألفا، ثم أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون وقالوا : إن الموت قد وقع في بني إسرائيل فيذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وموسى في السنة التي يذبحون فيها.
﴿ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ ﴾ البلاء معناه الاختيار فتارة يكون بالشدة والعذاب يختبر مصابرتهم، وتارة بالنعمة والرخاء يختبر به بشكرهم قال الله تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾١ فالواجب الشكر عند الرخاء والصبر عند الشدة، والمشار إليه بذلكم إما إنجاؤهم من آل فرعون فالمراد به الثاني، وإما سومهم سوء العذاب فالمراد به الأول.
﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ بتسليط فرعون أو ببعث موسى وتوفيقه تخليصكم.
﴿ عَظِيمٌ ﴾ صفة بلاء.
١ سورة الأنبياء، الآية: ٣٥.
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ فلقناه بدخولكم، وقيل : معناه فرقنا لكم، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون وأمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل أمر موسى قومه أن يسيروا بالليل ويسرجوا في بيوتهم، وأخرج الله كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وبالعكس وألقى الموت على القبط واشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا وطلعت الشمس وخرج موسى في ستمائة ألف أو أكثر، وكانوا دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا، فلما أرادوا السير في الليل ضرب عليهم التيه فلم يدر أين يذهبون، فسأل مشيخة بني إسرائيل فقالوا إن يوسف لما خضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فسألهم عن قبره فلم يعلموا، فنادى موسى أنشد الله كل من يعلم موضع قبر يوسف إلا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولي، فلم يسمع إلا عجوز فقالت : لو دللت تعطيني كل ما سألتك فأبى وقال : حتى أسأل ربي فأمره الله، فقالت : لا أستطيع المشي فأخرجني من مصر وفي الآخرة لا تنزل عنه فأخرجه في صندوق وحمله ودفنه بالغمام، فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم، وأمر فرعون قومه أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الديك فوالله ما صاح ديك تلك الليلة، فخرج فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم، فسارت بنو إسرائيل إلى البحر والماء في غاية الزيادة، فإذا هم بفرعون حين أشرقت فتحيروا :﴿ فلما ترءا الجمعان قال أصحات موسى إنا لمدركون ﴾ قال موسى :﴿ قال كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ فأوحى الله إليه :﴿ أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾١ وظهر فيه اثنا عشر طريقا بعدد الأسباط وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر حتى يبس الطرق وخاضت كل سبط بني إسرائيل في طريق ولا يرى بعضهم بعضا بحجاب الماء فخافوا على إخوانهم بالغرق، فاشتبك الماء بإذن الله حتى يرى بعضهم من بعض ويسمع فعبروا سالمين.
﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ ذلك أن فرعون لما ٍرأى البحر منفلقا قال : هذا من هيبتي حتى أدرك عبيدي الآبقين، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خير فرعون أنثى فجاء جبرائيل على فرس أنثى فاقتحم البحر، فلما اشتم الأدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في إثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من أمره شيئا واقتحم الخيول جملة خلفه في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم ويقول الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ وهو بحر قلزم بحر من بحار فارس، قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له أساف وذلك بمراء من بني إسرائيل فذلك قوله تعالى :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ إلى مصارعهم.
١ سورة الشعراء، الآية: ٦١-٦٣.
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا ﴾ قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وعدنا ووعدناكم حيث وقع بلا ألف والباقون ﴿ واعدنا ﴾ بالألف، ومعناهما واحد نحو عاقبت اللص، وقال الزجاج : كان من الله الأمر ومن موسى القبول ومن ثم ذكر المواعدة، وقيل : وعد الله الوحي ووعده موسى المجئ إلى الطور.
﴿ موسى ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالإمالة وكذا يميلان كل ما كان من الأسماء والأفعال من ذوات الياء نحو ﴿ موسى ﴾ و﴿ عيسى ﴾ و﴿ يحيى ﴾ و﴿ الموتى ﴾ و﴿ طوبى ﴾ و﴿ أخرى ﴾ و﴿ كسالى ﴾، و﴿ أسارى ﴾ و﴿ يتامى ﴾ و﴿ فرادى ﴾ و﴿ نصارى ﴾ و﴿ الأيامى ﴾ و﴿ الحوايا ﴾ و﴿ بشرى ﴾ و﴿ ذكرى ﴾ و﴿ ضيزى ﴾ وشبهها مما ألفه للتأنيث، وكذلك ﴿ العمى ﴾ ﴿ الهدى ﴾ ﴿ والضحى ﴾ و﴿ الرءيا ﴾ و﴿ مأواه ﴾ و﴿ مأواكم ﴾ و﴿ مثْواه ﴾ و﴿ مثواكم ﴾، وما كان مثله من المقصور وكذلك ﴿ الأدنى ﴾ و﴿ أزكى ﴾ ﴿ فسوى ﴾ و﴿ يخفى ﴾ و﴿ يرضى ﴾ و﴿ يهوى ﴾ وشبهها من الأفعال مما ألفه منقلبة من ياء، وكذلك أمالا ( أنى ) التي بمعنى كيف نحو :﴿ أنى شئتم ﴾ و﴿ أنى لك ﴾، وكذلك ﴿ متى ﴾ و﴿ بلى ﴾ و﴿ عسى ﴾ حيث كان، وكذلك ما أشبهه مما هو مرسوم بالياء ما خلا خمس وهي :﴿ حتى ﴾ و﴿ لدا ﴾ و﴿ على ﴾ و﴿ إلى ﴾ و﴿ ما زكى ﴾ فإنها مفتوحات إجماعا، وكذلك مفتوح بالإجماع ميع ذوات الواو من الأسماء والأفعال نحو :﴿ الصفا ﴾ و﴿ سنا برقه ﴾ ﴿ وبدا ﴾ و﴿ دنا ﴾ و﴿ عفا ﴾ و﴿ علا ﴾ وشبهها ما لم يقع بين ذوات الياء في سورة أو آخر أيها ياء أو تلحقه زيادة نحو :﴿ تدعى ﴾ و﴿ تبلى ﴾ ﴿ فمن اعتدى ﴾ و﴿ من استعلى ﴾ و﴿ أنجاكم ﴾ و﴿ نجاكم ﴾ و﴿ زكاها ﴾ وشبهها، فإنها بالزيادة التحقت بذوات الياء.
وقرأ أبو عمرو بالإمالة مما تقدم ما كان فيها راء بعدها ياء، وما كان رأس آية في سورة أواخر أيها على ياء أيها وألف أو كان على وزن فُعْلى بفتح الفاء أو الكسر أو الضم ولم يكن فيه راء قرأها بين اللفظين، وما عدا ذلك بالفتح.
وقرأ ورش جميع ذلك بين بين إلا ما كان في سورة أواخر أيها على هاء وألف فإنه أخلص الفتح فيه، وأما أبو بكر رمى في الأنفال وأعمى في الموضعين في سبحان وتابعه أبو عمرو على إمالة أعمى في الأول لا غير، وفتح ما عدا ذلك.
وأما حفص ﴿ مجراها ﴾ في هود لا غير وروى عن أبي عمرو ﴿ ياويلتي ﴾ ﴿ يا حسرتي ﴾ ﴿ وأنى ﴾ إذا كان استفهاما بين اللفظين ويا أسفى بالفتح، وكلما ذهب الألف الممال لاجتماع الساكنين وصلا لا يمال وصلا ويمال وقفا نحو :﴿ هدى للمتقين ﴾ و﴿ موسى الكتاب ﴾ فعند الوقف على هدى وموسى يمال لا وصلا.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو إمالة الراء مع الساكن وصلا نحو ﴿ يرى ﴾ و﴿ يرى الذين آمنوا ﴾ و﴿ النصارى المسيح ﴾ و﴿ الكبرى ﴾ ﴿ اذهب ﴾ و﴿ القرى التي ﴾ وشبهها، وتفرد الكسائي بإمالة ﴿ أحيا ﴾ ﴿ فأحيا به ﴾ و﴿ أحياها ﴾ حيث وقع، و﴿ خطاياكم ﴾ و﴿ خطاياهم ﴾ و﴿ خطايانا ﴾ و﴿ رؤيا ﴾ و﴿ رءياي ﴾ و﴿ مرضات الله ﴾ و﴿ مرضاتي ﴾ حيث وقع، ﴿ حق تقاته ﴾ في آل عمران ﴿ هدان ﴾ في الأنعام ﴿ ومن عصاني ﴾ في إبراهيم ﴿ وما أنسانيه ﴾ في الكهف و﴿ آتاني الكتاب ﴾ ﴿ وأوصاني بالصلاة ﴾ في مريم ﴿ مما آتاني الله ﴾ في النمل و﴿ محياهم ﴾ في الجاثية. ﴿ دحاها ﴾ في النازعات ﴿ تلاها ﴾ وطحاها في الشمس و﴿ سجى ﴾ في الضحى.
واتفق الكسائي مع حمزة في إمالة يحيى ﴿ ولا يحيى ﴾ و﴿ أمات وأحيا ﴾ و﴿ الربا ﴾ و﴿ إنني هاني ﴾ و﴿ أتاني ﴾ في هود و﴿ لو أن الله هداني ﴾ و﴿ منهم تقنة ﴾ و﴿ مزجاة ﴾ و﴿ إناه ﴾ وتابعهما هشام في إمالة إناه فقط وفتح الباقون جميع ذلك.
﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ ثلاثون من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى : إني ذاهب إلى ربي، وواعدهم أربعين ليلة واستخلف هارون، وجاء جبريل على فرس الحياة لا يصيب شيئا إلا أحيي ليذهب بموسى إلى ربه، فلما رأى السامري موضع الفرس يخضر وكان رجلا صائغا من أهل باجرمى، وقيل : من أهل كرمان وكان منافقا أظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر أخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرائيل وكان بنو إسرائيل استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم فأهلك الله فرعون وبقيت الحلي عندهم، فلما فصل موسى قال السامري إن الحلي التي استعرتم من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفرا وادفنوا فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه، وقال السدي أمرهم بها هارون فأخذ السامري وصاغها عجلا ثلاثة أيام وألقى القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبرائيل فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر يَخُور خورة ويمشي، فقال السامري :﴿ هذا إلهكم وأله موسى فنسي ﴾١ وكان بنو إسرائيل عدوا اليوم مع الليلة يومين، فلما مضت عشرون يوما ولم يرجع موسى قالوا : مات فوقعوا في الفتنة برؤية العجل وأضلهم السامري، وقيل : كان موسى وعد لهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة وفيها فتنتهم فعبدوا العجل كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل.
﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾ ألها، أظهر ابن كثير وحفص الذال من ﴿ أَخَذْتُ ﴾ و﴿ اتَّخَذَتْ ﴾ وما كان من لفظه حيث وقع والباقون يدعمونها.
﴿ من بعده ﴾ أي موسى يعني بعد ذهابه ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ ضارون أنفسكم واضعون العبادة في غير موضعه.
١ سورة طه، الآية: ٨٨.
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ ﴾ حين تبتم والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس.
﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ الاتخاذ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ لكي تشكرون قيل الشكر هو الطاعة ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال الحسن : شكر النعمة ذكرها، وقال سيد الطائفة جنيد : شكر النعمة صرفها في رضا المنعم، وقيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر، قال البغوي : حكي عن موسى قال : إلهي أنعمت علي النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك، قال الله تعالى : يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه علم حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو مني، وقال داود : سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه، بالعجز عن معرفته معرفة.
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ يعني التوراة ﴿ والفرقان ﴾ قيل : هي التوراة ذكرها باسمين، وقال الكسائي : الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة يعني الفارق بين الحق والباطل، وقيل : أراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المحق والمبطل، أو الشريعة الفارقة بين الحلال والحرام.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ بتدبر الكتاب.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ الذين عبدوا العجل ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أضررتم أنفسكم ﴿ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ ﴾ فارجعوا ﴿ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ أي من خلقكم بريا من التفاوت وميز بعضكم عن بعض بصور وهيآت مختلفة، وأصل التركيب لخلوص الشيء من غيره إما على سبيل التقصي نحو برئ المريض والمديون أو الإنشاء نحو بَرَأَ الله آدم من الطين.
قرأ أبو عمرو ﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ في الحرفين ﴿ ويأمركم ﴾ و﴿ يأمرُهُم ﴾ و﴿ يَنْصُرُكُمُ ﴾ و﴿ يُشْعِرُكُم ﴾ باختلاس حركة الإعراب وقيل بالإسكان فيصير الهمزة ياء على مذهبه، وقرأ الباقون بتمام الحركة وأمال الكسائي ﴿ بَارِئِكُمْ ﴾ بالحرفين ﴿ والبارئ المصور ﴾ و﴿ سارعوا ﴾ و﴿ يُسارعون ﴾ و﴿ يسارع ﴾ حيث وقع والجار في الموضعين وجبارين في الموضعين و﴿ الجوار ﴾ في الشورى والرحمن وكورت ﴿ من أنصاري إلى الله ﴾ في المكانين و﴿ كمشكاة ﴾ في النور وقرأ ورش الجار والجبارين بين بين.
﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي ليقتل البريء منكم المجرم تماما لتوبتكم، ويجوز أن يكون الفاء لتفسير التوبة يعني ﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ هذه توبتكم. ﴿ ذَلِكُمْ ﴾ أي الفعل ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ﴾ أنه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحيلة الأبدية والبهجة السرمدية، فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر بأمر الله، فجلسوا في الأفنية مُختَبِيْنَ، وقيل من حل حَبْوَته أو مد طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردود توبته وسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى قالوا يا موسى كيف نفعل، فأرسل الله ضبابة يعني بخارا متصاعدا من الأرض أو سحباة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا وكانوا يقتلون إلى المساء، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا تضرعا وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل فكشف الله السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فتكشف عن ألوف من القتلى، روي عن علي أنه قال : كان عدد قتلى سبعين ألفا فاشتد ذلى على موسى فأوحى الله تعالى إليه : أما يرضيك أن أدخل القاتل و المقتول في الجنة وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ فتجاوز عنكم متعلق بمحذوف فإن كان من كلام موسى فتقديره إن فعلتم القتل فقد تاب الله عليكم، وإلا فتقديره على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم.
﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ القابل للتوبة يكثر قبولها أو يكثر توفيق التوبة ﴿ الرَّحِيمُ ﴾.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ ﴾ حين أمر الله موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل معتذرين إليه من عبادة العجل فاختار سبعين رجلا من خيارهم، وقال لهم : صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا فخرج بهم إلى طور سيناء، فقالوا له : اطلب لنا نسمع كلام ربنا فلما دنا موسى من الجبل وقع عليهم عمود الغمام وتغشى الجبل كله فدخل في الغمام وقال لهم حين دخلوا في الغمام خروا سجدا، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب فسمعوه وهو يكلمه يأمره وينهاه، وأسمعهم الله أني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام وأقبل إليهم. قالوا ﴿ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ﴾ أي لأجل قولك، أو لن نقر أن الله الذي أعطاك التوراة وكلمك أو أنك نبي ﴿ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ عيانا وهي في الأصل مصدر جهرت بالقراءة، أتعير للمعاينة ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية أو الحال من الفاعل أو المفعول به.
﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ أي الموت وقيل نار جاءت من السماء فأحرقتهم.
﴿ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ينظر بعضكم إلى بعض ما أصابكم بنفسه أو أثره، فلما هلكوا جعل موسى عليه السلام يبكي ويتضرع ويقول ماذا أقول لبني إسرائيل وقل أهلكت خيارَهم :﴿ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ﴾١.
١ الأعراف، الآية: ١٥٥.
فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله تعالى رجلا بعد رجل بعدما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فذلك قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم ﴾ أحييناكم، والبعث : إثارة الشيء من محله ﴿ مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ قال قتادة : أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ نعمة البعث أو ما كفرتموه لما رأيتم بأس الله بالصاعقة.
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ﴾ الغمام من الغم أصله التغطية وهو يعطي وجه الشمس لما لم يكن لهم في التيه كِنُّ يسترهم فشكوا إلى موسى عليه السلام فأرسل الله غماما أبيض رقيقا أطيب من غمام المطر فظلهم من الشمس، وجعل لهم عمدا من نور تضيء لهم بالليل إذا لم يكن قمر ﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾ في التيه، قيل : هو الخبز الرقاق، والأكثرون على أنه الترنجبين، وقال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد فقالوا يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك يطعمنا اللحم فأنزل الله ﴿ والسلوى ﴾ وهو طائر يشبه السماني، وقيل : هو السماني بعث الله تعالى سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض وكان ينزل المن والسلوى كل صباح من طلوح الفجر إلى طلوع الشمس فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يومه وليلته فإذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين ولم يكن ينزل يوم السبت وقلنا لهم ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ حلالات لذيذات ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ولا تدخروا لغد ففعلوا فقطع الله ذلك عنهم وسد ما ادخروه، روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لولا بنو لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحمم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها »١.
﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ فيه اختصار وأصله فظلموا بكفران النعمة وما ظلمونا ﴿ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي ينزل عليهم بلا مشقة في الدنيا ولا حساب في الآخرة.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم﴿٣٣٣٠﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر﴿١٤٧٠﴾.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ قال ابن عباس : هي أٍيحا وهي قرية الجبارين كان فيها بقية عاد يقال لهم العمالقة، وقال مجاهد : بيت المقدس، وقيل : إيليا، وقيل : الشام.
﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ﴾، واسعا نصبه على المصدر أو الحال من الواو أي موسعا عليكم.
﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ ﴾ أي بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب.
﴿ سُجَّداً ﴾ أي خضعا منحنين، قال وهب : أي إذا دخلتموه فاسجدوا لله شكرا.
﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ أي مسألتنا حطة تحط علينا خطايانا، قال ابن عباس : قولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب.
﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ ﴾ من الغفر وهو الستر. قرأ نافع بالياء المضموم وفتح الفاء، وقرأ ابن عامر بالتاء المضموم وفي الأعراف قرأ كلاهما ويعقوب بالتاء المضموم والباقون بالنون المفتوح وكسر الفاء فيهما.
﴿ خَطَايَاكُمْ ﴾ أصله خَطاىءٌ على وزن ذبائح أبدلت الياء الزائدة همزة واجتمعت الهمزتان فأبدلت الثانية ياء عند سيبويه وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء فصار خَطاءِىٌ، وعلى التقديرين أبدلت الياء ألفا وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء.
﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ثوابا، جعل الامتثال تويبة للمسيء وزيادة ثواب للمحسنين، أخرجه عن صورة الجواب إيهاما بأن الامتثال يفعله المحسن البتة.
﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أنفسهم ﴿ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ ظاهر الآية تدل على أن بني إسرائيل لم يبدلوا كلهم ولذا لم يضمروا بل بدل بعضهم بما أمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا، روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :«قيل لبني إسرائيل ﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ فبدلوا فدخلوا يزحفون على أتاههم وقالوا حبة في شعيرة »١.
﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ كرره مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بأن الإنزال عليهم بسبب ظلمهم بوضع غير المأمور به في موضعه، وإتيانهم موجب هلاكهم، قلت : ولعله لتخصيص ذلك العذاب بالذين ظلموا منهم دون سائرهم.
﴿ رجزا ﴾ عذابا، أخرج ابن جرير عن ابن عباس : كل شيء في القرآن من الرجز عني به العذاب، والرجز في الأصل ما يعان عنه ويتنفر عنه الطبع وكذلك الرجس ﴿ مِّنَ السَّمَاء ﴾ قيل أرسل عليهم طاعون فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا، وأخرج ابن جرير عن ابن زيد الطاعون رجو نزل على من كان قبلكم ﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ أي يخرجون من أمر الله تعالى.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة ﴿٢٩٥٦﴾ وقال حديث حسن صحيح.
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ لما عطشوا في التيه فسألوا موسى، ﴿ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ ﴾ وكانت من أس الجنة طلها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حلها آدم من الجنة فتوارثت الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى.
﴿ الحجر ﴾ اللام فيه للعهد، قال ابن عباس : كان حجرا مربعا مثل رأس الرجل كا يضعه في مخلاته، وقال عطاء : كان للحجر أربعة وجوه لك وجه ثلاث أعين لكل سبط عين، قال سعيد بن جبير : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه ليغتسل ففر بثوبه ومر به على ملأ من بني إسرائيل حين رموه بالأردة، فلما وقف أتاه جبرائيل فقال إن الله عز وجل يقول ارفع هذا الحجر فلي فيه قدرة لكم فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مخلاته، وقصة فرار الحجر في الصحيحين وليس فيهما أنه لما وقف أتاه جبرائيل إلى آخره، وأخرج عبد بن حُميد عن قتادة أنه كان حجرا من الطور يحملونه معهم، قيل : كان الحجر من الرخام وقيل كان من الكدان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع كل حفرة عين ماء عذب فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء، وكان يسقي كل يوم ستمائة ألف، أو كان اللام للجنس كما قال وهب أن لم يكن حجرا مُعيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان فيتفجر عيونا، قال عطاء : كان موسى يضربه ثنتي عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة يعرق منه ثم ينفجر الأنهار ثم يسيل.
﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾ متعلق بمحذوف تقديره فإن ضربت انفجرت أو فضرب فانفجرت، قال أكثر المفسرين : انفجرت وانبجست بمعنى واحد، وقال أبو عمرو : انبجست عرقت وانفجرت سالت.
﴿ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا ﴾ على عدد الأسباط ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ ﴾ كل سبط ﴿ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه، وقلنا لهم ﴿ كُلُواْ ﴾ من المن والسلوى ﴿ وَاشْرَبُواْ ﴾ من الماء فهذا كله ﴿ مِن رِّزْقِ اللَّهِ ﴾ الذي يأتيكم بلا مشقة، ﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ ﴾ العثى أشد الفساد ﴿ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ حال مؤكدة، وقال البيضاوي : إنما قيد لأن العثي وإن غلب في الفساد فإنه قد يكون منه ما ليس بفساد كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينةن قلت : ويمكن أن يراد بالعثي مطلق التبذير كما في حديث عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كسرى وقيصر يعثيان فما يعثيان فيه وأنت هكذا، يعني يبذّران المال تبذيرا، وحينئذ قوله تعالى :﴿ مُفْسِدِينَ ﴾ تقييد.
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ يعني ما رزقوا في التيه من المن والسلوى، وأرادوا بالواحد ما لا يتبدل ولا يتغير ألوانه.
﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾ سله ﴿ يُخْرِجْ لَنَا ﴾ مجزوم في جواب ادع ﴿ مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ ﴾ من للتبعيض، وأسند الفعل إلى الأرض مجازا إقامة للقابل مقام الفاعل ﴿ مِن بَقْلِهَا ﴾ وهو ما أنبته الأرض من الخضر ﴿ وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا ﴾ قال ابن عباس : الفوم الخبز، وقال عطاء : الحنطة ﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ الظرف بيان بيان وقع موقع الحال وقيل بدل بإعادة الجار ﴿ قال ﴾ لهم الله أو موسى ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾ أخس وأراد وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف والرفعة.
﴿ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾ يعني المن والسلوى فإنه أضفل وأشرف لكونه بلا تعب في الدنيا وحساب في الآخرة وأنفع للبدن فإن أبيتم إلا ذلك فانزلوا من التيه ﴿ اهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ من الإمصار، وقال الضحاك هو مصر فرعون وانصرف لسكون أوسطه.
﴿ فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ﴾ أي أحطيت بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط مجازاة لهم على كفران النعمة ﴿ الذِّلَّةُ ﴾ الهوان ﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ أي الفقر فإنه يقعد المرء عن الحركة ويسكنه فترى اليهود وإن كانوا مياسير كأنهم فقراء بلباس الذلة وقيل هي فقر القلب والحرص على المال وباؤوا رجعوا ولا يستعمل إلا في الشر.
﴿ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ ﴾ الغضب ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ بالإنجيل والقرآن وآيات التوراة التي في نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾ قرأ نافع بهمزة ﴿ النبئين ﴾ و﴿ النبىء ﴾ و﴿ الأنبياء ﴾ و﴿ النبوؤة ﴾ وترك قالون الهمز في الأحزاب ﴿ للنَّبِيِّ إن أراد { و{ بيوت النبيِّ إلا أن يؤذن ﴾ في الوصل خاصة بناء على أصله في الهمزتين المكسورتين وإذا كان مهموزا فمعناه المخير من أنبأ ينبأ ونبأ ينبأ والباقون بترك الهمزة فحينئذ ترك الهمزة إما أن يكون للتخفيف لكثرة الاستعمال، أو يكون معناه الرفيع من النبوة وهي المكان المرتفع.
﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ يعني في اعتقادهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز القتل وإنا حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا، وإنما قلت ذلك لأن قتل النبي لا يكون إلا بغير الحق، روي أن اليهود قتلت سبعين نبيا في يوم واحد أول النهار ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي الكفر والقتل وإنما جاز الإشارة إلى اثنين بالمفرد بتأويل ما ذكر والذي حسن ذلك أن تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها ليست على الحقيقة ولذلك جاز الذي بمعنى الجمع. ﴿ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ يعني كثرة المعاصي والاعتداء فيه أفضاهم إلى الكفر وقتل الأنبياء، وقيل كرر الإشارة للدلالة على أن لحوق الغضب بهم كما هي بسبب الكفر كذلك بالمعاصي واعتداء حدود الله.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم أعم من أن يؤمنوا بقلوبهم أو لم يؤمنوا فدخل فيهم المنافقون، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أي تهودوا، يقال هاد إذا دخل في اليهودية ويهود إما عربي من هاد بمعنى تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، أو لقولهم :﴿ إنا هدنا إليك ﴾١ وإما معرف يهودا سموا بذلك اسم أكبر أولاد يعقوب عليه السلام. ﴿ والنصارى ﴾ جمع نصران كندمان والياء في النصراني للمبالغة كما في أحمري، سموا بذلك لأنهم نصورا المسيح أو لأنهم نزلوا مع المسيح في قرية يقال لها ناصرة أو نصران.
﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾ قرأ أهل المدينة بغير الهمزة والباقون بالهمزة وأصله الخروج يقال صبا بفلان إذا خرج من دين إلى آخر، وصبا ناب البعير إذا خرج، وهم خرجوا من كل دين، قال عمر وابن عباس : هم قوم من أهل الكتاب فقال عمر يحل ذبائحهم، وقال ابن عباس : لا يحل ذبائحهم ولا مناكحتهم، وقال مجاهد : هم قوم نحو الشام بين اليهود والمجوس من أهل الكتاب، وقال الكلبي : هم بين اليهود والنصارى، وقال قتادة : هم قوم يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كل دين شيئا.
﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ مع محمد صلى الله عليه وسلم بالقلب واللسان، وقيل : المراد بالذين آمنوا قبل البعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نُفيل، وورقة بن نوفل، والبراء الشني، وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، وبحيرا الراهب ووفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه، قال الخطيب : الذين آمنوا بإبراهيم والذين هادوا والنصارى والصابئين الذين كانوا على دين موسى وعيسى قبل النسخ، وحينئذ المراد ﴿ بمن آمن ﴾ أي مات منهم على الإيمان. قلت : ويمكن أن يكون من آمن إشارة إلى الذين كمل إيمانهم بتصفية القلب وتزكية النفس والقالب وهم الصوفية، كما في قوله عليه السلام :«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين »٢ راوه الشيخان وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أنس مرفوعا، وحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه »٣ رواه الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس، وحديث :«لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه »٤ رواه الطبراني وصححه، قال البغوي : ويجوز أن يكون الواو مضمرة أي ون آمن بعدك ﴿ وعمل صالحا ﴾ على حسب أمر الله تعالى.
﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ الذي وعد لهم يعني الجنة لجميع المؤمنين ومراتب القرب والتسنيم وعينا يشرب بها المقربون للكاملين ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الدرجات، ومن مبتدأ خبره ﴿ فلهم أجرهم ﴾ والجملة خبر إن أو بدل من اسم إن وخبره فلهم أجرهم، والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ومنع سيبويه دخولها في خبر إن، ورد بقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ﴾٥.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٥٦.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان﴿١٥﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد﴿٤٤﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه﴿١٣﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير﴿٤٥﴾.
٤ أخرجه الطبراني في الأوسط والضياء في المختارة، قال الهمشي فيه داود بن هلال ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه ضعفا وبقية رجاله رجال الصحيح غير زهير بن عباد وقد ثقه جمع. انظر فيض القدير ﴿٩٩٤٣﴾.
٥ سورة البروج، الآية: ١٠.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ باتباع موسى والعمل بالتوراة ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ وهو الجبل بالسريانية، قال البغوي : وذلك أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فأمر موسى قوله أن يقبلوها ويعملوا بأحكامها فأبوا أن يقبلوها للآصار والأغلال التي فيها، وكانت شريعة ثقيلة، فأمر الله تعالى جبرائيل فقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ فرفه فوق رؤوسهم مقدا قامة الرجل كالظلة وقال لهم : إن لم تقبلوا التوراة أرسلت هذا الجبل عليكم، كذا أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وقال عطاء عن ابن عباس : رفع الله فوق رؤوسهم الطور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم انتهى، وقلنا لهم ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم ﴾ من التوراة ﴿ بقوة ﴾ بجد واجتهاد ﴿ واذكروا ﴾ وارسوا ﴿ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ لكي تتقوا المعاصي أو رجاء منكم أن تكونوا متقين، أو لكي تتقوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، وفصارت سنة في اليهود يسجدون على أنصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا.
أعرضتم عن الوفاء بالميثاق.
﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾ يعني بالإمهال وتأخير العذاب، ويمكن أن يراد فلولا فضل الله عليكم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حيث جعله رحمة للعالمين فبوجوده صلى الله عليه وسلم أمهل الكفار وأخر عنهم العذاب ورفع عنهم الخسف والمسخ.
﴿ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ المغبونين المعذبين في الحال كما كنتم معذبين الهالكين بوقوع الطور لو لم تقبلوا حكم الله حينئذ.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ اللام موطئة للقسم، والسبت في الأصل القطع لأن الله تعالى قطع فيه الخلق، أو لأن اليهود أمروا بقطع الأعمال فيه والتجرد للعبادة والقصة أنهم كانوا زمن داود عليه السلام نحوا من سبعين ألفا بأرض حاضر البحر يقال لها أيلة حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت وابتلاهم بأنه إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك يخرجون خراطيمهم من المال حتى لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فاحتالوا للصيد وحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول فإذا كان يوم السبت أقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا يقدرون على الخروج منها لبعد عمقها وقلة مائها فيصطادون يوم الأحد، وقيل : كانوا ينصبون الحبائل والشوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، وصار أهل القرية ثلاثة أصناف صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة، وكان الناهون اثني عشر ألفا فلما أبى المجرمون قبول نصحهم لعنهم داود وغضب الله عنهم ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ ﴾ أمر تكوين ﴿ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ باعدين مطرودين.
﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ أي تلك العقوبة ﴿ نَكَالاً ﴾ عبرة تنكل أي تمنع المعتبر ومنه النكل للقيد.
﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾ أي لمعاصريهم. ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ أي من بعدهم فما بمعنى من أول لاجل ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناها وما خلفها أي ما أعد لهم من العذاب في الآخرة نكالا لما بين يديها من الذنوب. ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ أول هذه القصة قوله :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾١ وإنما قدمت عليه ليدل بالاستقلال على نوع آخر من مساوئهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال، والقصة أنه كان في بني إسرائيل رجل غني اسمه عاميل وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال له موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى وألقاه بفنائهم، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى عليه السلام فجحدوا فاشتبه الأمر على موسى فسألوه ليبين لهم بدعائه فقال موسى ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ مأخوذ من البقر بمعنى الشق وهي تبقر الأرض للحراثة، ﴿ قَالُواْ ﴾ استبعادا لما قاله واستخفافا به ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ مصدر بمعنى المفعول أي تهزوا بنا، أو حمل مبالغة أو بحذف المضاف أي أهل هزو.
قرأ حفص هُزُواً وكُفُواً بضم الزاي والفاء من غير همز، وحمزة بإسكان الزاي والفاء وبالهمزة وصلا فإذا وقف أبدل الهمزة واوا على أصله والباقون بالضم والهمزة.
﴿ قال ﴾ موسى ﴿ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ فإن الاستهزاء والجواب لاعلى وفق السؤال من عادة الجهال، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج في صورة الاستعاذة استعظاما له فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل وكان حصول المقصود من ذبح البقرة مستبعدا عندهم وزعموا أنها بقرة عظيمة الشأن فاستوصفوها ولم يكن ذلك إلا لفرط حماقتهم، قال رسو الله صلى الله عليه وسلم :«لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم » رواه سعيد بن منصور عن عكرمة مرسلا وأخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا. وكان لله تعالى فيه حكمة، وذلك أن كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل أتى بها إلى غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجل لابني حتى يكبر ومات الرجل فصارت العجل في الغيضة عوانا وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان يقسم الليلة ثلاثة أثلاث يصلي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به إلى السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوما : إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق فادع إله إبراهيم وإسماعيل و إسحاق عليهم السلام أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها تخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تلك البقرة تسمى المذهبة لحسنها وصفوتها، فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت بإذن الله تعالى وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى : إن أمي لم تأمرني ولكن قالت خذ بعنقها فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك، فسار الفتى إلى أمه فقالت له إنك فقير لا مال لك وشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة، قال : بكم أبيعها ؟ قالت : ثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكانت ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر كيف بره بأمه وكان به خبيرا فقال الملك : بكم تبيع هذه البقرة ؟ قال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي، فقال له الملك : خذ ستة دنانير ولا تستأمر والدتك، فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذ إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضى مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمك ؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها، فقال الملك : إني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمهر فأخبرها بذلك، فقال : إن الذي يأتيك ملك يأتي في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتى فقل له أتأمرنا أن يبيع هذه البقرة أم لا، ففعل فقال له الملك : اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منكم لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملأ مسكها دنانير، فأمسكوها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون حتى وصف لهم تلك مكافأة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة، فذلك قوله تعالى. ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾.
١ سورة البقرة، الآية: ٧٢.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ﴾ أي ما حالها، كان حقه أن يقول أي بقرة، أو كيف هي لأن السؤال بما يكون عن الجنس غالبا لكنهم لما رأوا ظهور القتل بذبح أي فرد من جنس البقرة مستبعدا وزعموا أنها بائنة عن سائر البقرات بونا بعيدا حتى يكون كأن جنس آخر أجروه مجرى ما لا يعرفون حقيقته.
﴿ قال ﴾ موسى ﴿ إنه ﴾ أي الشأن ﴿ يقول ﴾ يعني الله تعالى ﴿ إنها ﴾ أي البقرة المأمور بها.
فإن قيل عود الضمير إليها تدل على أن المراد من أول الأمر كانت بقرة معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب ؟ قلت : تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز، وإنما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وأيضا عود الضمير إليها لا يدل على أن المراد كان من أول الأمر ذلك، كيف والمطلقة تدل على الإطلاق ولا دليل هناك على التقييد ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه والسلام :«لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم » لكن يدل على جواز تقييد المطلق المأمور به بعد ما كان جاريا على إطلاق ويكون التقييد في حكم النسخ إن كان متراخيا كما في ما نحن فيه ويجوز النسخ قبل إتيان المأمور به كما في خمسين صلاة وجبت ليلة الإسراء ويكون تخصيصا إن لم يكن متراخيا ما في قوله تعالى :﴿ فصيام ثلاثة أيام ﴾١ في قراءة الجمهور في كفارة اليمين، و﴿ ثلاثة أيام متتابعات ﴾ في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، ولذلك ذهب أبو حنيفة إلى أن المطلق لا يجوز حمله على المقيد إن كانت في حادثتين كما في قوله تعالى :﴿ تحرير رقبة ﴾٢ في كفارة الظهار و﴿ رقبة مؤمنة ﴾٣ في كفارة القتل وكذا إن كانا في حادثة واحدة وكان الإطلاق والتقييد في السبب نحو قوله صلى الله عليه وسلم «أدوا عن كل حر وعبد »٤ وفي حديث آخر :«أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين »٥ فعندنا يجب صدقة الفطر عن عبد مسلم بالحديثين جميعا وعن عبد كافر بالحديث الأول فقط لكن إن كانا في الحكم والحادثة الواحدة يحمل المطلق على المقيد البتة إذ لا سبيل إلى الجمع بينهما إلا به والمطلق يحتمل التقيد ولذا قلنا بوجوب التتابع في صيام الكفارة في اليمين، روى ابن جرير عن أبي هريرة أنه لما نزلت :﴿ ولله على الناس حج البيت ﴾ قال عكاشة بن محصن أكل عام فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد ثلاثا فقال :«لا، ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم »٦ وهذا يدل على أن المطلق يحتمل التقييد ﴿ بقرة لا فارض ﴾ مسنة لا تلد يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض بمعنى القطع كأنها انقطعت سنها ﴿ ولا بكر ﴾ صغيرة لم تلد قط، وتركيب البكر للأولية ومنه الباكورة وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض ﴿ عوان ﴾ أي نصف، قال الأخفش : العوان التي نتجت مرارا يقال عونت المرأة إذا زادت على الثلاثين ﴿ بين ذلك ﴾ أي ما ذكر من الفارض والبكر فإنه يضاف إلى متعدد ﴿ فافعلوا ما تؤمرون ﴾ أي ما تؤمرون بمعنى تؤمرون به أو أمركم أي مأموركم، وفيه حث على المسارعة في الامتثال وتوبيخ على تكرار السؤال.
١ سورة المائدة، الآية: ٨٩.
٢ سورة المجادلة، الآية: ٣.
٣ سورة النساء، الآية: ٩٢.
٤ رواه أحمد و الدارقطني والضياء. انظر كنز العمال ﴿٢٤١٢١﴾.
٥ أخرجه الحاكم وفي أوله من زكاة الفطر فرض على... قال عنه صحيح وأقره الذهبي.
٦ أخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر﴿١٣٣٧﴾ وأخرجه النسائي في كاب: مناسك الحج، باب: وجوب الحج، ﴿٢٦١٠﴾.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾ فاقع تأكيد لصفرة لونها مرفوع على الفاعلية قال ابن عباس شديد الصفرة، وقال الحسن : الصفراء السوداء، وليس بشيء فإن الفقوع خلوص الصفرة ولذلك يؤكد به فيقال أصفر فاقع كما يقال أسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر وأبيض تقق للمبالغة ﴿ تسر الناظرين ﴾ إليها، أي : تعجبهم، والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقع.
﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ تكرير للسؤال الأول واستكشاف زائد وقوله ﴿ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ اعتذار عن أي البقرة الموصوفة بما ذكر كغيره فاشتبه علينا ما يحصل به مقصودنا ولم يل تشابهت لتذكير لفظ البقر. ﴿ وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ إلى ذبحها أو إلى القاتل، واحتج به أصحابنا على أن الحوادث بإرادة الله تعالى والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة، وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد »١ رواه البغوي عن أبي هريرة وأخرجه ابن جرير معضلا.
١ أخرجه الطبري في جامع البيان﴿١٠٣٣﴾.
﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ أي غير مذللة بالعمل.
﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ تقلبها للزاعة.
﴿ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ ﴾ لا زائدة والفعلان صفتا ذلول يعني لا ذلول مثيرة وساقية.
﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾ سلمها الله تعالى من العيوب أو أهلها من العمل.
﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾ أي لون يخالف لون جلدها، وهي في الأصل مصدر على وزن عدة وَشِيَ يَشِيُ وشْيا وشية فهو واش إذا خلط بلونه لونا آخر، قال الجزري : الوشي النقش.
﴿ قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ أي بحقيقة وصف البقرة وتمام بيانها وطلبوها بكمال أوصافها فلم يجدوها إلا مع الفتى فاشتروها بملأ مسكها ذهبا.
﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ فيه اختصار تقديره فحصلوا البقرة فذبحوها ﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ لكثرة مراجعاتهم أو لاختلافهم فيما بينهم أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل أو لعدم وجدانها بتلك الصفات أو لغلاء ثمنها.
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ﴾ هذا أول القصة ﴿ فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ أي تدارأتم وتدافعتم يحيل بعضكم على بعض ويدفع عن نفسه ﴿ وَاللّهُ مُخْرِجٌ ﴾ أي مظهر، أعمل لأنه حكاية مستقبل كما أعمل ﴿ باسط ذراعيه ﴾١ لأنه حكاية حال ماضية ﴿ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ فإن القاتل يكتم القتل.
١ سورة الكهف، الآية: ١٨.
﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ ﴾ عطف على ﴿ فيها ﴾ وبينهما اعتراض والضمير للنفس بتأويل الشخص ﴿ ببعضها ﴾ أي ببعض البقرة أي بعض كان فيه اختصار تقديره فضرب فيحيي، قال ابن عباس : ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقتل، وقيل بعجب الذنب وقيل بلسانها وقيل بفخذه الأيمن فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما وقال قتلني فلان، ثم سقط ميتا فحرم قاتله الميراث وفي الحديث :«ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة ».
﴿ كذلك ﴾ مثل إحياء ذلك القتيل ﴿ يحي الله الموتى ﴾ خطاب لمن حضر حياة القتيل أو نزول الآية والظاهر هو الأول بدليل قوله ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ أيها الحمقاء من بني إسرائيل فإن القادر على إحياء نفس قادر على إحياء الأنفس كلها ولعله تعالى : إنام لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما جرى عادته تعالى في الدنيا بتعليق الأشياء بالأسباب الظاهرة ولما فيه من التقرب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على أن من حق الطالب أن يقرب قرية، والمتقرب ينبغي أن يتحرى الأحسن ويغالي في ثمنه. أخرج أبو داود عن عمر رضي الله عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار.
﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم ﴾ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة والمراد به خروج الرحمة واللين والخير عن قلوبهم، ويترتب عليه طول الأمل ونسيان الذكر واتباع الشهوات، وكلمة ثم لاسبعاد القسوة بعد موجبات الرقة.
﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ يعني إحياء القتيل أو جميع ما عد من الآيات، قال الكلبي : قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله ﴿ فَهِيَ ﴾ في القساوة ﴿ كَالْحِجَارَةِ أو ﴾ بل هي ﴿ أشد ﴾ أزيد منها ﴿ قسوة ﴾ أو أنها مثلها بل مثل هو أشد منها قسوة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وفي أشد من المبالغة ي القساوة ما ليس في أقسى، ويكون أو للتخيير في التشبه أو للترديد من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى وترك ضمير المنفصل عليه لعدم اللبس، وإنما ذكر الحجارة دون الحديد والنحاس لأن الحديد ونحوها تلين بالنار دون الحجارة، ثم بين وجه الخير في الحجارة دون القلب القاسي فقال ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء ﴾ يعني عيونا دون الأنهار فينتفع بها عباد الله بخلاف قلوب الكفار حيث لا منفعة فيها أصلا ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ﴾ من أعلى الجبل ﴿ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ﴾ وقلوبكم تلين ولا تخشع. فإن قيل : الحجر جماد فكيف يتصور منه الخشية، قال البيضاوي : الخشية مجاز عن انقيادها للأوامر التكوينية ؟ قلت : وهذا ليس بشيء فإن الانقياد للأوامر التكوينية موجود في قلوب الكفار أيضا قال الله تعالى :﴿ ختم الله على قلوبهم ﴾١ فهم انقادوا للختم وقال :﴿ ولله يسجد ما في السموات و الأرض طوعا وكرها ﴾٢. وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء » ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك »٣ رواه مسلم، والتحقيق ما قال البغوي : أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لايقف عليه غيره، فلها صلاة تسبيح وخشية قال الله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾٤ وقال :﴿ أكثرهم بهم مؤمنون ﴾٥ وقد مر الكلام في هذا الباب في ذكر عذاب القبر في تفسير قوله تعالى :﴿ ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾٦.
قال البغوي : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله تعالى بذلك وقال له جبل حراء إلي إلي يا رسول الله، وروى البغوي بسنده عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن »٧ هذا حديث صحيح أخرجه موسى، قال وصح عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال :«هذا جبل يحبنا ونحبه »٨ وعن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه فقال :«بينا رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا لحراثة الأرض، فقال الناس : سبحان الله بقرة تكلم  ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أومن به وأبو بكر وعمر وما هما ثم، وقال : بينا رجل في غنم له إذ عدا الذئب على الشاة منها فأدركها صاحبها فاستنقذها، فقال الذئب : فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غير ؟ فقال الناس : سبحان الله ذئب تتكلم  ! فقالك أومن به وأبو بكر وعمر وما هما ثم »٩ متفق عليه.
وصح عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد »١٠ أخرجه مسلم، وروي بسنده عن علي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم نمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله، وروى بسنده عن جابر بن عبد اله يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية تحن كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت »١١. وقال مجاهد لا ينزل الحجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله تعالى.
﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ وعيد قرأ ابن كثير ﴿ يعملون ﴾ بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية.
١ سورة البقرة، الآية: ٧.
٢ سورة الرعد، الأية١٥.
٣ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء﴿٢٦٥٤﴾.
٤ سورة الإسراء، الآية: ٤٤.
٥ سورة النور، الآية: ٤١.
٦ سورة البقرة، الآية: ٢٨.
٧ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة﴿٢٢٧٧﴾.
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو﴿٢٨٨٩﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة﴿١٣٦٥﴾.
٩ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم «لو كنت متخذا خليلا»﴿٣٦٦٣﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه﴿٢٣٨٨﴾.
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما﴿٢٤١٧﴾. وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في الخلفاء﴿٤٦٣٦﴾. وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في مناقب عثمان رضي الله عنه﴿٣٧٠٥﴾.
١١ أخرجه النسائي في كتاب: الجمعة، باب: مقام الإمام في الخطبة﴿١٣٩٢﴾.
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ﴿ أن يؤمنوا ﴾ يعني اليهود ﴿ لكم ﴾ أي لأجل دعوتكم أو يصدقوكم ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ﴾ يعني التوراة ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ أي فهموه بلا ريب كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ إنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة، أو المراد قد كان فرق من أسلافهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، وهذا ما قال ابن عباس أنها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه فهم لما رجعوا بعد ما سمعوا كلام الله إلى قولهم، فأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا، وقالت طائفة منهم سمعنا يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ يعني من اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون وقد مر ذكرهم من قبل ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ من أهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قالوا آمنا ﴾ يعني صدقنا في أنفسنا بأن رسولكم هو المبشر به في التوراة فاتبعوه وآمنوا به، وقال ابن عباس : المراد بهم المنافقون من اليهود ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ كإيمانكم ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ ﴾ إلى كعب بن الأشرف ووهب بن يهود وغيرهم من رؤساء اليهود لاموهم على ذلك ﴿ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ علمه وبينه في التوراة ﴿ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ يوم القيامة أنهم كانوا يعلمون بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ويأمروننا باتباعه ومع ذلك كفروا به علانية أو سرا، وأشار البيضاوي إلى البحث في هذا التقرير وقال : وقيل عند ربكم في القيامة، وفيه نظر إذ الإخفاء لا يدفعها، قلت : نعم الإخفاء لا يدفعها لكنهم لكمال حماقتهم قالوا هذا كما قالوا :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾١ مع ادعائهم بإنزال التوراة على موسى وقد مر في قصصهم من أقوالهم وأفعالهم بعد ما رأوا الآيات البينات من موسى عليه السلام وما لا يقولها إلا مجنون، وكما أن أصحاب الصيب ﴿ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ مع أن جعلهم الأصابع في الآذان لا يجديهم من الصواعق شيئا ويؤيد هذا التفسير تذييل الآية ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ والآية الذي بعده، أو المراد ﴿ ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ أي ليحتج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل ربكم في كتابه جعل محاجتهم بكتاب الله وحكمه محاجة عنده مجازا، كما يقال عند الله كذا ويراد به في كتابه وحكمه كذا، أو كان بحذف المضاف أي عند كتاب ربكم أو عند رسول ربكم، وارتضى البيضاوي هذه التأويلات، وحمل الآية على مقال المنافقين دون من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم من المجهرين بالكفرن قلت : وهذه التأويلا مع ما فيها من التكلفات مشكلة لأن احتجاج المؤمنين على المنافقين لا يتصور في الدنيا فإنهم مستسلمون في الظاهر لا يتصور معهم الخصومة إلا في الآخرة، وقيل : إنهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله على الجنايات فقال بعضهم لبعض أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } أي بما أنزل الله عليكم من العذاب نظيره قوله تعالى ﴿ عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ ﴾٢ أي أنزلنا عليهم ﴿ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ أي ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند ربكم.
قال الله تعالى ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أيها الحمقاء من اليهود إن احتجاج المؤمنين عليكم عند الله لا يتوقف على تحديثكم في الدنيا، أو خطاب للمؤمنين متصل بقوله تعالى :﴿ أفتطمعون ﴾ هؤلاء اللائمين وتقديره : أفلا تعقلون أنهم يحاجوكم.
١ سورة الأنعام، الآية: ٩١.
٢ سورة الأعراف، الآية: ٩٦.
﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ ﴾ هؤلاء اللائمين ﴿ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ فإخفاؤهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنهم الاحتجاج، ويحتمل أن يكون ضمير يعلمون إلى المنافقين فإن نفاقهم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لا يعلمون فالله يعلمه ويجازيهم عليه، أو إلى اليهود أجمعين فإن الله تعالى يعلم إسرار بعضهم بالكفر وإعلان بعضهم وإخفاء نعت محمد صلى الله عليه وسلم تحريف الكلم وسائر ما يعلمون من موجبات غضب الله وعذابه في السر والعلانية.
﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ﴾ أي جهالهم ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ﴾ التوراة ﴿ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ استثناء منقطع، والأماني جمع أمنية وهي في الأصل : ما يقدره الإنسان في نفسه من منى والمراد الأكاذيب التي افتروها أحبارهم كذا قال مجاهد وقتادة، قال الفراء : الأماني الأحاديث المفتعلة ومنه قول عثمان رضي الله عنه ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت، أو المراد إلا ما تمناه أنفسهم من غير حجة مثل قوله ﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾١ وقولهم :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾٢ كذا قال الحسن وأبو العالية، أو المراد به إلا ما يقرؤون الكتاب بألسنتهم غير عارفين في الكتاب منه قوله تعالى :﴿ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾٣ كذا قال ابن عباس، قرأ أبو جعفر ﴿ أماني ﴾ بتخفيف الياء في كل القرآن والباقون بالتشديد ﴿ وإن هم ﴾ ما هم ﴿ إلا ﴾ قوم ﴿ يظنون ﴾ بالتقديد لا علم عندهم.
١ سورة البقرة، الآية: ١١١.
٢ سورة آل عمران، الآية: ٢٤.
٣ سورة الحج، الآية: ٥٢.
﴿ فويل ﴾ أي تحسر وهلاك، قال الزجاج : ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة، وقال ابن عباس : شدة العذاب، وقال سعيد بن المسيب : وي واد في جهنم لو سيرت فيه جبال جهنم لانماعت ولذابت من شدة حره، وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره والصعود جبل من نار جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي »١ فهو كذلك ﴿ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ ﴾ المحرف ﴿ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ تأكيد كقوله كتبته بيميني ﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ عرضا من أعراض الدنيا فإنه وإن جل فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب، وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم فعمدوا إلى صفته في التوراة وكانت صفته فيها حسن الوجه وحسن الشعر أكحل العينين ربعة، فغيروها وكتبوا أطول أزرق سط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرؤوا ما كتبوه فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من المحرف ﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ من المال والأعمال.
١ أخرجه الترمذي القسم الأول منه وفيه ابن لهيعة في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنبياء﴿٣١٦٤﴾.
﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي ﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ المس إيصال الشيء بالبشرة بحيث يتأثر به الحاسة، قال ابن عباس : كانت اليهود يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما، وقال قتادة وعطاء : يعنون أربعين يوما التي عبد فيها آبائهم العجل، وقال الحسن وأبو العالية : قالوا إن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم، فقال الله تعالى لتكذيبهم ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ اتخذتم ﴾ استفهام إنكار، قرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم وأخذتم وما كان مثله من لفظه وأدغم الباقون ﴿ عند الله عهدا ﴾ عهده إليكم أن لا يعذب إلا هذا المقدار ﴿ فلن يخلف الله عهده ﴾ جواب شرط محذوف أي إن اتخذتم عهدا فلن يخلف، وفيه دليل على أن الخلف في وعد الله محال وأنه من الرذائل، قال ابن مسعود : عهدا بالتوحيد يدل عليها ﴿ إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا ﴾١ يعني قول لا إله إلا الله يعني ما قلتم لا إله إلا الله حتى يكون لكم عند الله عهدا ﴿ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ كذبا، أم يحتمل أن تكون متصلة ومنقطعة.
١ سورة مريم، الآية: ٧٨.
﴿ بلى ﴾ إثبات لما نفوه من مساس النار زمانا طويلا.
﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ معصية، والكسب : استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على سبيل التهكم نحو :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾١.
﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ أي استولت عليه وشملت جملة أطرافه صار كالمحاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه، فهذا لا يصدق إلا على الكفار لا على من قلبه وزن ذرة من إيمان، ومن ثم قال ابن عباس والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة : هي الشرك الذي يموت عليه صاحبه، فلا يصح للمعزلة والخوارج الاحتجاج بها على ادعاء خلود مرتكب الكبيرة النار. قرأ أهل المدينة ﴿ خَطِيئَتُهُ ﴾ بالجمع والباقون بالإفراد، وقرأ حمزة في الوقف بإبدال الهمزة ياء والإدغام وكذلك كلما تحركت الهمزة المتوسطة وما قبلها ياء ساكنة زائدة نحو ﴿ هنيئا ﴾ ﴿ مريئا ﴾ ﴿ بريئا ﴾ ﴿ بريئون ﴾ ﴿ خطيئة ﴾ ﴿ خطيئتكم ﴾ وشبهها، وأما إذا كان قبلها ساكن غيرها حركتها إن لم يكن ألفا بحركة الهمزة ﴿ وألقيت ﴾ الهمزة نحو ﴿ شيئا ﴾
و﴿ المشئمة ﴾ و﴿ تجأرون ﴾ ﴿ ويسألون ﴾ و﴿ سئل ﴾ و﴿ الظمآن ﴾ ﴿ والقرآن ﴾ و﴿ مذءوما ﴾ و﴿ مسؤلا ﴾ و﴿ سيئات ﴾ و﴿ الموؤدة ﴾ وإن كان الساكن ألفا سواء كانت مبدلة أو زائدة جعلت الهمزة بعدها بين بين أنت مخير مد الألف وقصرها نحو :﴿ نسائكم ﴾ و﴿ أبنائكم ﴾ ﴿ وماء ﴾ و﴿ غثاء ﴾
﴿ وسواء ﴾ ﴿ وآباؤكم ﴾ و﴿ هاؤم اقرءوا ﴾ و﴿ من ءابائهم ﴾ ﴿ وملائكته ﴾ وإذا كان قبل الهمزة متحركا فانفتحت والكسر ما قبلها أو انضم أبدلتها مع الكسرة يا أو مع الضمة واوا نحو :﴿ ننشئكم ﴾ و﴿ إن شانئك ﴾ ﴿ ولؤلؤا ﴾ و﴿ يؤده ﴾ وإلا جعلتها بين بين ما لم يكن صورتها ياء نحو :
﴿ أنبئكم ﴾ و﴿ سنقرئك ﴾ فإنك تبد لها ياء مضمومة وأما إذا كانت الهمزة توسطت ساكنة فهي تبدل حرفا خالصا حال تسهيلها نحو :﴿ المؤمنون ﴾ و﴿ يؤفكون ﴾ و﴿ الرؤيا ﴾ ﴿ فأولئك أصحاب النار ﴾ ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازموا أسبابها في الدنيا ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
١ سورة آل عمران، الآية: ٢١.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا ﴾ في التوراة ﴿ مِيثَاقَ ﴾ العهد الشديد ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ﴿ لايعبدون ﴾ بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب، وهذا إخبار في معنى النهي كقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾١ فحسن عطف أحسنوا وقولوا عليه، وقال البغوي : معناه أن لا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعا وعلى هذا يدل من الميثاق أو معمول له بحذف الجار، قرأ أبي بن كعب ﴿ لا تعبدوا ﴾ على النهي، وقيل : إنه جواب قسم دل عليه المعنى تقديره خلَّفْناهم لا يعبدون ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ متعلق بمحذوف أي تحسنون بالوالدين أو أحسنوا بالوالدين ويكون معطوفا على لا تعبدون، أو ووصيناهم بالوالدين إحسانا فيكون معطوفا على أخذنا، والإحسان بهما البر بهما والعطف عليهما وامتثال أمرهما ما لم يخالف أمر الله تعالى ﴿ وذي القربى ﴾ عطف على الوالدين والقربى كالحسنى مصدر ﴿ واليتامى ﴾ جمع يتيم، وهو الطفل الذي لا أب له ﴿ والمساكين ﴾ جمع مسكين مفعيل من السكون كأن الفقر أسكنه والإحسان بهم الرحمة عليهم وأداء حقوقهم ﴿ وقولوا للناس ﴾ معطوف على أحسنوا أو تقديره قلنا لهم قولوا عطفا على أخذنا ﴿ حسنا ﴾ أي قولا حسنا، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب حسنا بفتح الحاء والسين على أنه صفة والباقون على المصدر والحمل على المبالغة كزيد عدل، وهذا شامل لكل كلام محمود خبر صادق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبيان صفته كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيره أو أمر بمعروف ونهي عن منكر كما قال الثوري، أو قول لين في المعاشرات وشهادة بحق أو غير ذلك مما يثاب عليه ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أعرضتم عن العهد، فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب خاطب به الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ ﴾ يعني الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام ﴿ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴾ أي قوم عادتهم الإعراض عن وفاء العهود أو المعنى ثم تولت آباؤكم إلا قليلا منهم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأسند الفعل إليه، وحينئذ المعنى وأنتم معرضون كإعراض آبائكم.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٨٢.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ على نحو ما سيق من لا تعبدون أي لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والإجلاء وإنما جعل قتل الرجل أو إخراجه غيره قتل نفسه وإخراجه لاتصاله نسبا ودينا كذا يطلقون في محاوراتهم، وقيل : معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، وقيل معنى لا تخرجون لا تسيئوا في الجوار فتلجؤهم بسوء جواركم ﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ بهذا العهد
﴿ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ على أنفسكم بالميثاق فهو تأكيد، أو المعنى وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فحينئذ أسند الإقرار إليهم مجازا.
﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق ﴿ أنتم ﴾ مبتدأ ﴿ هَؤُلاء ﴾ خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون كقولك أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، نزل تغيير الصفة منزلة تغيير الذات والجملة بعده حال والعامل فيه معنى الإشارة، أو بيان لجملة أنتم هؤلاء أو يقال أنتم مبتدأ وهؤلاء تأكيد والخبر بعده أو يقال هؤلاء بمعنى الذي والجملة صلته والمجموع خبر أنتم أو يقال يا هؤلاء تقتلون ﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء بحذف تاء التفاعل وكذا في التحريم والباقون بالإدغام بين التاء والتائين والظاء، والتظاهر : التعاون من الظهر حال من فاعل يخرجون أو مفعوله أو كليهما ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى ﴾ قرأ حمزة ﴿ أُسارى ﴾ وكلاهما جمع أسير ﴿ تُفَادُوهُمْ ﴾ أي تبادلوهم بمعنى مفاداة الأسير بالأسير وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو جعفر تُفادُوهم بفتح التاء أي بالمال وتنقذوهم وقيل معنى القراءتين واحد، قال السدي : إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد وأمة وجدتموهم من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب سمين فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم النضير وحلفاؤهم، وإذا غلبوا أخربوا ديارهم وأرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم فتعيرهم العرب وتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا إنا أمرنا أن نفديهم فيقولون فلم تقاتلونهم قالوا إنا نستحي أن نستذل حفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله :﴿ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ ﴾ الآية فهو خالفوا في ثلاثة من الأحكام ترك القتل والإخراج والمظاهرة وأخذوا واحدا أي الإفداء ﴿ وهو محرم عليكم ﴾ الضمير للشأن أو راجع إلى ما دل عليه يخرجون من المصدر، أو إلى محذوف تقيدره ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ﴾ مع صدر منكم إخراجهم ﴿ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ ﴾، وعلى التقديرين إخراجهم تأكيد، أو الضمير مبهم يفسره قوله تعالى :﴿ إخراجهم ﴾ ووجه اتصال هذه الجملة ما سبق أنهم حين انقيادهم للحكم بالإفداء ارتكبوا المحرم وهو الإخراج فطاعتهم لا يخلو عن المعصية فضلا عن معصيتهم الخالصة، وبهذا يظهر وجه تخصيص تحريم الإخراج عن المعصية فضلا عن معصيتهم الخالصة، وبهذا يظهر وجه تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون تحريم القتل، وقال البيضاوي : إن الجملة متعلق بقوله تعالى :﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾ وما بينهما اعتراض وحينئذ لا يظهر وجه تخصيص ذكر تحريم الإخراج والله أعلم. ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ ﴾ يعني وجوب الفداء ﴿ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ يعني حرمة القتل والإخراج، قال مجاهد : يقول إن وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك ﴿ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ ﴾ أي الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض ﴿ منكم ﴾ يا معشر اليهود ﴿ إلا خزي ﴾ عذاب وهوان وأصل الخزي ذل يستحى منه ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ فكان خزي قريظة القتل والسبي وخزي النضير الإجلاء إلى أذرعات وأريحا وضرب الجزية هناك عليهم وعلى غيرهم ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ﴾ أي النار المخلد ﴿ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالغيبة على أن الضمير لمن والباقون بالخطاب.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ ﴾ استبدلوا ﴿ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ ﴾ يهون ﴿ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ لا يمنعون من عذاب الله.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ التوراة ﴿ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ أي أرسلنا قفاه رسلا تترى فقوله ﴿ من بعده ﴾ تأكيد لمعنى قفينا لتضمنه معنى البعدية يعني يوشع واشموئيل وشمعون وداود وسليمان وأيوب وشعيا وأرميا وعزيرا وحزقيل، واليسع ويونس وزكريا ويحيى والياس وغيرهم عليهم السلام. ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ الدلالات الواضحات من إبراء الأكمة و الأبرص وإحياء الموتى وغير ذلك أو المراد الإنجيل
﴿ وَأَيَّدْنَاهُ ﴾ قويناه ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ قرأ ابن كثير بسكون الدال والآخرون بضمها والمراد بالروح جبرئيل، أو الروح الذي نفخ في عيسى، والقدس الطهارة مصدر بمعنى الفاعل أي الطاهر وهو الله تعالى، أضافه إلى نفسه تكريما، نحو بيت الله وناقة الله نظيره ﴿ فنفخنا فيه من روحنا ﴾١ أو الإضافة على طريقة حاتم الجود فيكون الطهارة في المعنى صفة للروح وطهارة جبرئيل وعيسى لأجل عصمتهما ولطهارة عيسى عن مس الشيطان، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من بني آدم إلا يسمه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها »٢ متفق عليه، ولأنه لم يشتمل عليه أصلاب الفحول ولا أرحام الطوامث، وتأييد عيسى بجبرائيل أنه أمر أن يسير معه حيث سار حتى صعد به إلى السماء، وقيل المراد بالروح اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى ويري الناس العجائب، وقيل المراد به الإنجيل نظيره ﴿ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾٣ فإن كتاب الله تعالى سبب لحياة القلوب، وعلى هذين التأويلين إضافة الروح إلى الله وتوصيفه بالطهارة ظاهرة، قال البغوي : فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا فقال الله تعالى :﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ ﴾ يا معشر اليهود ﴿ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ ﴾ أي بما لا تحبه، يقال هوى بالكسر إذا أحب والفتح إذا سقط معطوف على الجمل السابقة، ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا من شأنهم، ويحتمل أن يكون استئنافا والفاء للعطف على مقدر كان السائل يقول فما فعلوا بهم فأجاب فكفروا بهم وقال توبيخا أكفرتم بهم فكلما جاءكم الآية ﴿ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ تكبرتم عن الإيمان واتباع الرسل
﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ﴾ كعيسى ومحمد وغيرهما عليه السلام والفاء للسببية أو للتفصيل ﴿ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾ أي قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم، ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فإن الأمر فظيع ومراعاة للفواصل وللدلالة على أنكم تريدون قتل محمد عليه السلام حيث سحرتموه وتقاتلونه لكي تقتلوه.
عن عائشة قالت : سُحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم عندي دعا الله ودعاه ثم قال :«أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته جاءني رجلان جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي، قال فيما ذا ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال : فأين هو ؟ قال : في بئر ذروان، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فقال : هذه البئر التي أريتها، وكان ماؤها نقاعة الحناء وكان نخلها رؤوس الشياطين فاستخرجه »٤ متفق عليه، قلت : ويجوز أن يكون تقتلون بمعناه الاستقبالي أي وفريقا تقتلون في المستقبل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه مات شهيدا لأجل الشاة المسمومة التي أهدتها يهودية من أهل خيبر وحينئذ يكون ذكر من مضى قتلهم من الأنبياء متروكا، أو مقدورا تقديره وفريقا قتلتم وفريقا تقتلون، عن جابر رضي الله عنه فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ارفعوا أيديكم » وأرسل إلى اليهودية فدعاها فقال :«سممت هذه الشاة، فقالت من أخبرك ؟ قال : أخبرتني هذه في يدي الذراع، قالت : نعم قلت إن كان نبيا فلن يضره وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم كاهله من أجل الذي أكل من الشاة »٥ رواه أبو داود والدارمي، وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه «يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم »٦ رواه البخاري، فإن قيل المقتولون منهم داخلون فيمن كذَّبَهم اليهود فما وجه تخصيص التكذيب بفريق منهم ؟ قلت : يظهر بتخصيص التكذيب بفريق منهم أنهم لم يكذبوا فريقا منهم مثل يوشع وعزير، ولا يضركون بعضهم داخلا في كلا الفربقين إذ العطف بالواو والله أعلم.
١ سورة التحريم، الآية: ١٢.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿واذكر في الكتاب مريم﴾﴿٣٤٣١﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام﴿٢٣٦٦﴾.
٣ سورة الشورى، الآية: ٥٢.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الطب، باب: السحر﴿٥٧٦٣﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: السلام باب: السحر.
٥ أخرجه أبو داود في كتاب: الديات، باب: فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات إيقاد منه﴿٤٥٠٢﴾.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته﴿٤٤٢٨﴾.
﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ جمع الأغلف وهو الذي عليه غشاوة خلقية فلا تعي ولا تفقه ما تقول نظيره قوله تعالى :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة ﴾١ كذا قال مجاهد وقتادة، وقيل أصله ﴿ غلف ﴾ بضم اللام خفف ويؤيده قراءة الأعرج وما قرأ ابن عباس بضم اللام وهو جمع فلان أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك كذا قال ابن عباس وعطاء، وقال الكلبي : معناه أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته إلا حديثك فلا يعقله ولا تعيه ولو كان فيه خيرا لوعته وفهمته فرد الله قولهم أي ليس قلوبهم مغشاة في أصل الخلقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه »٢ الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة، وليست أوعية للعلم أيضا ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه ﴾ أي طردهم وأبعدهم عن كل خير وخذلهم ﴿ بكفرهم ﴾ قال الله تعالى :﴿ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾٣ فأنى لهم دعوى العلم والاستغناء ﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ نصب قليلا على الحال وما مزيدة للمبالغة ومعناه فيؤمنون حال كونهم قل قليل أي لا يؤمن منهم إلا أقل قليل فإن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود كذا قال قتادة، أو منصوب على المصدرية يعني إيمانا قليلا يؤمنون، أو بنزع الخافض أي بقليل مما وجب الإيمان به يؤمنون وهو إيمانهم ببعض الكتاب، وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلا، فالقلة مجاز عن العدم.
١ سورة فصلت، الآية: ٥.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام﴿١٣٥٨﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة﴿٢٦٥٨﴾.
٣ سورة محمد، الآية: ٢٣.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ﴾ يعني القرآن ﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ يعني التوراة وجواب لما محذوف دل عليه جواب لما الثانية ﴿ وكانوا ﴾ أي اليهود ﴿ من قبل ﴾ أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ يَسْتَفْتِحُونَ ﴾ يستنصرون ﴿ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أي على المشركي العرب ويقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة، وكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمن نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم، والمعنى أن اليهود كانوا يفتحون على المشركين نعت النبي صلى الله عليه وسلم ويعوفونهم أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه، والسين حينئذ للمبالغة والإشعار أن الفاتح كان يسأل عن نفسه ذلك ﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ ﴾ ما موصولة فاعل جاء والعائد محذوف أي ما عرفوه يعني محمد صلى الله عليه وسلم عرفوه بنعته في التوراة ﴿ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ حسدا أو خوفا على المال والرياسة ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ أي عليهم، أتى بالمظهر للدلالة على سبب استحقاقهم اللعنة فاللام للعهد ويجوز أن يكون للجنس وهم داخلون فيهم.
﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ﴾ ما بمعنى شيئا تمييز لفاعل بئس المضمر فيه واشتروا صفته بمعنى باعوا، وأنفسهم مفعول اشتروا أي بئس ما باعوا به حظ أنفسهم من الآخرة، أو المعنى اشتروا به أنفسهم في ظنهم حيث خلصوها عن الذل بترك الرياسة ﴿ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ ﴾ هو المخصوص بالذم ﴿ بغيا ﴾ مفعول له ليكفروا دون اشتروا للفصل، وأصل البغي الطلب والفساد يقال بغى يبغي بغيا إذا طلب وبغى الجرح إذا فسد، ويطلق الباغي على الظالم لأنه مفسد وعلى الخارج على الإمام لأنه مفسد وطالب للظلم وعلى الحاسد فإنه يظلم المحسود ويطلب إزالة نعمته، والمعنى أنهم يكفرون حسدا وطلبا لما ليس لهم وفسادا في الأرض ﴿ أَن يُنَزِّلُ اللّهُ ﴾ القرآن متعلق ببغيا بتقدير اللام، قرأ ابن كثر أبو عمرو ﴿ ينزل ﴾ وبابه إذا كان مستقبلا مضموم الأول بالتخفيف من الإنزال حيث وقع واستثنى ابن كثير ﴿ وما ننزله ﴾ في الحجر ﴿ وننزل من القرآن ﴾ و﴿ حتى تنزل علينا ﴾ في الإسراء واستثنى أبو عمرو على ﴿ أن ينزل آية ﴾ في الأنعام، والذي في الحجر ﴿ ما ننزل الملائكة إلا بالحق ﴾ مجمع عليه بالتشديد، والباقون بالتشديد من التنزل في الجميع غير أن حمزة والكسائي يخففان ﴿ ينزل الغيث ﴾ في موضعين أحدهما في لقمان والثاني في الشورى ﴿ من فضله ﴾ بال سبق عمل يقتضيه ﴿ على ما يشاء من عباده ﴾ يعني محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ ﴾ بسبب كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ﴿ على غضب ﴾ قد سبق عليهم بكفرهم بعيسى والإنجيل وترك العمل بالتوراة وعبادة العجل وقولهم عزير ابن الله والاعتداء في السبت وغير ذلك ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ يراد به إذلالهم بخلاف عذاب العصاة من المؤمنين فإنه لتطهيرهم عن الذنوب.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ﴾ من القرآن وسائر الكتب الإلهية ﴿ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ أي التوراة ﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ حال عن الضمير في قالوا، والوراء في الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول ويراد به ما يواريه وهو قدامه ولذلك عد من الأضداد، وقد يطلق بمعنى سواء كقوله تعالى :﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ ﴾١ أي سواه ﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ الضمير لما وراءه يعني القرآن والإنجيل ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ من التوراة حال مؤكدة فيه رد لمقالهم، فإنه لما كفروا بما يوافق التوراة، فقد كفروا بها ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ فلم ﴾ أصله لما حذف الألف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم :﴿ فبم ﴾ و﴿ بم ﴾ و﴿ عم ﴾ ﴿ تقتلون ﴾ أي قتلتم وإنما أسند إليهم مع أنه فعل آبائهم لأنهم راضون به وهم في صدد قتل نبيهم ﴿ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي قبل هذا ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ بالتوراة، والتوراة تحكم بأنه إذا
﴿ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾ وتنهى عن تكذيبهم فضلا عن قتلهم، والجزاء محذوف دل عليه ما قبله.
١ المؤمنون، الآية: ٧.
﴿ ولقد جاءكم ﴾ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام بإدغام دال قد في الجيم حيث وقع، وكذا حيث وقع في الذال نحو ﴿ ولقد ذرأنا ﴾، والزاي نحو ﴿ ولقد زينا ﴾، والسين نحو :﴿ قد سمع ﴾، والشين نحو ﴿ قد شغفها ﴾، والضاد المعجمة نحو ﴿ فقد ضل ﴾، والظاء المعجمة نحو :﴿ فقد ظلم ﴾، وأما الطاء المهملة فلم يقع في القرآن بعد دال قد وإلا لأدغمت وكذا أدغموا وكذا أدغموا غير هشام في الصاد المهملة حيث وقع نحو
﴿ ولقد صرفنا ﴾، وتابعهم ابن ذكوان في الأربعة في الذال والزاي والضاد لا غير وورش في الأخيرين فقط وقرأ ابن كثير وعاصم وقالون بغير إدغام في الأحرف الثمانية كلها ويدغم الدال في الدال إجماعا نحو :﴿ وقد دّخلوا ﴾ وكذا في التاء إجماعا نحو :﴿ قد تبين ﴾ إلا أن الحسين روى عن نافع الإظهار عند الحاء ﴿ موسى بالبينات ﴾ بالدلالات الواضحات وهي ﴿ تسع آيات بينات ﴾ وغيرها من المعجزات ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ﴾ إلها
﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد مجئ موسى أو ذهابه إلى الطور ﴿ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ حال بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعباده، أواعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم، وسياق الآية وما بعدها للرد عليهم وفي قولهم ﴿ نؤمن بما أنزل علينا ﴾ والتنبيه على أن طريقتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة آبائهم مع موسى لا لتكرير القصة.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ وقلنا لهم ﴿ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ ﴾ يعني استجيبوا أو أطيعوا سميت الطاعة والاستجابة سمعا إطلاقا للسبب على المسبب ﴿ قالوا سمعنا ﴾قولك ﴿ وعصينا ﴾ أمرك، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما تقلوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول، قلت : وهو الظاهر فإنهم لو قالوا ذلك لم يرفع عنهم الطور ﴿ واشربوا ﴾ يعني تداخل كما يتداخل الضبغ الثوب ﴿ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾ أي حبه ﴿ بكفرهم ﴾ أي بسبب كفرهم، وذلك أنهم لفرط حماقتهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامري ﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ﴾ بالتوراة، والمخصوص محذوف يعني هذا الأمر أو ما تفعلون من القبائح الظاهرة القباحة المذكورة في الآيات الثلاثة ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ تقرير للقدح في دعواهم والجواب محذوف يدل عليه ما قبله تقديره إن كنتم مؤمنين بالتوراة فبئسما يأمركم به إيمانكم هذا الأمر لأن المؤمن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه لكن الإيمان لا يأمر به فلستم بمؤمنين بها، أو إن كنتم مؤمنين بالتوارة ما فعلتم تلك القبائح لكنكم فعلتم فلستم بمؤمنين.
لما كانت اليهود يدعون دعاوي باطلة مثل قوله :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَات ﴾١ و﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾٢ و﴿ نحن أبناء الله وأحباؤه ﴾٣ كذبهم الله تعالى بقوله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ إن كانت لكم ﴾ خبر كان ﴿ الدار الآخرة ﴾ اسمها ﴿ عند الله ﴾ ظرف ﴿ خالصة ﴾ يعني خاصة بكم منصوب على الحال من الدار ﴿ من دون الناس ﴾ سائرهم واللام للاستغراق أو الجنس أو المسلمين واللام للعهد ﴿ فتمنوا الموت ﴾ يعني فاسألوه لأن من أيقن أنه من أهل الجنة ومن أحباء الله تعالى تمنى التخلص إليها من الدار ذات الشوائب واشتاق إلى لقاء الله تعالى. أخرج ابن المبارك في الزهد والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تحفة المؤمن الموت »٤ والذيلمي عن جابر مثله، وعن الحسين بن علي مرفوعا مثله بلفظ :«الموت ريحانة المؤمن » وقال حبان بن الأسود : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب، وهذه الآية والأحاديث تدل على «القبر أول منازل الآخرة »٥ رواه الترمذي وابن ماجة عن عثمان مرفوعا، وعلى أن الوصل بلا كيف مع الله تعالى يحصل بعد الموت قبل القيامة فوق ما كان حاصلا في الدنيا ولولا ذلك لما كان في تمني الموت فائدة ولم يكن الموت جسرا موصلا إلى الحبيب، وقيل معنى الآية ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة فهي نظيرة آية الابتهال، روي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لو تمنوا الموت لفص كل إنسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات » أخرجه البيهقي في الدلائل وكذا أخرجه البخاري والترمذي عنه مرفوعا بلفظ :«لو تمنوا الموت لماتوا »٦ وأخرج بن أبي حاتم وابن جرير عنه موقوفا نحو، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فيما ادعيتم والجزاء محذوف دل عليه ما قبله.

فصل


هل يجوز التمني بالموت والدعاء به ؟ والحواب أنه إن كان لضر نزل به في مال أو جسم أو أهل أو ولد فلا يجوز لحديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد متمنيا فليقل : الله أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي »٧ متفق عليه، وفي رواية لهما «إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد عمره إلا خيرا » وعن أبي هريرة مرفوعا «لا يتمنين أحدكم الموت إما محسنا فلعل أن يزداد وإما مسيئا فلعل أن يستعتب »٨ رواه البخاري، وعنه «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه أنه إذا مات انقطع عمله وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا »٩ رواه مسلم، وروي النهي عن تمني الموت أحمد والبزار والبيهقي عن جابر والمروزي عن القاسم مولى معاوية وعن ابن عباس، وأحمد وأبو يعلى والحاكم والطبراني عن أم الفضل وأحمد عن أبي هريرة كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يعلم أن المنهي عنه إنما هو التمني للموت باللسان والسؤال به دون التمني بالقلب والرغبة إليه فإن الكف عنه غير مقدور فلا تكليف عليه.
وأما إن كان التمني لخوف الفتنة في الدين فلا بأس به، أخرج مالك والبزار عن ثوبان في دعائه صلى الله عليه وسلم :«وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون » وأخرج مالك عن عمر أنه قال : اللهم قد ضعفت قوتي وكبر سني وانتشر رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مقصد، فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض، وأخرج الطبراني عن عمرو بن عنبسة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا يتمنى أحدكم الموت إلا أن لا يثق بعلمه فإن رأيت في الإسلام خصال فتمنوا الموت وإن كان نفسك في يدك فأرسلها : إضاعة الدم وإمارة الصبيان وكثرة الشرط وإمارة السفهاء وبيع الحكم ونشوء يتخذ القرآن مزامير »١٠ وأخرج ابن عبد البر في التمهيد أنه تمني الموت فلما قيل له لم تتمنى وقد نهي عنه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«بادروا بالموت ستا إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم ونشوء يتخذون القرآن مزامير » وأخرج الحاكم عن ابن عمر وابن سعد عن أبي هريرة نحوه، وقد تمنى بالموت لخوف الفتنة بعض السلف، رواه ابن سعد عن خالد بن معدان، وابن عساكر وأبو نعيم عنه وعن مكحول وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي جحيفة، وابن أبي الدنيا والخطيب وابن عساكر عن أبي بكرة، وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة، والطبراني وابن عساكر عن العرباض بن السارية.
وأما إن كان التمني شوقا إلى لقاء الله تعالى فذلك محمود، أخرج ابن عساكر عن ذي النون المصري قال : الشوق أعلى المقامات وأعلى الدرجات إذا بلغها العبد استبطأ الموت إلى ربه وحبا إلى لقائه والنظر إليه :
أروم وقد طال المدى منك نظرة-وكم من دماء دون مرماي ظلت
قلت : وهو المقصود بالخطاب إلى البهود حيث قال :﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ﴾ شوقا إلى لقاء ربكم ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وروى ابن سعد والشيخان عن عائشة قالت :«كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخر بين الدنيا والآخرة، قالت أصابت رسول الله صلى الله عليه شديدة في مرضه فسمعته يقول :﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ﴾ فظننت أنه خير »١١ وروي النسائي عنها قالت : أغمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجري فجعلت أمسحه وأدعوا له بالشفاء بهذه الكلمات أذهب البأس رب الناس فأفاق فانتزع من يدي فقال :«بل أسأل الله الرفيق الأعلى » وأخرج الطبراني أن ملك الموت جاء إلى إبراهيم ليقبض روحه فقال إبراهيم يا ملك الموت هل رأيت خليلا يقبض روح خليله فعرج الموت إلى ربه فقال قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله يقبض روح خليله فعرج ملك الموت إلى ربه فقال قل له هل رأيت خليلا يكره لقاء فقال اقبض روحي الساعة، وقال يوسف :﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾١٢ وعن علي أنه قال : لا أبالي أسقط على الموتت أو يسقط الموت علي، أخرجه ابن عساكر في تاريخه، وعن عمار قال أنه قال بصفين : الآن ألاقي الأحبة محمدا صلى الله عليه وسلم وحزبه أخرجه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الدلائل، وقال حذيفة حين اختضر : جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم، أخرجه ابن سعد عن الحسن فإن قيل روى أحمد عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكرنا " ورققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء فقال : يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟ فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال : يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك حسن علمك فهو خير لك »١٣ وهذا الحديث يدل على أن تمني الموت لا يجوز وإن لم يكن لأجل ضر نزل به في ماله أو جسمه أو نحو ذلك فإن سعدا لم يتمن إلا لخوف عذاب الله، قلت : نعم لكن الموت لا يغني من عذاب الله شيئا بل لا بد لذلك من الاستغفار والمبادرة في الأعمال الصالحة والاجتناب عن المعاصي ومن ثم نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت.
والتحقيق في ذلك أن التمني بالموت عند خوف المعصية والتقصير في الطاعة جائز قطعا لا ريب فيه، وأما من غير ذلك بل شوقا إلى لقاء المحبوب فقد وقع عن بعض السلف عند الاختضار كما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن خليل الرحمن عليه السلام وعن عمار وحذيفة وغيرهم أنه إذا حضرهم الموت ولم يبق لهم طمع في ازدياد الأعمال اشتاقوا إلى الله لقاء ذي الجلال، عن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة أو بعض أزواجه : إنا لنكره الموت، قال : ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب أليه مما أمامه فأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن كان كافرا إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله فكره الله لقاءه »١٤ متفق عليه، وأما في حالة الصحة فلم يرد عن السلف التمني بالموت إلا عند خوف الفتنة والتقصير كما روينا عن عمر رضي الله عنه ويحمل عليه ما روي عن علي رضي الله عنه أو عند غلبة الحال وذلك في الأولياء غالبا دون الأنبياء ومن في معناهم من أصحاب الصحو من الصديقين والأولياء، فإنهم مع شدة شوقهم إلى لقاء الرحمن يغتنمون ازدياد الحسنات.
فإني في الوصال عبيد نفسي-وفي الهجران مولى للموالي
وأما اليهود فلشدة جهلهم وعنادهم لما كانوا يدعون أنهم أحباء الله تعالى وأنهم غير محتاجين إلى الأعمال قيل لهم إن كنتم صادقين في دعواكم لا بد لكم من تمني المنى، ولما كانوا كاذبين في دعواهم رد الله تعالى عليهم قولهم وقال ﴿ ولن يتمنوه أبدا ﴾ في هذه الجملة إخبار، بالغيب معجزة على اليهود.
١ سورة آل عمران، الآية: ٢٤.
٢ سورة البقرة، الآية: ١١١.
٣ سورة المائدة، الآية١٨.
٤ سند الديلمي لا بأس به، وقال الحاكم صحيح رواه الذهبي بأن فيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي ضعيف وإسناده جيد عند الطبراني.
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد﴿٢٣٠٨﴾، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت والبلى ﴿٤٢٦٧﴾.
٦ أخرجه أحمد في المسند من حديث جابر بن عبد الله وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: علامات النبوة، باب: تأييده صلى الله عليه وسلم على أعدائه من الإنس والجن﴿١٣٨٧٣﴾.
٧ أخرجه البخاري في كتاب: المرضى، باب: تمني المريض الموت﴿٥٦٧١﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به﴿٢٨٠﴾.
٨ أخرجه البخاري في كتاب: المرضى، باب: نهي تمني المريض الموت﴿٥٦٧٣﴾ وأخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: تمني الموت﴿١٨١٠﴾.
٩ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به﴿٢٦٨٢﴾.
١٠ رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم. انظر مجمع الزوائد في كتاب: التوبة، باب: تمني الموت لمن وثق بعمله وتمنيه عند فساد الزمان ﴿١٧٥٦٩﴾.
١١ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته﴿٤٤٣٨﴾. وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها﴿٢٤٤٤﴾.
١٢ سورة يوسف، الآية: ١٠١.
١٣ رواه أحمد والطبراني وفيه يزيد بن علي الألهاني وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد في كتاب: التوبة، باب: ما جاء في طول عمر المؤمن والنهي عنه تمنية الموت﴿١٧٥٤٤﴾.
١٤ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: من أحب الله لقاءه﴿٦٥٠٧﴾وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه﴿٢٦٨٦﴾.
﴿ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾ في هذه الجملة إخبار، بالغيب معجزة على اليهود.
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وتحريف التوراة وغير ذلك من الأعمال، ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان آلة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها أكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة وعن القدرة أخرى.
﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾ تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في عدواهم.
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ اللام لام القسم، والنون لتأكيد القسم، وتجد من أفعال القلوب مفعوله الأول ضمير الغائب ومفعوله الثاني أحرص، وبتنكير حياة أٍيد فرد من أفرادها وهي المتطاولة ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ معطوف على الناس من حيث المعنى كأنه قال أحرص من الناس ومن الذين أشركوا أو على أحرص ويكون متعلقا بمحذوف دل عليه ما قبله يعني أحرص من الذين أشركوا، وإفرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس للمبالغة والاهتمام كما في عطف جبرائيل على الملائكة، فإن حرص المشركين شديد إذ لم يعرفوا إلا الحياة الدنيا وزيادة حرصهم على الدنيا مع إعراضهم عن الآخرة وهم عالمون بالجزاء بخلاف المشركين دليل على كما مصابرتهم على النار ففيه زيادة توبيخ ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ قبل لو مصدرية بمنزلة أن إلا أنها لا تنصب فهو مفعول يود، وقال البيضاوي : لو بمعنى ليت وكان أصله لو أعمِّر فأجري على الغيبة لتوله يود كقولك حلف بالله ليفعلن، فحينئذ كلمة التمني حكاية لودادهم فحذف مفعول يود لما يدل عليه ما بعده وفيه بيان لزيادة حرصهم على سبيل الاستئناف ويحتمل أن يكون جملة يود صفة لمبتدأ محذوف والظرف المستقر يعني من الذين أشركوا خبره تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم لو يعمر ألف سنة  والمراد من الذين أشركوا اليهود القائلون عزير ابن الله، وقال أبو العالية و الربيع : أراد بالذين أشركوا المجوس فإن تحية بينهم –زي هزاء سال- فقال سبحانه اليهود أحرص الناس فهم أحرص من المجوس والمجوس يريد ألف سنة، وأصل سنة سنوة بدليل سنوات وقيل سنه ﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِه ﴾ بمباعده ﴿ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾ ضمير هو راجع إلى أحدهم وأن يعمر فاعل مزحزحه والمعنى وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره أو إلى مصدر يعمر بدل منه، أو ضمير مبهم أن يعمر تفسيره. فإن قيل : طول العمر في الدنيا مباعد للعذاب الأخروي البتة فكيف يحكم بعدم التبعيد ؟ قلت : لما كان ألف سنة بل تمام عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة المؤبدة كساعة من النهار أو كلمح البصر بالنسبة إلى الزمان المتناهي لم يعتد التبعيد الحاصل بتعمير حيث لا يزيدهم طول عمرهم إلا العذاب ﴿ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ فيجازيهم، قرأ يعقوب بالتاء للخطاب مع اليهود والباقون بالياء للغيبة انتهى.
أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق عن الشعبي عن عمر أنه كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة فيتعجب كيف يصدق ما في القرآن، قال : فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نشدتكم بالله أتعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عالمهم : نعم نعلم أنه رسول الله، قلت فلم لا تتبعونه ؟ قالوا : سألناه من يأتيه بنبوته فقال : عدونا جبرائيل لأنه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك، قلت : فمن سلمكم من الملائكة ؟ قالوا : ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة، قلت وكيف منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر بالجانب الآخر، قلت : فإنه لا يحل لجبرائيل أنه يعادي ميكائيل ولا يحل لميكائيل أن يسالم جبرائيل وإني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن أخبره فلما لقيته قال : ألا أخبرك بآيات نزلت علي فقرأ ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ حتى بلغ ﴿ الكافرين ﴾ قلت : يا رسول الله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم فوجدت الله قد سبقني » وإسناده صحيح إلى الشعبي واعتضد الطرق بعضها ببعض لكن الشعبي لم يدرك عمر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر : من كان عدوا له وملائكته ورسله وجبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوه، قال فنزلت على لسان عمر، وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك. وروى البخاري عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يحترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ننزع الولد إلى أبيه وإلى أمه ؟ قال : أخبرني بهن جبرائيل آنفا، قال نعم، قال ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية*. قال الشيخ ابن حجر ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردا على قول اليهود ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ وهذا هو المعتمد، وأخرج أحمد و الترمذي والنسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي فذكر الحديث، وفيه أنهم سألوا عما حرم إسرائيل على نفسه وعن علامة النبي وعن الرعد وصوته وكيف تذكر المرأة وتؤنث وعمن يأتيه بخبر السماء إلى أن قالوا فأخبرنا من صاحبك ؟ قال : جبرائيل، قالوا : ذلك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فنزلت. وقال البغوي بلا سند بلا سند أنه قال ابن عباس : إن حبرا من الأحبار يقال له عبد الله بن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أي ملك يأتيك من السماء ؟ قال : جبرئيل، قال : ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبرئيل عادانا مرارا أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بخت نصر وأخبرنا بوقته فبعثنا رجلا ليقتل بخت نصر حين كان غلاما مسكينا ببابل فدفع عنه جبرائيل وكبر بخت نصر وخرب بيت المقدس. وقال مقاتل : قالت اليهود إن جبرئيل عدونا لأنه أمر أن يجعل النبوة فينا فجعل في غيرنا، قلت ولعل القصتين وقعتا معا قبل نزول الآية. لقي عمر مع اليهود فكلمهم ما كلمهم ولقي اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فكلموه فنزل الآية. قرأ ابن كثير جِبْرِيل هنا في الموضعين وفي التحريم بفتح الجيم وكسر الراء من غيرهم، وقرأ أبو بكر بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء جَبْرَئِلَ، وقرأ حمزة والكسائي مثله إلا أنهما يجعلان ياء بعد الهمزة جَبْرَءِيْلَ والباقون بكسر الجيم والراء من غير ذكر المرجع لفخامة شأن وتبادر الذهن إليه كأنه لم يحتج إلى سبق في الذكر ﴿ على قلبك ﴾ يا محمد، فإن القابل للوحي أولا القلب وكان الحق قلبي ولكنه جرى على حكاية كلام الله تعالى ﴿ بإذن الله ﴾ بأمره حال من فاعل نزل ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب ﴿ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أحوال من مفعوله والظاهر أنه جواب الشرط ﴿ فإنه نزَّله ﴾ والمعنى من كان عدوا لجبرئيل فإنه خلع عن عنقه ربقة الإنصاف وكفر بما معه من الكتاب لأن جبرئيل نزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب فحذف الجواب وأقيم علته مقامه، أو المعنى من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليه، وقيل : جواب الشرط محذوف فليمت غيظا، أو فهو عدو معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى، قرأ حفص ويعقوب وأبو عمرو ميكائيل بغير همز ولا ياء، ونافع بهمزة بلا ياء ميكائيل والباقون بالياء بعد الهمز بِيْكائِيلَ.
﴿ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن الله تعالى عاداهم لكفرهم وعلى أن عداوة الملائكة والرسل كفر.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس أنه قال قال ابن صوريا ما جئتنا بشيء نعرفه فأنزل الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴾ المتمردون في الكفر، فإن الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كأنه متجاوز عن حده واللام للجنس أو العهد إشارة إلى اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : قال مالك بن الصّيف لمَّا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أُخِذ علينا الميثاق وما عهد إليهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم ما عهد إلينا في محمد ولا أخذ علينا الميثاق، فأنزل الله تعالى ﴿ أوكلما ﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما ﴿ عاهدوا ﴾ يعني اليهود ﴿ عهدا ﴾ لئن خرج محمد صلى الله عليه وسلم لنؤمنن به يدل عليه قراءة أبي الرجاء العطاردي أو كلما عوهدوا، وقال عطاء : في العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود أن لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بني قريظة والنضير قوله تعالى :﴿ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم ﴾* ﴿ نَّبَذَهُ ﴾ نقضه وطرحه ﴿ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ وإن لم ينقض كلهم، ولما توهم هذا الكلام أن النابذين هم الأقلون قال ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ بالله أو بالتوراة فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا.
﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ ﴾ كعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ﴿ مصدق لما معهم ﴾ من التوارة ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ ﴾ يعني التوراة ﴿ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾ ولم يعلموا به ولو عملوا به لآمنوا بكل نبي، مثل لإعراضهم وعدم التفاتهم إلى أحكام التوراة في الإيمان والنصر لمن جاء بعدها من الأنبياء بإعراض من يرمي شيئا خلفه فلا يلتفت إليه ﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ أنه كتاب الله أو لا يعلمون بما فيه ولكنهم يتجاهلون عنادا.
﴿ واتبعوا ﴾ أي عملوا يعني اليهود وتحدثوا وتعلموا، عطف على نبذ أي نبذوا كتاب الله واتبعوا كتب السحر والشعوذة بل عطف على الشرطية فإن تقييد الاتباع بمجئ الرسول غير ظاهر ﴿ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ﴾ حكاية حال ماضية معناه ما تلت والعرب يستعمل الماضي موضع المستقبل وبالعكس مجازا، وتتلوا إما مشتق من التلاوة بمعنى القراءة أو من التلو بمعنى التعبعية يعني اتبعوا كتب السحر التي كانت تقرأها الشياطين من الجن والإنس وتتبعها وتعمل بها ﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ متعلق بتتلوا على تضمين الافتراء أي تتلوا الشياطين مفترين على ملك سليمان قائلين بأن ملكه كان به وحينئذ يرتبط ﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ﴾ ارتباطا تاما أو يكون على بمعنى في أي في وقت سطلنته، قال البغوي : قال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فيسعون كلام الملائكة فيما بكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها، فاكتتب الناس وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، وبعث سليمان عليه السلام وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفعه تحت كرسيه وقال لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وذفنه الكتب، وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال له أدلكن على كنز لا تأكلونه أبدا احفروا تحت الكرسي فأٍراهم المكان وقام ناحية وذلك أنه لم يكن يدنو شيطان من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا الكتب، قال الشيطان إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذه ؛ ثم طار الشيطان وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك. قلت : والظاهر أن ما دفعه سليمان كان كتب السحر دون ما ألقته الشياطين إلى الكهنة مما سمعته من الملائكة في الحوادث اليومية فإن ذلك الكهانة ولا يفيد ذلك بعد مضي الدهور حين استخرجوها بعد موت سليمان، وقال الكلبي : إن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس إنما ملككم سليمان بهذا، فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان، وأما السفلة فقالوا هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان حتى برأه الله في القرآن وقال ﴿ وما كفر سليمان ﴾ يعني ما سحر سليمان فيكفر، عبر عن السحر بالكفر ليدل على أن السحر كفر وأن ما كان نبيا كان معصوما عنه ﴿ ولكن الشياطين كفروا ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف نون لكن ورفع ﴿ الشياطين ﴾ والباقون بالنون المشددة ونصب ﴿ الشياطين ﴾ وكذلك ﴿ ولكن البرًّ ﴾، وكذلك في الأنفال ﴿ ولكن الله قتلهم ﴾ ﴿ ولكن الله رمى ﴾ ﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ حال من الضمير في كفروا، والسحر : علم بألفاظ وأعمال يتقرب بها الإنسان إلى الشياطين تصير بها الشياطين مسخرات له فيعينونه على ما يريد وتؤثر تلك الألفاظ والأعمال في النفوس والأبدان بالأمراض والموت والجنون وتخيل في الأسماع والأبصار، كما سمعت في سحرة فرعون أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى وليس تلك التأثيرات إلا بخلق من الله تعالى ابتلاء منه، وقيل : إنها تؤثر في قلب الأعيان أيضا فيجعل الإنسان حمارا والحمار كلبا. قال البغوي : السحر وجوده حق عند أهل السنة ولكن العمل به كفر، وقال الشيخ أبو منصور : القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما ثبت بالشرع قطعا فهو كفر وإلا فلا، قال البغوي حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره انتهى، وقول الشافعي أيضا يدل على أن السحر بعضها كفر دون بعض، وكذا ما في المدارك حيث قال : إن السحر الذي هو كفر يقتل عليه للذكور دون الإناث يعني عند الحنفية في المرتد وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطرق ويستوي فيه الذكور والإناث ويقبل توبته إذا تاب وإن كان سحره كفرا ومن قال لا يقبل توبته فقد غلط فإن سحرة عرفون قلبت توبتهم مع كونهم كفارا انتهى، قلت : وتعبير الله سبحانه السحر بالكفر وقوله :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ كل ذلك يدل على أن ألفاظ السحر وأعماله كلها أو عامتها من موجبات الكفر ومناقضا لشرائط الإيمان، وينبغي أن يكون كذلك فإن الشيطان لا يرضى من الإنسان إلا بالكفر فلا يتصور التقرب إليه وتسخيره إلا به نعوذ بالله منه وما قال الشافعي والشيخ أبو منصور رحمهما الله فمبني على الاحتمال العقلي.
فائدة : واعلم بأنه من قتل إنسانا لا يحل قتله أو أضره بسلب نعمة البدنية أو المالية أو غير ذلك بالسيق والدعاء وإن كان ذلك بأسماء الله تعالى الجلالية وإن لم يكن ذلك كفرا فهو فاسق البتة وحكمه حكم قطاع الطريق قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾* وقال عليه السلام :«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده »*متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، من هذا القبيل دعوة بلعم من باعور على موسى عليه السلام وسيجيئ قصته في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ﴾*الآية.
﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ﴾ عطف على السحر أو على ما تتلوا، والمراد بالمعطوف والمعطوف وعليه واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو لأنه نوع آخر أقوى منه ﴿ ببابل ﴾ ظرف أو حال من الملكين أو من الضمير في أنزل، قال ابن مسعود : بابل أٍرض الكوفة وقيل جبل دماوند، وهذا يدل على أن السحر أيضا من العلوم المنزلة من السماء ابتلاء من الله تعالى هو الهادي والمضل يفعل ما يشاء، والمأمور به غير ما أراد وشاء فالله تعالى امتحن الناس بالملكين فمن شقي تعلم السحر منهما وكفر بالله ومن سعد تركه وبقي على الإيمان، وكان الملكين يذكران بطلان السحر ويصفان ويأمران بالاجتناب عنه والله أعلم، وقيل : ما نافية وقد كانت اليهود يقولون إن السحر من العلوم المنزلة من السماء على الملكين فرد الله سبحانه تعالى قوله وقال ﴿ وما أنزل ﴾ يعني السحر على ﴿ الملكين ﴾ عطفا على ﴿ وما كفر سليمان ﴾، وحينئذ قوله تعالى :﴿ ببابل ﴾ متعلق بيعلمون الناس السحر ﴿ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ عطف بيان للملكين على التقدير الأول كما هو الظاهر، وقيل بدل من الشياطين بدل البعض على تقدير يركون ما نافية ﴿ وما يعلمان ﴾ يعني هاروت وماروت ﴿ من أحد ﴾ يعني أحدا ومن زائدة ﴿ حتى يقولا ﴾ ناصحين على تقدير كونهما ملكين ﴿ إنما نحن فتنة ﴾ ابتلاء من الله وامتحان ﴿ فلا تكفر ﴾ أي لا تتعلم السحر فتكفرأطلق المسبب على السبب، قيل إنهما كانا يقولان ذلك سبع مرات، قال عطاء والسدي : فإن أبي إلا التعلم قالا له ائت هذا الرماد قبُاُ عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك الإيمان والمعرفة وينزل شيء أسود شبيه بالدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله نعوذ بالله منه، وعلى التقدير الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنا مفتونان فلا تكن مثلنا، قلت : وهذا القول نصيحة يستبعد أن يصدر من الشياطين ومن ثم قلنا إن الأول هو الظاهر ﴿ فيتعلمون ﴾ الضمير لما دل عليه من أحد ﴿ منهما ﴾ أي هاروت وماروت والجملة معطوفة على مقدر وتقديره فيأبون فيتعلمون أو هي معطوفة على ﴿ يعلمون الناس السحر ﴾ أي يعلمونهم فيتعلمون ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ أي من السحر ما يبغض كل منهما صاحبه ﴿ وما هم ﴾ أي السحرة أو الشياطين ﴿ بضارين به ﴾ أي بالسحر ﴿ من أحد ﴾ أي أحد ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ يعني بقضائه وقدره ومشيئته فإن الأسباب كلها أسباب ظاهرية عادية غير مؤثرة بالذات، بل جرت عادة الله سبحانه بخلق التأثيرات والتأثرات بعد وجود الأسباب إن شاء ﴿ ويتعلمون ما يضرهم ﴾ أي السحر فإنه موجب لكفرهم ﴿ ولا ينفعهم ﴾ شيئا، وفيه إشارة إلى أن تعلم العلوم الغير النافعة كالطبيعي والرياضي ونحو ذلك مكروه لإضاعة الوقت، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع »*رواه الحاكم في المستدرك في حديث ابن مسعود.
فائدة : العلم الذي لا ينفع نوعان : نوع منه لا ينفع أحدا من الناس حيث لا يتصور الانتفاع به كالطبيعي ونحوه، ونوع منه لا ينفع العالم إذا لم يعمل بعلمه والله أعلم، وأما العلوم الضارة فلا شك في حرمتها كالسحر والشعبذة والإلهيات الفلاسفة إلا إذا كانت بنية صالحة.
وذكر البغوي عن ابن عباس والكلبي وقتادة وغيرهم في شأن هاروت وماروت قصة أن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من سيئات بني آدم عيروهم فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم مثل ما ركبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا، فقالوا سبحانك ما لنا أن نعصيك، قال : فاختاروا من خياركم فاختاروا هاروت وماروت وعزائيل، فركَّب الله فيهم الشهوات وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنى وشرب الخمر، فأما عزائيل لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه سأل أن يرفعه إلى السماء فأقاله فسجد أٍبعين سنة ولم يزل بعد مطأطيا رأسه حياء، وأما الآخران فكانا يقضيان بين الناس فإذا أمسيا ذكرا اسم اله تعالى الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم امرأة تسمى زهرة وزوجها وكانت ملكة من أهل فارس فعَشقا عليها فراوداها عن نفسها فأبت وقالت لا إلا أن تعبدا الصنم وتقتلا النفس تعني زوجها وتشربا الخمر فعرضت عليهما حتى شربا الخمر وزنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه، فمسخ الله الزهرة شهابا فلما أمسا هاروت وماروت بعد ما ارتكبا المعاصي وأراد الصعود ما طاوعتهما أجنحتهما فقصدا إدريس النبي عليه السلام وسألاه أن يشفع لهما إلى الله فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعها، فهما ببابل يعذبان معلقان بشعورهما في جب ملئت نارا، روى ابن راهويه وابن مردويه عن علي قوله صلى الله عليه وسلم :«لعن الله الزهرة فإنما هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت »*والله أعلم.
وهذه القصة من أخبار الآحاد بل من الروايات الضعيفة الشاذة ولا دلالة عليها في القرآن بشيء وفي بعض روايات هذه القصة ما يأباه النقل والعقل، وهو ما حكي عن الربيعة بن أنس أه مسخ الله الزهرة كوكبا وصعدت إلى السماء حين تعلمت الاسم ال
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ﴿ واتَّقَوْا ﴾ عذاب الله بترك المعاصي والسحر ﴿ لَمَثُوبَةٌ ﴾ كلام مبتدأ ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾أن ثواب الله خير والكلام فيه كالكلام فيما سبق.
أخرج بن المنذر أنه كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول الله من المراعاة أي ارعنا سمعك أي فرّغ سمعك لكلامنا، يقالى أرعى إلى الشيء وأرعاه إذا أصغى إليه واستمعه، أو المعنى راعنا أي راقبنا وتأنّ بنا فيما تلقينا حتى نفهمه، والرعي حفظ الغير لمصلحته، وكان هذا اللفظ سبا قبيحا بلغة اليهود، قيل : كان معناه اسمع لا سمعت وقيل كان معناه يا أحمق من الرعونة فسمع اليهود فخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بنية السب ويضحكون فيما بينهم لعنهم الله، ففطن بها سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال : لئن سمعتكم تقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتلنكم، فقالوا : أو لستم تقولونها ؟ فأنزل الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ﴾ يعني انظر إلينا واسمع كلامنا أو انتظر وتأنًّ بنا حتى نفهم كلامك ﴿ واسمعوا ﴾ ما تؤمرون به وأطيعوا، أو المعنى أحسنوا لاستماع مع جمع حتى لا تحتاجوا إلى طلب المراعاة
﴿ وللكافرين ﴾ يعني اليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنهم الله ﴿ عذاب أليم ﴾ أي مؤلم.
كان المسلمون يقولن لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالت اليهود ما هذا الذي تدعوننا إلأيه بخير مما نحن عليه ولوددنا لو كان خيرا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الود المحبة الشيء مع تمنيه ولذلك استعمل في كل منهما، ومن للبيان ولا زائدة عطف على أهل الكتاب ﴿ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ مفعول يود من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للابتداء والخير الوحي، والمعنى أنهم يحسدونكم ولا يودون أن ينزل عليكم ﴿ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ﴾ بنبوته ﴿ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ الفضل ابتداء إحسان بلا علة.
ولما قال المشركون إن محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ما يقوله إلا من تلقاء نفسه فأنزل الله تعالى ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ من بيانية، والنسخ : عبارة عن شيئين أحدهما النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب وثانيهما الرفع والإزالة يقال نسخت الشمس الظل، والمراد ههنا الثاني وهو في الحقيقة بيان لانتهاء التعبد بقراءتها فقط دون حكمها مثل آية الرحمن أو بحكمها المستفاد من ها فقط دون قراءتها مثل آية الوصية للأقارب وآية عدة الوفاة بالحول، أو بهما جميعا كما قيل إنها كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما، ثم المنسوخ حكمها منها ما أقيم غير ذلك الحكم مقامه كما في وصية الأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة بالحول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر ومنها ما لم يقم غيره مقامه كامتحان النساء، والنسخ إنما يعترض الأوامر والنواهي دون الأخبار. قرأ الجمهور بفتح النون والسين من نَسَخَ أي نرفعها، وقرأ ابن عامر بضم النون وكسر السين من الإنساخ أي نأمرك أو جبرئيل بنسخها أو تجدها منسوخة وما شرطية جازمة لنسخ منتصبة على المفعولية ﴿ أو ننسها ﴾ قرأ ابن كثير أبو عمرو بفتح النون الأول والسين مهموز أي نؤخر حكمها ونرفع تلاوتها كما في آية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم، أو المعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ يعني لم ننزلها عليك، فمعنى النسخ الرفع بعد الإنزال ومعنى النساء عدم الإنزال وقرأ الباقون نُنُسِهَ بضم النون وكسر السين من الإنساء والنسيان ضد الحفظ أي نمحها عن قلبك، روي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن قوما من الصحابة رضوان الله عليهم قاموا ليلة ليقرؤوا سورة فلم يذكروا منها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك السورة رفعت بتلاوتها وأحكامها، وقيل : معناه نتركها أي لا ننسخها كما قال الله تعالى ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾* يعني تركوه فتركهم وهذا غير مستقيم لقوله تعالى :﴿ نأت بخير منها ﴾ فإنها تدل على إزالتها ﴿ نأت بخير منها ﴾ في النفع للعباد وبالسهولة أو كثرة الثواب لا أن آية خير من آية فإن كلام الله واحد كله خير ﴿ أو مثلها ﴾ في ذلك ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ استفهام تقرير أي أنك تعلم، واحتج بهذه الآية من يمنع النسخ بلا بدل أو بدل أثقل منه أو نسخ الكتاب بالسنة، وأجيب بأنه قد يكون عدم الحكم أصلح وأن ما هو الأثقل فهو أنفع من حيث الثواب، وأن السنة أيضا مما آتاه الله تعالى وعلمه لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو كالدليل على قوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ وعلى جواز النسخ ولذلك ترك العاطف ﴿ وما لكم ﴾ يا معشر الكفار عند نزول العذاب ﴿ من دون الله ﴾ مما سواه ﴿ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ الولي القريب وهو قد يضعف عن النصر والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه والله أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال : قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه أو فجر لنا الأرض عيونا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله تعالى ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ﴾ وقال البغويك نزلت في اليهود حين قالوا آتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل نزلت في المشركين حين قالوا :﴿ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه ﴾* وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا فقال نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم فأبوا ورجعوا فنزلت، وأخرج السدي قال : سألت العرب محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة فنزلت، وكذا قال البغوي : أنه قيل سألوه فقالوا : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، وأخرج السدي عن أبي العالية قال قال رجل : يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما أعطاكم الله خيرا كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزي في الدنيا وإن لم يكفرها كانا له خزي في الآخرة وقد أعطاكم الله خيرا من ذلك قال الله تعالى :﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾* والصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، فأنزل الله تعالى :﴿ أم تريدون ﴾ الآية، وأم منقطعة ومعناه بل أتريدون والمراد به التوصية بعدم الاقتراح بالسؤال، قال البغوي : أم بمعنى الهمزة يعني أتريدون والميم زائدة وقيل : بل تريدون، ويمكن أن يقال : إنها متصلة داخلة على الجملة للتسوية بين الجملتين معطوفة على الهمزة في قوله تعالى :﴿ ألم تعلم ﴾، والخطاب فيه وإن كان إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لكن المراد به هنا وأمته أمة الإجابة أو الدعوة لقوله تعالى :﴿ وما لكم من دون الله ﴾ وإنما أفرد لأنه صلى الله عليه وسلم أعلمهم ومبدأ علمهم فالتقدير ألم تعلموا له ملك السماوات والأرض قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون ذلك وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى، وهذا إنما يستقيم إن كان نزول الآيتين في واقعة دفعة واحدة وأما على تقدير اختلاف شأن نزولهما فلا، ومنع السكاكي كونها متصلة وقال علامة كون أم متصلة وقوع المفرد بعدها وكونها منقطعة وقوع الجملة بعدها ﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ سأله قومه ﴿ أرنا الله جهرة ﴾ ﴿ ومن يتَّبدَّل ﴾ أي يستبدل
﴿ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ أي ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴾ حتى وقع في الكفر بعد الإيمان والمعنى لا تقترحوا فتضلوا.
قال البغوي : قال نفر من اليهود لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : لو كنتم على الحق ما هزمتهم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم الحديث فنزلت ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في حيي وأبي ياسر بني أخطب من اليهود وكانا من أشد يهود حسدا للعرب إذا خصهم الله تعالى برسوله وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا ﴿ لَوْ يَرُدُّونَكُم ﴾ يا معشر المؤمنين، لو مصدرية تنوب أن في المعنى دون العمل في اللفظ فهو مفعول ودَّ أو هو بمعنى ليت حكاية وبيان لودادهم ﴿ مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ﴾ مرتدين حال من ضمير المخاطبين ﴿ حسدا ﴾ منصوب على أنه علة ود، أو على المصدرية أي يحسدونكم حسدا ﴿ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم ﴾ معلق بود، أي تمنوا ذلك من خبث أنفسهم لم يأمرهم الله تعالى بذلك، أو حسدا أي حسدا منبعثا من عند أنفسهم ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ بالمعجزات ومعرفة النعوت المذكورة في التوراة ﴿ فاعفوا ﴾ فاتركوهم ﴿ واصفحوا ﴾ وتجاوزوا، كان هذا قبل الأمر بالقتال ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ الذي هو الإذن في القتال وضرب الجزية وقيل قتل قريظة وإجلاء بني النضير ﴿ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فيقدر على الانتقام منهم.
﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ عطف على فاعفوا يعني اتركوهم وخالفوهم بالإلجاء إلى الله تعالى بالعبادة ﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ ﴾ صلاة أو صدقة أو غير ذلك ﴿ تجدوه ﴾ أي ثوابه ﴿ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
﴿ وَقَالُواْ ﴾ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ لف بين قولي الفريقين اعتمادا بفهم السامع، أي قال اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ولا دين إلا دين اليهودية، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ولا دين إلا النصرانية حين اجتمع وفد نجران في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود فكذب بعضهم بعضا، قال الفرّاء : هودا بمنعى يهودا حذف الياء الزائدة، وقال الأخفش : الهود جمع هائد كعود جمع عائد وَحَّدَ ضمير اسم كان وجمع الخبر نظرا إلى اللفظ والمعنى ﴿ تلك ﴾ يعني مودتهم أن لا ينزل عليكم خير من ربكم المستفادة من قوله تعالى :﴿ ما يود الذين كفروا ﴾*الآية وقوله تعالى :﴿ دَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ﴾*الآية، وأن لا يدخل الجنة إلا هم، أو المضاف محذوف أي أمثال تلك الأمنية عين لا يدخل الجنة إلا هم ﴿ أمانيهم ﴾ أي شهواتهم الباطلة جمع أمنية أفعولة من التمني كالأضحوكة والأعجوبة، والجملة معترضة ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هاتوا ﴾ أصله آتوا قلبت الهمزة هاء ﴿ برهانكم ﴾ على اختصاصكم بدخول الجنة ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في دعواكم فإن الدعوى على أمر مستقبل بلا برهان باطل كاذب والجواب محذوف دل عليه ما قبله.
﴿ بلى ﴾ يعني ليس كما قالوا ﴿ من أسلم ﴾ أي أخلص ﴿ وجهه ﴾ والمراد به نفسه أو قصده ﴿ لله ﴾ وحده ﴿ وهو محسن ﴾ يعبد ربه بالإخلاص كأنه يراه كذا مر تفسير الإحسان في المتفق عليه من حديث تعليم جبرئيل ﴿ فله أجره ﴾ الذي وعده على عمله ثابتا ﴿ عند ربه ﴾ والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت مصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط والوقف على بلى وبها تم الرد إن كانت شرطية وكذا يحتمل إن كانت موصولة، ويحتمل أن يكون الموصول مع صلتها فاعل فعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم، وحينئذ فله أجره جملة مبتدأة معطوفة على ما سبق ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ في الآخرة.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد و عكرمة عن ابن عباس أنه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا، فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شيء وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل، وقال رجل من أهل نجران لليهود ما أنتم على شيء وجحدوا بنبوة موسى عليه السلام والتوراة فأنزل الله تعالى ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ يصح ويعتد به ﴿ وهم ﴾ والحال أنهم ﴿ يتلون الكتاب ﴾ أي التوراة التي يصدق عيسى والإنجيل، أو الإنجيل التي يصدق موسى والتوراة
﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي مشركوا العرب وغيره من عبدة الأوثان والمجوس والقرون الخالية من الكفار حيث كذب كل طائفة غيرها وإن كانوا على الحق ﴿ مثل قولهم ﴾ بيان لمعنى ذلك ﴿ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ أي يقضي بين الفريقين وغيرهم ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي يكذبهم ويدخلهم النار ويصدق أهل الحق ويُدخلهم الجنة.
أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد أن مشركي مكة لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنزل الله تعالى ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ من مبتدأ استفهام وأظلم خبره والمعنى لا أحد أظلم ﴿ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ ﴾ إنما أورد لفظ الجمع وإن كان المنع واقعا على مسجد واحد لأن الحكم عام وإن كان المورد خاصا ﴿ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ثاني مفعولي منع كما في قوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ﴾* أو لخافض محذوف أي من أن يذكر أو منصوب على العلية أي كراهة أن يذكر ﴿ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ بالتعطيل عن ذكر الله فإنهم لما منعوا من يُعمره بالذكر فقد سعوا في خرابه وكذا ذكره البغوي عنه وعن عطاء، وذكر عن قتادة والسدي أن المراد بمن منع مساجد الله وسعى في خرابها طيطوس بن اسبسيانوس الرومي وأصحابه حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوسي فغزوا اليهود قتلوا مقاتليهم وسبوا دراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وذبحوا فيه الخنازير وألقوا فيه الجيف وكان بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم. قلت : ولعل الغرض من ذلك تعيير النصارى بما فعل آباؤهم وهم به راضون كما أن الغرض من ذكر ما صدر من أسلاف اليهود من عبادة العجل وغير ذلك تعييرهم.
﴿ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ ﴾ في علم الله وقضائه ﴿ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ فيه وعد للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم، وقد أنجز الله وعده حين فتح مكة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا لا يحجن بعد العام مشرك، وفتح الروم على عمر بن الخطاب وكان بيت المقدس خرابا فبناه المسلمون، وقيل هذا خبر بمعنى الأمر أو النهي أي قاتلوهم حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي أو لا تمكنوهم من الدخول في المساجد، وقيل المعنى ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن تخريبها وحينئذ الجملة في محل النصب على الحال من فاعل منع وسعى، ﴿ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ قتل وسبي وذلة بضرب الجزية ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ النار المؤبدة بكفرهم وظلمهم.
﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ أي له الأرض كلها مشارقها ومغاربها ملكا وخلقا والمخلوقات كلها مظاهر وجوده ومجال نوره وهو نور السماوات والأرض وقيم الأشياء فلا يختص به مكان دون مكان، وإنما أمر القبلة أمر تعبدي والتكليف إنما هو بقدر الطاقة فإذا لم تقدروا على استقبال القبلة في الفرائض لعَدُوٍّ، أو اشتبه القبلة وتحريتم فيها وعلطتم فيه، أو تحرجتم في نوافل السفر في النزول عن المراكب والامتناع من السير وأمر النوافل أسهل من أمر الفرائض ﴿ فأينما ﴾ شرط ﴿ تُوَلُّواْ ﴾ مجزوم به أي إلى أي جهة تولوا يعني وجوهكم والجواب ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ أي جهة المأمور باستقبالها يعني قبلة الله كذا قال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل، وقيل : رضا الله، وقيل : هي من المتشابهات كقوله تعالى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾* و﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾* أخرج ملسم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت به وهوجاء من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر ﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾*، وقال مجاهد : أنزلت هذه الآية وأخرج الحاكم عنه قالت أنزلت :﴿ فأينما تولوا فتم وجه الله ﴾ أن يصلي حيثما توجهتك راحلتك في التطوع، وقال صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نزول هذه الآية حين تحولت القبلة وقالوا :﴿ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ وإسناده قوي، قلت : والأول أصح سندا ومعنى فإن جواب ما ولاهم نازل هناك حيث قال :﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾* وفي شأن نزول الآية روايات أخر ضعيفة منها ما أخرج الترمذي وابن ماجه والدارقطني حيدث ربيعة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وما أخرج الدارقطني والبيهقي حديث جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول صلى الله عليه وسلم فسكتت فأنزل الله تعالى :﴿ ولله المشرق والمغرب ﴾ الآية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه وفيه فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة، ومنها ما أخرج ابن جرير عن مجاهد قال لما نزلت :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾* قالوا إلى أين فنزلت الآية ﴿ إن الله واسع ﴾ بإحاطة نوره وجوده الأشياء كلها منا مشارق الأرض ومغاربها إحاطة غير متكيفة ولا مدركا كنهها، قال المجدد رضي الله عنه في حقيقة الصلاة أنها وسعة ذاتية بلا كيف لا تدرك كنهها ﴿ عليم ﴾ بأعذار العباد ومصالحهم ونياتهم.
﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً ﴾ نزلت في يهود المدينة قالوا : عزير ابن الله وفي نصارى نجران قالوا : المسيح ابن الله وفي مشركي العرب قالوا الملائكة بنات الله، قرأ ابن عامر قالوا بلا واو باعتبار أن استئناف قصة أخرى والجمهور بالواو عطفا على قالت اليهود أو عليّ منع أو على مفهوم من أظلم يعني ظلموا أو قالوا ﴿ سبحانه ﴾ أسبحه سبحانا وأنزهه تنزيها من ذلك فإن التوليد يقتضي التشبه والتجزؤ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :«كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا »*رواه البخاري، وروي عن أبي هريرة نحوه وفيه :«أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بأني وليس أول الخلق بأهون على من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد » ﴿ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ خلقا وملكا فيكف يتصور التوالد حيث لا مجانسة بين المخلوق الممكن المحتاج في الوجود وتوابعه الهالد في نفسه والخالق الواجب الغني القيوم المتأصل بوجوده ﴿ كل ﴾ ما في السموات والأرض ﴿ له قانتون ﴾ أي قائمون بالشهادة على توحيده مقرُّن بعبوديته فإن الممكن يشهد ويدل أنه عبد محتاج إلى خالق واجب واحد لايماثله ممكن فهو نظير قوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾* لا يفقه شهادتهم وتسبيحهم وتحميدهم إلا أرباب القلوب بمشاعر قلوبهم التي يدرك بها حياتهم أو أرباب العقول المستدلين بذواتهم واحتياجاتهم، وأصل القنوت القيام قال عليه السلام :«أفضل الصلاة طول القنوت »*رواه مسلم وأحمد و الترمذي، أو المعنى أنهم مطيعون. روى أحمد بسند حسن عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة »، قلت : يعني لا يمتنعون عن مشيئته وتكوينه وكلما هذا شأنه لا يجانس الواجب، وجاء بما لشموله لما لا يعقل وقال قانتون تغليبا لذوي العقول، أو لأنه لما أثبت لهم القنوت التي هي هيئة أٍرباب العقول جمعهم على هيئتهم، وقيل معناه كلما زعموه إلها من المسيح وعزير والملائكة كلهم له قانتون مطيعون مقرون بالعبودية فيكون إلزاما بعد إقامة الحجة.
﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي مبدعها وخالقها وخالق كل شيء كما هو خالق ما فيهما أو المعنى بديع سمواته وأرضه ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ أي أراد شيئا، وأصل القضاء الفراغ ومنه إطلاقه على إتمام الشيء قولا كقوله تعالى :﴿ وقضى ربك ﴾*أو فعلا كقوله تعالى :﴿ فقضاهن سبع سماوات ﴾* ويطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود شيء من حيث إنه يوجبه ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ من كان التامة لعدم الخبر أي أحدث فيحدث، وأما كون الشيء موصوفا بصفة فليس مدلولا لهذه الآية، قرأ الجمهور فيكون بالرفع استئنافا وعطفا على يقول في جميع المواضع غير أن الكسائي تابع ابن عامر في النحل ويس فنصب، وقرأ ابن عامر فيكون بالنصب في جميع المواضع إلا في آل عمران :﴿ كن فيكون الحق ﴾ وفي سورة الأنعامك ﴿ كن فيكون قوله الحق ﴾ وإنما نصبها بتقدير أن بعد الفاء في جواب الأمر، وههنا مباحث أحدها أنه لا يجوز الخطاب مع المعدوم وأجيب بأنه لما قدر وجوده كان كالموجود فصح الخطاب، وقال ابن الأنباري. معنى إنما يقول له أي لأجل تكوينه فعلى هذا لم يبق معنى الخطاب، وقال ابن الأنباري. معنى إنما يقول له أي لأجل تكوينه فعلى هذا لم يبق معنى الخطاب، وقال البيضاوي : ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال بل تمثيل لحصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف وفيه تقرير لمعنى الإبداع. ثانيها أن نصب يكون بتقدير أن يقتضي أن يكون صيغة الأمر بمعناه حق يقدر بعده بعد الفاء أن في جوابه وليس الأمر كذلك بل هو على سبيل تمثيله بسرعة حصول المراد فكيف يتصور النصب ؟ وأجيب : بأن نصبه على جواب الأمر بالفاء في ظاهر اللفظ وإن لم يكن في المعنى كذلك. ثالثها أن من شرائط تقدير أن سببية ما قبل الفاء لما بعده وحينئذ يلزم أن يكون للممكن كونان، وأجيب عنه بأن المراد بالكون الأول الوجوب مجازا إطلاقا بالمسبب على السبب فإن الممكن ما لم يجب لم يوجد فتقديره ليكن وجوب ذلك لاشيء موجودة. قلت : ويمكن الجواب بأن المراد بالكونين كونه في دار العمل السبب وكونه في دارالجزاء المسبب لكن هذا التأويل يقتضي الاختصاص بالمكلفين وسياق الآية يقتضي العموم، والصواب أن يقال في الجواب المراد بالكونين كونه في مرتبة الأعيان الثابتة بوجود علمي وكونه في الخارج الظلي بوجود ظلي كذا قالت الصوفية العلية ولا يلزم من كون مرتبة الأعيان الثابتة حادثة حدوثا ذاتيا، وعلى هذا التأويل هذه الآية تدل على التوحيد الشهودي كما قال به المجدد رضي الله عنه دون التوحيد الوجودي كما قال به الشيخ الأكبر محيي الدين العربي قدس سره أن الممكنات ما شمت رائحة الوجود يعني في الخارج والله أعلم.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ قال ابن عباس : المراد به اليهود، وكذا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل للله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، وقال مجاهد : المراد به النصارى، وإنما نفى العلم عن الفريقين لتجاهلهم، وقال قتادة المراد به الأميون من مشركي العرب ﴿ لولا ﴾ هلا، وكذا كل ما في القرآن لولا فهو بمعنى هلا إلا في قوله تعالى :﴿ فلولا كان من المسبحين ﴾*معناه فلو لم يكن. ﴿ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ ﴾ كما يكلم الملائكة وكلم موسى فلا يحتاج إلى رسول ويكلمنا بأنك رسوله ﴿ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ﴾ حجة على صدقك والأول استكبار والثاني جحودا لما أتاهم من الآيات استهانة وعنادا ﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ أي أسلاف اليهود والنصارى ﴿ مثل قولهم ﴾ فقالوا ﴿ أرنا الله جهرة ﴾ وقالوا :﴿ هل يستطيع ربك أن يُنزل علينا مائدة من السماء ﴾* ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي شابهت قلوب الأخلاق قلوب الأسلاف في العمى والعناد ﴿ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ أي يطلبون اليقين بما هو الحق عند الله تعالى خصهم لأن منفعة الآيات راجعة إليهم إلى المجادلين عُتوا وعنادا.
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ﴾ متلبسا ﴿ بالحق ﴾ ومؤيدا به، قال ابن عباس : المراد بالحق القرآن قال الله تعالى ﴿ بل كذبوا بالحق لما جاءهم ﴾* بشيرا لأهل الطاعة ﴿ ونذيرا ﴾ مخوفا لأهل المعصية ﴿ وَلاَ تُسْأَلُ ﴾ قرأ نافع ويعقوب على صيغة النهي المبني للفاعل، والباقون بالرفع على النفي المبني للمفعول ﴿ على أصحاب الجحيم ﴾ هو معظم النار والمعنى على قراءة الجمهور أن لا تسأل أنهم لم لم يؤمنوا إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، وعلى قراءة نافع النهي عن السؤال كناية عن شدة عقوبة الكفار يقال لا تسأل عن شر فلان فإنه فوق ما تحسب أو أنه عسير مفزع سماعها، وما ذكر البغوي أنه قال عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي » فنزلت هذه الآية، وقال عبد الرزاق أخبرني الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عنه، وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج أخبرني داود بن عاصم عنه فذكرا نحوه فليس بمرضي عندي وليس بقوي، ولو صح ذلك فهذا زعم من ابن عباس فإنه لو سلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليت شعري ما فعل أبواي » ونزلت في هذا اليوم تلك الآية اتفاقا فلا دليل فيه على أن المراد بأصحاب الجحيم أبواه صلى الله عليه وسلم، وعلى تقدير التسلميم فتلك الآية تدل على كفرهما فإن المؤمن قد يكون من أصحاب الجحيم لاكتساب بعض المعاصي حتى تدركه المغفرة بشفاعة شافع أو دون ذلك أو يبلغ الكتاب أجله، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه »* رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وقال صلى الله عليه وسلم :«ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما فأخرجت من بين أبوي ولم يصبني شيء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيتُ إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيرم أبا » رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث أنس وأبو نعيم في دلائل النبوة من حديث ابن عباس نحوه، وقد صنف الشيخ الأجل جلال الدين السيوطي رضي الله عنه في إثبات إسلام آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذت من تلك الرسائل رسالة فذكرت فيها ما يُثبت إسلامهم ويفيد أجوبة شافية لما يدل على خلافه لله الحمد.
﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ الملة : ما شرع الله لعباده على لسان أنبيائه، من أمللت الكتاب إذا أملأته، قيل إنهم كانوا يسألون الهدنة ويطمعونه أنه إن أمهلهم يؤمنوا فنزلت، وأخرج الثعلبي عن ابن عباس : أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي إلى قبلتهم فلما صرف القبلة إلى الكعبة أيسوا منه فزلت، وفي الآية مبالغة في إقناط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم يعني أنهم يريدون أن تتبع ملتهم فكيف يتبعونك، ولعلهم قالوا مثل ذلك ولذا لقن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم جوابهم حيث قال ﴿ قل إن هدى الله ﴾ الذي هو الإسلام ﴿ هو الهدى ﴾ أي الحق لا ما يدعون إليه ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم ﴾ الهوى رأي يتبع الشهوة ﴿ بعد الذي جاءك من العلم ﴾ أي الوحي أو الدين المعلوم صحته ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ يدفع عنك عقابه.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ أي القرآن، قال قتادة وعكرمة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم المؤمنون عامة أو المراد به مؤمنوا أهل الكتابين، قال ابن عباس : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا، وقال الضحاك : هم الذين آمنوا من اليهود منهم عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسيد وأسد ابنا كعب بن يامين وعبد الله بن صوريا، فحينئذ الموصول للمعهود ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ الضمير راجع إلى الكتاب أي يتلون الكتاب بمراعاة اللفظ عن التحريف التدبر في معناه والعمل بمقتضاه وقال الكلبي : الضمير راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم أي يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس، وهذا على تقدير كون المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب، وقوله تعالى : يتلونه حق تلاوته حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر، وقوله تعالى ﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ خبر بعد خبر أي بكتابهم أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ ﴾ أي بالكتاب بالتحريف أو بالكفر بما يصدقه أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٢٢ ) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( ١٢٣ ) ﴾ لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعمة والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف عن الساعة وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القصة والمقصود منها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٢:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٢٢ ) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( ١٢٣ ) ﴾ لما صدر قصتهم بالأمر بذكر النعمة والقيام بحقوقها والحذر عن إضاعتها والخوف عن الساعة وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وإيذانا بأنه فذلكة القصة والمقصود منها.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ قرأ هشام إبراهم في جميع هذه السورة وهي خمسة عشر، في النساء ثلاثة وهي الأخيرة، وفي الأنعام الحرف الأخير، وفي التوبة الحرفان الأخيران، وفي إبراهيم حرف، وفي النحل الحرفان، وفي مريم ثلاثة أحرف، وفي العنكبوت الحرف الأخير، وفي الشورى حرف وفي الذاريات حرف، وفي النجم حرف وفي الحديد حرف وفي الممتحنة الحرف الأول، فذلك ثلاثة وثلاثون حرفا وجملته تسع وستون، وقرأ ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين والباقون إبراهيم بالياء في الجميع، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء وهو يستلزم الاختبار فظن ترادفهما المراد بكلمات مدلولاتها وهي الأوامر والنواهي، قال عكرمة عن ابن عباس : هي ثلاثون سهما هن شرائع الإسلام لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم فكتب له البراءة فقال :﴿ وإبراهيم الذي وفى ﴾*عشر في براءة ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾*وعشر في الأحزاب :﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ ﴾* وعشر في المؤمنين وسأل سائل ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ { ١ ﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿ ٢ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴿ ٣ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴿ ٤ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿ ٥ ﴾ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿ ٦ ﴾ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ﴿ ٧ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿ ٨ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿ ٩ ﴾ }*الآية ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ { ٣٣ ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ }* وقال طاووس : ابتلاه الله بعشرة أشياء هي الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في البدن تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء، وقال الربيع وقتادة : مناسك الحج، وقال الحسن : ابتلاه الله بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها وبالمجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها، وقال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان قواعد البيت ربنا وتقبل منا فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقال يمان بن رباب : هن محاجة قومه قال الله تعالى :﴿ وحاجه قومه ﴾ إلى أن قال :
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ ﴾* وقيل : هي قوله :﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ { ٧٨ ﴾ }* إلى آخر الآيات، وقيل المراد بالكلمات ما تضمنه الآيات التي بعدها، قلت : والجمع بين هذه الأقوال أولى فالمراد به والله أعلم أن الله ابتلاه بالأوامر والنواهي كلها منها الثلاثون ومنها العشرة ومنها السبعة وغير ذلك ﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ أي فأداهن كلهن كملا وقام بهن حق القيام ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ كلمة قال فعل تعلق به الظرف المتقدم أعني إذ ابتلي معطوفة على ما قبلها، وإن كان الظرف متعلقا بمحذوف يعني اذكر فهي استئناف كأنه قيل فماذا قال ربه حين أتمهن فأجيب بذلك، أو بيان لقوله ابتلى فيكون الكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعد الإسلام، وجاعل من الجعل الذي له مفعولان. والمراد بالإمامة ههنا النبوة أو ما هو أعم منه أعني من يؤتم به ويجب إطاعته، وليس المراد به السلطنة أو الإمامة بالمعنى الأخص الذي اخترعه الإمامية وليس له في اللغة والشرع أصل، وقد جعل الله تعالى لإبراهيم عليه السلام إمامة عامة حتى قال لسيد الأنبياء ﴿ اتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ ﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ ومن ذريتي ﴾ عطف على الكاف أي بعض ذريتي، والذرية نسل الرجل فُعْلِيَّة أو فُعُّولَةٌ قلبت راءها الثالثة ياء كما في دساها، مشتق من الذر بمعنى التفرق، أو فعولة أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق قلبت همزتها ياء ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ ينال عهدي ﴾ يعني الإمامة، قرأ حفص وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها ﴿ الظالمين ﴾ من ذريتك أجاب دعاءه وخص ذلك بالمتقين، والمراد بالظالم الفاسق إن كان المراد بالإمامة النبوة لأن العصمة شرط في النبوة إجماعا، أو المراد به الكافر إن كان المراد بالإمامة أعم من النبوة كل من يؤم به ويقتدى فإن الكافر لا يجوز أن يؤخذ أميرا ولا مطاعا حيث قال الله تعالى :﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾* وقال :﴿ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾* ولو قلنا أن المراد بالإمامة كونه مطاعا وبالظالم الفاسق قلنا معنى قوله تعالى :﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ أن الفاسق وإن كان أميرا فلا يجوز إطاعته في الظلم والمعصية لقوله عليه السلام :«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » رواه مالك وأحمد من حديث عمران والحكيم بن عمرو الغفاري، وروى البخاري وأبو داود والنسائي من حديث علي بلفظ «لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف »* وأما النصوص الواردة في وجوب إطاعة أولي الأمر كقوله تعالى :﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾* وقوله عليه السلام :«اسمعوا وأطيعوا ولم كان عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة »* فمختصة بما لم يخالف أمرهم أمر الشارع ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ فليس في الآية حجة للرواض على كون العصمة شرطا في الإمامة والله أعلم.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ جعلنا ﴾ أدغم أبو عمرو وهشام الذال من إذ في الجيم ههنا وحيث وقع، وكذا في الزاء نحو و ﴿ إذ زين ﴾ وفي السين نحو :﴿ إذ سمعتموه ﴾، والصاد نحو ﴿ إذ صرفنا ﴾ والتاء نحو ﴿ إذ تبرأ ﴾ والدال نحو :﴿ إذ دخلوا ﴾، وأدغم بن ذكوان في الدال وحدها وخلف في الدال والتاء وأظهر خلاد والكسائي عند الجيم فقط ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون الذال عند ذلك كله ﴿ البيت ﴾ الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا ﴿ مثابة للناس ﴾ أي مرجعا يثوبون إليه من كل جانب أو موضع ثواب لهم بحج وعمرة وصلاة فيها قال عليه السلام :«صلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة »* رواه ابن ماجة ﴿ وأمنا ﴾ مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة ويقولون هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة :«إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لن يحل القتال فيه لأحد ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها، فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لفينهم ولبيوتهم، فقال : إلا الإذخر »* متفق عليه من حديث ابن عباس، وفي رواية أبي هريرة نحوه.
﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ فجعل المقام بينه وبين البيت والله أعلم. وكلمة من للتبعيض إن كان المراد بمقام إبراهيم الحرم كله كما قال إبراهيم النخعي، أو المسجد كما قال ابن يمان : أو مشاهد الحج كلها عرفة ومزدلفة وغيرهما كما قال به بعض الناس، وللابتداء إن كان المراد بمقام إبراهيم الحَجَر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام عليه إبراهيم عند بناء البيت وكان أثر أصابع رجليه عليه بينا فاندرس بكثر المسح بالأيدي وهذا القول أصح ويدل عليه ما ذكرنا من حديث جابر، فتقديره واتخذوا مصلى قريبا من مقام إبراهيم يعني في المسجد أو في الحرم. قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الماضي عطفا على جَعَلَنا، وقرأ الآخرون بالكسر على الأمر فهو معطوف على جعلنا بتقدير وقلنا ﴿ اتخذوا ﴾ أو على المقدر عاملا لإذ يعني واذكروا إذ جعلنا واتخذوا أو اعتراض معطوف على مقدر تقديره توبوا إليه واتخذوا، وعلى التقديرين الأخيرين خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عن أنس قال قال عمر بن الخطاب : وافقت ربي في ثلاث ووافقني في ثلاث، قلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم عليه السلام مصلى فأنزل الله :﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب، قال : وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله عز وجل :﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن ﴾*الآية رواه البخاري. وهذه الآية حجة لأبي حنيفة ومالك في القول بوجوب الركعتين بعد كل أسبوع من الطواف لأن صبغة الأمر للوجوب والإخبار أدل على الثبوت والوجوب، وكان القياس فرضية الركعتين للنص القطعي لكن لما ورد الآية في تلك الصلاة ثابتا بأحاديث الآحاد قلنا بالوجوب دون الفرضية، وأيضا ثبت الركعتين بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما من غير ترك مرة ولا مرتين مع قوله صلى الله عليه وسلم :«خذوا عني مناسككم »* عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما تقدم سعى ثلاثة ومشى أربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة*متفق عليه، وفي البخاري تعليقا قال إسماعيل بن أمية : قلت للزهري إن عطاء يقول يجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف قال السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم أسبوعا قط إلا صلى ركعتين، وصله عبد الرزاق عن الزهري كما ذكرنا، ووصله ابن أبي شيبة عن الزهري بلفظ مضت السنة أن مع أسبوع ركعتين وقال أحمد بن حنبل الأمر للاستحباب وهي رواية عن مالك وللشافعي قولان، ولا يجوز حمل الأمر على الاستحباب لأن مجاز إلا عند عدم تصور الوجوب. ويجوز ركعتي الطواف في جميع المسجد بل خارج المسجد أيضا إجماعا. وفي الصحيحين في حديث أم سملة : قال إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون قالت ففعلت ذلك، ولم تصل يعني أم سلمة بعد الطواف حتى خرجت أي من المسجد أو من مكة، وروى البخاري تعليقا أن عمر رضي الله عنه صلى ركعتي الطواف خارج الحرم بذي طوى رواه مالك، قلت : وذلك للزوم الحرج غالبا في تقييد الصلاة بموضع معين، ألا ترى أنه كان القياس عدم جواز الصلاة والصوم والحج والزكاة إذا لم يقترن بالنية والإخلاص مع جميع أجزائها مقارنا للأداء لقوله تعالى :﴿ فادعوا الله مخلصين له الدين ﴾*قوله عليه السلام :«إنما الأعمال بالنيات »*متفق عليه من حديث عمر، لكنه للزوم الحرج في ذلك جازت الصلاة والحج بوجود النية عند الإحرام والزكاة بوجودها عند إفراز قدر الواجب عن المال، ولما كان في اشتراط النية عند أول جزء من الصيام يعني عند طلوع الفجر وهو أوان نوم وغفلة غالبا حرج جاز الصوم بالنية من الليل بل عند أبي حنيفة رحمه الله يجوز النية في الصوم إلى الضحوة الكبرى كذلك كان القياس تقييد ركعتي الطواف بالمقام لظاهر الآية، لكنه جازت ركعتا الطواف في المسجد بل في الحرم كلها للزوم الحرج في تعيين المصلى مع كثرة الطائفين، وقد سمى الله تعالى الحرم كله بالمسجد حيث قال :﴿ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾*الآية، وقال :﴿ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾* وأما صلاة عمر رضي الله عنه بذي طوى فكأنه قضاء للواجب للضرورة، أو نقول ذكر مقام إبراهيم وقع اتفاقا جريا على الغالب عند عدم الازدحام كما في قوله تعالى :﴿ ربائبكم اللاتي في حجوركم ﴾* وذلك لأن أسبوع الطواف ينتهي على الحجر الأسود عند المقام فالغالب الصلاة عند المقام إن لم يمنع مانع كما أن الغالب كون الربائب في الحجور والله أعلم.
قال البغوي : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة وأتت على ذلك مدة نزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم عليه السلام وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته : أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيد وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها إبراهيم : هل عندك ضيافة ؟ قالت : ليست عندي، وسألها عن عيشهم ؟ فقالت : نحن في ضيق وشدة وشكت إليه، فقال لها : إذا جاء زوجك فقرأيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم فجاء إسماعيل عليه السلام فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه، قال : فما قال لكِ ؟ قالت : قال : أقرأي زوجك السلام وقولي فليغير عتبة بابه، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث إبراهيم عليه السلام ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته أين صاحبك ؟ قالت : ذهب يتصيد وهو يجيء إن شاء الله تعالى فأنزل رحمك الله قال هل عندك ضيافة ؟ قالت نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم فقالت نحن بخير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز برا وشعيرا وتمر لكانت أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، وقالت : له : انزل أغسل رأسك فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فأقرأيه السلام وقولي له قد استقامت عتبه بابك فاضبطها، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد ؟ قالت : نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فقال : لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه، فقال : ذلك إبراهيم وأنت العتبة أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله تعالى ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل عليه السلام يبري نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم لما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر أتعينني عليه قال أعينك عليه، قال : إن الله تعالى أمرني أن أبني بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتيه بالحجارة وإبراهيم عليه السلام يبني فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولا :﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ﴾.
وفي الحديث :«الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة » رواه مالك عن أنس مرفوعا، وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأصاءا ما بين المشرق والمغرب »*رواه الترمذي، وذكر البغوي بلفظ :«لولا ما مسته أيدي المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب » ولأهل الاعتبار ههنا استنباط وهو أن في كل مكان مكث فيه رجل من أهل الله تعالى حينا من الدهر ينزل هناك بركات من السماء وسكينة تجذب القلوب إلى الله تعالى ويتضاعف هناك أجر الحسنات وكذا وزر السيئات والله أعلم.
﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ أي أمرناهما وأوصينا إليهما ﴿ أن طهرا ﴾ أي بأن طهرا ويجوز أن يكون أن مفسرة لتضمين العهد معنى القول ﴿ بيتي ﴾ أضافه إليه تفضيلا يعني ابنيا على الطهارة والتوحيد، قال سعيد بن جبير وعطاء : طهراه من الأوثان والريب وقول الزور، وقيل بخراه وخلقاه، قرأ نافع وهشام وحفص بفتح الياء ههنا وفي سورة الحج وزاد حفص في سورة نوح ﴿ للطائفين ﴾ حوله ﴿ والعاكفين ﴾ المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ﴿ والركع السجود ﴾ جمع راكع ساجد يعين المصلين.
﴿ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا ﴾ المكان بلدا آمنا ذا أمن كقوله :﴿ عيشة راضية ﴾* أي ذات رضية، أو أمنا من فيه كقولك ليل نائم ﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ دعا بذلك لأنه كان واديا غير ذي زرع، وفي القصص أن الطائف كانت من مدائن الشام بأردن، فلما دعا إبراهيم عليه السلام أمر اله جبرائيل حتى اقتلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ثم وضعها ههنا ومنها أكثر ثمرات مكة ﴿ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ بدل من أهله بدل البعض خصهم بالدعاء كيلا يكون أمانة للكفار على كفرهم ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ ومن كفر ﴾ عطف على من آمن والمعنى وارزق من كفر وتم الكلام، وفي تنبيه على أن الرزق الذي هو رحمة دنيوية يعم المؤمن والكافر ولذلك يقال رحمن الدنيا والآخرة بخلاف النبوة وكونه مطاعا في الدين، أو يكون من كفر مبتدأ تضمن معنى الشرط خبره ﴿ فأمتعه ﴾ قرأ بن عامر مخففا من الأفعال والباقون مشددا من التفعيل ومعناهما واحد ﴿ قليلا ﴾ أي متاعا قليلا فإن متاع الدنيا قليل بالنسبة إلى الآخرة أو قليل رتبة عند الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء »*رواه الترمذي وصححه، وأيضا عن سهل بن سعد، أو في زمن قليل إلى مدة آجالهم. فإن قيل الكفر لا يكون سببا للتمتع فكيف أدخل الفاء على خبره ؟ أجيب : بأنه سب لتقليل التمتع حيث يجعل نعماء الدنيا مقصورة على حظوظها العاجلة ويمنع كونها وسائل لنيل درجات الآخرة بخلاف المؤمن فإن من أنعم الله عليه في الدنيا لأجل شكره عليه وصرفه في مرضات ربه سب لنيل درجات الآخرة المؤبدة، ويمكن أن يقال متاع الحياة الدنيا خبيثة ملعونة عند الله فيمكن أن يكو الكفر سببا لحصوله ألم تسمع قوله تعالى :﴿ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ { ٣٣ ﴾ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ﴿ ٣٤ ﴾ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }*يعني أن المقتضى الأصلي لكفر متاع الحياة الدنيا ولولا مانع كون الناس أمة واحدة لاقتضى الكفر كون بيوتهم وأبوابهم وسررهم فضة وذهبا، قال عليه السلام :«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما »*رواه ابن ماجه عن أبي هريرة والطبراني بسند صحيح في الأوسط، وفي الكبير بسند صحيح عن أبي الدرداء بلفظ «إلا ما ابتغي به وجه الله عز وجل » ﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ﴾ أي ألجئه وألزه لزة المضطر لكفره وصرفه المتاع في غير مرضاة ربه معطوف على أمتعه ﴿ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ هو أي العذاب، قال مجاهد : وجد عند المقام مكتوبا أنا الله ذو بكة صنعتُها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة أملاك يأتيها رزقها من ثلاثة سبل مبارك لها في اللحم والماء.
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ﴾ حكاية حال ماضية، جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات مجاز من القعود ضد القيام، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وقال الكسائي : القواعد الجدر وكل جدار قاعدة ما وضع فوقه ورفعها بناؤها ﴿ وإسماعيل ﴾ عطف على إبراهيم وسبب فصله عنه بتقديم المفعول أن الباني لم يكن إلا إبراهيم ولذا أفرده أولا بالذكر وكان إسماعيل يناوله الحجارة فكان له مدخل في البناء ولذا عطف عليه ثانيا، قال البغوي : روت الرواة أن الله سبحانه خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش وتصلي عنده كا يصلى عند عرشي، وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدل له على البيت، فحج البيت وأقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عباس : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث جبرائيل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء البيت يذكر فيه فسأل الله عز وجل أن يبين موضعه فبعث السكينة لتدله على موضع البيت، وهي ريح خجوج لها رأسان شبيه الحية، وأمر إبراهيم أن يبني حيث يستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكنية على موضع البيت كتطوي الحجفة هذا قول علي والحسن، وقال ابن عباس بعث الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص، وقيل : أرسل الله جبرائيل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾* فكان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجر، قال ابن عباس : بني البيت من خمسة أجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام والجودي وهو جبل بالجزيرة وبُنِي قواعد من حِرا وهو جبل بمكة فلما انتهى إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر، فقال ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه، وقيل : إن الله تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضُراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله، وقيل : أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم عليه السلام حتى بناه ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ﴾ لدعائنا ﴿ العليم ﴾ بنياتنا.
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾ أي منقادين لجميع أوامرك ظاهرا وباطنا قال عليه السلام :«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده »*متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، والمعنى من لا يصدر عنه معصية فيسلم هو من عذاب الله ويسلم غيره من إيذائه أو من خبث صحبته وهذا هو الإسلام الكامل المعبر بالإسلام الحقيقي ولا يتصور إلا بعد اطمئنان النفس ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ من للتبعيض، دعوا لهم بشفقة الأبوة وخصا بعضهم لما علما مما سبق أن يكون بعضهم كفارا، ويحتمل أن يكون من للبيان، فصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى :
﴿ خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ﴾* ﴿ وأرنا ﴾ أي عرفنا أصله أر إنا على وزن أكفِنا. قرأ ابن كثير وأبو شعيب أرَنَا وأرَني ساكن الراء حيث وقع بحذف الهمزة مع كسرتها للتخفيف، وقرأ أبو عمر بالاختلاس والباقون مكسور الراء بحذف الهمزة مع كسرتها للتخفيف، وقرأ أبو عمر بالاختلاس والباقون مكسور الراء بحذف الهمزة بعد نقل بعض حركتها أو كلها إلى الراء ﴿ مناسكنا ﴾ أي شرائع ديننا وأعلام حجنا والنسك في الأصل غابة العبادة شاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا، قال البغوي : فأجاب الله دعوتهما وبعث جبرائيل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغا عرفات قال عرفت يا إبراهيم قال نعم، فسمي الوقت والمكان عرفة ﴿ وتب علينا ﴾ قالا ذلك الدعاء هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما
﴿ إنك أنت التواب الرحيم ﴾ لمن تاب إليك.
﴿ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ من أنفسهم فأجاب الله دعوتهما وبعث محمدا صلى الله عليه وسلم، عن العرباض ين سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأخبركم بأول أمري دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليه السلام ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام »*رواه البغوي في شرح السنة وأحمد عن أبي أمامة عن قوله سأخبركم إلى آخره ﴿ يتلوا عليهم ﴾ يقرأ ﴿ آيَاتِكَ ﴾ الدلائل على التوحيد والنبوة ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ القرآن ﴿ والحكمة ﴾ ما يكمل نفوسهم من المعارف والأحكام وقيل هي السنة، وقيل هي القضاء، وقيل الفقه ﴿ ويزكيهم ﴾ أي يطهرهم من الشرك والذنوب، وقيل يأخذ الزكاة من أموالهم، وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة ﴿ إنك أنت العزيز ﴾ قال ابن عباس : العزيز من لا يوجد مثله، وقال الكلبي المنتقم، وقيل المنيع الذي لا يناله الأيدي ولا يصل إليه شيء، وقيل : الغالب الذي لا يغلبه أحد ﴿ الحكيم ﴾ ذو الحكمة البالغة والله أعلم.
قال ابن عساكر : روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام وقال لهما : قد علمتما أن الله عز وجل قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله تعالى ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء أي لا يرغب أحد عن ملته، والرغبة إذا عدي بإلى فالمراد به الإرادة وإن عدي بعن فالمراد به الترك ﴿ إلا من سفه نفسه ﴾ السفه في الأصل : الخفة ويقال : لمن يتعجل في الأفعال باتباع الهوى والشهوة من غير تدبر وتفكر في منافعه ومضاره خفيف وسفيه، وضده الحليم، ويسند السفه بهذا المعنى إلى نفس الشخص وإلى ربه فيقال زيد سفيه وسفه نفسه وسفه رأيه أي خف نفسه فيأتي بالأفعال على خلاف ما اقتضاه العقل وخف رأيه وحينئذ لا يتعدى إلى مفعول، وقد يستعمل بحرف الجر فقال سفه زيد في نفسه وفي رأيه ولما كان السفه والخفة مستلزما لإهانة النفس وإهلاكها وخفة الرأي مستلزما للجهل فيستعار ويقال سفه نفسه، أي أهانها أو أهلكها أو جهلها فحينئذ يتعدى إلى مفعول، أو يقال تعدى إلى مفعول بتضمين معنى أهلك، أو أهان أو جهل ولهذا قيل في تفسير الآية سفه نفسه أي جعلها مهانا وذليلا حيث كفر بخالقه وعبد مخلوقا مثله، وقال أبو عبيدة : أهلك نفسه، وقال الأخفش : نصب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه والمعنى سفه في نفسه، وقال الفراء : أصله سفه نفسه بالرفع فلما أسند الفعل إلى صاحبها نصب على التميز كما يقال ضقت به ذرعا وطاب زيد نفسا في ضاق ذرعي وطاب نفس زيد، وقال ابن كيسان والزجاج : معناه جهل نفسه وذلك أنه من عبد غير الله فقد جهل نفسه لأنه لم يعرف الله خالقها، وقد جاء من عرف نفسه فقد عرف ربه، قلت : ومعنى من عرف نفسه فقد عرف ربه أنه من عرف حقيقة نفسه أنه ممكن لا يقتضي ذاته وجوده ولا بقاءه لا يتصور له في نفسه وجود ولا قيام ولا بقاء، ولا يجوز حمله على نفسه حملا أوليا نحو زيد زيد إلا بعد انتسابه إلى واجب وجوده قائم بنفسه قيوم لغيره لولاه لم يوجد غيره وهو كالأصل للظلال وهو نور السماوات والأرض قيم الأشياء وأقرب إلى الأشياء من أنفسها حيث لم يجز حمل أنفسها عليها إلا بعد انتسابها إليه فقد عرف ربا واجبا واحدا قيوما نورا مبينا قريبا ومن سفه نفسه أي جهلها جهل ربه. وقي الأخبار : أن الله تعالى أوحى إلى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال : يا رب كيف أعرف نفسي وكيف أعرفك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء. واعلم أن الجهل يكون ضد العلم الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع المتعلق بالنسبة الحكمية التي بين القضية فيقتضي المفعولين، والعلم يحصل بالبداهة أو بالاستدل أو الوحي أو الإلهامخ وضده الجهل وهو عدم أصلي يستند إلى عدم تلك الأشياء ويكون ضد المعرفة التي تقتضي مفعولا واحدا أو هو من باب التصورات ويحصل المعرفة بالبداهة أو البصيرة الموهوبة لأرباب القلوب، والمراد بالسفه هو الجهل بالمعنى الثاني حيث عدي إلى مفعول واحد أي لم يعرف نفسه بالبصيرة والله أعلم ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ ﴾ نديما وخليلا ﴿ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ ﴾ الأنبياء ﴿ الصَّالِحِينَ ﴾ في مراتب القرب، الصلاد ضد الفساد وذلك بالمعاصي القلبية أو القالبية فكمال الصلاح بالعصمة ودون ذلك بدون ذلك، والمراد ههنا كماله وفي هذه الآية حجة وبيان لما سبق فإنه من كان هذا شأنه فلا يرغب عن اتباعه إلا سفيه جاهل ضعيف العقل.
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾ يعني نفسك إلى الله عز وجل وفوض أمورك إليه كذا قال عطاء، وقال الكلبي : أخلص دينك وعبادتك له، قال ابن عباس قاله ذلك حين خرج من السرب، والظرف متعلق باصطفيناه تعليل له أو منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى ﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فوضت إليه أموري، ومقتضى هذا التسليم أنه عليه السلام لما رُمي مغلولا بالمنجنيق في نار نمرود قال له جبرائيل : هل لك حاجة ؟ فقال : فأما إليك فلا، فقال : فاسأل ربك، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي، فجعل الله تعالى ببركة تفويض أموره إلى الله تعالى حظيرة النار روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه، رواه.
﴿ ووصى بها إبراهيم ﴾ أهل المدينةة وأهل الشام وأوصى من الأفعال وكذلك في مصاحفهم والباقون وصى من التفعيل مثل نزل وأنزل، والتوصية والتقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، أصلها الوصلة يقال وصَّاه إذا وصله وفصَّاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى، والضمير في بها راجع إلى الملة أو بقوله أسُلَمْتُ على تأويل الكلمة ﴿ بنيه ﴾ الثمانية إسماعيل وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة وستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ﴿ ويعقوب ﴾ عطف على إبراهيم ووصى بها أيضا يعقوب بنيه اثني عشر ﴿ يابني ﴾ على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصى عند الكوفيين لأنه نوع من ﴿ إن الله اصطفى ﴾ اختار ﴿ لكم الذين ﴾ دين الإسلام ﴿ فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم إلى الله تعالى والنهي في الظاهر وقع على الموت، وفي الحقيقة نهي عن ترك الإسلام في حين من الأحيان كيلا يقع الموت في تلك الحين من الأحيان كيلا بقع الموت في تلك الحين وهو موت لا خير فيه ومن حقه أن لا يحل لهم.
قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ؟ فنزلت ﴿ أم كنتم شهداء ﴾ حاضرين ﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾ أي قاربه، فأم منقطعة تقديره ليس الأمر كما قلتم أيها اليهود بل أكنتم يعني ما كنتم حاضرين فلم تدَّعون دعاوى باطلة، وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي ﴿ إذ قال لبنيه ﴾ بدل من إذ حضر ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ﴾ أي أي شيء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم، قال عطاء : إن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى خيره بين الموت والحياة فلما خيرّ يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل ذلك فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون بعدي ﴿ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ عطف بيان لآبائك، وكان إسماعيل عما لهم والعرب تسمى العم أبا كما تسمي الخالة أما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«عم الرجل صنو أبيه »*رواه الترمذي وصححه من حديث علي والطبراني عن ابن عباس، وقال عليه السلام في عمه العباس :«ردوا عليّ أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود »* وذلك أنهم قتلوه ﴿ إلها واحدا ﴾ أبدل من المضاف في إلهك وإله آبائك، وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرير المضاف نتعذر العطف على المجرور به بدونه، أو منصوب بمقدر أي نريد بإلهك وإله آبائك إلها واحدا ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ حال من فاعل نعبد أو مفعوله أو منهما، ويحتمل أن يكون اعتراضا.
﴿ تلك أمة ﴾ أي جماعة يعني إبراهيم ويعقوب وأبناءهما، والأمة في الأصل المقصود سمي بها الجماعة لأن الفِرَق تأمِها ﴿ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ من العمل ﴿ ولكم ما كسبتم ﴾ فلا ينفع حسناتهم إياكم بانتسابكم إليهم ما لم توافقوهم فيها ﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ بل يسأل كل عن عمله دون عمل غيره.
أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس : قال ابن صوريا لنبي الله صلى الله عليه وسلم ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدي وقالت النصارى مثل ذلك، وقال البغوي : قال ابن عباس إن رؤوس يهود بالمدينة كعب بن أشرف ومالك بن الضيف ووهب يهودا وأبي ياسر بن أخطب ونصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين وزعمت كل فرقة أنها أحق بدين الله، فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بمحمد والقرآن، وقال كلا الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك فأنزل الله تعالى :
﴿ وقالوا ﴾ أي اليهود و النصارى ﴿ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ كلمة أو للتنويع يعني مقالهم أحد هذين القولين ﴿ تهتدوا ﴾ جواب للأمر ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ بل ملة إبراهيم ﴾ يعني لا نكون هودا ولا نصارى بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته أو على ملته فحذف على فصار منصوبا، أو المعنى بل نتبع ملة إبراهيم، أو المعنى بل اتبعوا أنتم أيها اليهود والنصارى ملة إبراهيم ﴿ حنيفا ﴾ أصله من الحنف بمعنى الميل عن الطريق يعني مائلا من الأديان كلها إلى الإسلام، منصوب على الحال من المضاف أي ملة مائلة من الباطلة أو من المضاف إليه يعني إبراهيم مائلا كما في قوله تعالى :
﴿ ونزعنا ما في صدروهم من غل إخوانا ﴾*وعند نحاة الكوفة منصوب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما أسقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب ﴿ وما كان من المشركين ﴾ تعريض بأهل الكتابين فإنهم يدعون اتباعه وهم مشركون.
﴿ قولوا ﴾ أيها المؤمنون ﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ يعني القرآن قدم لأنه سبب لنا للإيمان بغيره ﴿ وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ وهو عشر صحف أنزلت على إبراهيم فتعبد بها هو وبنوه واحفاده ولذا نسب إنزالها إليهم كما نسب إنزال القرآن إلينا بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم، والأسباط بمعنى الجماعات من بني إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطا لكل ولد من أبناء بعقوب سبط، وقيل : المراد بالأسباط أبناء يعقوب اثنا عشر سموا بذلك لأنه ولد لكل منهم سبط وجماعة، أو لأن سبط لارجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهما، وأبناء يعقوب كانوا أحفادا لإبراهيم عليه السلام ﴿ وما أوتي موسى ﴾ يعني التوراة ﴿ وعيسى ﴾ يعني الإنجيل ﴿ وما أوتي النبيون ﴾ كلهم ﴿ من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ كما فرق اليهود والنصارى آمنت كل فرقة ببعض دون بعض ﴿ ونحن له ﴾ أي لله ﴿ مسلمون ﴾ وهذا هو الإسلام الذي كان ملة لإبراهيم الحنيف ودينا لكل نبي من الأنبياء ودينا لمحمد صلى الله عليه وسلم لا ما زعمته اليهود والنصارى فإنه إشراك، عن أي أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، الأنبياء أخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ليس بيننا نبي »*متفق عليه، قلت : معنى قوله عليه السلام :«الأنبياء أخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد » أن أصلهم واحد وهو الوحي من الله تعالى واستعداداتهم مختلفة فلأجل اختلاف الاستعدادات التي هي بمنزلة الأمهات اختلفوا في فروع الشرائع ودينهم واحد هو اتباع أوامر الله تعالى ونواهيه على ترك الهوى والإيمان بذاته وصفاته وأحكامه وأخباره في المبدأ والمعاد، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال عليه السلام :«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله »* الآية، رواه البخاري.
﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ﴾ أي آمنوا إيمانا مثل إيمانكم فالباء زائدة كما في قوله :﴿ جزء سيئة بمثلها ﴾* ولفظ المثل مقحم كما في قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾* أي عليه ويشهد له قراءة ابن عباس فإن آمنوا بما آمنتم به ﴿ فقد اهتدوا ون تولوا ﴾ أي أعرضوا عنه ﴿ فإنما هم في شقاق ﴾ أي خلاف من الحق وشق غير شق الحق وقيل في عداوة ﴿ فسيكفيكهم الله ﴾ وعد بالحفظ والنصر للمؤمنين وقد أنجز وعده بإجلاء النضير وقتل قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى ﴿ وهو السميع ﴾ لأقوال المؤمنين والكفار ﴿ العليم ﴾ بنياتهم وأحوالهم كلهم يجزي كلهم بما كسب.
﴿ صبغة الله ﴾ أي دين الله كذا قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن : سمي الدين صبغة لظهور أثر الدين على المتدين كالصبغ على الثوب فهو منصوب على أنه مصدر مؤكد لقوله آمنا، أو على البدل من ملة إبراهيم، أو على الإغراء أي عليكم صبغة الله وقيل المراد بصبغة الله الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم فهو منصوب على الإغراء أي الزموا صبغة الله الختان، قال ابن عباس : كان النصارى إذا ولد لهم ولد فأتت عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له المعمودي يزعمون تطهيره بذلك يفعلونه مكان الختان فإذا فعلوا به ذلك قالوا لأن صار نصرانيا حقا فأخبر الله تعالى أن دينه الإسلام وأحكامه من الختان وغيره ﴿ ومن أحسن من الله صبغة ﴾ دينا وتطهيرا يعني لا أحسن منه ﴿ ونحن له عابدون ﴾ تعريض لهم أي لا نشرك كشرككم معطوف على آمنا على تقدير كون صبغة الله منصوبا على المصدرية وإلا فهو معطوف على صبغة الله أو على اتبعوا ملة إبراهيم بتقدير قولوا، يعني الزموا ﴿ صبغة الله ﴾ وقولوا :﴿ ونحن له عابدون ﴾ أو المعنى اتبعوا ملة إبراهيم وقولوا.
﴿ قل ﴾ يا محمد لليهود والنصارى ﴿ أتحاجوننا ﴾ تجادلوننا ﴿ في الله ﴾ أي في دينه واصطفائه نبيا من العرب دونكم ﴿ وهو ربنا وربكم ﴾ لا اختصاص له بقوم دون قوم يصطفي بالنبوة من يشاء من عباده ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ لكل واحد جزاء عمله ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ وأنتم به مشركون فنحن أحق به منكم، قال سعيد بن جبير : الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعلمه لله فلا يضرك به في دينه ولا يرائي بعمله، قال الفضل : ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص ان يعافيك الله عنهما.
﴿ أم ﴾ منقطعة والهمزة للإنكار، وقيل ام بمعنى الهمزة فقط للتوبيخ ﴿ تقولون ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص على الخطاب والآخرون على الغيبة ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ ﴾ وقد أخبر الله تعالى أنه ﴿ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ﴾ بخلاف اليهود والنصارى فإنهم مشركون، وأما الذين كانوا على الدين الحق لموسى وعيسى قبل النسخ كانوا أتباعا لإبراهيم في الدين وما كانوا مشركين ﴿ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ﴾، فكيف يتبع إبراهيم وموسى وعيسى بل يتبعانه وقد علمت اليهود والنصارى بهذا لكنهم كتموا الشهادة بالحق ﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة ﴾ ثابتة في التوراة ﴿ عنده من الله ﴾ من للابتداء متعلق بشهادة يعني لا أحد أظلم ممن كتم شهادة الله تعالى لإبراهيم بالحنفية والبراءة من اليهودية والنصرانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة التي هي في التوراة والإنجيل ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ وعيد لهم.
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عن الافتخار بالآباء والاتكال عليهم، وقيل الخطاب فيما سبق لهم وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل المراد بالآية الأولى الأنبياء وبالثانية أسلاف اليهود والنصارى والله أعلم.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ ﴾ الذين خف عقولهم حيث ضيعوها بالتقليد والإعراض عن النظر الصحيح أو العناد وهم المنافقون واليهود والمشركون ﴿ ما ولاهم ﴾ صرفهم ﴿ عن قبلتهم التي كانوا عليها ﴾ يعني البيت المقدس، وفائدة تقديم الإخبار توطين النفس وإعداد الجواب، والقبلة في الأصل هي الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة نقل من المكان المتوجه إليه عند الصلاة، نزلت في اليهود ومشركي مكة لما طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة، أخرج ابن جرير من طريق السدي بأسانيده قال : لما صرف الله النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة تحير محمد في دينكم فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم أهدى منه سبيلا ويوشك أن يدخل في دينكم، وذكر البغوي أنه قال رؤساء اليهود لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا ﴿ قل لله المشرق والمغرب ﴾ لا يختص به مكان دون مكان وإنما أمر القبل أمر تعبدي والعبرة فيها لأمر الله تعالى لا دخل فيه لخاصية في المكان ﴿ يهدي من يشاء ﴾ من عباده ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي إلى ما يرتضيه.
﴿ وكذلك ﴾ إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة أي هديناكم إلى صراط مستقيم، أو إلى ما مر سابقا كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا وجعلناه في الآخرة من الصالحين ﴿ جعلناكمم ﴾ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ أمة وسطا ﴾ خيارا ممن عداهم عدولا مزكين بالعلم والعمل والمعرفة، وهو في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب ثم استعير لخير الخصال والمحمودة منها لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور والجبن ثم أطلق على المتصف بها، مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي يوصف بها قال الله تعالى :﴿ قال أوسطهم ﴾* أي خيرهم، وقال الكلبي : حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أي أهل دين وسط بين الغلو والتقصير، واستدل به على حجية الإجماع لأن بطلان ما أجمعوا عليه ينافي عدالتهم، فإن قيل إن أخطأ مجتهد في اجتهاده لا ينتفي منه عدالته فمالك تحكم بها إذا اتفقوا على الخطأ اتفاقا، قلت قد سمعت أن لفظ الوسط استعير أولا للخصال ثم أطلق على المتصف بها كما يقال زيد عدل وعلى قول الكلبي إنما هو صفة لدينهم، فإطلاق الأمة الوسط عليهم يدل على أن شرائع دينهم وخصالهم المتفقة عليها كلها محمودة فعلى تقدير وقوع الخطأ في إجماعهم وإن كانوا معذورين في ذلك غير متصفين بالقسق لكن بعض خصالهم المتفق عليها مذموم البتة فكيف يكون خصالهم كلها محمودة والله أعلم. عن أبي سعيد الخدري قال : قال فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال : أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي أخيرها وأكرمها على الله عز وجل »* رواه البغوي، وروى الترمذي وابن ماجه والدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده نحوه والحمد لله رب العالمين ﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ يوم القيامة أن الرسل قد بلغتهم، تعليل لجعلهم عدولا ودليل على أن العدالة شرط للشهادة ﴿ ويكون الرسول ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ عليكم ﴾ أي على عدالتكم ﴿ شهيدا ﴾ يعني يكون معدلا ومزكيا لكم، ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء ون كان حق المقام اللام، ذكر البغوي : أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم ﴿ ألم يأتكم نذير ﴾ فيقولون :﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾، فيسأل الأنبياء عليهم السلام عن ذلك فيقولون : كذبوا قد بلغناهم فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا فيقول الأمم الماضية من أين علموا وإنهم أتوا بعدنا فيسأل هذه الأمة، فيقولون : أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم. وروى البخاري والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجاء بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له هل بلغت ؟ فيقول نعم يا رب، فيسأل أمته هل بلغكم فيقولون ﴿ ما جاءنا من نذير ﴾، فيقال : من شهودك ؟ فيقول : محمد وأمته، قال محمد صلى الله عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾ فتشهدون له بالإبلاغ وأشهد عليكم »* وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي عنه بلفظ «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم ؟ فيقولون نعم فتدعى قومهم فيقال لهم هل بلغوكم ؟ فيقولون لا، فيقال للنبيين : من يشهد لكم أنكم بلغتم ؟ فيقولن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون أنهم قد بلغوا، فيقال لهم : وما أعلمكم أنهم قد بلغوا ؟ فيقولون : جاءنا نبينا بكتاب أخبرنا أنهم قد بلغوا فصدقناه، فيقال : صدقتم ». *
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾ الجعل إما متعد إلى مفعول واحد فحينئذ الموصول مع الصلة صفة للقبلة والمضاف محذوف يعين وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها وهي بيت المقدس، إما متعد إلى مفعولين ومفعوله الثاني محذوف أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، ويحتمل أن يكون القبلة مفعوله الأول والموصول مع الصلة بمعنى الجهة التي كنت عليها مفعوله الثاني والمراد بالموصول البيت المقدس، والمعنى ما جعلنا في سابق الزمان القبلة جهة التي كنت عليها يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك في سابق الزمان بيت المقدس إلا لنعلم، ويحتمل أن يكون كنت عليها بمعنى أنت عليها الآن يعني الكعبة إلا لنعلم وقيل في تفسيره وما جعلنا القبلة الآن الجهة التي كنت عليها قبل الهجرة وي الكعبة، وهذا مبني على أنه صلى الله عليه وسلم كن يصلي قبل الهجرة إلى الكعبة، وهذا التأويل يستلزم النسخ مرتين ويخالف سياق قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ فإن المراد هناك بالموصول بيت المقدس لا غير، وكان القياس أن يقال وما جعلنا التي كنت عليها قبلة لكن قدم القبلة وجعل أول المفعولين للاهتمام به أو هو من باب القلب ﴿ إلا لنعم من يتبع الرسول ﴾ في الصلاة حيثما توجه بأمر الله تعالى ﴿ ممن ينقلب على عقبيه ﴾ فيرتد كما في الحديث إن القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقولوا رجع محمد صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه، والعلم إما بمعنى المعرفة ومن يتبع الرسول مفعوله وممن ينقلب متعلق به أو هو متعلق في من معنى الاستفهام، أو يكون من مصولة معفوله الأول وممن ينقلب مفعوله الثاني أي نعلم من يتبع الرسول مميزا ينقلب، فإن قيل علم الله تعالى قديم فكيف يتصور غاية لتحويل القبلة ؟ أجيب عنه بوجوه : منها ما قال أهل المعاني إن اللام للتعليل لا لبيان الغاية وصيغة المضارع بمعنى الماضي كما في قوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله ﴾* فالمعنى إلا لما لما علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه يعني لما سبق في علمنا أن تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين، ومنها ما قيل إن المراد بالعلم التميز تسمية للمسبب باسم السبب والمعنى إلا لتميز المحق من المبطل، ومنه ما قيل إن المراد ليعلم رسولنا وألياؤنا حذف المضاف وأسند الفعل إلى نفسه مجازا كما مر في الحديث القدسي :«مرضت ولم تعدني »* إظهارا لشرفهم واختصاصهم وفي هذه التأويلات قول بالمجاز وتكلفات، والتحقيق ما قال الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله : إن المعنى إلا لنعلم كائنا موجودا ما قد علمنا أنه يكون ويوجد فالله سبحانه عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيها، ولا يجوز أن يقال إنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن في الحال لأنه ليس بموجود فكيف يعلمه موجودا كائنا على خلاف الواقع والتغير على المعلوم لا على العلم وهو المراد بما قيل في هذا وأشباهه أن المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو مناط الجزاء ومعنى إلا لنعلم أي ليتعلق علمنا بوجزده ﴿ وإن كانت لكبيرة ﴾ إن مخففة من المثقلة واللام فاصلة بينها وبين الشرطية، قال سيبويه : إن تأكيد شبيه باليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها، وقال الكوفيون : إن نافية واللام بمعنى إلا والضمير المرفوع راجع إلى ما دل عليه جعلنا القبلة من الجعلة أو إلى التحويلة أو إلى القبلة ﴿ إلا على الذين هدى الله ﴾ أي هداهم الله ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ أي ثباتكم على إيمانكم أو إيمانكم بالقبلة النسوخة، وقيل المراد بالإيمان الصلاة وذلك أن حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس عن كانت هدى فقد تحولتم عنها وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها ومن مات منكم عليها ؟ فقال المسلمون : إنما الهدى ما أمر الله به والضلالة ما نهى عنه، قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا وقد كان مت قبل أن تحول القبلة أسعد بن زرارة من بني النجار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله صرفك الله إلى قبلة إبراهيم عليه السلام فكيف بإخوننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال :«مات قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله الآية :﴿ إن الله بالناس لرءوف رحيم ﴾* قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص لرؤوف مشبعا على وزن شكور والآخرون على وزن فَعُلٌ، والرأفة أشد من الرحمة قدمه على الرحيم لرعاية الفواصل.
﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ﴾ تردد وجهك في جهة السماء تطلعا للوحي، كان يود أن يحوله الله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وأدعى للعرب إلى الإيمان ومخالفة اليهود، وهذا أول القصة وأمر القبلة أو ما نسخ من أمور الشرع بعد الهجرة، واختلف العلماء في كيفية قبلته صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بمكة ؟ فقال قوم : إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، رواه أحمد عن ابن عباس ورواه ابن سعد أيضا وسنده جيد، وأطلق آخرون وقالوا إنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال البغوي كان يصلي إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس، روى ابن جرير وغيره بسند جيد قوي عن ابن عباس قال لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، وقال ابن جريج أنه صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر إلى المدينة، والأول أصح وأقوى وعند الجمع يؤل إليه الأحاديث، واختلف الرواية في أنه كم صلى بعد الهجرة إلى بيت المقدس ؟ فعند أبي داود وغيره عن ابن عباس سبعة عشر شهرا، وعند الطبراني والبزار عن عمرو بن عوف وعند ابن أي شيبة وأبي داود وغيرهما عن ابن عباس، وعند الإمام مالك وغيره عن سيعد بن المسيب ستة عشر شهرا، وعند البخاي عن البراء بن عازب ستة عشر أو سبعة عشر شهرا بالشك، والحق أنه كان ستة عشر شهرا وأياما فإنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين خامس ربيع الأول ودخل المدينة يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأول وكان التحويل بعد الزوال خامس عشر من رجب من السنة الثانية قبل وقعة بدر بشهرين على الصحيح، وبه جزم الجمهور ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس فمن اعتبر الأيام شهرا كاملا عد سبعة عشر وإلا فستة عشر، وما روي ثلاثة عشر أو تسعة عشر أو ثمانية عشر أو شهرين أو سنتين فضعيف والله أعلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل الكعبة لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبعنا في قبلتنا، فقال عليه السلام :«وددت لو حولني الله تعالى إلى الكعبة فإنها قبلة أبي إبراهيم » فقال جبرائيل : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فاسأل أنت ربك فإنك عند الله بمكان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا الله ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى فأنزل الله تعالى ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ﴾ ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً ﴾ أي نمكنك من استقبالها من وليته بمعنى صيرته واليا، أو المعنى فلنجعلنك تلي وجهتها أو لمعنى فلنحولنك إلى قبلة ﴿ ترضاها ﴾ تحبها لأغراض صحيحة مرضية لله تعالى ﴿ فول ﴾ حول ﴿ وجهك ﴾ من البيت المقدس عند الصلاة ﴿ شطر ﴾ الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء من شطر إذا انفصل دار شطور منفصلة عن الدور ثم استعمل لمجانبه وإن لم ينفصل منصوب بنزع الخافض إلى شطره وقيل منصوب على الظرفية أي اجعل تولية الوجه تلقاء ﴿ المسجد الحرام ﴾ أي في جهته وسمته والحرام بمعنى المحرم فيه القتال والاصطياد وقطع الشجر والشوك ونحو ذلك، وذلك هو الحرم وإنما ذكر الحرم أو المسجد دون الكعبة مع أنها هي القبلة إشارة إلى أن الواجب على الثاني استقبال جهة الكعبة دون عينه، روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما بين المشرق والمغرب قبلة »* قلت : أراد بالمشرق مشرق أقصر أيام السنة وبالمغرب مغرب أقصر الأيام وذلك جهة الجنوب وهي قبلة أهل المدينة وكذا أهل كل قطر قبلة فلأهل الهند القبلة بين المغربين مغرب رأس السرطان ومغرب رأس الجدي، ذكر في المواهب وسبيل الرشاد أنه صلى الله عليه وسلم زار أم بشر بن براء بن معرور في بني سلمة يعني بعدما مات براء بن معرور فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد هناك الظهر فلما صلى ركعتين نزل جبرائيل فأشار إليه أن صل إلى البيت فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، قال الواحدي : هذا عندنا أثبت، فصلى الظهر أربعا ثنتين إلى بيت المقدس وثنتين إلى الكعبة فخرج عباد بن بشر رضي الله عنه وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على قوم من الأنصار ببني حارثة وهم راكعون في صلاة العصر فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت، فاستداورا. وفي صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم صلى أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قبل مكة*، فمحمول على أن البراء لم يعلم صلاته صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة الظهر، أو المراد أنه أول صلاة صلاها كاملا إلى الكعبة، أو أول صلاة صلى في مسجده صلى الله عليه وسلم هو العصر، وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلا في صلاة الفجر من الغد كما في الصحيحين عن ابن عمر بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن نستقبل الكعبة فاستقبلوهان وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة*، وقال رافع بن خديج : إنه أتنا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يوجه إلى الكعبة فأدارنا إمامنا إلى الكعبة ودرنا معه.
﴿ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ﴾ خطاب للأمة ﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ خص الرسول صلى الله عليه وسلم أولا بالخطاب تعظيما له وذلك الخطاب وإن كان شاملا للأمة لكن بعد ذلك خوطب الأمة تصريحا لعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة، روى البخاري عن ابن عباس قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال :«هذه القبلة »* وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة وأغلقها عليه ثم مكث فيها، قال ابن عمر : سألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه ثلاثة أعمدة وراءه ثم صلى*، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، قلت : وهذين الحديثين لواقعتين فلا تعارض ﴿ وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه ﴾ يعني التحويل أو التوجه إلى الكعبة ﴿ الحق من ربهم ﴾ كانوا يعلمون من التوراة أن خاتم النبيين يصلي إلى القبلتين وإنما أنكروا ذلك تعنتا وعنادا ﴿ وما الله بغافل عما يعملون ﴾ قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا للمؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عما يفعل اليهود ففيه وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.
ولما قالت اليهود والنصارى : ائتنا بآية على ما تقول أنزل الله تعالى :﴿ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ﴾ برهان على أن الكعبة قبلة واللام موطئة للقسم ﴿ ما تبعوا قبلتك ﴾ يعني الكعبة، جواب قسم مقدر ساد مسد جواب الشرط يعني إنما تركوا قبلتك عنادا إلا لأجل شبهة تزيلها بالحجة ﴿ وما أنت بتابع قبلتهم ﴾ يعني أن أمر القبلة محكم مستمر لا ينسخ أبدا، وفيه قطع لأطماعهم في رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة من جهة البطلان ومخالفة أمر الله تعالى ﴿ وما بعضهم بتابع قبلة بعض ﴾ لأن اليهود يستقبل بيت المقدس وهو في المغرب من المدينة والنصارى يستقبل مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ﴾ في أمر القبلة وظهر لك من الحق ﴿ إنك إذا لمن الظالمين ﴾ صدق الشرطية لا يقتضي صدق طرفيها كما في قوله تعالى :﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾* فلا ينافي العصمة، والمقصود من الآية نهي الأمة وتهديدهم عن اتباع الأهواء على خلاف العلم الذي جاء من الله تعالى بأبلغ الوجوه حيث أورد الله سبحانه الشرط مؤكدا بالقسم المقدر واللام الموطئة وتعليق الفعل بكلمة أن فإنه يدل على أنه أي جزء يوجد من الأتباع فهو ظلم، والخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه حبيبا لله تعالى فغيره أولى بالتهديد، والتفصيل بعد الإجمال في قوله ﴿ ما جاءك من العلم ﴾، وتعظيم العلم بذكره معرفا باللام والجزاء بأن مؤكدة، واللام في خبرها، والجملة الاسمية، والتعبير بإذن وكلمة من فإن قولك زيد من العلماء أبلغ من قولك زيد عالم، وتعريف الظالم المستلزم لنسبة كمال الظلم إليه لأن المطلق محمول على الكامل، وتعميم الظلم حيث حذف متعلقه.
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ﴾ يعني علماءهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي وصف في التوراة وأخذ الميثاق على الإيمان به ونصرته فالضمير المنصوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه، وقيل للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة والأول أظهر بقرينة قوله تعالى :﴿ كما يعرفون أبناءهم ﴾ فإنه لا يلتبس من ولد على فراشه بغيره عندهم من أنكر منهم إنما أنكر تعصبا وعنادا، ولو كان الضمير في يعرفونه إلى القرآن لكان المناسب أن يقول كما يعرفون التوراة، قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن سلام رضي الله عنهما إن الله تعالى قد أنزل على نبيه ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾ فكيف هذه المعرفة ؟ قال عبد الله : يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني، فقال عمر وكيف ذلك ؟ فقال : أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وقد نعته الله في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقال عمر وفقك الله يا ابن سلام فقد صدقت ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة.
﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ الحق خبر مبتدأ محذوف أي هذا الحق، ومن ربك أي الحق ما ثبت من ربك كالذي أنت عليه لا غير ذلك كالذي عليه أهل الكتاب ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ من الشاكين في أنه من ربك أو من الذين كتموا الحق عالمين به وجعلوا أنفسهم من الممترين مع كونهم من المستيقنين، وليس المراد أنه أمر محقق بحيث يشك فيه ناظر، أو يقال أنه أمر لأمته بمصاحبة العارفين واكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ والاجتناب عن مصاحبة الشاكين فإن مصاحبتهم يورث الشكوك والأوهام.
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ ﴾ التنوين في كل عوض من المضاف إليه، والوجهة : اسم للمتوجه إليه أي لكل أمة من أهل الأديان قبلة ﴿ هو ﴾ الضمير راجع إلى كل، وقال الأخفش : كناية عن الله تعالى ﴿ موليها ﴾ أحد المفعولين محذوف أي موليها وجهه أي مُقبِلها عليه يقال وليته ووليت إليه إذا أقبلت عليه ووليت عنه إذا أدبرت عنه، وقرأ ابن عامر هو مولاها أي مصروف إليها يعني أن الله تعالى يولي الأمم إلى قبلتهم جعل لموسى عليه السلام قبلة ولكل نبي قبلة، فأمر القبلة أمر تعبدي لا يدرك بالرأي ولا يجوز فيه النزاع وليس ذلك لاقتضاء مكان كونه قبلة حتى يبحث عن ترجيح بعضها على بعض ﴿ فاستبقوا الخيرات ﴾ يعني بادروا بامتثال كل ما أمركم الله وإن كان قد أمركم في بعض الأحيان بالاستقبال إلى بيت المقدس وفي بعضها إلى الكعبة فإنه تعالى يحكم ما يشاء فلا تنازعوا في أمر القبلة ﴿ أين ما تكونوا ﴾ في مكان مرضي لله تعالى من حيث الاستقبال أو غير مرضي ﴿ يأت بكم الله جميعا ﴾ يقبض الله تعالى أرواحكم ثم يحشركم إلى الجزاء فيجازيكم على حسب أعمالكم ولو قبض أرواحكم وأنتم في الصلاة أو فارغ الذمنة من الواجب فذلك غاية السعادة، أو المعنى أن لكل من المسلمين قبلة وهي جانب الكعبة هو مولى وجهه إليها إن علم وإن غم عليه جهة القبلة فقبلته جهة التحري وإن كان منتفلا خارج المصر على الدابة فأي جهة استقبلها دابته فهي قبلته، أمر الله تعالى بالتولية إليها فاستبقوا الخيرات وبادروا بالصلوات ولا تؤخروها عن أوقاتها عند اشتباه القبلة، أي ما تكونوا من أقطار الأرض شرقا أو غربا يأت بكم الله تعالى يعني بصلاتكم إلى القبلة ويجعلها إلى جهة واحدة كأنها بحذاء الكعبة ﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾.
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾ كلمة حيث متروك الإضافة والجار مع المجرور متعلق بخرجت، والمعطوف عليه مقدر تضمن معنى الشرط فأدخل الفاء في الجواب تقديره أينما كنت ومن حيث أي من أي مكان خرجت فول، وقيل : من حيث خرجت بمعنى أين من كنت وتوجهت مجازا، وقال التفتازاني : حيث مضاف إلى خرجت والجار مع المجرور متعلق بقوله تعالى فول وما بعد الفاء في مثله يعمل فيما قبله، لكن يلزم حينئذ اجتماع الواو والفاء إلا أن يقدر المعطوف عليه تقديره فول وجهك أين ما كنت ومن حيث خرجت ﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ إذا صليت، كرر هذا الحكم لبيان أن حكم صلاة السفر والحضر واحد عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :«فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء »*رواه مسلم وفي رواية مسلم :«فضلت على الأنبياء بستة » الحديث ﴿ وإنه ﴾ وإن هذا الأمر ﴿ للحق من ربك وما الله بغافل عما يعملون ﴾ قرأ أبو عمرو بالياء التحتانية والباقون بالفوقانية
﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ قيل : كرر هذا الحكم لعتدد علله فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بابتغاء مرضاته، وجري العادة الإلهية على أن يولي كل أمة من أمم أولي العزم من الرسل إلى قبلة يستقبلها، ودفع حجج المخالفين، وقرن بكل علة معلولها والشبهة فالبحري أن يؤكد أمرها ويكرر ذكرها ﴿ لئلا يكون ﴾ علة لقوله فولوا ﴿ للناس عليكم حجة ﴾ يعني لليهود فإنهم يعلمون من التوراة أن الكعبة قبلة إبراهيم وأن محمدا صلى الله عليه وسلم سيحول إليها فلولا التحويل لاحتجوا بها وللمشركين من أهل مكة فإنهم أيضا كانوا يعلمون أن قبلة إبراهيم كانت الكعبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعي أنه على ملة إبراهيم حنيفا، فلولا التحويل لقالوا إن محمدا يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ﴿ إلا الذين ظلموا منهم ﴾ استثناء من الناس أي لئلا يكون لأحد من الناس حجة إلا للمعاندين، فأما الظالمون من قريش فقالوا رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنا أهدى منه وسيرجع إلى ديننا، وأما الظالمون من اليهود فقالوا إنه لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه الحق إلا حسدا وأنه يعمل برأيه، وسمى هذه حجة كقوله تعالى :﴿ حجتهم داحضة ﴾* لأنهم يسوقونهم مساقها بأن الظالم لا حجة له والموصول على هذه التأويلات في موضع الجر بدلا من الناس، وقيل الاستثناء منقطع معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل ﴿ فلا تخشوهم ﴾ فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة ومطا عنهم ولا يضركم ﴿ واخشوني ﴾ فلا تخالفوا أمري ﴿ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ﴾ معطوف على لئلا أي فولوا وجوهكم لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون، ويحتمل أن يكون معطوفا على محذوف يعني واخشوني لأحفظكم ولأتم نعمتي ولكي تهتدوا، عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار »*رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وعن علي رضي الله عنه :«تمام النعمة الموت على الإسلام ».
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ﴾ يا معشر قريش خاطبهم والناس تبع لهم لقوله تعالى لإبراهيم :﴿ إني جاعلك للناس إماما قال ﴾ ولقوله صلى الله عليه وسلم :«الناس تبع لقريش »*متعلق بأتم يعني لأتم نعمتي إتماما كما أتممتها بإرسال رسول منكم، قال محمد بن جرير : دعا إبراهيم دعوتين أحدهما :﴿ واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ والثانية ﴿ وابعث فيهم رسولا منهم ﴾ فمعنى الآية أجيب دعوة إبراهيم فيكم بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم نعمتي عليكم كما أجبت دعوته حيث أرسلت فيكم رسولا، أو هو متعلق بما بعده أي كما ذكرتكم بالإرسال فيكم اذكروني أذكركم، وبهذا يتضح أن ذكر العبد له تعالى محفوف بذكرين منه تعالى إياه ذكر سابق بالتوفيق وذكر لاحق بالإثابة ﴿ رسولا منكم ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ يعني ظاهرهما وقد مر شرحه في دعاء إبراهيم عليه السلام قدم التزكية ههنا باعتبار القصد وأخره هناك باعتبار الفعل ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ تكرار الفعل يدل على أن هذا التعليم من جنس آخر ولعل المراد به العلم اللدني المأخوذ من بطون القرآن ومن مشكاة صدر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا سبيل إلى دركه إلا الانعكاس وأما درك دركه فبعيد عن القياس، قال رئيس الصديقينك العجز عن درك الإدراك إدراك، عن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال :«لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة، قال سبحان الله ما تقول ؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنها رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة »*ثلاث مرات رواه مسلم. وعن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فأما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فبثثته في هذا البلعوم يعني مجرى الطعام. رواه البخاري، قيل المراد من الوعاء الذي لم يبثثه الأحاديث التي بين فيها أسماء أمراء الجور كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان مشيرا إلى إمارة يزيد بن معاوية، قلت : إطلاق الوعاء على علم بجزئيات معدودة غير مستحسن ولا يتصور جعله قسيما ونظيرا لعلوم الشريعة بل المراد به العلم اللذني، فإن قيل فما معنى قوله فلو بثثته لقطع هذا البلعوم، قلت : معناه أنه لو بثثته باللسان لقطع هذا البلعوم لأن تلك العلوم والمعارف لا يمكن تعليمها ولا تعلمها بلسان المقال بل إنما تدرك بالانعكاس ولسان الحال، كيف والتعلم باللسان يتوقف على أمور منها كون المعلوم مما يدرك بالعلم الحصولي ومنها كون اللفظ موضوعا بإزائه، ومنها كون الوضع معلوما للسامع وليس شيء منها متحققا في المعارف المدنية، فإن إدراكها تكون بالعلم الحضوري الذي لا يمكن ذهولها، بل سبيل ذلك وراء العلم الحصولي والحضوري وإني هناك وضع الألفاظ وهيهات هيهات للسامعين العلم بوضعها، ومن أراد أن ينطق بتلك المعارف فلا بد له من إيراد مجازات واستعارات لا يهتدي إلى مرامها العوام فيتخبط به عقولهم ويفهمون غير مراد المتكلم فيفسقونه ويكفورنه كما ترى العوام ينكرون على أولياء الله تعالى من غير سبيل إلى درك مرادهم وذلك يفضي إلى قطع البلعوم. فإن قيل إذا كان ذلك العلم بحيث لا يمكن أخذه ولا إعطاؤه بالبيان ويفضي إلى تلك المفسدة وقطع البلعوم فأي ضرورة في التكلم بها، وما بال القوم يصنفون فيها مجلدات كالفصوص والفتوحات وأي فائدة في تلك التصنيفات ؟ قلت : ليس الفرض من تلك التصنيفات إعطاء تلك العلوم بالجذب والسلوك على بعض تفاصيلها، وتطبيق أحوال المرتدين ومواجيدهم على أحوال الأكابر ومواجيدهم كي يظهر صحة أحوالهم وتطمئن به قلوبهم، وكثيرا ما يتكلمون بتلك المعارف في غلبة الحال، فالطريق السوي للعوام عند مطالعة كتبهم وسماع كلامهم عدم الإنكار وحمله على ظاهر الشريعة مهما أمكن بالتأويلات فإن كلامهم رموز وإشارات أو تفويض علمه إلى علام الغيوب كما هو شأن المتشابهات فإن في كلامهم مجازات واستعارات مصروفة عن الظاهر وليس شيء منها مخالفا للشرع بل هي لب الكتاب والسنة رزقنا الله سبحانه بفضله ومنة.
ولما كان طريق تحصيل تلك المعارف منحصرا في الإلقاء والانعكاس وكان كثرة الذكر والمراقبة إما في ملإ من الذاكرين أو في خلأ من الناس يفيد القلب والنفس صلاحية تلك الانعكاس من مشكاة صدر النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة أو بوسائط، عقب الله سبحانه لقوله ﴿ فاذكروني ﴾ قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ أذكركم ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، فإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إله باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة »*متفق عليه، وروى البغوي عن أنس عنه وفيه قال : سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ملي هذه العشرة، وعن عبد الله بن شقيق عنه صلى الله عليه وسلم قال :«ما من آدمي إلا لقلبه بيتان في أحدهما ملك وفي الآخر الشيطان فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه فوسوس له » رواه ابن أبي شيبة، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«سبق المفردون » قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال :«الذاكرون الله كثيرا والذاكرات »رواه مسلم. فاعلم أيها الأخ السعيد أن الذكر عبارة عن طرد الغفلة والغفلة هي الموجبة للقساوة، فكل أمر مشروع من قول أو فعل أو تفكر أريد به وجه الله تعالى بالإخلاص والحضور فهو ذكر وما كان بلا إخلاص فهو شرك وما كان بغفلة فغير معتد به ﴿ قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون ﴾ ﴿ فويل للمصلين الذين هم في صلاتهم ساهون ﴾ فأفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله » رواه النسائي والترمذي وابن ماجة و ابن حبان ومالك بسند صحيح عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم، وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أفضل الكلام أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » رواه مسلم، وفي رواية :«هي أفضل الكلام بعد القرآن وهي من القرآن » رواه أحمد وفي الحديث القدسي «من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي للسائلين وفضل كلام الله على سائرالكلام كفضل الله تعالى على خلقه » راوه الترمذي والدارمي من حديث أبي سعيد، ومن أجل ذلك الأخبار اختار الصوفية العلية والتهليل بالقلب أو باللسان جهرا أو إخفاتا، وأما المجدد رضي الله عنه فالمختار عنده تلاوة القرآن لما ذكرنا من فضله ولأن القرآن صفة حقيقية قائمة بالله تعالى بلا واسطة طرف بيد الله وطرفه بأيدينا فمن استهلك فيه فلا مزيد عليه والصلاة فإنها معراج المؤمن لكن هذا بعد فناء النفس وأما قبل الفناء فالمختار عنده الاقتصار على النفي و الإثبات لقوله تعالى :﴿ لا يمسه ﴾ يعني القرآن ﴿ إلا المطهرون ﴾ يعني من رذائل النفس والله أعلم ﴿ واشكروا لي ﴾ على ما أنعمت عليكم من إرسال الرسول والهداية والجذب وتوفيق السلوك وغير ذلك ﴿ ولا تكفرون ﴾ بجحد النعم وتكذيب الرسل وعصيان الأمر أو إضاعة الوقت والإعراض عن الذكر.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ ﴾ على قضاء حوائجكم الدينية والدنيوية خصوصا على نيل درجات القرب والمعارف واللدنية ﴿ بالصبر ﴾ عن الشهوات فإن النار محفوفة بها، وعلى المكاره في النفوس والأموال فإن الجنة مجفوفة بها وعلى الذكر والطاعات و العزلة عن سوء المجالسات حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«خير مال المسلم الغنم يتبع بها شغف الجبال يفر بدينه من الفتن » رواه البخاري ﴿ والصلاة ﴾ خصها بعد التعميم لرفعة شأنها فإنها أمر العبادات جامعة للطاعات معراج للمؤمن عن علي مرفوعا «الصلاة عماد الدين » رواه صاحب مسند الفردوس، وعن أنس مرفوعا «الصلاة نور المؤمن » رواه ابن عساكر، قال المجدد رضي الله عنه غاية مقامات العابدين حقيقة الصلاة والترقي هناك بكثرة الصلاة، وقد مر ذكر صلاة الحاجة فيما مر ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ قيل بالعون والنصر وإجابة الدعوة، قلت بل معية غير متكيفة يتضح على العارفني ولا يدرك كنه غير أحسن الخالقين.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ ﴾ أي هم أموات، نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، كان الناس يقولون لم يقتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا فأنزل الله هذه الآية ﴿ بل أحياء ﴾ يعني أن الله تعالى يعطي لأرواحهم قوة الأجساد فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤون وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم إن شاء الله تعالى، ومن أجل ذلك الحياة لا تأكل الأرض أجسادهم ولا أكفانهم، قال البغوي : قيل إن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم :«إن الشهداء إذا استشهدوا أنزل الله جسدا كأحسن جسد ثم يقال لروحه ادخلي فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فينظن أنهم يسمعون كلامه وينظر إليهم يظن أنهم يرونه حتى تأتيه أزواجه من الحور العين فيذهبن به » رواه ابن منذر مرسلا، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا «أرواح الشهداء عند الله في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش » فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذه الحياة مختص بالشهداء والحق عندي عدم اختصاصها بهم بل حياة الأنبياء أقوى منهم وأشد ظهورا آثارها في الخارج حتى لا يجوز النكاح بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بخلاف الشهيد، والصديقون أيضا على درجة من الشهداء والصالحون يعني الأولياء ملحقون بهم كما يدر عليه الترتيب في قوله تعالى :﴿ ومن النبئين والصيديقين والشهداء والصالحين ﴾ ولذلك قالت الصوفية العلية : أرواحنا أجسادنا وأجسادنا أرواحنا، وقد تواتر عن كثير من الأولياء أنهم ينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم ويهدون إلى الله تعالى من يشاء الله تعالى، وقد ذكر المجدد رضي الله عنه أن أرباب كمالات النبوة بالوراثة ﴿ قلت وهم الصديقون والمقربون في لسان الشرع ﴾ يعطى لهم من الله تعالى وجودا موهوبا ويدل على أن أجساد الأنبياء والشهداء وبعض الصلحاء لأ يأكلها الأرض ما أخرجه الحاكم وأبو داود عن أوس بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله حرم على الأرض عن عبد الرحمن ابن صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن جبير الأنصاري كان قد حفر السيل قبرهما وكان قبرهما مما يلي السيل وكانا في قبر واحد هما ممن استشهد يوم أحد، فحفرا ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وكان بين أحد وبين حفر عنهما ستة وأربعون سنة، وأخرج البيهقي أن معاوية لما أراد أن يجري كظامة نادى : من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدوهم رطايا ينبتون فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانبعث دما ولقد كانوا يحفرون التراب فحفروا نثره من تراب فاح عليهم ريح المسك، هكذا أخرج الواقدي عن شيوخه وأخرج ابن أبي شيبة نحوه وأخرج البيهقي عن جابر وفيه فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دما، وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المؤذن المحتسب كالشهيد المنشخظ في دمه إذا مات لم يدود في قبره » وأخرج ابن مندة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا ما ت حامل القرآن أوحى الله إلى الأرض أن لا تأكل لحمه فتقول الأرض أي رب كيف أكل لحمه وكلامك ف يجوفه » قال ابن مندة وفي الباب عن أبي هريرة وابن مسعود، قلت : لعل المراد بحامل القرآن الصديق فإن مساس بركات القرآن مختص به حيث قال الله تعالى :﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ وأخرج المروزي عن قتادة قال بلغني أن الأرض لا تسلط على جسد الذي لم يعمل خطيئة، قلت لعل المراد بالذي لم يعمل خطيئة الصالحون من عباد الله أعني الأولياء لما كانوا محفوظين من الخطابا ومغفورين حتى صلحت قلوبهم وأجسادهم والله أعلم ﴿ ولكن لا تشعرون ﴾ فيه تنبيه على أن حياتهم ليست من جنس كل أحد وإنما هي أمر لا يدرك بالعقل ولا بالحس بل بالوحي أو الفراسة الصحيحة المقتبسة من الوحي.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾ أي لنصيبنكم يا أمة محمد إصابة من يختبر لأحوالكم هل تصبرون للبلاء وتستلمون للقضاء حتى يفاض عليكم من بركات من السماء، وإنما أخبرهم بذلك قبل وقوعه لتوطينهم عليه نفوسهم ﴿ بشيء ﴾ قليل، وإنما قلله بالإضافة إلى ما وقاهم عنه وذكر بالتنكير للتقليل ليخفف عليهم ويريهم أن رحمته لا تفارقهم ﴿ من الخوف والجوع ﴾ عن ابن عباس الخوف خوف العدو والجوع القحط ﴿ ونقص من الأموال ﴾ عطف على شء أو الخوف يعني الخسران والهلاك ﴿ والأنفس ﴾ يعني بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب ﴿ والثمرات ﴾ يعني الجوائح في الثمار، وحكي عن الشافعي أنه قال ﴿ الخوف ﴾ خوف الله عز وجل ﴿ الجوع ﴾ صيام رمضان ﴿ ونقص من الأموال ﴾ أداء الزكاة والصدقات ﴿ والأنفس ﴾ الأمراض ﴿ والثمرات ﴾ موت الأولاد، عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته أقبضتم ولد عبدي ؟ قال فيقولون نعم، قال أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ قالوا نعم، قال فماذا قال ؟ قالوا استرجع وحمدك، قال ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » رواه الترمذي وحسنه ﴿ وبشر الصابرين ﴾.
﴿ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله ﴾ عبيدا أو ملكا وكل ما أعطانا من النعم فهو من مواهبه الهنيئة وعواريه المستودعة فحق علينا أن نرضى بقضائه ولا نكفر عند استرداد أماناته فإن المالك يتصرف في ملكه كيف يشاء ﴿ وإنا إليه راجعون ﴾ في الآخرة وكذا في الدنيا بالذكر والمراقبة فيعطينا إن شاء الله أفضل مما استرد منا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من يأتي منه البشارة، والمصيبة كل ما يصيب الإنسان من مكروه، انقطع فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاسترجع فقالوا : مصيبة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة » رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة وله شواهد مرفوعة وموقوفة، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع فإنه المصاب » رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي الحديث «من استرجع عند المصيبة خير الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلقا صالحا يرضاه » أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، قال سعيد بن جبير : ما أعطي أحد من المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطي أحد لأعطي يعقوب ألا تسمع قوله في فقد يوسف ﴿ يأسفى على يوسف ﴾.
﴿ أولئك ﴾ أي أهل هذه الصفة ﴿ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ الصلاة في الأصل الدعاء ومن الله ما يترتب عليه من البركة والمغفرة والرحمة جمعها للتنبيه على كثرة أنواعها وذكر الرحمة بعدها تأكيدا ﴿ وأولئك ﴾ للحق والصواب حيث استرجع ورضي منك بأجر كثير الصلاة والرحمة والهدى إن احتسب، رواه الحاكم في المستدرك وابن مردويه. وقال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية، فقد وردت الأخبار في حق ثواب أهل البلاء وأجر الصابرين، منها ما روي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض » رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه » متفق عليه، وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما من مصيبة يصيب عبدا فيقول ﴿ إنا لله و إنا إليه راجعون ﴾ اللهم أجبرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منا إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها » رواه مسلم، وعن محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله » رواه أحمد وأبو دادود، وعن سعد قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء ؟ قال :«الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلب اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة هون عليه فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ما له ذنب » رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجة والدارمي وفي الباب أحاديث كثيرة لا تحصى.
﴿ إن الصفا والمروة ﴾ جبلين بمكة ﴿ من شعائر الله ﴾ الشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، والمراد ههنا المناسك التي جعلها الله تعالى أعلاما لطاعته فإن الطواف بينهما واحب على الحج العمرة إجماعا إلا في رواية عن أحمد فقال سنة لقوله تعالى :﴿ فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ﴾ فإن نفي الجناح تدل على الإباحة وكذا قوله :﴿ فمن تطوع ﴾ والحق أن الإباحة والتطوع كل واحد منهما أعم من الوجوب فلا ينفيانه. والحج لغة : القصد والاعتمار الزيادة، وفي الشرع عبارتان من العبادتين المعروفيين والجناح بمعنى الميل عن القصد والمعنى لا إثم عليه، وأصل يطوف يتطوف أدغمت التاء في الطاء والمعنى أن يدور بهما. وسب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة فكان أساف على الصفا ونائلة على المروة وكان أكثر أهل الجاهلية يطوفون بينهما تعظيما للصنمين يتمسحون بهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين، وكانت الأنصار قبل الإسلام يعبدون المناة ويهلون لها وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا إننا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فنزلت الآية في الفريقين. أما الأول فقد رواه الحاكم عن ابن عباس قال : كانت الشياطين في الجاهلية تعرف الليل أجمع بين الصفا والمرة وكان بينهما أصنام لهم، فلما جاء الإسلام قال المسلمون يا رسول الله لا تطوف بين الصفا والمروة فإنه شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأنزل الله الآية، وأخرج البخاري عن عاصم قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله ﴿ إن الصفا والمروة ﴾ الآية، وأما الثاني ففي الصحيحين عن عروة عن عائشة قال : قلت أرأيت قول الله تعالى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما نزلت في الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية كان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله :﴿ إن الصفا والمروة ﴾ الآية.
ويدل على وجوب السعي حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت تجراه قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى رأى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول :«اسعوا إن الله عز وجل كتب عليكم السعي » أخرجه الشافعي وأحمد، وفي إسناده عبد الله بن مؤمل ضعف الدارقطني وجماعة، لكن قال ابن الجوزي قال يحيى ليس به بأس ورواه الدارقطني عن طريق منصور بن عبد الرحمن قال أبو حاتم : لا يحتج به، وقال يحيى بن معين ثقة وقال الذهبي ثقة مشهور من رجال مسلم، قال الحافظ : لهذا الحديث طرق أخرى عند الطبراني عن ابن عباس إذا انضمت إلى الأولى قويت، وقد يستدل على الوجوب بحديث أبي موسى المتفق عليه قال له النبي صل الله عليه وسلم :«فطف بالبيت وبالصفا والمروة » فإن الأمر للوجوب. ثم القائلون بالوجوب اختلفوا ؟ فذهب أبو حنيفة على أصله أن أدلة الوجوب إذا كانت ظنية لا يزاد بها على الكتاب فقال : هو واجب في الحج ليس بركن فينجبر بالدم وقال الشافعي وغيره إنه ركن لعدم التفرقة عندهم بين الفرض والواجب، وأجمع العلماء على أن السعي بين الصفا والمروة سعبة أشواط، وعلى أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعود من المروة إلى الصفا شوط آخر، وحكي عن جرير الطبري وأبي بكر الصوفي من الشافعية والطحاوي من الحنفية أن الذهاب من الصفا إلى المروة ثم العود منها إلى الصفا شوط واحد قياسا على الطواف بالبيت حيث كان المنتهى إلى المبدء، وقيل الرجوع إلى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني لنا حديث جابر الطويل وفي فلما كان آخر طوافه بالمروة قال :«لو استقبلت من أمري » الحديث رواه مسلم وعمل الجمهور المبني على النقل المستفيض يكفي لنا حجة. وأجمعوا على أن للسعي شرائط منا الترتيب وهي البداية من الصفا والختم على المروة وما قيل إنه ليس بشرط عن أبي حنيفة باطل، والحجة على الترتيب مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقوله في حديث جابر «أبدا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه » رواه مسلم ورواه أحمد ومالك وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والنسائي بلفظ " نبدأ " وروى الدارقطني بلفظ " ابدؤوا " على صيغة الأمر وصححه ابن حزم فلو ثبت صيغة الأمر فهو أظهر للإيجاب وإلا فهو حجة على الوجوب إذا ضم إليه قوله صلى الله عليه وسلم :«خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي » رواه مسلم، ومنها كونه مرتبا على أحد الطوافين إما طواف القدوم أو طواف الزيارة والفصل لا يضره ما لم يكن بينهما وقوف بعرفة، فمن سعى قبل طواف القدوم لا يعتد به إجماعا إلا ما روى عبد الرزاق عن عطاء أنه قال لو سعى ثم طاف جاز، والحجة لهذا القول حديث أسامة بن شريك ورد فيه السؤال عن السعي قبل الطواف فقال أنه عبادة غير معقولة فيقتصر على كيفية ما ورد عليها الشرع، وعن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة قالت فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«افعل ولا حرج » والجواب أن الأمة ترك العمل بهذا الحديث فهو شاذ، لنا أنه عبادة غير معقولة فيقتصر على كيفية ما ورد عليها الشرع، وعن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة قالت فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري » متفق عليه، وهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عائشة عن الطواف وأجازها في غيره من المناسك وأنها امتنعت عن الطواف والسعي جميعا وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال لها :«يجزئ عنك طوافك بالبيت والصفا والمروة عن حجك وعمرتك » فبهذا ظهر أن السعي بين الصفا والمروة تابع للطواف، وينبي على هذا أنه من طاف للزيارة ولم يسع أصلا لا بعد طواف القدوم ولا بعد طواف الزيارة يجب عليه الدم لترك السعي ولا يقضي السعي لأن السعي لم يدرك عبادة إلا بعد الطواف، وأما من فاته الطواف والسعي جميعا يجب عليه قضاء الطواف والسعي جميعا. والسنة أنه إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعوا ويصنع على المروة مثل ذلك، وإذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه ثم إذا رقى المروة مشى كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وغيره ﴿ ومن تطوع خيرا ﴾ قرأ حمزة والكسائي يطوع بالياء التحتانية وتشديد الطاء على صيغة المضارع المجزوم وكذلك ﴿ فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا ﴾، ووافق يعقوب في الأولى فقط وقرأ الجمهور بالتاء وفتح العين على الماضي، ومعناه فعل طاعة فرضا كان أو نفلا، وقال مجاهد معناه فمن تطوع بالطواف بين الصفا والمروة بناء على أنه سنة، وقال مقاتل والكلبي : فمن تطوع زاد في الطواف بعد الواجب، وقيل : من تطوع زاد في الطواف بعد الواجب، وقيل : من تطزع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه، وقال الحسن : أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من صلاة وزكاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات، وخيرا منصوب على أنه صفة مصدر محذوف أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى ﴿ فإن الله شاكر عليم ﴾ يثيب على الطاعة ولا يخفى عليه شيء، والله أعلم.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة ابن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا ن يخبروهم فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ الشاهدة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والهدى ﴾ أي ما يهدي إلى الطريق المستقيم واتباع محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ﴾ أي التوراة ﴿ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ أصل واللعن الطرد، ومعنى يلعنهم أنهم يسألون الله لعنهم و﴿ اللاعنون ﴾ الذين يأتي منهم اللعن عليهم من الملائكة والمسلمين من الجن والإنس ودواب الأرض كلها. عن البراء بن عازب قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال :«إن الكافر يضرب بين عينيه فيسمعه كل دابة غير الثقلين فيلعنه كل دابة سمع صوته فذلك قول الله تعالى :﴿ ويلعنهم اللاعنون ﴾ »أخرجه ابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير، قال ابن عباس جميع الخلائق إلا الجن والإنس، وقال قتادة : هم الملائكة، وقال عطاء : الجن والإنس، وقال الحسن : جميع عباد الله، وقال مجاهد :﴿ اللاعنون ﴾ البهائم يعلن عصاة بني آدم إذا سننت السنة وأمسك المطر وقالت من شؤم بني آدم.
﴿ إلا الذين تابوا ﴾ عن الكتمان وغيره من المعاصي ﴿ وأصلحوا ﴾ ما أفسدوا بالتدارك ﴿ وبينوا ﴾ ما في التوراة ﴿ فأولئك أتوب عليهم ﴾ أتجاوز عنهم فإن التوبة من العبد الرجوع من المعصية ومن الله الرجوع من العقوبة ﴿ وأنا التواب الرحيم ﴾ المبالغ في قبول التوبة والرحمة، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه » متفق عليه، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بحطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبد وأنا ربك من شدة الفرح » رواه مسلم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ يعني ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ قال أبو العالية : هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه الله ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس. فإن قيل الملعون من الناس فكيف يلعن نفسه ؟ قيل قال الله تعالى :﴿ يلعن بعضهم بعضا ﴾، وقيل إنهم يعلنون الظالمين وهم منهم.
﴿ خالدين فيها ﴾ أي في اللعنة أو في النار وإضمارها قبل الذكر تخفيفا لشأنها ﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ لا يمهلون من الإنظار، أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظرون إليهم نظر رحمة.
قال البغوي : إن كفار قريش قالوا يا محمد صف وانسب لنا ربك فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص وقوله تعالى :﴿ وإلهكم إله واحد ﴾ وصف الإله بالواحد للتأكيد مع دلالة تنوين إله على الوحدة، وفي تقرير للوحدانية ما ليس في قولك إلهكم واحد، والخطاب عام أي المتحق للعبادة منكم أيها العالمين إله واحد لا يمكن له نظير ولا شريك، ولا يجوز أن يكون خطابا للكاتمين زجرا لهم على معاملتهم مع الله تعالى حيث يكتمون التوحيد ويقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله بعد زجرهم على كتمان الرسالة ﴿ لا إله إلا هو ﴾ صفة ثانية لتقدير الوحدانية وتأكيدها بعد تقرير أو هو خبر ﴿ إلهكم ﴾ بعد خبر ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ خبران آخران لقول إلهكم، أو المتبدأ محذوف وفيه إشارة إلى الحجة على استحقاقه العبادة فإنه المنعم على الإطلاق مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه منعم عليه. عن أسماء بنت يزيد أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن في هاتين الآيتين اسم الله الأعظم ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصخر قال : لما نزلت :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ تعجب المشركون وقالوا إلها واحدا فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ ﴾ وما فيها من الشمس والقمر والكواكب وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني معطيهم ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فقال رب دعني وقومي فأدعوهم يوما بيوم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني أنهم كيف يسألون الصفا ذهبا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم منه في الوجود ومثله في الإمكان ﴿ والأرض ﴾ وما فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر وأنواع النباتات والحيوانات واختلاف التأثيرات والأقطار والأقاليم، وإنما جميع السماوات وأفراد الأرض لأن تعدد السماوات كان مقررا عند المخاطبين بناء على مشاهدتهم تعدد حركات الكوكب بخلاف الأرض فإن تعددها لم يثبت إلا بالشرع والاستدلال إنما هو بما هو معلوم عندهم، وقيل : لأن السماوات مختلفة بالحقية بخلاف الأرضين فإن كلها من جنس واحد وهو التراب، وقيل لأن طبقات السماوات متفاصلة بخلاف الأٍرضين وهذا ليس بشيء فإن الثابت بالسنة كون كل واحد من السموات والأرضين متفاصلة كما روينا الأحاديث سابقا في تفسير قوله تعالى :﴿ فسواهن سبع سموات ﴾ ﴿ واختلاف اليل والنهار ﴾ أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء وقصر الليالي وطول الأيام وطول الأيام في الصيف وعكسها في الشتاء ﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ﴾ كيف سخرها الله تعالى لكم تحمل الأثقال ولا ترسب في البحر والفلك واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع وتؤنث صفته وإذا أٍريد به المفرد يذكر نحو :﴿ أبق إلى الفلك المشحون ﴾ ﴿ كنتم في الفلك وجرين بهم ﴾ و﴿ تجري في البحر ﴾ ﴿ بما ينفع الناس ﴾ أي ينفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب عليها والحمل فيها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب ﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء ﴾ من الأولى للابتداء والثانية للبيان ﴿ فأحيا به الأرض ﴾ بالنبات ﴿ بعد موتها ﴾ يبسها وجذوبتها ﴿ وبث ﴾ أي نشر ﴿ فيها من كل دابة ﴾ صيغرة لا يكاد يبصر وكبيرة لا تصور تسخيرها إلا بحول الله وقوته عطف على أنزل أو على أحيا فإن الدواب ينمون من الخصب ويعيشون بالماء ﴿ وتصريف الرياح ﴾ إلى المشرق والمغرب والجنوب والشمال مفيدة ومضرة، لينة وعاصفة، حارة وباردة، اعلم أن الريح كلما وقع في القرآن المعرف باللام اختلف القراء في جمعها وإفرادا إلا في الذاريات ﴿ الرح العقيم ﴾ فإنهم اتفقوا على الإفراد وإلا في الحرف الأول من سورة الروم ﴿ الرياح مبشرات ﴾ فإنهم أجمعوا على جمعها فقرأ حمزة والكسائي ﴿ وتصريف الرياح ﴾ هنا وفي الكهف والجاثية والأعراف والنمل والثاني من الروم وفاطر بالإفراد وتابعهم ابن كثير في الأربعة الأخيرة، وقرأ ابن كثير في الفرقان وحمزة والباقون بالإفراد، وقرأ أبو جعفر كل ما ذكر على الجمع جميعا وكل ريح في القرآن منكر فهو بالإفراد إجماعا والله أعلم ﴿ والسحاب المسخر بين السماء والأرض ﴾ لا نزل ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله وأيضا هو مسخر في الجو يقلبه الله حيث يشاء، قال ابن وهب : ثلاثة لا يدرى من أين يجيء الرعد والبرق والسحاب ﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾ يتفكرون فيها وينظرون إلى أنها أمور حادثة ممكنة في ذواتها لا يقتضي ذواتها وجوداتها ولا شيئا من آثارها موجودة على وجوه مخصوصة من وجوه كثيرة كلها محتملة فلا محالة من وجود صانع يقتضي ذاته وجوده حي عليم حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد متصف بصفات الكمال منزه عن النقص والزوال متعال عن مماثل ومعارض، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه لزم إما اجتماع المؤثرين على أثر واحد بالشخص وهو محال أو عجز أحدهما أو التمانع الموجب للفساد، وينظرون إلى ما في تلك المخلوقات من آثار رحمة الله تعالى فيعرفون أنه تعالى هو المستحق للعبادة و الشكر دون غيره أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :﴿ إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴾ ثم قال :«ويل لمن قرأ ولم يتفكر فيها » وقيل للأوزاعي فما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرأ وهو يعقلهن، والله أعلم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ﴾ أصناما أو رؤساءهم الذين كانوا يطيعونهم أو ما هو أعم منهما يعني كل ما كان مشغلا عن الله تعالى مانعا عن امتثال أوامره ﴿ يحبونهم ﴾ يعظمونهم ويطيعونهم ﴿ كحب الله ﴾ كتعظيم الله أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة والمحبة ميل القلب كذا قال الزجاج، أو معنى يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله تعالى ﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ من حب الكافرين آلهتهم لأنه لا ينقطع محبة المؤمنين ولا يعرضون من الله تعالى في السراء والضراء والشدة والرخاء بخلاف الكفار فإن محبتهم لأغراض موهومة فاسدة تزول بأدنى سبب لذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم عند الشدائد إلى الله تعالى ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره، قال سعيد بن جبير إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ثم يقول للمؤمنين بيدي يدي الكافرين إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادي منادي من تحت العرش ﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾ قلت : ويمكن أن يكون المعنى والذين آمنوا أشد حبا لله من حب كل أحد لكل أحد لأن محبتهم فيما بينهم إما لتوقع جلب منفعة أو دفع مضرة أو لالتذاذ يحصل برؤية الجمال أو لانتسابهم إلى أنفسهم بالبنوة أو الأبوة فهي في الحقيقة محبة لأنفسهم لا للمحبوبين ومن ثم ترى زوالها بزوال تلك الأسباب، ثم الكفار منهم اقتصر نظرهم على الحظوظ العاجلة ولا يعرفون لله سبحانه إلا وجودا موهوما وينسبون المنافع والمضار إلى العباد أو الكواكب أو أسماء سموها هم وآباؤهم فيحبونهم كحب الله أو أشد منه، والذين يدعون الإسلام من أهل الأهواء كالمعتزلة والروافض والخوارج فلاعتقادهم بالمنافع والمضار المختصة بالدار الآخرة واعترافهم بأن مالك يوم الدين هو الله الواحد القهار يحبون الله تعالى أشد من حبهم لغيره تعالى حيث يزعمون أن منافعهم ومضارهم مختصة بالدنيا، ومن اختار الدنيا على الآخرة منهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فلا كلام فيه فهؤلاء الناس مشركون غيره تعالى به في أصل الحب المبني على إيصال النفع والضرر المبني على اعتقادهم بأن أفعال العباد مخلوقة لهم لا لله تعالى، فهم بسبب اقتدارهم بقاذورات الفلاسفة أكفاء للمشركين ومجوس في هذه الأمة، وأما أهل السنة والجماعة فلاعتقادهم بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأن الله تعالى هو الضار النافع دون غيره فكما أنهم لا يعبدون غير الله تعالى كذلك لا يحمدون غيره إلا بنوع من التجوز بإذنه وأمره وكذلك لا يحبون غيره تعالى إلا لله تعالى فحمدهم وحبهم كلها راجعة إلى الله تعالى إنما الحب الحب لله وإنما البغض البغض لله غير أن حب عامتهم راجع إلى أغراض صحيحة أخروية مرضية لله تعالى، وأما أهل التحقيق منهم وهم الصوفية العلية الرضية فكل حب مبني على خوف أو طمع دنيوي أو أخروي لا يسمونه حبا، بل الحب عندهم نار يشتعل في قلوب المحبين تحرق ما سوى المحبوب لا تبقي ولا تذر حتى تسقط عن نظر بصيرته نفسه فكيف ينظر نفعه وضره وما سواه ﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ﴾ نعم رب قد أتى على الإنسان حين مستمر من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ولا محظورا، والسر في ذلك أن أقرب الأشياء عنده العوام أنفسهم فهم لا يحيون إلا أنفسهم أو لأحل أنفسهم وأما المحققون فأقرب الأشياء إليهم هو الله سبحانه الذي قال :﴿ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ﴾ أيها العوام فهم لا يحبون أحدا إلا الله سبحانه ويحبون أنفسهم لأجله تعالى لا بالعكس ويحبون كل محبوب لأجله تعالى وأولئك هم الصادقون في دعوى المحبة الذاتية، وإذا بلغت المحبة إلى هذه المثابة يكون إيلام المحبوب عندهم كإنعامه بل أحلى وألذ في إيلامه إخلاص ما ليس في إنعامه، وهؤلاء هم الذين يقال لهم يوم القيامة بين يدي الكافرين إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادي مناد من تحت العرض ﴿ والذين آمنوا أشد حبا لله ﴾، أليس تعلم أنه من كان يعبد الله تعالى خوفا ؛ من جهنم وطمعا في الجنة كيف يختار النار المؤبدة ابتغاء مرضات الله ولا يتصور ذلك إلا من له محبة ذاتية وهو حامل أمانة الله التي وحملها الإنسان إنه كن ظلوما جهولا ﴿ ولو يرى ﴾ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لك مخاطب ومفعوله بعده، وقر أ الباقون بالياء وفاعله ضمير السامع يعني لو يرى السامع أو فاعله بعده ﴿ الذين ظلموا ﴾ باتخاذ الأنداد وحبهم كحب الله ومفعوله محذوفي يعني أنفسهم ﴿ إذ يرون ﴾ الكفار ﴿ العذاب ﴾ يوم القيامة، قرأ ابن عامر بضم الياء على النباء للمفعول والباقون بالفتح، وجواب لو محذوف يعني لرأيت أمرا فظيعا عظيما، أو لندموا ندامة شديدة، وفائدة الحذف أن لو إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه فيحذف الجواب هناك يذهب القلب فيه كل مذهب ويستقاد منه كمال الشوق أو كمال الفظع، ولو إذ تدخلان عى الماضي إنما دخلتا على المستقبل لأن في أخبار الله تعالى المستقبل كالماضي في التحقق ﴿ أن ﴾ يعني لأن ﴿ القوة ﴾ الغلبة ﴿ لله جميعا ﴾ حال ﴿ وأن الله شديد العقاب ﴾ أي شديد عذابه يتعلق بالجواب المحذوف على قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر ويعقوب ﴿ أن القوة لله جميعا وأن الله ﴾ بكسر الهمزة في أن في الجملتين فهذا استئناف والكلام قد تم عند قوله :﴿ إذ يرون العذاب ﴾ ويحتمل على قراءته ﴿ ولو يرى الذين ظلموا ﴾ على الغيبة أن يكون الرؤية بمعنى الرؤية القلبية والذين ظلموا فاعله وأن القوة إلى آخره ساد مسد مفعولية، والمعنى ولو يعلم الذين ظلمواا حين يرون العذاب والمصائب في الدنيا أن القوة لله جميعا وأن الله تعالى هو الضار والنافع وأن أفعال العباد لم يجد إلا بقدرته ومشيئته وخلقه وأن الله شديد العذاب في الدنيا والآخرة لا مانع لما يعطيه ولا معطي لما منعه ولا راد لقضائه أحد كما يعلم المؤمنون لما اتخذوا أندادا وما أحبوا غير الله تعالى كالمؤمنين، أو المعنى لو يعلم الذين ظلموا أن القوة لله جميعا حين يرون العذاب يوم القيامة لندموا أشد ندمة، ويحتمل أن يكون أن القوة لله جميعا جواب لو والمعنى ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا ينفع لعلموا أن القوة لله جميعا.
﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ منصوب بتقدير اذكر و بدل إذ يرون ﴿ وروأوا العذاب ﴾ الواو للحال وقد مضمرة أو للعطف على تبرأ وكذا في قوله تعالى :﴿ وتقطعت ﴾ وذلك التبري يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض وقيل الشياطين يتبرؤون من الإنس ﴿ وتقطعت بهم ﴾ أي عنهم ﴿ الأسباب ﴾ أي أسباب المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وهي توقعات فاسدة في النفع ودفع الضرر، وأصل السبب ما يوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودة، ومنه يقال للجبل وللطريق سبب.
﴿ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة ﴾ أي رجعة إلى الدنيا ﴿ فتبرأ ﴾ منصوب على جواب لو بمعنى ليت ﴿ منهم ﴾ أي من المتبوعين ﴿ كما تبرءوا منا ﴾ اليوم ﴿ كذلك ﴾ الإرادة ﴿ يريهم الله أعمالهم حسرات ﴾ ندامات ﴿ عليهم ﴾ حسرات ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب وإلا فحال ما تركوا من الحسنات واتباع الرسول يندمون على تضييعها وما أثروا من السيئات واختاروا الدنيا على الآخرة يتحسرون على إتيانها، قال السدي : يرفع لهم الجنة فيظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله تعالى ثم يقسم بين المؤمنين فبذلك يندمون ويتحسرون ﴿ وما هم بخارجين من النار ﴾ أصله ما يخرجون فعدل إلى الجملة الإسمية للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
﴿ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض ﴾ نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر ابن صعصة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والحام و الوصيلة ﴿ حلالا ﴾ مفعول كلوا أو حال من ما في الأرض ومن للتبعيض، و الحلال ضد الحرام أي ما لم يمنعه الشرع فإن الأصل في الأشياء الحل لقوله تعالى :﴿ خالق لكم ما في الأرض جميعا ﴾ ﴿ طيبا ﴾ مستلذا ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ أي لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحلوا الحلال. قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الخاطي وخطوات الشيطان آثارها وزلاتها يعني طرقه في المعاصي ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ ظاهر العداوة عند أهل البصيرة وإن كان يظهر الموالات لمن يغويه ولذلك سماه وليا في قوله ﴿ أولياؤهم أجمعين ﴾ وأبان يكون لازما ومتعديا، ثم ذكر عداوته.
﴿ إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ﴾ السوء في الأصل اسم لما يسوء صاحبه يقول ساء سواء ومساءة أي أحزنه وسأته فسيء أي حزنته فحزن، والفحشاء مصدر على وزن بأساء وضراء والمراد بهما الإثم والعطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء لاستقباحه إياه وقيل السوء مطلق المعصية والفحشاء الكبيرة أو ما فيه حد، والمراد بأمره وسوسته وذا لا يقتضي سلطانه إلا على من اتبعه من الغاوين. عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فأدناهم منه منزلة أعظم فتنة، يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقته بينه وبين امرأته، قال : فيدنيه منه منزلة أعظم فتنة، يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال : فيدنيه منه ويوقل : نعم أنت » رواه مسلم، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ الله من الشيطان ثم قرأ :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ﴾ » رواه الترمذي، وفي حديث ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم :«الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة » رواه أبو داود، ﴿ وأن تقولوا ﴾ في موضع الجر عطفا على السوء ﴿ على الله ما لا تعلمون ﴾ من تحريم الحرث والأنعام.
﴿ وإذا قيل لهم ﴾ أي لليهود ﴿ اتبعوا ما أنزل الله ﴾ قصة مستأنفة والضمير عن غيره مذكور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عن عذاب الله ونقمته فقال رافع بن حريملة ومالك بن عوف بل نتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيرا منا فأنزل الله تعالى، والمراد بما أنزل الله القرآن أو التوراة فإنها أيضا تأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل هي نازلة في مشركي العرب وكفار قريش، والضمير راجع إلى قوله :﴿ ومن الناس من يتخذ من دون الله ﴾ وقيل الضمير راجع إلى الناس في قوله تعالى :﴿ يأيها الناس كلوا ﴾ وعدل عن خطابهم عنهم إيذانا على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم انظروا إلى هؤلاء الحمقاء ماذا يجيبون ﴿ قالوا بل نتبع ﴾ قرأ الكسائي ﴿ بل نتبع ﴾ بإدغام اللام في النون فإنه يدغم لام هل وبل في ثمانية أحرف التاء والخاء والزاء، والسين، والطاء والظاء، وا لنون، نحو :﴿ هل تعلم ﴾ و﴿ هل ثوب ﴾ و﴿ بل زين ﴾ و﴿ بل سولت ﴾ ﴿ بل طبع ﴾ ﴿ بل ظننتم ﴾ ﴿ بل ضلوا ﴾ ﴿ هل ندلكم ﴾ ﴿ هل ننبئكم ﴾، و﴿ هل نحن ﴾، وشبهه وأدغم حمزة في التاء والثاء والسين فقط واختلف عن خلاد عند الطاء في قوله تعالى :﴿ بل طبع الله ﴾، وأظهر هشام عند النون والضاد وعند التاء في الرعد ﴿ هل تستوي ﴾ لا غير وأدغم أبو عمرو ﴿ هل ترى من فطور ﴾ في الملك، فهل ترى لهم فيا لحاقة لا يغر وأظهر الباقون اللام في الثمانية ﴿ ما ألفينا ﴾ ما وجدنا ﴿ عليه آباءنا ﴾ من اتباع التوراة أو من التحريم والتحليل ﴿ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ من اتباع التوراة أو من التحريم والتحليل ﴿ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ﴾ الواو في الأصل واو العطف ويقال في هذا المقام واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ، يعني أيتبعون آباءهم لو كان آباؤهم يعقلون ولو كان آباؤهم لا يعقلون فحذف صدر الجملة، والجملة حال وكلمة لا يعقلون عام ومعناه الخصوص أي لا يعقلون شيئا من أمر الدين لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا. فإن قيل نزول الآية في اليهود فكيف يتصور أن آباءهم لا يعقلون شيئا فإنهم كانوا متبعين للتوارة ؟ قلت : بل لم يكونوا متبعين للتوارة ولو كانوا متبعيها كما كفروا بعيسى عليه السلام، أو يقال فيه تعريض بأنه لعلهم ألفوا آباءهم على تحريف التوراة فحرفوها إذ لو وجدوهم على التوراة لوجدوهم طالبين لدين محمد صلى الله عليه وسلم منتظرين له.
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ﴾ النعق والنعيق صوت الراعي بالغنم، والآية إن كانت في عبدة الأوثان فلا حاجة في تأويلها، ومعناه مثل الذين كفروا في عبادتهم ودعائهم للأوثان حيث لا يسمعون دعاءهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع كما في قوله تعالى :﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ﴾ والتمثيل من باب التمثيل المركب فلا محذور في قوله تعالى :﴿ إلا دعاء ونداء ﴾ وإن كانت الآية في اليهود فالتوجيه إن مثل الذين كفروا من اليهود، في جواب دعائك إياهم إلى الإسلام بقولهم ﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾ كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من البهائم فإنه كما أن الناعق لا يقصد بصوته معنى بل يتكلم بمهل كذلك الكافر لا يقول جوابا مقبولا بل يقول صوتا غير مغن، أو الغرض منه تشبيه الكفار بالبهائم فحينئذ لا بد من التأويل فتقديره مثلك ومثل الذين كفروا، أو مثل داعي الذين كفورا بحذف المضاف في المشبه، أو تقديره ومثل الذين كفروا كمثل المنعوق به فالكلام خارج على الناعق والمراد به المنعوق به وهو فاش في كلام العرب يقلبون الكلام يقولون فلان يخافك خوف الأسد وقال الله تعالى :﴿ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ﴾ وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح، و لمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيه كالبهائم التي ينعق عليها فيسمع الصوت ولا يفهم معناه، أو المعنى مثل الذين كفروا في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها كمثل المنعوق به من البهائم التي يسمع الصوت ولا يفهم ما تحته، فإن آباءهم الذين كانوا قبل نسخ التوراة كانوا يتبعون ما أنزل الله في التوراة ينتظرون محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن وهؤلاء يدعون اتباع التوراة بعدما نسخت ويخالفون التوراة في إنكار القرآن ﴿ صم بكم عمي ﴾ رفع على الذم أي لا يسمعون سماع تفكر ولا ينطقون بالخير ولا يبصرون الهدي ﴿ فهم لا يعقلون ﴾ أمر الدين للإخلال عن النظر.
ولما أمر الله تعالى الناس بأكل الحلال الطيب والكف عن اتباع الشيطان وطال الكلام فيما يتعلق بالكفر كان لأكل الحلال الطيب غاية وهو الشكر وأراد الله تعالى ذكره أعاد الأمر بالأكل ليتصل به قوله واشكروا، ولما كان الشكر مختصا بأهل التوحيد والإيمان خاطب هنا بخطاب أهل الإيمان فقال ﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ﴾ حلالات مستلذات ﴿ ما رزقناكم ﴾ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الل عليه وسلم :«إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ﴾ وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك » رواه مسلم ﴿ واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ﴾ يعني إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون بأنه مولى النعم كلها فاشكروه فإن عبادتكم لا يتم إلا بالشكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى :«إني والإنس والجن في نبإ عظيم أخلق ويعبد غير وأرزق ويشكر غيري » أخرجه الطبراني في مسندات الشاميين والبيهقي في شعب الإيمان والديلمي من حديث أبي الدرداء.
﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ قرأ أبو جعفر ﴿ الميتة ﴾ في كل القرآن بالتشديد والباقون إنما شددوا البعض وسنذكرها إن شاء الله تعالى. فإن قيل كلمة إنما للحصر وكم من حرام يذكر ؟ قلنا : المختار عند الحنفية ما قال نحاة الكوفة : إن كلمة إنما ليست للقصر بل هي مركبة من إن للتحقيق وما الكافة، وعلى تقدير التسليم فالقصر إضافي بالنسبة إلى ما حرمه الله من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام نحوها والله أعلم. والميتة : حيوان مات من غير ذكاة وقد كان من شأنها الذكاة فالسمك والجراد غير داخلتين فيها أو هما خصتا منها بالحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال » أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما قطع من بهيمة وهي حية فهو ميتة » وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الميتة ولا أكل ثمنه ولا الانتفاع بشحمه ولا بجلده قبل الدباغ، عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة :«إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال :«لا هو حرام » ثم قال عند ذلك :«قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه » متفق عليه. وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها » متفق عليه، وعن عبد الله بن حكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، رواه أحمد والشافعي وأصحاب السنن الأربعة، وفي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود. قبل موته بشهر وفي رواية أحمد بشهر أو شهرين قال الترمذي حسن صحيح، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه وزاد وأن يفترش. وعن معاوية بلفظ عن ركوب النمار، رواه أبو داود والنسائي. وعن المقدام بن معد يكرب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور ر، رواه أحمد والنسائي، وعن أبي هريرة مرفوعا :«لا تصحب الملائكة رقعة فيها جلد نمر » رواه أبو داود. واختلفوا في جلد الميتة بعد الدباغ ؟ فقال أبو حنيفة والشافعي رحمه الله : يطهر بالدباغ فيجوز بيعه والانتفاع به، وقال مالك وأحمد لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به. لنا : أحاديث منها حديث منها حديث ابن عباس قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة فقال :«ألا استمتعتم بجلدها، فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة، قال :«إنما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهر » وفي بعض الروايات «ألا استمتعتم بجلدها » وفي بعضها «إنما حرم لحمها ورخص لكم في مسكها » قال الدارقطني أسانيده صحاح، وحديثه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«أي إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم وعن ابن عمر مرفوعا مثله رواه الدارقطني بسند حسن، وعن سفيان مثله رواه مسلم، وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم «طهروا كل أديم دباغه » وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن ينتفع بجلود أصحاب الميتة إذا دبغت، وعن سودة : ماتت شاة لنا فدبغنا مسكها، رواه البخاري. واحتج أصحاب مالك وأحمد بما ذكرنا سابقا من الأحاديث أنه لا يجوز الانتفاع من الميتة بشيء، قالوا : هذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد في حديث عبد الله بن حكيم أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أو شهرين، قلنا : حديث عبد الله بن حكيم مضطرب سنده ومتنه فلا يصادم ما روينا من الصحاح فلا يكون ناسخا، على أن الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ ونحن نقول بحرمة الانتفاع به. فإن قيل : ورد في حديث عبد الله بن حكيم عند الطبراني في الأوسط وابن عدي قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في أرض جهينة «إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب » قلنا هذا الطريق لا يصح فإن فيه فضالة بن مفضل، قال أبو حاتم الرازي : لم يكن بأهل أن يكتب منه أهل العلم. واختلفوا في شعر الميتة وعظمها وعصبها وقرنها وحافرها ؟ فقال أبو حنيفة طاهر يجوز بيعه والانتفاع به وقال الشافعي نجسن، وأحمد ومالك معنا في الشعر ومعه في العظم والعصب، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم :«لا يتنفع من الميتة بشيء » واحتج الشافعي على نجاسة الشعر بحديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ادفنوا الأظفار والدم والشعر فإنه ميتة » والجواب أن الحديث الثاني فيه عبد الله بن عزيز قال أبو حاتم الرازي : أحاديثه منكرة وليس محله الصدق عندي، وقال علي بن الحسين بن الجنيد : لا يساوي فلسا يحدث كذب، وأما الحديث الأول فقد تكلم عليه ولو سلم عن التكلم فهو معارض بما تقدم من حديث ابن عباس بلفظ إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمها فأما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به، لكن فيه عبد الجبار ضعيف وذكره ابن حبان في الثقات، وعنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ألا كل شيء من الميتة خلال إلا ما أكل منها فأما الجلد والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال » وفيه أبو بكر الهذلي متروك، قال غندر كذاب، وقال يحيى وعلي : ليس بشيء، وحديث ثوبان اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج، فيه حميد وسليمان مجهولان. ولنا من الآثار ما ذكره البخاري معلقا قال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره : أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها لا يرون به بأسا، قلت : أسلاف الزهري هم الصحابة رضي الله عنهم أو كبار الصحابة، وقال حماد بن أبي سليمان : لا بأس بريش الميتة، وقال ابن سيرين وإبراهيم : لا بأس بتجارة العاج، والله أعلم ﴿ والدم ﴾ أراد به الجاري منه إجماعا كما في قوله تعالى :﴿ أو دما مسفوحا ﴾ ﴿ ولحم الخنزير ﴾ أجمعوا على أن الخنزير نجس عينه لا يجوز بيع شيء من أجزائه حتى شعره، وإنما خص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يقصد من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، ويدل على حرمة عينه قوله تعالى :﴿ فإنه رجس ﴾ وسنذكر تفسيره في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى. وهل يجوز الانتفاع بشعره ؟ قال أبو حنيفة ومالك يجوز الانتفاع به للخرز للضرورة، ومنع منه الشافعي وكرهه أحمد، ولو وقع في الماء القليل أفسده وعند محمد لا يفسد لأن إطلاق الانتفاع دليل طهارته ولأبي يوسف أن الإطلاق للضرورة ولا يظهر الضرورة إلا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع يغايرها، كذا في الهداية، وقال الفقيه أبو الليث : لو لم يوجد إلا بالشراء جاز شراؤه، وقال ابن همام قد قيل أيضا إن الضرورة ليست ثابتة في الخرز به بل يمكن أن يقام بغيره وقد كان ابن سيرين لا يلبس خفا خرز بشعر الخنزير، قال ابن همام فعلى هذا لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ﴿ وما أهل به لغير الله ﴾ قال الربيع بن أنس : يعني ما ذكر عند ذبحه اسم غير الله، والإهلال أصله رؤية الهلال يقال أهل الهلال، ثم لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند رؤية الهلال سمي رفع الصوت مطلقا الإهلال، وكان الكفار إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر مهل، وأما متروك التسمية فسنذكرها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى ﴿ فمن اضطر ﴾ قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر النون ههنا ومن ﴿ أن اعبدوا ﴾ ﴿ وإن احكم ﴾ و﴿ لكن انظر ﴾ و﴿ إن اغدوا ﴾ وشبهه وكسر الدال من ﴿ لقد استهزئ ﴾ والتاء من ﴿ وقالت اخرج ﴾ والتنوين من ﴿ فتيلا انظر ﴾ و﴿ مبينا اقتلوا ﴾ وشبهه إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة وابتدأ همزة الوصل بالضم، ووافقهم ابن عامر في التنوين فقط وكذا قرأ عاصم وحمزة بكسر اللام والواو مثل ﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾ وتابعهما يعقوب إلا في الواو، وقرأ الباقون بالضم في كلها بضمة أول الفعل، وقرأ أبو جعفر بكسر الطاء اتباعا لكسر النون. والمعنى أن من اضطر إلى أكل الميتة أو نحوه مما ذكر سواء كان الاضطرار لأجل المخمصة أو الإكراه أو غير ذلك حل له أكلها بالإجماع ﴿ غير باغ ﴾ حال أي أكل غير باغ للذة وشهوة ﴿ ولا عاد ﴾ أي متجاوز قدر الحاجة، فالحاصل أنه لا يجوز للمضطر الكل منه إلا قدر سد الرمق، وفي مذهب الشافعي يجوز له الشبع، وهو قول مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، والراجح من مذهب الشافعي أنه إن توقع حلالا قريبا لم يجز غير سد الرمق وأن للمنقطع أن يشبع ويزود، وقال بعض أصحاب الشافعي في تأويل الآية : غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق أو فساد في الأرض، قال البيضاوي وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد، وقال البغوي وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير، وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفر أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا يأن يترخص برخص المسافرين حتى يتوب، قلت : والظاهر أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، وقال مقاتل بن حبان : غير باغ أي مستحل لها ولا عاد أي مقصر في طلب ما أبيح له، ﴿ فلا إثم عليه ﴾ في أكلها ﴿ إن الله غفور ﴾ لما أكل في حالة الاضطرار ﴿ رحيم ﴾ حيث رخص للعباد في ذلك، وهذا يدل على أن المضطر إن لم يأكل الميتة ونحوها حتى مات فلا إثم عليه أيضا فإن الأكل عند الاضطرار مباح رخصة من الله تعالى وليس بواجب وهو أصح قول الشافعي، وقال أبو حنيفة : بل يأثم ويجب عليه حينئذ أكله لقوله تعالى :﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ﴾ حيث استثنى ما اضطررتم إليه من المحرم فبقي على الأصل مباحا والمباح واجب أكله عند خوف الهلاك، وإنما سمي ذلك رخصة مجازا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ يعين آيات التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجوده مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه ذكره البغوي وكذا أخرج الثعلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وأخرج ابن جريج عن ابن عباس إن هذه الآية والتي في آل عمران نزلتا في اليهود ﴿ ويشترون به ثمنا قليلا ﴾ يعني أعراض الدنيا فإنها وإن جلت فهي قليلة بالنسة إلى ثواب الآ×رة ﴿ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ﴾ سمى الرشوة والحرام نارا لأنه يؤدي إليها، أو لأنه صير نارا في الآخرة، أو المعنى ما يأكلون في الآخرة إلا النار، ومعنى في بطونهم ملأ بطونهم ﴿ ولا يكلمهم الله يوم القيامة ﴾ بالرحمة وبما يسرهم أو هي كناية عن غضبه عليه نعوذ بالله منه ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي لا يثني عليهم أو لا يطهرهم من دنس الذنوب بخلاف عصاة المؤمنين فإنهم إن عذبوا بالنار كان ذلك تطهيرا لذنوبهم وإعدادا لهم لدخول الجنة ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾.
﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ﴾ في الدنيا ﴿ والعذاب بالمغفرة ﴾ في الآخرة بكتمان الحق لأغراض دنية دنيوية ﴿ فما أصبرهم على النار ﴾ يعني ما أشد صبرهم عليها، تعجيب للمؤمنين على اختيارهم موجبات النار مع علمهم بتحقيق المصير إليها كأنهم صبروا عليها وإلا فأي صبر.
﴿ ذلك ﴾ العذاب ومحله الرفع، وقيل : محله النصب، يعني فعلنا ذلك ﴿ بأن الله نزل الكتاب ﴾ يعني التوراة أو جنس الكتاب التوراة والقرآن وغيرهما ﴿ بالحق ﴾ فاختلفوا، وقيل : معناه ذلك الاجتراء من اليهود على الله وصبرهم على النار من أجل أن الله تعالى نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى :﴿ سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم ﴾ ﴿ وإن الذين اختلفوا في الكتاب ﴾ اللام للجنس، واختلافهم إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض، أو للعهد والإشارة إما إلى التوراة واختلافهم فيه اتباعهم بعض أحكامه وتركهم بعضه وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم إن سحر أو كلام يقوله بشر أو أساطير الأولين ﴿ لفي شقاق بعيد ﴾ عن الحق.
﴿ ليس البر ﴾ قرأ حفص بالنصب على أنه خبر ليس واسمها ما بعده والباقون بالرفع بعكس التركيب، والبر كل فعل مرضي لله تعالى ﴿ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب يعني إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني ليس البر ما عليه اليهود والنصارى فإن قبلتهن منسوخة ودينهم كفر. وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية، قال البغوي : هذا قول قتادة ومقاتل بن حبان، وقيل : المراد به المسلمون وذلك أن الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا أتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى أي جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحدت الحدود وصرفت القبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية يعني ليس البر كله مقتصرا في أن تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعلموا غير ذلك ولكن البر ما ذكر في هذه الآية، قال البغوي هذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، قلت : وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه، قلت ذكره تعالى بتولية الوجوه وعدم تسميته بالصلاة قرينة على أن المخاطبين بها اليهود والنصارى دون المؤمنين وقد قال الله تعالى للمؤمنين ﴿ وما كان الله ليضيع إيمانكم ﴾١ يعني صلاتكم ﴿ ولكن البر ﴾ قرأ نافع وابن عامر لكن مخففة والبر بالرفع في الموضعين والباقون بالتشديد والنصب فيهما. ﴿ من آمن ﴾ لا بد للحمل أن يعتبر المصدر بمعنى الفاعل مبالغة أو يقدر المضاف في الاسم أو الخبر يعني لكن البر أو ذا البر من آمن أو لكن البِرَّ بِرُّ من آمن أوفق. ﴿ بالله ﴾ المتوحد بجلال ذاته وكما صفاته المنزه عن وسمة الحدوث والمناقص بحيث لا يتصور ثناؤه إلا بما أثنى به نفسه. ﴿ واليوم الآخر ﴾ يعني يوم القيامة، فإنه آخر الأيام، أو المراد به من وقت النشور إلى الأبد المشتمل على العبث والحساب والميزان والصراط والجنة وما فيها والنار وما فيها والشفاعة والمغفرة وخلود الثواب والعذاب وكل ما ثبت بالكتاب والسنة. ﴿ والملائكة ﴾ بأنهم خلقوا من نور أجسام ذووا أرواح أولوا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل وله ستمائة جناح، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون قوتهم التسبيح والتهليل. ﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ﴾ يموتون ثم يبعثون، ومنهم رسل يأتون بالوحي على الأنبياء عليهم السلام والتسليمات وجزاء أعمالهم رضوان الله تعالى منهم ومراتب قربهم عند الله تعالى حيث قال :﴿ عند ذي العرش مكين ﴾٢ فهم غير محتاجين في جزاء أعمالهم إلى دخول الجنة بل خزنة النار وملائكة العذاب أيضا يوفون أجورهم وهم لا يظلمون، فلا يذهب عليك أن عوام المؤمنين أفضل من الملائكة أجمعين حيث يدخلون الجنة لأجل الجزاء دون الملائكة نعم خواص البشر يعني الأنبياء والرسل منهم أفضل من جميع الملائكة لأجل التجليات الذاتية المختصة بالبشر لاختصاصها بالتراب، وكما أن جزاء أعمال الملائكة غير متوقفة بدخول الجنة كذلك بعض الأصفياء من البشر يحصل لهم في الدنيا بعض ما يحصل لهم في الجنة، قال الله تعالى في حق خليله عليه السلام ﴿ وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ٣ { والكتاب ﴾ والمراد به الجنس أو المراد به القرآن، فإن الإيمان به مستلزم لجميع الكتب المنزلة، والقرآن وغيره من الكتب والصحف كلام الله غير مخلوق، والحق أنه النظم والمعنى جميعا، وتعاقبه وترتبه على ألسنة البشر وأسماعهم المقتضي للحدوث لا يستلزم كونه كذلك قائما به سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى. ﴿ والنبيين )اجمعين لا نفرق بين أحد من رسله أولهم آدم عليه السلام وخاتمهم أفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، ولا يجوز تعيين العدد في الإيمان بالنبيين لأن الله سبحا نه قال :{ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾٤ والعدد إنما ورد في بعض أحاديث الآحاد وذا لا يفيد القطع ومبنى الإيمان على القواطع، كلهم معصومون من الصغائر والكبائر يصدق بعضهم بعضا ولا خلاف بينهم في الإيمانيات إنما الخلاف في فروع الأعمال بناء على نسخ الأحكام، ومن ههنا يظهر بطلان قول الروافض حيث يجعلون الإيمان بالإئمة داخلا في الإيمان إذ لو كان كذلك لذكر الله تعالى ذلك كما ذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة والله أعلم.
﴿ وآتى المال على حبه ﴾ الجار والمجرور في موضع الحال والضمير راجع إلى الله سبحانه، فإن كل ما أعطي لوجه الله فثوابه على الله وما كان لغير الله فالله سبحانه منه بريء. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ثلاثة نفر ثالثهم رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه في سبيل الله إلا أنفقت فيها لك، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار »* رواه مسلم. وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »* رواه مسلم، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى :«أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » وفي رواية :«فأنا منه بريء هو للذي عمله »* رواه مسلم. أو الضمير راجع إلى المال أي أعطى المال في حال صحته ومحبته المال كذا قال ابن مسعود. وعن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا ؟ قال :«أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان »* متفق عليه. ويؤيد إرجاع الضمير إلى المال قوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ ويحتمل أن يكون حينئذ معناه أعطى المال حال كون ذلك المال أحب الأموال إليه فهو نظير قوله تعالى :﴿ أنفقوا من طيبات ما كسبتم ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ﴾*الآية، أو الضمير راجع إلى المصدر يعني تعطي المال على حب الإعطاء بسخاوة القلب وشرح الصدر. ذوي القربى } القربى مصدر بمعنى القرابة، قدمهم لأن إيتاءهم أولى وأحق، ويدخل في ذوي القربى ذوي القربى النسبي والسببي من الزوج والزوجة والمملوك، وعن أبي هريرة قال : قال رسور الله صلى الله عليه وسلم :«دينار أنفقته في سبيل الله ودنيار أنفقته في رقبة ودينار تصدقته على مسكين ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك »* رواه مسلم، وعن زينب امرأة ابن مسعود قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن » فقالت هي وامرأة أخرى : أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة »*متفق عليه. وعن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة »*رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. ﴿ واليتامى ﴾ إذ فقد الصبي أباه قبل البلوغ فهو يتيم، قال البيضاوي : في ذوي القربى واليتامى يريد المحاويج منهم ولم يقيد لعدم الالتباس، قلت : هذا التقييد غير ظاهر فإن الكلام في إيتاء المال تطوعا أو ما هو أعم من الفريضة والتطوع وأما الزكاة المفروضة فسيرد ذكره بعد ذلك، والإيتاء تطوعا لا يتقيد بالمحاويج فإن صلة الرحم وتفريح اليتيم قد يكون مع كون المعطى له غنيا بل لا يتوقف الصلة على إسلام المعطى له قال الله تعالى :﴿ وصاحبهما في الدنيا معروفا ﴾* عن أسماء بنت أبي بكر قالت : قدمَتْ على أمي وهي مشركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صليها »*متفق عليه، وعن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالحوا المؤمنين ولكن لهم رحم أبلها ببلالها »*متفق عليه، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ليس الواصل بالمكافئ لكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها »*رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا » وفي رواية :«كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى »*رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي ﴿ والمسكين وابن السبيل ﴾ قال مجاهد : هو المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك، وقيل هو الضيف، عن أبي شريح قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه »*متفق عليه، ﴿ والسائلين ﴾ عن أم عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ردوا السائل ولو بظلف محرق » وفي رواية :«إن لم تجدي إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه »*رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«للسائل حق وإن جاء على فرسه »*رواه أحمد، وأخرج أبو داود من حديث علي و إسناده جيد، وابن راهويه في مسنده من حديث فاطمة الزهراء عليها السلام :«إن للسائل حقا وإن أتاك على فرس مطوق بالفضة » قلت : وهذا الحديث يدل على أن إعطاء السائل لا يتوقف على كونه محتاجا فإن السؤال وإن كان حراما على غير المحتاج لكن على المسؤول منه حق أن يعطيه ﴿ وفي الرقاب ﴾ يعني المكاتبين فهو نظير قوله تعالى :﴿ فك رقبة ﴾* وقيل : فداء الأسارى، قال الله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ﴾*.
﴿ وأقام الصلاة ﴾ المفروضة والنافلة، يعني أداها بحقوقها ورعاية سننها وآدابها، ﴿ وآتى الزكاة ﴾ المفروضة وفيما سبق كان ذكر الصدقات النوافل أو ما هو أعم من الفريضة والنافلة فذكر الفريضة بعدها لمزيد الاهتمام، وقيل المقصود منه ومما سبق واحد وهي الزكاة المفروضة لكن الغرض مما سبق بيان مصارفها وبالثاني أداؤها والحث عليها، قلت : والأول أولى لأن الكلام في بيان البر وهو من الأفعال ما هو مرضي لله تعالى فريضة كانت أو نافلة، ويؤيده حديث فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن في المال لحقا سوى الزكاة ». ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾*الآية، رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي، والمراد بالحق أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا بالإجماع لحديث طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإسلام فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكاة، فقال : هل علتي غيرها ؟ قال :«لا إلا أن تطوع »*متفق عليه.
﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾ فيما بينهم وبين الله تعالى يوم الميثاق وفي الحياة الدنيا إذا حلفوا أو نذروا أوفوا، وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا وإذا قالوا صدقوا وإذا أؤتمنوا أدوا وإذا استشهدوا على الحق شهدوا، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا أؤتمن خان »*متفق عليه، زاد مسلم «وإن صام و صلى وزعم أنه مسلم » وعن عبد الله بن عمروقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسل
١ سورة البقرة، الآية: ١٤٣.
٢ سورة التكوير، الآية: ٢٠.
٣ سورة العنكبوت، الآية: ٢٧.
٤ سورة غافر، الآية: ٧٨.
﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾ القصاص المساواة والمماثلة، قال البغوي : قال الشعبي والكلبي وقتادة : نزلت هذه الآية في حيين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، قال مقاتل بن حيان : كانت بين قريظة والنضير، وقال سعيد بن جبير كانت بين الأوس والخزرج، قالوا جميعا : وكان لأحد الحيين على الآخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور فأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة فرضوا وسلموا، كذا أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير. قلت : ورضاؤهم وتسليمهم وخطاب الله تعالى إياهم بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾دليل على أن المخاطبين بهم الأوس والخزرج الذين صاروا أنصار الله دون قريظة والنضير فإنهم كانوا أعداء الله كفارا، وفي قوله تعالى :﴿ كتب عليكم القصاص ﴾ حجة لأبي حنيفة رحمه الله على قوله : إن الواجب في القتل العمد القصاص فقط دون الدية، وأنه لا يجوز أخذ المال إلا برضاء القاتل، ويؤيده قوله عليه السلام :«في العمد القود »*رواه الشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس في حديث طويل . واختلف في وصله وإرساله وصحح الدارقطني الإرسال، والمرسل عندنا حجة، ورواه الدارقطني من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا «العمد قود والخطأ دية » وفي إسناده ضعف. ولكل واحد من مالك والشافعي وأحمد في المسألة قولان : أحدهما أن الواجب هو القود، لكن يجوز لورثة المقتول أن يعفو عن القود إلى الدية من غير رضا الجاني، وثانيهما أن الواجب أحدهما لا بعينه ؛إما القصاص وإما الدية، والفرق بين القولين يظهر إذا عفى مطلقا من غير ذكر الدية، فعلى القول الأول يسقط القصاص بلا دية، وعلى القول الثاني يثبت الدية، واحتجوا على جواز أخذ المال من غير رضاء الجاني بأحاديث، منها حديث أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة بعد مقامي هذا «فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا أو إن أحبوا أخذوا العقل »*رواه الترمذي والشافعي، وروى ابن الجوزي والدارمي عن أبي شريح الخزاعي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من أصيب بدم أو خبل –والخبل الجرح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل، فإن أخذ من ذلك شيء ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا أبدا » ومنها حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل »*متفق عليه، ومنها حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جدعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها »* رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في الجواب عن هذه الأحاديث : إن المراد أن أولياء المقتول بالخيار في القود والصلح، والصلح لا يكون إلا برضاء القاتل، والظاهر أن القاتل برضاه لحقن دمه ويترك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رضاء القاتل بناء على الظاهر والله أعلم.
﴿ الحر ﴾ يقتل ﴿ بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾ وهذا لا يدل على أن الحر لا يقتل بالعبد، والعبد لا يقتل بالحر، والأنثى لا يقتل بالذكر، أو الذكر لا يقتل بالأنثى، فإن ذلك الأحكام مسكوت عنها في هذه الآية ولا عبرة بالمفهوم عند أبي حنيفة رحمه الله مطلقا، وكذا في هذه الآية عند القائلين بالمفهوم إذ المفهوم عندهم إنما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وكان الغرض ههنا دفع استطالة أحد الحييين على الآخر فالمفهوم المعتبر من هذه الآية على ما يقتضيه القصة أن الحر إذا تفرد بقتل الحر يقتل القاتل وحده ولا يقتل معه غيره لأجل شرف المقتول وكذا العبد إذا قتل العبد يقتل ذلك العبد القاتل بالعبد المقتول ولا يقتل حر مكان ذلك لأجل شرف المقتول وكذا الأنثى إذا قتل الأنثى قتلت القاتلة لا رجل مكان امرأة والله أعلم.
بقي البحث عن الأحكام المسكوت عنها في تلك الآية. فقال فقال أبو حنيفة رحمه الله يقتل النفس حرا كانت أو رقيقا، ذكرا كان أو أنثى، مسلما كان أو ذميا بالنفس كيف ما كانت لعموم قوله تعالى :﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ﴾* والأحكام الإلهية في الكتب المنزلة السابقة إذا ثبتت عندنا حكايتها بالقرآن أو السنة ولا عبرة بقول الكفار من اليهود و النصارى فهي باقية واجبة اتباعها إذ الحاكم واحد والشرع واحد. قال الله تعالى :﴿ فبهداهم اقتده ﴾* وقال الله تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ﴾* ولا يختلف الأحكام إلا لأجل النسخ سواء كان في كتاب واحد أو كتب وما لم يظهر النسخ يبقى الحكم، ويدل أيضا على بقاء هذا الحكم حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق لدينه التارك للجماعة »* متفق عليه، وحديث أبي أمامة أن عثمان أشرف يوم الدار فقال أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ؛زنى بعد إحصان أو كفر بعد إسلام أو قتل نفس بغير حق » الحديث رواه الشافعي وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي، وفي الباب عن عائشة رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، لكن قال أبو حنيفة لا يُقْتَل رجل يقتُل عبدَه ولا مدبرَه، ولا مكاتبه وبعبد ملك بعضه ولا بعبد ولده لأنه يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وبه قال الجمهور خلافا لداود محتجا بما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي عن الحسن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه »* قال الجمهور : هذا الحديث محمول على السياسة والحديث مرسل لم يسمع الحسن عن سمرة وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحاسهمه من المسلمين ول يقد به وأمره أن يعتق رقبة، لكن فيه إسماعيل بن عياش ضعيف والله أعلم. وأما غير أبي حنيفة رحمه الله فاتفقوا على أن العبد يقتل بالحر والأنثى بالذكر و الكافر بالمسلم لأن في كل تفاوت إلى نقصان والناقص يجوز أن يستوفي بالكامل دون عكسه، واتفقوا أيضا على أن الذكر يقتل بالأنثى لما روي عن عمرو بن حزم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر يقتل بالأنثى هذا طرف من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور رواه مالك والشافعي، واختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث، قال ابن حزم صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا يقوم بها حجة وسليمان بن داود : رواية متفق على تركه، وقال أبو داود : سليمان بن داوود وهم إنما هو سليمان بن أرقم، وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي، ونقل عن أحمد أنه قال أرجو أن يكون صحيحا، وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وجماعة من الحفاظ، وصحح الحديث جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر : هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم.
بقي الاختلاف في أنه هل يقتل الحر بالعبد عبد غيره ؟ فقال مالك والشافعي وأحمد لا يقتل وقال أبو حنيفة يقتل، احتجوا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يقتل حر بعبد » رواه الدارقطني والبيهقي، وحديث علي قال من السنة أن لا يقتل حر بعبد، رواه أيضا الدارقطني والبيهقي، وحديث علي قال : من السنة أن لا يقتل حر بعبد، رواه أيضا الدارقطني والبيهقي، والجواب : أن الحديث عن ابن عباس فيه جوبير وعثمان البزي ضعيفان متروكان كذا قال ابن الجوزي والحافظ ابن حجر، وحديث علي فيه جابر الجعفي كذاب، وفيه أنه هل يقتل المسلم بالكافر الذمي ؟ فقال الشافعي وأحمد لا يقتل. احتجا بحديث أبي جحيفة عن علي قال : سألت عليا هل عندكم شيء ليس في القرآن، قال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يُعطى الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة، قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العُقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر » رواه البخاري ورواه أحمد بلفظ «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده » وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لا يقتل مسلم بكافر، رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس، ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر، ورواه الشافعي عن عطاء وطاووس والحسن ومجاهد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح «لا يقتل مؤمن بكافر » ورواه البيهقي من حديث عمران بن حصين، وحديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال : زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض »*رواه أبو داود والنسائي، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله به وغلظ عليه الدية، قال الحافظ : قال ابن حزم هذا في غاية الصحة ولا يصح عن أحد من الصحابة فيه بشيء غير هذا إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب في مثل ذلك أن يُقاد به ثم ألحقه كتابا فقال لا تقتلوه ولكن اعتقلوه، والجواب أن المراد بالكافر في قوله صلى الله عليه وسلم :«لا يقتل مسلم بكافر » الحربي دون الذمي، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :«ولا ذو عهد في عهده » يعني لا يقتل الذمي في عهده بكافر. ولا شك أن الذمي يتقل بالذمي إجماعا فالمراد بالكافر هو الحربي لا غير، وفتوى عثمان وعمر رضي الله عنهما كان بالرأي ولذا اختلف الجواب عن عمر رضي الله عنه، وأما قيد الإسلام في حديث عائشة فقد وقع اتفاقا، واحتج صاحب الهداية على وجوب قتل المسلم بالذمي بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي، قلت : وهذا الحديث رواه الدارقطني : عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال :«أنا أكرم من أوفى بذمته » قال الدارقطني لم يسنده غير إبراهيم بن يحيى وهو متروك الحديث، قال ابن الجوزي : إبراهيم بن يحيى كذاب والصواب عن ابن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وابن سليمان ضعيف لا يقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله، قلت : والأولى بالاحتجاج ما ذكرنا سابقا النفس بالنفس، وحديث ابن مسعود وعثمان وعائشة.
واختلفوا في أنه هل يقتل الوالد بولده ؟ قال مالك إذا أضجعه فذبحه قتل به، وقال داود لا يقتل
﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾ عرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعا عظيما من الحياة، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيكون سببا لحياة نفسين، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سببا لحياتهم، وعلى الأول التقدير ؛ ولكم في شرع القصاص حياة، وعلى الثاني ؛ ولكم في القصاص حياة للباقين، وأيضا في القصاص حياة للقاتل في الآخرة، فإنه إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ في الآخرة فيحيى هناك حياة طيبة، وخاطب أولي الألباب لأنهم هم الذين يفهمون الحكم والمصالح في الأحكام الشرعية ﴿ لعلكم تتقون ﴾ عن القتل مخافة القود، أو تتقون بالقصاص عن عذاب الآخرة، أو تتقون عن ترك القصاص بالاطلاع على الحكمة.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ أي حضر أسبابه وغلب على الظن اقترابه ﴿ إن ترك خيرا ﴾ ذكر الماضي وأراد المستقبل، يعني إن كان له خير يتركه، والخير هو المال، قال الله تعالى ﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ ﴿ وإنه لحب الخير لشديد ﴾ وقيل : المراد بالخير المال الكثير، لما روي عن علي رضي الله عنه أن مولى له أراد أن يوصي وله تسعمائة درهم فمنعه وقال : قال الله تعالى ﴿ إن ترك خيرا ﴾ والخير هو المال الكثير، رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وعن عائشة أن رجلا أراد أن يوصي فسألته كم مالك ؟ فقال : ثلاثة آلاف، فقالت كم عيالك ؟ قال : أربعة، قالت : إنما قال الله تعالى ﴿ إن ترك خيرا ﴾ وإن هذا شيء يسير لعيالك. ﴿ الوصية ﴾ مفعول سد مسد الفاعل لكتب، وترجح تذكير الفعل مع جواز التأنيث لوجود الفصل، أو على تأويل أن يوصي أو الإيصاء، ولذلك ذرك الراجع في قوله فم بد له، والعامل في إذا الافتراض المدلول لكتب لا الوصية لتقدمه عليها ﴿ للوالدين والأقربين ﴾ متعلق بالوصية، وبهذه الآية آية المواريث، وقوله صلى الله عليه وسلم :«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث » وفيه نظر، لأن آية الموارث لاتعارضه بل تؤكده فإنها تدل على تقديم الوصية على الإرث، فكيف تكون ناسخة، والحديث حديث الآحاد لا يجوز به نسخ الكتاب، والتحقيق أن الآية منسوخة الحكم للإجماع على عدم جواز الوصية لوراث إلا عند رضاء الورثة، ولاتفاق الأئمة الأربعة وجمهور العلماء على عدم وجوب الوصية لغير الوارث من الأقارب. وما روي عن الزهري وأبي بكر الحنبلي وبعض أصحاب الظاهر وجوبها في حق من لا يرث من الأقارب فلا عبرة به لمخالفتهم الجمهور، وإذا ثبت الإجماع ظهر أنه ثبت عندهم دليل قطعي ناسخ للآية، به تركوا نص الكتاب وإلا ما تركوه وإن لم يصل ذلك الناسخ إلينا بطريق قطعي. ونورد ههنا أحاديث يصلح أن تكون سندا للإجماع، منها حديث أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة حجة الوداع «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوراث » رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الحافظ : حسن الإسناد، وكذا رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن خارجة، ورواه ابن ماجه من حديث سعيد بن المسيب. أي سعيد عن أنس والبيهقي من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا وصية لوارث » ورواه الدارقطني من حديث جابر وصوب إرساله من هذا الوجه، ومن حديث علي وإسناده ضعيف، ومن حديث ابن عباس بإسناد حسن، وروى الدارقطني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا وصية لوارث إلا أن يجيزه الورثة » وروى بهذا اللفظ أبو داود عن عطاء الخراساني مرسلا ووصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رواه الدارقطني، وهذه الأحاديث تدل على أن الآية منسوخة في حق الورثة وأما في حق غير الورثة من الأقارب فلا دلالة لهذه الأحاديث على نفيها ولا إثباتها، وأورد لهذا الحكم ابن الجوزي حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما حق امرئ يبيت ليلتين » وفي رواية لمسلم «ثلاث ليالي وله مال يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده » متفق عليه. وجه الحجة أنه علق الوصية بالإرادة فدل على أنه ليس بواجب والله أعلم. وبعد اتفاقهم على ما ذكرنا واتفاقهم على جواز الوصية لغير الوارث من الأقارب كالأجنبي بل أولى وأحب فإن الصدقة على ذي رحم صدقة وصلة اتفقوا على أن الوصية لا يجوز فيما زاد على الثلث إلا برضاء الورثة خلافا لأحد قولي الشافعي في الاستثناء حيث قال لا يصح عند رضاء الورثة أيضا، وفي الباب حديث سعد بن أبي وقاص جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي فقلت : يا رسول الله قد بلغ الوجع ما ترى أوصي بما لي كله ؟ قال : لا، قلت : فالشطر ؟ قال : لا، قلت : الثلث ؟ قال :«الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » متفق عليه، وحديث :«إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم » رواه الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش وشيخه ضعيفان، ورواه أحمد من حديث أبي الدرداء وابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه رواه العقيلي من طريق حفص بن عمر وهو متروك ﴿ بالمعروف ﴾ بالعدل، لا يرجع بعض الأقرباء على بعض ولا يوصي للغني ويدع للفقير ﴿ حقا ﴾ ﴿ على المتقين ﴾
متفق عليه من حديث ابن مسعود، أو المعنى تتقون الإخلال بالصوم.
﴿ فمن بدله ﴾ أي غير الإيصاء من الأوصياء والأولياء والشهود ﴿ بعدما سمعه ﴾ أي بعد سماع قول الموصى أو وصل إليه وتحقق عنده ﴿ فإنما إثمه ﴾ فإثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل ﴿ على الذين يبدلونه ﴾ على مبدليه ﴿ إن الله سميع ﴾ بما أوصى به الموصى ﴿ عليم ﴾ بتبديل المبدل.
﴿ فمن خاف ﴾ أي توقع وعلم كقوله تعالى :﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ﴾ ﴿ من موص ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد من التفعيل والباقون بسكون الواو والتخفيف من الإفعال ﴿ جنفا ﴾ ميلا من الحق خطأ ﴿ أو إثما ﴾ ظلما عمدا ﴿ فأصلح بينهم ﴾ قال مجاهد : معناه أن الرجل إذا حضر مريضا وهو يوصي فرآه يميل عن الحق أمره بمعروف ونهاه عن منكر كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص عن زيادة الوصية على الثلث ونهى علي وعائشة عن أصل الوصية كما مر، وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما فقال :«أكل ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا، قال :«فأرجعه » وفي رواية قال :«لا أشهد على جور » متفق عليه، وقال الآخرون معناه أنه إذا أخطأ الميت في وصيته أو بهن متعمدا فوليه أو وصيه أو والي أمور المسلمين يرد الوصية إلى العدل والحق ولا ينفذ الوصية الباطلة، قلت : والأولى أن يراد به أعلم المعنيين ﴿ فلا إثم عليه ﴾ بل كان الإثم على الموصي وللمصلح أجر الإصلاج، عن أي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما النار » رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وإنما قال فلا إثم عليه لأن الفعل كان من جنس ما يؤثم يعني تبديل الوصية المنهي عنه، قال الكلبي : كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى :﴿ فمن بدله بعدما سمعه ﴾ الآية، وإن استغرق المال كله ولم يبق للورثة شيء ثم نسخها الله تعالى بقوله :﴿ فمن خاف من موص جنفا أو إثما ﴾ الآية ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ وعد للمصلح، وذكر المغفرة المطابقة ذكر الإثم والله أعلم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب ﴾ أي فرض ﴿ عليكم الصيام ﴾ والصوم في اللغة : الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء يرى كأنها وقفت ساعة، وفي الشرع : عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص كما سيظهر بعد ﴿ كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ من الأنبياء والأمم، والظاهر أن التشبيه في نفس الوجوب، وذلك لا يقتضي المشابهة من كل جهة في الكيفية والوقت وغير ذلك، قال سعي بن جبير : كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليل القابلة، وكذلك كان في ابتداء الإسلام فاشتبها، وقال جماعة من أهل العلم : إن صيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فربما كان يقع في الحر الشديد فيشق عليهم لأجل العطش أو في البرد الشديد فيشق عليهم لأجل الجوع، فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين، ثم اشتكى ملكهم فجعل لله عليه أن برئ من مرضه أن يزيد في صومهم أسبوعا فبرئ فزاد فيه أسبوعا ثم ولاهم ملك آخر فقال أتموه خمسين يوما، وقال مجاهد : وقال مجاهد : أصابهم موتان فقالوا زيدوا في صيامكم. . فزادوا عشرا قبل عشر أو بعد، قال الشبعي : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال من شبعان ويقال من رمضان وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلاثين وبعدما ثم لم يزل القرن الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، كذا قال البغوي وأخرجه ابن جرير عن السدي ( لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ( المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم » [ أخرجه البخاري في كتاب : النكاح، باب : قوله النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ من استطاع منكم الباءة ﴾ ﴿ ٥٠٦٥ ﴾.
﴿ أيّاماً ﴾ منصوب بمقدر، أي : صوموا لا بالصيام للفصل بالأجنبي ( مّعْدودًاتٍ ) يعني قلائل، فإن القليل يعد في العادة دون الكثير، قيل : إن المراد بذلك الأيام صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصوم عاشوراء، فإنه كان واجبا في ابتداء الهجرة من ربيع الأول إلى شهر رمضان سبعة عشر شهرا ثم نسخ بصوم رمضان، قال بن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم، ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر يوم الجمعة بسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم يوم عاشوراء فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر ١ متفق عليه، وعن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء «أن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل فإن اليوم يوم عاشوراء » ٢. متفق عليه، وقيل المراد بقوله تعالى :( أياما معدودات ) شهر رمضان والآية غير منسوخة، قال الحافظ : والذي يترجح من أقوال العلماء أن عاشوراء لم يكن فرضا من الله تعالى قط بل كان النبي صلى الله عليه وسلم استحبه باجتهاده أو كان يفعله ويأمر به على عادته، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصوم يوم عاشوراء فقال : ما هذا ؟ قالوا هذا يوم صالح نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال :«أنا أحق بموسى منكم » فصامه وأمر بصيامه ٣، متقف عليه. وعن عائشة قالت : كان يوم عاشوراء يصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك يوم عاشورا، متفق عليه.
قال السيوطي رحمه الله : أخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل يعني وجوب عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، لكن كان ذلك قبل نزول هذه الآية وأنه نسخ بهذه الآية، فالمراد ب( أيام معدودات ) شهر رمضان لا غير والله أعلم.
( فمن كان منكم مريضا ) خاف زيادة مرضه أو امتداده وكذا من كان في معناه وهو ضعيف غلب على ظنه حدوث المرض بالصوم وحامل ومرضع خافتا على أنفسهما أو على ولدهما. اعلم أن جواز الفطر للمريض مجمع عليه غير أن أحمد قال : لا يجوز له الفطر بالجماع ويجوز بالأكل والشرب، ولو جامع المريض أو المسافر فعليه الكفارة عنده إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع، وما قيدنا المريض بخوف زيادة المرض أو الامتداد أيضا متفق عليه إلا ما روى عن ابن سيرين أنه قال : يُبيح الفطر أدنى ما يطلق عليه اسم المرض للإطلاق في الآية، وقال الحسن وإبراهيم هو المرض الذي يجوز معه الصلاة قاعدا ( أو على سفر ) وفيه إيماء على أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر وعليه انعقد الإجماع إلا ما روى عن داود فإنه قال : يجوز في السفر القصير والطويل. واختلفوا على مقدار مسافة السفر المرخص للفطر وقصر الصلاة ؟ فقال مالك والشافعي وأحمد أدنى مسافة لا سفر ستة عشر فرسخا أربعة برد بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان » رواه الدارقطني فيه إسماعيل بن عياش ضعيف وعبد الوهاب أشد ضعفا، قال أحمد ويحيى ليس عبد الوهاب بشيء، وقال الثوري هو كذاب، وقال النسائي متروك الحديث. وقال الأوزاعي : يقصر في مسيرة يوم، وقال أبو حنيفة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام، وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر اليوم الثالث. واحتج أبو حنيفة بحديث علي بن أبي طالب أنه سئل عن المسح على الخفين قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وليالهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم ٤، رواه مسلم الحديث صحيح الاستدلال به ضعيف، وإطلاق الآية يدل على أن السفر المعصية أيضا يبيح الفطر وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال مالك والشافعي وأحمد سفر لا يبيح مستدلا بقوله تعالى ( فمن اضطر عير باغ ولا عاد( ٥، والحق أن البغي والعدوان ليس في نفس السفر بل ملاصق به، وقد ذكرنا تفسير :( غير باغ ولا عاد ) وأن لا دلالة فيه على مرادهم ( فعدة من أيام أخر( يعني فكتب عليه أو فالواجب عليه صيام عدة أيام مرضه وسفره من أيام أخر إن أفطر، حذف الفعل أو المبتدأ والمضاف والمضاف إليه والشرط للعلم بها بدلالة المقام، وبإطلاق الآية تثبت أن التتابع ليس بشرط في القضاء وعليه انعقد الإجماع، وقال داود يجب التتابع، ويؤيد إطلاق الآية حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء رمضان قال :﴿ إن شاء فرق وإن شاء تابع ﴾ راوه الدارقطني متصلا ومرسلا وحديث محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان فقال :﴿ ذلك إليك ﴾ الحديث رواه الدار قطني مرسلا وإسناده حسن وقد روي موصولا ولا تثبت، وروى الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو في إسناده الواقدي وابن لهيعة ضعيفان وروى سعيد بن منصور عن أنس نحوه، وأخرج البيهقي حديث أبي عبيد ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة ورافع بن خديج. واحتج داود بحديث أبي هريرة قال :«من كان عليه صوم رمضان فليؤده ولا يقطعه » رواه الدارقطني فيه عبد الرحمن بن إبراهيم العاص، قال ابن معين : ليس بشيء، وقال الدارقطني : ضعيف ليس بالقوي.
واختلفوا في الحامل والمرضع إذا أفطرتا، هل يجب عليهما الفدية مع القضاء أم لا مع اتفاقهم على أن المريض والمسافر لا يجب عليهما مع القضاء فدية ؟ فقال أبو حنيفة : لا وهو رواية عن مالك، وفي رواية عن مالك : يجب على المرضع دون الحامل، وقال أحمد وهو الراجح من مذهب الشافعي أنه يجب ولا سند يعتمد عليه لهذا القول، والمروي عن ابن عمر وابن عباس أن على الحامل والمرضع يجب الكفارة دون القضاء. ومن أخر قضاء رمضان من غير عذر حتى جاء رمضان آخر، قال مالك والشافعي وأحمد : وجبت عليه الفدية مع القضاء، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه إلا القضاء ولو أدى بعد سنين لامتناع الزيادة على الكتاب من غير قاطع، ومن أخر بعذر مرض أو سفر حتى جاء رمضان آخر فعليه القضاء فقط بالإجماع، وروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما بطرق صحيحة عن نافع عن ابن عمر قال : من تابعه رمضانان وهو مريض لم يصح بينهما قضى الآخر منهما بصيام وقضى الأول منهما بإطعام، قال الطحاوي : تفرد بهذا القول ابن عمر، قال الحافظ : وعند عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى ابن سعيد قال : بلغني مثل ذلك عن عمر لكن المشهود عن عمر خلافه، احتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل مرض في رمضان فأفطر ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان آخر يصوم الذي أدركه ثم يصوم الذي أقطر فيه ويطعم عن كل يوم مسكينا رواه الدارقطني، وهذا الحديث لا يصح فيه إبراهيم بن نافع قال أبو حاتم كان يكذب وفيه عمر بن موسى كان يضع صاحب المهذب منهم عليه وجابرا والحسين بن علي ولم أطلع على سند صحيح عنهم غير أبي هريرة وابن عباس، ولو كان الحديث المرفوع فيه صحيحا فحينئذ أيضا لم يجز به الزيادة على الكتاب لكونه من الآحاد.
( وعلى الذين يطيقونه( يعني الصوم )فدية. قال البغوي : اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها " فذهب أكثرهم إلى أن الآية منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفتدوا خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم فإنهم لم يكونوا معتادين بالصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) قلت : وعلى هذا التقدير فالمريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين في ثلاثة أمور : الصوم والفطر بنية القضاء والفدية ثم إذا نسخت الفدية بقي لهما التخييريين الصوم والقضاء، وقال قتادة : هي خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له في أن يفطر ويفدي ثم نسخ بذلك، وقال الحسن : هذا في المريض الذي يستطيع الصوم خير بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي ثم نسخ ذلك، وعلى هذه الأقوال كلها لم يثبت حكم الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم بنص القرآن، ومن ثم قال مالك والشافعي في أحد قوليه أن الشيخ الفاني يجوز له الفطر للعجز حيث :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها( ولا يجب عليه الفدية لأن إيجاب الفدية لا بد له من دليل والمثل الغير المعقول لا يثبت بالرأي، وذهب جماعة إلى أن الآية غير منسوخة ومعناه وعلى الذين يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر الفدية بدل الصوم، وهذا التأويل لا يساعده نظم الكلام، وقال الشيخ الأجل جلال الدين في تفسير الآية بتقدير لا يعني وعلى الذين لا يطيقونه فدية كما في قوله تعالى :( يبين الله لكم أن تضلوا( ٦ أي لأن لا تضلوا، قلت : وتقدير لا أيضا بعيد فإنه ضد ما هو ظاهر العبارة حيث يجعل الإيجاب سلبا، فإن قيل مذهب أبي حنيفة وأحمد والأصح من مذهب الشافعي وبه قال سعيد بن جبير إن الواجب على الشيخ الفاني الفدية مكان الصوم ومبني هذه الأقوال ليس إلا هذه الآية ولولا ذلك التأويل الذي لم ترتض منه فبم تقول بوجوب الفدية على الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه، قلت : والله علم أن التأويل هو الأول وحاصله أن حكم الآية كان في ابتداء الإسلام التخيير بين الصوم والفدية الذين يطيقون الصوم وللذين لا يطيقونه بدلالة النص بالطريق الأولى لأنه سبحانه لما خير المطيقين فضلا وتيسيرا فغير المطيقين أولى بالتخيير، ومن ثم قلت إن المريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين بين ثلاثة أمور، ثم لما نزل ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا( الآية نسخ حكم الفدية في حق الذين كانوا يطيقونه حالا وفي حق الذين يطيقونه مالا وهم المرضى والمسافرين الذين يرجون القضاء بعد الشفاء وصار أداء الصوم أو قضاؤه حتما في حقهم وبقى حكم من لا يطيقونه لا في الحال ولا في المال على ما كان عليه من جواز الفدية ثابتا بدلالة النص لعدم دخولهم في قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر( يعني صحيحا مقيما ( فليصمه ومن كان مريضا ) يرجو الشفاء ( أو على سفر فعدة من أيام أخر ) وإنما قيدنا المريض بقولنا يرجوا الشفاء بدلالة العقل، فإن من لا يرجو الشفاء تكليفه بالقضاء تكليف بما لا يطيق، ومنسوخية الحكم الثابت بعبارة النص لا يستدعي منسوخية الحكم الثابت بالدلالة والله أعلم ( طعام مسكين ) قرأ نافع وابن ذكوان ( فدية طعام مساكين( بإضافة ( فدية( وجمع المسكين بفتح النون، وهشام بتنوين فدية ورفع طعام على البدل وجمع مساكين والباقون بتنوين فدية ورفع طعام وتوحيد مسكين بكسر النون. والفدية الجزاء وإضافته إلى الطعام بيانية وهو نصف صاع من برأ وصاع من شعير أو تمر على قول أبي حنيفة قياسا على صدقة الفطر، وقال الشافعي : كل يوم مسكينا مدا من الطعام من غالب قوة البلد، وقال أحمد نصف صاع من شعير أو مد من بر، وقال بعض الفقهاء : ما كان المفطر بتقوته يومه الذي أفطر، وقال ابن عباس : يعطي كل مسكين عشاء، وسحوره وسيجئ عن قريب تحقيق طعام الفدية في تفسير قوله تعالى :( فمن كن منكم مريضا أو به أذى من رأسه( إن شاء الله تعالى ( فمن تطوع خيرا( فزاد في الفدية، هذا صريح في أن المراد ب ( الذين يطيقونه ) هم المطيقون لا غير المطيقين من الشيخ والمريض، فإن كون صومهم خي
١ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان ﴿١٨٩٣﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء ﴿١١٢٥﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: إذا نوى بالنهار صوما ﴿١٩٢٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه ﴿١١٣٥﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتابه: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء ﴿٢٠٠٤﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء ﴿١١٣٠﴾.
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين ﴿٢٧٦٠﴾.
٥ سورة البقرة، الآية: ١٧٣.
٦ سورة البقرة، الآية: ٢٨٦.
﴿ شهر رمضان ﴾ مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك شهر رمضان، أو بدل من الصيام على حذف المضاف، أي : كتب عليكم الصيام ؛ صيام شهر رمضان، وذلك على تقدير كون نزول هذه الآية متصلا في النزول بقوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ لا على تقدير كونه متراخيا عنه ناسخا لما سبق، والشهر مشتق من الشهرة، ورمضان مصدر رمض إذا احترق، فأضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنما سمي رمضان أن رمضان يرمض الذنوب » رواه الأصبهاني في الترغيب. ﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ سمي القرآن قرآنا لأنه يجمع السور والآي الحروف، وجمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد، وأصل القرآن الجمع، أو هو مشتق من القراءة بمعنى المقروء. قرأ ابن كثير القرآن وقرآنا وقرانه حيث وقع بحذف الهمزة بعد القاء الحركة على الراء، ووافقه حمزة وقفا فقط، والباقون بالهمزة، قال البغوي : كان يقرأ الشافعي غير مهموز ويقول ليس هو من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتوراة والإنجيل، قال البغوي : روى مقسم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ وقوله :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ وقوله :﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾ وقد نزل في سائر الشهور وقال الله تعالى :﴿ وقرآنا فرقناه ﴾ فقال : أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة، فذلك قوله تعالى عز وجل ﴿ بمواقع النجوم ﴾ وقال داود بن أبي هند : قلت للشعبي ﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ﴾ أما كان ينزل في سائر السنة ؟ قال : بلى ولكن جبرائيل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فأنزل عليه فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء، وروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان، ويروى في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لموسى في ست ليال مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل زبور داود في ثمان عشر ليلة من رمضان، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في أربعة وعشرين لست بقين بعدها » وأخرج أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين » والله أعلم. والموصول بصلته خبر لشهر رمضان على تقدير كونه مبتدأ وصفته، على تقدير كونه خبرا أو بدلا، ويحتمل أن يكون صفة للمبتدأو خبره فمن شهد، والفاء لوصف المبتدأ إنما يتضمن معنى الشرط، وعلى هذا التقدير معنى قوله ﴿ أنزل فيه القرآن ﴾ أي في شأن القرآن وهو قوله ﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ حتى يتحقق كون الإنزال سببا لاختصاصه بوجوب الصوم ﴿ هدى للناس ﴾ من الضلالة بإعجازه ﴿ وبينات من الهدى والفرقان ﴾ أي دلالات واضحات مما يهدي إلى الحق من الحلال والحرامن والحدود والأحكام، ويفرق بين الحق الذي من الله وبين الباطل الذي من شياطين الجن والإنس، حالان من القرآن ﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ يعني أدرك الشهر صحيحا مقيما طاهرا من الحيض والنفاس، أما المريض والمسافر فخصا منه بالآية اللاحقة، وأما الحائض والنفساء فبالنقل المستفيض وعليه انعقد الإجماع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب قولها وما نقصان دينها يا رسول الله ؟ قال :«أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم » متفق عليه.
فائدة : أجمعوا على أن الحائض يحرم عليها الصوم، ولو صامت لم يصح ولزمها القضاء والله أعلم. ﴿ فليصمه ﴾ البتة لا يكفيه الفدية كما كان في بدء الإسلام، قال البغوي : اختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر، روي عن علي أنه قال لا يجوز له الفطر وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ أي الشهر كله، وذهب أكثر الصحابة والفقهاء إلى أنه إذا أنشأ السفر في شهر رمضان جاز له أن يفطر بعد ذلك اليوم، قلت وعليه انعقد الإجماع، ومعنى الآية ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ يعني فليصم ما شهد منه، إن شهد كله فكله وإن شهد بعضه فبعضه، ويؤيد ذلك التأويل ما مر من حديث جابر وحديث ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة : ولو كان مقيما في أول النهار ثم سافر لا يجوز له الفطر من ذلك اليوم عند أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله لهذه الآية، لأنه شهد أول اليوم فليصمه، وقال أحمد وداود جاز له الفطر في ذلك اليوم أيضا. احتج ابن الجوزي بحديث ابن عباس المذكور حتى إذا بلغ كراع الغميم أفطر، وحديث ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرا في رمضان حتى أتى عسفان فدعى إناء من شراب نهارا ليرى الناس ثم أفطر حتى قدم، قلنا : لم يكن صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم مقيما أول النهار فإن كراع الغميم وعسفان لم يكونا في أول مرحلة من المدينة. مسألة : ولو أصبح مسافرا أو مريضا صائمين ثم أراد الفطر جاز عند أحمد وكذا ذكر صاحب المنهاج مذهب الشافعي، وقال ابن الهمام : ومذهب أبي حنيفة أن إباحة الفطر للمسافر إذا لم ينو الصوم، فإذا نواه ليلا وأصبح من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر أصبح صائما فلا يحل فطره في ذلك اليوم، لكن إذا أفطر فيه لا كفارة عليه كما في المسألة السابقة لمكان الشبهة، وحديث كراع الغميم حجة لأحمد والشافعي في هذه المسألة كما لا يخفى ﴿ ومن كان مريضا أو على سفر فعدة ﴾ أي فالواجب عليه عدة ﴿ من أيام أخر ﴾ كرر ذلك الحكم ليدل على أن المنسوخ إنما هو الفدية دون الفطر والقضاء للمعذور ولو لم يكن حكم الفدية منسوخا وكان المراد بقوله تعالى :﴿ أياما معدودات ﴾ هو شهر رمضان لا غير، فحينئذ لم تكن لتكرار المريض والمسافر فائدة.
فائدة : ويلحق بالمريض والمسافر في حق وجوب القضاء الحائض والنفساء بالإجماع، والأحاديث عن معاذة العدوية أنها قالت لعائشة : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت عائشة :" كان يصيبنا ذلك فتؤمر بقضاء الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة " رواه مسلم.
مسألة : وبهذه الآية يثبت أن المسافر والمريض إذا صح وأقام فعليه قضاء الصيام عدد ما أدرك من الأيام صحيحا مقيما طاهرا بعد رمضان، فمن فاته عشرة من صيام رمضان وأدرك بعد الصحة والإقامة يومين من غير رمضان ثم مات يجب عليه قضاء يومين فحسب. واختلفوا في أنه من أدرك عدة من أيام أخر لم يقض حتى مات هل يجب على الوارث الفدية أو القضاء ؟ فقال أبو حنيفة ومالك : لا يجب على الوارث شيء إلا أن يوصي الميت بالفدية فيجب إنفاذ وصيته من الثلث لا فيما زاد على الثلث إلا برضاء الورثة، وكذا إذا كان عليه صوم نذر أو كفارة، وقال الشافعي في القديم : صام عنه وليه سواء كان من رمضان أو من نذر، وفي الجديد أنه يطعم فيهما الولي القريب، وقال أحمد في صوم رمضان : يطعم ولا يصام وإذا كان عليه نذر صام عنه وليه.
احتجوا على وجوب الصوم على الولي بحديث ابن عباس قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضي عنها ؟ قال :«أرأيت لو كان على أمك دين أما كنت تقضينه ؟ » قالت : بلى، قال :«فدين الله عز وجل أحق » متفق عليه. وعن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن مات وعليه صيام فقال :«يصوم عنه وليه » متفق عليه، وحديث بريدة عن أبيه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أمي كان عليها صوم شهر أفتجزئها أن أصوم عنها ؟ قال :«نعم » رواه أحمد وحديث ابن عباس أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن الله عز وجل إن نجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال :«صومي » وحديث ابن عباس أن سعد بن عبادة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه فقال :«اقضه عنها » فمن هذه الأحاديث ما هو صريح في النذر على صوم النذر، قلت : لا وجه للحمل على النذر مع إطلاق اللفظ، بل الأحاديث المذكورة الصحيحة تدل على جواز صوم الولي عن الميت مطلقا سواء كان الصوم عن نذر أو رمضان فلا بد من اتباعها، وليس شيء منها تدل على وجوب الصوم على الوارث فلا يكون حجة على أبي حنيفة، كيف وقد قال الله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ فكيف يعذب الوارث بترك الصوم عن الميت. واحتجوا على وجوب الإطعام عن الميت بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ومن مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا » رواه الترمذي وقال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، يعني من طريق الأشعث بن سوار وهو ليس بشيء، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف مضطرب الحديث، والصحيح أنه موقوف على ابن عمر، ووجه قول أبي حنيفة أن الطاعة لا تجري فيها النيابة لأن المقصود منه النية والامتثال وهو مناط الثواب والعذاب، ووجوب الصوم أو المال على الوارث يمنعه قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ فلا يحب عليه شيء. غير أنه إذا أوصى به المورث فإنفاذ وصيته واجب بقوله تعالى :﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ والمرجو من فضل الله سبحانه أن يقبل منه والله أعلم، قلت : والتحقيق في المقام أن الوارث إن تطوع عن الميت بالصوم أو الصدقة فالثابت بالأحاديث أن الله تعالى يقبله لفضله ويفك رقبة الميت، ولكن ليس ذلك واجبا على الوارث لما ذكرنا، وقد ورد في رواية للبزار في حديث عائشة «فليصم عنه وليه إن شاء » وهذا أظهر، لكن الرواية ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة.
﴿ يريد الله بكم اليسر ﴾ بإباحة الفطر والقضاء في المرض والسفر ﴿ ولا يرد بكم العسر ﴾ قرأ أبو جعفر ﴿ العسر ﴾ و﴿ اليسر ﴾ ونحوهما بضم السين والباقون بالسكون، وهذه الآية تدل على أن الفطر للمريض والمسافر رخصة لأجل اليسر وليس هو العزيمة، حتى لو صام المريض والمسافر صح إجماعا، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة ابن الزبير وعلي بن الحسين رضي الله عنهم أنهم قالوا : لا يجوز الصوم في السفر، ومن صام فعليه القضاء لظاهر قوله تعالى :﴿ فعدة من أيام أخر ﴾ حيث جعل الله تعالى الواجب صيام عدة من أيام أخر لا غير، فمن صام في الحال فقد صام قبل وجوبه فلا يجوز، قلنا : سبب الوجوب الشهر والسفر مانع لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب. فمن صام فقد صام بعد نفس الوجوب صح كمن أدى الزكاة قبل حولان الحول، ويؤيد مذهب الجمهور حديث أبي سعيد :" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشر مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم المفطر ولا المفطر الصائم، " رواه مسلم، وحديث جابر عند مسلم وحديث أنس في الموطأ ﴿ ولتكملوا العدة ﴾ أي عدد شهر رمضان بقضاء ما أفطر منه. عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأك
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ وغيره من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن عبد السجستاني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن جبيرة عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فسكت عنه فأنزل الله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ﴾ يعني فقل لهم إني قريب، وأخرج عبد الرزاق عن الحسن سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا فأنزل الله، وهذا مرسل، قلت : ولعل السائل هو الأعرابي. وأخرج ابن عساكر عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تعجزوا عن الدعاء فإن الله أنزل علي ﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ قالوا : لا نعلم أي ساعة ندعوا ؟ فنزلت إلى قوله :﴿ يرشدون ﴾، قال البغوي : روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال يهود المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وأن غلظ كل سماء مثل ذلك ؟ فنزلت هذه الآية. قلت والظاهر أن تشريف السائل بالإضافة إلى نفسه في قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي ﴾ يأبى أن يكون السائل يهوديا متعنا في السؤال الله أعلم، ونزول هذه الآية في جواب السائل أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه إرشاد على الذكر الخفي دون الجهر كما لا يخفى، وعن أبي موسى الأشعري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير لا إله إلا الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم » رواه البخاري. قال المفسرون : معناه إني قريب منهم بالعلم لا يخفى علي شيء، قال البيضاوي : هو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحواله بحال من قرب مكانه منهم، قلت : وهذا التأويل منهم مبني على أن القرب عندهم منحصر في القرب المكاني والله تعالى منزه عن المكان ومماثلة المكانيات، والحق أنه سبحانه قريب من الممكنات، قربا لا يدركه بالعقل بل بالوحي أو الفراسة الصحيحة وليس من جنس القرب المكاني ولا يتصور شرحه بالتمثيل إذ ليس كمثله شيء، وأقرب التمثيلات أن يقال قربه إلى الممكنات كقرب الشعلة الجوالة بالدائرة الموهومة فإن الشعلة ليست داخلة في الدائرة للبون البعيد بين الموجود الحقيقي والموجود في الوهم وليست خارجة عنها ولا عينها ولا غيرها وهو أقرب إلى الدائرة من نفسها حيث ارتسمت الدائرة بها ولا وجود لها في الخارج بل في الوهم بوجود تلك النقطة في الخارج والله أعلم.
﴿ أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفهما وصلا ووقفا، وكذا اختلف القراء في إثبات الياآت المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة ويثبت يعقوب جميعا وصلا ووقفا، واتفقوا على إثبات ما هو مثبت في الخط وصلا ووقفا ﴿ فليستجيبوا لي ﴾ أي ليطلبوا مني إجابة دعواتهم، وإنما عدي باللام لأن طلب الحاجة والدعاء عبادة من العبد لله تعالى، وقيل : الاستجابة بمعنى الإجابة أي فليجيبوا بالطاعة إذا دعوتهم للأيمان والعبادة كما أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، والإجابة في اللغة : إعطاء ما سأل فهو من الله تعالى العطاء ومن العبد الطاعة ﴿ وليؤمنوا بي ﴾ قرأ بفتح الياء ورش والباقون بالإسكان، أمر بالثبات والمداومة على الإيمان إذ أصل الإيمان ثابت في المؤمنين، والأولى أن يحمل على أنه طلب الإيمان الحقيقي المترتب على فناء النفس بعد الإيمان المجازي فإن التنصيص أولى من التأكيد ﴿ لعلهم يرشدون ﴾ راجين إصابة الرشد أو لكي يرشدوا أو يهتدوا، والرشد ضد الغي وهو النيل إلى المقصود والوصل العريان إن شاء الله تعالى، فإن قيل ﴿ أجيب دعوة الداع ﴾ و﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ وعد بالإجابة لا يجوز خلفه وقد يدعوا العبد كثيرا ولا يجاب ؟ قال البغوي في الجواب : اختلفوا في معنى الآيتين ؟ قيل : معنى الدعاء ههنا الطاعة ومعنى الإجابة الثواب فلا يراد، وقيل معنى الآيتين خاص وإن كان لفظهما عاما تقديرهما أجيب دعوة الداعي إن شئت نظيره قوله تعالى :﴿ فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ﴾ فحينئذ المقصود من الآية وقول الكفار الذين زعموا أن الله لا يسمع دعاءنا وأنه غائب، أو تقديرهما أجيب إن كانت الإجابة خيرا له، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل » قالوا : وما الاستعجال يا رسول الله ؟ قال : يقول قد دعوتك يا رب قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي، فيخسر عن ذلك فيدع الدعاء » وراه مسلم. وتقديره أجيبه إن لم يسأل محالا، وقيل : هو عام لكن معنى قوله أجيب أني أسمع وليس في الآية أكثر من إجابة الدعوة فأما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها، وقيل : معنى الآية أنه يجيب دعاءه فإن قدر له ما سأل أعطاه وإن لم يقدر له ادخر ثوابه في الآخرة أو كف عنه سوءا. عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما على الأرض رجل مسلم يدعوا الله بدعوة إلا آتاه الله إياه أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » رواه البغوي، وروي أحمد عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم :«ما من مسلم ينصب وجهه لله تعالى في مسألة إلا أعطاها إياه إما أن يعجلها له وإما أن يدخرها له » وروى الترمذي عن جابر مرفوعا بلفظ :«إلا أتاه الله ما سأل أو كف من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » وقيل : إن الله يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته، وقيل : إن للدعاء آدابا وشرائط وهي أسباب الإجابة فمن استكملها كان من أهل الإجابة ومن أخل بها كان من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الإجابة، وقد مر حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء يا رب أشعث أغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك، رواه مسلم، والتحقيق في الباب عندي أن ما ذكرنا من الأقوال كلها صحيح وأنه ليس كل دعاء مستجاب، ومدلول الآية أن مقتضى الدعاء الإجابة فإنه تعالى جواد كريم قادر على كل شيء ومن كان هذا صفته لا يمنع مسؤوله عقلا ونقلا، وروى الترمذي وأبو داود عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا » وإنما يظهر تخلف الاستجابة عن الدعاء أو تأخر عنه إما لحكمة أو لمانع من الاستجابة أو فقد شرط عقوبة للداعي والله أعلم.
﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ﴾ الرفث كناية عن الجماع، قال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يرد الرجال من النساء، وعدي بإلى لتضمنه معنى الافضاء، روى أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ أحل لكم ليلة الصيام ﴾ إلى قوله :﴿ ثم أتموا الصيام إلى اليل ﴾ الحديث مشهور عن ابن أبي ليلى وهو لم يسمع من معاذ وله شواهد. أخرج البخاري عن البراء قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : عندك طعام ؟ فقالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عينه وجاءت امرأته فلما رأت قالت خيبة، فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وأخرج البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله :﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ﴾ وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده وأراد من امرأته فقالت : إني قد نمت، قال : ما نمت ووقع عليها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت، وقال البغوي : كان في ابتداء الأمر إذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليها الطعام والشرات والجماع إلى القابلة، وإن عمر بن الخطاب واقع أهله بعد العشاء فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«ما كنت جديرا بذلك يا عرم » فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل ﴿ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ﴾ استئناف بيان لسبب التحليل وهوقلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس، أو لأن اللباس كما يستر صاحبه كذلك يكون كل واحد منهما لصاحبه سترا عما لا يحل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه » ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ﴾ أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء أو بعد النوم بتعريضها للعقاب ونقيص حظها من الثواب، والاختيان أبلغ من الخيانة ﴿ فتاب عليكم ﴾ ولما تبتم ﴿ عفا عنكم ﴾ محا ذنوبكم ﴿ فالآن باشروهن ﴾ جامعوهن حلالا، كنى بالمباشرة عن الجماع ﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ من الولد، تدل الآية على أنه إن جامع الرجل امرأته ينبغي أن يؤيد به الولد دون قضاء الشهوة فحسب حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم » رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار، وعلى أن العزل مكروه وعلى أن إباحة الجماع مقتصر على محل الولد، قال البغوي : قال معاذ بن جبل ﴿ وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ يعني ليلة القدر، قلت : هذا بعيد من السياق ﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ﴾ يعين بياض النهار من سواد الليل، سيما خيطين لأن كل واحد منهما إذا بدا في الابتداء امتد جنوبا وشمالا كالخيط، وقوله من الفجر خال من الخيط الأبيض بيان له، ولم يبين الخيط الأسود لظهور الخيط الأبيض، ومن للبيان أو للتبعيض أي كائنا الفجر أو كائنا بعض الفجر، ولم يقل حتى يتبين لكم الفجر دلالة على حرمة الأكل عند ظهور خيطه يعني أول جزء منه، ولم يقل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر بلا ذكر الخيط الأسود ليدل على أن المراد بالفجر هو الفجر الصادق لأنه خيط أبيض معترض جنوبا وشمالا يلاصقه خيط أسود معترض في الجانب الغربي هو طرف لسواد الليل بخلاف الفجر الكاذب فإنه خيط أبيض مستطيل شرقا وغربا يحيط به سوادا وبياضا وهذا أولى حيث لا يلزم حينئذ الفصل بين الحال وصاحبه بالأجنبي والله أعلم. عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق » رواه الترمذي، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتو » وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. فإن قيل : قد صح عن علي رضي الله عنه أنه صلى الصبح ثم قال : الآن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، رواه ابن المنذر بإسناد صحيح وكذا روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه قال : لولا الشهوة لصليت الغداة ثم لتسحرت، وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة من طريق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر، فهذه الآثار تدل على جواز الأكل بعد انتشار الصبح فما وجه هذه الأقوال ؟ قلت والله أعلم : لعل وجه هذه الأقوال أن من للبيان والمراد بالخيط الأبيض هو الصبح وعلى ذلك انعقد الإجماع. عن عدي بن حاتم قال لم نزلت :﴿ حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي فغذوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :«إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار » متفق عليه، وفي رواية :«إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل » وعن سهل بن سعد قال : أنزلت :﴿ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ﴾ ولم ينزل قوله :﴿ من الفجر ﴾ وكان الرجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد قوله ﴿ من الفجر ﴾ فعلموا أنه يعني بهما الليل والنهار متفق عليه، فإن قيل : حيث سهل بن سعد يدل على أن نزول قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ كان متأخرا ومتراخيا عما سبق ويلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك غير جائز ؟ قلت : استعمال الخيط الأبيض والأسود في سواد الليل وبياض النهار كان مشتهرا ظاهر الدلالة غير واجب البيان وإن خفي على البعض لقلة تدبرهم فهو من باب المشكل الذي خفي مراده من جهة الصيغة باستعمال تجوز أو غير ذلك بحيث يدرك المراد بالتأمل والطلب ونزول قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ إنما هو للاحتياط وحفظ القاصرين وإغناء السامعين عن الطلب والتأمل، ولم يكن من باب المجمل الذي لا يتصور درك مرامه إلا من جهة الشارع فلا محذور في تراخي نزوله، ولو سلمنا أنه من باب المجمل فلعل بيانه صدر من الشارع في الوحي الغير المتلو وثبت بالسنة كما يدل عليه حديث عدي بن حاتم ثم نزل قوله من الفجر لتأييد ما ثبت بالسنة وتأكيده، وقال الطحاو : إنه من باب النسخ وإن الحكم كان على ظاهر المفهوم من الخيطين، ويؤيد قول الطحاوي حيدث حذيفة تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع رواه سعيد بن منصور وكذا عند الطحاوي، فلعل تسحر حذيفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ فإن قيل : قوله من الفجر غير مستقل والناسخ إنما يكون كلاما مستقلا فكيف يتصور كونه ناسخا، وعلى تقدير كونه متراخيا لا يتصور كونه من باب القصر لغير المستقل لأن من ضروراته الاتصال فكيف التوجيه ؟ قلت : التوجيه عندي أنه نزل أولا تمام الآية من غير تقييد بقوله ﴿ من الفجر ﴾ ثم بعد مدة نزل الآية مرة ثانية مع قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ فنسخت الآية الأولى حكما وتلاوة و الله أعلم.
فائدة : حديث عدي بن حاتم إنما كان بعد نزول قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ البتة لأن إسلامه في السنة التاسع وكان نزول آية الصيام في السنة الثانية ونزول قوله تعالى :﴿ من الفجر ﴾ بعد ذلك بيسير بسنة أو نحوه، فما كان من عدي بن حاتم جعل الخيطين تحت وسادته لم يكن إلا زعما منه أن من للسببية والله أعلم.
فائدة : وفي تجويز المباشرة إلى الفجر دليل على جواز تأخير الغسل للمجنب إلى ما بعد الصبح وصح صوم من أصبح جنبا بالإجماع ﴿ ثم أتموا الصيام إلى اليل ﴾ بيان لآخر وقته. عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم » رواه البخاري. فبهذه الآية ظهر حقيقة الصوم أنه الإمساك من المفطرات الثلاث من الصبح المعترض إلى غروب الشمس مع النية، ووجوب النية مستفاد من قوله تعالى :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ﴾. وقوله صلى الله عليه وسلم :«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل ارمرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى الجنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » أخرجه الجماعة كلهم غير مالك في الموطأ إلا أن مالكا روى عنه البخاري، والحديث متواتر بالمعنى ولفظه تواتر عن يحيى بن سعيد انفرد هو عن محمد بن إبراهيم وهو عن علقمة ابن وقاص وهو عن عمر وقد تلقته الأمة بالقبول. وأجمعوا على أن كل عبادة مقصودة لا يصح إلا بالنية وكان القياس أن يشترط اقتران النية بتمام العبادة لكن سقط ذلك للزوم الحرج فاشترط في الصلاة اقترانها بجزئها الأول أعني التحريمية حتى تعتبر باقية حكما مع جميع أجزائها، ولم يشترط ذلك في الصوم إجماعا لأن الجزء الأول من الصوم حين طلوع الفجر أوان غفلة غالبا فجوزوا الصوم بنية سبقت من شروعه وتعتبر باقية إجماعا ما لم يرفض، واختلفوا في أنه هل يجوز الصوم بنية بعد طلوع الفجر أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : يصح أداء صوم رمضان والنذرالمعين والنفل بنية قبل نصف النهار الشرعي، وقال الشافعي وأحمد : يصح النفل بنية قبل الزوال لا غير، وقال مالك : لا يصح شيء من الصيام بنية من النهار وهو القياس، ويؤيده حديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خريمة في صحيحه وابن ماجة الدارقطين والدارمي، وفي رواية " قلا يصوم " وفي رواية " لا صيام لمن لم يفرض من الليل " وفي رواية " من لم يثبت الصيام قبل الفجر فلا صيام له " فإن قيل : قال أبو داود لا يصح رفعه، وقال الترمذي الموقوف أصح ؟ قلنا : رفعه ابن جريح وعبد الله بن أبي بكر كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه عنها، ابن جريح وعبد الله بن أبي بكر من الثقات والرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ومن عادة المحدثين الوقوف عند الموقوف والمرسل، وكون الموقوف أصح لا ينافي في صحة المرفوع، وقال الحاكم في المرفوع : إنه صحيح على شرط الشيخين، وقال في المستدرك : صحيح على شرط البخاري، وقال البيهقي والدارقطني رواته كلهم ثقات، وفي الباب حديث عائشة " من لم يثبت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له " رواه الدارقطني
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ كالدعوى الزور والشهادة بالزور أو الحلف بعد إنكار الحق أو الغصب والنهب والسرقة و الخيانة أو القمار وأجرة المغني ومهر البغي وحلوان الكاهن وعسب التيس والعقود الفاسدة أو الرشوة وغير ذلك من الوجوه التي لا يبيحه الشرع، وبين منصوب على الظرف أو الحال من الأموال، والآية نزلت في أمر القيس بن عابس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا أنه غلبه عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينه ؟ قال : لا، قال :" فلك يمينه " فانطلق يحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما إن حلف على ماله ليأكل ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض " كذا أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ﴿ وتدلوا بها إلى الحكام ﴾ عطف على المنهي، أو نصب بإضمار أن، أي : ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام، قال مجاهد : يعني لا تخاصم وأنت ظالم، وقال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم به إلى الحاكم ليحلف كاذبا، وقال الكلبي : هو أن يقيم الشهادة الزور، قلت : واللفظ يعم ذلك كله ﴿ لتأكلوا ﴾ بالتحاكم ﴿ فريقا ﴾ طائفة ﴿ من أموال الناس بالإثم ﴾ أي بما يوجب الإثم وكالشهادة الزور واليمين الكاذبة أو ملتبسين بالإثم ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أنكم مبطلونن بخلاف الحكام فإنهم لا يعلمون بحقيقة الحال وإنما يحكمون بالظاهر، فالحاكم إن حكم على حسب الشرع من غير ميل إلى أحدهما فهو مأجور وإن كان المحكوم له إثما وبهذا يظهر أن قضاء القاضي لا يحل حراما. عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إنما أنا بشر وأنتم تختصمن إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار " رواه الشافعي عن مالك ؛وفي الصحيحن نحوه، وقال أبو حنيفة رحمه الله : في حرمة المال على المبطل بنحو ما قالوا غير أنه يقول : قضاء القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا خلافا للجمهور، احتج أبو حنيفة بما روي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على امرأة بالنكاح فقضى به، فقالت المرأة إنه لم يكن بيننا نكاح فإن كان ولا بد فزوجني منه، فقال علي رضي الله عنه : شاهداك زوجاك، والله أعلم.
﴿ يسألونك عن الأهلة ﴾ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم لأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا ثم يعود دقيقا كما بدأ لا يكون على حال واحد ؟ كذا ذكر البغوي، وأخرجه أبو نعيم وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق السدي الصغير عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه قال : سأل الناس عن الأهلة فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : بلغنا أنهم قالوا يا رسور الله لم خلقت الأهلة فنزلت ﴿ قل هي مواقيت للناس والحج ﴾ إن كان السؤال عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره فقد طابق الجواب السؤال حيث أمر الله سبحانه بأن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم ومعالم للعبادات المؤقتة كالحج والصوم وغير ذلك يعرف بها أوقاتها، وإن كان السؤال عن علة تبدل أحوال القمر وهو الظاهر فهو جواب على أسلوب الحكيم تنبيها بأن اللائق بحال السائل أن يسأل بالفائدة دون العلة إذ لا فائدة في ذلك السؤال، إذ حينئذ يلزمه الاشتغال بما لا يعنيه، وهذا يدل على أن الاستغال بالعلوم الغريبة كالهيئة والنجوم وغير ذلك مما ليس فيه فائدة معتدة بها لا يجوز، والمواقيت : جمع ميقات اسم آلة من الوقت والمراد به ما يعرف به أوقات الحج والصوم وآجال الديون وانقضاء العدة وغيرذلك.
﴿ وليس البر بأن تأتوا البيوت ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي البيوت والعيون والشيوخ وجيوبهن والغيوب بكسر أوائلهن لمكن الياء، والباقون بالضم على الأصل ﴿ من ظهورها ﴾ روى البخاري عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فأنزل الله الآية، وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من الباب في الإحرام فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا : يا رسول الله إن قطبة رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب فقال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال : إني رجل أحمسي قال :" فإن ديني دينك " فأنزل الله، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه، وأخرج عبد بن حميد عن قيس بن جبير نحوه ولن فيه رفاعة بن نابوت مكن قطبة بن عامر، وذكر البغوي أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رفاعة على إثره من الباب الحديث، وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على إثره من الأنصار من بني سلمة الحديث. ووجه العطف وعدم الفصل إما أنهم سألوا الأمرين معا في حادثة واحدة، أو أنه لما سألوه عما لا يعنونه ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنونه ويختص بعلم النبوة عقب بذكره كأنه قال اللائق أن يسألوا أمثال ذلك، ويمكن أن يقال السؤال عن حقائق الممكنات على وجه لا يفيد يشبه دخول البيت من ظهرها فإن الخوض في العلوم بمنزل الدخول في البيت فكما أن الموضوع لأجل الدخول في البيت إنما هو الباب ليستمتع بمنافع البيت كذلك الموضوع للخوض والتفكر في الحقائق وجوه منافعها والاستدلال على صانعها دون أفعال النفس فيما لا يجد به من مسائل الحقائق وجوه منافعها والاستدلال على صانعها دون أفعال النفس فما لا يجد به من مسائل الهيئة. ﴿ ولكن البر من اتقى ﴾ قد مر وجه الحمل واختلاف القراء فيما سبق ﴿ واتوا البيوت ﴾ في حالة الإحرام ﴿ من أبوابها واتقوا الله ﴾ فيما حرم عليكم ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ لكي تفوزوا بالبر،
أخرج الواحدي عن أبي صالح عن ابن عباس لما صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامة ويأتي القابل، فلما كان العام المقبل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ؛ فأنزل الله تعالى ﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ في طاعة الله ﴿ الذين يقاتلونكم ﴾ يعني الذين يتوقع منهم القتال ﴿ ولا تعتدوا ﴾ بقتل النساء والصبيان والشيوخ الكبار والرهبان ومن ألقى إليكم السلم. عن بريدة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال :" اعزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تقتلوا امرأة ولا وليدا ولا شيخا كبيرا " رواه البغوي، وروى مسلم في حديث طويل وفيه :" ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " وعن عبد الله بن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، متفق عليه، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" انطلقوا بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " رواه أبو داود، فعلى هذا التأويل الآية محكمة غير منسوخة وهو قول ابن عباس ومجاهد، وقيل : كان في ابتداء الإسلام أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتل المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتلهم منهم بهذه الآية، قال الربيع : هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمر بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله تعالى :﴿ قاتلوا المشركين كافة ﴾ فحينئذ معنى قوله تعالى :﴿ ولا تعتدوا ﴾ أي لا تبدؤهم بالقتال ﴿ إن الله لا يحب المعتدين ﴾ أي لا يريد بهم الخير.
﴿ واقتلوهم حيث ثقفتوهم ﴾ قال مقاتل بن حيان : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ﴾ قلت : بل هي مخصصة لأجل اقترانهما مثل قوله تعالى :﴿ وأحل الله البيع وحرم الربا ﴾ إذ الناسخ إنما يكون متراخيا، الثقف الحذق بالشيء في إدارته علما كان أو عملا، فهو يتضمن معنى الغلبة ؛ فالمعنى حيث تمكنتم على قتلهم ﴿ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ﴾ يعني من مكة، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح ﴿ والفتنة ﴾ يعني شركهم بالله تعالى وصدهم إياكم عن المسجد الحرام ﴿ أشد ﴾ أعظم وزرا عند الله ﴿ من القتل ﴾ أي قتلكم إياهم، ومن ثم أباحه الله تعالى لكم، كذا أخرج ابن جرير عن مجاهد والضحاك وقتادة والربيع وابن زيد ﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم ﴾ في الحرم ﴿ فاقتلوهم ﴾ فيه، قرأ حمزة والكسائي ﴿ ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم ﴾ بغير ألف فيهن من القتل، على معنى ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم، يقول العرب قتلنا بنو فلان يعني قتل بعضنا وقرأ الباقون بالألف، قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال في البلد الحرام ثم صار منسوخا بقوله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ هذا قول قتادة وقال مقاتل : نسخها آية السيف في براءة، والحق عندي : أن هذه الآية محكمة ولا يجوز ابتداء القتال في الحرم وبه قال مجاهد وجماعة، ويؤيده ما رواه الشيخان عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده " الحديث، وعن جابر مرفوعا " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح " رواه مسلم ﴿ كذلك جزاء الكافرين ﴾ يفعل الله بهم مثل ما فعلوه.
﴿ فإن انتهوا ﴾ عن القتال والكفر ﴿ فإن الله غفور ﴾ يغفر لهم ما قد سلف ﴿ رحيم ﴾ بالعباد.
﴿ وقاتلوهم ﴾ يعني المشركين ﴿ حتى لا تكون فتنة ﴾ أي شرك وفساد ﴿ ويكون الدين ﴾ الطاعة والعبادة ﴿ لله ﴾ وحده ولا يعبد غيره، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى " متفق عليه، ولا دليل في هذه الآية على أن الوثني لا يقبل منه إلا الإسلام فإن أبى قتل كما قال البغوي، إذ لا فرق بين الوثني والمجوسي والكتابي فإن الدين عند الله الإسلام، والفتنة كما يكون بالوثني يكون بالكتابي والمجوسي أيضا، وينتهي منهما بالانقياد وقبول الجزية ولولا قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ لما قبل من أحد منهم الجزية، ثم لما ثبت أخذ الجزية عن أهل الكتاب بهذه الآية مع كونهم على الدين الباطل ثبت أخذ الجزية عن المجوسي والوثني أيضا بالقياس عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لغيره، وسنذكر مسألة الجزية في سورة التوبة إن شاء الله تعالى ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الشرك أو الحرب بإعطاء الجزية ﴿ فلا عدوان ﴾ الفاء الأول للتعقيب والثانية للجزاء، أي : لا سبيل إلى القتل والأسر والنهب ﴿ إلا على الظالمين ﴾ أي على الذين بقوا على الشرك والحرب كذا قال ابن عباس في تأويل العدوان كما في قوله تعالى :﴿ أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ﴾ أو يقال سمى جزاء للعدوان عدوانا للمشاكلة كما في قوله تعالى :﴿ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ قلت : ويحتمل أن يقال في التأويل : فإن انتهوا فلا عدوان أي لا إثم إلا على الظالمين، فإنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر. عن المقداد بن الأسود أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لازمني بشجرة فلما أهويت لأقتله قال : لا إله إلا الله أأقتله بعد أن قالها ؟ قال :" لا تقتله " قال يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " متفق عليه،
وأخرج ابن جرير عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خرجوا معتمرين ومعهم الهدي في ذي القعدة سنة ست فصده المشركون بالحديبية فصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويأتي من قابل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى عمرته في ذي القعدة سنة سبع وأقام بمكة ثلاث ليال وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه فأنزل الله تعالى :﴿ الشهر الحرام ﴾ يعني ذي القعدة اللاتي دخلتم بمكة فيه وقضيتم عمرتكم ﴿ بالشهر الحرام ﴾ الذي صددتم فيه ﴿ والحرمات قصاص ﴾ والقصاص المساواة يعني كل حرمة يجري فيها القصاص والمساواة، وقيل هذه الآية في محل التعليل لما سبق من قوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا ﴾ يعني : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يف المشركون بعهدهم ويصدوهم عن البيت كما فعلوا في العام الماضي ويقع القتال في الحرم والإحرام و الشهر الحرام فأمرهم الله تعالى بالقتال وقال ﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام ﴾ يعني إن هتكوا حرمة الحرم والشهر ويقاتلوكم فقاتلوهم فيه فإنه قصاص لما فعلوا وهذا التأويل أوفق بالسياق حيث قال الله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم ﴾ في الحرم والشهر الحرام وأنتم محرمون ﴿ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ سمى الجزاء باسم الابتداء للمشاكلة ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما لم يرخص لكم ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ فينصرهم ويصلح شأنهم.
﴿ وأنفقوا ﴾ أموالكم ﴿ في سبيل الله ﴾ في الجهاد ﴿ ولا تلقوا بأيديكم ﴾ قيل الباء زائدة وعبر بالأيدي عن الأنفس، وقيل : فيه حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم يعني باختياركم، والإلقاء : طرح الشيء، وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء، وألقى بيده لا يستعمل إلا في الشر ﴿ إلى التهلكة ﴾ أي الهلاك، قيل : كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك فهو التهلكة، وقيل الهلكة ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه. روى البخاري عن حذيفة قال : نزلت هذه الآية في النفقة. وأخرج أبو داود و الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ثاصروه قال بعضنا لبعض سرا إن أموالنا ضاعت وإن الله تعالى قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى يرد علينا ما قلنا فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، قلت : المعنى أنكم لو تركتم الغزو يغلب عدوكم عليكم فتهلكون، قال البغوي : فما زال أبو أيوب رضي الله عنه يجاهد في سبيل الله حتى آخر غزوة غزاها بقسطنطنية فاستشهد ودفن في أصل سور قسطنطنية وهم يستسقون به، وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " وقال بعضهم : نزلت الآية في البخل وترك الإنفاق في سبيل الله وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء وبه قال ابن عباس، أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كانوا يتصدقون ويعطون ما شاء الله فأصابتهم سنة فأمسكوا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة القنوط من رحمة الله كذا قال أبو قلابة، أخرج الطبراني بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال : كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر الله لي فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ وله شواهد عن البراء أخرجه الحاكم ﴿ وأحسنوا ﴾ أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على المحاويج. اعلم أن الإحسان يكون في العبادات ويكون في المعاملات ؛أما الذي في العبادات فما في الصحيحين في حديث طويل عن عمر بن الخطاب قال، قال " يعني جبرئيل " أخبرني عن الإحسان قال عليه السلام :" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " يعني بالحضور والخشوع. وأما الذي في المعاملات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك " رواه أحمد عن معاذ، وقال :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن عمرو بن عنبسة في جواب أي الإسلام أفضل ؟ وقال :" إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين بلفظ " من خياركم أحسنكم أخلاقا " وقال :" إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتك فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " رواه مسلم عن شداد بن أوس ﴿ إن الله يحب المحسنين ﴾.
﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ هذه الآية حجة على وجوب الحج والعمرة، ووجوب إتمامهما و عدم جواز فسخ الحج بالعمرة، أما وجوب الحج فقد انعقد الإجماع على أنه فرض محكم على الأعيان وهو أحد أركان الإسلام قال الله تعالى :﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان " متفق عليه، وفي الباب أحاديث كثيرة، وأما وجوب العمرة فهو مذهب أحمد وبه قال الشافعي في أصح قوليه وهو مروي عن أبي حنيفة رحمهم الله، وقال مالك : العمرة سنة وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وتأويل الآية عندهم أنها تجب بالشروع كالحج بالإجماع، ويدل على ما قال به أحمد قراءة علقمة وإبراهيم النخعي وأقيموا الحج والعمرة لله وهي قراءة علي رضي الله عنه أخرجه ابن جرير وابن ماجة وابن حبان، ومن الأحاديث ما رواه ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان والحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب حديث تعليم جبرائيل وفي قال يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ قال :" أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان " وهذه الزيادة يعني قوله و " تعتمر " وإن لم يذكر في الصحاح لكن وراه التقاث وحكمن الدارقطني عليه بالصحة وذكره أبو بكر الجوسعي في كتابه المخرج على الصحيحين فهي مقبولة، ومنها حديث عائشة قالت : يا رسول الله على النساء جهاد ؟ قال :" عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " رواه ابن ماجة، ومنها أحاديث أخر ضعاف لم نذكرها. وآثار الصحابة قال الضبي بن معبد لعمر : رأيت الحج والعمرة مكتوبتين علي فأهللت بهما فقال عمر هديت سنة نبيك أخرجه أو داود، وقال ابن عمر : ليس في خلق الله أحد إلا عليه حج وعمرة واحبتان من استطاع إليه سبيلا، رواه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم وسنده صحيح وعلقه البخاري، وأثر ابن عباس رواه الشافعي وعلقه البخاري.
واحتج القائلون بكونها سنة بأحاديث : منها حديث جابر بن عبد الله أتى أعرابي فقال : يا رسول الله أخبرني عن العمرة أواجبة هي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا وأن تعتمر خير لك " رواه الترمذي وأحمد والبيهقي من رواته الحجاج بن أطأة وهو مدلس متروك تركه ابن مهدي القطان ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وابن المبارك والنسائي لكن قال الذهبي صدوق وقال الترمذي الحديث حسن صحيح، ورواه البيهقي من طريق آخر وفيه يحيى بن أيوب قال أحمد سيء الحفظ وقال أبو حاتم لا يحتج به لكن قال ابن معين صالح وقال ابن عدي صدوق، قلت : وتعارض هذا الحديث ما روى عن جابر مرفوعا " الحج والعمرة فريضتان " أخرجه ابن عدي من طريق ابن لهيعة لكن ابن لهيعة ضعيف، ومنها حديث أبي أمامة مرفوعا " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ومن مشى إلى صلاة تطوع فأحره كعمرة " رواه الطبراني من طريق يحيى بن حارث، ومنها حديث عبد الله بن قانع عن أبي هريرة مرفوعا " الحج جهاد والعمرة تطوع " ووراه الشافعي عن أبي صالح الحنفي مرسلا وحديث طلحة بن عبد الله وابن عباس مرفوعا نجحوه رواه البيهقي، قال الدارقطني عبد الله بن قانع كان يخطي، وقال الترقاني ضعيف، لكن قال الشيخ تقي الدين هو من كبار الحفاظ، وأبو صالح الحنفي اسمه ماهان ضعفه ابن حزم لكن قال ابن همام تضعيفه ليس بصحيح وثقه ابن معني وروى عنه جماعة، وفي حديث طلحة عمرو بن قيس فيكلم فيه قال الحافظ : إسناده ضعيف وحديث ابن عباس في سنده مجاهيل. وفي الباب آثار الصحابة قال ابن مسعود : الحج فريضة والعمرة تطوع رواه ابن أبي شيبة، قال ابن همام : كفى بعبد الله قدوة، وأثر أبي هريرة مثل مرفوعه، قال الدارقطني في مرفوعه الصحيح أنه موقوف وأثر جابر مثل مرفوعه فالتحقيق أن الأحاديث الصحيحة في الباب متعارضة وكذا الآثار، قال ابن همام : إذا تعارضا لا يثبت الوجوب بالشك، وقال صاحب الهداية : لا تثبت الفريضة مع التعارض، وقول صاحب الهداية أولى فإن الفريضة تبتني على القطع فالأولى أن يقال بالوجوب دون الفريضة عند التعارض احتياطا كيلا يلزم تكرار النسخ.
وأما عدم جواز الحج بالعمرة فمذهب الجمهور محتجين بهذه الآية خلافا لأحمد وله قصة حجة الوداع، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة وكانوا مهلين بالحج أن يفسخوا الحج ويجعلوها عمرة وقال :" اجعلوا أهلالكم بالحج عمرة إلا من قلة الهدي " وشهد على هذا بضعة عشر حديثا صحيحا بحيث يزيل الشكل ويوجب العلم منها حديث أبي موسى الأشعري قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بم أهللت ؟ قال أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال :" هل معك من هدي ؟ " قال لا فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا و المروة ثم أحللت ثم أهللت بالحج يوم التروية، فقدم عمر ﴿ يعني في خلافته ﴾ فقال أن نأخذ بكتاب الله فإن الله أمر بالإتمام قال الله تعالى :﴿ وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ وأن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحل حتى نحر الهدي. وعن جابر قال قد أهلو بالحج مفردا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبالصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا " الحديث، وحديث ابن عباس أمرهم أن يجعلوها عمرة، وحديث عائشة وحديث حفصة وفيه فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا ؟ قال :" إلي لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " وحديث ابن عمر وهذه الأحاديث الستة في الصحيحين، وحديث أبي سعيد الخدري عند مسلم خرجنا نصرح بالحج حتى إذا طفت بالبيت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي " وحديث أنس مرفوعا عند البخاري :" لولا أن معي الهدي لأحللت " وحديث البراء رواه أصحاب السنن وحديث الربيع بن سبرة عن أبيه وغير ذلك سردناها في منار الأحكام، فإن قيل :﴿ وأتموا الحج والعمرة ﴾ قطعي وتخصيص القطعي ونسخه بأحاديث الآحاد لا يجوز ؟ قلت : هذه الأحاديث بلغت حد الشهرة بحيث لا ينكر ثبوت هذه الوقعة على أن قوله تعالى :﴿ وأتموا الحج ﴾ عام خص منه البعض بقوله تعالى :﴿ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ﴾ ثم أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الحكم من فات حجه أو جاز له الخروج بأفعال العمرة وعليه انعقد الإجماع فظهر أن الآية ظني الدلالة جاز تخصيصه بخبر الآحاد، قالوا في جواب احتجاج ا ؛مد : إن ما احتججتم به كان مخصوصا بالصحابة دون غيرهم لحديث بلال بن حارث قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة : ؟ قال :" بل لنا خاصة " رواه أبو داود والنسائي، قال ابن الجوزي : لا يروي ذلك غير عبد العزيز بن محمد الداروردي قال أبو حاتم لا يحتج به، وقال أحمد : لا يصح حديث في أن الفسخ كان له خاصة، قلت : ولولا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحرمهما يعني أظهر حرمتهما التي ثبت عندي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يندفع أحاديث فسخ الحج بحديث بلال المذكور فإنه ضعيف في الظاهر، لكن قول عمر يدل على صحة ذلك الحديث معنى وقد مر قول عمر في حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه أنه قال في خلافته، أن نأخذ بكتاب الله الحديث وكذا أثر عثمان أنه سئل عن متعة الحج قال كان لنا ليست لكم، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولو لم يثبت عند عمر وعثمان اختصاص الفسخ بالصحابة لما خالفا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما احتج عمر بالآية الظني الدلالة في مقابلة ما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالفسخ المفيد للقطع في حقهما و الله أعلم. والمراد بالمتعة في قول عمر وعثمان إنما هو فسخ الحج بالعمرة دون التمتع بالعمرة إلى الحج الذي نطق به كتاب الله تعالى بحيث لا مرد له انعقد عليه الإجماع كيف وقد قال عمر للضبي بن معبد حين قال أهللت بهما : هديت سنة نبيك أخرجه أبو داود، ويؤيد حديث بلال أثر أبي ذر أنه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وفي رواية عنه إنما كانت المتعة لنا خاصة، قال ابن الجوزي : أثر أبي ذرك يرويه رجل من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر، قلت : فهو مرسل والمرسل عندنا حجة والله أعلم.
﴿ فإن أحصرتم ﴾ يعني عن الحج أو العمرة التي أمرتم بإتمامها كما يقتضيه السياق، والآية نزلت في قصة الحديبية باتفاق أهل النقل، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان عام الحديبية محرما بالعمرة فأحصر فتحلل فهو حجة على مالك حيث يقول في رواية إن الإحصار خاص بالحج لا يجوز التحلل بالإحصار في العمرة، ومعنى أحصرتم أي منعتم من الوصول إلى البيت الحرام والمضي على الإحرام بعدو مسلم أو كافر أو مرض يمنعه من المضي أو هلاك نفقة، أو موت محرم المرأة ونحو ذلك كذا فسر أبو حنيفة رحمه الله لأن الإحصار والحصر في اللغة المنع بأي سبب كان بل غالب استعمال الإحصار في الإحصار بالمرض ونحوه، نقل عن الفراء والكسائي والأخفش وأبي عبيدة وابن السكيت وغيرهم من أهل اللغة أن الإحصار بالمرض والحصر بالعدو وقال أبو جعفر النحاس على ذلك جميع أهل اللغة، قلت : المراد بقولهم الإحصار بالمرض والحصر بالعدو أن غالب الاستعمال هكذا، لا أن الإحصار خاص بالمرض حتى يرد عليهم أن الآية نزلت في قصة الحديبية ثبت ذلك في المتفق عليه من رو اية جماعة من الصحابة وقال الشافعي لا خلاف في ذلك، وقال البغوي : الحصر والإحصار بمعنى واحد تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور وأحصره العود إذا منعه من السير فهو محصر، فالآية بعموم لفظه حجة لأبي حنيفة على مالك والشافعي وأحمد حيث قالوا لا حصر إلا حصر العدو، روى الشافعي هذا اللفظ بإسناد صحيح عن ابن عباس، وقالوا إن الآية نزلت فيه، قلنا : العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص سبب النزول. فإن قيل : سياق الآية يقتضي التخصيص حيث يقول الله تعالى :﴿ فإذا أمنتم ﴾ فإن الأمن يكون من الخوف ؟ قلنا : هذا لا يدل على أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو بل يدل على أن الإحصار بالعدو أيضا إحصار كما في قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ ﴿ ويعولتهن أحق بردهن ﴾ فإنه لا يدل على أن المراد بالمطلقات الرجعيات فقط بل يدل على أن الرجعيات أيضا داخلة في المطلقات. احتجوا على تخصيص الإحصار بالعدو بحديث عائشة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها : لعلك أردت الحج ؟ قالت : والله ما أجدني إلا وجعة، فقال لها :" حجي واشترطي وقولي إن محلي حيث حبستني " متفق عليه، ولمسلم من حديث ابن عباس قصة ضباعة، ولأبي داود والنسائي أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج فاشترط ؟ قال نعم، قالت : كيف أقول ؟ قال :" قولي : لبيك، اللهم لبيك، محلي من الأرض حيث تحبسني، فإن لك على ربك ما استثنيت " وصححه الترمذي وأعله بالإرسال، قال العقيلي : روى ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد، وأخرجه ابن خزيمة من حديث ضباعة نفسها والبيهقي عن أنس وجابر،
( الحج( أي وقت الحج بل وقت إحرام الحج، فإن وقت أركان الحج إنما هو يوم عرفة ويوم النحر لا غير ( أشهر معلومات( أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«شوال وذو القعدة وذو الحجة » قلت : المراد شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قال البغوي : كل واحد من اللفظين صحيح والمآل واحد غير مختلف فيه فمن قال عشر عبر عن الليالي ومن قال تسع عبر عن الأيام، وإنما قال أشهر بلفظ الجمع لأنها وقت والعرب تسمي الوقت تاما بقليله وكثيره، قال الله تعالى :( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا( وإنما أسرى في بعض الليل، وهذا هو محمل لما روي عن عمر أنه قال : شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقال عروة بن الزبير وغيره : أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كاملا لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الذبح والرمي والحلق وطواف الزيارة والمبيت بمنى ورمي الحجار في أيام التشريق فكانت في حكم الحج، قلت : هذه الأفعال كلها ينتهي إلى ثالث عشر من ذي الحجة فكيف يعد ذو الحجة بهذا التوجيه كاملا، وقال البيضاوي : وذو الحجة كله من أشهر الحج بناء على أن المراد بالوقت عنده ما لا يحسن فيه غيره من المناسك، وقال : فإن مالكا يكره العمرة في بقية ذي الحجة، قلت : وهذا غير مستقيم فإن العمرة في أشهر الحج للآفاقي غير مكروه إجماعا وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلها في ذي القعدة وكذا للمكي عند مالك والشافعي فإن التمتع للمكي عندهما جائز كما ذكرنا، وهذه الآية حجة للشافعي حيث قال : لا يجوز إحرام الحج قبل الأشهر وإن أحرم انعقد الإحرام للعمرة، وقال داود : من أحرم للحج قبل الأشهر لغى ولا ينعقد أصلا، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : إن أحرم قبل الأشهر للحج انعقد لكنه يكره، وجه قول أبي حنيفة ومن معه : أن الإحرام شرط للج ليس بركن ومن ثم جاز الإحرام بهما ثم صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران، يدل عليه حديث أنس بن مالك قال : قدم عليّ على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال بما أهللت ؟ فقال : بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي موسى قال أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. والحديثان في الصحيحين، وإذا ثبت أنه شرط جاز تقديمه على الوقت كالوضوء للصلاة لكن فيه شبه بالأركان فإذا أُعتق العبد بعدما أحرمم قبل يوم عرفة لا يتأدى فرضه ولذا قلنا بالكراهة، وإذا سمعت أن وقت إحرام الحج أشهر معلومات لا وقت الأركان فإن وقت أركانه يوم كان فحسب فحينئذ الظاهر قول الشافعي فإن الإحرام وإن كان شرطا للحج لا ركنا له والشرط وإن جاز تقديمه على وقت المشروط لكن يجوز تقديمه على وقت نفسه، كما أن العشاء شرط لأداء الوتر فمن أدى العشاء قبل غروب الشفق لا يجوز وتره لا لأنه أدى العشاء قبل وقت الوتر بل لأنه أداها قبل وقت نفسها والله أعلم.
( فمن فرض( أي أوجب على نفسه ( فيهن الحج( يعني أحرم بالحج. اختلفوا في أن الإحرام ما هو ؟ فقال مالك والشافعي وأحمد : إنما هو بالقلب كما في الصوم ولا يشترط فيه التلبية إلا أن مالكا قال : التلبية عند الإحرام واجب يلزم بتركه دم وهي رواية عن أحمد والشافعي والمشهور عنهما أن التلبية سنة. وقال أبو حنيفة : الإحرام هو التلبية مع النية كالتكبير في الصلاة وهي رواية عن الشافعي. لنا : أن القياس بالصلاة أشبه منه بالصوم، وروي عن ابن عباس في تأويل هذه الآية أنه قال : فرض الحج الإهلال، وقال ابن عمر : التلبية، وروى ابن أبي شيبة قول ابن مسعود كقول ابن عمر، ولنا : قوله صلى الله عليه وسلم :«يهل أهل المدينة من ذي الحليفة » الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة :«من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة » أمر بالإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية والأمر للوجوب فهو حجة على من لم يقل بوجوبه، ثم إنه صلى الله عليه وسلم عبر الإحرام بالإهلال فظهر أن الإحرام هو التلبية، لكن يقول أو حنيفة : من قلد بدنة وتوجه معها يريد الحج فقد أحرم وإن لم يلب جعل الفعل مكان القول فإن الذكر كما يحصل بالقول يحصل بالفعل ألا ترى أنه من سمع الأذان للصلاة فمشى إلى الصلاة على الفور كان هذا المشي مكان جواب الأذان فإن إجابة الداعي بالفعل أقوى منه بالقول وليس معنى التلبية إلا الإلباب والقيام إلى الطاعة والله أعلم، واستدل صاحب الهداية على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم «من قلد بدنة فقد أحرم » وهذا لا يعرف، قال ابن الهمام : وقفه ابن أبي شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر، قلت : لا مساس لهذين الأثرين بالمدعى لأنه كان مذهب ابن عباس وابن عمر أنه من بعث إلى مكة هديا وهو لا يريد الحج فهو إذا قلد هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه بمكة وهو المراد بقول ابن عباس وابن عمر من قلد هديا فقد أحرم، وكذا روي عن غيرهما من الصحابة ثم انعقد الإجماع على خلاف ذلك، روى البخاري في صحيحه أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، فقالت عائشة ليس كما قال ابن عباس أنا فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحل الله له، قال الحافظ : كان ذلك سنة تسع فلا يظن ظان أنه كان أول الإسلام ثم نسخ ( فلا رفث( نفي بمعنى النهي يعني فلا ترفثوا والرفث هو الجماع، وقال الزجاج : هي كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء، وقيل : الرفث الفحش والقول القبيح، قلت : وذلك حرام أبدا لا وجه لتعليقه بالإحرام ( ولا فسوق( قال ابن عمر : هو ما نهى عنه المحرم يعني لا تركبوا محرمات الإحرام وهي ستة أشياء إجماعا، منها الرفث يعني الوطء ودواعيه أفرده الله تعالى بالذكر لشدة أمره فإن الجماع يفسد الحج والعمرة إجماعا بخلاف غيره من المحظورات حيث يلزم بها الدم، لكن إذا كان الجماع بعد الوقوف بعرفة ففي إفساده الحج خلاف ولا خلاف في حتميته، ومنها قتل صيد البر والإشارة إليه والدلالة عليه قال الله تعالى :( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم( ( وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرما( وسيجيء البحث عنه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ومنها إزالة الشعر والظفر قال الله :( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محلّه( وقتل القمل المتولد من الوسخ ملحق بالشعر، ومنها استعمال الطيب في الثوب أو البدن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تلبسوا شيئا مسه زعفران أو ورس » متفق عليه عن ابن عمر، وهذه الأشياء عامة حرمتها للرجال والنساء، ومنها ما اختص بالرجال وهو أمران ليس المخيط والخفين إلا أنه من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل كذا في المتفق عليه من حديث ابن عباس وعن جابر نحوه، وتغطية الرأس وأما تغطية الوجه فيعم الرجال والنساء عند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله وقال الشافعي وأحمد : بل يختص بالنساء لقول ابن عمر : إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها، رواه الدارقطني والبيهقي وقد روي مرفوعا ولا يصح، ولحديث عثمان ابن عفان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخمر وجهه وهو محرم رواه الدارقطني وقال الدارقطني : الصواب أنه موقوف، في الموطأ عن الفراقصة أنه رأى عثمان بالعرج يغطي وجهه وهو محرم، ولنا حديث ابن عباس في قصة رجل وَقَصَتْه راحلته وهو محرم قال عليه السلام :«لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا » رواه مسلم والنسائي وابن ماجة. والسابع ما اختلفوا في حرمتها في الإحرام وهو عقد النكاح فقال مالك والشافعي وأحمد لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره أو يؤكل النكاح غريه، وإن ارتكب لا ينعقد، لحديث عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«المحرم لا ينكح ولايُنكح ولا يخطب » رواه مسلم وأبو داود وغيرها، وقال أبو حنيفة يجوز وينعقد لحديث ابن عباس قال : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف، متفق عليه. وأجاب الجمهور بأنه اختلف الرواية في نكاح ميمونة روى مسلم في صحيحه عن يزيد بن الأصم قال : حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس، قالوا وحديث ميمونة نفسها أرجح فإنها كانت أعرف بحالها عن ابن عباس ولو تعارضت الرواية في نكاح ميمونة بقي حديث عثمان سالما عن المعارضة، على أن حديث عثمان قولي وقصة ميمونة فعل منه عليه السلام ويحتمل التخصيص به صلى الله عليه وسلم وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في باب النكاح خصوصيات لم يكن لغيره، وقال ابن عباس : الفسوق هو المعاصي كلها والظاهر هو الأول فإن ذلك لا يختص بالحج. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع والتنوين بإبطال عمل لا بالتكرار في ( ولا رفث ولا فسوق( والباقون بالنصب من غير تنوين ونظيره في جواز الأمرين لا حول ولا قوة إلا بالله ( ولا جدال( قرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين والباقون بالنصب، كان أهل الجاهلية يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم أن موقفه موقف إبراهيم ويتجادلون فيه فبعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة، وكل يقول ما فعلته هو الصواب فقال الله تعالى ( ولا جدال( أي استقر أمر الحج على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه يعني لا تختلفوا فيه، وقال مجاهد : معناه ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة فأبطل النسيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض » الحديث متفق عليه من حديث أبي بكرة ( في الحج( خبر لما قبله ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله( فيجازيكم به، حث على الخير بعد النهي عن الشر ( وتزوّدوا( روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس، وقال البغوي : إنما يقضي حالهم إلى النهب والغضب فأنزل الله تعالى ( وتزوّدوا( يعني تزودوا ما تبلغون به وتكففون وجوهكم ( فإن خير الزاد التقوى( أي ما يتقيكم عن السؤال والنهب ونحو ذلك ( واتّقون( قرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا فقط والباقون بالحذف وصلا ووقفا ( يا أولي الألباب( فإن اقتضاء اللب خشية الله القريب الغالب.
( ليس عليكم جناح أن تبتغوا( تطلبوا ( فضلا( عطاء ورزقا ( من ربّكم( بالتجارة ونحو ذلك في سفر الحج روى البخاري عن ابن عباس قال : ثلاث كانت أسواقا في الجاهلية عكّاظ ومجنة وذو المجاز فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى :( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم( في مواسم الحج، قال البغوي كذا قرأ ابن عباس وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر إنا قوم نكري في هذا الوجه يعني إلى مكة فيزعمون أن لا حج لنا فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون ؟ قلت : بلى، قال : أنت حاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجب بشيء حتى نزل جبرئيل بهذه الآية ( فإذا أفضتم( دفعتم، والإفاضة : دفع بكثرة ( من عرفات( جمع عرفة جمعت بما حولها وسميت بها وهي بقعة واحدة، وإنما سمي الموقف عرفات واليوم عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه أخرجه ابن جرير عن السدي، أو لأنه كان جبرئيل يدور به في المشاعر فلما رآه قال : عرفت أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وعلي، وذكر البغوي قال عطاء وذكر البغوي أيضا أنه قال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا، وقال السدي، لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيقه ذهب، فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع فسمي المزدلفة، وروي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روي يومه أجمع أي فكر أمن الله هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمي اليوم يوم التروية ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي عرفة. ﴿ فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر، سمي مشعرا من الشعار وهو العلامة لأنه من معالم الحج، وأصل الحرام : من المنع وهو في الحرم فهو ممنوع من أي يفعل فيه ما لم يؤذن فيه، وسمي المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيه بين صلاتي العشاء، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم :«عرفة كلها موقف وارتفعوا من بطن عرنة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا من بطن محسر » رواه الطبراني والطحاوي والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا وقال : صحيح على شرط مسلم، ورواه البيهقي موقوفا ومرفوعا وفي الباب عن جابر وجبير بن مطعم وأبي هريرة وأبي رافع وفي إسنادها مقال، ورواه مالك في الموطأ بلاغا ﴿ واذكروه كام هداكم ﴾ كما علمكم أو كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيره يعني اذكروه بالتوحيد لا كما كان الكفار يذكرونه بالشرك وما مصدرية أو كافة ﴿ وإن كنتم من قبله ﴾ أي قبل الهدي ﴿ لمن الضالين ﴾ أي من المشركين إذ الجاهلين بالإيمان والطاعة وإن مخففة واللام هي الفارقة، وقيل إن نافية واللام بمعنى إلا مثل ﴿ وإن نظنك لمن الكاذبين ﴾.
﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال ؛كانت العرب تقف بعرفة وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة فأنزل الله ﴿ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ وأخرج ابن المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كانت قريش تقف بالمزدلفة وتقف الناس بعرفة إلا شيبة بن ربيعة فأنزل الله هذه الآية، قال البغوي : كانت قريش وهم الحمسُ حلفاؤهم يتعظون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات ويقولون نحن أهل الله ووطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه، وسائر الناس يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنه سنة إبراهيم وإسماعيل فالمراد بالناس على هذه الروايات العرب كلهم غير الحمس، وقال الضحاك : الناس ههنا إبراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى :﴿ أم يحسدون الناس ﴾ وأراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده وكذا في قوله تعالى : إذا ﴿ قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ﴾ والمراد بالناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي، وقال الزهري : الناس ههنا آدم عليه السلام دليله قراءة سعيد بن جبير ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسئ بالياء وهو آدم عليه السلام نسي عهد الله، وقيل : معنى الآية ثم يعني بعد إفاضتكم من عرفات ﴿ أفيضوا من حيث أفاض الناس ﴾ يعني من المزدلفة إلى منى والأول قول أكثر المفسرين، لكن يشكل على الأول لفظ ثم لأنه مقدم على الوقوف بالمشعر الحرام فقيل ثم ههنا بمعنى الواو، والأوجه أن كلمة ثم ههنا لتفاوت ما بين الإفاضتين رتبة فإن الإفاضة من عرفات فريضة ركن للحج إجماعا يفوت الحج بفواته بخلاف الوقوف بالمزدلفة فإنه ليس بركن للحج إجماعا إلا ما روي عن ليث وعلقمة فإنهما قالا بركنتيه، ونظيرها في القرآن :﴿ فكّ رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا ﴾ فإن مقتضى هذه الآية أن الإيمان أعظم درحة من سائر الحسنات والله أعلم.
ثم بعدما أجمعوا على أن الوقوف بمزدلفة ليس بركن اختلفوا في أنه واجب يجب بفواته الدم أو سنة ؟ فقال الشافعي رحمه الله سنّة، وقال الجمهور واجب، ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في القدر الواجب منه ؟ فقال أبو حنيفة : الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر واجب، وقال مالك : المبيت بمزدلفة ليلة النحر ولو ساعة واجب، وقال أحمد : المبيت ما بعد نصف الليل واجب وهذه الآية حجة للقائلين بالوجوب على الشافعي فإن قوله تعالى :﴿ فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ﴾ يدل بعبارته على وجوب الوقوف بمزدلفة وبإشارته على وجوب الوقوف بعرفات فإن سوق الكلام للأمر بالذكر عن المشعر الحرام والإفاضة من عرفات شرط له فهذا أولى بالوجوب. فإن قيل الذكر غير واجب إجماعا فالأمر بالذكر إنما هو للاستحباب فكيف يحتج به في الخلافية وهو وجوب الوقوف بمزدلفة ؟ قلنا : الذكر عبارة عن طرد الغفلة وذلك كما يحصل بالقول باللسان يحصل بالعمل بالجوارح أيضا، قال صاحب الحصين : كل مطيع لله ذاكر فالوقوف بمزدلفة بنية العبادة ذكر لا محالة وهو المأمور به فهو واجب، ثم التلبية والدعاء وصلاة العشائين والفجر لازم للوقوف وكل ذلك ذكر فيمكن أن يطلق اللازم ويراد به الملزوم كما في قوله تعالى :﴿ فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن ﴾ يعني صلوا ما تيسر، ويؤيد مذهبنا من السنة حديث عروة بن مضرس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من شهد صلاتنا هذه يعني الفجر يوم النحر بمزدلفة، ووقف معنى حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه » رواه أصحاب السنن الأربعة وابن حبان والحاكم وقال : صحيح على شرط كافة أهل الحديث، علق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الحج به فهو دليل الوجوب، وروى النسائي الحديث المذكور بلفظ «من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك الحج » ولأبي يعلى :«ومن لم يدرك جمعا فلا حج له » هذا الحديث حجة لأبي حنيفة في قوله الواجب الوقوف بعد الصبح، وأيضا في هذه الآية احتجاج لأبي حنيفة على وجوب الوقوف بعد الصبح لأن الوقوف بمزدلفة مرتب على الوقوف بعرفات بمقتضى هذه الآية والإجماع انعقد على أن وقت الوقوف بعرفات إلى آخر الليل فمن وقف بعرفة إلى آخر ليلة النحر ولو ساعة فقد أدرك الحج فحينئذ لا بد أن يكون وقت الوقوف يجمع بعد الصبح، وحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات فأقبل الناس من أهل الحج أيام منى ثلاثة أيام التشريق ﴿ فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ﴾ رواه الطحاوي وفي هذا الحديث حجة لمالك في وجوب المبيت بمزدلفة قبل الصبح لكن هذا الحديث رواه أصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي بلفظ «الحج عرفة من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه » وهذا اللفظ لا يدل على الوقوف بمزدلفة والحجة لأحمد على وجوب المبيت بمزدلة أنه صلى الله عليه وسلم بات بمزدلفة ووقف بعد صلاة الصبح وقال :«خذوا عني مناسككم » فكان مقتضى هذا الاستدلال أن يكون الميت والوقوف بعد الصبح كلاهما واجبين لكن لما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله في الرواح من مزدلفة إلى منى من آخر الليل ظهر أن الوقوف بعد الصبح غير واجب، روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس أنا ممن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله، وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن يعني في الرواح إلى منى من الليل بعد غروب القمر »، وفي الباب في الصحيحين عن ابن عمر وكذا في الصحيح عن أم حبيبة، قلنا : الرخصة للضعفاء لا ينفي الوجوب عن الأقوياء. فإن قيل مقتضى هذه الآية وجوب الوقوف بعرفة وكذا وجوب الوقوف بمزدلفة، وليس الوقوف بمزدلفة ركن فبم تقولون أن الوقوف بعرفة ركن ؟ قلنا : بالإجماع على فوات الحج بفوات عرفة دون المزدلفة، وسند الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم :«والحج عرفة » وحديث الآحاد يصلح سندا للإجماع ولعل أهل الإجماع أخذوا ركنية عرفات من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. واختلفوا في وقت الوقوف بعرفة ؟ فقال أحمد : وقته من طلوع الفجر الثاني يوم عرفة، وقال أبو حنيفة والشافعي : بعد الزوال يوم عرفة، وقال مالك : أول وقته من غروب الشمس ليلة الفجر إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر إجماعا، احتج مالك بما مر من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قوله صلى الله عليه وسلم :«من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه » ولأحمد حديث عروة بن مضرس وفيه «وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه » ولأبي حنيفة والشافعي حديث جابر عند مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم ركب إلى منى يوم التروية فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس فأمر بقبة من شعر فضرب له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له وأتى بطن الوادي الحديث، ولو كان وقت الوقوف قبل الزوال لبادر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل في قبته، وأجيب بأن ذلك يدل على الأفضلية ولا يدل على أنه من وقف قبل الزوال لا يجزئه وكذا حديث سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر جاء إلى الحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس وأنا معه فقال : الرواح إن كنت تريد السنة فقال هذه الساعة قال نعم، والله أعلم.
﴿ واستغفروا الله ﴾ على ما فعلتم في جاهليتكم ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي فرغتم من أركان الحج ومناسكها وذلك يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة والذبح والحلق والطواف والسعي. اعلم أن أركان الحج الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة بالإجماع، وقال الشافعي : السعي والحلق أيضا، وقد مر بحث السعي وسنذكر بحث الحلق في سورة الحج إن شاء الله.
﴿ فاذكروا الله ﴾ بالتكبير والتحميد والثناء عيله ﴿ كذكركم آبائكم ﴾ وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من الحج وقفوا عند البيت فذكروا مفاخر آبائهم فأمرهم الله تعالى بذكره فإن الله تعالى مولى النعم إليهم وإلى آبائهم وهو خالقهم دون آبائهم فهو أولى بالذكر قال الله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تُمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ﴾ قال ابن عباس وعطاء معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء، قلت وعلى هذا كان ذكر الأمهات أولى من الآباء ﴿ أو أشد ذكرا ﴾ يعني بل أشد ذكرا، وأشد إما مجرور معطوف على الذكر يعني واذكروا الله ذكرا كذكركم أو كذكر أشد منه ذاكرية، أو على ما أضيف إليه يعني كذكر قوم أشد منكم ذاكرية، وإما منصوب بالعطف على آبائكم فحينئذ ذكرا مصدر بمعنى المفعول يعني أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو التقدير كونوا أشد ذكر الله منكم لآبائكم ﴿ فمن الناس من يقول ﴾ يعني من كان طمعه الدنيا فقط وهم المشركون المنكرون للبعث يقولون ﴿ ربنا آتنا في الدنيا ﴾ حذف المفعول الثاني إيماء على التعميم، يعني آتنا في الدنيا كل شيء ما تعطيناه آتناه في الدنيا، كان المشركون لا يسألون في الحج إلا الدنيا ﴿ وما له في الآخرة من خلاق ﴾ من نصيب.
﴿ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة ﴾ التنكير للتعظيم، يعني حسنة عظيمة هو إخلاص العمل لله والعافية، ويحتمل أن يراد به جنس الحسنة عموما، والنكرة في الإثبات قد تعم بمصاعدة المقام والقرينة كما في قوله صلى الله عليه وسلم :«تمرة خير من جرداة » يعني كل تمرة خير من كل جرادة، فإعطاء التمرة في جزاء قتل الجرادة يكفي للمحرم فهذه الآية نظير ما ورد في السنة «اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم » ﴿ وفي الآخرة حسنة ﴾ وهي رضوان الله تعالى وكل شيء من نعماء الآخرة ﴿ وقنا عذاب النار ﴾ بالعفو والمغفرة روى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال :«هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ قال : يا رسول الله كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله في الدنيا فقال :«سبحان الله لا تستطيعه أو لا تطيقه هلا قلت :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ وعنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة، وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بمائة مرة يفتح بها ويختم بها ﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ ولو دعا بدعوتين لجعلها أحدهما، وروى تقي بن مخلد عنه قال : كان في أول دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي وسطه وفي آخره ﴿ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾
﴿ أولئك ﴾ إشارة إلى الفريق الثاني وقيل إليهما ﴿ لهم نصيب مما كسبوا ﴾ سمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال ﴿ والله سريع الحساب ﴾ قال الحسن أسرع من لمح البصر، قيل معناها إتيان القيامة قريب فاطلبوا الآخرة.
﴿ واذكروا الله في أيام معدودات ﴾ وهي أيام التشريق، سميت معدودات لقلتهن كذا روى عن ابن عباس وغيره ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿ فمن تعجّل في يومين ﴾ من أيام التشريق يعني استعجل في النفر ونفر في ثاني أيام التشريق. اتفقوا على أنه من لم ينفر ودخل عليه الثالث من أيام التشريق وجب عليه رمي ذلك اليوم، واختلفوا في أنه هل يعتبر دخول الليلة الثالثة من ليالي أيام التشريق أو الثالث من أيامها ؟ فقال الجمهور : المعتبر دخول الليل فمن أقام بمنى حتى دخلت الليلة الثالثة لا يحل له النفر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث، وقال أبو حنيفة : لا يجب ذلك حتى يصبح بمنى وله أن ينفر من الليل كان كمن سافر قبل وقت الجمعة، وقال غيره الليل وإن لم يكن وقت للرمي فهو وقت للمبيت والمبيت بمنى واجب فبعد دخول الليل وجب المبيت فلا يحل النفر. والله أعلم ﴿ فلا إثم عليه ﴾ فإنه أخذ بالرخصة ﴿ ومن تأخر ﴾ في النفر حتى يرمي اليوم الثالث ﴿ فلا إثم عليه ﴾ وهو أولى وأفضل، وفيه رد على أهل الجاهلية كان منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر ﴿ لمن اتقى ﴾ أي هذه الأحكام لمن اتقى فإنه هو المنتفع به، وقيل : لمن اتقى أن يصيب في حجه شيئا مما نهاه الله عنه رجع مغفورا لا ذنب عليه سواء تعجل في النفر أو تأخر، قال البغوي : هذا قول علي وابن مسعود رضي الله عنه، ويؤيده من المرفوع عن أبي هريرة، وعنه في الصحيحين مرفوعا ﴿ الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ﴾ وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد » رواه الشافعي والترمذي وعن عمرو ونحوه رواه أحمد.
اعلم أن المقام بمنى أيام التشريق والمبيت بها في لياليها وكذا الرمي ليس بركن إجماعا لقوله تعالى :﴿ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله ﴾ فإن الترتيب والتعقيب يدل على المغايرة. واختلفوا في وجوبها ؟ فقال أحمد : المبيت والرمي كلاهما واجبان، وقال مالك : المقام والمبيت واجب والرمي سنة مؤكدة، وقال أبو حنيفة بالعكس وهو رواية عن أحمد، وللشافعي قولان : أحدهما كأحمد والثاني كأبي حنيفة، وقال بعضهم : إنما شرع الرمي حفظا للتكبير فإن ترك وكبر أجزأه حكاه ابن جرير عن عائشة وغيرها وهذا المذهب يوافق ظاهر الآية لكنه خلاف ما استقر عليه الإجماع. احتج أحمد بهذه الآية وقال : هذه الآية تحتمل إيجاب الأمرين وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التحق بيانا لإجمالها وقد قال عليه السلام :«خذوا عني مناسككم » وقال أبو حنيفة : المقصود بالمقام والمبيت هو الرمي بدليل ما رواه البخاري عن ابن مسعود أنه رمى من بطن الوادي فقيل له إن ناسا يرمونها من فوقها فقال : والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة فإن هذا القول إشارة إلى أن هذه الآية في الرمي لا غير، وما رواه عاصم بن عدي قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة بمنى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ثم يرمون يوم النفر، رواه مالك وغيره، وفي النسائي : رخص للرعاء في البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما، قال مالك : تفسير الحديث : أنهم يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذلك يوم النفر الأول يرمون اليوم الذي مضى قضاء ثم يرمون ليومهم. وجه الاحتجاج أن إيجاب قضاء الرمي دون المبيت دليل على وجوب الرمي مقصودا وعدم وجوب المبيت إلا تبعا للرمي، قال أحمد : الترخيص في المبيت للرعاء للضرورة لا يدل على عدم الوجوب مطلقا بل يدل على الوجوب فإن الرخصة لا تكون إلا فيما هو واجب، والحجة لمالك : أنه قد روي عن عمر وابنه أنهما كانا يكبران تلك الأيام خلف الصلوات وفي المجالس على الفراش والفسطاط وفي الطريق ويكبر الناس بتكبيرهما ويتأولان هذه الآية. وجه الاحتجاج أن الذكر في أيام التشريق مطلقا سواء كان بمنى أو غيره ليس بواجب إجماعا بل هو مقيد بمنى يدل عليه قوله تعالى :﴿ فمن تعجل ﴾ يعني في النفر الآية ولا شك أن المقام هناك بنية التقرب ذكر وانضمام الذكر اللساني أولى وأفضل فحمل الآية هو المقام والرمي كما لا يخفى والله اعلم. واعلم أنه ثبت بالسنة وهو بيان لإجمال الآية أن الرمي يوم النحر في جمرة العقبة فقط بسبع حصيات ووقته من طلوع الفجر يوم النحر عند أبي حنيفة ومالك، ومما بعد نصف الليل من ليلة النحر عند أحمد والشافعي، ومن طلوع الشمس يوم النحر عند مجاهد والحجة لمجاهد حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال :«لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح، قلنا : هذا محمول على الاستحباب ويدل على الجواز بعد الصبح قبل طلوع الشمس ما رواه الطحاوي بأسانيده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع النقل وقال :«لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا » وهو حجة لنا على الشافعي وأحمد في عدم جواز الرمي قبل الصبح، وما احتج به الشافعي وأحمد من حديث عائشة قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت، رواه الدارقطني حديث ضعيف في سنن ضحاك بن عثمان لينه القطان، ثم هي محمول على أنها رمت قبل صلاة الفجر لا قبل طلوع الفجر فهو حجة لنا على مجاهد، وآخر وقته عند أبي يوسف إلى الزوال لأنه صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحوة، وعند الجمهور إلى الغروب لحديث ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول :" لا حرج " فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال :" اذبح ولا حرج " قال : رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال :" لا حرج " رواه البخاري وغيره. ومعنى قوله بعدما أمسيت أي بعد الزوال إذ المساء يطلق على بعد الزوال وليس المراد بعد الغروب لأن يوم النحر يطلق قبل الغروب لا بعده، وفي بعض طرق الحديث صريح أن السؤال كان وقت الظهر، وآخر وقته المكروه إلى طلوع الفجر من يوم الحادي عشر لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلا رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وهذا يدل على الجواز للمعذور وعلى الكراهة لغير المعذور. والرمي في أيام التشريق في ثلاثة جمار الجمرة الدنيا والجمرة الوسطى والجمرة العقبة يرمي عند كل جمرة بسبع حصيات وأول وقتها في أول أيام التشريق أي يوم القرار وثانيهما يعني يوم النفر الأول بعد الزوال إجماعا لما في حديث جابر وغيره، ثم لم يرم النبي صلى الله عليه وسلم حتى زالت الشمس وآخر وقته في كل يوم بلا كراهة إلى الغروب وللمعذورين إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني وذلك مع كراهة لغير المعذور ولما مر أنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلا، وكذا في اليوم إجماعا لأن تلك الليلة ليست من أيام التشريق، وقال أبو حنيفة : يجوز الرمي في ذلك اليوم قبل الزوال، ولم أطلع على دليل لهذا القول غير ما ذكر ابن همام عن ابن عباس أنه قال : إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر، رواه البيهقي قال : والانتفاخ الارتفاع، وفي سنده طلحة بن عمر وضعفه البيهقي وابن معين والدارقطني وقال أحمد متروك الحديث. وهل يشترط الترتيب بين الجمار في أيام التشريق ؟ فعند الجمهور الترتيب واجب وعند أبي حنيفة سنة، وجه قول الجمهور : أن كل ما لا يدرك بالرأي فرعاية جميع الخصوصيات الواردة فيه واجب ولم ينقل فوات الترتيب، وقال أبو حنيفة : لو كان الرمي في الجمرات الثلاث نسكا واحدا كان مراعاة خصوصياته واجبا لكن الرمي في كل جمرة نسك برأسه فلا بد في كل منها رعاية خصوصياته وأما الترتيب بين المناسك العديدة فليس بشرط كما أن الترتيب بين الرمي والذبح والحلق ليس بشرط، فكان القياس على قول أبي حنيفة إن ذلك الترتيب إن لم يكن شرطا لكن ليكن واجبا ينجبر بالدم كالترتيب بين الرمي والذبح والحلق ولم يظهر لي وجه الفرق بين المسألتين والله أعلم ﴿ واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ﴾ فيجازيكم على حسب أعمالكم وإخلاصكم والله أعلم.
قال البغوي قال الكلبي ومقاتل وعطاء كان الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة وسمي الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلا حلو الكلام وحلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ويقول : إني لأحبك ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه فنزل :
﴿ ومن الناس من يعجبك ﴾ أي يعظم في قلبك وتستحسنه ﴿ قوله ﴾ يعني الأخنس كذا أخرجه ابن جرير عن السدي، وأخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس قال : لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ومرثد بالرجيع قال رجلان من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم فأنزل الله ﴿ ومن الناس من يعجبك قوله ﴾ ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ متعلق ب " يعجبك "، يعني يعجبك قوله في الحياة الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الفضيحة أو متعلق بالقول أي قوله في معنى الدنيا من ادعاء المحبة وإظهار الإسلام ﴿ ويشهد الله ﴾ ذلك المنافق، أي يحلف بالله ويستشهده ﴿ على ما في قلبه ﴾ يعني على أن ما في قلبه مطابق للسانه فيقول والله إني بك مؤمن ولك محب ﴿ وهو ألدّ الخصام ﴾ أي أشد الخصومة والجدال للمسلمين والخصام مصدر خاصمه خصاما، وقال الزجاج : هو جمع خصم مثل بحر وبحار، والجملة حال من فاعل يشهد، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن أبغض الرجال إلى الله عز وجل الألدّ الخصم " قال قتادة هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل الخطيئة.
﴿ وإذا تولى ﴾ أي أدبر ﴿ سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ﴾ روى أن الأخنس كانت بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، وقال مقاتل : خرج إلى الطائف مقتضيا مالا له عرى غريم فأحرق له كدسا وعقر له أتانا، والنسل نسل كل دابة والإنسان منهم، وقال الضحاك : معنى إذا تولى أي صار واليا ملكا سعى في الأرض بالفساد، وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ وإن تلوى سعى في الأرض ﴾ أنه إذا ولى عمل بالعدوان والظلم فأمسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل ﴿ والله لا يحب الفساد ﴾ لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.
﴿ وإذا قيل له ﴾ للأخنس ﴿ اتق ﴾ خف الله ﴿ أخذته العزة ﴾ حملته الأنفة وحمية الجاهلية والتكبر ﴿ بالإثم ﴾ أي على الإثم يقال أخذته بكذا أي حملته عليه وألزمته إياه، أو الباء للسببية والمعنى أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر ﴿ فحسبه ﴾ كفته جزاء وعذابا ﴿ جهنم ﴾ علم لدار العقاب، وهو في الأصل مرادف لنار، وقيل معرب ﴿ ولبئس المهاد ﴾ أي الفراش جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف يعني جهنم، قال البغوي : قال ابن مسعود إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد اتق الله فيقول عليك بنفسك، وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعا لله عز وجل.
﴿ ومن الناس من يشري ﴾ أي يبيع ويبذل في الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ نفسه ﴾ حتى يقتل، نظيره قوله تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾ الآية، عن أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " رواه أحمد وابن ماجة والطبراني والبيهقي، وابن ماجة عن أبي سعيد ﴿ ابتغاء مرضاة الله ﴾ طلبا لرضائه كان مرضاة الله ثمن يطلبها ببذل نفسه ﴿ والله رءوف بالعباد ﴾ حيث أرشدهم لمثل هذه التجارة الرابحة، أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش لقد علمتهم أني من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إلى حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتم على ما لي بمكة وخليتم سبيلي، قالوا : نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال :" ربح البيع أبا يحيى " نزلت هذه الآية، وأخرج الحاكم في المستدرك نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب نفسه موصولا وأخرجه أيضا من طريق حماد بن سلمة عن أنس وفيه التصريح بنزول الآية فيه وقال : صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن جرير عن عكرمة قال : نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم أمنك كنت أم من غيركم فهل لكن أن تأخذوا ما لي وذروني وديني ؟ ففعلوا، وسياق هذا الحديث يخالف سياق ما سبق والأول هو الصحيح، وقيل : نزلت الآية في سرية الرجيع. ذكر ابن إسحاق ومحمد بن سعد وغيرهم أن بني لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي مشوا إلى عضل والقارة وهما حيان وجعلوا لهم فرائض على أن يقدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكلموه فيخرج إليهم نفر من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام ويعلمونهم الشرائع قالوا : فنقتل من أردنا ونسير بهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا، فقدم سبعة نفر من عضل والقارة مقرين بالإسلام فقالوا : يا رسول الله إن فينا الإسلام فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرتد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رهط عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فغدوا بهم فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة عام وفي رواية فنفروا لهم من مائتي رجل، قلت : لعل الرامي منهم مائة، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم أن لا نقتل منكم وإنا والله لا نريد قتلكم إنما نريد نصيب شيئا من أهل مكة، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحم لحمي الله خبرنا رسولك فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم يوم أصيبوا فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة، وبقي خبيب وزيد وعبد الله بن طارق فما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه فمنعه الدبر فسمي حمي الدبر فبعث الله سبحانه فسال الوادي فاحتمله فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله العهد أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك فبر الله قسمه، وأما زيد بن الدثنة وابن طارق يده من القرآن ثم أخذ سيفه فرموه بالحجارة حتى قتلوه وقبره بالظهران وباعوا زيدا وخبيبا بمكة، قال ابن إسحاق وابن سعد : اشترى زيدا صفوان بن أمية ﴿ وأسلم بعد ذلك ﴾ ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعته مع نسطاس مولى له و﴿ وأسلم بعد ذلك ﴾ إلى التنعيم ليقتله واجتمع من جمع قريش فيهم أبو سفيان حتى قدم ليقتل، فقالوا أبو سفيان : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا بمكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك، فقال : الله ما أحب أن محمدا صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان : ما رأيت في الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد ثم قتله نسطاس، وأما حبيب فابتاعه بنو الحارث قتل خبيب الحارث يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته، فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا بخبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده فصاحت المرأة، فقال خبيب : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا، فقالت بعد : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وهو الموثق بالحديد وما كان بمكة من ثمرة إلا كان رزقا رزقه الله، ثم إنهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال لهم : دعوني أصلي ركعتين فتركوه، فكان خبيبا هو سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة فركع ركعتين ثم قال : لهم : لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع لزدت، فقال : الله أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا وأنشأ يقول :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مصرعي
وذاك في ذات الإله وإن يشأ يبارك في أوصال شلو ممزع
فصلبوه حيا رواه البخاري. فقال خبيب : اللهم بلغ سلامي رسولك، ويقال : كان رجل من المشركين يقال له سلامان أبو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثدي خبيب فقال له خبيب : اتق الله فما زاده ذلك إلا عتوا وطعنه فأبعده، فذلك قوله تعالى :﴿ وإذا قيل له اتق الله ﴾ الآية. روى محمد بن عمرو بن مسلمة عن أسامة بن زيد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" عليه السلام ورحمة الله وبركاته هذا جبرئيل يقرؤني من خبيب السلام " فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر قال لأصحابه :" أيكم يختزل خبيبا من خشبته وله الجنة " فقال الزبير : أنا وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين فنزلا فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما ويد على جراحته ينبض دما اللون لون الدم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فأخبروا قريشا فركب منهم سبعون فلما لحقوها قذف الزبير خبيبا فابتلعته الأرض فسمي يليع الأرض، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عنده فقال : يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، فنزل في الزبير والمقداد ﴿ ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله ﴾ حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب من خشبته والله أعلم.
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال : قال عبد الله بن سلام وثعلبة وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم مؤمني اليهود : يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها بالليل وكذا قال البغوي، وقال : وكانوا يكرهون لحوم الإبل وألبانها بعد ما أسلموا فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾ السلم بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة لذلك يطلق على الصلح والإسلام والمراد ههنا الإسلام. قرأ نافع وابن كثير والكسائي السلم ههنا بفتح السين والباقون بكسرها، وفي سورة الأنفال بالكسر أبو بكر والباقون بالفتح، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم بالكسر حمزة وأبو بكر والباقون بفتحها. و﴿ كافة ﴾ اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب، والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا، قلت : وذا لا يتصور إلا عند الصوفية، أو المعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره، أو في شعب الإسلام وأحكامه ولا تخلوا بشيء منها، قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية : إن الإسلام ثمانية أسهم فعد الصلاة والصوم والزكاة والحج و العمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال وقد خاب من لا سهم له، قلت : إنما ذكر ما ذكر على سبيل التمثيل وإلا فالمراد بالآية الامتثال بكل ما أمر الله به والانتهاء عن كل ما نهى عنه، أو يقال : إن الأمر بالمعروف والهني عن المنكر يشتمل الجميع، فإن الأمر بالمعروف يقتضي الإتيان به والنهي عن المنكر يقتضي الانتهاء عنه. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " رواه مسلم وأبو داود و النسائي وابن ماجه ﴿ ولا تتبعوا خطوات ﴾ قد مر اختلاف القراءة فيه ﴿ الشيطان ﴾ يعني آثاره من تحريم السبت وتحريم الإبل وغير ذلك بعدما نسخ ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ ظاهر العداوة، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود يعجبنا أفترى أن نكتب بعضها ؟ فقال :" أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.
﴿ فإن زللتم ﴾ يعني زلت أقدامكم فلم تستقيموا على الإسلام ﴿ فاعلموا أن الله عزيز ﴾ لا يعجزه الانتقام ﴿ حكيم ﴾ لا ينتقم إلا بحق ولا يمهل إلا لحكمة، فيه دفع توهم الناشيء من الإمهال.
﴿ هل ينظرون ﴾ النثر بمعنى الانتظار يعني ما ينتظرون ﴿ إلا أن يأتيهم الله في ظلل ﴾ جمع ظلة وهي كل ما أظلت ﴿ من الغمام ﴾ قال البغوي : هو السحاب الأبيض الرقيق سمي غماما لأنه يغم أي يستر، وقال مجاهد : هو غير السحاب ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، وقال مقاتل : كهيئة الضباب أبيض، وقال الحسن في سترة من الغمام فلا ينظر إليه أهل الأرض ﴿ والملائكة ﴾ قرأ أبو جعفر بالجر عطفا على الغمام ويكو الجر للجوار، والباقون بالرفع أي ويأتيهم الملائكة ﴿ وقضي الأمر ﴾ وجب العدا للكفار و الثواب للمؤمنين، وفرغ من الحساب وذلك يوم القيامة والله أعلم.
أجمع علماء أهل السنة من السلف والخلف أن الله سبحانه منزه عن صفات الأجسام سمات الحدوث فلهم في هذه الآية سبيلان أحدهما الإيمان به وتفويض عملها إلى الله تعالى والتحاشي عن البحث فيه وهو مسلك السلف، قال الكلبي : هذا من المكتوم الذي لا يفسر، وكان مكحول والزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى يقولون فيه وفي أمثاله أمروها كما جاءت بلا كيف، قال سفيان بن عيينة : كل وصف الله تعالى به نفسه في كتبه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله حيث قال في المتشابهات لا يعلم تأويله إلا الله بالوقف عليه، ثانيهما تأويله بما يليق به بناء على ما قيل ﴿ لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ﴾ بالعطف، قال البيضاوي وغيره. إلا أن يأتيهم الله أي أمره أو بأسه بحذف المضاف فهو كقوله تعالى :﴿ أو يأتي أمر ربك ﴾ ﴿ جاءهم بأسنا ﴾ أو المعنى أن يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله :﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ قال : وإنما يأتي العذاب في الغمام لأن الغمام مظنة الرحمة فإلإذا جاء من العذاب جاء من حيث لا يحتسبه فكان أفظع، قلت : وما ذكر البيضاوي من التأويل يأبى عنه ما جاء في تفسير هذه الآية وأمثاله من الأحاديث. أخرج الحاكم وابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قرأ ﴿ ويوم تشقق السماء بالغمام ﴾ قال : يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فيشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق قيقول أهل الأرض : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا، ثم ينزل أهل السماء الثانية وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن أهل الأرض فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فيقولون لا، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلائق، ثم ينزل أهل السماء الثالثة هكذا ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة وهم أكثر من أهل السماوات وأهل الأرض فيقولون : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والأرضين، وحملة العرض لهم قرون ككعوب القنا ما بين أقدام أحدهم كذا وكذا، ومن أخمص قدمه إلى كعبة مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة عام ومن ركبته إلى أرنبته خمسمائة عام ومن أرنبه إلى ترقوته خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط خمسمائة عام. قلت : وأيضا لو كان معنى الآية كما قال البيضاوي بحذف المضاف ونحوه فهو نظير قوله تعالى :﴿ وسأل القرية التي كنا فيها ﴾ يعني واسأل أهل القرية، ولم يقل إنه من المتشابهات أحد فحينئذ لم يكن آية في القرآن من المتشابهات وقد قال الله تعالى :﴿ منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ﴾.
ولأصحاب القلوب في تلك الآيات سبيل آخر : وهو أن لله سبحانه تجليات في بعض مخلوقاته وظهورات لا كيف لها كما ذكرنا في القلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم وعامتها تكون على الإنسان فإنه خليفة الله، وتلك التجليات قد تكون برقيا كالبرق الخاطلف وقد تكون دائميا وتلك لا تستدعي حدوث أمر في ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث ومتنزلا عن مرتبة التنزيه بل هي مبنية على حدوث أمر في الممكن، كما أن المرآة المحاذية للشمس كلما صوقلت انجلت الشمس فيها ويظهر في المرآة آثارها من الإضاءة و الإحراق، وهذه التجليات هي المصداق لقوله تعالى :﴿ فلما تجلى ربه للجبل ﴾ وقوله تعالى :﴿ يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ يعني يتجلى لهم يوم القيامة في الغمام، فأما من اكتسب قلبه في الدنيا بصيرة ينفذ بصره من وراء الغمام إلى الله سبحانه كما ننفذ البصر في الأجرام الزجاجية إلى الأجرام الفلكية، ولا استحالة في الرؤية من وراء الغمام بعدما أثبتوا الرؤية في الجنة من غير حجاب كما ترون القمر ليلة البدر، وأما من لم يكتسب قلبه بصيرة وهو ﴿ في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ﴾ فيكون له الغمام ساترا وحجابا، قال السيوطي في البدور السافرة : رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي ما نصه : قال سلمة ابن القاسم في كتاب غرائب الأصول حديث تنزل الله يوم القيامة ومجيئه في ظلل محمول على أن الله تعالى يغير أبصار خلقه حتى يرونه كذلك وهو على عرشه غير متغير ولا متنقل، قلت : يعني يرونه كذلك من وراء الحجاب السجنجلي، قال السيوطي : وكذلك جاء معناه عن عبد العزيز الماجشون أنه تعالى يغير أبصار خلقه فيرونه نازلا متجليا مناجي خلقه ومخاطبهم وهو غير متغير عن عظمته ولا متنقل وقد وجدنا أن جبرئيل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورته وتارة في صورة دحية وجبرائيل أجل من صورة دحية إلخ انتهى. قلت : وما ذكرنا من التأويل لا مساس له بأقوال الخلف لكنه هو المراد ما ذكرنا من أقوال السلف أمروها كما جاءت بلا كيفن يعني هذه الأمور كلها من الاستواء والنزول وغير ذلك ثابتة كما جاءت النصوصو لكن بلا كيف بحيث لا يزاحم مرتبة التنزيه، وهذ أمر من لم يذقه لم يدر ومن درى لا يمكنه التعبير عنه كما هو بل يختبط أفهام السامعين فيفهمون غير مراده فعليكم بالسكوت عنه والإيمان به وليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله وعطف الرسول على الله فيقتضي أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بتفسير المتشابهات، قلت وكذا أكمل أتابعه والله أعلم ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ قرأ ابن عامر حمزوة و الكسائي ويعقوب ترجع الأمور حيث وقع بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع اللازم والباقون بضم التاء وفتح الجيم من الإرجاع المتعدي.
﴿ سل ﴾ يا محمد ﴿ بني إسرائيل ﴾ يهود المدينة، والمراد بهذا السؤال تقريعهم ﴿ كم آتيناهم ﴾ يعني آباءهم وأسلافهم، وكم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني، أو خبرية وهي ثاني مفعولي آتينا ومميزهاا ﴿ ومن آية بينة ﴾ ظاهرة، ويحتمل أن يكون كم مبتدأ والعائد من الخبر محذوف يعني كم من آية بينة آتيناهم إياها فبدلوها بعد معرفتها، وجملة كم آتيناهم على تقدير كونها استفهامية حال أي سل بني إسرائيل قائلا كم آتيناهم وعلى تقدير كونها خبرية جواب عن سؤال هل كانت لهم آيات متكثرة، والمراد بالآيات إما المعجزات الواضحات الدالة على بنوة موسى عليه السلام أو الآيات المحكمات في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والثاني أظهر ﴿ ومن يبدل ﴾ بغير﴿ نعمة الله ﴾ أي ما أنعم الله عليه من الآيات لأنها سبب الهداية أو كتاب الله فترك العلم به ﴿ من بعد ما جاءته ﴾ أي وصلت إليه وتمكن من معرفتها، فيه تعريض بأنهم بدلوها بعدما عقلوها ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ فيعاقبه أشد عقوبة حيث ارتكب أشد جريمة.
﴿ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ﴾ والمزين هو الله تعالى حيث خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة وخلق فيهم القوى الشهوانية وأشرب حبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها، وقال الزجاج : زين لهم الشيطان يعني وسوس إليهم الخواطر الشهوانية، قلت : والله سبحانه خالق أفعال العباد منهم الشياطين فهو المزين نعم تجوز الإسناد إلى الشياطين من حيث كونها كاسية للوسوسة والله أعلم. قيل نزلت الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه ﴿ و ﴾ هم ﴿ يسخرون م الذين آمنوا ﴾ أي يستهزؤون بفقراء المؤمنين، قال ابن عباس : أراد بالذين آمنوا عبد الله بن مسعود وعمارا وصهيبا وبلالا وخبيبا وأمثالهم، وقال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله ابن أبي وأصحابه كانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ويقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم، وقال عطاء : نزلت في رؤساء اليهود كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين فوعد الله المؤمنين أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ﴿ والذين اتقوا ﴾ يعني هؤلاء الفقراء الذين كانوا ب﴿ الذين آمنوا ﴾ وضع المظهر موضع المضمر ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى وأن العمل خارج من الإيمان ﴿ فوقهم ﴾ في المكان أو الرتبة أو الغلبة لأن المتقين في أعلى عليين وفي كرامة الله ويتطاولون على الكفار فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا والكفار في أسفل السافلين وفي مذلة ﴿ يوم القيامة ﴾ كما أن المؤمنين خير وأشرف عند الله من الكفار في الدارين. عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا ؟ فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذا خيرا من ملء الأرض مثل هذا " رواه البخاري، وعن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وقفت على باب الجنة فرأيت أكثر أهلها المساكين وقفت على باب النار فرأيت أكثر أهلها نساء، وإن أهل الجد محبوسون إلا من كان منهم من أهل النار فقد أمر به إلى النار " رواه البغوي ﴿ والله يزرق من يشاء ﴾ في الدارين ﴿ بغير حساب ﴾ قال ابن عباس : يعني كثيرا لأن كل ما دخل عليه السحاب فهو قليل، وقيل : معناه بغير حساب عليه تعالى فيما يعطي ولا اعتراض فقد يعطي الكثير من لا يحتاج إليه وقد لا يعطي القليل من يحتاج، وقيل معناه : لا يخاف نفاد خزائنه فيحتاج إلى حساب.
﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ أخرج البزار في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنهم كانوا عشرة قرون كلهم علماء يهتدون من الحق ثم اختلفوا فبعث الله نوحا وكان نوح أول رسول أرسله الله إلى الأرض، وقال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على الكفر أمثال البهائم فبعث الله نوحا وغيره من النبيين، والجمع بين القولين أنهم كانوا أولا كلهم مسلمين ثم اختلفوا حتى صاروا كلهم كفارا في زمن نوح غير أبوي نوح فإنهما كانا مؤمنين بدليل قول نوح :﴿ ربنا اغفر لي لوالدي ﴾الآية، وقيل : المراد بالناس العرب، قال الحافظ عماد الدين بن كثير : كان العرب على دين إبراهيم إلى أن ولي عمرو بن عامر الخزاعي مكة. أخرج أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيت قصبه في النار " وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" أرأيت عمرو بن عامر بن لحي ابن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار إنه أو من سيب السوائب " وأخرج ابن جرير في تفسيره عنه نحوه وفيه " إنه أول من غير دين إبراهيم " لكن يأبى تأويل الناس بالعرب صيغة النبيين بالجمع إذ لم يبعث في العرب غير محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ لنذر قوما ما أنذر آباءهم فهم غافلون ﴾ وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، قلت : ويمكن أن يقال كان الناس أمة واحدة مستعدين لقبول الحق مولودين على الفطرة فأخبطهم شياطين الإنس والجن فاختلفوا. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " متفق عليه ﴿ فبعث الله ﴾ معطوف على ﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ إن كان المراد اجتماعهم على الكفر ومعطوف على مقدر يعني اختلفوا ﴿ فبعث الله ﴾ إن كان المراد اجتماعهم على الحق، فإن البعث ليس إلا لدفع الكفر والفساد ويدل على هذا التقدير قوله تعالى :﴿ فيما اختلفوا فيه ﴾ ﴿ النبيين ﴾ قال أبو ذر : قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الانبياء قال :" مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " رواه أحمد، وفي رواية عنه ثلاثمائة وبضعة عشر، قال البغوي والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسمه ﴿ العلم ﴾ ثمانية وعشرون نبيا، قلت بل المذكور في القرآن إنما هم ستة وعشرون منهم ثمانية عشر في قوله تعالى :﴿ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم{ ٨٣ ﴾ ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدنيا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين﴿ ٨٤ ﴾ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين﴿ ٨٥ ﴾ }١ وثمانية غيرهم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وعزير ومحمد سيد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقيل يوسف الذي ذكر في سورة المؤمنون غير يوسف بن يعقوب عليه السلام بل هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن بعقوب فصاروا سبعة وعشرين، وقيل بنبوة مريم أم عيسى فكمل ثمانية وعشرون لكن قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا من أهل القرى ﴾٢ يأبى نبوة مريم، ويحتمل أن يكون الثامن والعشرون لقمان والله أعلم ﴿ مبشرين ﴾ بالثواب لمن أطاع ﴿ ومنذرين ﴾ بالعقاب لمن عصى ﴿ وأنزل معهم الكتاب ﴾ يريد به الجنس ﴿ بالحق ﴾ حال من الكتاب أبي متلبسا بالحق شاهدا به ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المبعوث معه، وقرأ أبو جعفر ﴿ ليحكم ﴾ بضم الياء وفتح الكاف ههنا وفي آل عمران وفي النور في الموضعين فيحنئذ نائب الفاعل الظرف والمعنى ليحكم به يعني بالكتاب ﴿ بين الناس فيما اختلفوا فيه ﴾ أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم ﴿ وما اختلف فيه ﴾ أي في الكتاب ﴿ إلا الذين أتوه ﴾ الموصول للعهد والمراد به اليهود والنصارى ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ أي الآيات المحكمات في التوراة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والمبشرة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم الناعتة بصفاته الكريمة، قال السيوطي في التفسير : قوله من بعد متعلق باختلاف وهي وما بعده مقدم على الاستثناء في المعنى يعني في الكلام تقديم وتأخير، قلت : والأولى أن يقال إنه متعلق بمحذوف أي اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات لأن ما قبل إلا لا تعمل فيما بعدها إلا في المستثنى ولا يستثنى متعدد بحرف واحد فهو جواب سؤال مقدر كأنه قيل متى اختلفوا فأجيب، ومعنى اختلافهم قولهم نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتحريفهم الكلم عن مواضعه و إنكارهم صفات محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ﴿ بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا ﴾ يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لما اختلفوا فيه ﴾ للحق الذي اختلفوا فيه ﴿ من الحق ﴾ بيان لما ﴿ بإذنه ﴾ بأمره أو بإرادته أو بلطفه، قال ابن زيد : اختلفوا فيه ﴿ من الحق ﴾ بيان لما ﴿ بإذنه ﴾ بأمره أو بإرادته أو بلطفه، قال ابن زيد : اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب ومنهم من يصلي إلى البيت المقدس فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام فأخذت النصارى الأحد واليهود السبت فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا والنصارى نصرانيا فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعله اليهود الفرية وجعله النصارى إلها فهدانا الله للحق فيه ﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾ لا يضل سالكه.
١ سورة الأنعام، الآية: ٨٣-٨٥.
٢ سورة يوسف الآية: ١٠٩.
﴿ أم حسبتم ﴾ أم منقطعة لأن المتصلة يلزمه الهمزة وهي بمعنى بل والهمزة قبل للإضراب عن اختلاف اليهود والنصارى، والهمزة لإنكار حسبان المؤمنين واستبعاده والفرض منه تشجيعهم على الصبر والثبات على البأساء والضراء، وقال الفراء : معناه أحسبتم والميم زائدة، وقال الزجاح : بل حسبتم، نزلت الآية يوم الأجزاب حين أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه البلاء وحضروا شدة الخوف والبرد وأنواع الأذى قال الله تعالى :﴿ وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزلا شديدا ﴾١ وقيل : نزلت في حرب أحد، وقال عطاء لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتد عليهم لأنهم كانوا خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وأظهرت اليهود العداوة فأنزل الله ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم ﴾ لما كلم في المعنى والعمل وفيه توقع لا في لم ﴿ مثل الذين خلوا ﴾ حالهم الذي هو مثل في الشدة ﴿ من قبلكم ﴾ من النبيين والمؤمنين ﴿ مستهم البأساء والضراء ﴾ شدة الفقر والمرض ﴿ وزلزلوا ﴾ حركوا بانواع البلاء والشدائد ﴿ حتى يقول ﴾ إذا كان بعد حتى مستقبلا بمعنى الماضي يجوز فالبنصب والرفع، فقرأ نافع بالرفع والباقون بالنصب ﴿ الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ﴾ استبطؤوا النصر فقيل لهم ﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾ قال رسول الله صلى الله وسلم :" حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات " ٢ رواه مسلم عن أنس أبي هريرة وأحمد عن أبي هريرة وابن مسعود والله أعلم.
أخرج ابن المنذر عن أبي حيان أن عمر بن الجموح سأل النبي صلى الله : ما ننفق من أموالنا وأين نضعها، وأخرج ابن جرير عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون فنزلت :
١ سورة الأحزاب، الآية: ١٠-١١.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها﴿٢٨٢٢﴾.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ بين المصرف بالعبارة وجواب السائل بالإشارة بتعميم ما أنفقتم من خير بناء على أن الملاحظة المصرف أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره ﴿ وما تفعلوا من خير ﴾ أي خير كان صدقة أو غير ذلكن فيه معنى الشرط وجوابه ﴿ فإن الله به به عليم ﴾ يعلم به كنهه ونياتكم فيوفي ثوابه على حسب نياتكم، قال أهل التفسير : كن هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة، والحق أنه لا ينافي فرضية الزكاة حتى ينسخ به فالآية محكمة.
﴿ كتب عليكم القتال ﴾ قال عطاء : الجهاد تطوع والمأمورون بالآيات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم وإليه ذهب الثوري محتجا بقوله تعالى :﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾١ قالا : لو كان القاعد تاركا للفريضة لم يكن وعد له بالحسنى، وقال سعيد بن المسيب : إنه فرض عين على كافة المسليمن إلى قيام الساعة. والحجة له هذه الآية وحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " ٢ رواه مسلم، والجمهور على أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين مثل صلاة الجنازة وعليه انعقد الإجماع، و اتفقت الأئمة على أنه يجب على كل أهل بلد أن يقاتلوا من يليهم من الكفار فإن عجزوا أو جبنوا وجب على من يليهم الأقرب فالأقرب، وعلى أنه يجب الجهاد على الأعيان عند النفير العام وعند هجوم الكفار على بلاد الإسلام وعلى أنه من لم يتعين عليه الجهاد لا يخرج إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين ومن عليه الدين لا يخرج إلا بإذن غريمه، والحجة للجمهور ما ذكرنا من أدلة الفريقين وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم ﴾٣ وسيجيء في سورة التوبة إن شاء الله تعالى، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال أحي والدك ؟ قال نعم، قال :" ففيهما فجاهد اذهب فبرهما " ٤ متفق عليه، ولأبي داود والنسائي وابن ماجه نحوه ﴿ وهو كره لكم ﴾ أي شاق عليكم قال أهل المعاني هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال والنفس لأنهم كرهوا أمر الله ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ﴾ ومنه الجهاد فإن فيه الظفر والغنيمة والاستيلاء في الدنيا والشهادة والثواب ﴿ وعسى أن تحبوا شيئا وهور شر لكم ﴾ كالقعود عن الجهاد فإن فيه المعصية والذلة والحرمان من الأجر والغنيمة، وإنما ذكر كلمة عسى وهو للشك لأن النفس إذا ارتاضت يكون هواه تبعا لما شرع فلا يكره إلا ما كره الله وإلا يحب إلا ما أحب الله تعالى ﴿ والله يعلم ﴾ خيركم وشركم ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ذلك فبادروا بما أمركم الله تعالى حتى تفوز بما هو خير لكم في الدارين.

فصل في فضائل الجهاد


عن ابن مسعود قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال :" الصلاة علي ميقاتها " قلت ثم أي " قال :" بر الوالدين " قلت ثم أي ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله " ولو استزدته لزادني " ٥
رواه البخاري، وعن أبي هريرة قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال :" الإيمان بالله ورسوله " قيل ثم ماذا ؟ قال :" الجهاد في سبيل الله " قيل ثم ماذا ؟ قال :" حج مبرور " متفق عليه، وهذه وإن كان في الصورة معارضة فإن الحديث الأول يدل على أفضلية الصلاة على الجهاد و الثاني بالعكس لكن الجمع بينهما يحمل كل على ما يليق بحال السائل، أو يقال : إن الصلاة والزكاة المفروضتين مؤادة بلفظ الإيمان في حديث أبي هريرة، فلا تعارض أو يقال جعل الجهاد والثاني بالعكس لكن الجمع بينهما يحمل كل على ما يليق بحال السائل، أو يقال : إن الصلاة والزكاة المفروضتين مؤادة بلفظ الإيمان في حديث أبي هريرة، فلا تعارض أو يقال جعل الجهاد بعد الإيمان في حيث أبي هريرة صادق وإن كان الجهاد بعد الصلاة والزكاة، وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مقام الرجل في الصف في سبيل الله أفضل عند الله من عبادة ستين سنة " رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط البخاري، وعن أبي هريرة مرفوعا " مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما " رواه الترمذي، وعن أبي هريرة قيل : يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال :" لا ستطيعونه " فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال :" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم القانت بآيات الله لا يفتر عن صلاته ولا صيامه حتى يرجع المجاهد في سبيل الله " متفق عليه، وعن أبي أمامة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فمر برجل بغار فيه شيء من ماء وبقل فحدث نفسه بأن يقيم فيه ويتخلى من الدنيا فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة " رواه أحمد. قلت : وهذه الأحاديث تدل على أفضلية الجهاد على الصلاة والصيام والنوافل وذلك لأن الجهاد فرض على الكفاية وكلما وقع عن أحد يقع فريضته ويستوعب الأوقات ويقضي إلى الشهادة التي هي قرينة للنبوة بخلاف الصلاة والصوم فإنهما ما عدا الفرائض لا يقع إلا نافلة النافلة لا تعدل الفريضة. فإن قيل : قال رسول الل صلى الله عليه وسلم :" ما عمل آدمي أنجى من عذاب الله من ذكر الله " قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يضرب لسيفه حتى ينقطع " قاله ثلاث مرات. رواه أحمد والطبراني وابن أبي شيبة من حديث معاذ، وهذا يعارض ما مر من أحاديث عمران وأبي هريرة وأبي أمامة فما وجه التوفيق ؟ قلنا : المراد بالذكر في هذا الحديث الحضور الدائمي الذي لا فتور فيه لا الصلاة والصوم اللذين هما خط الزهاد، وهو المراد من الجهاد الأكبر فيما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رجع من الغزو :" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فإن قيل ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الجهاد الأصغر مشتغلا بالجهاد الأكبر، قلنا : نعم كان مشتغلا بذلك لكن الحال تتفاوت بمزيد الاهتمام والله علم عن أبي هريرة مرفوعا " في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تنفجر أنهار الجنة " رواه البخاري، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع " رواه البخاري، وسيأتي فضائل الرباط آخر سورة آل عمران إن شاء الله تعالى، وإنما فضل الجهاد على سائر الحسنات وكونه ذروة سنام الإسلام لأنه سبب الإشاعة الإسلام وهداية الخلق فمن اهتدى ببذل جهده كان حسناته داخلا في حسناته وأفضل من ذلك تعليم العلوم الظاهرة والباطنة فإن فيه إشاعة حقيقة الإسلام والله أعلم.
١ سورة النساء، الآية: ٩٥.
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: ذم من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو﴿١٩١٠﴾.
٣ سورة التوبة، الآية: ٣٨.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الجهاد بإذن الوالدين﴿٣٠٠٤﴾ وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به﴿٢٥٤٩﴾.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها ﴿٥٢٧﴾ وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال{٨٥،.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ بدل اشتمال، يعني يسألونك عن قتال في الشهر، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن سعد والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخر سنة قبل قتال بدر بشهرين وبعث معه ثمانية نفر من المهاجرين سعد بن أبي وقاص الزهري، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السلمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن بكير، وذكر بعضهم سهل بن بيضاء ولم يذكر سهيلا ولا خالدا ولا عكاشة وذكر بعضهم المقداد بن عمر. قال ابن سعد : كانوا اثني عشر كل اثنين يعتقبان بعيرا وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال :" سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض ما أمرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك " فسار وكان قبل مسيره قال : يا رسول الله أي ناحية ؟ قال : النجدية فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق القرع بموضع من الحجاز يقال له بخران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف، فبينما هم كذل مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمر والحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن مغيرة وعثمان بن عبد الله بن مغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش إن القوم قد وعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة، ثم أشرف عليهم فقالوا قم عمارة لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في يوم يرونه آخر يوم من جمادى الآخر وهو من ر جب فتشاور القوم وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ويدخل عليكم الشهر الحرام، فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو الحضرمي بسهم فقتله وشد المسلمون عليهم فأسروا عثمان بن عبد الله بن مغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل فأعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل عزل عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس تلك الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه وكان أول خمس خمس في الإسلام وأول غنيمة وأول قتيل من المشركين عمرو الحضرمي وأول أسير عثمان والحكم وكان ذلك قبل أن يفرض الخمس من المغانم ثم فرض الخمس على ما صنع عبد الله بن جحش في تلك العير، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، وقالت قريش لمن كان بمكة من المسلمين يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه، فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في الجمادى، فأكثر الناس في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس الذي عزله عبد الله بن جحش، أو أخذ العير فعزل منها الخمس وقسم الباقي بين أصحاب السرية، وقيل : أوقف غنائم أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم فقال : بل نوقفهما حتى يقدم سعد وعتبة فإنا نخشاكم عليهما، وإن لم يقدما قتلناهما بهما فقدم سعد وعتبة فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين بأربعين أوقية كل أسير، فأما الحكم فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدنية فقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله بن مغيره فرجع إلى مكة فمات بها كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ".
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ قتال فيه ﴾ أي في الأشهر الحرم ﴿ كبير ﴾ ذنب كبير قال أكثر العلماء : إن منسوخ بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ قال ابن همام وهو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان ولا شك أنه كبير الاستعمال، قلت : لفظ حيث للمكان حقيقة ومجيئه للزمان تجوز لا دليل عليه، ولو فرضنا أنه مشترك في الزمان والمكان ففي شموله للأزمنة شك ولا يجوز النسخ مع الشك، وقال البيضاوي : هو نسخ الخاص بالعام، وفي خلاف يعني نسخ الخاص بالعام جائز عند الشافعي وغيره حيث قالوا : إن العام ظني الدلالة بخلاف الخاص إما من عام إلا وقد خص منه البعض، والبحث عنه في أصول الفقه. قال البيضاوي : والأولى منع الدلالة الآية على حرمة القتال في الأشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا تعم، قلت : النكرة في الإثبات تعم عند قيام القرينة كما في قوله صلى الله عليه وسلم :" تمرة خير من جرادة " ولولا ههنا النكرة للعموم لما استقام جواب السؤال، واستدل ابن همام على نسخ الحرمة بالعمومات نحو قوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " قلت : وهذا ليس بسديد فإن عموم تلك الآيات في المكلفين وأحوالهم دون الأزمنة حتى يدخل فيها الأشهر الحرم فيلحقها النسخ بل عموم الأزمنة لو ثبت لثبت باقتضاء النص ولا عموم للمقتضى فلا يجري فيه التخصص والنسخ وكيف يدعي نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم مع أن قوله تعالى :" إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم }[ سورة التوبة، الآية : ٣٦
يعني بالقتال فيهن :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين إنما النسيئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾٦ وهذه الآية آخر أيات القتال نزولا وهي آية السيف نزلت في آخر السنة التاسعة وفيه ذكر حرمة الأشهر فهو مخصص لوجوب القتال فيما عدا الأشهر والله أعلم. وأيضا يدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم خطبته صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بشهرين حيث قال فيه :" ألا إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات دوالقعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر " وقال في آخر الحديث " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " متفق عليه من حديث أبي بكرة، قال ابن همام : حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف لعشر بقين من ذي الحجة إلى آخر المحرم أو إلى شهر يعني بهذا منسوخية الآية وهذا القول غريب و إنما كان حصار الطائف في شوال سنة ثمان، عن أبي سعيد الخدري : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من المدينة لليلتين خلتا من شهر رمضان رواه أحمد بسند صحيح، وروى البيهقي عن الزهري بسند صحيح قال : قال : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم لثلاث عشرة خلت من رمضان، قلت : بهذا ظهر أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما وأقام رسول الله بمكة تسعة عشر يوما، وفي لفظ سبعة عشر رواه البخاري وفي رواية ثماني عشرة ثم بعد فتح مكة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين يوم السبت لست خلون من شوال، وقال ابن إسحاق : لخمس وبه قال عروة واختاره ابن جرير وروى ابن مسعود فوصل إلى حنين لعشر خلون من شوال فلما انهزم الهوزان وجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حنين قدم قبل ثقيف بالطائف وأغلقوا عليهم الأبواب وتهيؤوا للقتال فلم يرجع رسول الله صلى عليه وسلم إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف. قبل أن يقسم غنائم حنين قدم قبل ثقيف بالطائف وأغلقوا عليهم الأبواب وتهيؤوا للقتال فلم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ولا عرج على شيء إلا على غزو الطائف. قبل أن يقسم غنائم حنين وترك السبي بالجعرانة، وحاصر الطائف. روى مسلم عن أنس أنه كان مدة حصاره أربعين ليلة واستغربه في البداية، وذكر ابن إسحاق حاضر ثلاثين ليلة، وقال ابن إسحاق في رواية : حاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل عشرين يوما، وقيل : بضع عشرة ليلة رواه أبو داود، قال ابن حزم : هو الصحيح بلا شك ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وانتهى مسيره إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة واعتمر ثم انصرف إلى المدينة ليلة الأربعاء لثنتي عشر ليلة بقيت من ذي القعدة ودخل المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة، قال أبو عمر : كان مدة غيبته صلى الله عليه وسلم من حين خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وواقع هوزان وحارب أهل الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما، بل شهرين وستة وعشرين يوما، فيكف يتصور ما قال ابن همام : حاصر الطائف لعشر بقين من ذي الحجة إلى آخر محرم، فلم يثبت منسوخية حرمة الأشهر والله أعلم. لكن هذه الآية منسوخة بما مر من قوله تعالى :﴿ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات ﴾ لأنها تدل على إباحة القتال في الأشهر الحرم إن كانت البداية في القتال من الكفار، لأن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر وتلك نزلت في عمرة القضاء سنة سبع كما ذكرنا فبقي البداية بالقتال في الأشهر محرما والله أعلم ﴿ وصد ﴾ أي صرف ومنع ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي عن الإسلام والطاعات ﴿ وكفر به ﴾ أي بالله ﴿ والمسجد الحرام ﴾ بحذف المضاف يعني وصد المسجد الحرام ولا يجوز عطفه على الضمير المجرور لوجوب إعادة الجار حينئذ، ولا على سبيل الله لأن عطف قوله وكفر به مانع منه إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ﴿ وإخراج أهله ﴾ أي أهل المسجد وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿ منه أكبر عند الله ﴾ مما فعله السرية فإن كلما ذكر مما صد عن كفار مكة صدر عمدا وتعنتا وما صدر من السرية إنما صدر خطأ وبناء على الظن ﴿ والفتنة ﴾ يعني الشرك ﴿ أكبر من القتل ﴾ أي قتل الحضرمي فكيف يعيرونهم كفار مكة على ما ارتكبوه خطأ مع ارتكابهم ما هو أشد من ذلك عمدا ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم ﴾ يعني كفار قريش ﴿ حتى يردوكم عن دينكم ﴾ إخبار عن دوام عداوتهم إن ﴿ استطاعوا ﴾ هو استبعاد لاستطاعتهم ﴿ ومن يرتدد عن دينكم ﴾ إخبار عن دوام عداوتهم إن ﴿ استطاعوا ﴾ هو استبعاد لاستطاعتهم ﴿ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم ﴾ استدل الشافعي بهذه الآية على أن المرتد لا يحبط علمه ما لم يمت على الكفر فإن صلى رجل الظهر مثلا ثم ارتد نعود بالله منها ثم آمن والوبقت باق لا يجب عليه إعادة الصلاة وكذا من حج ثم ارتد ثم أسلم لا يجب عليه الحج، وهذا احتجاج بمفهوم الصفة وهو غير معتبر عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو حنيفة يجب عليه إ
فقال أصحاب السرية : يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا هل يكون سفرنا هذا غزو فأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله ﴾ كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء ﴿ أولئك يرجون رحمة الله ﴾ أي ثوابه، أثبت لهم الرجاء إشعارا بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة إنما العبرة بالخواتيم ﴿ والله غفور ﴾ لما فعلوا خطأ ﴿ رحيم ﴾ بإعطاء الثواب.
﴿ يسألونك عن الخمر ﴾ أخرج أحمد بن أبي هريرة قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر ﴾ فقال الناس ما حرم علينا إنما قال ﴿ إثم كبير ﴾ وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب خلط في قراءته فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ الآية، ثم نزلت أغلظ من ذلك ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ الآية في المائدة إلى قوله :﴿ فهل أنتم منتهون ﴾١ قالوا : انتهينا ربنا الحديث، قال البغوي : جملة القول إن الله تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة ﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ﴾٢ فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ ثم لما نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبنتان للعقل مسلبتان للمال فأنزل الله هذه الآية، فتركها قوم لقوله تعالى :﴿ إثم كبير ﴾ وشربها قوم لقوله : منافع للناس إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا فحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ ﴿ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ﴾ هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ الآية فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم في غير أوقات الصلاة كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد نال منه السكر أو بعد صلاة الصبح فيصحوا إلى وقت الظهر، واتخذ عتبان بن مالك صيفا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار وأنشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحيى بعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت ما في المائدة والله أعلم.
اختلف العلماء في أن الخمر ما هو ؟ فقال أبو حنيفة رحمه الله : هي التي من ماء العنب إذا صار مسكرا وقذف بالزبد ولم يشترط صاحباه القذف بالزبد، وقال مالك والشافعي وأحمد : كل شراب أسكر كثيره فهو خمر، قالت الحنفية : الخمر اسم خاص لما ذكرنا وهو المعروف عند أهل اللغة ولهذا اشتهر استعماله فيه واشتهر في غيرها مما ذكرنا من المسكرات اسم آخر كالمثلث و الطلاء والمنصف والبادق، ونحو ذلك واللغة لا يجري فيها القياس، وقال الجمهور : اسم الخمر لغة لكل ما خامر العقل، والتحقيق عندي أن الخمر لفظ مشترك بين الخاص والعام إما حقيقة وإما بعموم المجاز والمراد في الآية هو المعنى الأعم، قال صاحب القاموس : الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام والعموم أصح، وقال ابن عمر : حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء، رواه البخاري، وحديث أنس كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر وما شرابهم إلا الفضيح البسر والتمر، متفق عليه، وفي رواية. إني لقائم أسقي أبا طلحة فلانا، فلانا، وسمى في بعض الروايات أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيلا إذ جاء رجل فقال : قد حرمت الخمر فقال : أهرق هذه القلال يا أنس قال : فما سالوا عنها ولا راجعوها بعد خير الرجل، وعنه قال : لقد حرمت الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر، فهذه الآثار تدل على ما ذكرت أن الخمر قد يستعمل في المعنى الأخص لكن المراد بالآية هو المعنى الأعم ولو بالمجاز، وإن كان المراد بالخمر في الآية المعنى الأخص لما طبق الجواب السؤال فإن السؤال إنما كان عن الشراب الذي كانوا يشربونه حين سألوا قال عمر ومعاذ : أفتنا يا رسول الله عن الخمر فإنها مذهبة للعقل، وقال الله تعالى :﴿ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ﴾٣ وهذا غير مختص بماء العنب بل لم يكن ماء العنب مستعملا لهم والله أعلم. وفي الباب حديث عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته : نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء : العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقلن متفق عليه، ورواه أحمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر " وفي الباب عن النعمان بن بشير مرفوعا نحوه رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وروى أحمد وفي آخره وإنما أنهى عن كل مسكر. وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل مسكر حرام وكل مسكر خمر " رواه مسلم، وعن أنس قال : الخمر من العنب والتمر والعسل والذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر رواه أحمد. وإذا ثبت أن اسم الخمر تعم الأشربة المسكرة فثبت بنص القرآن أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ونجس فيحد شاربه من أي شيء كان. ولا يجوز بيعها ولا يضمن متلفها غير أنه لا يكفر مستحل ما سوى التي من ماء العنب لمكان الاختلاف، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يحرم من الأشربة سوى الخمر ثلاثة أحدها الطلاء وهو عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثه فإن ذهب نصفه فهو المنصف أو أقل منه وهو الباذق إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، ثانيها السكر وهو التي من ماء التمر إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، ثالثها نقيع الزبيب وهو التي من ماء الزبيب إذا اشتد غلا وقذف بالزبد ولم يشترط أبو يوسف القدف بالزبد فهذه الأشربة نجسة نجاسة خفيفة في رواية وغليظة في أخرى فيحرم القليل منه كما يحرم البول لما مر من قوله صلى الله عليه وسلم :" الخمر من هاتين الشجرتين " لكن لا يحد شاربه حتى يسكر لأن حرمتها اجتهادية ظنية والحدود تندرئ بالشبهات ويجوز بيعها ويضمن متلفها عند أبي حنيفة خلافا لصاحبيه، والمثلث العنبي ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ أدنى طبخة وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر فلك ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله حلال خلافا لمحمد صلى الله عليه وسلم، هذا إذا قصد به التقوي وأما إذا قصد به التلهي فلا يحل بالاتفاق، والقدر المسكر من هذا الثلاثة حرام بالاتفاق يحد شاربه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنما يحرم من هذه الثلاثة إذا أسكرت القدح الأخير لأنه هو المسكر حقيقة، وما سوى ذلك من الأشربة وهو ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيذ ولبن الرماك وغير ذلك فهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وإن أسكر ولا يحد شاربه، قال في الهداية : قالوا الأصح أنه يحد وبه قال محمد رحمه الله إنه حرام ويحد شاربه ويقع طلاقه إذا أسكر منه كما في سائر الأشربة لكن هذه الأشربة ليست بنجسة عند الثلاثة حيث لا يقولون بحرمة قليلها، وفي فتاوى النسفي : إن البنج حرام وطلاق البنج واقع ومن يعتقد حليته يقتل ويحد شاربه كما يحد شارب الخمر، ويدل على أن كل مسكر حرام وعلى أن ما أسكر كثيره فقليله حرام من الأحاديث حديث جابر أن رجلا قدم من اليمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" و مسكر هو ؟ " قال نعم قال :" كل مسكر حرام " رواه مسلم، وعن سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره، رواه النسائي وابن حبان والبزار ورجاله رجال الصحيح، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما أسكر كثيره فقليله حرام " رواه الترمذي وحسنه أبو داود وابن ماجه، وحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال :" ما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " رواه أحمد والترمذي وحسنه وأبو داود وابن حبان في صحيحه وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر رواه أبو داود، عن ديلم الحميري قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا بأرض باردة ونعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على عملنا وعلى برد بلادنا قال : هل يسكر : قلت : نعم، قال : فاجتنبوه، قلت : إن الناس غير تاركيه، قال : إن لم يتركوه قاتلوهم. رواه أبو داود، وفي الباب عن علي عند الدارقطني، وعن خوات بن جبير في المستدرك. واحتجوا على إباحة النبيذ بأحاديث منها حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له أول الليلة فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء و الغد و الليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي شيء سقاه الخادم أو أمر به فصب رواه مسلم. قالوا : لو كان حراما لما سقاه الخادم، والجواب : أنه إن لم يكن مسكرا ولكن ذهب حلاوته وخاف أن سيكون مسكرا أعطى الخادم مما سوى الخمر القدح الأخير دون قليله بما أسند إلى ابن مسعود كل مسكر حرام قال : هي الشربة التي أسكرتك أخرجه الدارقطني، قال ابن همام : إنه ضعيف فيه الحجاج بن أرطأة وعمار بن مطر وإنما هو قول النخعي وأسند ابن المبارك أنه ذكر له حديث ابن مسعود هذا فقال حديث باطل. واحتجوا بما روي عن ابن عباس حرمة الخمر بعينها والسكر من كل شراب، قال ابن همام : إنه لم يسلم وذكر ابن الجوزي أنه رى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فقال هذا موقوف ولا يتصل إلى أبي سعيد، قال ابن همام : نعم هو متصل من طريق جيد عن ابن عباس بلفظ حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب، وفي لفظ وما أسكر من كل شراب، قال ابن همام ولفظ أسكر تصحيف، قلت : ومعنى أثر ابن عباس أن المسكر من شراب حرام قليلها وكثيرها. واحتجوا أيضا بحديث أبي مسعود الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش وهو يطوف بالبيت فأتي بنبيذ من السقاية فعطب فقال : رجل أحرام يا رسول الله ؟ قال : لا علي بدلو من ماء زمزم فصبه عليه ثم شرب وهو يطوف بالبيت، وعن المطلب بن أبي وداعة السهمي نحوه، وفي آخره " إذا اشتد عليكم شرابكم فاصنعوا هكذا "، وعن ابن عمر أنه سئل عن النبيذ الشديد فقال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فوجد ريح نبيذ فأرسل فأتي به فوضع رأسه فيه فوجده شديدا فصب عليه الماء ثم شرب ثم قال :" إذا اغتلت أسقيتكم فاكسروها بالماء " وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه روى هذه الأحاديث كلها الدارقطني، وعن أبي مسعود سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ حلال أم حرام ؟ قال : حلال، رواه ابن الجوزي، وعن سعيد بن ذي لقوة قال : شرب أعرابي نبيذا من إدارة عمر فسكر فأمر به فجلد فقال إنما شربت نبيذا من أداوتك فقال عمر : إنما جلدتك على السكر، رواه ابن الجوزي. والجواب أن حديث أبي مسعود قال الدارقطني : هو معروف بيحيى بن يمان، قال أحمد بن حنبل : كان يحيى بن يمان مغلط وضعفه قيل له أرواه غيره قال لا إلا من و أضعف منه، قال النسائي : لا يحتج به وقال أبو حاتم : مضطرب الحديث، وحديث المطلب بن وداعة في رواية محمد بن السائب الكلبي هو كذاب ساقط كذا قال ليث وسليمان والسعدي وقال النسائي والدارقطني متروك وقال ابن حبان وضوح الكذب أظهر فيه، وأما حديث ابن ع
١ المائدة، الآية: ٩١.
٢ سورة النحل، الآية: ٦٧.
٣ المائدة، الآية: ٩١.
﴿ كذلك يبين الله لكن الآيات ﴾ الكاف في موضع النصب صفة مصدر محذوف يعني ﴿ يبين الله لكم الآيات ﴾ مثل ذلك التبيين في أمر النفقة وغيرها من الأحكام وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع أو هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم العليم بمصالح الأمور وعواقبها الحكيم المتقن أن تلك الآيات لا يتصور إلا من الله العليم بمصالح الأمور وعواقبها الحكيم المتقن فتبادروا بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه فتفوزوا بمنافع الدارين ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾ الظرف متعلق بيبين، تقدير الكلام يبين الله لكم الآيات ما يصلح لكم في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون، وقيل : الظرف متعلق بتتفكرون والمعنى تتفكرون فيما يتعلق بالدنيا والآخرة فتأخذون بما هو أصلح لكم فتحسبون من أموالكم ما يصلحكم المعاش في الدنيا وتنفقون الفاضل فيما ينفعكم في العقبى، أو المعنى لعلكم تتفكرون في الدارين فتؤثرون إبقائهما وأكثرهما منافع، عن علي رضي الله عنه قال : ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحد منهما بنن فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، رواه البخاري في ترجمة باب، ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن جابر مرفوعا، وعن ابن مسعود أن رسول الله نام على حصير وقام وقد أثر في جسده فقال ابن مسعود يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك فقال :" ما لي وللدنيا ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعن أبي الدرداء مرفوعا " إن أمامكم عقبة كؤدا لا يجوزها المثقلون " رواه البيهقي في الشعب والله أعلم.
خرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أنه لما نزلت قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ وقوله تعالى :﴿ ن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ﴾ الآية، تحرج المسلمون تحرجا شديدا حتى عزلوا أموال اليتامى عن ذلك أموالهم فكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد عليهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ﴾ يعني إصلاح أموال اليتامى وأمورهم خير فإن رأيتم الإصلاح في المجانبة فذاك ﴿ وإن تخالطوهم ﴾ ورأيتم إصلاحهم في المخالطة ﴿ فإخوانكم ﴾ أي أنهم إخوانكم في الدين والنسب و الإخوان يعني بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح ﴿ والله يعمل المفسد ﴾ يعني الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وإفساد مال اليتيم وأكله بغير حق ﴿ من المصلح ﴾ الذي يقصد به الإصلاح ﴿ ولو شاء الله لأعنتكم ﴾ أي ل ضيق عليكم وما أباح لكم ذلك ولكنه خفف عنكم فأباح لكم مخالطتهم على قصد الإصلاح ﴿ إن الله عزيز ﴾ غالب بحكم ما يشاء على العباد أو الشق عليهم ﴿ حكيم ﴾ يحكم بفضله على ما يقتضيه الحكمة ويتسع له الطاقة والله أعلم.
قال البغوي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتته وقال يا أبا مرثد ألا تخلوا فقال لها : ويحك يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، قالت فهل لك أن تتزوج بي قال نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فقالت أبي تبرم ؟ ثم استغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه بالذين كان من أمره وأمر عناق وقال يا رسول الله أتحل لي أن أتزوجها فأنزل الله تعالى ﴿ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ﴾ وكذا أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والواحدي عن مقاتل، وقال السيوطي ليس هو في نزول هذه الآية إنما هو في نزول آية سورة النور :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية ﴾ الآية كا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر، وهذه الآية منسوخة في حق الكتابيات لقوله تعالى :﴿ والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم ﴾ وهن مشركات حيث يعبدون عزيزا أو مسبحا ﴿ ولأمة ﴾ أي امرأة حرة كانت أو أمة فإن الناس عباد الله وإماؤه ﴿ مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ﴾ يعني بما لها وجمالها أو شمائلها، والواو للحال ولو بمعنى أن تعليل لما سبق من النهي، قال البغوي : نزلت في خنساء وليدة كان لحذيفة بن اليمان فأعتقها فتزوجها، وأخرج الواحدي من طريق الواقدي عن أبي مالك عن ابن عباس : أنه كانت أمة سوداء لعبد الله بن رواحة وأنه غضب عليها فلطمها ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال له عليه السلام وما هي يا عبد الله ؟ فقال هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي، فقال :" هذه مؤمنة " قال عبد الله فوالذي بعثك بالحق لأعتقها ولأتزوجها ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا تنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله هذه الآية، ويستفاذ من هذه الآية بالقياس أن امرأة تقية ذات أخلاق حسنة وإن كانت فقيرة ذميمة أولى بالنكاح من امرأة فاسقة سيئة الأخلاق وإن كانت غنية جميلة، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه، وعن عبد الله بن عمر ومرفوعا " خير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا " اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " رواه مسلم.
﴿ ولا تنكحوا ﴾ مسلمة حذف إحدى المفعولين والخطاب إلى الأولياء أو إلى الحكام يعني امتعوهن عن نكاح المشركين ﴿ المشركين حتى يؤمنوا ﴾ هذه الآية محكمة لا يجوز نكاح المؤمنة بالمشرك كتابيا كان أو غيره إجماعا ﴿ ولعبد ﴾ أي رجل ﴿ مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ﴾ بماله أو جاهه أو غير ذلك ﴿ أولئك ﴾ يعني المشركات والمشركين ﴿ يدعون إلى النار ﴾ أي إلى الكفر والمعاصي فإن للصحبة والموالاة تأثير في النفوس يصير المرء على دين خليله وجليسه ﴿ والله يدعوا ﴾ على لسان رسله، أو المعنى وأولياء الله حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم ﴿ إلى الجنة والمغفرة ﴾ يعني إلى اعتقادات وأعمال توجب الجنة والمغفرة فأولياء الله أحق بالمواصلة ﴿ بإذنه ﴾ بتوفيقه وتيسيره أو لقضائه وإرادته ﴿ ويبين آياته ﴾ أوامره ونواهيه ﴿ للناس لعلهم يتذكرون ﴾ لكي يتذكروا أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر والله أعلم.
روي البخاري ومسلم والترمذي عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأخرج عن ابن عباس أن السائل ثابت بن الدحداح، وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه فأنزل الله تعالى ﴿ ويسألونك عن المحيض ﴾، المحيض مصدر المجيء والمبيت، و المعنى يسألونك عما يفعل النساء في المحيض، ذكر الله سبحانه ﴿ يسألونك ﴾ بغير واو ثلاثا ثم بالواو ثلاثا لعله كانت السؤالات السابقة في أوقات متفرقة والثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بلفظ الجميع ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو ﴾ يعني المحيض ﴿ أذى ﴾ قدر مستقذر ﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾ والمراد باعتزال النساء ترك الوطئ إجماعا دون ترك المخالطة في الأكل والشرب والمضاجعة وغير ذلك، روى البخاري ومسلم في حديث أنس المذكور أنه حين نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وعن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه وهومعتكف فأغسله وأنا حائض متفق عليه، وعنها قالت : كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه موضع في فيشرب وأتعرق العرق وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه موضع في رواه مسلم، وعنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على حجري وأنا حائض ثم يقرأ القرآن متفق عليه، وعنها قالت : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ناوليني الخمرة من المسجد فقلت : إني حائض، فقال :" إن حيضتك ليست في يدك " رواه مسلم، وعن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في مرط بعضه علي وبعضه عليه وأنا حائض متفق عليه، وعن أم سلمة قالت حضت فأخذت ثياب حيضتي فلبستها فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفست ؟ قلت : نعم، فأدخلني معه في الخميلة، رواه البخاري.
﴿ ولا تقربوهن حتى يطهرن ﴾ تأكيد للحكم السابق وبيان للغاية. قرأ عاصم برواية أبي بكر وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء وقرأ الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء مخففا، ومعنى القراءتين عند مالك والشافعي وأحمد واحد يعني حتى يغتسلن فلا يجوز عندهم قربان الحائض بعد انقطاع دمها قبل الاغتسال أصلا، وقال أبو حنيفة : معنى قراءة التخفيف حتى يطهرن من الحيض وتنقطع دمهن فيجوز على هذه القراءة القربان بعد الانقطاع قبل الغسل ومعنى قراءة التشديد الاغتسال فعلى هذه القراءة لا يجوز ذلك، فيحمل أبو حنيفة قراءة التخفيف على ما إذا انقطع دمها بعد عشرة أيام وقراءة التشديد على ما دون العشرة، ويرد عليه أن قراءة التشديد ناطق بالمنع عن القربان قبل الاغتسال وقراءة التخفيف لا يدل على إباحة القربان قبل الاغتسال إلا بالمفهوم والمفهوم لا يعارض المنطوق. وبعد ما أجمعوا على حرمة الوطء في الحيض اختلفوا في أنه من ارتكب ذلك هل يجب عليه كفارة أم لا ؟ فقال أبو حنيفة ومالك : لا يجب عليه الكفارة بل الاستغفار فحسب، وهو الجديد من قول الشافعي. وقال أحمد : يتصدق بدينار فإن لم يجد فنصف دينار، وقال الشافعي في القديمر : إن أتى حائضا في إقبال الدم عليه دينار وفي إدبار الدم فنصف دينار، لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو بنصف دينار، رواه أحمد عن يحيى عن شعبة عن الحكم عن عبد الحميد عن مقيم عنه ورواه أهل السنن والدارقطني ورواة هذا الحديث مخرج في الصحيحن إلا مقيما انفرد بإخراجه البخاري وصححه ابن القطان والحاكم وابن دقيق العيد فلا يضر رواية من رواه موقوفا فإن الرفع زيادة مقبولة من الثقة، واحتجوا للقول القديم للشافعي بما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا كان دما أصفر فنصف دينار وأحمر فدينار " ومدارهذا الحديث على عبد الكريم أبي أمية وهو مجمع على تركه كان أبو أيوب السجستاني يرميه بالكذب وقال أحمج ويحيى ليس بشيء. واختلفوا في الاستمتاع بما تحت الإزار دون الجماع ؟ فقال أحمد يجوز، وقال الجمهور لا يجوز، لأحمد ما مر من حديث أن " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وعن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا رواه ابن الجوزي، واحتج الجمهور بحديث معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله ما يح لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال :" ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل " رواه رزين، قال محيي السنة إسناده ليس بالقوي، وعن عبد الله بن نحوه رواه أبو داود، وعن زيد بن أسلم قال : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها " رواه مالك والدارمي مرسلا، والتحقيق أنه إن ملك إربته فلا بأس بالمساس تحت الإزار دون الفرج لأن المراد بالآية هو النهي عن الجماع والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز، وإلا فالترك واجب فإنه من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وأجمعوا على أن الحيض يمنع جواز الصلاة ووجوبها ويمنع جواز الصوم لا وجوبه، فلذا لا تقضي الصلاة وتقضي الصوم قالت عائشة : كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة، رواه مسلم والترمذي، وهذا حديث مشهور روي معناه عن كثير من الصحابة صريحا ودلالة، وفي الصحيحن قوله صلى عليه السلام :" أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة " ويمنع الحيض دخول المسجد والطواف ومس المصحف وقراءته إجماعا، قال الله تعالى :﴿ لا يمسه إلا المطهرون ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " رواه الترمذي وابن ماجه والدارقطني، وله شاهد من حديث جابر، رواه الدارقطني مرفوعا وفي إسناد هذين الحديثين مقال والله أعلم ﴿ فإذا تطهرن ﴾ اتفق القراء ههنا على التشديد فظهر أن الاغتسال شرط لإباحة الوطء ﴿ فأتوهن ﴾ فجامعوهن يعني أبا حكم الله الجماع بعد التطهر ﴿ من حيث أمركم الله ﴾ يعني الفرج دون الدبر، وإنما ذكرنا الإباحة لأن الأمر بالجماع للإباحة دون الوجوب، قال مجاهد وقتادة وعكرمة أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، وكذا قال ابن عباس، قيل من ههنا بمعنى في يعني في ﴿ حيث أمركم الله ﴾ وهو الفرج كقوله تعالى :﴿ إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ﴾ أي في يوم الجمعة، وقال ابن الحنفية : من قبل الحلال دون الفجور ﴿ إن الله يحب التوابين ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿ ويحب المتطهرين ﴾ من الأقذار كمجامعة الحائض والإتيان في الدبر ومن الأحداث والأخباث فحرمة إتيان النساء في أدبارهن ثبت بهذه الآية بالإشارة أو بالقياس على حرمة وطء الحائض فإنه مستقذر كالوطء في الحيض، بل الوطء مطلقا مستقذر سواء كان في القبل أو في دبر الرجل أو المرأة ومن ثم يجب الغسل به لكن أبيح الوطء في القبل لضرورة إبقاء النسل وجعل للإباحة شرائط من النكاح وعدم المحرمية وبراءة الرحم والطهارة من الحيض وغير ذلك، ولا ضرورة في الوطء في الدبر سواء كان المفعول به رجلا أو امرأة فبقي على حرمته لعلة الاستقذار، وقد ثبت حرمة إتيان الرجل في دبره بالنصوص القطعية والإجماع وهلك في ذلك قوم لوط عله السلام فكذا إتيان المرأة في دبرها. ومن ثم قيد الله سبحانه قوله ﴿ فأتوهن ﴾ بقوله :﴿ من حيث أمركم الله ﴾
ولدفع توهم حرمة الجماع بعلة الأذى وبيان وجه ضرورة الإباحة عقب الله تعالى تلك الآية بقوله :
﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ يعني مواضع حرث لكم شبههن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطق بالبذور يعين أبيح لكم إتيانهن ضرورة إبقاء النسل ﴿ فأتوا حرثكم ﴾ يعني فروجهن فهو كالبيان لقوله ﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ ﴿ أنى شئتم ﴾ يعني كيف شئتم، فإن كلمة أنى مشتركة في معنى كيف وأين ولايتصور ههنا معنى أين فإنه تدل على عموم المحل ومحل الحرث ليس إلا واحد فتعين معنى كيف ويقتضيه ما سنذكر من التحقيق في سبب نزول الآية والله أعلم، وبما قلنا من حرمة إتيان النساء في أدبارهم قال أبو حنيفة وأحمد وجمهور أهل السنة ويحكى عن مالك جواز إتيان المرأة في دبرها وأكثر أصحابه ينكرون أن يكون ذلك مذهبا له والصحيح أنه كان مذهبا له ثم رجع عنه هو أو رجع عنه أصحابه، وللشافعي فيه قولان القول القديم عنه ما حكي عن ابن عبد الحكم وعن الشافعي أنه قال لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء والقياس أنه حلال فكأنه قاس على من عالج امرأته بذكره في فخذها أو يدها، روى الحاكم بسنده عن ابن عبد الحكم أنه كلم الشافعي في مسألة إتيان المرأة في دبرها فقال : سألني محمد بن الحسن فقلت له إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم وإن تكلمت بالمناصفة كلمتك، قال : على المناصفة، قلت : فبأي شيء حرمته قال لقوله عز وجل :﴿ فأتوهن من حيث أمركم الله ﴾ ﴿ فأتو حرثكم أنى شئتم ﴾ والحرث لا يكون إلا في الفرج، قلت أفيكون ذلك محرما لما سواه، قال : نعم، قلت : فما تقول لو وطئها بين ساقيها أو تحت بطنها أو أخذت ذكره بيدها أفي ذلك حرث قال : لا، قلت : فلم تحتج بما لا حجة فيه، قال : فإن الله قال :﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾الآية، قال : فقلت له إن هذا ما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه. قلت : ولما ذكرنا من أن سبب حرمة إتيان النساء في الأدبار الاستقذار وذلك منتف فيمن وطئها بين ساقيها ونحو ذلك فظهر وهن قياس الشافعي ومن ثم رجع الشافعي عن قوله ذلك، قال الحاكم. لعل الشافعي كان يقول ذلك في القول القديم فأما في الجديد فالمشهور أنه حرمه، وقال الربيع : كذب ابن عبد الحكم والله الذين لا إله إلا هو قد نص الشافعي على تحريمه في سننه وحكاه عنه جماعة منهم الماوردي في الحاوي وأبو نصر بن الصباح في الشامل وغيرهم، وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني بتكذيب الربيع لابن عبد الحكم لا معنى له لأنه لم يتفرد به فقد تابعه أخوه عبد الرحمن، والتحقيق أن للشافعي فيه قولان والجديد المرجوع إليه أنه وافق الجمهور في التحريم. وقد ورد في حرمة الإتيان في الدبر أحاديث : قال ابن الجوزي روي ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر من الخطاب وعلي بن أبي طالب وخزيمة بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن مسعود وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وطلق بن علي وأبو ذر وجابر بن عبد الله، قلت : أما حديث عمر فقد أخرجه النسائي والبزار من طريق زمعة بن صالح عن ابن طاووس عن أبيه عن الهاد عن عمر وزمعة ضعيف ضعفه أحمد وأبو حاتم وقال الذهبي صالح الحديث وقد اختلف عليه في رفعه ووقفه، وأما حديث علي فقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ :" إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن " وأما حديث خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : حلال، فلما ولى الرجل دعا فقال :" كيف قلت في أي الخربتين أمن دبرها في قبلها أو من دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " رواه الشافعي وأحمد والترمذي وابن سويد بن هلال عن أبيه عن علي بن السائب عن حصين بن محصين عن هرمي بن عبد الله عن خزيمة، ومن طريق هرمي أيضا أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وهو لا يعرف حاله أيضا، وقال البزار : لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا وكل ما روي عن خزيمة بن ثابت فغير صحيح، وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي علي النيسابوري ومثله عن النسائي وقال قبلها البخاري، وأما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ملعون من أتى امرأة في دبرها " وفي لفظ " لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل أتى امرأة في دبرها " رواه أحمد وأبو داود وبقية أصحاب السنن من طريق سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة، وأخرجه البزار وقال : الحارث بن مخلد ليس بمشهور، وقال ابن القطان لا يعرف حاله، وقد اختلف فيه على سهيل فرواه إسماعيل بن عياش عنه عن محمد بن المنكدر عن جابر أخرجه ابن عدي وإسناده ضعيف، ولحديث أبي هريرة طريق آخر أخرجها أحمد والترمذي من طريق حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عنه بلفظ " من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه ما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم، وقال البخاري : لا يعرف لأبي تميمة سماعا عن أبي هريرة، وقال البزار : هذا حديث منكر وحكيم لا يحتج به وما تفرد به فليس بشيء، وله طريق ثالث أخرجها النسائي من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه، قال حمزة الكتاني هذا حديث منكر وعبد الملك راويه قد تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وغيرهما، والمحفوظ الموقوف وله طريق رابع أخرجها النسائي من طريق بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة بلفظ " من أتى شيئا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر " وبكر وليث ضعيفان وله طريق خامس رواه عبد الله بن عمر بن حيان عن مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ " ملعون من أتى النساء في أدبارهن " رواه أحمد والنسائي ومسلم ضعفه النسائي وغيره قال الذهبي صدوق وثقه يحيى بن معين وغيره. وأما حديث ابن عباس قال البزار : لا نعلمه يروي عن ابن عباس بإسناد أحسن من وهب، انفرد به أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن سليمان عن كريب، وكذا قال ابن عدي ورواه النسائي عن هناد عن وكيع عن الضحاك موقوفا وهو أصح عندهم من المرفوع وعن ابن عباس من طريق آخر موقوفا رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسألني عن الكفر وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن معمر وإسناده قوي. وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فقد اخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ سأل رسول اله عن الرجل يأيت المرأة في دبرها فقال :" هي اللواطة الصغرى " وأخرجه النسائي وأعله والمحفوظ عن عبد الله بن عمرو من قوله كذا أخرجه عبد الرزاق وغيره، وفي الباب عن أنس أخرجه الإسماعيلي في معجمه وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف وعن أبي بن كعب في خبر الحسن بن عرفة بإسناده ضعيف جدا، وعن ابن مسعود عند ابن عدي بإسناد واه عن عقبة بن عامر عند أحمد فيه ابن لهيعة، وهذه الأحاديث كلها وإن كانت ضعيفة كما سمعت لكن باعتضاد بعضها ببعض يحصل العلم قطعا بورود النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا مرد له فوجب القول به والله أعلم.
واحتج القائلون بإباحته بما صح عن ابن عمر بطرق كثيرة أنه قال :﴿ نساؤكم حرث لكن فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ نزلت في إتيان النساء في أبارهن، رواه البخاري، وكذا روى الطبراني بسند جيد عنه أنه قال : إنما نزلت رخصة الإتيان الدبر، وأخرجه أيضا عنه أن رجلا أصب امرأة في دبرها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك الناس فأنزل الله تعالى، وكذا أخرج ابن جرير وأبو يعلى وابن مردويه من طريق عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم ﴾ قلت : هذا وهم من ابن عمرو أبي سعيد أخطأ في تأويل الآية لو كان هذا سبب نزول هذه الآية لما طابق الحكم الوقعة فإن قوله تعالى :﴿ فاتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ حكم بإتيان الحرث لا بإتيان الدبر فإنه ليس بمحل الحرث فلا ينتهض حجة لإباحة الدبر، وقيل هذا وهم من نافع لما روي عن عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله فقال له : يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن ابن عمر أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن، قال : كذب العبد وأخطأ إنما قال عبد الله يؤتون في فروجهن من أدبارهن، قلت : وقول سالم هذا ليس بسديد فإنه لم يتفرد به نافع عن ابن عمر بل رواه زيد بن أسلم وعبيد الله بن عبد الله بن عمرو وسعيد بن يسار وغيرهم عنه كذا ذكر الشيخ ابن حجر فالصحيح أن الوهم إنما هو من ابن عمر وقد حكم بكونه وهما من ابن عمر رأس المفسرين ابن عباس. أخرج أبو داود والحاكم عن حكم بكونه وهما من ابن عمر والله يغفر له أوهم، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار أخذوا بذلك وكان هذا الحي من قريش يسرحون النساء سرحا ويتلذذون منهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قد المهاجرون المدنية تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت إنما كنا نؤتى على حرف فسرى أمرهما فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد وهكذا في سبب نزول هذه الآية. روى البخاري وأبو داود والترمذي عن جابر قال : كانت اليهود تقول إذا جامع ما من ورائهما جاء الولد أحول فأكذبهم الله تعالى وقال :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتو حرثكم أنى شئتم ﴾ أي كيف شئتم في الفرج يريد بذلك موضع الولد للحرث، وكذا روى أحمد عن عبد الرحمن بن سابط قال : دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن فقلت : إني سائلك عن أمر وأنا أستحيي أن أسألك، قالت : لا تستحيي ابن أخي، قلت : عن إتيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : كانت اليهود تقول من حبا امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فحبوهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها، قالت : لن نفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله فخرجت فحدثت أم سلمة فقال : ادعي الأنصارية فدعيت فتلا عليها هذه الآية :﴿ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ﴾ صماما واحدا، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس قال جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكت ؟ قال حولت رحلي الليلة، فلم يرد عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال عليه السلام :" أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة " وبهذا أظهر أنه صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية بقوله أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة كما فسر قوله تعالى :﴿ فاعتزلوا النساء في المحيض ﴾ بقوله :" اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وإن كان ظاهر تلك الآية تدل على جواز مخالطة النساء في المأكل والمشارب فظهر اندفاع ما ذكر ابن عب
ذكر البغوي : أنه كان بين عبد الله بن رواحة وبين ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري شيء فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه، وإذا قيل له قال حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تجعلوا الله ﴾ أي الحلف بالله أو يمين الله على حذف المضاف ﴿ عرضة ﴾ فعلة بمعنى المفعول كالقبضة يطلق لما يعرض دون الشيء فيكون حاجزا عنه يعني لا تجعلوا الحلف بالله مانعا عن الحسنات ﴿ لأيمانكم ﴾ اللام صلة لعرضة لما فيها من الاعتراض، والمراد بالأيمان الأمر التي يحلف عليها ﴿ أن تبروا ﴾ مع ما عطف عليه عطف بيان لأيمانكم، ويحتمل أن يكون اللام في ﴿ لأيمانكم ﴾ للتعليل ويتعلق أن بالفعل أو بعرضة أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم لأن ﴿ تبروا ﴾ وقد يطلق عرضة للمعرض للأمور لا يزال يقع عليه يقال جعلته عرضة لكذا أي نصبته له، وفي القاموس العرضة الاعتراض في الخير والشر يعني لا تقعوا على الحلف بالله في كل أمر ولا تجعلوه كالهدف المنصوب للرمي، ولا تعرضوا باليمين في كل ساعة فحينئذ ﴿ أن تبروا ﴾ إما علة للنهي أي أنهاكم عن الحلف لأن تبروا أو علة للنهي بتقدير لا أي لا تكثروا الحلف لأن تبروا ﴿ وتتقوا وتصلحوا بين الناس ﴾ وبهذه الآية ثبت أن الإكثار بالحلف مكروه وأن الحلاف مجترئ على الله لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الحلف حنث أو ندم " رواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر ورواه البخاري في تاريخه، وأنه من حلف على ترك عمر من أعمال البر يجب عليه أن لا يجعل يمينه مانعا من البر بل يحنث ويكفر، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من حلف بيمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير " رواه مسلم، وفي الصحيحن عن عبد الرحمن بن سمرة نحوه وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم :" إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير " متفق عليه وقيل هذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح لافترائه على عائشة أخرج ابن جرير عن ابن جرير ﴿ والله سميع ﴾ لأيمانكم ﴿ عليم ﴾ لنياتكم.
﴿ لا يؤاخذكم ﴾ الله بالعقاب في الآخرة وهو المراد بالمؤاخذة ههنا في كلا الكلمتين وكذا في المائدة لا كما قيل إن المراد في المائدة المؤاخذة الدنيوية بالكفارة أو أعلم منهما، لأن الكفارة كالزكاة خالص حق الله تعالى لا مؤاخذة به في الدنيا ولهذا من مات وعليه الزكاة أو الكفارة ولم يوص لا يمنعان من تعلق حق الورثة بخلاف ديون العباد والعشر والخارج وأيضا لا يحب الكفارة بنفس اليمين بل بالحنث بعد اليمين فلا يتصور تعليق المؤاخذة بالكفارة بعقد اليمين، فالمراد بالمؤاخذة هو العقاب والكفارة شرعت لرفع ذلك المؤاخذة ﴿ باللغو ﴾ الكائن ﴿ في أيمانكم ﴾ واللغو في اللغة : الساقط الذي لا يعتد به من الكلام أو من غيره كذا في القاموس، والمراد ههنا ما جرى من اليمين على اللسان من غير عقد وقصد سواء كان من الإنشاء أو الخبر الماضي أو المستقبل، وهذا التفسير مروي عن عائشة روى الشافعي أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله، وأخرجه أبو داود عن عائشة مرفوعا، وإلى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي، وهذا هو المناسب للمعنى اللغوي المذكور فإنه إذا كان من غير قصد فهو ساقط عن الاعتبار غير معتد به وال يترتب عليه الإثم إجماعا إن كان في الأخبار، وكذا لا ينعقد عند الشافعي إذا كان هذا القسم من اليمين في الإنشاء، فلا يجب عليه الكفارة إن حنث والحجة له هذه الآية بهذه لتفسير وقال أبو حنيفة رحمه الله ينعقد اليمين ويجب الكفارة إن حنث لقوله صلى الله عليه وسلم :" ثلاث جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق واليمين " كذا قال صاحب الهداية، وهذا الحديث لم نجده في كتب الحديث لكن وجدنا حديث أبي هريرة من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن يوسف بن ماهك عنه مرفوعا " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عطاء هو ابن عجلان متروك الحديث، وقال الحافظ ابن حجر : وهم ابن الجوزي إنما هو عطاء بن أبي رباح، وعبد الرحمن بن حبيب مختلف فيه، قال النسائي : منكر الحديث ووثقه غيره فالحديث حسن وأخرجه ابن عدي في الكامل بلفظ " ثلاث ليس فيها لعب من تكلم بشيء منها لاعبا فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح " وفيه ابن لهيعة ضعيف، وأخرج عبد الرزاق عن علي وعمر موقوفا إنهما قالا :" ثلاث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق " وفي رواية عنهما أربع وزاد النذر، قال ابن همام : ولا شك أن اليمين في معنى النذر فيقاس عليه، قلت ما ذكره الشافعي حديث مرفوع التحق بيانا وتفسيرا للآية والقياس في مقابلة النص لا يعتد به مع أن المقيس عليه وقع في أثر موقوف ليس بمرفوع، وقال ابن همام ولو ثبت حديث اليمين لم يكن فيه دليل لأن المذكور فيه جعل الهزل باليمين جدا والهازل قاصدا لليمين غير راض بحكمه فلا يعتبر عدم رضاه به بعد مباشرته السبب مختارا، والناسي لم يقصد شيئا أصلا ولم يدر ما صنع وكذا المخطئ لم يقصد التفلظ به بل بشيء آخر فليس هو في معنى الهازل فلا نص فيه، ولا قياس على أن أبا حنيفة قال في تفسير اللغو في اليمين أن يحلف على شيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك وهو قول الزهري والحسن وإبراهيم النخعي وقتادة ومكحول قالوا لا كفارة فيه ولا إثم، مع أن الحالف يقصد فيه اليمين مع ظن البر فما لم يقصده أصلا بل هو كالنائم يجري على لسانه أولى أن لا يعتد بيمينه، وقال الشافعي : اليمين الذي تعلق به القصد وإن كان على ظن الصدق إن كان على خلاف نفس الأمر يجب فيه الكفارة لأنه ليس من اللغو على تفسيره بل هو من كسب القلب كالغموس غير أنه معذور بناء على ظنه فلا إثم فيه، قلت وإن لم يكن هو من اللغو لكن لا كفارة فيه ولا إثم، أما عدم الإثم فلقوله تعالى :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ﴾ وأما عدم الكفارة فلأن الكفارة مبنية على الإثم فإنها لإزالة الإثم وليس فليس ولأنها غير داخلة ﴿ بما عقدتم الأيمان ﴾ والكفارة راجعة إليها. فإن قيل : لو كانت الكفارة مبنية على الإثم والإثم مرفوع عن الخطأ والنسيان بالإجماع والحديث فلم تجب الكفارة على القتل خطأ ؟ قلنا : أمر القتل أشد فجعل الله تعالى إثمين إثم القتل نفسه وهو كبيرة وذلك في القتل عمدا ولا يرتفع بالكفارة فلهذا لم نقل بوجوب الكفارة فيه وقد ارتفع ذلك الإثم بالخطأ وإثم ترك الاحتياط وإنما وجبت الكفارة في الخطأ لذلك الإثم، وقال سعيد بن جبير : اللغو في اليمين هو اليمين على المعصية لا يؤاخذه الله بالحنث فيها بل يحنث ويكفر، وعلى هذا القول يتحد اللغو مع المنعقدة في مادة والآية تدل على القسمة وهي تنافي الشركة، وأيضا القول بوجوب الكفارة تنافي القول بعدم المؤاخذة إذا الكفارة تبتني على الإثم، وقال مسروق : ليس عليه كفارة في اليمين على المعصية أتكفر خطوات الشيطان، وقال الشعبي في الرجل حلف على المعصية كفارته أن يتوب منها، قلت : اليمين على المعصية يشتمله عموم قوله تعالى :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ فإن فيه عقدا على الإيفاء فهو من المنعقدة دون اللغو فهو يوجب الكفارة وكونه على المعصية يوجب الرفض وهذا يعينه مقتضى قوله عليه السلام :" فليكفر وليأت لما هو خير : والله أعلم.
﴿ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ﴾ أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين الكاذبة وارتكبتم العصيان بقصدكم إرادتكم وإنما قلنا ذلك بقرينة المؤاخذة فإن المؤاخذة لا يكون إلا على العصيان، فخرج بهذا القيد الأيمان الصادقة كلها وما كان يظن الصدق وكذا خرج به اليمين المنعقدة لأنه لا معصية فيه بل في الحنث بعد اليمين. فإن قيل ورد في المائدة :﴿ ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ﴾ وذلك يدل على ثبوت المعصية والمؤاخذة عليها فكيف تقول أنه خرج به اليمين المنعقدة إلى آخره ؟ قلت : تقدير الكلام هناك ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان إن جنثتم وليس ذلك التقدير هنا لأن التقدير نوع من المجاز، والحقيقة والمجاز لا يجتمعان والمؤاخذة على الغموس بمجرد اليمين، فالمراد بهذه الآية اليمين الغموس بأقسامها فقط وليس ههنا ذلك التقدير، والمراد بما في المائدة المنعقدة فقط وفيها التقدير والله أعلم. وقال الشافعي : المراد بما في المائدة المنعقدة فقط وفيها التقدير والله أعلم. وقال الشافعي : المراد بما كسبت قلوبكم وبما عقدتم الأيمان وفيها التقدير والله أعلم. وقال الشافعي : المراد بما كسبت قلوبكم وبما عقدتم الأيمان واحد هو ضد اللغو قالوا كسب القلب هو العقد والنية فقوله : ما كسبت قلوبكم وقوله :﴿ بما عقدتم الأيمان ﴾ كلاهما يشتملان الغموس والمنعقدة والمظنونة أيضا فيجب الكفارة في جميع ذلك، قلنا : ليس كذلك بل عقد اليمين إلزام شيء على نفسه باليمين بحيث يجب إيفاؤه بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ﴾ ولا معصية فيه ولا مؤاخذة إلا بعد الحنث، وكسب القلب ضد لغو اليمين على تفسير عائشة فكان أعم منه مطلقا لكنا حملناه على كسب المعصية بمجرد اليمين بقرينة المؤاخذة من غير تقدير في الآية فهو الغموس فقط فلا كفارة في الغموس، لأن الضمير في قوله تعالى :﴿ فكفارته ﴾ راجع إلى ﴿ ما عقدتم الأيمان ﴾ فقط ولأن الغموس كبيرة محضة فلو وجبت عليها كفارة فإما أن تكون سائرة ومزيلة لمعصية الغموس أولا وعلى الثاني لا تكون الكفارة كفارة، وعلى الأول يسع لكل امرئ أن يقتطع مال امرئ مسلم باليمين الفاجرة ثم يكفر عنها ولم يقل به أحد وقد قال الله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ وقال :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ وقال عليه الصلاة والسلام :" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " فظهر أن الطاعات لا تكون مكفرات إلا للصغائر دون الكبائر، وأما الكبائر فلا محيص عنها إلا بالاستغفار إلا أن يتغمده الله برحمته، ويغفر له ولعل الله سبحانه أشار إلى ذلك بقوله ﴿ والله غفور حليم ﴾ يغفر الكبائر إن شاء بتوبة أو بغير توبة والظاهر أن الوعد بالمغفرة والحلم راجع إلى قوله :﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ فإن سوق الكلام كان في يمين اللغو واليمين الغموس ذكر تبعا واستطرادا يدل عليها ما رواه البخاري عن عائشة أنها قالت : أنزلت هذه الآية ﴿ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ﴾ في قول الرجل لا والله وبلى والله والله أعلم.
اعلم أن اليمين في الأصل : القوة قال الله تعالى :﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ ويقال للجارحة ضد اليسار يمين قوته، ويقال للقسم فإن فيه تقوية الكلام بذكر اسم الله تعالى وهو على نوعين : الأول أن يجري على اللسان من غير قصد سواء وقع في الخبر الماضي أو المستقبل صادقا كان أو كاذبا أو في الإنشاء وهو اللغو من اليمين وهو غير معتد به لا يتعلق به حكم إلا ما ذكرنا خلاف أبي حنيفة في الإنشاء، والثاني ما يتعلق به القصد وهو على نوعين، إما في الخبر وإما في الإنشاء فإن كان في الخبر فالخبر إن كان صادقا في الواقع وفي زعم المتكلم أيضا كقولك والله إن محمدا رسول الله وإن الساعة لآتية لا ريب فيها وإنه لقد طلعت الشمس فلا كلام فيه أنه عبادة ومن ثم لا يجوز الحلف بغير الله تعالى. عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " متفق عليه، وعنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من حلف بغير الله فقد أشرك " رواه الترمذي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون " رواه أبو داود والنسائي، وإن كان كاذبا في الواقع صادقا في زعم المتكلم فإن كان زعمه مبنيا على دليل ظني كحديث الآحاد وقد كذب فيه الراوي أو أخطأ هو في تأويله أو أثر من السلف الصالح أو غلط في الحس أو استصحاب الحال أو نحو ذلك ولم يكن هناك دليل قاطع على كذبه فهو اليمين المظنون واللغو على تفسير أبي حنيفة وقد ذكرنا حكمه، وغن لم يكن زعمه مبنيا على دليل كقوله زيد قائم أو سيقوم من غير علم ولا رؤية ولا إخبار من أحد فهو من الغموس المنهي عنه قال الله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾ وما قام على كذبه دليل فهو من الغموس بالطريق الأول كقول الكفار المسيح ابن الله، وأن الله لا يعث من في القبور، وإن كان صادقا في الواقع كاذبا في زعم المتكلم كقول المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ إنك لرسول الله ﴾ أو كاذبا في الواقع وكذا زعم المتكلم كقول اليهود :﴿ ما أنزل الله على بشر من شيء ﴾ وقولهم :﴿ لا يبعث الله من يموت ﴾ وقول المديون ليس لك علي شيء فهو اليمين الغموس لا يحل اقترابه وهو كبيرة من الكبائر عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الكبائر الإشراك بالله وعقوق الولدين، وقتل النفس واليمين الغموس " رواه البخاري، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان فأنزل الله تعالى تصديق ذلك :﴿ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ﴾ الآية، متفق عليه، وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عل
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾ أي يحلفون أن لا يجامعوهن، والألية اليمين وتعديته بعلى لكن لما ضمن معنى البعد عدي بمن قال قتادة : كان الإيلاء طلاقا لأهل الجاهلية، وقال سعيد بن المسيب : كان ذلك ضرارا من أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يريد أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبدا فيتركها لا أيما ولا ذات بعل وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فضرب له أجل في الإسلام ﴿ تربص أربعة أشهر ﴾ مبتدأ خبره ما قبله أو فاعل للظرف، والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع، أي للمولى حق التلبث في هذه المدة لا يقع فيه الطلاق أو لا يطالب فيه بطلاق على خلاف يأتي ﴿ فإن فاءوا ﴾ أي رجعوا عن اليمين إلى النساء بالوطء بعد الأشهر الأربعة على قول الشافعي ومالك وأحمد بناء على ظاهر الآية فإن الفاء للتعقيب، وبناء على ذلك قالوا الرجل لا يكون موليا لو حلف على أربعة أشهر كما لا يكون موليا فيما دون ذلك بل إذا حلف على أكثر منها فإن الفيء لا بد أن يكون في مدة الإيلاء وإن الطلاق لا يقع بمضي أربعة أشهر، وقرأ ابن مسعود فإن فاء وفيهن يعني في أربعة أشره وبناء على هذه القراءة، قال أبو حنيفة : إنه لو حلف على أربعة أشهر يكون موليا وأنه لا يصح الفيء إلا في أربعة أشهر فالخلاف مبني على أن القراءة الشاذة هل يجوز العمل بها أم لا ؟ قالوا : لا يجوز فإنه تخلوا إما أن تكون قرآنا أو خبرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرا للقرآن وكل منهما حجة فإن قيل : سلمنا كونه حجة لكنه لما وقع التعارض بينها وبين القراءة المتواترة وجب سقوطها ؟
قلنا : إنما يجب سقوطها إذا لم يمكن الجمع بينهما وههنا الجمع ممكن فإن الفاء كما يجيء اللتعقيب في الزمان قد يكون لتفصيل مجمل قبلها وغير ذلك كما في قوله تعالى :﴿ ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي ﴾ وقوله تعالى :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ وههنا لما ذكر أن لهم تربص أربعة أشهر من غير وطء كان موضعا يقتضي لتفصيل الحال فقال :﴿ فإن فاءوا ﴾ إلى قوله :﴿ سميع عليم ﴾ وأيضا على تقدير كون الفاء للتعقيب في الزمان يحتمل أن يكون التعقيب بالنسبة إلى الإيلاء يعني فإن فاءوا بعد الإيلاء، والقراءة المتواترة يدل على جواز الفيء مطلقا سواء كان في أربعة أشهر أو بعدها والشاذة مقيدة بكون الفيء فيهن فيحمل المطلق على المقيد، قال أبو حنيفة : قراءة ابن مسعود مشهورة يجوز به تخصيص الكتاب وحمل مطلق على المقدي ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ قال الحسن وإبراهيم وقتادة : إذا فاء المولى لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعد المغفرة والرحمة، وعند الجمهور يجب عليه الكفارة فإن وعد المغفرة لا ينفي الكفارة الثابتة بالآية في سورة المائدة وقوله عليه السلام :" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر وليأت بما هو خير ".
﴿ وإن عزموا الطلاق ﴾ قال مالك والشافعي وأحمد معناه إن لم يفيؤوا بعد الأشهر الأربعة وعزموا الطلاق وطلقوا ﴿ فإن الله سميع ﴾ لقولهم بالتطليق ﴿ عليم ﴾ لنياتهم، وبناء على هذا التأويل قالوا : لا يقع الطلاق بمجرد مضي الأشهر الأربعة بل يتوقف على تطليقه إذ لو لم يتوقف على تطليقه ويقع الطلاق بمجرد انقضاء الأشهر لا تكون لعزمه على الطلاق معنى ولا يناسبه التذييل بقوله تعالى :﴿ إن الله سميع ﴾ وعلى هذا التأويل ليس الترديد دائرا بين النفي والإثبات وبقي شق ثالث وهو أن لا يفيء ولا يعزم على الطلاق وحكم هذا الشق مسكوت عنه فاختلف فيه قول القائلين بهذا التأويل، فقال أكثرهم : يطلق الحاكم عليه لأن لما امتنع عن الإمساك بالمعروف ينوب الحاكم عنه في التسريح بالإحسان كما في العنين، وفي رواية عن الشافعي وأحمد أنه يضيق الحاكم عليه حتى يطلق، وقال أبو حنيفة : تأويل إن عزموا وقوع الطلاق باستمراده على ترك الفيء حتى انقضى المدة وقع الطلاق به، قالوا لو لم يقع الطلاق به لجاز له الفيء بعد الأشهر فلا يكون لتقييد الفيء بقوله فيهن على قراءة ابن مسعود معنى، ولو قلنا بأنه لا يجوز له الفيء بعد الأشهر وعليه التطليق حتما يلزم خرق الإجماع المركب إذا لم يقل به أحد، على أن الترديد الواقع في الآية يأبى عنه وعلى هذا التأويل معنى قوله تعالى :﴿ فإن الله سميع ﴾ لما يقارن ترك الفيء من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان، أو أنه سميع للإيلاء الذي هو طلاق موقوف على مضي الأشهر الأربعة من غير وطئ ﴿ عليم ﴾ بما استمروا عليه من الظلم وفيه معنى الوعيد على ذلك وآثار الصحابة في الباب متعارضة فقد روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس وابن عمر مثل ما قال أبو حنيفة غير أن ما روي عن عمر يدل على الطلقة الرجعية، أخرج الدارقطني عن إسحاق حدثني مسلم بن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب كان يقول إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة وهوأملك بردها ما دامت في عدتها، وأخرج عبد الرزاق حدثنا معمر عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهو تطليقة واحدة وهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة، وأخرج عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أن عليا وابن مسعود قالا : إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وهي أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة، وأخرج عبد الرزاق حدثنا معمر وابن عيينة عن أبي قلابة قال آلى النعمان من امرأته وكان جالسا عند ابن مسعود فضرب فخذه وقال إذا مضت أربعة أشره فاعترف بتطليقته، وأخرج ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب عن سيعد بن جبير عن ابن عباس وابن عمر قالا : إذا آلى فلم يفيء حتى مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وقد روي عن عثمان وعلي وابن عمر أيضا ما يخالف ذلك ويوافق مذهب الشافعي، وكذا روي عن غيرهم من الصحابة. روى الدارقطني قال حدثنا أبو بكر الميموني قال : ذكر لأحمد بن حنبل حديث عطاء الخراساني عن عثمان قال لا أدري ما هو قد روي عن عثمان خلافه قيل له من رواه قال حبيب بن ثابت عن طاووس عن عثمان، وروى ملك في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه قال : يقول إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه الطلاق فإذا مضت الأربعة الأشهر يوقف حتى يطلق أو يفيء، وروى البخاري عن ابن عمر بسنده أنه كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله تعالى لا تحل بعد ذلك الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق كما أمر الله تعالى، وقال البخاري : قال لي إسماعيل بن أويس حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال : إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، وقال الشافعي : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال : أدركت بضع عشر رجلا من الصحابة كلهم يقولون يوقف المولى، قلت : وذكر البغوي فيمن ذهب إلى الوقف من الصحابة عمر وأبا الدرداء أيضا، قال ابن همام : ما روينا عن عثمان وزيد بن ثابت أولى مما روى أحمد عن عثمان لأن سندنا جيد موصول بخلاف ما رواه أحمد فإن حال رجاله لا يعرف إلى حبيب وهو أعضله ولا يعلم أن طاووسا أخذ عن عثمان، ورواية محمد بن علي عن علي بن أبي طالب مرسل مثل رواية قتادة عنه وهما متعاصران، وما روينا عن ابن عمر وابن عباس رجاله كلهم أخرج لهم الشيخان في الصحيحين فلا مزية لما في صحيح البخاري عن ابن عمر عليه، قال البغوي وإلى الوقف ذهب من التابعين سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد وإلى خلافه ذهب سفيان الثوري وسعيد بن المسيب والزهري لكن قالا يقع تطليقه رجعية، وأخرج عبد الرزاق نحو مذهب أبي حنيفة من التابعين عن عطاء وجابر بن يزيد وعكرمة وسيعد بن المسيب وأبي بكر ابن عبد الرحمن ومكحول، وأخرج الدارقطني نحوه عن ابن الحنفية والشعبي والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين وقبيصة وسالم وأبي سلمة، وقيل في الترجيح أنه لا شك أن الظاهر من القراءة المتواترة يفيد مذهب الشافعي وغيره وأما مذهب أبي حنيفة فلا يستقاد منه إلا بتكلف لا يجوز المصير إليه إلا بالسماع، فمن قال من الصحابة على ظاهر الآية يعلم أن قال بالرأي، ومن قال منهم بما قال أبو حنيفة يحمل قوله على السماع قال ابن همام وهذا ترجيح عام، والله أعلم.
وههنا خلافيات أخر أحدها أنه إذا أتى بغير يمين الله كالطلاق والعتاق والصدقة وإيجاب العبادات هل يكون موليا أم لا ؟ فقال أبو حنيفة يكون موليا سواء يقصد به الإضرار بها أو المصلحة ال لها بأن كانت مريضة مثلا أو المصلحة لنفسه بأن كان مريضا مثلا، وقال مالك لا يكون موليا إلا أن يحلف خالف الغضب أو لقصد الإضرار بها، وقال أحمد : إلا أن يقصد الإضرار، وعن الشافعي قولان أصحهما كقول أبي حنيفة. وثانيهما أنه من ترك وطء زوجته للإضرار بها من غير يمين أكثر من أربعة أشهر هل يكون موليا ؟ فقال مالك وأحمد في إحدى روايتيه نعم وقال الجمهور لا. ثالثها : إن مدة إيلاء الرقيق كالحر أربعة أشهر عند الشافعي وأحمد لعموم الآية قالا إنها ضربت لأمر يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج في تلك المدة فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الغيبة، وعند أبي حنيفة ومالك بنصف المدة بالرق لكن عند أبي حنيفة برق المرأة وعند مالك برق الزوج بناء على اختلافهما في الطلاق. رابعها : أنه إذا تعذر الوطء فالفيء عند أبي حنيفة بقوله فثت ثم إن قدر على الوطء قبل مضي المدة يجب عليه الوطء، وعند الشافعي لا فيء إلا بالوطء إذ لا حنث إلا به.
﴿ والمطلقات ﴾ هذا اللفظ عام يشتمل الرجعيات والبائنات الحاملات والحائلات والمدخول بهن وغيرهن والحرائر والإماء، خص الإماء عنها بالسنة والإجماع قال رسول الله :" طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان " رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي من حديث عائشة وسنذكر البحث في هذا الحديث وما في هذه المسألة من تخصيص العام من الكتاب بخبر الآحاد في تفسير قوله تعالى :﴿ الطلاق مرتان ﴾ إن شاء الله تعالى ونسخ حكم هذه الآية في الحوامل بقوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ وفي غير المدخول بها بقوله تعالى : في الأجزاب :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة ﴾ ﴿ يتربصن ﴾ خبر بمعنى الأمر للتأكيد ﴿ بأنفسهن ﴾ فيه بعث للنساء على التربص أي يحبسن أنفسهن ويغلبنها وإن كان على خلاف هواها ﴿ ثلاثة قروء ﴾ فلا يتزوجن يها، والقرء لفظ مشترك من الأضداد يطلق على الحيض والطهر كليهما بإجماع أهل اللغة، فقال الشافعي ومالك وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت : إن المراد ههنا الطهر لحديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :" ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهر قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق بها النساء " متفق عليه. وجه الاحتجاج أن الله سبحانه قال :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ قالوا : اللام في لعدتهن للوقت أي وقت عدتهن والمشار إليه في الحديث بتلك العدة الطهر الذي لا مسيس فيه فظهر أن المراد بالقروء الأطهار، قلنا : اللام للوقف بمعنى في غير معهود في الاستعمال ويستلزم ذلك تقدم العدة على الطلاق أو مقارنة له لاقتضائه وقوعه في وقت العدة بل اللام هناك لإفادة معنى استقبال عدتهن يقال في التاريخ بإجماع أهل العربية خرج لثلاث بقين من رمضان، ويؤيد ما قلنا أن ابن عباس وابن عمر كانا يقرآن :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ﴾ في قبل عدتهن وفي هذا الحديث في رواية لمسلم أنه صلى الله عليه وسلم تلا : وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو نقول المراد بالعدة في قوله صلى الله عليه وسلم :" قتلك العدة التي أمر الله بها " الوقت للطلاق أي تلك الوقت الذي أمر الله أن يطلق بها النساء لا العدة التي يجب بعد الطلاق، وقد يحتج للشافعي بأن التاء في ثلاثة يدل على تذكير المميز والقرء بمعنى الحيض مؤنث وبمعنى للطهر مذكر فهو المراد، وهذا ليس بشيء فإن الشيء إذا كان له اسمان مذكر كالبر ومؤنث كالحنطة وليس هناك تأنيث حقيقي فالعبرة للمذكر منهما وههنا كذلك فإنن الحيض مؤنث والقرء مذكر وإذا كان التأنيث حقيقيا واللفظ مذكر كالشخص يعبر به عن المرأة ففيه وجهان جائزان، وقال أبو حنيفة وأحمد : المراد به الحيض ويحتج له بوجوه أحدها ما مر في احتجاج الشافعي من حديث ابن عمر برواية مسلم وقراءة ابن عباس وابن عمر، ثانيها أن اللفظ ثلاثة عدد خاص لا يدل على أقل منه ولا على أزيد منه والطلاق على وجه السنة لا يكون إلا في الطهر إجماعا ولما مر من حديث ابن عمر لثلاثة قروء لا يتصور إلا في الحيض دون الأطهار إذ لا يخلوا إما أن لا يعد هذا الطهر الذي وقع فيه الطلاق من العدة وهو خلاف الإجماع ولم يقل به أحد وأيضا يلزم حينئذ الزيادة على الثلاث أو يعد فتكون العدة طهرين وبعض طهر وذلك ليست بثلاثة، ولو جاز إطلاق الثلاثة على طهرين وبعض طهر لجاز إطلاق ثلاثة أشهر في قوله تعالى :﴿ فعدتهن ثلاثة أشهر ﴾ على شهرين وبعض شهر ولم يقل به أحد. فإن قيل أليس في قوله تعالى :﴿ الحج أشهر معلومات ﴾ إطلاق الأشهر على شهرين وبعض شهر، قلنا : هناك لم يقل الحج ثلاثة أشهر بل قال أشهر، وههنا لم يقل قروء بل قال ثلاثة قروء فهذا أدل وأصرح فلا يجوز حملها على ما دون ثلاثة تجوزا فإن كلمة ثلاثة يمنع عن التجوز ومما يدل على أن المعتبر الأقراء التامات دون بعض القرء ما احتج به الشافعي من حديث ابن عمر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يجوز الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي أوقع فيه الطلاق أولا كيلا يجتمع الطلقتان بلا فصل قرء تام، ثالثها : قوله صلى الله عليه وسلم :" طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " مع الإجماع على أنه لا يخالف الأمة الحرة فيما به الاعتداد بل في الكمية فظهر أن المراد بالقروء ا لحيض، رابعها : أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم وذلك بالحيض دون الطهر ومن ثم وجب الاستبراء في الأمة بالحيض دون الطهر، خامسها أنه لو كان القرء بمعنى الطهر تنقضي العدة بدخول الحيض الثالثة ولو كان بمعنى الحيض لم ينقض ما لم تطهر من الحيضة الثالثة فلا تنقضي العدة بالشك، ومذهبنا مأثور من الخلفاء الراشدين والعبادلة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري، وزاد أبو داود والنسائي ومعبد الجهني وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب وابن جبير وعطاء وطاووس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن البصري ومقاتل وشريك القاضي والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وربيعة والسدي وأبو عبيدة وإسحاق وإليه رجع أحمد بن حنبل، قال محمد بن الحسن في الموطأ : حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم قالوا الرجل أحق بامرأته حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، والله أعلم.
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ من الحمل والحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق الزوج في الرجعة، وفيه دليل على أن قولها مقبول في ذلك ﴿ إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾ والجزاء محذوف يعني ﴿ إن كن يؤمن الله ﴾ لا يكتمن فإن من شأن المؤمن من أن لا يرتكب المحرم، والغرض منه التأكيد والتوبيخ والله أعلم ﴿ وبعولتهن ﴾ جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة، وأصل البعل المالك والسيد سمي الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته والضمير راجع إلى الرجعيات منهم ولا امتناع فيه كما كرر الظاهر خصصه ثانيا، أو البعولة مصدر أقيم مقام المضاف المحذوف أي أهل بعولتهن ﴿ أحق ﴾ فعل ههنا بمعنى الفاعل أي حقيق ﴿ بردهن ﴾ إلى النكاح بالرجعة سواء رضيت المرأة أو لا ﴿ في ذلك ﴾ أي في زمان التربص ﴿ إن أرادوا ﴾ بالرجعة ﴿ إصلاحا ﴾ ضرارا بالمرأة كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإن اقترب اقتضاء عدتها راجعة ثم طلقها، وليس المراد من شريطة قصد الإصلاح للرجعة حتى ولو راجعها بقصد الإضرار كان رجعة بل هو للمنع عن قصد الإضرار والتحريض على الإصلاح أو يكون التقدير إن أرادوا إصلاحا فلا جناح عليه في الرجعة. أجمعوا على جواز الرجعة من الطلاق الرجعي واختلفوا في أنه هل يجوز وطؤها في العدة أم لا ؟ فقال أبو حنيفة وأحمد في أظهر روايتيه يجوز وفي أخرى له كقول الشافعي لا يجوز، قال الشافعي : الزوجية زائلة لوجود القاطع وهو الطلاق، قلنا : تأخر عمل الطلاق إلى انقضاء العدة إجماعا لجريان التوارث بينهما وجواز الرجعة بغير رضاها ووجوب النفقة فظهر أن النكاح قائم ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وبعولتهن ﴾ قالوا : إطلاق البعل تجوز بناء على ما كان ولفظ الرد يدل على زوال النكاح، قلنا : القول بالتجوز في لفظ البعل ليس أولى من القول به في الرد فإنه يقال رد البيع في بيع كان الخيار للبائع، ثم إذا تعارض احتمالا المجاز في لفظ البعل ولفظ الرد في تلك الآية تساقط اعتبارهما وبقي قوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروف ﴾ وقوله :﴿ فأمسكوهن بمعروف ﴾ سالما فإن الإمساك يدل على البقاء، ويمكن حمل الرد على الرد إلى الحالة الأولى وهي كونها بحيث لا يحرم بعد مضي العدة فلا إشكال حينئذ أصلا. واختلفوا في أنه هل يشترط للرجعة القول ؟ فقال الشافعي : لا يحصل الرجعة إلا بالقول بناء على ما قال أن الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح، وقال أبو حنيفة وأحمد : إذا وطئها أو قبلها أو لسمها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة يصيرا مراجعا أيضا كما يصير مراجعا بالقول بناء على ما ذكرنا أن الرجعة عندهما ليست بمنزلة ابتداء الناكح بل هو إبقاء لها فيكفي فيها الفعل الدال على الاستدامة كما في إسقاط الخيار، وقال مالك في المشهور عنه : إن بالوطء إن نوى الرجعة حصلت وإلا فلا واختلفوا في أنه هل يشترط الإشهاد لرجعة ؟ فقال أحمد وهو قول الشافعي يشترط عملا بقوله تعالى :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ في سورة الطلاق، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي في أصح قوليه وأحمد في إحدى روايتيه : أنه لا يشترط ذلك والأمر في الآية محمول على الاستحباب إذ لو كان كالإشهاد واجبا لكان الإشهاد على الفرقة أيضا واجبا لاقترابه بقوله تعالى :﴿ فارقوهن بمعروف ﴾ ولم يقل به أحد ولو كان واجبا لكان واجبا بالاستقلال ولم يكن شرطا للرجعة لعموم قوله تعالى :﴿ فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾.
﴿ ولهن ﴾ أي للنساء على الأزواج حقوق ﴿ مثل الذي عليهن ﴾ للأزواج في وجوب واستحقاق المطالبة لا في الجنس ﴿ بالمعروف ﴾ بكل ما يعرف في الشرع من أداء الحقوق النكاح وحسن الصحبة فلا يجوز لأحد أن يقصد ضرار الآخر بل ينبغي أن يريدوا إصلاحا، قال ابن عباس : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن الله تعالى قال :﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ﴾ عن معاوية القشيري قال : قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال :" أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت } رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في قصة حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة :" فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم " رواه الترمذي وقال : حسن صحيح، ورواه أبو داود إلى قوله خلقا، وروى الترمذي نحوه عن عائشة، وعن عبد الله بن زمعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " رواه الترمذي والدارمي ورواه ابن ماجه عن ابن عباس، وعن أبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء " متفق عليه ﴿ وللرجال عليهن درجة ﴾ زيادة في الحق وفضلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما جعل الله لهم عليهن من حق " رواه أبو داود عن قيس بن سعد وأحمد عن معاذ بن جبل والترمذي عن أبي هريرة نحوه والبغوي عن أبي ظبيان، وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما ارمرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة " رواه الترمذي، وعن طلق بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا الرجل دعا زوجته فلتأته وإن كانت على التنور " رواه الترمذي ﴿ والله عزيز ﴾ يقدر على الانتقام ممن ظلم
﴿ الطلاق ﴾ الذي يعقب الرجعة بدليل ما سيأتي من ذكر الثالثة وذكر الإمساك بعد المرتين ﴿ مرتان ﴾ روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل أين الثالثة فقال عليه السلام :﴿ أو تسريح بإحسان ﴾ أخرج أبو داود في ناسخه وسعيد بن منصور في سننه وابن مردويه من حديث ابن رزين الأسدي وأخرجه الدارقطني وابن مروديه من حديث أنس، قال البغوي : روى عروة بن الزبير قال : كان الناس في ابتداء راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها بقصد مضارتها فنزل ﴿ الطلاق مرتان ﴾ فإن طلق ثالثا لمتحل له إلا بعد نكاح زوج آخر، وفيما قال مرتان دون ثنتان دلالة على كراهة الطلقتين دفعة واحدة فإن كلمة مرتان تدل بالعبارة على التفرق وبالإشارة على العدد واللام للجنس وليس وراء الجنس شيء فكان القياس أن لا يكون الطلقتين المجتمعتين معتبرة شرعا، وإذا لم يكن الطلقتين معتبرة لم يكن الثلاث مجتمعة معتبرة بالطريق الأولى لوجودهما فيها مع زيادة، وقيل المراد بالطلاق التطليق والمعنى أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق في الأطهار دون الجمع وحينئذ لم يرد بالمرتين التثنية بل التكرير كما في قوله تعالى :﴿ ثم ارجع البصر كرتين ﴾ يعني كرة بعد كرة لكن يشكل حينئذ عطف قوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروف ﴾ وقوله تعالى :﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد ﴾ لأن قوله تعالى الطلاق على هذا التأويل يشتمل الطلقات الثلاث أيضا وعلى كلا التأويلين يظهر أن جمع الطلقتين أو ثلاث تطليقات بلفظ أوبألفاظ مختلفة في طهر واحد حرام بدعة مؤثم خلافا للشافعي فإن يقول لا بأس به لكنهم أجمعوا على أنه من قال لامرأته أنت طالق ثلاثا يقع ثلاثا بالإجماع، وقالت الإمامية : إن طلق ثلاثا دفعة واحدة لا يقع أصلا لهذه الآية، وقال بعض الحنابلة : يقع طلقة واحدة لما روي في الصحيحن أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم أناة فلو أمضيناه عليهن فأمضاه عليهم. روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق ركانة بن عبد زوجته ثلاثا مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد قال : إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها، ونقل عن طاووس وعكرمة أنهم قالوا من طلق ثلاثا فقد خالف السنة فيرد إلى السنة وبه قال ابن إسحاق، ومن الناس من قال إن في قوله أنت طالق ثلاثا يقع في المدخول بها ثلاثا وفي غير المدخول بها واحدة لما روى مسلم وأبو داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس فقال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة، قال ابن عباس : بل كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال اجتزوهن عليهم. والحجة للشافعي على جواز الطلقات بكلمة واحدة ووقوعهن من غير إثم ما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن عويمر العجلي لاعن امرأته فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا، وفي لفظ فيهي طالق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات فاطمة بنت قيس طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي النبي صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى وطلق عبد الرحمن بن عوف تماضر في مرضه وطلق الحسن بن علي امرأته شهباء ثلاثا لما هنته بالخلافة بعد موت علي عليه السلام.
فههنا مقامان أحدهما أ، صور الإيقاع ثلاثا تقع ثلاثا وثانيهما أنه يأثم به، والحجة لنا السنة والإجماع. أما السنة : فحديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرآن فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله قد أخطأت السنة، السنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء " فأمرني فراجعتها فقال : إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك، فقلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال :" لا كانت تبين منك وكانت معصية " رواه الدارقطني وابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن قال حدثنا ابن عمر قد صرح بسماعه عنه، وأعله البيهقي بعطاء الخراساني قال : أتى بزيادات لم يتابع عليها وهو ضعيف لا يقبل ما تفرد به، قال ابن همام تعليل البيهقي مردود حيث تابعه شعيب بن رزيق سندا ومتنا، رواه الطبراني، وما ذكر من حديث ابن عباس فيه دلالة على أن الحديث منسوخ فإن إمضاء عمر للثلاث بمحضر من الصحابة وتقرر الأمر على ذلك يدل على ثبوت الناسخ عندهم وإن كان قد خفي ذلك قبله في خلافة أبي بكر وقد صح فتوى ابن عباس على خلاف ما رواه، روى أبو داود عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال : يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس، وإن الله عز وجل : قال :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾ عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وروى الطحاوي بلفظ أن رجلا طلق امرأته مائة قال ابن عباس : عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا الحديث، وفي موطأ مالك بلغه أن رجلا قال لابن عباس إن طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى ؟ فقال ابن عباس : طلقت منك ثلاثا وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا. وعلى وقوع الطلقات الثلاث انعقد الإجماع وروى عن فقهاء الصحابة في الموطأ بلغه أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات فقال : ما قيل لك ؟ فقال : قيل لي بانت منك، قال : صدقوا هو مثل ما يقولون. وظاهره الإجماع على هذا الجواب وأسند عبد الرزاق عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود : فقال إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها وسائرهن عدوان، وفي سنن أبي داود
وموطأ مالك عن محمد بن إياس بن البكير قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي فذهبت معه فسال ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك معا فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك قال : فإنما طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس : إنك أرسلت بين يديك ما كان لك من فضل، وفي موطأ مالك مثله عن ابن عمر وروى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن ثابت قال جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال : بانت منك بثلاث وأقسم سائرهن على نسائك، وروى وكيع عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال بانت منك بثلاث، وأسند عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبع وتسعون عدوان وظلم إن شاء عذبه وإن شاء غفر له "، وروى الطحاوي عن أنس قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وكان عمر بن الخطاب إذا أتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره، وروى أيضا عن أنس عن عمر فيمن طلق البكر ثلاثا أنه لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
وما ذكر الخصم من حديث ابن عباس يمكن تأويله بأن قول الرجل أنت طالق أنت طالق أنت طالق كان واحدة في الزمن الأول لقصدهم التأكيد في ذلك الزمان، ثم صاروا يقصدون التجديد فألزمهم ثلاثا لما علم قصدهم أو للاحتياط، وأما حديث ركانة فمنكر والأصح ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه أن ركانة طلق زوجته البتة فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما أراد إلا واحدة فردها إليه فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة ي زمن عثمان، قال أبو داود : هذا أصح وبما ذكرنا من الأحاديث والآثار كما يثبت وقوع الطلقات الثلاث دفعة واحدة يثبت أنه بدعة معصية وما ذكره الشافعي من تطليق عويمر ثلاثا بعد التلاعن فهو استدلال بعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم فهو شهادة على النفي لا عبرة بعد ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الإنكار في قصة أخرى لعله صلى الله عليه وسلم أنكر ولم يذكره الراوي، أو لم ينكر لأنها بعد التلاعن لم تبق محلا للطلاق، ورواية حديث فاطمة بنت قيس بلفظ الثلاث غير صحيح والصحيح أنه طلقها البتة وأيضا حين طلقها كان زوجها غائبا عنها في سرية ولم يكن بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظهر تقريره وإنما ثبت تقريره في وقوع الثلاث، وأيضا حديث فاطمة بنت قيس رده عمر وقال : لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أو نسيت، وأثر عبد الرحمن بن عوف وحسن رضي الله عنهما ليس بحجة في مقابلة المرفوع.
مسألة : الطلاق ثلاثا مجتمعا بدعي حرام وبالتفريق على الإظهار مباح جائز بهذه الآية إلى قوله تعالى :﴿ فإن طلقها ﴾ الآية، والأحسن من ذلك كله إذا اضطر الرجل إلى طلاق امرأته أني طلقها واحدة ثم إن لم يرد المراجعة يتركها حتى تنقضي عدتها، لأن الطلاق أبغض المباحات عند الله والحاجة اندفعت بالواحدة قال : الله تعالى في ذم السحر ﴿ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ﴾ وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا، ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه ويقول نعم أنت، قال الأعمش أراه قال فيلتزمه " رواه مسلم، وعن ابن عمر ع النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أبغض الحلال إلى الله الطلاق " رواه أبو داود.
مسألة : الطلاق في الحيض يقعض طلاقا إجماعا خلاف للإمامية قالوا لا يقع أصلا، وعندنا يقع لكنه حرام إجماعا يجب الرجعة بعده وما مر من حديث ابن عمر يدل على الوقوع والحرمة ووجوب الرجعة، واختلفوا في أنه إذا أراد طلاقها ثانيا بعد الرجعة على وجه السنة متى يفعل، فقال أبو حنيفة إذا طهرت من تلك الحيضة ثم حاضت ثم طهرت فحينئذ يطلقا، كذا ذكر محمد في المبسوط ولم يذكر خلافا عنه ولا عن صاحبيه وبه قال مالك وأحمد وهو مشهور من مذهب الشافعي وهو المستفاد من حديث ابن عمر المذكور الذي في الصحيحين حيث قال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله عز وجل وفي رواية :" حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيه " وذكر الطحاوي قول أبي حنيفة أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها أولا فيها وهو أحد قول الشافعي وقال الطحاوي الأول أبي يوسف، والحجة للقول الثاني رواية سالم في حديث ابن عمر المذكور " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " رواه مسلم وأصحاب السنن، والأولى أولى لأنها أقوى صحة وأكثر تفسيرا وفيها زيادة والأخذ بالزيادة أولى، قال ابن همام قوله :" يمسكها حتى تطهر " يدل على أن استحباب الرجعة أو وجوبها مقيد بتلك الحيضة التي طلقها فيها فإن لم يراجع فيها حتى طهرت تقررت المعصية.
﴿ فإمساك بمعروف ﴾ بالمراجعة وحسن المعاشرة، هذا يعني الإمساك بعد الطلقتين، ثابت إجماعا إذا كان الزوجان حرين، وأما إذا كانا رقيقين فلا رجعة بعد الثنتين إجماعا، وإن كانت أمة تحت حر أو حرة تحت عبد فاختلفوا فيه، فقال مالك والشافعي وأحمد : إن
﴿ فإن طلقها ﴾ بعد الثنتين وهو أحد محتملي قوله تعالى :﴿ أو تسريح بإحسان ﴾ خص الله سبحانه ذلك الاحتمال بحكم فقال ﴿ فلا تحل له من بعد ﴾ ذلك وبقي الاحتمال الثاني وهو الترك من غير تطيق إلى انقضاء العدة على الأصل وهو حل النكاح مع الزوج الأول ﴿ حتى ينكح زوجا غيره ﴾ يعني تتزوج نكاحا صحيحا وإنما قيدنا بالصحيح لأن المطلق ينصرف إلى الكامل والتزوج والنكاح يجوز إسناده إلى كل من الزوجين لأنه ينعقد بالإيجاب والقبول وذا يصدر منهما، وبناء على ظاهر هذه الآية قال سعيد بن المسيب وداود : إن عقد النكاح من غير جماع من الزوج الثاني يحل للزوج الأول، والإجماع انعقد على أن الوطء من الزوج الثاني شرط للحل، ومن ثم قيل المراد بالنكاح في الآية الجماع فإنه في اللغة بمعنى الجماع. فإن قيل : هذا لا يستقيم فإن الوطء فعل الزوج والمرأة محله فإسناده إلى المرأة لا يجوز ؟ قلنا : يجوز تجوزا أو الآية لا تخلو عن التجوز فإن كان النكاح بمعنى العقد فالتجوز في لفظ المراد بالنكاح تمكينا من الوطء مجازا، والباعث على هذا الإجماع وتأويل الآية بهذه التأويلات البعيدة حديث عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني البتة وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده ميثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" كأنك تريدين الرجوع إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقين عسيلته ويذوق عسيلتك " رواه الجماعة، وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث طلقات، وفي الموطأ نا مالك عن المسور ابن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا في عهد رسول الله صل الله عليه وسلم فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فلم يستطع أن يسمها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" لا يحل لك حتى تذوق العسيلة " وروى الجماعة من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجه الأول قال :" لا حتى ذاق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول " وأخرج ابن المنذر عن مقاتل بن حبان قال : نزلت هذه الآية في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وأنها كانت عند رفاعة بن وهب بن ع تيك وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى الأول ؟ قال :" لا حتى تمس " ونزل فيها ﴿ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها ﴾ بعدما جامعها ﴿ فلا جناح عليه أن يتراجعا ﴾ ذكر البغوي أنه روي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقالت : يا رسول الله إن زوجي مسني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت بقولك الأول فلن نصدقك في الآخر، فلبثت ما شاء الله حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت أبا بكر وقالت : إن زوجي مسني وطلقني فقال لها أبو بكر قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعي، فلما قبض أبو بكر أتت عمر وقالت له مثل ذلك فقال عمر لئن رجعت لأرجمنك، وعلى تقدير تأويل النكاح بالتزويج يكون بهذا الحديث زيادة على الكتاب والزيادة على الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الشافعي وغيره لكن يشكل ذلك على أصل أبي حنيفة فإن عنده لا يجوز ذلك، فقيل في توجيه مذهب أبي حنيفة أن الحديث المشهور يجوز به الزيادة على الكتاب وليس كذلك فإن الحديث من الآحاد لكن يمكن أن يقال إنه لما انعقد الإجماع على وفق هذا الحديث وتلقته جمهور الأمة بالقبول التحق الحديث بالمشهور فيجوز به الزيادة على الكتاب ﴿ فإن طلقها ﴾ الزوج الثاني بعد الوطء ﴿ فلا جناح عليهما ﴾ أي على المرأة والزوج الأول ﴿ أن يتراجعا ﴾ بنكاح جديد يدل على ذلك إسناد والفعل إليهما بخلاف ما مر من قوله تعالى :﴿ وبعولتهن أحق بدرهن ﴾ حيث أسند الفعل هناك إلى البعولة بانفرادهم ﴿ إن ظنا ﴾ رجعا ﴿ أن يقيما حدود الله ﴾ ولا يمكن ههنا تفسير الظن بالعلم لعدم إمكان العلم بالغيب ولأن أن الناصبة للتوقع وهوينا في العلم.
مسألة : أجمعوا على أن الوطء من الزوج الثاني يهدم الطلقات الثلاث من الزوج الأول، فإن عادت إليه يملك الزوج الأول الطلقات الثلاث إجماعا، واختلفوا في أنه هل يهدم ما دون الثلاث أيضا أم لا ؟ أعني إن طلق الزوج الأول طلقة أو طلقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج آخر بنكاح صحيح ثم طلقها الثاني بعد الوطء وانقضت العدة ثم رجعت إلى الزوج الأول هل يملك الزوج الأول الطلقات الثلاث أو يملك ما بقي بعد الطلقة أو الطلقتين ؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يهدم ما دون الثلاث أيضا ويملك الزوج الأول ثانيا الطلقات الثلاث بتمامها، وقال محمد لا يهدم ما دون الثلاث لأن الله سبحانه جعل الوطء من الزوج الثاني غاية للحرمة المغلظة إلى الحاصلة بالطلقات الثلاث في قوله :﴿ فلا تحل له من بعد حتى تنكح ﴾ فكان منهيا لها ولا إنهاء قبل الثبوت، ولنا أن في هذه الآية جعل الله سبحانه الطلاق من الزوج الثاني بعد الوطء موجبا للحل للزوج الأول حيث قال :﴿ فلا جناح عليهما أن يتراجعا ﴾ وكذا قوله صلى الله عليه وسلم :" لعن الله المحلل والمحلل له " جعل الزوج الثاني محللا للزوج الأول والأصل في الحل الحل كله فيملك ثلاث تطليقات، وأيضا إذا كان الوطء من الزوج الثاني هادما للحرمة الغليظة كان هادما للحرمة الخفيفة بالطريق الأولى والله أعلم.
مسألة : اختلفوا في أنه بعد ما طلق الزوج الأول ثلاثا لو نكح المرأة زوجا آخر واشترطت منه أن يطلقها فطلقها بعد الوطء وانقضت عدتها ؟ فقال أبو حنيفة : حلت للأول لوجود الدخول في نكاح صحيح والنكاح لا يبطل بالشروط وعن محمد أنه يصح النكاح لما بينا ولا يحلها على الأول لأنه استعجل ما أخره الشرع فيجازى بمنع مقصوده كما في قتل الموروث، وقال أحمد ومالك وأبو يوسف لا يصح النكاح لا يحل للزوج الأول لفقدان الشرط وهو النكاح الصحيح، احتجوا على عدم الصحة بحديث ابن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، رواه الدارمي وقال الترمذي صحيح ورواه ابن ماجه عن علي وابن عباس وعقبة بن عامر، قلنا : هذا حجة لنا لا علينا فإنه عليه السلام جعله محللا فيدل على ثبوت الحل وذلك يقتضي صحة النكاح غير أنه يدل على كون الزوج مرتكبا لأمر محرم ونحن نقول به فإن تزوجها ولم يشترط ذلك إلا أنه كان في عزمه صح النكاح عند أبي حنفية وصاحبيه والشافعي، وقال مالك وأحمد لا يصح ولا خلاف في كراهته، قال البغوي : قال نافع : أتى رجل ابن عمر فقال إن رجلا طلق امرأته ثلاث فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول فقال : لا إلا نكاح رغبة كما نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ﴿ وتلك حدود الله ﴾ أي الأحكام المذكورة ﴿ يبينها لقوم يعلمون ﴾ يفهمون ويعملون بمقتضى العلم.
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي عدتهن، الأجل يطلق على المدة وعلى منتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي ينتهي عمره والمراد ههنا منتهاه لأن شروع العدة عقيب الطلاق، والبلوغ هو الوصول إلى الشيء وقد يقال للدنو منه على المجاز وهو المراد في الآية ليصح أن يترتب عليه ﴿ فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ﴾ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ﴿ ولا تمسكوهن ضرارا ﴾ أي تراجعوهن بإرادة الإضرار بهن، ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين ﴿ لتعتدوا ﴾ أي لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الاقتداء، واللام متعلق بلا ﴿ تمسكوهن ﴾ فهو أيضا مفعول له كأنه بيان الضرار مطلقا ظلم واعتداء ومنهي عنه أمر الله سبحانه أولا بالإمساك بالمعروف ثم نهى عن ضده وهو الإمساك بالضرار ثم صرح بكونه اعتداء وظلما ثم عقب ذلك بقوله ﴿ ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ﴾ يعني بتعريضها للعقاب للمبالغة والاهتمام، أخرج ابن جرير من طريق يفعل ذلك ليضارها ويعضلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر البغوي وكذا أخرج ابن جرير عن السدي قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تمسوكهن ضرارا لتعتدوا ﴾ الآية ﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ بالإعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها –قال الكلبي- يعني قوله :﴿ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ﴾ وكل من خالف الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا وأخرج ابن أبي عمر وفي مسنده وابن مردويه عن أبي الدرداء قال كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت ويعتق ثم يقول لعبت، وذكر البغوي قول أبي الدرداء قال كان الرجل يطلق ثم يقول مثل ذلك فأنزل الله :﴿ ولا تتخذوا آيات الله هزوا ﴾ وأخرج ابن مردويه نحوه عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن مرسلا، وأخرج ابن المنذر عن عبادة بن الصامت نحوه بلفظ ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه الطلاق والعتاق والنكاح وقد مر في ما سبق حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " ﴿ واذكروا نعمة الله عليكم ﴾ ومن جملتها الهداية وإنزال آيات القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالشكر والقيام بحقوقها ﴿ وما أنزل عليكم من الكتاب ﴾ يعني القرآن ﴿ والحكمة ﴾ يعني الوحي الغير المتلو على محمد صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ يعظكم به ﴾ بما أنزل عليكم ﴿ واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ﴾ تأكيد وتهديد.
﴿ وإن طلقتم النساء فبلغن أجلهن ﴾ أي انقضت عدتهن عن الشافعي أنه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ﴿ فلا تعضلوهن ﴾ أي لا تمنعوهن، و العضل المنع وأصله الضيق و الشدة يقال الداء العضال ما لا يطاق علاجه ﴿ أن ينكحن أزواجهن ﴾ المخاطب به الأولياء نزلت الآية في جملاء بنت يسار أخت معقل بن يسار طلقها بداح بن عاصم بن عدي بن عجلان. روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار قال : زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له : زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليه أبدا، وكان الرجل لا بأس به وكانت المرا’ تريد أن ترجع إليه فأنزل الله تعالىك ﴿ فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ﴾ فقلت : الآن أفعل يا روسل الله، قال : فزوجها إياه. وأخرجه ابن جرير من طرق كثيرة ثم أخرج عن السيدي قال نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها فانقضت عدتها ثم رجع يريد نكاحها فأبى جابر، والأول أصح وأقوى ولعلها نزلت في القصتين معا، وسياق الآية يقتضي أن الخطاب مع الأزواج الذين خوطبوا بقوله ﴿ وإذا طلقتم النساء ﴾ الذي يعضلون نساءهم بعد مضي العدة أن ينكحن أزواجا غيرهم عدونا وقسرا وما ذكرنا من رواية البخاري وغيره في شأن النزول يقتضي أن الخطاب مع الأولياء حيث كان العضل من معقل بن يسار أخو جملاء، فالصواب عندي أن الخطاب مع الناس كلهم فإنه يضاف الفعل إلى الجماعة حين يصدر عن واحد منهم كما في قوله تعالى :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ يعني لا يأكل بعضكم أموال بعض وقوله تعالى :﴿ ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ﴾ يعني لا يخرج بعضهم نفس بعضكم من ديارهم، وحينئذ لا مزاجمة بين سياق الآية وسبب نزولها والمعنى حينئذ إذا طلق رجال منكم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أيها الأولياء والأزواج السابقين وغيرهم أن ينكحن أزواجهن، وفي لفظ الأزواج تجوز على جميع التقادير فإنه إطلاق بناء على ما كان أو على ما يؤل إليه والله أعلم، والشافعية بعدما حملوا الخطاب في الآية على أنه مع الأولياء قالوا فيه دليل على أن المرأة لا تزوج نفسها إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى وحملوا إسناد النكاح إلى المرأة على التجوز وقالوا إسناد النكاح إليهن بسبب توقفه على إذنهن، وهذا الاستدلال ضعيف فإنه يمكن المنع من الولي على تقدير كون النكاح فلا اختيار للمرأة ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال :" لا تمنعوا إماء الله عن مساجد الله " مع أن إتيان المسجد فعل اختياري للمرأة بل المنع إنما يتصوران في الفعل الاختياري فالأولى لهم في هذه المسألة الاستدلال بقوله تعالى :﴿ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ﴾ فإن الأصل في الإسناد الحقيقة.
مسألة : هل يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة من غير ولي ؟ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجوز لها نكاحها نفسها بعبارتها وعبارة وكيلها برضاها وإن لم يعقد عليها ولي سواء كان الزوج كفؤا لها أو لا إلا أنه في غير الكفؤ للولي الاعتراض، وفي رواية عنهما لا ينعقد في غير الكفؤ وعند محمد ينعقد في الكفؤ وغيره موقوفا على إجازة الولي، وقال مالك إن كانت ذات شرف و جمال أو مال يرغب في مثالها لا يصح نكاحها إلا بولي وإن كانت بخلاف ذلك جاز أن يتولى نكاحها أجنبي برضاها ولا يجوز النكاح بعبارتها، وقال الشافعي وأحمد : لا نكاح إلا بولي وهي رواية عن أبي يوسف. احتجوا بهذه الآية وقد سمعت ما عليه وبأحاديث منها حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالك " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له " رواه أصحاب السنن من حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة وحسنه الترمذي، قال الطحاوي : حدثنا ابن أبي عمران قال أخبرنا يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريج أنه قال : لقيت الزهري فأخبرته عن هذا الحديث فأنكره، وأجاب عنه ابن الجوزي بأن الزهري أثنى على سليمان بن موسى فكان الإنكار عن نسيان من الزهري، وحديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وفيه الحجاج بن أرطأة ضعيف، وعنها قالت قال رسول الله صلى الله عيله وسلم :" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " رواه الدارقطني وفيه يزيد بن سنان وأبوه، قال الدراقطني : هو وأبوه ضعيفان، وقال النسائي : هو متروك الحديث وضعفه أحمد وغيره. وعنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا بد للنكاح من أربعة الولي والزوج وشاهدين رواه الدارقطني وفيه نافع بن ميسر أبو خطيب مجهول، وحديث أبي بردة عن أبيه أبي مسوى عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لا نكاح إلا بولي " رواه أحمد وحديث ابن عباس مرفوعا :" لا نكاح إلا بولي والسلطان ولي من لا ولي له " رواه أحمد من طريق الحججا بن أرطأة وهو ضعيف ومن طريق آخر فيه عدي بن الفضل وعبد الله بن عثمان ضعيفان، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" البغايا اللائي ينكحن أنفسهن لا يجوز النكاح إلا بولي وشاهدين ومهر قل وكثر " رواه ابن الجوزي وفيه النهاس قال يحيى ضيعف وقال ابن عدي لا يساوي شيئا، وحديث ابن مسعود وابن عمر قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " في حديث ابن مسعود بكير بن بكار قال يحيى ليس بشيء وفيه عبد الله بن محرز قال الدارقطني متروك وفي حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " رواه الدارقطني من طريقين في أحدهما جميل بن الحسن وفي الثاني مسلم بن أبي مسلم لا يعرفان، وحديث جابر مرفوعا :" لان نكاح إلا بولي مشرد وشاهدي عدل " رواه ابن الجوزي وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي قال النسائي ويحيى متروك لا يكتب حديثه وفيه قطن بن يسير ضعيف، وحديث معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أيما امرأة زوجت نفسها من غير ولي فهي زانية " رواه الدارقطني وفيه أبو عصمة اسم ابن أبي مرير قال يحيى ليس بشيء وقال الدارقطني هو متروك.
واحتج الحنفية بقوله تعالى :﴿ حتى تنكح زوجا غيره ﴾ وقوله :﴿ أن ينكحن أزواجهن ﴾ لأن الأصل في الإسناد حقيقة أن تباشر المرأة، بحديث ابن عباس مرفوعا " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها " رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي، و جه الاستدلال أن للأولياء ليس إلا حق المباشر والأيم أحق منه بنفسها فهي ألوى بالمباشرة، وبحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي أنكحني رجلا وأنا كارهة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيها :" لا نكاح لك، إذهبي انكحي من شئت " رواه ابن الجوزي، قالوا : هذا مرسل والمرسل ليس بحجة قلنا المرسل حجة، وبحديث عائشة أن فتاة دخلت عليها فقالت : إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع خسيسته وأنا كارهة، قالت اجلسي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فجعل الأمر إليها فقالت : يا رسول الله قد أجزت ما صنع أي وإنما أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء رواه النسائي. وجه الاستدلال أن في هذا الحديث تقريره صلى الله عليه وسلم قولها أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء يعارض حديث عائشة المذكور وحديث " لا نكاح إلا بولي " قالت الحنفية إذا تعارضت النصوصو فيجب سلوك طريق الترجيح أو الجمع بضرب من التأويل فعلى طريقة ا لترجيح ما رواه مسلم أصح وأقوى سندا بخلاف ما رووه من الأحاديث فإنها لم تخل من ضعف أو اضطراب، وعلى طريقة الجمع فنقول معنى قوله عليه الصلاة والسلام :" لا نكاح إلا بولي " يعني لا نكاح على الوجه المسنون أو نقول لا نكاح إلا بمن له ولاية لينفي نكاح الكافر المسلمة والنكاح مع المحرمية والنكاح في عدة زوج قبله وغير ذلك من الأنكحة الفاسدة ويجمل حديث عائشة على امرأة نكحت نفسها من غير كفؤ، والمراد بالباطل حقيقة على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفؤ وحكمها على قول من يصححه ويثبت للولي حق الخصومة في فسخه وكل ذلك شائع في إطلاقات النصوص ويجب ارتكابه لدفع التعارض، أو نقول : حديث عائشة يدل على أن المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها فذلك النكاح جائز إما على أصل الشافعي فإنه يقول بالمفهوم، وإما على أصل أبي حنيفة فإنه غير داخل في حكم البطلان والأصل الجواز فثبت بهذا أن مباشرة المرأة غير قادحة في النكاح إنما القادح حق الولي الستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم :" الأيم أحق بنفسها من وليها " وحق الولي الاعتراض في غير الكفؤ دفعا للعار.
﴿ إذا تراضوا بينهم ﴾ أي الخطاب والنساء، وهو ظرف لأن ينكحن، وبناء اشترط التراضي أجمعوا على أنه لا يجوز إجبار المرأة البالغة إذا كانت ثيبة. واختلفوا في البكر البالغة ؟ فقال الشافعي يجوز للأب والجد إنكاحها بغير رضاها وبه قال مالك في الأب وهو أشهر الروايتين عن أحمد لأن الآية في الثيبات، واحتج ابن الجوزي بمفهوم ما رواه ابن عباس مرفوعا بلفظ " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها في نفسها " قلنا : هذا استدلال المفهوم المخالف من الحديث أو الآية والمفهوم ليس بحجة عندنا على أن هذا الحديث، وهذه الآية حجة لنا لا علينا فإن الحديث منطوقه يدل على وجوب استثمار البكر والاستثمار ينافي الإجبار وفي الآية قوله تعالى :﴿ ذلكم أزكى لكم وأطهر ﴾ الآية يدل على أن تحريم العضل واشتراط الرضاء مبني على المفاسد في العضل والإجبار كما سنذكر
كما سنذكر والمفاسد في إجبار البكر والثيب سواء. فإن قيل لو كان البكر والثيب في إثبات الاختيار لهما سيان فما وجه الفرق في قوله صلى الله عليه وسلم :" الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر " وكذا ما وجه ذكر البكر بعد قوله الأيم أحق على رواية مسلم ؟ قلنا : وجه الفرق بيان كيفية إذنها بقوله إذنها صماتها بخلاف الثيب فإن صمتها لم تعتبر إذنا بل لا بد لها من توكيل سابق أو إذن لاحق صريحا، وأيضا البكر لا تباشر العقد غالبا ولهذا صبها بعد التعميم كيلا يتساهلون في الاستثمار، واحتج ابن الجوزي أيضا بما روي عن الحسن مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليستأمر الأبكار في أنفسهن فإن أبين أجبرن " وهذا الحديث ساقط متنا وسندا أما متنا فللتناقض بين الاستثمار والإجبار إذ لا فائدة حينئذ في الاستثمار وأما سندا فلأن في سنده عبد الكريم، قال ابن الجوزي : قد أجمعوا على الطعن فيه. ولنا : أحاديث منها ما ذكرنا ومنها حديث ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهن فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بسند متصل ورجال صحيح، وقول البيهقي أنه مرسل لا يضر فإنه مرسل من بعض الطرق والمرسل حجة ومتصل من طرق أخرى صحيحة، قال ابن القطان حديث ابن عباس هذا صحيح وليست هذه خنساء بنت خدام التي زوجها أبوا وهي ثيب فكرهت ف رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها رواه البخاري، وقا
﴿ والوالدات يرضعن أولادهن ﴾ أضاف الأولاد إليهن لتكون باعثا على العطف والإرضاع، وهذا أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة وهو للوجوب لكنه نسخ ذلك فيما إذا تعاسرت الأم من الإرضاع أي لم تقدر ويقدر الأب على الاستئجار ويرتضع الصبي من غيرها بقوله تعالى :﴿ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾ أو مخصوص بقوله تعالى :﴿ لا تضار والدة بولدها ﴾ وبقي الحكم فيما سوى ذلك على أصله، ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه الله إن استأجر رجل زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز، وقال الشافعي يجوز استئجارها. لنا : أن الإرضاع مستحق عليها ديانة إلا أنه عذرت قضاء لظن عجزها حين امتنعت عن الرضاع مع وفور شفقتها فإذا أقدمت عليه بالأجر ظهرت قدرتها وكان الفعل واجبا عليها فلا يجوز أخذ الأجر عليه. فإن قيل : هذا الدليل يقتضي أن لا يجوز استئجار المطلقة بعد انقضاء عدتها لترضع ولدها مع أنه جائز اتفاقا ؟ قلنا : جواز استئجارها بعد انقضاء العدة ثبت بقوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهم أجورهن ﴾ الآية، فظهر بهذا أن إيجاب الإرضاع على الأمر مقيد بإيجاب رزقها على الأب بقوله تعالى :﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ﴾ ففي حالة الزوجية والعدة هو قائم برزقها وفيها بعد العدة ليس عليه رزق فيقوم الأجرة مقامه ﴿ حولين كاملين ﴾ أكده بصفة الكمال لأن يتسامح فيه وكان مقتضى هذا القيد وجوب الإرضاع إلى كمال الحولين لكن لما عقب الله سبحانه بقوله :﴿ فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ﴾ ظهر أن التقييد لنفي جواز الإرضاع بعد الحولين، وأيضا نفي جواز الإرضاع بعد الحولين مبني على أصله فإن الأصل أن الانتفاع بأجزاء الآدمي غير جائز لكرامته، وأيضا يظهر نفي جواز الإرضاع بعد الحولين بقوله تعالى :﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ إذ لا شيء بعد تمامه، وهو بيان لمن يتوجه إليه الحكم بالوجوب يعني ذلك الإرضاع إلى حولين لمن أراد إتمام الرضاعة، أو هو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة والأم يجب عليها الرضاع إن لم يعسر عليها، وقال قتادة : فرض الله تعالى على الوالدات الإرضاع حولين كاملين ثم أنزل التخفيف بقوله ﴿ لمن أراد أن يتم الرضاعة ﴾ فبهذه الآية ثبت أن مدة الإرضاع حولين لا يجوز بعدها ولا يثبت المحرمية بالإرضاع بعدها وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وهو مروي عن ابن عباس وعمر رواهما الدارقطني، وعن ابن مسعود وعلي أخرجهما ابن أي شيبة وقال مالك حولان وشيء ولم يحده، وقال أبو حنيفة ثلاثون شهرا، وقال زفر ثلاثة سنين واستفادوا الزيادة على الحولين بقوله :﴿ كاملين ﴾ لأن الكمال يقتضي أن لا يطعم في الحولين فحينئذ لا بد من مدة يعتاد فيها الصبي بالطعام ويغتذي باللبن وقدر كل الزيادة برأيه ولم يقدر مالك، قلنا : اقتضاء الكمال أن لا يطعم فيها ممنوع بل ذكر الكمال لئلا يحمل الحولان على ما دونهما تسامحا، ويدل على قولنا من السنة حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا رضاع إلا ما كان في حولين " رواه ابن الجوزي والدارقطني، قال الدارقطني عن ابن عيينة رجاله صحيح إلا الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ وكذا وثقه أحمد والعجلي وابن حبان وغير واحد ﴿ وعلى المولود له ﴾ يعني الأب فإن الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه –واللام للاختصاص، ومن ثم قال أبو حنيفة في ظاهر الرواية أن نفقة الابنة البالغة والابن الزمن البالغ على الأب خاصة دون الأم كالولد الصغير وفي رواية الخصاف والحسن عنه أنها على أبويه أثلاثا على حسب الميراث ﴿ رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ وذلك الرزق والكسوة إن كانت الأم زوجة له أو معتدة فهو جار عليهما بحكم الزوجية وإن كانت أجنبية بانقضاء عدتها يجب ذلك بناء على الأجرة كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ وقدر النفقة على قدر وسعه لقوله تعالى :﴿ لا تكلف نفس إلا وسعها ﴾ فيه دليل على أن التكليف بما لا يطاق وإن كان جائزا عقلا لكنه منتف شرعا فضلا من الله تعالى ومنة ﴿ لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ﴾ قرأ ابن كثير ويعقوب لا تضار بالرفع بدلا عن قوله :﴿ لا تكلف ﴾ فهو خبر بمعنى النهي وقرأ الآخرون بالنصب على صيغة النهي، وعلى التقديرين الصيغة تحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وأن يكون مبنيا للمفعول والباء للسببية، والمعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها فتعنف به وتطلب منه زيادة في النفقة أو الأجرة وأن تشتغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئرا وما أشبه ذلك، ولا يضار الأب امرأته بسبب ولده بأن يأخذ منها الولد وهي تريد إرضاعه بمثل أجر الأجنبية أو ينقص من أجرها أو يكرهها على إرضاعه مع إمكان ظئر أخرى وهي لا تقدر على إرضاعه وما أشبه ذلك هذا على أنه مبني للفاعل، وإن كان مبنيا للمفعول فالمعنى كذلك مع عكس الترتيب ويحتمل أن يكون معنى لا تضار لا تضر والباء زائدة يعني لا يضر الوالدة ولدها أو الأب ولده بأن يفرط في شأنه وتعهده وإرضاه وبذل النفقة عليه ولا يدفعه الأم إلى الأب، أو يأخذه الأب بعد ما ألفها وذكر الولد بإضافة كل منهما استعطافا لهما.
﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾ عطف على قوله وعلى المولود له وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. واختلفوا في تفسير الوارث ؟ فقال مالك والشافعي : المراد بالوارث هو الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفي يكون أجر رضاعه ونفقته من ماله فإن لم يكن له مال فعلى الأم ولا يجير على نفقة الصبي إلا الوالدان، وقيل : المراد به الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة وهذا القول أيضا يوافق مذهب الشافعي ومالك، ويرد على القول الأول أن إنفاق الصبي من ماله مقدم على إيجاب نفقته على غيره أبا كان أو غيره ولا يجب على الأب إلا إذا فرض أنه ليس للصبي مال فلا يحسن أن يقال على الصبي نفقته مثل ما كان له على أبيه بل الأمر بالعكس وكيف يقال ذلك بعد ما فرض أنه ليس له مال، وعلى القوم الثاني أنه إن كان الباقي الأب فقط أو الأبوين جميعا فالحكم قد سبق أنه ﴿ وعلى المولود له رزقهن ﴾ فلا حاجة إلى التكرار بل هذه الآية تقتضي في صورة بقائهما أن تكون النفقة عليهما وهو ينافي ما سبق وإن كان الباقي الأم فقط فالمعنى على الأم رزق الأم وحينئذ يلزم أن تكون هي مستحقة ومستحقة عليها، وقال أحمد وإسحاق وقتادة وابن أبي ليلى : المراد بالوارث وارث الصبي من الرجال والنساء يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه عصبة كان أو غيره سواء كان الصبي وارثا منه أو لا كما إذا كانت صبية أنثى يرث منها ابن عمها وابن أخيها دون هي منه، وفي رواية عن أحمد لا يحبر إلا من كان ممن يجري التوارث بينهما وبالرواية الأولى لأحمد قال أبو حنيفة وهو الظاهر المتبادر من الآية لا غبار عليه، غير أن أبا حنيفة قيد الوارث بذي رحم محرم فخرج بهذا القيد المعتق وابن العم ونحو ذلك، ووجه التقييد قراءة ابن مسعود وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك فقد ذهب أبو حنيفة على أصله أن قراءة ابن مسعود يجوز به تخصيص الكتاب والزيادة عليه، وقيل : المراد بالوارث العصبة فيجبر عصبات الصبي مثل الجد والأخ وابنه والعم وابنه، قال البغوي : وهو قول عمر بن الخطاب وبه قال إبراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وقيل ليس المراد النفقة بل معناه وعلى الوارث ترك المضارة، قال البغوي به قال الزهري والشعبي، قلت : هذا ليس بسديد لأن وجوب ترك المضارة غير مختص بالوارث وإنما ذكر في الوالدين لدفع توهم المضارة الناشئ مما سبق أيضا كلمة ذلك بحسب الوضع للبعيد وهو وجوب النفقة دون القريب أعني المضارة والله أعلم.
وبهذه الآية قال أبو حنيفة : يجب النفقة على الغني لكل ذي رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا أو كانت امرأة بالغة فقيرة أو كان ذكرا زمنا أو أعمى فقيرا، وإنما قيد بهذه الأمور لأن مورد النص الصغير والصغر من أسباب الاحتياج فيلتحق كل واحد منهم بالصغير بجامع الاحتياج بخلاف الفقير المكتسب فإنه غني بكسبه فلا يلتحق بالصغير ولا يجب نفقته على غيره، ويعتبر قدر الميراث لأن إضافة الحكم إلى المشتق يدل على علية مأخذ الاشتقاق فيكون النفقة على الأم والجد أثلاثا ونفقة الأخ الزمن المعسر على الأخوات المتفرقات الموسرات أخماسا على قدر الميراث. وقال العلماء : المعتبر أهلية الأرث لا إحرازه إذ هو لا يعلم إلا بعد الموت فالمعسر إذا كان له خال وابن عم تكون نفقته على خاله دون ابن عمه ولا يجب النفقة لهم مع اختلاف الدين لبطلان أهلية الأرض وهو العلة للوجوب ولا تجب النفقة على الفقير لأنها تجب صلة وهو يستحقها على غيره فكيف يستحق عليه، وأما ما قال أبو حنيفة : إنه يجب على الرجل أن ينفق على أبويه وأجداده وجدانه إذا كانوا فقراء وإن كان كفارا وإن نفقتهم على الولد فقط لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد وأن نفقتهم على الذكور والإناث على السوية في ظاهر الرواية لا على طريقة الإرث خلافا لأحمد فإنه يقول على الذكر والأنثى أثلاثا وهو رواية عن أي حنيفة، فمبنى قول أبي حنيفة هذا ليست هذه الآية بل قالوا إن نفقتهم لأجل الجزئية دون الإرث قال الله تعالى في الأبوين الكافرين ﴿ وإن جهاداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾ وليس من المعروف أن يموتا جوعا وهو غني وقال عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " رواه عن النبي صلى الله وعليه وسلم جماعة من الصحابة، وروى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أطيب ما أكل الرجل من كسب ولده وإن ولده من كسبه " وحسنه الترمذي، وروى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قال إن لي مالا وإن والدي يحتاج إلى مالي، قال عليه الصلاة والسلام :" أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم كلوا من كسب أولادكم " وكان مقتضى هذه الأحاديث ثبوت الملك للأب في مال الابن لكنه مصروف عن الظاهر بالإجماع وبدلالة آية الميراث ونحو ذلك فمعناه يجوز للوالد التملك عند الحاجة فيجب نفقتهما على الولد لا يشاركهما غيره من الورثة، وإذ لم يثبت النفقة بناء على الإرث لا يعتبر فيه طريقة الإرث، وأما الجد والجدة فلهما حكم الأب والأم قياسا ولهذا يحرز أن ميراث الأب والأمر يتولى في النكاح، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم قال :" كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ولما فسر الشافعي ومالك الوارث بما ذكرنا قال مالك لا يجب للأبوين الأدنيين والأولاد الصلبية دون الأجداد والجدات وأولاد الابن والبنت، وقال الشافعي يجب النفقة للأصول والفروع مطلقا ول يتعدى عمودي النسب، وقال الشافعي : النفقة على الذكور خاصة الجد والابن وابن الابن دون الإناث، وقال مالك النفقة على أولاد الصلب الذكر والأنثى بينهما سواء إذا كانا غنيين فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا فالنفقة على الغني، وا
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ﴾ أي يموتون، والتوفي : أخذ الشيء وافيا بتمامه يعني يتوفون آجالهم حال كونهم ﴿ منكم ويذرون أزواجا يتربصن ﴾ أي ينتظرن الضمير عائد على الأزواج يعني تتربص أزواجهم أو المضاف محذوف في المبتدأ يعني أزواج الذين يتوفون يتربصن بعدهم ﴿ بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا ﴾ أنت العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام، والعرب إذا أبهمت العدد بين الليالي والأيام غلبت عليها الليالي ولا يستعم التذكير في مثله قط حتى أنهم يقولون صمت عشرا وقال الله تعالى :﴿ إن لبثتم إلا عشرا ﴾ ثم قال :﴿ إن لبثم إلا يوما ﴾ والآية تشمل الحوامل وغيرهن ثم نسخ حكمها في الحوامل بقوله تعالى :﴿ وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ﴾ قال ابن مسعود : من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى يعني سورة الطلاق نزلت بعد سورة النساء الطولى يعني سورة البقرة وعليه انعقد الإجماع، عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الأسلمية نفست بضم الفاء أو ولدت بعد زوجها بليال فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنته أن تنكح فأذن لها فنكحت، رواه البخاري وكذا في الصحيحن من حديث سبيعة، ومن حديث أم سلمة ورواه النسائي أنها ولدت بعد وفاة زوجها لنصف شهر وفي رواية البخاري بأربعين ليلة وفي رواية قريبا من عشر ليال، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود فقال بعده بخمس عشرة، وروي عن علي وابن عباس أنها تعتد إلى أبعد الأجلين أخرجه أبو داود في ناسخه عن ابن عباس، وروي عن عمر أنه قال لو وضعت وزوجه على السرير حلت، رواه مالك والشافعي وابن أبي شيبة. مسألة : وعدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمسة أيام إجماعا.
فصل : يجب الإحداد في عدة الوفاة بالإجماع إلا ما حكي عن الحسن والشعبي أنه لا يجب، وفي عدة الطلاق الرجعي لا إحداد بالإجماع، واختلفوا في المعتدة للبائن فقال أبو حنيفة يجب وقال مالك لا يجب وعن الشافعي وأحمد كالمذهبين، ولا إحداد عندنا على الصغيرة فإنها غير مكلفة، ولا على الذمية فإنها غير مخاطبة بالشرائع، وعند مالك والشافعي وأحمد يجب عليهما والإحداد ترك الطيب والزينة من الكحل والحناء ولبس م صبغ لأجل الزينة كالمعصر والمزعفر ونحوهما والحرير والديباج والخضاب وتدهين الرأس والجسد بالدهن المطيب وغير المطيب، وقال الشافعي : لا بأس بتدهين غير الرأس من البدن بدهن لا طيب فيه فإن اضطرت إلى كحل فقد رخص فيه كثير من العلماء، وقال الشافعي : يكتحل ليلا ويمسحه بالنهار وكذا لا بأس في الخضاب ونحوه إن كان بعذر، ولا يجوز للمطلقة الرجعية والبائنة الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا لقوله تعالى :﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ﴾ والمتوفى عنها زوجها تخرج نهارا أو بعض الليل ولا تبيت في غير منزلها، وقال الشافعي يجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج مطلقا، وللبائنة الخروج نهارا، قال عطاء آية الميراث نسخت السكنى فتعتد حيث شاءت ووجوب الإحداد ثبت بحديثة أم حبيبة وزينب بنت جحش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا يجل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " متفق عليه، عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تحد امرأة عل ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا وتلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا ظهرت نبذة من قسط أو أظفار " متفق عليه، وزاد أبو داود " ولا تختضب " وعن أم سلمة قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا، ثم قال :" إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول " متفق عليه، وعن أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت علي صبرا فقال :" ما هذا يا أم سلمة ؟ قلت : إنما هو صبر ليس في طيب فقال :" إنه يشيب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار، ولا تمشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب، قلت : بأي شيء أمتشط يا رسول الله ؟ قال " " بالسدر تغفلين به رأسك " رواه أبو داود والنسائي، وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم :" المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل " رواه أبو داود والنسائي، وعن زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نعم " فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال :" امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا " رواه مالك وابن حبان في صحيحه والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي، ورواه الحاكم من وجهين وقال صحيح الإسناد من الوجهين جميعا ولم يخرجاه، وقال الترمذي حديث صحيح، وقال ابن عبد البر إنه حديث مشهور، واحتجوا بما رواه الدراقطني أنه عليه السلام أمر المتوفي عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت فقال فيه لم يسنده غير أبي مالك الأشجعي وهو ضعيف، وقال ابن القطان ومحبوب بن محرر أيضا ضعيف وعطاء بن السائب مختلط وأبو بكر بن مالك أضعفهم ولذلك أعله الدارقطني، قال أبو حنيفة فإن كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها وأخرجها الورثة من نصيبهم انتقلت لأن هذا الانتقال بعذر والعبادات تؤثر فيها الأعذار فصار كما إذا خافت سقوط المنزل أو كانت فيها بأجر ولا تجد ما يؤديه ولا يخرج عما انتقلت إليه.
﴿ فإذا بلغن أجلهن ﴾ أي انقضت عدتهن ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ أيها الأئمة المسلمون ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ من الزينة و التزويج والخروج ﴿ بالمعروف ﴾ بالوجه الذي لا نكره الشرع ومفهومه أنهن لو فعلن ما ينكر الشرع فعليهم أن يمنعوهن فإن النهي عن المنكر واجب فإن قصروا فيه فعليهم الجناح ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ فيجازيكم على حسب أعمالكم.
﴿ ولا جناح عليكم ﴾ أيها الخطاب ﴿ فيما عرضتهم به من خطبة النساء ﴾ الخطبة الاستنكاح والتعريض من الكلام ما يفهم به السامع مراد المتكلم من غير أن يكون اللفظ موضوعا لمراده حقيقة ولا مجازا، والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه كقولك طويل النجاد لطول القامة وكثير الرماد للضياف، ومن التعريض ما روي أن سكينة بنت خنظلة تأيمت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها وقال يابنت حنظلة أنا من قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي علي وقدمه في الإسلام، فقالت سكينة : أتخطبني وأنا في العدة وأنت يؤخذ عنك، فقال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ع لى أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حصيرا حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده ﴿ أو كننتم في أنفسكم ﴾ أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه صريحا أو تعريضا ﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ بالقلوب ولا تصبرون على السكوت عنهن فأباح لكم التعريض ولا بمؤاخذة على الإضمار، فيه نوع توبيخ على الخطبة ﴿ ولكن لا تواعدوهن سرا ﴾ استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن فاذكروهن في القلوب وعرضوا بالخطبة ﴿ ولكن لا تواعدوهن سرا ﴾ نكاحا صريحا أو جماعا يعبر بالسر عن الوطء لأنه يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه ﴿ إلا أن تقولوا قولا معروفا ﴾ وهو أن يعرضوا ولا يصرحوا، والمستثنى منه محذوف أي لا تواعدوهن مواعدة إلا مواعدة معروفة أو إلا مواعدة بقول معروف. اعلم أن المعتدة من فرقة الرضاع ونحوه والبائنة باللعان والمطلقة ثلاثا ممن لا يحل لزوجها الأول تزويجها فيجوز أيضا تعريضها للأجنبي بالخطبة وإن كانت بائنة فمن يحل لزوجها الأول تزويجها لزوجها خطبتها تعريضا وتصريحا، وهل يجوز للغير تعريضا أم لا ؟ قيل يجوز كالمطلقة ثلاثا لانقطاع حق زوجها الأول، وقيل لا يجوز لأن المعاودة جائزة له وأثر النكاح باق، والأول أظهر ﴿ ولا تعزموا عقدة النكاح ﴾ كناية عن النهي عن عقد النكاح في العدة فإن العزم لازم للعقد وهذا أبلغ في النهي من قوله لا تعقدوا النكاح. وليس فيه دلالة على حرمة العزم فإنه لا مؤاخذة على عزم القلب إجماعا وقد سبق إباحته بقوله تعالى :﴿ علم الله أنكم ستذكرونهن ﴾ الآية، وهذا كمن قال زيد طويل النجاد وكثير الرماد فإنه غير كاذب إن كان زيد طويلا مضيفا وإن لم يكن له نجاد ورماد أصلا، ويمكن أن يكون على الحقيقة ويكون نهيا عن العزم على عقد النكاح في العدة وحينئذ يكون النهي للتنزيه نهي عن العزم بناء على أنه من يحوم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ﴿ حتى يبلغ الكتاب ﴾ العدة، سماها كتابا لكونها فرضا كقوله تعالى :﴿ كتب عليكم ﴾ أي فرض عليكم ﴿ أجله ﴾ منتهاه ﴿ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم ﴾ من العزم هذا يدل على كراهة العزم ﴿ فاحذروه ﴾ ف خافوه ولا تعزموا ﴿ واعلموا أن الله غفور ﴾ لمن عزم ولم يفعل خشية من الله ﴿ حليم ﴾.
ولما كان الطلاق أبغض المباحات ذكر ههنا بلفظ ﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ ﴾ وقرأ حمزة والكسائي لا تماسوهن بالألف ههنا وفي الأحزاب على المفاعلة والمعنى واحد أي لم تجامعوهن ﴿ أو تفرضوا ﴾ يعني إلا أن تفرضوا أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا أي تسموا ﴿ لهن فريضة ﴾ فعيلة بمعنى المفعول والتاء اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فهو منصوب على المفعولية ويحتمل أن يكون منصوبا على المصدرية، والمعنى أنه لا يجب عليكم المهر إن طلقتم قبل المسيس إلا أن تفرضوا فحينئذ يجب نصف المفروض كله بقوله تعالى :﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ وإن لم يفرض يجب مهر المثل إجماعا ﴿ ومتعوهن ﴾ عطف على مقدر فطلقوهن ومتعوهن أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به وهذه المعتة واجدبة عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد يعني إذا طلق قبل المسيس ولم يفرض لها مهر، وقال مالك : لا يجب بل هي مستحبة والأمر للندب قلنا كلمته حقا وكلمة على في قوله تعالى :﴿ حقا على المحسنين ﴾ ينفي الاستحباب والأصل في الأمر الوجوب.
واختلفوا في مقدار الواجب ؟ فقال أبو حنيفة : ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة من كسوة مثلها يعتبر بحالها لقيامها مقام مهر المثل لا يجاوز نصف مهر المثل ولا ينقص من خمسة دراهم وهو قول الكرخي، والصحيح أنه يعتبر حاله لقوله تعالى :﴿ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ﴾ قال ابن همام : وهذا التقدير مروي عن عائشة وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والشعبي، وقال البغوي : روي عن ابن عباس أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب ودرع وخمار وإزر ودون ذلك وقاية أو شيء من ورق، وقال الشافعي في أصح قوليه وأحمد في رواية : أنه مفوض إلى اجتهاد الحاكم، وعن الشافعي أ نه مقدر بما يقع عليه اسم المال قل أو جل والمستحب عنده أن لا ينقص عن ثلاثين درهما، وفي رواية عن أحمد أنها مقدرة بكسوة يجوز فيها صلاتها وذلك ثوبان درع وخمار، قال البغوي : طلق عبد الرحمن بن عوف امرأة ومتعها جارية سوداء ومتع الحسن بن علي امرأة بعشرة آلاف درهم ﴿ متاعا ﴾ نصب على المصدر ﴿ بالمعروف ﴾ بالوجه الذي يستحسنه الشرع لا بإكراه من الحاكم ﴿ حقا ﴾ أي حق حقا ﴿ على المحسنين ﴾.
﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ أي الواجب نصف ما فرضتم لهن ولا يجب المعتة زائد على نصف المهر في هذه الصورة عند الجمهور إلا ما روي عن الحسن وسعيد بن جبير أن لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس أو بعد الفرض قبل المسيس لقوله تعالى :﴿ وللمطلقات متاع ﴾ ولقوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ﴾ وهن يشملن المفوضات وغير المفوضات، وللجمهور أن يقولوا المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر فإن المهر في مقابلة البضع والبضع عادت إليها سالما فلم يجب نصف المهر إلا على سبيل المتعة ﴿ إلا أن يعفون ﴾ أي المطلقات، أي يتركن النصف فيعود جميع الصداق إلى الزوج ﴿ أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح ﴾ أي الزوج المالك لعقده وحله بترك ما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها كاملا، والتفسير ﴿ الذي بيده عقدة النكاح ﴾ بالزوج أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا وأخرجه البيهقي في سننه عن علي وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي وشريح ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة والجديد والراجح من مذهب الشافعي، وتسميتها عفوا إما على المشاكلة وإما لأنهم كانوا يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج فمن طلق قبل المسيس استحق استراداد النصف فإذا لم يستردها فقد عفا عنها، وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو أخرجه البيهقي في سننه، وقيل المراد ب﴿ الذي بيده عقدة النكاح ﴾ هو الولي أخرجه البيهقي عن ابن عباس وهو مذهب مالك و القول القديم للشافعي وعن أحمد روايتان كالولين فمعنى الآية عندهم إلا أن تعفو المرأة بترك نصف المهر إلى الزوج إن كانت ثيبا من أهل العفو أو يعفو وليها إن كانت المرأة بكرا أو غير جائزة الأمر فيجوز عفو وليها وهو قول علقمة وعطاء والحسن والزهري وربيعة، لنا أن المهر خالص حقها فلا يجوز لغيرها التصرف فيها ومن ثم لا يجوز للولي أن يهب شيئا من مال الصغير ولا يجوز له هبة مهرها قبل الطلاق إجماعا فلا يجوز تأويل الآية إلا على ما قلنا ﴿ وأن تعفوا ﴾ موضع رفع بالابتداء يعني عفو بعضكم عن بعض ﴿ أقرب للتقوى ﴾ أي إلى التقوى والخطاب للرجال والنساء جميعا لأن المذكر يغلب على المؤنث ﴿ ولا تنسوا الفضل بينكم ﴾ أي لا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض فإن المعطي أفضل من المعطى له ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾.
لما طال الكلام في أحكام الأزواج والأولاد نبه الله سبحانه على أن الاشتغال بشأنهم لا يلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة التي هي عماد الدين ومكفرة الذنوب وصداء القلوب فقال :
﴿ حافظوا على الصلوات ﴾ بالأداء لأوقاتها والمداومة عليها وإتمام أركانها وصفاتها أجمعت الأمة على أنها فريضة قطعية يكفر جاحدها، وأما تارك الصلاة عمدا فقال أحمد يكفر، وقال مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد أنه لا يكفر لكن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال أبو حنيفة : لا يقتل لكن يحبس أبدا حتى يموت أو يتوب. وجه رواية أحمد حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " رواه مسلم، وحديث بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" العهد الذي بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر " رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، وحديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال :" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان أبي بن خلف " رواه أحمد، والجمهور يؤولون هذه الأحاديث بناء على عطف إقامة الصلاة على الإيمان، وحاصل هذه الأحاديث أن أمر الصلاة أشد من سائر الأحكام والعبادات فمن تركها فكأن كفر أو المعنى أنه من تركها استخفافا فقد كفر والله أعلم. وفي فضائل الصلاة أحاديث كثيرة جدا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا لا يبقى من دون شيء قال :" فذلك مثل الصلوت الخمس يمحو الله بهن الخطايا " متفق عليه، وعن عبادة ابن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على اللله عهدا أن يغفر له ومن لم يفعل فليس على الله عهدا إن شاء غفر له وإن شاء عذبه " رواه أحمد وبو داود وروى مالك والنسائي نحوه وهذا حديث حجة للجمهور على أن تارك الصلاة لا يكفر والله أعلم.
﴿ والصلاة الوسطى ﴾ عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام، الوسطى تأنيث الأوسط. قال البغوي اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى، فقال قوم هي صلاة الفجر وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد وإليه ذهب مالك والشافعي، وذهب قول إلى أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة لأنها في وسط النهار وهي أوسط صلوات النهار، والحجة لهم ما رواه البخاري في تاريخه وأحمد وأبو داود والبيهقي وابن جرير عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فنزلت ﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهاجرة فلا يكون إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات ﴾ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لينتهين رجال أو لأخرقن بيوتهم " قلنا : هذين الحديثين لا يدلان أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر { فإن ﴿ حافظوا على الصلوات ﴾ يشتمل الظهر، وقال الأكثرون وهو أرجح الأقوال أنها صلاة العصر رواه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول علي وابن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وقتادة والحسن وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب :" ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس " متفق عليه، وفي رواية لمسلم " " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " رواه مسلم، وحديث أبي يونس مولى عائشة قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فلما بلغتها آدنت فأملت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم، وحديث البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية : حافظوا على الصلوات والصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله عز وجل ثم نسخها فنزلت :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ﴾ وصلاة العصر رواه مسلم، وأخرج مالك وغيره عن عمرو بن رافع كنت أكب مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأملت عني : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر، وأخرج أبو داود عن عبد بن رافع قال : كتبت مصحفا لأم سلمة فقالت : اكتب حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر، وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه قرأ كذلك وأخرج أبو داود عن أبي رافع مولى حفصة قال كتبت مصحفا فقالت اكتب : حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر فلقيت أبي بن كعب فأخبرته فقال هو كما قالت :" أو ليس أشغل ما يكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا " وأصحاب الشافعي جعلوا أحاديث عائشة وحفصة وغيرهما حجة لهم قالوا عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى دليل على المغايرة، قلنا بل هو عطف تفسيري، وروى البغوي في تفسيره حديث عائشة بلفظ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، بغير الواو والله أعلم. وقال قبيصة ابن ذؤيب هي صلاة المغرب لأنها وسط ليست بأقلها يعني ثنائيا ولا بأكثرها يعني رباعيا ولم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء وذكر بعض المتأخرين أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، وقال بعضهم : هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها أبهمها الله تحريضا للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم، والظاهر من كلام الأكثر أن تخصيص صلاة الوسطى بعد التعميم لمزية لها على غيرها من الصلوات، وعندي ليس كذلك بل زيادة التأكيد والاهتمام فيها لأجل أن وقت صلاة العصر وقت المشاغل بالسوق فروعي فيها زيادة التأكيد والاهتمام كيلا يفوت تلك الصلاة أو يتأدى على وجه الكراهة بلا جماعة أو في وقت مكروه فعلى هذا أس صلاة من الصلوات يكون فيها مانع عن إتيانها على وجه السنة لا بد فيها زيادة التعاهد والاهتمام كصلاة الصبح والعشاء في الشتاء والظهر والصيف والعصر لأهل السوق إن كان رواج سوقهم في ذلك الوقت والمغرب لأهل المواشي ونحو ذلك والله أعلم.
﴿ وقوموا لله قاتنتين ﴾ المراد بالقنوت السكوت عن كلام الناس لحديث زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة ويكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الأئمة الخمسة وغيرهم، وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا يتكلمون في الصلاة وكان الرجل يأمر أخاه بالحاجة فأنزل الله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ وقال مجاهد المراد بالقنوت الخشوع قال ومن القنوت طول الركوع وغض البصر والركود وخفض الجناح كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصا أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا، وقيل : المراد بالقنوت طول القيام لما رواه الترمذي عن جابر قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أي الصلاة أفضل ؟ قال :" طول القنوت " وهذا القول ضعيف لأن الأصل في الأمر الوجوب وطول القيام ليس بواجب، وقال أصحاب الشافعي : المراد بالقنوت دعاء القنوت لما روي عن ابن عباس قال قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا يدعوا على أحياء من سليم ورعل وذكوان وعصية، وهذا القول ضعيف أيضا فإن سياق الآية يدل على عموم القنوت في الصلوات كلها لا يختص بشهر دون شهر ولا بصلاة دون صلاة، وقد صح أ ن قنوت الفجر بدعة عن أبي مالك الأشجعي قال قلت لأبي يا أبت قد صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وعثمان وعلي ههنا بالكوفة قريبا من خمس سنين أكانوا يقنتون ؟ فقال : أي بني بدعة رواه أحمد، وفي لفظ صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقنت وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت وصليت خلف عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان وصليت خلف علي فلم يقنت ثم قال : أي بني بدعة واسم أبي مالك سعد بن طارق بن الأسلم، قال البخاري طارق بن الأسلم له صحبة وإسناد هذا الحديث صحيح وفي نفي قنوت الفجر تسعة أحاديث، وما رووه في قنوت الفجر إما ضعيف وإما محمول على قنوت النوازل والكلام طويل لا يسعه المقام، وقال الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاووس القنوت الطاعة قال الله تعالى :﴿ أمة قانتا ﴾ أي مطيعا، قال الكلبي ومقاتل : لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم في صلاتكم قانتين أي مطيعين، وقيل معناه مصلين كقوله تعالى :﴿ أمن هو قانت آناء الليل ﴾ أي مصل، وقيل : القنوت الذكر أي الذاكرين له تعالى في القيام، والأظهر هو المعنى الأول فإن حديث زيد بن أرقم أصرح في المراد وأصح بخلاف غير ذلك فإنها احتملات لا يصادم المسموع.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ رجالا : جمع راجل مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام وركبان جمع راكب، واستدل الشافعي وأحمد بهذه الآية على جواز الصلاة حال المسابقة، واحتج ابن الجوزي بما رواه البخاري عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال وإن كان الخوف أشد من ذلك صلوا رجالا وقياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة : لا تجوز الصلاة حال المشي والمسابقة وليس في الآية دليل على جواز الصلاة حال المسابقة فإنه ليس معنى الراجل الماشي بل الراجل القائم على الرجلين وكذا في الحديث رجالا وقياما عطف تفسيري لا يدل على جواز الصلاة ماشيا على أن كونه مرفوعا زعم من نافع ليس في صريح الرفع. فإن قيل : قد جوز في صلاة الخوف الذهاب والمجيء إجماعا كما سنذكر في سورة النساء إن شاء الله تعالى فلتجز الصلاة حالة المشي أيضا ؟ قلنا : ما ثبت شرعا مما لا مدخل للرأي فيه لا يتعداه على أن المشي في أثناء الصلاة كالمشي لأجل الوضوء للذي أحدث في الصلاة أهو من الصلاة ماشيا فلا يلحق الأعلى بالأدنى. مسألة : بناء على هذه الآية أجمعوا على أنه إذا اشتد الخوف صلوا ركبانا يؤمنون بالركوع و السجود إلى أي جهة كان إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة، لكن قال أبو حنيفة لا يجوز إلى فرادى، وعن محمد أنهم يصلون بجماعة، قال في الهداية : وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان.
مسألة : لا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند الأئمة الأربعة والجمهور، وروى مسلم عن مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد وقتادة وسنذكر مسائل صلاة الخوف في سورة النساء إن شاء الله تعالى ﴿ فإذا أمنتم ﴾ وزال خوفكم ﴿ فاذكروا الله ﴾ صلوا الصلاة تامة بشرائطها وأركانها وآدابها ﴿ كما ﴾ ذكرا مثلما ﴿ علمكم ﴾ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وما مصدرية أو موصولة ﴿ ما لم تكونوا تعلمون ﴾ مفعول ثان لعلَّم.
﴿ والذين يتوفون منكم ﴾ يا معشر الرجال ﴿ ويذرون ﴾ يتركون ﴿ أزواجا ﴾ أي زوجات ﴿ وصية لأزواجهم ﴾ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص وصية بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرأ الباقون بالرفع أي كتب عليكم وصية ويؤيده قراءة كتب عليكم وصية لأزواجكم أو المعنى حكمهم وصية ﴿ متاعا ﴾ نصب على المصدر أي متعوهن متاعا أو و مفعول لمضمر أي ليوصوا متاعا، أو لوصية أي ليوصوا وصية متاعا يعني ما يتمتعن به من النفقة والكسوة من موتهم ﴿ إلى الحول غير إخراج ﴾ بدل منه أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات أو منصوب بنزع الخافض أي من غير إخراج، والمعنى أنه يجب على المحتضرين أن يوصوا لأزواجهم بأن يتمتعن من أ موالهم بالنفقة والكسوة إلى تمام الحول فكان ذلك الوصية للزوجات واجبا على الأزواج بهذه الآية كما كانت الوصية للوالدين والأقربين واجب بقوله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ﴾ ثم نسخ هذا الحكم كما نسخ ذلك والناسخ لهذا ما هو ناسخ لذلك أعني آية الميراث وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا وصية لوارث " أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سقطت النفقة بتوريثها الربع والثمن، وما ذكرنا من البحث والتحقيق في تفسير قوله تعالى :﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ﴾ الآية جار ههنا أيضا فلم نعده، وكانت النساء يحدون في الجاهلية وكذا في بدء الإسلام بعد الوفاة حولا كاملا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة :" قد كانت أحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول " متفق عليه، قيل ثم نسخت المدة بقوله تعالى :﴿ أربعة أشهر وعشرا ﴾ فتلك الآية وإن كانت مقدمة على هذه الآية في التلاوة لكنها متأخرة عنها في النزول، أخرج الشيخان عن عثمان بن عفان أنه نسخت المدة بقوله تعالى :﴿ أربعة أشهر وعشرا ﴾، وقال البغوي نزلت الآية في رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته وما فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط ارأته شيئا وأمره أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا، وكذا أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حبان أن رجلا من أهل الطائف قدم المدينة الحديث. قلت : لكن سياق الآية ينافي هذا الحديث لأن الآية تفتضي وجوب الوصية والحديث يقتضي وجوب نفقتها من تركة زوجها من غير وصية ولعله مات بعد نزول الآية وأوصى بالإنفاق حولا على حسب تلك الآية فعلم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، وأيضا هذا الحديث يقتضي نزول هذه الآية بعد قوله تعالى :﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ وقبل قوله تعالى :﴿ ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لهن ولد ﴾ الآية، والله أعلم.
﴿ فإن خرجن ﴾ يعني الأزواج قبل الحول من غير إخراج الورثة ﴿ فلا جناح عليكم ﴾ أيها الأئمة ﴿ فيما فعلن في أنفسهن ﴾ من ترك الحداد والتزيين والتزويج ﴿ من معروف ﴾ مما لم ينكره الشرع فليس علكم منعهن قال البغوي الخطاب إلى أولياء الميت ولدفع الجناح وجهان أحدهما ما ذكره وثانيهما لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول، قلت : هذا التأويل لا يصاعده عبارة النص لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يقال فيما فعلتم يعني من ترك النفقة ولم يتبع فيما فعلن والله أعلم، وهذه الآية تدل على أن الاعتداد والإحداد إلى تمام الحول لم يكن و اجبا عليهن وإنما يفعلن ذلك على رسم الجاهلية تأسفا على فراق الميت فأوجب الله تعالى الوصية لهن بالنفقات على سبيل المروءة ما دمن يتأسفن على فراقه ولم يخرجن من منزله فما أنزل الله تعالى في عدة الوفاة ﴿ أربعة أشهر وعشرا ﴾ حكم جديد ليس يناسخ لحكم آخر سابق عليه و الله أعلم ﴿ والله عزيز ﴾ ينتقم من خالف حكمه ﴿ حكيم ﴾ يحكم على حسب المروءة ورعاية المصالح.
﴿ و ﴾ يجب ﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف ﴾ يعني على الموسع قدره وعلى المقتر قدره حق ذلك ﴿ حقا على المتقين ﴾ عن الشرك، قيل المراد بمتاع في هذه الآية نفقة أيام العدة كما هو المراد فيما سبق من قوله تعالى :﴿ وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ﴾ بجامع أن المرأة في كلام الصورتين الموت و الطلاق محبوسة لحقوق الزوج فيجب الإنفاق في ما له وهذا الحكم وهو وجوب الإنفاق في عدة الطلاق مجمع عليه إن كان الطلاق رجعيا، وأما إذا كان الطلاق بائنا فكذلك الحكم عند أبي حنيفة رحمه الله لعموم اللفظ في هذه الآية ولقوله تعالى :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ﴾١ فإنه في قراءة ابن مسعود بلفظ " أسكنوهن من حيث سكنتم فأنفقوا عليهن من وجدكم } ولحديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة " رواه الدارقطني. فإن قيل قال ابن الجوزي فيه الحرث بن أبي العالية قال يحيى بن معين هو ضعيف، قلنا : قال الذهبي حرث بن أبي العالية أبو معاذ شيخ لعبد الله القواريري ضعف بلا حجة، ولجامع معنى الاحتباس لحقول الزوج وهو ظهور براءة الرحم أو المروءة في معاملة الإحداد والتأسف على فراقه ولم ننسخ الإنفاق على المتوى عنها زوجها بالكلية بل وجب لها الميراث عوضا عن الإنفاق فكأنه لم ينسخ، وقال مالك والشافعي : لا يجب لها النفقة لكن يجب لها السكنى وهو رواية عن أحمد، وعند أحمد لا سكنى لها ولا نفقة. احتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله الشعير فسخطته فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال :" ليس لك نفقة " فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحاب اعتدي عند أم مكتوم " رواه مسلم، وفي رواية أن زوجها طلقها ثلاثا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا " وروى أحمد عن ابن عباس قال : حدثنتني فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة وفي سند هذا الحديث حجاج بن أرطأة، وروى أحمد عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنما النفقة والسكنى للمرأة إن كانت له عليها رجعة فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى " فبهذا الحديث قال أحمد لا سكنى لها، وأما الشافع ومن معه فأوجبوا السكنى بقوله تعالى :﴿ أسكنوهن ﴾ فكأنهم تركوا العمل بهذا الحديث من وجه. ولنا في الجواب أن حديث فاطمة بنت قيس مخالف للكتاب فهو متروك وقد ترك العمل به عمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة، وروى الترمذي بسنده عن مغيرة : عن الشعبي قال قالت : فاطمة بنت قيس طلقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسم :" لا سكنى لك ولا نفقة " قال مغيرة : فذكرته لإبراهيم فقال : قال عمر لا ندع كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت وكان عمر يجعل لها سكنى، قال ابن الجوزي إن إبراهيم لم يدرك وقد رواه جماعة أن عمر قال لا نذر كتاب الله ولم يقل ينة نبيه وهو أصح ثم لا يقبل قول الصحابي إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضده، قلنا : إن لم يدرك إبراهيم عمر فهو مرسل والمرسل عندنا حجة، وإذا ثبت قول عمر سنة نبينا فهو رواية رفعه، ولو سلمنا فما اعترف به ابن الجوزي من صحة قول عمر لا نذر كتاب الله يكفينا للمدعى فإن قول عمر هذا يدل على صحة قراءة ابن مسعود ﴿ فأنفقوا عليهن من وجدكم ﴾ فثبت به المدعى، وقيل في تأويل الآية المراد بمتاع بالعروف هو المتعة غير النفقة وهي ثلاثة أثواب كما في المطلقة غير الممسوسة، وعلى هذا التأويل اللام في للمطلقات للعهد الخارجي عند أبي حنيفة رحمه الله يدل عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال لما نزلت :﴿ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ﴾٢ قال رجل إن أحسنت فعلت وإن لم أر ذلك لم أفعل فأنزل الله ﴿ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ﴾ فعلى هذا إنما يثبت المتعة إلا للمطلقة قبل المسيس وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. فإن قيل لو كان التأويل هكذا فما وجه قول أبي حنيفة بأن المتعة يستحب إعطاؤها للمطلقة بعد المسيس فرض المهر أولا ؟ قلنا : استحباب المتعة للمطلقة بعد المسيس لا يثبت بهذه الآية بل بقوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ فتعالين أمتعكن وأسرحهن سراحا جميلا ﴾٣ والله أعلم، وقال الشافعي : اللام للاستغراق ومن ثم يجب المتعة عنده لكل مطلقة إلا التي طلقت قبل المسيس بعد فرض المهر، قلت : لو كن التأويل هكذا فلا وجه لاسثناء المطلقة التي طلقت قبل المسيس إلا أن يقال وجهه الاسثناء أن يقال إن المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر كما ذكرنا من قبل وحينئذ نقول إن ما ذكر الشافعي من التأويل هو أحد الاحتمالات المذكورة كما سمعت فوقع الشك في وجوب المتعة لكل مطلقة ولا يثبت الوجوب بالشك فقلنا بالاستحبابب عملا على أحد الاحتمالات والله أعلم
١ سورة الطلاق، الآية: ٦.
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٣٦.
٣ سورة الأحزاب، الآية: ٢٨.
﴿ كذلك ﴾ إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق والعدة ﴿ يبين الله لكم آياته ﴾ وعد بأنه سيبين لعباده من الدلائل والأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي تفهمون وتستعملون العقل فيها.
﴿ ألم تر ﴾ تعجيب وتشويق لاستماع ما بعده فصار مثلا في التعجيب ويخاطب به من لم ير ولم يسمع قبل، أو هو تقرير لمن سمع قصتهم من أهل الكتاب وأرباب التواريخ أو المعنى ألم تعلم بإعلامي إياك وفيه أيضا تعجيب وهكذا التأويل في كل ما ورد في القرآن لفظ ﴿ ألم تر ﴾ ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ﴾ قال عطاء الخراساني ثلاثة آلاف كذا أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس وقيل ثمانية آلاف وقال السدي لضعة وثلاثين ألفا وقال ابن جريج أربعين ألفا، وأخرج ابن جرير من طريق منقطع عن ابن عباس أربعون ألفا وثمانية آلاف وقال عطاء بن رباح سبعين ألفا، وقيل المراد به وهم مؤتلفة قلوبهم من الألفة ﴿ حذر الموت ﴾ مفعول له، قال البغوي : إن أهل داوَرُدان قرية قبل واسط وقع بها طاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا أصحابنا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا لبقينا ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن إلى أرض لا وباء بها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديا أفيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا كذا أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وروى أحمد والبخاري ومسلم والنسائي عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها وأنتم فرارا منه " وروى البغوي بسنده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام فلما جاء سَرَغَ بلغه أن الوباء قد بلغ بالشام فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا سمعتم بأرض " الحديث فرجع عمر من سرغ، وقال الكلبي ومقاتل والضحاك : وإنما فروا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلوا وقالوا لملكهم إن الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا تأتيها حتى ينقطع الوباء فأرسل الله عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية من أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك ﴿ فقال لهم الله ﴾ عقوبة لهم ﴿ موتوا ﴾ أمر تحويل فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركهم فيها، فأتت على ذلك مدة قيل ثمانية أيام وقيل حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم ﴿ ثم أحياهم ﴾ الله تعالى عطف على محذوف يدل عليه قوله موتوا يعني فماتوا، أخرج ابن جرير من طريق السدي عن أبي مالك أنه مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فتعجب من ذلك، فأوحى الله إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فقاموا وحزقيل بن يوزي كان ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، قال الحسن ومقاتل هو ذو الكفل سمي به لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل وقال مقاتل والكلبي هم كانوا قوم حزقيل، فلما أصابهم ذلك خرج حزقيل ف طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيدا لا قوم لي فأوحى الله إليه أني جعلت حياتهم إليك فقال أحيوا بإذن الله فعاشوا، قال مجاهد : إنهم قالواا حين أحيوا سبحانك ربنا ونحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا إلا عاد وسما مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم، قال ابن عباس فإنها ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، قال قتادة : مقتهم الله على فرارهم من الموت فأماتهم عقوبة ثم بعثهم ليستوفوا آجالهم ولو جاءت آجالهم ما بعثوا ﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾ حيث أحياهم ليعتبروا أو يفوزوا وقص عليكم حالهم لتستبصروا، والمراد به فضل الله على الناس كافة يعني في الدنيا بقرينة قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ يعني الكفار ﴿ لا يشكرون ﴾.
ذكر الله تعالى هذه القصة حثا للمؤمنين على التوكل والاستسلام للقضاء وتشجيعا على الجهاد فكأنه تهميد لقوله تعالى :﴿ وقاتلوا في سبيل الله ﴾ إذ الفرار عن الموت لا يفيد والمقدر واقع لا محالة فالأولى القتال في سبيل الله إذ لو جاء أجلهم ففي سبيل الله وإلا فالنصر والثواب ﴿ واعلموا أن الله سميع ﴾ لما يقوله المتخلف والسابق ﴿ عليم ﴾ بما يضمرانه والله أعلم.
روى البخاري في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال : لما نزلت قوله تعالى :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ﴾ الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رب زد أمتي " فأنزل الله تعالى ﴿ من ذا الذي ﴾ من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبره والذي صفة ذا أو بدله ﴿ يقرض الله ﴾ القرض في اللغة القطع سمي به ما يعطي من ماله شيئا لآخر ليرجع إليه مثله لأن فيه قطع من ماله، والمراد ههنا بالقرض إما حقيقته فيكون في الكلام تجوز بتقدير المضاف أي يقرض عباد الله كمما جاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا " إن الله يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. قال : يار كيف أطعمك وأن رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي " الحديث رواه مسلم، وفي فضيلة القرض أحاديث منها حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كل قرض صدقة " رواه الطبراني بسند حسن، والبيهقي وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة إلا كان كصدقته مرتين " رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وإما مجازه وهو تقديم عمل صالح يطلب به ثوابه ويدل عليه ما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول ﴿ قرضا حسنا ﴾ منصوب على المفعولية، أي مقرضا حلالا طيبا أوعلى المصدرية أي قرضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس وأخرج ابن حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله ﴿ فيضاعفه له ﴾ يعني يضاعف الله جزاءه قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب فيُضَعِّفُهُ وبابه بالتشديد حيث وقع ووافقهم أبو عمر وفي سورة الأحزاب، والتشديد للتكثير وقرأ الباقون بالألف على المفاعلة للمبالغة، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بالنصب وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام بإضمار أن والباقون بالرفع عطفا على يقرض، فههنا أربع قراءات قرأ ابن كثير وأبو جعفر فيضعفه بالرفع وابن عامر ويعقوب بالنصب وعاصم فيُضَاعِفُه بالنصب والباقون بالرفع ﴿ أضعافا ﴾ جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب أو على المفعول الثاني لتضمن المضاعفة معنى التصيير أو على المصدر على أن الضعف اسم المصدر وجمعه للتنويع ﴿ كثيرة ﴾ قال السدي هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله وقيل الواحد بسبع مائة والأول أصح لما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول ﴿ والله يقبض وبصط ﴾ قرأ أبو عمرو وقنبل وحفص وهشام وحمزة بخلاف عن خلاد ويبسط ههنا وبسطة في الأعراف بالسين والباقون بالصاد، أي يقبض الرزق لمن يشاء ويبسط لمن يشاء فلا تبخلوا في التصدق كيلا يبدل حالكم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " متفق عليه، وقيل هذا في القلوب لما أمرهم الله بالصدقة أخبرهم بأنهم لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه يعني يقبض بعض القلوب فلا ينشط للخير ويبسط بعضها فيقدم لنسفه خيرا. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبطست عنه وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها " متفق عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " وقيل : يقبض الصدقات ويبسط في الجزاء والثواب، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب –ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها ما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل " متفق عليه، وقيل الله يقبض الأرواح و﴿ الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامنها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ﴾ ﴿ وإليه ترجعون ﴾ بعد الموت فيجازيكم على ما قدمتم من أعمالكم، قال قتادة : الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أي إلى التراب ترجعون.
﴿ ألم تر إلى الملأ ﴾ هي الجماعة من وجوه الناس وأشرافهم يجتمعون للتشاور لا واحد له من لفظه كالقوم وجمعه أملاء ﴿ من بني إسرائيل من بعد ﴾ موت ﴿ موسى إذ قالوا لنبي لهم ﴾ قال قتادة هو يوشع بن نون، وقال السدي : شمعون والأكثر أنه أشموئيل، قال وهب : وابن أبي إسحاق والكلبي وغيرهم : أنه لما مات موسى خلف في بني إسرائيل يوشع فمات فخلف فيهم كالب فمات فخلف حزقيل، فلما مات وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونوسا عهد الله حتى عبدوا الأوثان بعث الله تعالى إلياس بتجديد ما نسوا من التوراة ثم خلف اليسع فمات وخلفت فيهم خلوف وعظمت الخطايا وظهر عليهم عدوهم العمالقة قوم جالوت ساكنوا ساحل البحرين مصر وفلسطين غلبوا على أرضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما وضربو عليهم الجزية وأخذوا ترواتهم ولقي بني إسرائيل منهم شدة ولم يكن نبي يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة لم يبق منهم إلا امرأة حبلى فولت غلاما فسمته أشموئيل فأسلمته لتعلم التوراة في بيت المقدس و كفله شيخ من علمائهم، فلما بلغ الغلام أتاه جبرائيل وهو نائم عند الشيخ فدعاه جبرائيل بلحن الشيخ يا أشموئيل، فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال يا أبتاه دعوتني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بني ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتني قال إن دعوتك ثالثا فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبرئيل وقال اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك نبيا فكذبوه وقالوا إن كنت صادقا ﴿ ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ﴾ جزم على جواب الأمر وكان قوام أمرهم بالملوك وهم كانوا يطيعون الأنبياء ﴿ قال ﴾ لهم أشموئيل ﴿ هل عسيتم ﴾ قرأ نافع ههنا وفي سورة القتال عسِيْتُم بكسر السين في كل القرآن والباقون بالفتح أدخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو متوقع عنده تقريرا وتشبيتا ﴿ إن كتب عليكم القتال ﴾ شرط وقع بين الجملة الجزائية ﴿ ألا تقاتلوا ﴾ خبر عسى والمعنى إن كتب عليكم القتال أتوقع أن لا يقاتلوا مع ذلك الملك ﴿ قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ﴾ قال الأخفش : أن ههنا زائدة ومعناه وما لنا لا نقاتل، وقال الكسائي : معناه ما يمنعنا أن نقاتل، والصحيح أن مالك لا تفعل ومالك أن لا تفعل لغتان صحيحتان ﴿ وقد أخرجنا ﴾ يعني قد أخرج من أسر منا ﴿ من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ﴾ وهم الذين جاوزوا النهر كما سيجئ ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ وعيد على ترك الجهاد.
فسأل أشموئيل ربه أن يبعث لهم ملكا فأتي بعصا وقرن فيه دهن القدس فمن كان طوله طول هذا العصا ونش الدهن الذي في القرن إذا دخل فدهن به رأسه وملِّكه على بني إسرائيل، فبينا طالوت إذ أظل حمره وخرج في طلبه وكان دبّاغا أو سقاء دخل بين أشموئيل ليسأله عن الحمر إذ نش الدهن فقام أشموئيل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فدهّن رأسه وملَّكه.
﴿ وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه ﴾ ] ولما كان من بني إسرائيل سبط لاوى بن يعقوب وسبط المملكة سبط يهودا وكان طالوت من سبط بنيامين وكان رجلا فقيرا [ ﴿ سكينة من ﴾ ] من أين ﴿ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ فإنا من سبط المملكة والواو للحال ﴿ ولم يؤت سعة من المال ﴾ ونحن أغنياء ﴿ قال ﴾ نبيهم ﴿ إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم ﴾ قال الكلبي : كان أعلم الناس بالحرب ﴿ والجسم ﴾ وكان طالوت أجمل من بني إسرائيل وأطولهم يمد رجل يده حتى يبلغ رأسه، وقيل أتاه الوحي حين أوتي الملك قلت ولما أحسن الله الثناء على طالوت بالاصطفاء وبسطة العلم، والظاهر أن المراد بالعلم علم الشرائع فإنه به يصلح أمور الدين والدنيا ظهر أن ما يذكرون في قصة طالوت أنه حسد داود عليه السلام في آخر الأمر وأراد قتله فهرب داود وطعن علماء بني إسرائيل طالوت طالوت فقتل طالوت كل عالم منهم إلى آخر القصة باطل لا أصل له ولذا لم أكثره ﴿ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه ﴿ عليم ﴾ بمن يليق بالملك، رد الله تعالى استبعادهم ملكه أولا بأن السبب الحقيقي للتملك إيتاء الله واصطافؤه وذا لا يتوقف على سبق قابلية من جهة النسب أو الحسب أو غير ذلك، وثانيا بأن السبب الظاهري لصلاية التملك وإصلاح أمور الناس العلم والقدرة على العمل على وفق العلم بالقوة والجسامة في البدن دون كثرة المال فإن المال غاد ورايح لا عبرة لوجوده وفقده، وثالثا بأنه لا يجوز الاستبعاد بعد ما قضى الله ورسوله فإنه تعالى أعلم بالمصالح منكم.
﴿ وقال لهم نبيهم ﴾ لما طلبوا منه آية على اصطفائه ﴿ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ﴾ فعلوت من التوب أي الرجوع فإنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، قيل أريد به الصندوق كان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين أخرجه ابن المنذر عن وهب ابن منبه، فقيل : إن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء فكان عند آدم ثم كان عند شيث وتوارثه الأنبياء حتى وصل إلى موسى فكان موسى يضع فيه التوراة وشيئا من متاعه فإذا مات موسى تداولته أنبياء بني إسرائيل، وقيل : كان صندوقا للتوراة فكانوا إذا حضر القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فإذا سار التابوت ساروا وإذا وقف وقفوا ﴿ فيه ﴾ أي في إتيان ﴿ سكينة من ربكم ﴾ يعني تسكن به قلوبكم فلا تشكوا في ملك طالوت أو الضمير راجع إلى التابوت يعني سودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة، أو المعنى فيه خاصية أن تسكن قلوبكم بحضوره. أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، قلت : ولا شك أن يذكر الله تعالى ورؤية آثار الصالحين من الأنبياء وأتباعهم تطمئن القلوب وتذهب عنها وساوس الشيطان وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن أبي صالح عن ابن عباس أن السكينة هي صورة كانت في التابوت من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبه وله جناحان فتان فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه وإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر كذا ذكر البغوي عن مجاهد، وعن علي رضي الله عنه أنه ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، وأخرج الطبراني عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : السكنية ريح خجوج والله أعلم، وعن ابن عباس هي طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ﴿ وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ﴾ يعني أنفسهما ولفظ الآل مقحم لتفخيم شأنهما أو المراد من آل هما أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما، قيل : كان فيه لوحان من التوراة ورصاص الألواح التي تكسرت وعصا موسى ونعلاه وعمامة هارون وعصاة وقفيز من المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وكان ذلك التابوت قد فقده بنو إسرائيل حين عصوا الله وأحدثوا في القربان وخبثوا في القدس فقيل رفعه الله إلى السماء وقيل غلب عليه العدو وذلك أنه كان مشوط القربان الذي كانوا يشوطونه به كلابين فما جاءه كان للكاهن الذي يشوطه فلما صار عيلى الذي ربى أشموئيل صحب قربانهم جعل أبناه كلاليب، وكان النساء يصلين في القدس فكانا يتشبثان بهن، فقال الله تعالى لعيلى على لسان أشموئيل منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك أن يحدثا في قرباني وقدسي لأنزعن منك الكهانة ومن ولدك ولأهلكنكم فسار إليهم عدو فخرج أبناؤه وأخرج معهما التابوت فقتلا وذهب العدو بالتابوت فلما سمع عيلى شهق فمات، فلما بعث الله طالوت ملكا أنزل الله التابوت من السماء ﴿ تحمله الملائكة ﴾ هذا على القول الأول، وأما على قول الثاني فلما ذهب العمالقة بالتابوت وضعوه في بيت الأصنام تحت صنم لهم أعظم فأصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت الأصنام منكسرة فوضعوه في ناحية فهلك أكثر أهل الناحية فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله على أهل تلك القرية فارا ببيت الرجل فيصبح وقد أكل الفأر ما في جوفه، فقالت امرأة من سبي بني إسرائيل لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا الثابوت فيكم فأخرجوه عنكم فأتوا بعجلة وحمله عليه ثم علقوه على ثورين وضربوا جنوبهما فوكل اله أربعة من الملائكة يسوقونها فجاؤوا به إلى بني إسرائيل، وقيل : كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقي هناك إلى زمن طالوت فجاءت به تحمله الملائكة حتى وضعته في دار طالوت ﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ يحتمل أن يكون تمام كلام النبي أشموئيل ويحتمل أن يكون ابتداء خطاب من الله تعالى، قال ابن عباس : إن تابوت وعصا موسى في البحيرة الطبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
﴿ فلما فصل طالوت ﴾ أي خرج والفصل في الأصل القطع وهو فعل متعد يعني فصل نفسه عن بلده فلما كثر استعمله حذف مفعوله فصار كاللازم بمعنى نفصل عن بلده شاخصا إلى العدو ﴿ بالجنود ﴾ هو في موضع الحال من فاصل فصل أي مختلطا بالجنود وذلك أنهم لما رأوا التابوت واستيقنوا النصر تساوعوا إلى الجهاد كلهم فقال طالوت : لا يخرج معي إلا شاب نشيط فارغ فخرج على هذا سبعون ألفا على قول مقاتل وقيل ثمانون ألفا وكانوا في حر شديد فسألوا أن يجري الله لهم نهرا ﴿ قال ﴾ طالوت إما يوحي الله إن كان نبيا وإما بإشراد نبيهم ﴿ إن الله مبتليكم بنهر ﴾ قال ابن عباس والسدي هو نهر فلسطين، وقال قتادة : نهر بين الأردن وفلسطين، والابتلاء : الاختبار، يعني يعاملكم معاملة المختبر ليظهر المطيع من العاصي ﴿ فمن شرب منه فليس مني ﴾ أي من أتباعي أو ليس بمتحد معي ﴿ ومن لم يطعمه ﴾ أي لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا ﴿ فإنه مني ﴾ قرأ نافع وأبو عمر وبفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ إلا من اغترف غرفة بيده ﴾ استثناء من قوله :﴿ فمن شرب ﴾ وإنما قدمت الجملة الثانية للعناية بها، والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير، ولعل الحكمة في ذلك أن شرب الماء الكثير في شدة الحر والعطش يضر بالناس يهلك أو يضعف عن القتال، ويحتمل أن يكون ذلك التحريم عقابا لهم لما اقترحوا بجريان النهر. قرأ أهل الحجاز والبصرة غرفة بفتح الغين والباقون بالضم قال الكسائي بالضم ما يحصل في الكف من الماء عند الاغتراف وبالفتح الاغتراف فهو منصوب على المفعولية أو المصدرية على اختلاف القراءتين ﴿ فشربوا منه ﴾ أي كرعوا فيه، إذ المعنى الحقيق لمن الابتداء أن لا يكون بوسط وأما الأول فعلى عموم المجاز بقرينة الاستثناءن أو المعنى أفرطوا في الشرب ﴿ إلا قليلا منهم ﴾ منصوب على الاستثناء قال السدي كانوا أربعة آلاف والصحيح ما رواه البخاري عن البراء بن عازب قال كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة، ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر، فكان من اغترف قوي قلبه وذهب عطشه، ومن شرب وخالف أمر الله تعالى جبنوا ولم يرووا واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فلم يجاوزوا النهر مع طالوت، وقيل : جاوزوا النهر كلهم والظاهر أنهم لم يجاوزوا حيث قال الله تعالى :﴿ فلما جاوزه ﴾ أي النهر الذي جبنوا وبقوا عليه للذين جاوزوا اعتذار للتخلف وتحذيرا لهم ﴿ لا طاقة لنا اليوم ﴾ لغلبة العطش والضعف أو لقلة العدد ﴿ بجالوت وجنوده ﴾ لكثرتهم وقوتهم ﴿ قال الذين يظنون ﴾ أي يستيقنون ﴿ أنهم ملاقوا الله ﴾ وتوقعوا ثوابه وهم الذين اكتفوا على الغرفة وجاوزوا النهر، ويحتمل أن يكون ضمير قالوا راجعا إلى الذين جاوزوا النهر، والمعنى أنه قال بعضهم لبعض أولا لا طاقة لنا ثم قال خلصهم ﴿ كم من فئة قليلة ﴾ كم خبرية موضعها الرفع بالابتداء، أو استفهامية استفهام تقرير ومن زائدة، والفئة الفرقة من الناس من فاوت رأسه إذا شققته أو من فاء إذا رجع على وزن فعة أو فلة، وقيل هي جمع لا واحد له بمعنى الجماعة ﴿ غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ بقضائه وإرادته ﴿ والله مع الصابرين ﴾ بالنصر والإثابة، وقالت الصوفية بالمعية التي لا كيف لها.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ ﴾ طالوت وجنوده ﴿ لجالوت وجنوده ﴾ أي تراء الفئتان والتقيا ﴿ قالوا ﴾ يعني طالوت ومن معه ﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ هذا سنة الأنبياء والصالحين أنهم إذ استصعبوا أمرا التجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء.
﴿ فهزموهم بإذن الله ﴾ أي بنصره أو مصاحبين بنصره، وكان داود عليه السلام مع أبيه في ثلاث عشر ابنا له في جند طالوت وعبر معه النهر وكان أصغر إخوته يرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه يقتل جالوت وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت إنك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته وأعطاه طالوت فرسا ودرعا وساحا فقال إن لم ينصرني الله لم يغني عني السلاح شيئا فترك داود على ذلك وأخذ مخلاته ومضى نحو العدو، وكان داود رجلا قصيرا مسقاما مصغارا فلما رآه جالوت وكان رجلا من أشد الناس وأقواهم يهزم الجيوش وحده ألقى الله ي قلبه من داود رعبا فقال أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب قال نعم أنت شر من الكلب، فوضع داود الأحجار الثلاثة في مقلاعه وقال باسم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ورمى به فأصاب دماغه وخرج من قفاه ﴿ وقتل داود جالوت ﴾ وزوجه طالوت ابنته ﴿ وآتاه ﴾ يعني داود ﴿ الله الملك ﴾ بعدما مات طالوت، وقيل : لم يجتمع بنو إسرئيل قبل داود على ملك ﴿ والحكمة ﴾ النبوة جمع الله تعالى له الأمرين ولم يجتمعا قبل ذلك بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط ﴿ وعلمه مما يشاء ﴾ آتاه الله الزبور وعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فكان لا يأكل إلا من عمل يده، عن المقدام بن معديكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يديه وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يديه " رواه البخاري، وعلمه منطق الطير وكلام النمل وغيرها وأعطاه صوتا حسنا، قيل : كان إذا قرأ الزبور يدنو منه الوحوش حتى تؤخذ بأعناقها وتطلبه الطير ويركد الماء الجاري وتسكن الريح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري :" يا موسى لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود " متفق عليه.
﴿ ولولا دفع الله ﴾ قرأ نافع ويعقوب دِفعُ الله بالألف وكسر الدال ههنا وفي الحجج وفيه مبالغة وقرأ الباقون بفتح الدال وسكون الفاء بلا ألف ﴿ الناس بعضهم ﴾ يعني الكفار بدل بعض من الناس ﴿ ببعض ﴾ يعني بالمؤمنين ﴿ لفسدت الأرض ﴾ يعني لغلب المشركون الأرض فأفسدوا فيها فخربوا البلاد وقتلوا العباد وظلموهم و﴿ لهدمت صوامع وبيع وصوامع ومساجد يذكر فيها اسم الله ﴾[ سورة الحج، الآية : ٤٠ ] وصدوا الناس عن الإيمان بالله وعبادته كذا قال ابن عباس ومجاهد، فيه دليل على أن العلة لافتراض الجهاد دفع الفساد كما سنذكر في قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾.
وقال بعض المفسرين : لولا دُفِعَ بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار العذاب لهلكت الأرض من فيها، روى البغوي بسنده من طريق عبد الله بن أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " ثم قرأ ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ﴾ الآية، وأيضا في الحديث " ولولا رجال ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا " ﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾.
﴿ تلك ﴾ مبتدأ خبره ما بعده، إشارة إلى ما ذكر من قصة ألوف وتمليك طالوت أو إتيان تابوت وانهزام لجبابرة وقتل داود جالوت وإيتائه الملك والحكمة وتعليمهم مما يشاء ﴿ آيات الله ﴾ دلائل على قدرته وعلى نبوتك ﴿ نتلوها عليك بالحق ﴾ بالوجه المطابق للواقع الذي لا يشك فيه أهل الكتاب ﴿ وإنك لمن المرسلين ﴾ وتلك الآيات إعجاز لك شواهد على رسالتك حيث لم يكن بها علم لم لم يقرأ الكتاب أكد بأن وغيرها ردا لقول الكفار لست مرسلا.
﴿ تلك الرسل ﴾ إشارة إلى جماعة المرسلين التي علمت بقوله ﴿ وإنك لمن المرسلين ﴾ واللام للاستغراق والموصوف مع الصفة مبتدأ خبره ﴿ فضلنا بعضهم على بعض ﴾ الفضل هو زيادة أحد الشيئين على آخر في وصف مشترك بينهما، وفي العرف والاصطلاح يختص ذلك بوصف الكمال وهو ما يقتضي مدحا في الدنيا وثوابا في الآخرة، فإن كان أحدهما مختصا بوصف كمال والآخر بوصف كمال آخر فلكل واحد منهما فضل جزئي على الآخر في مطلق الكمال أعني في استحقاق المدح والثواب والفضل الكلي لمن له زيادة الثواب ومزية القرب عند الله تعالى، فالرسل والأنبياء عليهم السلام شركاء في درجة الرسالة أو النبوة وموجبات الأجر والثواب وفيما بينهم تفاضل عند الله تعالى بناء على كثرة الثواب ومزيد القرب لا يعلمه كما هو إلا الله تعالى وقد يدرك بعض ذلك بتعليمه تعالى كقوله ﴿ منهم من كلم الله ﴾ قال أهل التفسير : هو موسى عليه السلام لقوله تعالى :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ﴾١ وهذه الآية لا يقتضي تخصيصه عليه السلام بذلك الفضيلة فقيل إنه موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم كلم الله موسى على الطور ومحمد ليلة المعراج حين كان ﴿ قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ﴾٢ وشتان ما بينهما ﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾ على بعضهم أوعلى كلهم، أما رفع درجات بعضهم على بعضهم ففي كثير من الأنبياء والرسل حيث فضل الرسل على الأنبياء وأولي العزم من الرسل على غيرهم ونحو ذلك وأما رفع درجات بعضهم على كلهم فذلك مختص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثابت لك بوحي غير متلو وانعقد عليه الإجماع، عن أبي سعيد الخدري : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من بني آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعن ابن عباس قال جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون قال بعضهم إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وقال آخر موسى كلمه الله الله تكليما وقال آخر عيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" قد سمتعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ومويى نجي الله وهو كذلك وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلني ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر " رواه الترمذي والدارمي، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا قائد المرسلين ولا فخر وأنا خاتم النبيين ولا فخر وأنا أول شابع ومشفع ولا فخر " رواه الدارمي، وعن أبي بن كعب قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين أول من ينشق عنه الأرض فاكسي حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرض ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام عير " رواه الترمذي، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سلوا الله الوسيلة، قالوا يا رسول الله ما الوسيلة ؟ قال أعلى درجة الجنة لا ينالها إلا رجل واحد أرجو أن أكون أنا هو " رواه الترمذي، وهذه الأحاديث وإن كانت من الآحاد لكنها متواترة من حيث المعنى وتلقته الأمة بالقبول، قال الإمام محيي السنة البغوي رضي الله عنه : ما أوتي نبي آية إلا أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم مثل تلك الآية وفضل على غيره بآيات مثل انشقاق القمر بإشارته، وحنين الجدع على مفارقته، وتسليم الحجر والشجر عليه، وكلام البهائم والشهادة برسالته، ونبع الماء من بين أصابعه غير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء والأرض عن الإتيان بمثله ثم روى بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " متفق عليه، وبسنده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا أو طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم يحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " متفق عليه، وبسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" فضلت على الأنبياء بست أوتيت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجلعت لي الأرض مسجدا أو طهورا، وأرسلت إلى الخلف كافة، وختم بي النبيون " رواه مسلم، وهذا الباب طويل جدا لا يسعه المقام وقد صنف في مجلدات ﴿ وآتينا عيسى ابن مريم البينات ﴾ كلم الناس في المهد وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وأنزل عليه مائدة من السماء ﴿ وأيدناه بروح القدس ﴾ وقد مر تفسيره فيما قبل خص الله سبحانه عيسى بالتعيين لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه ﴿ ولو شاء الله ﴾ هداية الناس جميعا ﴿ ما اقتتل الذين من بعدهم ﴾ أي من بعد الرسل ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾ المعجزات الواضحات ﴿ ولكن اختلفوا ﴾ بإرادة الله سبحانه إظهار صفاته الجلالية والجمالية وأسمائه من الهادي والمضل والغفار والقهار والمنتقم والعفو وغيرها ﴿ فمنهم من آمن ﴾ تفضا بهدايته وتوفيقه التزام دين الأنبياء وهم الذين كان دينهم صفة الهداية ﴿ ومنهم من كفر ﴾ بخذلانه عدلا وهم الذين كان دينهم صفة الإضلال، عن أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نوره فمن أصاب ذلك النور اهتدى ومن أخطى ضل فلذلك أقول جف. القلم على علم الله " رواه أحمد والترمذي ﴿ ولو شاء الله ما اقتتلوا ﴾ كرره للتأكيد ﴿ ولكن الله يفعل ما يريد ﴾ لا يجوز عليه الاعتراض ولا يبلغ إلى كنه حكمته غيره، قال البغوي : سأل رجل علي بن أبي طالب فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ؟ قال : طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه، فأعاد فقال : سر خفي لا تفتشه، يعني هو أمر لا يمكن دركه بالعقل وتفتيشه يوجب الهلاك كما يوجب الهلاك الولوج في البحر العميق والسلوك في الطريق المظلم. عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من تكلم في شيء من القدر سئل عنه يوم القيامة ومن لم يتكلم فيه لم يسأل عنه " رواه ابن ماجه، وقال أبي بن كعب : لو أن الله عذب أهل سمواته وأرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كان رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما كان قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النارر، وقال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان مثل ذلك، وحدث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، فإن قيل : هذه الآية تدل على كون بعض الرسل أفضل من بعض فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم :" لا تفضلوا بين أنبياء الله " وفي رواية :" لا تخيروني على موسى " وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا أقول أن أقول أن أحدا أفضل من يونس بن متى، متفق عليه من حديث أبي هريرة ؟ قلنا :" معناه أنه لا يجوز الحكم بتفضيل بعضهم على بعض بالرأي من غير دليل وتوفيق من الله سبحانه لأن الفضل عبارة عن كثرة الثواب وزيادة القرب إلى الله تعالى وذا لا يدرك بالرأي فأما إذا ثبت بالكتاب والسنة، فإن كان الدليل ظني المتن أو السند فلا بأس بالقول به مع تجويز نقيضه وإن كان قطعا يجب الاعتقاد به و كذا الحال في تفضيل غير الأنبياء بعضهم على بعض وأما قوله عليه السلام :" لا تخيروني على موسى ولا أقول أن أحدا أفضل من يونس بن متى " فمحمول على أنه كان قبل علمه بأفضليته صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والله أعلم.
مسألة : وهذه الآية حجة لأهل السنة على المعتزلة في أن الحوادث كلها بيد الله تعالى تابعة لمشيئته خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا، وليس الأصلح ولا شيء من الأشياء واجبا عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " رواه مسلم، وروى عنه أحمد والترمذي نحوه، والترمذي وابن ماجه عن أنس وأحمد عن أبي موسى نحوه.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٤٣.
٢ سورة النجم، الآية: ٩-١٠.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ ﴾ ما أوجبت عليكم إنفاقه ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم والخلاص من عذاب الله إذ ﴿ لا بيع فيه ﴾ فتحصلون الأموال وتنفقونها في سبيل الله أو تفتدون بها من العذاب فتشترون به أنفسكم ﴿ ولا خلة ﴾ حى يعينكم على أخلاءكم أو يسامحونكم ﴿ ولا شفاعة ﴾ إلا بإذن الله. قرأ ابن كثير وأبو عمر وكلها مبنيا على الفتح من غير تنوين على الأصل وكذلك في سورة إبراهيم ﴿ لا بيع فيه ولا خلال ﴾ وفي سورة الطور ﴿ لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ وقرأ آخرون كلها بالرفع لأنها في تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة ﴿ والكافرون هم الظالمون ﴾ حيث يضعون العبادة في غير موضعها ويضعون الأموال في غير موضعها ويصرفونها على غير وجهها، وأيضا هم يظلمون أنفسهم بترك ما أمرهم الله وتعريض أنفسهم للعذاب فلا تكونوا أيها الذين آمنوا على هيئتهم، أو المعنى والكافرون الذين ينكرون فريضة الزكاة هم الظالمون، وقال البيضاوي أراد الكافرون التاركين للزكاة وضع الكافرين موضعه تغليظا كقوله ﴿ من كفر ﴾ مكان من لم يحج وكقوله تعالى :﴿ وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ﴾١ إيذانا بأن ترك الزكاة من صفات الكفار، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة فقال أبو بكر لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت : يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم فقال لي : أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام ؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي ؟ رواه رزين.
١ سورة فصلت، الآية: ٦-٧.
﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ مبتدأ وخبر، والمعنى أنه تعالى هو المستحق للعبادة لا غير ﴿ الحي ﴾ هو الذي يصح أن يعلم ويسمع ويبصر ويقدر ويريد وكل ما يصح له فهو واجب له ما زال ولا يزال ثابت له أزلا وأبدا لامتناعه عن القوة والإمكان فالحياة صفة لله تعالى مبدأ لجميع صفات الكمال ﴿ القيوم ﴾ قرأ عمرو ابن مسعود القيَّام وقرأ علقمة القَيِّمُ، قال البغوي : كلها لغات بمعنى واحد، قال ابن مجاهد : القيوم القائم على كل شيء، قال الكلبي القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل : هو القائم، بالأمور وقال أبو عبيدة : الذي لا يزول، وقال البيضاوي : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيقول من قام بالأمر إذا حفظه، وقال السيوطي : الدائم البقاء، قلت : مرجع الأقوال أنه دائم الوجود القائم بنفسه وقيم الأشياء كلها لا يتصور قيام شيء وبقاؤه إلا به فمقتضى هذا الاسم أن ما سواه يحتاج إليه في بقائه كما يحتاج إليه في وجوده كالظل بالنسبة إلى الأصل بل أشد منه احتياجا ﴿ ولله المثل الأعلى ﴾ ﴿ ولا تأخذه سنة ولا نوم ﴾ السنة : فتور يتقدم النوم في الوجود ولذا قدم ذكره مع أن قياس المبالغة يقتضي العكس، والنوم حالة تعرض الحيوان من استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث يعطل الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا، وهذه الجملة صفة سلبية تنفي التشبيه فهي تأكيد لكونه حيا قيوما فإنه من أخذه نعاس أو نوم كان ماءوف الحياة فإن النوم أخو الموت قاصرا في حفظ الأشياء وقيوميتها ولذلك ترك العاطف، عن أبي موسى رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال :" إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " رواه مسلم ﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ تقدير لقيوميته واحتجاج على تفرده في الألوهية والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو أبلغ من قولنا له السموات والأرض وما فيهن ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يداينه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة فضلا من أن يعاوقه مناصبة ﴿ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾أي ما قبلهم وما بعدهم، أو ما يدركونه وما لا يدركونه وما لا يدركونه، أو ما يأخذونه وما يتركونه، فإن ما تركوه كأنهم نبذوه خلف ظهورهم، والضمير لما في السموات والأرض تغليبا للعقلاء على غيرهم أو لمدلول ذا من الملائكة والأنبياء ﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه ﴾ أي من معلوماته، إنما قيد بقوله من علمه مع أن كل شيء معلومه تنبيها على أن المراد بالإحاطة الإحاطة العلمية، ولم يقل ولا يعلمون شيئا تنبيها على أن العلم التام المحيط بكنه الأشياء كلها مختص به تعالى ولا يوجد إحاطة علم غيره بكنه شيء إلا نادرا، أو المراد بعلمه العلم المختص به وهو علم الغيب فهو لا يحيطون بشيء من علم الغيب ﴿ إلا بما شاء ﴾ إحاطته، وذلك قليل قال الله تعالى :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ والواو في ولا يحيطون إما للحال من فاعل ﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ أو للعطف وإنما ذكر بالعطف لأن مجموع الجملتين يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام المحيط بأحوال خلقه الدال على وحدانيته ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ قال البيضاوي : تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسي في الحقيقة ولا قاعد، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة، وقيل : كرسيه ملكه وسلطانه والعرب تسمي الملك القديم كرسيا، قلت : ولو كان الكرسي بمعنى العلم والملك كان هذه الجملة بعد قوله :﴿ له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ مستدركا والمشهور عند المحدثين أن الكرسي جسم. قال البغوي : اختلفوا في الكرسي ؟ قال السحن هو العرش نفسه وقال أبو هريرة الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله ﴿ وسع كرسيه السموات والأرض ﴾ أي سعته مثل سعة السموات الأرض، وروى ابن مردويه من حديث أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما السماوات السبع والأرضون السبع مع الكرسي إلا كحلقة في فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة " ويروى عن ابن عباس أن السموات السبع في الكرسي كدارهم سبعة ألقيت في ترس، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات والأرضين السبع وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ملكعلى صورة سيد البشر آدم عليه السلام وهو يسأل الآدميين الرزق من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه عضاضة منذ عبد العجل، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسئل للطير الرزق من السنةإلى السنة. وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة سنة لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش. والكرسي في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد كأنه منسب إلى الكرس وهو ضم الشيء بعضه إلى بعض ونسبة الكرسي إلى الله تعالى كنسبة العرش إليه وكذا نسبة بيت الله إليه لنوع من التجلي مختص به وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ فسواهن سبع سموات ﴾ أن المستنبط من الحديث أن العرش كروي محيط بالسموات وما ذكرنا ههنا من حديث أبي ذر يستفاد من أن الكرسي محيط بالسموات والعرش محيط به وإحاطة بعضها بعضا يقتضي كون كل منها كرويا، ومن ههنا قال من قال إن الكرسي هو الفلك الثامن والعرش الفلك التاسع، ولعل العرش والكرسي متبائنان من السموات في الماهية وممتازان بأنواع التجليات ومن ثم لم يعده الله من السموات ولم يزد عدد السموات على سبع والله أعلم ﴿ ولا يؤده ﴾ أي لا يثقله مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج ﴿ حفظهما ﴾ أي السموات والأرض أو الكرسي وما وسعه، فهذه الجملة مع ما عطف عليه بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلالته وعظمة قدره وعموم قيوميته للأشياء فهاتين الجملتين كان كحكم جملة واحدة ولما كان كل جملة منها تأكيدا وبيانا لما سبق لم يذكر العاطف بين تلك الجمل ﴿ وهو العلي ﴾ المتعالي عن الأنداد والأشياء ليس كمثله شيء في الذات ولا في شيء من الصفات بوجه من الوجوه فهو متعال من أن يحمده الحامدون ويصفه الواصفون كما يليق به ﴿ العظيم ﴾ المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه.
ولما كانت هذه الآية خالصة في مباحث الذات والصفات دالة على كونه تعالى هو المتوحد بالوجود المتأصل المتصف بصفات الكمال من الحياة وما يستتبعه من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام المفيض للوجود والتقوم لكل ما سواه بحيث يكون قيام كل ما سواه به تعالى، لا كقيام العرض بالعين كما يتوهم من كلام بعض الأكابر حيث قال العالم أعراض مجتمعة في عين واحد بل على نحو لا يسعه مجال الخيال وأقرب العبارات التي يعبر بها ذلك القيام أنه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد المنزه عن التحيز والحلول والمبرأ عن التغير والفتور مالك الملك والملكوت ذو البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه إلا بشفاعة من إذن له عالم بالأشياء علما محيطا بالإحاطة التامة بكنه كل جلي وخفي متوحدا بعلومه لا يعلم أحد شيئا منها إلا بتعليمه واسع الملك والقدرة يتجلى على بعض مخلوقاته تجليا لا ينافي علو تنزيهه لا يؤده شاق ولا يغنيه شأن عن شأن متعال عما لا يليق به بل متعال من أن يصفه الواصفون عجز عن حمده من بيده لواء الحمد يوم القيامة حيث قال :" أنت كما أثنيت على نفسك " عظيم يستحفر بإضافته كل شيء ولا يحيط به علم عالم ولا تناسب عظمته عبادة عابد معترف بالقصور في عبادته أسبق السابقين حيث قال ما عبدناك فلذلك لما قيل يا رسول الله أي آية أعظم ؟ قال : آية الكرسي ﴿ الله لا إله إلا هو الحي ﴾ ولما قيل أي سورة أعظم ؟ قال :﴿ قل هو الله أحد ﴾ رواه الدارمي من حديث أسقع بن عبد الكلاعي، وأخرج الحارث بن أسامة عن الحسن مرسلا أعظم آية آية الكرسي وأخرج مسلم من حديث أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قلت ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ قال فضرب في صدري وقال :" ليهنك العلم " ثم قال :" والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين يقدس الملك عند ساق العرش " قلت : لعل معنى هذا الحديث أن حملة العرش يقدسون الله بهذه الآية، والظاهر أن يقال لكل شيء صورة في المثال حتى القرآن وآياته ورمضان وغير ذلك. وأخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود وابن راهويه في مسنده من حديث عوف بن مالك وأحمد ومالك من حديث أبي ذر نحوه وأخرج الترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعا :" سيد آي القرآن آية الكرسي " أخرج أحمد من حديث أنس :" آية الكرسي ربع القرآن " وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من ﴿ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ﴾ حفظ من يومه ذلك حتى يمسي فإن قرأها حين يمسي حفظ من ليلته تلك حتى يصبح " رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي : هذا حديث غريب، وعن أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثوا من الطعام فأخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله، قال : أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته فجاء يحثوا من ا لطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني الخ كما قال أولا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أولا، ثم قال أبو هريرة في المرة الثالثة هذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ الآية فإنك لن تزال عليك من الله حافظا ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها قال :" أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال ؟ قلت لا، قال :" ذاك شيطان " رواه البخاري، وأخرجه النسائي وابن حبان والدارقطني من حديث أبي أسامة والبيهقي في شعب الإيمان من حديث الصلصال الديهمي ومن حديث علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت " وفي رواية :" من قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله على داره ودار جاره وأهل دويرات حوله " وأخرج
روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل في نفسها إن عاش لها ولدان تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين ﴾ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فمنكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم، وقال مجاهد : كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فقال الذين كانوا المسترضعين فيهم فنذهبن معهم أو ليدينن بدينهم فمنعهم أهلهم فنزلت، وأخرج ابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أستركههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله تعالى ﴿ لا إكراه في الدين ﴾ يعني لا يتصور الإكراه في أن يؤمن من أحد إذ الإكراه إلزام لغير فعلا لا يرضى به الفاعل وذا لا يتصور إلا فهو إخبار بمعنى النهي، ووجه المنع إما ما ذكرناه أنه لا يوجد الإيمان بالإكراه فلا فائدة فيه وإما لأن إيجاب الإيمان وسائر العبادات إنما هو للابتلاء قال الله تعالى :﴿ ليبوكم أيكم أحسن عملا ﴾ والمعتبر فيها الإخلاص قال الله تعالى :﴿ فادعوا الله مخلصين له الدين ﴾ والإكراه ينافي الابتلاء والإخلاص، فقيل : هذا الحكم بعدم الإكراه خاص بأهل الكتاب لنزوله فيما ذكرنا من شأن الأنصار كان أبناؤهم هودا أو نصارى، قلت خصوص المورد لا يقتضي تخصيص النص وهو عام، وقيل : هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى :﴿ وقاتلوا المشركين كافة ﴾ و﴿ جاهد الكفار والمنافقين ﴾ قال البغوي : هو قول ابن مسعود، قلت : لا يتصور النسخ إلا بعد التعارض ولا تعارض فإن الأمر بالقتال والجهاد ليس لأجل الإكراه على الدين بل لدفع الفساد من الأرض فإن الكفار يفسدون في الأرض ويصدون عباد الله عن الهدي والعبادة، فكان قتلهم كقتل الحية والعقربب والكلب العقور بل أهم من ذلكومن ثم جعل الله تعالى غاية قتلهم إعطاء الجزية حيث قال :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾١ ولأجل هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان والنساء، والمشايخ والرهيان والعميان والزمن الذين لا يتصور منهم الفساد في الأرض وكيف يقال بالنسخ مع أن الإكراه في الدين لا يتصور ولا يفيد كما ذكرنا ﴿ قد تبين الرشد من الغي ﴾ يعني وضح الأمر ودلت الدلائل العقلية والمعجزات النبوية على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدي فتم حجة الله على الخلق وزال عذرهم وصح ابتلاؤهم ولا حاجة إلى إكراههم، وقال البيضاوي في تفسير الآية : إن الإكراه إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا فلا إكراه في الدين، إذ قد تبين الرشد من الغي والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالنجاة والسعادة ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء وهذا التقدير لو تم لزم أن يكون كل عاقل مؤمنا طوعا ولو أريد بالعاقل من له عقل سليم وتم معرفته فذا لا ينفي الإكراه من الكفار فإن عقلهم غير سليم ولذلك لم يبادروا ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ﴾ فعلوت من الطغيان قلب عينه ولامه أوفاعُوْلٌ منه حذف لامه وزيدت التاء بدلا من اللام، والمراد به كل ما عبد من دون الله أو ما صد عن عبادة الله من شياطين الجن والإنس ﴿ ويؤمن بالله ﴾ كما أرشد به الرسول فإن الإيمان بالله تعالى كما ينبغي لا يتأتى إلا بعد تصديق الرسول والاهتداء به ﴿ فقد استمسك ﴾ أي طلب الإمساك من نفسه ﴿ بالعروة الوثقى ﴾ من الحبل الوثيق وهي مستعارة لمتمسك المحق ﴿ لا انفصام لها ﴾ أي لا انقطاع ﴿ والله سميع ﴾ لدعائك إياهم ولأقوالك وأقوالهم ﴿ عليم ﴾ بحرصك إياهم وبنيات كل حث على تصحيح الأعمال والنيات وتهديد على الكفر والنفاق.
١ سورة التوبة، الآية: ٢٩.
﴿ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ محبهم ومتولي أمرهم والمراد به من أراد إيمانه ﴿ يخرجهم ﴾ بهدايته وتوفيقه ﴿ من الظلمات ﴾ ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر ﴿ إلى النور ﴾ إلى الهدى الموصل إلى الإيمان، قال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمة والنور فالمراد به الكفر والإيمان غير ما في الأنعام ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ فإنه الليل والنهار، وهذه الآية تدل على أن الإيمان أمر وهبي، والجملة خبر بعد خبر أو حال من المستكن في الخبر أو من الموصول أو منهما أو استئناف مبين أو مقرر للولاية ﴿ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ﴾ يعني شياطين الجن والإنس منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وغيرهما، أو المضلات من الهوى والشياطين وغيرهم فهؤلاء متولي أمورهم ومحبيهم في زعمهم وإلا ففي الحقيقة هم أعداؤهم ﴿ يخرجونهم من النور ﴾ الذي هو في أصل الفطرة كما في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " متفق عليه، وأخرج ابن جرير عن عبدة بن أبي لبابة قال : همالذين كانوا آمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به ﴿ إلى الظلمات ﴾ إلى الشكوك والشبهات والانهماك في الشهوات وفساد الاستعداد الموجب إلى الكفر، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار السبب والكسب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به والطاغوت يكون مذكرا ومؤنثا وواحدا وجمعا قال الله تعالى :﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ﴾١ وقال :﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ﴾٢ أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كان قوم آمنوا بعيسى فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمدا كفروا به والله أعلم ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ وعيد وتحذير، قيل : عدم مقابلته بوعد المؤمنين لتعظيم شأنهم، والأولى أن يقال إن قوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ تضمن كل ما يتصور من الوعد.
١ سورة النساء، الآية: ٦٠.
٢ سورة الزمر، الآية: ١٧.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ﴾ تعجيب من محاجة نمرود وحماقته، قال البغوي : هو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادعى الربوبية ﴿ أنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ﴾ فطغى أي كان محاجته لأجل بطر الملك وطغيانه، أو أسند المحاجة إلى إيتاء الملك على طريقة العكس يعني كان الواجب عليه الشكر فعكس كما يقال عاديتني لأني أحسنت إليك، أو المعنى وقت أن آتاه الله الملك وهو حجة على منع إيتاء الملك الكافر من المعتزلة، قال البغوي : ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران : سليمان وذو القرنين ونمرود وبخت نصر، قيل : لما كسر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه فقال من ربك الذي تدعونا إليه، وقيل : كان هذا بعد إلقائه في النار قحط الناس فكانوا يمتارون من عند نمرود فكان نمرود إذا أتاه رجل سأله من ربك فإن قال أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال من ربك ؟ قال ربي الذي يحي ويميت فحاجه ولم يعطه شيئا فرجع إبراهيم فمر على كثيب من رمل فأخذ منه تطييبا لقلوب أهله فلما أتى أهله ووضع متاعه نام، فقامت امرأته إلى متاعه فإذا هو أجود طعام فصنعت له من فقربت إليه فقال : من أين هذا ؟ قالت من الطعام الذي جئت به فحمد الله تعالى ﴿ إذ قال إبراهيم ﴾ ظرف ل﴿ قال أنا أحي وأميت ﴾، وهو بيان لحاج، أو هو استئناف، في جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف حاج أو الظرف متعلق لحاج وقال بيان له أو استئناف، أو الظرف بدل من أن ﴿ وآتاه الله الملك ﴾ إن كان المصدر مقدرا بالوقت ﴿ ربي ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء وصلا ووقفا وكذا في :﴿ ربي الفواحش ﴾ و﴿ عن آياتي الذين يتكبرون ﴾ و﴿ قل لعبادي الذين ﴾ و﴿ آتاني الكتاب ﴾ و﴿ مسني الضر ﴾ و﴿ عبادي الصالحون ﴾ و﴿ عبادي الشكور ﴾ و﴿ مسني الشيطان ﴾ و﴿ إن أرادني الله ﴾ و﴿ إن أهلكني الله ﴾ ووافقه ابن عامر والكسائي في ﴿ لعبادي الذين آمنوا ﴾ وابن عامر ﴿ عن آياتي الذين ﴾ وفتح الآخرون كلها ﴿ الذي يحي ويميت ﴾ جواب لقول نمرود من ربك الذي تدعونا إليه. استدل إبراهيم عليه السلام على وجود الصانع الواجب الوجود بالآثار الدالة عليه من الأحياء والإماتة المشهودتين في عالم الإمكان، نمرود لعله كان دهريا غبيا يزعم الحوادث بالاتفاق كما يزعمه الدهريون، ويزعم أن ذوي العقول من الممكنات خالقة لأفعالها كما يزعم المعتزلة والروافض، فدعا برجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر ﴿ قال ﴾ نمرود ﴿ أنا أحي وأميت ﴾ قرأ أهل المدينة أنا بإثبات الألف والمد في الوصل إذا تلقتها همزة متحركة، والباقون بحذف الألف، ووقفوا جميعا بالألف فلما رأى إبراهيم غباوته عن الاستدلال بالحوادث المعتادة ﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ﴾ يعني وهو قادر على أن يأتيها من المغرب أو كيف يشاء ﴿ فأت بها ﴾ أنت ﴿ من المغرب ﴾ إن كنت تزعم أنك قادر على ما تفعل وتنكر الواجب فإن الممكنات كلها سواء في الخلق ﴿ فبهت الذي كفر ﴾ تحير ودهش وانقطعت حجته، لما رأى أنه لو سأل إبراهيم ربه فربه يأتي بالشمس من المغرب كما جعل النار عليه بردا وسلاما ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ ﴿ وإن يروا كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾.
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ يعني بيت المقدس أو دير هرقل كما سنذكر القصة والكاف زائدة والموصول معطوف على الذين حاج، والذي مر هو أرميا وهو الخضر عليه السلام على ما رواه محمد بن إسحاق، وأخرج الحاكم عن علي وإسحاق بن بشير عن عبد الله بن سلام وابن عباس أنه عزير، وقال مجاهد : هو كافر شك في البعث نظرا إلى نظمه مع نمرود وهذا ليس بشيء فإن الكافر لا يستحق تلك الكرامة ولو قيل أنه آمن حين رأى الأحياء بعد الإماتة، قلنا، هذا ليس إيمانا بالغيب فلا يعتد به ونظم القصتين معا إنما هو لاشتراكهما في التعجيب بادعاء الربوبية فمن يرى عجزه في كل حين وزمان أعجب من الحياة بعد الممات بإذن الله تعالى فإن ذلك شائع كما ترى تصير النفطفة رجلا والبذر شجرا ونحو ذلك ﴿ وهي خاوية ﴾ خالية ساقطة حيطانها ﴿ على عروشها ﴾ يعني سقطت سقوفها ثم وقعت حيطانها عليها ﴿ قال أنى يحيي هذه ﴾ القرية ﴿ الله بعد موتها ﴾ قال ذلك على الطلب والتمني في إحيائها مع استبعادها عادة وهضما لنفسه عن مرتبة الاستجابة. وكانت القصة على ما روى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أن الله تعالى بعث أرميا إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدد أمره وكان ملكا صالحا يأتيه أرميا بأحكام الله تعالى فعظمت المعاصي في بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إلى أرميا لأقبضن عليهم فتنة ولأسلطن عليهم جبار ولأهلكن أكثرهم، فصاح أرميا وبكى فأوحى الله تعالى إليه أن لا أهلكتهم ما لم تأذن فاستبشر فلبثوا ثلاث سنين وما زادوا إلا معصية وطغيانا، فلما بلغ الأجل وقل الوحي دعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسار بخت نصر من بابل إلى بيت المقدس في جنود قبل لها ففزع ملك بني إسرائيل، فقال أرميا : إني واثق بما وعدني الله فبعث الله تعالى إلى أرميا ملكا في صورة رجل من بني إسرائيل فقال يا نبي الله استفتيتك في أهلي لم آت إليهم إلا حسنا ولا يزيدون بي إلا إسخاطا، قال : أحسن وصلهم والبشر بخير، ثم بعد أيام جاء إليه الملك في صورة ذلك الرجل فقال مثل ما قاله وأجيب مثل ما أجيب أولا، ثم بعد زمان لما حاصر بحت نصر بيت المقدس وأرميا قاعد على جداره وملك بني إسرائيل يقول أين ما وعدك الله وأرميا واثق مستبشر بالوعد إذ جاءه الملك في صورة ذلك الرجل وشكى أهله إليه فقال أرميا ألم يأن أن ينزجروا من الذي هم فيه ؟ فقال له الملك : يا نبي الله كل شيء كان يصيبني قبل ذلك اليوم صبرت عليه وهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله فغضبت لله وأسألك بالله الذي بعثك بالحق أن تدعو الله عليهم ليهلكنهم، فقال أرميا : يا ملك السموات والأرض إن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم فأرسل اله صاعقة فالتهب مكان القربان وخسف سبع أبواب، فقال أرميا : يا رب أين ميعادك فنودي أنه ما أصابهم إلا بدعائك فعلم أن ذك السائل كان رسول ربه فلحق أرميا بالوحوش وخرب بخت نصر بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل وسباهم، فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمهم فلما ولى بخت نصر عنهم راجعا على بابل أقبل أرميا على حمار له معه عصير عنب في ركوة وسلة تين حتى جاء إيليا فلما وقف عليها ورأى خرابها قال قال أنى يحي هذه الله بعد موتها وأنى في موضع النصب على الظرف بمعنى متى، أو على الحال بمعنى كيف، ثم ربط أرميا حماره بحبل وألقى الله عليه النوم ﴿ فأماته الله ﴾ ضحى أخرجه سعيد بن منصور عن الحسن وابن أبي حاتم عن قتادة فلبث ميتا ﴿ مائة عام ﴾ وحماره وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، فلما مضى من موته سبعين سنة أرسل الله ملكا إلى ملك ملوك فارس يقال له نوشك فقال إن الله يأمرك أن تعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان فجعل يعمرها، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخل دماغه ونجى الله من بقي من بني إسرائيل ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة حتى عادوا على أحسن ما كانوا فأحيا الله أرميا ﴿ ثم بعثه ﴾ وكان بعثه قبل غيبوبة الشمس فبعث الله إليه ملكا ﴿ قال ﴾ الملك لأرميا ﴿ كم لبث ﴾ فلما زعم أرميا أن الشمس غربت من ذلك اليوم الذي نام فيه ﴿ قال لبث يوما ﴾ ثم التفت فرأى بقية الشمس فقال ﴿ أو بعض يوم قال ﴾ له الملك ﴿ بل لبثت مائة عام فانظر على طعامك ﴾ يعني التين ﴿ وشرابك ﴾ يعني العصير ﴿ لم يتسنه ﴾ كأنه لم يأتي عليه السنون، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب لم يتَسَّنُ بحذف الهاء في الوصل وإثباته في الوقف وكذلك ﴿ فبهداهم اقتده ﴾ وقرأ الآخرون بالهاء وصلا ووقفا فمن أسقط الهاء في الوصل جعلها صلة زائدة ومن أثبتها جعلها أصلية. قالوا : اشتقاقه من السنة والهاء أصلية إن قدر لام السنة هاء أصله سنهة بدليل سنيهة والفعل منه مسانهة، وهاء سكت إن قدر لامه واوا فأبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فحذف الألف للجزم وزيدت الهاء في الوقف، وقيل : أصله لم يتَسَّنٌ من الحمأ المسنون فأبدلت النون الثالثة حرف علة كما في قوله تعالى :﴿ دساها ﴾١ وأفرد الضمير لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد ﴿ وانظر إلى حمارك ﴾ فنظر قيل فرآه قائما واقفا كهيئة يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى حبله في عنقه جديدة لم يتعي، وقيل رأى حماره قد هلك وبليت عظامه فبعث الله ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطيور والسباع فاجتمعت، قلت : والظاهر هو القول الثاني يدل عليه تكرار كلمة انظر ولو كان الحمار باقيا على حاله كالطعام والشراب لكان المناسب أن يقال فانظر إلى طعامك وشرابك وحمارك ﴿ ولنجعلك آية للناس ﴾ على البعث بعد الموت قيل الواو مقحمة، وقال الفراء : دخلت الواو فيه دلالة على أنها متعلق بفعل مقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك آية ﴿ وانظر إلى العظام ﴾ أي عظام الحمار على تقدير كونه هالكا وبه قال أكثر المفسرين، وقال قوم : أراد به عظام نفسه أحيا الله عينه ورأسه وسائر جسده ميت صار عظاما بيضاء متفرقا، ويرد هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم :" إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " ﴿ كيف ننشرها ﴾ قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء المهملة معناه نحييها قال الله تعالى :﴿ ثم إذا أنشره ﴾ ﴿ وإنه النشور ﴾ وقرأ الآخرون بالزاء المعجمة أي نرفعها من الأرض ونركب بعضها على بعض وكيف منصوب بنشز الجملة حال من العظام ﴿ ثم نكسوها لحما ﴾ فلما كسى العظام لحما ودما فصار الرجل حيا أو صار الحمار حمارا لا روح فيه فنفخ فيه الملك فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى، وفي الآية تقديم وتأخير وتقديره قال بل لبثت مائة عام أمتناك ثم أحييناك فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها وفعلنا ذلك ولنجعلك آية للناس ﴿ فلما تبين له ﴾ ما فعل به ﴿ قال ﴾ الرجل ﴿ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ قرأ الجمهور على صيغة المضارع للمتكلم وقرأ حمزة والكسائي على صيغة الأمر وحينئذ يكون القائل الملك أو الله سبحانه أو الرجل خاطب به نفسه.
وقيل : عن بخت نصر لما خرب بيت المقدس وقدم بابل بسي بني إسرائيل كان فيهم عزير ودانيال وجماعة من آل داود، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير أحدا وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال :﴿ أنى يحي هذه الله بعد موتها ﴾ إلى آخر الحديث، قال قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس والسدي عن مجاهد عن ابن عباس وابن عساكر عنه : لما أحيا الله عزيرا بعدما أماته مائة عام ركب حماره وأتى محلته فأنكر الناس ومنازلهم وانكره الناس فأتى منزله على وهم، فإذا بعجوز عمياء مقعدة أتت عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لعزير خرج عزير عنها وهي بنت عشرين سنة فقال لها عزير هذا منزل عزير ؟ قالت : نعم، وقالت : ما رأيت أحدا منذ كذا يذكر عزيرا، قال : فإني عزير أماتني الله مائة عام ثم بعثني، قالت : فإن عزيرا كان رجلا مستجابا فإن كنت عزيرا فادع الله أن يرد علي بصري فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله فقامت صحيحة فنظرته فعرفته فقالت : أشهد أنك عزير، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في مجالسهم وابن لعزير شيخ في مائة سنة وأولاد بنيه شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية فنادت هذا عزير فكذبوها فقالت أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة عام ثم بعثه، فنهض الناس فقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير وقال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بخت نصر التوراة بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه فمثل التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة وبعثه نبيا فقال : أنا عزير فلم يصدقوه فأملا عليهم التوراة من ظهر قلبه، قالوا : ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعدما ذهبت إلا أنه ابنه فقالوا عزير ابن الله، وسيأتي في سورة التوبة إن شاء الله تعالى.
١ سورة الشمس، الآية: ١٠.
﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني وابن جريج : كان سبب هذا السؤال أنه كانت جيفة حمار بالساحل فكان إذا مد البحر أكلت منها دواب البحر وإذا جزر أكلت السباع والطيور فرآها إبراهيم وتعجب وقال يا رب قد علمت أنك تجمعها من البر فأرني كيف تحييها لأعاين فأزداد يقينا، وقيل : لما قال نمرود أنا أحيي وأميت وقتل أحد الرجلين وأطلق الآخر قال إبراهيم إن الله يحيي بعدما يميت، فقال له نمرود : وأنت عاينته فلم يقدر أن يقول نعم فحينئذ سأل ربه أن يريه إحياء الموتى حتى إذا قيل له بعد ذلك أنت عاينته يقول نعم، وقال سعيد بن جبير : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا جاء ملك الموت بإذن الله إلى إبراهيم ليبشره بذلك فبشره فقال إبراهيم ما علامة ذلك ؟ قال إن الله يجيب دعائك ويحي الموتى بسؤالك فحينئذ سأل إبراهيم ذلك ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ أو لم تؤمن ﴾ بأني قادر على الإحياء بإعادة التركيب بعد الإماتة، وإنما قال ذلك وقد علم أنه أقوى الناس في الإيمان ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون ﴿ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ ويزيد بصيرتي وسكون قلبي بضم العيان إلى الوحي والاستدلال، أو ليطمئن قلبي أنك اتخذتني خليلا وتجيبني إذا دعوتك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نحن أحق بالشك من إبراهيم ﴿ إذ قال رب أرني كيف تحي الموتى ﴾ الآية، ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " متفق عليه، وللعلماء في هذه المقام مقال فقال إسماعيل بن يحيى المزني لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله يحيي الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما الله تعالى إلى ما سألاه وهذا القول لا يصاعده قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ وقال الإمام أبو سليمان الخطابي : ليس في الحديث اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم بل فيه نفي الشك عنهما يعني إذا لم أشك أنا فإبراهيم أولى بأن لا يشك وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا وهضما لنفسه وكذلك قوله :" لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " وفيه إعلام بأن المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن لأجل طلب زيادة العلم بالعيان فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس الخبر كالمعاينة إن الله أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت " رواه أحمد والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس وروى الطبراني عن أنس والخطيب عن أبي هريرة بسند حسن وليس يه ذكر موسى، وقيل : لما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعا وتقديما لإبراهيم على نفسه، قلت : هذا القول وهذا التأويل في الحديث ضعيف لأن نفي الشك عن إبراهيم ثبت بنفس كلام الله تعالى حيث قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فكيف يقال شك إبراهيم وأي حاجة إلى دفع ذلك التوهم، والتحقيق عندي ما قالت الصوفية العلية : إن لأهل الله تعالى في السلوك مقامان الأول مقام العروج وهو الانخلاع عن الصفات البشرية والتلبس بالصفات الملكية والصفات القدسية ويحكي عن هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن صوم الوصال " لست كهيئكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " ويقال في اصطلاحهم لهذا السير السير إلى الله والسير في الله، والثاني مقام النزول وهو التلبس بالصفات البشرية ثانيا بعد الانخلاع التام وهذا المقام مقام التكميل ودعوة الخلق إلى الله تعالى ويقال لهذا السير السير من الله بالله والحكمة في النزول أنه لا بد بين المفيض والمستفيض من المناسبة حتى يتيسير به الاستفاضة على طريقة الصبغ الانصباغ ولأجل هذا أرسل الرسل من البشر لدعوة البشر ولم يتصور للعوام أخذ الفيض من الله تعالى لفقد المناسبة وهو تعالى غني عن العالمين ولا من الملائكة قال الله تعالى :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً ﴾١ ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾٢ وكلما كان لرجل نزوله أتم كان دعوته أشمل وأكمل كما أن الرامي إذا كان في أعلى مكان من المرمى إليه ما أصاب رميته غالبا، قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي قدس سره : أنكروا دعوة نوح لما كان من الفرقان وأجابوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لما كان من القرآن يعني لما كانت استعدادات العوام في غاية الانخفاض ونوح عليه السلام كان في مقام العروج لم يتأثر العوام منه لأجل الفراق بينهما لما نزل محمد صلى الله عليه وسلم غابة النزول أجابوا دعوته لحصول مقارنة، إذا سمعت هذا فاعلم أن العارف تام المعرفة قد يظهر عليه آثار النزول فحينئذ يكون على هيئة العوام متشبثا بالأسباب، ويحكي عن هذا المقام أنه صلى الله عليه وسلم لبس في الحرب درعا من حديد فوق درع وحفر الخندق حول المدينة وفي هذا المقام يتشبث العارف لطلب زيادة اليقين واطمأن القلب يتحتم الاستدلال ونحو ذلك وعن هذا المقام قصة إبراهيم عليه السلام هذه وقصة لوط حين قال :﴿ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾٣ وعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب زيادة اليقين بالشك مجازا للمشابهة الصورية وأخبر عن مقام نزوله بقوله :" نحن أحق بالشك من إبراهيم " بمعنى أن نزولنا أتم من نزول إبراهيم فنحن أولى بطلب زيادة اليقين منه ولا شك أن نزوله عليه السلام كان أتم من نزول إبراهيم يدل عليه كونه مبعوثا إلى كافة الأنام كما أن عروجه صلى الله عليه وسلم كان فوق كل عروج ﴿ فكان قاب قوسين أو أدنى ﴾ فهو المحدد لجهات الكمال عليه وآله الصلاة والسلام ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" رحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد " أنه كان في مقام النزول فهذا مدح له عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم :" لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " أيضا يدل على أن نزول محمد صلى الله عليه وسلم كان أتم من نزول يوسف عيله السلام ولو كان نزول يوسف مثل نزوله عليه السلام لأجاب الداعي والله أعلم.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ فخذ أربعة من الطير ﴾ الطير مصدر سمي به أو جمع طائر كصحب وصاحب، قال مجاهد وعطاء بن رباح وابن جريج : أخذ طاووسا وديكا وحمامة وغرابا، وحكي عن ابن عباس نسر بدل الحمامة، وقال عطاء الخرساني : أوحى الله إليه أن خذ بطة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر، قلت : لعله أمر بأخذ أربعة من الطير لأن الإنسان وكذا سائر الحيوانات مركب من الأخلاط الأربعة المتولدة من العناصر الأربعة فالديك الأحمر يحكي عن الدم والحمامة البيضاء عن البلغم والغراب الأسود عن السوداء والبطة الخضراء عن الصفراء، فإحياؤها بعد الإماتة دليل على إحياء أجزاء الإنسان بعد الإماتة، قال البيضاوي : فيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاووس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمر المتصف بها الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بها الحمام، قلت : لما كان إبراهيم عليه السلام في مقام النزول والدعوة علمه الله تعالى طريق الإرشاد من إعطاء المريد الفناء والبقاء فأخذها وقطعها ينبئ عن السلوك والفناء ودعاؤها بإذن الله تعالى ينبئ عن الجذب إلى الله والبقاء وهذه كلمات من أهل الاعتبار لا مدخل لها في التفسير والله أعلم ﴿ فصرهن ﴾ قرأ أبو جعفر وحمزة بكسر الصاد أي قطعنن ومزقهن من صار يصير صيرا إذا قطع، قال الفراء : هو مقلوب من صرى يصري صريا وقرأ الآخرون بضم الصاد ومعناه أملهن يقال صرت اصتورا إذا أملته، وقال عطاء : معناه اجمعهن يقال صار يصور إذا جمع ﴿ إليك ﴾ متعلق بصرهن على قراءة الجمهور، ومتعلق بمحذوف حال من المفعول على قراءة حمزة أي منضما إليك ﴿ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ﴾ قرأ عاصم براوية أبي بكر بضم الزاء والهمزة حيث وقع، وقرأ أبو جعفر بتشديد الزاء بلا همز والآخرون بإسكان الزاء والهمزة، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويخلطها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال فجزأها سبعة أجزاء على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن عنده وكذا أخرج ابن جرير والسدي، وروى ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس وقتادة : أنه جعل كل طائر أربعة أجزاء على سبعة أجبل وأمسك رؤوسهن عنده وكذا أخرج ابن جريج والسدي، وروى ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس وقتادة : أنه جعل كل طائر أربعة أجزاء على كل جبل ربع من كل طائر ﴿ ثم ادعهن ﴾ قال لهم تعالين بإذن الله ﴿ يأتينك سعيا ﴾ ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا، فدعاهن فجعل كل قطرة دم طائر يصير إى قطرة أخرى وكل ريشة يصير إلى الريشة الأخرى وكل عظم وبضعة إلى أخرى وإبراهيم ينظر حتى تمت كل جثة بغير رأس ثم أقبلن إلى رؤوسهن فصرن كما كن بإذن الله تعالى ﴿ واعلم أن الله عزيز ﴾ لا يعجزه شيء عما يريد ﴿ حكيم ﴾ ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل ويذر ذكر الله سبحانه في القصة السابقة ﴿ اعلم أن الله على كل شيء قدير ﴾ وذكره ههنا ﴿ واعلم أن الله عزيز حكيم ﴾ يدل على أنه قوله :﴿ أنى يحي هذه الله بعد موتها ﴾ كان على سبيل التعجب والاستبعاد من حيث كونه على خلاف العادة وقول إبراهيم ﴿ رب أرني كيف تحي الموتى ﴾ كان مبنيا حال لطيف يقتضيه الحكمة والله أعلم، قال البيضاوي كفى لك شاهدا على فضل إبراهيم ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال أنه تعالى أراه ما أراد في الحال على أيسر الوجوه وأرى عزيرا بعد ما أماته مائة عام.
١ سورة الإسراء، الآية: ٩٥.
٢ سورة الأنعام، الآية: ٩.
٣ سورة هود، الآية: ٨٠.
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ الجهاد أو غير ذلك من أبواب الخير ﴿ كمثل بحة ﴾ فيه تقدير المضاف إما في المبتدأ أو في الخبر يعني مثل نفقة ﴿ الذين ينفقون كمثل حبة ﴾ أو مثلهم باذر حبة ﴿ أنبتت سبع سنابل ﴾ أسند الإنباث إلى الحبة مجازا لما كانت من الأسباب عادة ﴿ في كل سنبلة مائة حبة ﴾ كما يكون في الدخن وغير ذلك ﴿ والله يضاعف ﴾ ما يشاء من الأضعاف ﴿ لمن يشاء ﴾ من عبادة في الدنيا والآخرة ﴿ والله واسع ﴾ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة ﴿ عليم ﴾ بنيات المنفقين يجزي على حسب نياتهم.
﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ قال البغوي : قال الكلبي : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بارك الله فيما أمسكت وفيما أعطيت " وعثمان جهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فتزلت هذه الآية، وقال : قال عبد الرحمن ابن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقبلها ويقول :" ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " فأنزل الله تعالى :﴿ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ﴾ وروى أحمد عن عبد الرحمن بن سمرة وليس في ذكر نزول الآية ﴿ ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ﴾ ذكر كلمة ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، والمن : أن يعتد بإحسانه على من أحسن إليه والأذى أن يتطاول عليه أو يقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني أو يذكر إنفاقه عليه عند من لا يجب وقوفه، قال البغوي : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان أبي يقول إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه ﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ لعله لم يدخل الفاء فيه، وقد تضمن المبتدأ معنى الشرط إيهاما بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا.
﴿ قول معروف ﴾ كلام حسن ورد جميل على السائل، قال الكلبي : دعاء صالح يدعوا لأخيه بظهر الغيب، وقال الضحاك : نزل في إصلاح ذات البين ﴿ ومغفرة ﴾ أي تجاوز عن السائل الملح بالرد الجميل، وقال البغوي : أي تستر على السائل خلته ولا يهتك عنه ستره وقيل المراد به نيل مغفرة من الله بالرد الجميل، وقيل : المراد مغفرة السائل المسؤول عنه بأن يعذره ويغتفر رده، وقال الكلبي والضحاك : المراد بالمغفرة التجاوز عن من ظلمه ﴿ خير من صدقة يتبعها أذى ﴾ خبر عنهما وإنما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة ﴿ والله غني ﴾ عن إنفاق بمن وإيذاء ﴿ حليم ﴾ عن معاجلة من يمن ويؤذيه بالعقوبة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ ﴾ أجور ﴿ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ ﴾ على السائل، وقال ابن عباس : بالمن على الله ﴿ والأذى ﴾ أي بكل واحد منهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يدخل الجنة منان ولا عاق " رواه النسائي والدارمي ﴿ كالذي ﴾ الكاف في محل النصب على المصدر أو الحال أي إبطالا كإبطال الذي أو مماثلين الذي ﴿ ينفق ماله رئاء الناس ﴾ منصوب على السببية أو الحال أو المصدرية أي لأن يرى الناس أو مرائيا أو إنفاقا رياء ﴿ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ليس هذا قيدا لإبطال الصدقة فإن الصدقة يبطل بالرياء وإن كان المنفق مؤمنا بالله واليوم الآخر لكن ذكر هذا تنبيها على أن الإنفاق رياء ليس من شأن المؤمن بل هو من سيرة المنافق ﴿ فمثله ﴾ أي المرائي ﴿ كمثل صفوان ﴾ حجر أملس، قيل : هو واحد جمع صفي وصفي، وقيل : جمع واحده صفوانة ﴿ عليه تراب فأصابه وابل ﴾ مطر عظيم القطر ﴿ فتركه صلدا ﴾ أملس نقيا من التراب ﴿ لا يقدرون ﴾ الضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى فإن المراد به الجنس أو الجمع ﴿ على شيء مما كسبوا ﴾ أي لا يقدرون في الآخرة على الانتفاع بشيء مما كسبوا في الدنيا ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ فيه تعريض بأن الرياء والمن والأذى من صفات الكفار لنعمة المنعم الحقيقي غير شاكر، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى :" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " وفي رواية :" فأنا منه بريء هو للذي عمله " رواه مسلم، وعن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سمع سمّع الله به ومن يرائي يرائي الله به " متفق عليه، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا جمع الله يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " رواه أحمد، عن معاذ بن جبل قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن يسير الرياء شرك " الحديث رواه ابن ماجه، وعن شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك " رواه أحمد، وعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال الرياء " رواه أحمد، وزاد البيهقي في شعب الإيمان " يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء أو خيرا " وعن شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " قال قلت أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال :" نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكني يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه " رواه أحمد والبيهقي، وعن أي هريرة :" إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها فقال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت، قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت ؟ قال : تعملت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال إنك عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما علمت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق في سبيل الله إلا أنفقت فيها لك، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل به ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار " رواه مسلم، وروى البغوي نحوه وفي آخره ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال :" يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة ".
﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ ﴾ أي لطلب رضائه ﴿ وتثبيتا ﴾ للإسلام وتصديقا بما وعده الله من الجزاء واحتسابا، ويحتمل أن يكون معناه تثبيتا للما فإن الباقي من المال ما ينفعه في الآخرة وما سوى ذلك هالك. عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال :" فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر " رواه البخاري، وعن عائشة قالت إنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي منها قالت ما بقي منها إلا كتفها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بقي كلها غير كتفها " رواه الترمذي وصححها ﴿ من أنفسهم ﴾ من للابتداء متعلق بالتثبيت يعني تثبيت الإيمان والتصديق أو المال يبتدئ من نفسه، أو للتبعيض ويكون ظرفا مستقرا صفة لمفعول محذوف أي تثبيتا شيئا من أنفسهم على الإيمان قال للنفس قوى بعضها مبدأ لبذل المال وبعضها مبدأ لبذل الروح والمال شقيق الروح فمن بذل المال لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه على الإيمان ومن بذل المال والروح جميعا فقد ثتب كل نفسه عليه، قال البيضاوي : فيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال، قلت : ومن ثم قال أبو حنيفة لا يجب الزكاة في مال الصبي حتى يؤديها الولي لأن الحكمة فيها ابتلاء المكلف ببذل ما عو شقيق الروح ابتغاء مرضات الله تعالى وذا لا يحصل بأداء الولي ﴿ كمثل جنة ﴾ أي بستان ﴿ بربوة ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم ههنا وإلى ربوة في سورة المؤمنين بفتح الراء والباقون بالضم وهما لغتان، وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ولا يعلوا عن الماء وإنما قيد الجنة بهذه لأن شجرها يكون أحسن وأزكى ﴿ أصابها وابل ﴾ مطر عظيم القطر ﴿ فأتت ﴾ أعطت ﴿ أكلها ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإسكان الكاف للتخفيف والباقون بالضم يعني ثمرتها ﴿ ضعفين ﴾ نصبه على الحال أي مضاعفا ومثلي ما كانت تثمر بلا وابل أمثاله أي مضاعفا بتضعيفين ﴿ فإن لم يصبها وابل فطل ﴾ أصابها أو فأصابها ظل آتت أكلها عقد قدر، وعلى كلا التقديرين إصابة الوابل وعدمه لا تضيع تلك الجنة أو المعنى فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها، والطل هو المطر صغير القطر، ومعنى الآية إما بتقدير المضاف يعني مثل نفقات الذين ينفقون كمثل جنة فكما أن تلك الجنة لا يضيع كذلك نفقات المؤمن لا يبطل بل إما أن ينضم إليه أمور توجب تضاعف الأجر فحينئذ تضاعف الأجور إلى ما شاء الله تعالى أو لا فحينئذ لا يبطل أصل العمل ويوجب الأجر، وإما بغير تقدير يعني مثل المؤمن الذين ينفق كمثل جنة يعني كما أن الجنة تثمر على حسب الوابل كذلك المؤمن المنفق يؤجر على حسب النفقة قل أو كثر لا يضيع منها شيء ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ هذه الجملة يتعلق بكلا الفريقين الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى أو ينفقون أموالهم رئاء الناس والذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ففيه تحذير وترغيب.
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ الهمزة للإنكار وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ﴾ ﴿ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ جعل النخيل والأعناب بيانا للجنة مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على عدم اقتصار الجنة عليهما ﴿ وأصابه الكبر ﴾ بحيث لا يقدر على الكسب والواو للحال بمعنى وقد أصابه الكبر أو للعطف حملا على المعنى بمعنى أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر ﴿ وله ذرية ضعفاء ﴾ صغار أو نساء لا يقدرون على الكسب والواو للعطف على أصابه أو للحال من ضمير المفعول لأصابه ﴿ فأصابها إعصار ﴾ ريح عاصفة ترتفع إلى السماء كأنها عمود عطف على أصابه أو على تكون باعتبار المعنى ﴿ فيه نار فاحترقت ﴾ والمعنى أنه لا يود أحدكم أن يكون له مال جيد كما ذكر فيحترف في حال كمال حاجته إلى ذلك المال فيخيب ويتحسره ما دام حيا في عالم الفناء فكيف يود أحدكم أن يبطل حسناته يوم القيامة في حال كمال حاجة إليها فيخيب ويتحسر أبدا في عالم البقاء، قال عبيد بن عميرك قال عمر رضي الله عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت ﴿ أيود أحدكم ﴾ الآية ؟ قالوا : الله أعلم، فغضب عمرو قال : قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس في نفسه منها شيء قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل، قال عمر لرجل يعمل بطاعة الله بعث الله له شيطانا فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ فيها فتعتبرون بها.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾ جياد، وقال ابن مسعود ومجاهد : من حلالات ﴿ ما كستبم ﴾ عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يكسب عبد مال فيتصدق منه فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك فيه، ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار لا يمحو السيء بالسيء لكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث »١ رواه أحمد، وهذه الآية سند للإجماع وحجة للجمهور على داود حيث قال : لا يجب الزكاة إلا في الأنعام أو النقود وعند الجمهور يجب في العروض والعقار أيضا إذا كان للتجارة وإنما شرطوا بنية التجارة لأن النمو شرط لوجوب الزكاة بالإجماع ولا نمو في العرورض إلا بنية التجارة، عن ابن عمر : ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة رواه الدارقطني، وعن سمرة بن جندب كان يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع رواه أبو داود والدارني والبراز وعن سليمان بن سمرة عن ابيه عند البزار وفي إسناده جهالة، ومما يدل على وجوب الزكاة في العروض ما روي عن حماس قال : مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقي أدمة أحملها فقال ألا تؤدي زكاتك يا حماس ؟ فقال : ما لي غير هذا أوهب في القرط، قال : تلك مال ضعها فوضعها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت الزكاة فيها فأخذ منها الزكاة رواه الشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وعد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني، وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته » قالها بالزاء المعجمة رواه الدارقطني بثلاثة طرق ضعاف مدار الطريقتين على موسى بن عبيدة الزيدي، قال أحمد : لا يحل الرواية عنه وفي الطريق الثالث عبد الله بن معاوية بن عاصم ضعفه النسائي وأنكره البخاري وفيه ابن جريج عن عمران بن أنيس قال البخاري لم يسمع ابن جريح عنه، وله طريق رابع رواه الدارقطني والحاكم «في الإبل صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته، ومن رفع دارهم أو دنانير لا يعدها لغريم ولا ينفقها في سبيل الله فهو كنز يكوي به يوم القيامة » وهذا إسناد لا بأس به قال ابن دقيق : الذي رأيته في نسخة المستدرك البر بضم الباء الموحدة والراء المهملة. ثم اختلف العلماء فيما إذا لم يبع عروض التجارة سنين ؟ فقال مالك : لا يجب عليه شيء وإن طال زمانه فإذا باعه فليس عليه إلا زكاة واحدة، وقال الأئمة الثلاثة : يجب عليه زكاة في كل سنة وإن لم يبع لعموم قوله صلى الله عليه وسلم يخرج الزكاة عما يعد للبيع يعني سواء بيع أو لا.
﴿ ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ قيل هذه الآية في صدقات التطوع عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من ملسم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة »٢ رواه أحمد والشيخان والترمذي، قلت : هذا الحديث يدل على استحباب الزرع، وحديث أبي أمامة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :«لا يدخل هذا يعني شيئا من آلة الحرث بيت قوم إلا أدخله الذل »٣ رواه البخاري يدل على شؤمه والله أعلم، والصحيح أن الآية في الزكاة لأن الأمر للوجوب ولا وجه لحملها على التطوع فهذا أمر بإخراج العشور من خارج الأرض.
مسألة : أجمع العلماء على وجوب العرشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقيا بماء السماء أو العيون أو الأودية والأنهار التي لا مؤونة فيها ونصف العُشر إن كان مسقيا بغرب أو دالية، وعلى أنه لا صدقة في كلأ وحطب ما لايراد به استغلال الأرض، واختلفوا فيما سوى ذلك من الأصناف ؟ فقال أبو حنيفة : يجب في جميع أصناف الخارج من الحبوب والثمار والخضروات محتجا بعموم هذه الآية وعموم قوله صلى الله عليه وسلم :«فيما سقت السماء والعيون أو كان عشريا العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر » رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن جارود من حديث ابن عمر ورواه مسلم من حديث جابر ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ورواه النسائي وابن ماجه من حديث معاذ ورواه أبو داود وغيره من حديث علي، وقال مالك والشافعي : لا زكاة إلا فيما يقتات به كالرطب والعنب والحنطة والشعير. والحمص والأرز ونحوها لا غير، وقال أبو يوسف ومحمد وأحمد : يجب فيما يبقى في أيدي الناس مما يكال أو يوزن فيجب عندهم في مثل السمسم والشهرانج واللوز والبندق والفتسق والزعفران والكمون والقرطم أيضا، احتجوا على نفي الصدقة في الخضروات بحديث معاذ قال : فيما سقت السماء والسيل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر يكون ذلك من التمر والحنطة والحبوب وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضروات فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفي ضعف وانقطاع إسحاق وابن نافع من رواته ضعيفان قال يحيى بن معين إسحاق ليس بشيء لا يكتب حديثه وقال أحمد والنسائي متروك، ورواه الترمذي بلفظ إنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضروات وعن البقول قال :" ليس فيها صدقة " وهوضعيف أيضا قال الترمذي : إسناد هذا الحديث ليس بصحيح ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وذكر الدارقطني في العلل وقال الصواب مرسل ورى البيهقي من حديث موسى بن طلحة وقال عندنا كتاب معاذ وراوه الحاكم وقال موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا وقال ابن عبد البر لم يلق معاذا ولا أدركه ورواه الدارقطني بطرق عن موسى ن طلحة عن أبيه مرفوعا " ليس في الخضروات صدقة " وفي أحد طرقه الحراث بن بنهان حكى تضعيفه عن جماعة، وفي طريقه الثاني نصر بن حماد قال يحيى كذاب وقال يعقوب بن أبي شيبة ليس بشيء وقال مسلم واهي الحديث وفي طريقه الثالث محمد بن جابر ليس بشيء قال أحمد لا يحدث عنه إلا شر منه، وروى الدارقطني من طريق مروان بن محمد السخاوي عن موسى بن طلحة عن أنس ومروان بن محمد لا يحل الاحتجاج به. وروى أبو يوسف في كتاب الخراج عن موسى بن طلحة أنه كان لا يرى صدقة إلا في الحنطة والشعير والنخل والكرم والزبيب وقال عندنا كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم عن معاذ، والتحقيق أن المرسل عن موسى بن طلحة يصح كذا قال الترمذي وغيره والمرسل حجة لا سيما باعتضاد ما ذكرنا من المسانيد، ويؤيده حديث علي مرفوعا رواه الدارقطني وفيه صقر بن حبيب ضعيف جدا ورواه أبو يوسف مرقوفا وفيه قيس ابن الربيع صدوق سيء الحفظ ليس بالقوي، وحديث عائشة مرفوعا " ليس فيما أنبتت الأرض من الخضرة زكاة " رواه الدارقطني وفيه صالح بن موسى قال البخاري والنسائي : متروك منكر الحديث. وههنا أحاديث أخر تدل على نفي الزكاة في غير أربعة أشياء التمر والزبيب والحنطة والشعير روى الحاكم والبيهقي من حديث أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم :" لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر " قال البيهقي : رواته ثقات وهو متصل، ورواه الطبراني من حديث موسى بن طلحة عن عمر : إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة فذكرها، وكذا روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وروى أبو يوسف عن موسى بن طلحة عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا زكاة إلى في أربعة التمر والزبيب والحنطة والشعير " وروى البيهقي عن الشعبي. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن :" إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب " وقد روي " الزكاة في خمسة " الأربعة المذكورة والذرة لكنه ضعيف واه. قلت : ولما أجمع العلماء على عدم حصر الزكاة في هذه الأربعة وجب تأويله بحذف المضاف يعني لا زكاة إلا في مثل هذه الأربعة فاعتبر مالك والشافعي المماثلة في الاقتيات في حالة الاختيار والأولى أن يعتبر المماثلة في الكيل أو الوزن والادخار لأن المقصود في باب الزكاة الغناء الحاصل بالمال لا الاقتيات وكل ما يكال ويوزن ويدخر يحصل به الغناء فيجب فيه الزكاة، ولا يشترط في زكاة الزروع حولان الحول إجماعا لأن اشتراطها للتنمية وهذا إنماء كله، ولا يشترط العقل والبلوغ لوجوب العشر عند أبي حنيفة أيضا كما لا يشترطان عند غيره في جميع الأموال، وجه الفرق لأبي حنيفة أن زكاة الأموال عبادة محضة لا بد فيه من النية وأما العشر فهو عبادة فيه معنى المؤنة فمن حيث كونه عبادة يشترط فيه الإسلام فيجب على الكافر الخراج دون العشر وكذا إذا اشترى الكافر أرضا عشرية عند الجمهور خلافا لمحمد، ومن حيث كونه مؤنة يجب على الصغير والمجنون أيضا كما يجب عليه نفقة الزوجة ونحوها.
واختلفوا في اشتراط النصاب ؟ فقال أبو حنيفة : لا يشترط فيه النصاب وتجب الصدقة في الخارج وإن قل للعمومات المذكورة في الخلافية الأولى وهو المروي عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد وإبراهيم النخعي أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الثلاثة فيما أنبتت من قليل أو كثير العشر وزاد في حديث النخعي حتى في عشر وستجات بقل وستجة وأخرج أبو يوسف عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم نحوه، وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد : يشترط فيه النصاب وذلك خمسة أوسق كل وسق ستون صاعا مما يكال بالأوسق ومما لا يكال بالأوسق يعتبر خمسة أعداد من أعلى ما يقدر به ذلك الجنس عند محمد ففي القطن خمسة أحمال كل حمل ثلاثمائة من وفي الزعفران خمسة أمناء ويعتبر بقيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق عند أبي يوسف والحجة لجمهور على اشتراط النصاب قوله صلى الله عليه وسلم :" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه مسلم من حديث جابر ورواه أحمد والدارقطني من حديث أبي هريرة والبيهقي من حديث عمرو بن حزم الدارقطني من حديث عائشة والله أعلم.
مسألة : هذه الآية تدل على أن العشر واجب في خارج كل أرض للإطلاق وعدم تقييده بأرض دون أرض فإن ملك المسلم أرض خراج وزرع فيه فإما أن يسقط عنه الخراج فيحب عليه العشر فقط و يجتمع هناك عشر في الزرع والخراج في الأرض وذلك عند الجمهور فإن الخراج وظيفة الأرض والعشر زكاة الأرض ومن ثم يشترط النصاب في الخارج، وقال أبو حنيفة : لا يسقط الخراج عن أرض خراجية قط ولا يجتمع في أرض عشر وخراج فإن العشر عنده زكاة الأرض دون الزرع ومن ثم لا يشترط النصاب عنده في الخارج ومسألة سقوط الخراج وعدمه لا مقام لها ههنا ولم يثبت منع الجمع عن يحيى بن عنبسة حدثنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يجتمع على مسلم عشر وخراج " باطل، قال أبو حاتم : ليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث كذب على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عدي : لا يروي هذا الحديث غير يحيى بن عنبسة بهذا الإسناد وإنما يروي هذا من قول إبراهيم وقول إبراهيم ليس بحجة وكذا قول الشعبي وعكرمة لا يجتمع عشر وخراج في أرض أو في مال روى الأثرين ابن أبي شيبة، واحتج صاحب الهداية بالإجماع فقال : أحد من أئمة الجور والعدل ثم يجمع بينهما وكفى بإجماعهم حجة، ودعو
١ رواه أحمد ورجال إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات، انظر مجمع الزوائد قس كتاب: الإيمان، باب: في الإسلام والإيمان﴿١٦٤﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المزارعة، باب: فضل الزرع والغرس إذا أكل منه﴿٢٣٢٠﴾أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع﴿١٥٥٣﴾. وأخرجه الترمذي في كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في فضل الغرس﴿١٣٨٢﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المزارعة، باب: ما يحذر من الاشتغال بآلة الزرع﴿٢٣٢١﴾.
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ والوعد يستعمل في الخير والشر لكن إذا لم يكن هناك قرينة باقل في الخير وعدته وفي الشر أو عدته، والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد أصله من كسر الفقار، يعني الشيطان يخوفكم بالفقر إذا تصدقتم ﴿ ويأمركم بالفحشاء ﴾ أي المعصية وهي منع الزكاة أو ما يعم ذلك، قال الكلبي : كل فحشاء في القرآن فهو الزنى إلا هذا ﴿ والله يعدكم ﴾ في الإنفاق ﴿ مغفرة منه ﴾ لذنوبكم ﴿ وفضلا ﴾ خلفا أفضل مما أنفقتم في الدارين أو في الآخرة ﴿ والله واسع ﴾ الفضل لمن أنفق ﴿ عليم ﴾ عن أبي هريرة مرفوعا " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " متفق عليه، وعن أسماء قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك أرضخي ما استطعت " متفق عليه، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هم الأخسرون ورب الكعبة، قلت : من هم ؟ قال : هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " متفق عليه، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل " رواه الترمذي، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخيا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة والشح شجرة في النار فمن كان شحيحا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله النار " رواه البيهقي، وعن علي مرفوعا " بادروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها " رواه رزين.
﴿ يؤتي الحكمة ﴾ أي العلم النافع على ما هو في نفس الأمر الموصل إلى رضاء الله تعالى والعمل به وذلك لا يتصور إلا بالوحي فهو للأنبياء أصالة ولغيرهم وراثة، أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا قال الحكمة القرآن، قال ابن عباس يعني تفسيره فإنه قد قرأه البر والفاجر ﴿ من يشاء ﴾ مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني ولذلك بني الفعل للمفعول لأنه هو المقصود في قوله تعالى :﴿ ومن يؤت الحكمة ﴾ في قراءة الجمهور وقرأ يعقوب بالكسر من يؤتيه الله الحكمة ﴿ فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ التنكير للتعظيم أي خيرا كثيرا يجمع خير الدارين، عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي " متفق عليه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم وعن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من دل على خير فله أجر مثل أجر فاعله " رواه مسلم، وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر " رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي، وعن أبي أمامة الباهلي قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء يصلون على معلم الناس الخير " رواه الترمذي ﴿ وما يذكر ﴾ أي يتعظ بما قص الله عليه من الآيات في الإنفاق وغيره ويتفكر فيما أودع الله تعالى في قلبه من العلوم بالفعل أو بالقوة ﴿ إلا أولو الألباب ﴾ أي ذووا العقول السليمة عن معارضة الرهم وخطرات الشيطان، قلت وذلك بعد الفناء الأتم للنفس.
﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَة ﴾ قليلة أو كثيرة في سر أو علانية في حق أو باطل ﴿ أو نذرتم من نذر ﴾ أي ما أوجبتم لله تعالى على أنفسكم من الطاعات بشرط أو غير شرط ﴿ فإن الله يعلمه ﴾ فيجازيكم عليه، الضمير عائد إلى ما ﴿ وما للظالمين ﴾ الذين لا ينفقون في سبيل الله ولا يوفون بالنذور أو ينفقون رياء أو في معصية ﴿ من أنصار ﴾ ينصرونهم ويدفعون عذاب الله عنهم.
﴿ إن تبدوا الصدقات ﴾ أي تظهروها لا على قصد الرياء ﴿ فنعما هي ﴾ أي فنعم شيئا إبداؤها، قرأ ابن كثير وورش وحفص هنا وفي النساء بكسر النون والعين، وقالون وأبو بكر وأبو عمر وبكسر النون وإخفاء حركة العين ويجوز إسكانها والباقون بفتح النون، وكسر العين وكلها لغات صحيحة ﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء ﴾ مع الإخفاض ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ﴾ وأفضل من الصدقة العلانية. عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدقة السر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر " رواه الطبراني بسند حسن، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله عز وجل اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " متفق عليه، وعن ابن مسعود يرفعه قال :" ثلاثة يحبهم الله رجل قام من الليل يتلو كتاب الله، ورجل تصدق بصدقة يمينه يخفيها ﴿ أراه قال ﴾ من شماله، ورجل كان في سرية فانهزم أصحابه فاستقبل العدو " رواه الترمذي، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوما فسألهم بالله لم يسألهم لقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلف رجل بأعيانهم فأعطاه سرا لا يعلم عطيته إلا الله والذين أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلوا آياتي، ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا فأقبل بصدر حتى يقتل أو يفتح، والثلاثة الذي يبغضهم الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم " رواه الترمذي والنسائي ﴿ ويكفر ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنون على صيغة المتكلم المعلوم والرفع، وقرأ حفص وابن عامر بالياء على صيغة الغائب والرفع على أنه جملة فعلية مبتدئة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر أو الله يكفر أو يكفر الله، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم على أنه معطوف على محل الفاء لأن موضعها موضع الجزم بالجزاء ﴿ عنكم من سيئاتكم ﴾ قيل : من زائدة، وقيل هو للتعيض أو يكفر الصغائر من الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صدقة السر تطفئ الذنب " رواه الطبراني في الصغير من حديث أبي سعيد ﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ ترغيب في الإسرار.
روى النسائي والطبراني والبزار والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا فرخص بهم فنزلت ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ وكذا روى ابن أبي شيبة عن محمد بن حنيفة مرسلا، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام فنزلت ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ فأمر بالصدقة على كل إنسان من كل دين، وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير، وروى ابن أبي شيبة مرسلا عن سعيد بن الجبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله تعالى ﴿ ليس عليك هداهم ﴾ الآية فقال عليه السلام " تصدقوا على أهل الأديان كلها " يعني لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديين حيث تمنعهم من الصدقة ليدخلوا في الإسلام لحاجة منهم إليهم، وذكر البغوي قول الكلبي في سبب نزوله أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقونهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا أكرهوا أن ينفقوهم وأرادوهم على أن يسلموا ﴿ ولكن الله يهدي ﴾ أي يجعل مهديا ﴿ من يشاء ﴾ فإن الهداية من الله تعالى وبمشيئته ﴿ وما تنفقوا من خير ﴾ من نفقة معروفة أو المراد بالخير المال ﴿ فلأنفسكم ﴾ يعني يعود نفعها إلى أنفسكم فلا تمنوا به على الفقير ولا تنفقوا الخبيث ﴿ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ﴾ الواو للحال من فاعل تنفقوا يعني ما تنفقوا من خير غير منفقين إلا ابتغاء وجه الله فهو لأنفسكم، أو هو عطف على ما قبله يعني ليس نفقتكم أيها المؤمنون إلا ابتغاء الله وجه الله فما لكم تمنون بها على الفقير أو تنفقون الخبيث فهو إخبار عن حال للمؤمنين يقتضي ذلك الحال ترك المن ونحو ذلك، أو هو نفي لفظا ونهي معنى يعني لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وهذا يقتضي تحريم الإنفاق إذا لم يكن فيه ابتغاء وجه الله فإنه إضاعة المال وذلك حرام ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ يوفر لكم ثواب أضعافا مضاعفة ولما كان فيه معنى الأداء عدي بإلي، أو المعنى وما تنفقوا من خير يوف إليكم خلفه استجابة لقول الملك اللهم أعط منفقا خلفا كما مر، ذكر بين الجمل الثلاث حرف العطف مع أن الظاهر أن هذه الشرطية تأكيد للشرطية السابقة فينبغي أن لا يعطف، لأنه ليس المقصود به التأكيد فقط بل أريد به إيراد دليل بعد دليل على قبح المن والأذى فإن الجملة الأولى تدل على أن المنة على الغير بما فيه منفعة لكم قبيح، والثانية على أن المنة على الفقير بالذي يبتغون به وجه الله طلب عوض من غير من هوله، والثالثة على أن المنة الغير بما تأخذون العوض منه أضعافا مضاعفا ولا منة فيما يؤخذ منه العوض مرة كالبيع ﴿ وأنتم لا تظلمون ﴾ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، وهذا في صدقة التطوع يجوز أن يعطي الذمي منها، وأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين، واختلفوا في صدقة الفطر والكفارات والنذر فقال أبو حنيفة يجوز دفعها إلى الذمي لعموم قوله تعالى :﴿ إنما الصدقات للفقراء ﴾١ وإنما لم يجز دفع الزكاة إليه لحديث بعث معاذ إلى اليمن وفيه " قد فرض الله عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " متفق عليه من حديث ابن عباس، قال صاحب الهداية : هو حديث مشهور جاز به الزيادة على إطلاق الكتاب وقال ابن همام : الآية عام خص منه الحربي بالإجماع مستندين إلى قوله تعالى :﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم ﴾ الآية، فجاز تخصيصه بعد بخبر الواحد.
١ سورة التوبة٦٠.
﴿ للفقراء ﴾ الظرف إما لغو متعلق بقوله ﴿ ما تنفقوا ﴾ يعني ما تنفقوا من خير للفقراء فهو لأنفسكم يوف إليكم، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه ما سبق يعني اعمدوا صدقاتكم للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو هو ظرف مستقر خبر مبتدأ مقدر قبله يعني صدقاتكم للفقراء أو مقدر بعده يعني للفقراء الذين أحصروا حق عليكم ﴿ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ في تحصيل العلوم الظاهرة والباطنة والجهاد ﴿ لايستطيعون ﴾ لانشغالهم بالعلم والجهاد ﴿ ضربا ﴾ ذهاب ﴿ في الأرض ﴾ للكسب والتجارة ﴿ يحسبهم ﴾ قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين في المضارع على وزن يسمع، وقرأ الآخرون بالكسر هو شاذ في غير المثال ﴿ الجاهل ﴾ بحالهم ﴿ أغنياء من التعفف ﴾ أي من أجل تعففهم من السؤال، والتعفف تفعل من العفة هو ترك السؤال تكلفا لقناعتهم ﴿ تعرفهم ﴾ يعني تعرف أيها النبي حاجتهم وفقرهم ﴿ بسيماهم ﴾ لا بقولهم، والسيماء العلامة التي يعرف بها الشيء، يعني بصفرة ألوانهم من الجوع والضر ورثاثة ثيابهم ﴿ لا يسألون الناس إلحافا ﴾ إلحاحا وهو أن يلازم المسؤول منه حتى يعطيه، والمعنى أنهم لا يسألون غالبا ولأجل هذا يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء وتعرف حاجتهم بسيماهم وإن سألوا عن ضرورة أحيانا لم يلحفوا، وقيل : هو نفي لمطلق السؤال يعني لا يسألون أصلا فيقع فيه الإلحاف، منصوب على المصدر فإنه كنوع من السؤال، أو على الحال أي ملحفين. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس هم أهل الصفة كانوا نحوا من أربعمائة رجل من فقراء المهاجرين لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سأل منك وله وقية أوعد لها فقد سأل إلحافا " رواه مالك وأبو داود والنسائي، وعن الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه " رواه البخاري، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة :" اليد العليا خير من اليد السفلى " متفق عليه، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح " قيل يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال :" خمسون درهما أو قيمتها من الذهب " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي، وعن سهل بن حنظلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سأل وعنده ما يغنيه فإنا يستكثر من النار " قال النفيلي وهو أحد رواته : وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة ؟ قال :" قدر ما يغديه ويعشيه " وقال في موضع آخر :" أن يكون له شبع يوم أو ليلة ويوم " رواه أبو داود. قلت : والجمع بين هذه الأحاديث الواردة في نصاب حرمة السؤال الحمل على اختلاف أحوال الرجال فمن كان عنده شبع يوم وليلة وكان يرجو تيسر شبع الغد لا يحل له المسألة، ومن كان لا يرجو ذلك يجوز له السؤال حتى يحصل عنده ما يكفي لمده يتيسر له ما يحتاج إليه غالبا، ومن كان له شبع ولا يكون عنده ما يستر به عورته أو ما يسد به خلته يجوز له سؤال ما يحتاج إليه وأربعون درهما نصاب لحرمة السؤال مطلقا والله أعلم ﴿ وما تنفقوا من خير فإ الله به عليم ﴾ وعليه مجاز ترغيب في الإنفاق خصوصا على مثل هؤلاء.
﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ يعني في جميع الأوقات والأحوال كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا في قضائها ولم يؤخروه ولم يعللوا بوقت ولا حال، أخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال : نزلت في علي بن أبي طالب كانت معه أربعة دارهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما، وذكر البغوي عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ للفقراء الذين أحصروا ﴾ الآية بعث بعد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة وبعث علي بن أبي طالب في جوف الليل بوسق من تمر فأنزل الله تعالى فيهما عنى بالنهار علانية صدقة عبد الرحمن وبالليل سرا صدقة علي، وذكر البغوي أنه قال أبو أمامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي : أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعتلف ليلا ونهارا سرا وعلانية وكذا أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد وأبوه مجهولان، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة " رواه البخاري ﴿ فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ خبر لقوله تعالى :﴿ الذين ينفقون ﴾ وحينئذ الفاء للسببية وقيل قوله تعالى :﴿ الذين ينفقون ﴾ إلى آخره مبتدأ خبره محذوف أي منهم الذين ينفقون، وحينئذ الفاء لعطف الجملة على الجملة ﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
+++
﴿ الذين يأكلون الربا ﴾ كتبت بالواو على لغة من فخم كما كتبت الصلاة وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع ﴿ لا يقومون ﴾ من قبورهم كذا أخرج عبد الرزاق تفسيره عن عبد الله بن سلام ﴿ إلا كما يقوم ﴾ أي قياما كقيام ﴿ الذي يتخبطه الشيطان ﴾ يعني الجن، و الخبط الضرب الشديد والإفساد، في القاموس خبط الشيطان فلانا مسه بأذى كتخبطه أو يتخبطه يفسده ﴿ من المس ﴾ أي الجنون أو اللمس، متعلق بيقوم أو بيتخبط أي لا يقومون إلا كما يقوم من الجنون الذي مسه الشيطان بأذى وأفسد عقله، أو إلا كقيام الذي يفسده الشيطان من اللمس يعني عرضه الجنون وفساد العقل بمس الشيطان وخبطه والمرض والصرع والجنون قد يحصل بمس الشيطان فلا يحتاج ذلك إلى ما قبل أنه وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان، فإن حدوث المرض بمس الشيطان ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام ﴿ ربه أنه مسني الشيطان بنصب وعذاب ﴾١ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستحاضة «ركضة من ركضات الشيطان »٢ وقيام أكلة الربا هكذا لأجل أن الله تعالى يربي ما في بطونهم ما أكلوه من الربا فيكون بطونهم كالبيوت فيها حيات فأثقلهم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال :«فانطلق بي جبرائيل إلى رجال كثيرة كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على ساهلة آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا، قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيترددونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال وآل فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة أبدا قال ويوم القيامة يقول ﴿ ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾، قلت : يا جبرئيل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء :﴿ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ﴾ » رواه البغوي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أتيت ليلة أسرى بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا »٣ رواه أحمد وابن ماجه، وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس في هذه الآية قال : يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطعون القيام إلا كما يقول المتخبط المخفق، وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخفق، والطبراني عن عوف بن مالك عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ : مجنونا يتخبط، ويحتمل أن يقال في تأويل الآية أنهم لا يقومون من مجلس يأكلون فيه مال الربا إلا كما يقوم المجنون بمعنى أن آكل الربا يسود به قلبه بمجرد الأكل فلا يميز بعد ذلك بين الحق والباطل والحلال والحرام كما لا يميز المجنون بين الخير والشر فإن لقمة الحرام يصير جزء من بدنه فيتغير به حقيقته بخلاف غير ذلك من المعاصي فإنها كالأعراض الزائدة على الحقيقة، ومن ثم لعن رسول صلى الله عليه وسلم آكل الربا وجعله أشد من الزنى عن جابر وابن مسعود عند مسلم، وعن أبي جحيفة عند البخاري قال :«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله، وزاد أبو داود والترمذي عن ابن مسعود ومسلم عن جابر وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء، وعن علي نحوه رواه النسائي وفيه مانع الصدقة مكان شاهديه، وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" درهم ربا يأكل الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زينة » رواه أحمد والدارقطني وعن أنس نحوه رواه ابنأبي الدنيا، وعن ابن عباس نحوه وزاد " من نبت لحمه بالسحت فالنار أولى به " رواه البيهقي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه " رواه ابن ماجة والبيهقي والحوب الإثم ﴿ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ﴾ أي العقاب بسبب كفرهم واستحلالهم الحرام وهذا يدل على أن هذا العقاب مخصوص بالكفار دون من ارتكبه من المؤمنين معترفا بتقصيره، أو يكون ذلك إشارة إلى تأبيد هذا العذاب المستفاد من قوله تعالى :﴿ لا يقومون إلا ﴾ كذلك فإنه نفي داخل على مصدر منكر في زمان منكر من الأزمنة المستقبلية والنكرة في حيز النفي تفيد العموم، فمعناه أن تأبيد هذا العذاب مخصوص بالكفار وأما من ارتكبه من المؤمنين فقد يلحقه ذلك العذاب إلى أن يتداركه شفاعة من نبيه أو رحمة من ربه وكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان الأصل إنما الربا مثل البيع لكن عكس للمبالغة في نفي تحريم الربا كأنهم جعلوا أصلا في الحل.
﴿ وأحل الله البيع ﴾ قال فخر الإسلامك البيع لغة مبادلة المال بالمال وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي، والصحيح أن التراضي مأخوذ في المعنى اللغوي أيضا فإنه ما لا يكون بالتراضي يطلق عليه في اللغة اسم الغصب دون البيع، والمبادلة بالاختيار والتراضي لا بد فيه من التميز، ومن ثم انعقد الإجماع على أنه لا يصح بيع المجنون والصبي الذي لا يعقل. واختلفوا في بيع الصبي العاقل ؟ فقال مالك والشافعي لا يصح لقصور عقله، وقال أبو حنيفة وأحمد يحص لكن يشترط انضمام رأي الولي لدفع ضرر عنه متوقع من قصور عقله وهذا الاشتراط ثابت بالشرع قال الله تعالى :﴿ فليملل وليه بالعدل ﴾ وقال الله تعالى :﴿ وابتلو اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ وذلك المبادلة إنشاء أمر يحصل بالإيجاب والقبول بلفظ ماض نحو بعت واشتريت فإن الشرع وضع تلك الألفاظ لذلك الإنشاء، ويقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول عند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى وهو رواية عن الشافعي وأحمد، وقال الكرخي : إنما ينعقد بالتعاطي في الخسيس دون النفيس وبه قال أحمد والراجح من مذهب الشافعي أنه لا ينعقد بالتعاطي، قلنا : التعاطي يدل على التراضي كالقول وهو المقصود قال الله تعالى :﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض منك ﴾ ويشترط في المباشر من ولاية شرعية كائنة من ملك أو وكالة أو وصية أو قرابة أو غير ذلك.
مسألة : واختلفوا في بيع الفضولي ؟ فقال أبو حنيفة ومالك الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة فيصح بيع ويتوقف على إجازة المال وكذلك شراء الفضولي عندهما يتوقف على إجارة المشتي له إذا أضاف الفضولي العقد إلى المشتري له بأن قال بع عبدك لزيد فقال بعت فقال الفضول اشتريت لزيد، وأما إذا لم يضف ينفذ على العاقد وبه قال الشافعي في القديم والراجح من مذهب الشافعي أنه لا يصح، وعن أحمد كالرواية. احتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام " لا تبع ما ليس عندك " وما رواه ابن الجوزي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يحل بيع ما ليس عندك ولا ربح ما لم يضمن " قلنا : المراد به البيع الذي تجري فيه المطالبة من الجانبين وهو النافذ فالمنهي عنه بيع شيء معدم عنده وقت البيع ثم يشتريه فيسلمه المشتري، يفيد هذا المراد سياق قصة حديث حكيم قال حكيم يا رسول الله إن الرجل يأتيني فيطلب مني سعلة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فأشتريها فأسلهما قال عليه السلام :" لا تبع ما ليس عندك " رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان في صحيحه من حديث يوسف بن ماهك عن حكيم، ووقع التصريح عن يوسف وحكيم وزعم عبد الحق أن عبد الله ضعيف جدا ونقل عن ابن حزم أنه مجهول، قال ابن حجر : هذا جرح مردود وقد روى عنه الثلاثة واحتج به النسائي وقال الترمذي حسن صحيح. ولنا : حديث عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع دينارا إليه ليشتري به شاة فاشترى شاتين وباع أحدهما بدينار وجاء بشاة ودينار فقال :" بارك الله لم في صفقة يمينك " فكان لو اشترى ترابا ربح فيه، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني وفي إسناده سعيد بن زيد ضعفه القطان والدارقطني ووثقه ابن سعد وأثنى عليه أحمد وقال المنذري والنووي إسناده حسن صحيح، ورواه الشافعي والكرخي بسند آخر عن ابن عيينة عن شبيب بن عرفدة سمعه من قومه عن عروة البارقي، وقال الشافعي : إن صح قلت به، قال البيهقي : إنما ضعفه الشافعي لأن قومه غير معروف فهو مرسل كذا قال الخطابي، وروى الكرخي بسند آخر عن شبيب بن عرفدة أخبرنا الحسن بن عروة البارقي فذهب الإرسال واتصل وأيضا المرسل عندنا حجة وقد اعتضد بمسند ذكرنا قبله قبله عن أبي لبيدة عن عروة، وروى الترمذي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن حكيم ابن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه دينارا ليشتري أضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار فجاء بالشاة والدينار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" بارك الله في صفقتك " فأما الشاة فضحي بها وأما الدينار فتصدق، قال الترمذي : لا يعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه وحبيب لم يسمع عندي من حكيم، وروى أبو داود من طريق شيخ من أهل المدينة عن حكيم، قال البيهقي : ضعيف من أجل هذا الشيخ، والله أعلم.
وإذا ظهر لك أن البيع هو مبادلة مال بمال ينقسم إلى قسمين ما هو مقصود بذاته فقصد به صورته وماليته وهو العين، وما هو غير مقصود بذاته بل هو وسيلة لتحصيل غيره خلقة وهو النقدين. فالبيع ينقسم إلى أربعة أقسام : بيع العين بالنقد وهو البيع المطلق حيث ينصرف الذهن عند الإطلاق إليه فالعين هو المبيع والنقد هو الثمن ويشترط فيه وجود المبيع وتعيينه عند العقد إجماعا لأنه هو المقصود وبذاته ويقصد صورته وماليته، ويدل على اشتراط كونه موجودا حديث حكيم بن حزام وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكورين وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، رواه الدرقطني، ولا يشترط فيه وجود الثمن ولا تعيينه بل يثبت في الذمة لأنه غير مقصود بذاته ولا يقصد صورة وكان القياس أن يشترط وجوده لأن المعدوم ليس بمال لكن الشرع أبطل هذا الشرط دفعا للحرج واعتبر وجوده في الذمة لكن يشترط أن يكون الثمن معروفة الجنس والقدر والصفة والأجل إن كان مؤجلا كيلا يفضي إلى المنازعة وهي تمنع الجواز، عن عائشة رضي الله عنها قال : اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد " متفق عليه، وعنها قالت : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي يثلاثين صاعا من شعير، رواه البخاري، وكذا روى أحمد والترمذي عن ابن عباس وقال الترمذي : هذا حديث صحيح، وانعقد الإجماع على اشتراط تعيين المبيع دون الثمن وكون الثمن معروفا. والقسم الثاني : بيع العين بالعين ويسمى مقايضة فكل واحد من البدلين ههنا مبيع يشترط فيه ما يشترط في المبيع إجماعا إن كان البدلان من ذوات القيم وإن كان أحدهما من ذوات الأمثال والآخر من ذوات القيم تعين هذا للمبيع وذلك للثمن لأن الثمن لا يشترط وجوده فيكون في الذمة ولا يتصور الوجود في الذمة إلا ما يحيط الذهن بقدرة ووصفه، وإن كانا من ذوات الأمثال فعلى قول علماء الحنفية يجب وجود أحدهما وتعيينه فيكون ذلك مبيعا وما كان في الذمة يكون ثمنا، وعلى ما أرا وجود أحدهما وتعيينه فيكو
١ سورة ص، الآية: ٤١.
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الطهارة، باب: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة﴿٢٨٦﴾.
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: التجارات، باب: التغليظ في الربا ﴿٢٢٧٣﴾ قال في الزوائد: في إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.
﴿ يمحق الله الربا ﴾ أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه، عن بان مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة " رواه ابن ماجة وصححه الحاكم وفي رواية له :" الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل " ﴿ ويربي الصدقات ﴾ أي يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه، قد مر حديث أبي هريرة مرفوعا " إن الله يقبل الصدقة فيربيها كما يربي أحدكم فلوه " الحديث متفق عليه، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله بفعو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه " رواه مسلم والترمذي وروى أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف بلفظ " ما نقص مال من صدقة " وقد تقدم حديث الملكين النازلين كل يوم يقول أحدهما " اللهم أعط منفقا خلفا " الحديث ﴿ والله لا يحب ﴾ أي يبغض، فإن مقتضى القيومية المحبة ولا ينتفي المحبة إلا بعارض يوجب البغض وهو الكفر ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله " رواه البيهقي في الشعب عن عبد الله ﴿ كل كفار ﴾ مصر على تحليل المحرمات ﴿ أثيم ﴾ منهمك في الآثام.
﴿ إن اللذين آمنوا ﴾ بالله ورسله وبما جاؤوا به منه ﴿ وعلموا الصالحات ﴾، أتوا بما أمرهم الله على لسان رسله وانتهوا عما نهى عنه ومنه الربا ﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ خصهما بعد التعميم لإظهار شرفهما فإنهم رأس العبادات البدنية والمالية ﴿ لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ﴾ ومن آت ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ على ما فات عنهم بعد ما أدركوا أعظم نعم الله تعالى وهو الإيمان مع الأعمال الصالحة.
أخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال بلغنا أن بني عمرو بن عوف الثقفي كانوا يداينن بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما أظهر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على مكة ووضع يومئذ الربا كله فأتوا بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة، فقال بنو المغيرة ما جعلنا الله أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا فقال بنو عمر صولحنا على أن لنا ربانا فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ﴾ أي اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ بقلوبكم فامتثلوا بما أمركم الله به فإن امتثال الأوامر والنواهي دليل صدق الإيمان، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ثقيف أربعة أخوة منهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير كذا قال مقاتل، وقال البغوي : قال السدي : نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس في ثقيف فجاء الإسلام ولهما أموال عظيم في الربا فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبة يوم عرفة :" ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد قتله هذيل، وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها " وروى مسلم في حديث جابر في قصة حجة الوداع في خطبته يوم عرفة هذه العبارة ولم يذكر ذكر نزول الآية فيه، وقال البغوي قال عطاء وعكرمة إن العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
﴿ فإن لم تفعلوا ﴾ أي لم تذروا ما بقي من الربا ﴿ فأذنوا ﴾ قرأ حمزة وأبو بكر فأذنوا بالمد على وزن آمنوا وكسر الذال أي فأعلموا غيركم أنكم حرب الله ورسوله، وأصله من الإذن أي أوقعوا في الأذان، وقرأ الآخرون فأذنوا بهمزة ساكنة على وزن المجرد بفتح الذال أي اعلموا أنتم وأيقنوا ﴿ بحرب من الله ﴾ تنكير الحرب للتعظيم، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب، وعن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتري التمرة حتى يطعم وقال إذا ظهر الربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله رواه الحاكم وقال صحيح وقال صحيح الإسناد، وعن عمرو بن العاص قالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب " رواه أحمد ﴿ ورسوله ﴾ قال أهل المعاني : حرب الله النار وحرب الرسول السيف، ومن ثم قال البيضاوي : ذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستتابة حتى يفيء إلى أمر الله وهذا هو الحكم فيمن ترك فريضة من الفرائض كالصلاة والزكاة ونحوهما أو ارتكب كبيرة من كبائر وأصر عليها بالإعلان. روى رزين عن عمر بن الخطاب في مناقب أبي بكر لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدي زكاة، فقال أبو بكر لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال لي أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام إنه قد انقطع الوحي  وتم الدين أينقص وأنا حي، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال : فعرفت أنه الحق ﴿ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ﴾ بأخذ الزيادة عليها ﴿ ولا تظلمون ﴾ بالمطل والنقصان على رأس المال عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" مطل الغني ظلم وإذا أتبع على مليء فليتبع " متفق عليه، قال البيضاوي : يفهم منه أنهم إن لم يتركوا فليس لهم ما لهم إذا لمصر على التحليل مرتد وماله فيء وهو سديد على ما قلنا يعني على قول الشافعي فإن مال المرتد كله فيء عنده، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فما اكتسبه في حالة الردة كان فيئا والمفهوم ليس بحجة عند أبي حنيفة على أنه إذا كان لورثته لم يكن له والله أعلمن قال البغوي لما نزلت هذه الآية قالت بنو عمرو والمربون بل نتوب إلى الله تعالى لا يدلنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال، هذا تتمة حديث ذكره أبو يعلى.
قال البغوي : فشكا بنو مغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة ﴾ كان ههنا تامة لا يقتضي الخبر يعني إن وقع غريم ذو عسرة، وقال البغوي : لم يأتي لها بخبر وذلك جائز في النكرة يقول إن كان رجل صالح أكرمه، قلت : يعني إن كان ذو عسرة غريما، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين والباقون بالإسكان ﴿ فنظرة إلى ميسرة ﴾ أي فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة، أو فليكن نظرة وهي الإمهال قرأ نافع بضم السين والباقون بفتحها، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم :" من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة " رواه مسلم في حديث وابن حبان هكذا مختصرا ﴿ وأن تصدقوا خير لكم ﴾ أكثر ثوابا من الإنظار، ويحتمل أن يراد بالتصدق هو الإنظار لحديث عمران ابن محصن مرفوعا " لا يحل دين امرئ مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة " رواه أحمد، يعني الإنظار خير لكم مما تأخذون، والظاهر أن المراد بالتصدق الإبراء وهو خير وأكثر ثوابا من الإنظار، عن أبي هريرة قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول :" إن أول الناس يستظل في ظل الله يوم القيامة لرجل أنظر معسرا حتى يجد شيئا أو تصدق عليه مما يطلبه يقول مالي عليك صدقة ابتغاء وجه الله ويحرق صحيفته " رواه الطبراني، وروى البغوي في شرح السنة بلفظ من نفس غريم أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة، وعن عثمان بن عفان نحوه، وروى البغوي عن أبي اليسر نحوه وروى الطبراني في الكبير من حديث أسعد بن زرارة، وفي الأوسط من حديثه شداد بن أوس نحوه، وعن أبي قتادة. أنه كان يطلب رجلا بحق فاختبئ منه فقال ما حملك على ذلك قال العسرة فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة " وروى مسلم المرفوع عنه وعن أبي مسعود قال :" إن الملائكة تلقت روح رجل قبلكم فقالوا له : هل عملت خيرا قط ؟ قال : لا، قالوا : تذكر، قال : لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر قال الله تعالى تجاوزوا عنه " رواه مسلم، وروى مسلم عن عقبة بن عامر نحوه، وفي الصحيحن عن حذيفة نحوه ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ فضل الإنظار والتصدق ما شق ذلك عليكم.
﴿ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ﴾ أي يوم القيامة أو يوم الموت فتأهبوا لمصيركم إليه، قرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء أي تصيرون والآخرة بضم التاء وفتح الجيم على البناء للمفعول أي تردون ﴿ ثم توفى كل نفس ما كسبت ﴾ أي جزاء ما كسبت من خير أو شر ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بتنقيص ثواب أو تضعيف عقاب قال ابن عباس هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبرائيل ضعها على رأس مائتي آية وثمانين آية من سورة البقرة كذا قال البغوي، وأخرجه الثعلبي من طريق السدي الصغير كذا قال البغوي وقيل أحد وثمانين يوما أخرجه الفريائي عن ابن عباس، وقيل سبع ليال ومات يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة أحد عشر من الهجرة كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير والله أعلم وإن الله قد ختم الوحي بآية التهديد.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم ﴾ أي تعاملتم معاملة يجب فيه دين في ذمة أحد المتعاقدين، وإنا قيدنا بقولنا في ذمة أحد المتاقدين، لأنه لا يجوز بيع الكالئ بالكالئ بالإجماع مستندا بحديث ابن عمر، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، رواه الدارقطني وهذه الآية يشتمل البيع والسلم والإجارة والفرض بل النكاح والخلع والصلح أيضا ﴿ بدين ﴾ إنما ذكره لئلا يتوهم من التداين المجازات وليكون مرجعا لضمير فاكتبوه، وهو نكرة وقع في حيز الشرط فيعم كل دين ثمنا كان أن ومثمنا مكيلا أو موزونا أو غيرهما مؤجلا كان أو حالا، وبقوله ﴿ إلى أجل ﴾ خرج منه منا كان حالا فإنه لا حاجة إلى كتابته غالبا ﴿ مسمى ﴾ أي سمي مدته بالأيام أو الشهر أو السنين حتى يكون معلوما، وإنما قيد به لأن البيع بثمن مؤجل والسلم لا يجوز ما لم يكن الأجل معلوما فإن جهالته يفضي إلى المنازعة والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي المبيع في السلم وفي النكاح وغير ذلك إلا في القرض فلا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله ولا لمن عليه الحق المطل بعد محله، وأما في القرض فلا يلزم الأجل بالتأجيل لأن الشرع اعتبره عارية كأن المؤدى عين المدفوع كيلا يلزم ربا النساء، فهذه الآية بعبارته يشتمل البيع بثمن مؤجل والسلم وهو المعنى من قول ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في الكتاب وآذان فيه قال الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ الآية، أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرطهما عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عنه ورواه الشافعي في مسنده والطبراني وابن أبي شيبة وعلقه البخاري والقياس يقتضي عدم جواز السلم لأنه بيع المعدوم إذ المقصود من البيع هو المبيع والثمن إنما يكون وسيلة إليه فيكفي في الثمن وجوده الاعتباري وصفا ثابتا في الذمة وأما المبيع والثمن إنما يكون وسيلة إليه فانعدامه يوجب انعدام البيع ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، لكن ترك هذا القياس لورود النصوص بإباحته وانعقاد الإجماع عليه، عن ابن عباس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسلفون التمر السنة والسنتين وربما قال والثلاث فقال :" من سلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال كنا نستسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، رواه البخاري، وروى ابن الجوزي من طريق أحمد سألت ابن أبي أوفى هل كنتم تسلفون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في البر والشعير والزيت ؟ قال : نعم كنا نصيب غنائم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسلفها في البر والشعير والتمر والزيت، فقلت : عند من كان له زرع أو عند من لم يكن له زرع ؟ قال : ما كنا نسألهم عن ذلك، ثم انطلق الراوي إلى ابن أبي أبزى فقال مثل ما قال ابن أبي أوفى، ولما كان جواز السلم على خلاف القياس اقتصر على مورد النص وهو المؤجل فلا يجوز السلم حالا عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وقال الشافعي يجوز حالا بالطريق الأولى أو المساواة، قلنا : إنما أبيح على خلاف القياس لرفع حاجة الفقير العاجز حالا عن نفقة عياله القدر على المسلم فيه مالا وحاجة المشتري إلى الاسترباح لعياله وهو بالسلم أسهل إذا يكون المبيع في السلم نازلا عن قيمته في البيع غالبا وذا لا يكون إلا بالتأجيل فليس الحال في معنى المؤجل.
مسألة : أجمعوا على أنه لا يجوز السلم إلا فيما ينضبط في الذهن بذكر جنسه ونوعه وصفته وقدره وعلى أنه لا يجوز إلا بذكر هذه الأربعة وذكر قدر الأجل حتى يتعين المبيع بقدر الإمكان ولا يقضي إلى المنازعة، وأيضا يشترط عند الجمهور معرفة قدر رأس المال خلافا لأبي يوسف ومحمد فيما إذا عين رأس المال بالإشارة، قلنا : ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل في المجلس فلو لم يعلم قدره لا يدري في كم بقي السلم وربما لا يقدر على المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال والمرهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافي، وزاد أبو حنيفة شرطا سابعا وهو تسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة، وقال باقي الأئمة مكان التسليم متعين وهو مكان العقد، وأيضا زاد أبو حنيفة شرطا ثامنا وهو أن يكون المبيع موجودا من وقت العقد إلى محله، وقال الجمهور : لا يشترط ذلك بل يكفي وجوده عند محله، وجه قول الجمهور أنه لم يرد هذا الشرط من الشرع والأصل العدم والعمومات كافية للإباحة، ووجه قول أبي حنيفة ما رواه أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن ابن إسحاق عن رجل نجراني قلت لعبد الله بن عمر : أسلم في نخل قبل أن تطلع، قال : لا قلت : لم ؟ قال : لأن رجلا أسلم في حديقة نخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلع النخل فلم يطلع النخل شيئا ذلك العام فقال المشتري أؤخرك حتى تطلع وقال البائع إنما النخل هذه السنة فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للبائع أخذ من نخلك شيئا ؟ قال : لا، قال :" بم تستحل ماله ؟ أردد إليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى تبدو صلاحها " وأخرج البخاري عن أبي البختري سألت ابن عمر عن السلم في النخل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يصلح وعن بين الورق نسيئا بناجز، وسألت ابن عباس عن السلم في النخل قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل، قلت : وذلك الحديث فيه رجل نجراني مجهول وابن إسحاق مختلف فيه و الآثار لا تصلح حجة لكن قول أبي حنيفة أحوط في عقد شُرع مع المنافي.
مسألة : اتفقوا على جواز السلم في المكيلات والموزونات والمزروعات التي تنضبط فيجو السلم في هذه الديار في ثوب غليظ يكون في عرضه ثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة خيطا فإنه قلما يتفاوت تلك الثوب ولا يجوز في غير مثل ذلك من الأثواب، وفي المعدودات التي لا يتفاوت آحادها كالجواز والبيض إلا في رواية عن أحمد. واختلفوا في المعدوات المتفاوتة كالرمان والبطيخ فقال أبو حنيفة لا يجوز فيها السلم لا وزنا ولا عددا وهذا في ديار يباع فيها البطيخ عددا وأما في ديارنا فيباع وزنا فيجوز وقال مالك يجوز مطلقا، وقال الشافعي : يجوز وزنا، وهو رواية عن أحمد.
مسألة : لا يجوز السلم في الحيوان عند أبي حنيفة ويجوز عند الثلاثة احتجوا بحديث عبد الله بن عمر بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، رواه أبو داود عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مسلم بن جبير عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش عنه، ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسمل، وقال ابن القطان : هذا حديث ضعيف مضطرب الإسناد فرواه حماد بن سلمة هكذا ورواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق فأسقط يزيد ابن أبي حبيب وقد أبا سفيان على مسلم بن جبير، قالت : كذا ذكر ابن الجوزي في التحقيق ورواه عفان عن حماد بن سلمة فقال فيه عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي حبيب عن مسلم عن أبي سفيان عن عمرو بن حريش، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى فأسقط يزيد بن أبي حبيب وقدم أبا سفيان كما فعل جرير بن حازم وقال مكان مسلم بن جبير مسلم بن كثير ومع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال ومسلم بن جبير مسلم بن جبير لم أجد له ذكرا وأبو سفيان فيه نظر، وقال الشيخ ابن حجر : ابن إسحاق قد اختلف فيه لكن أورده البيهقي في السنن وفي الخلافيات من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه قلت ورواه ابن الجوزي، قلت : هذا الحديث معارض بما ذكرنا من قبل حديث سمرة وابن عباس وجابر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة فقيقدم المحرم على المبيح كما ذكرنا ثمة. واحتج أبو حنيفة على عدم جواز السلم في الحيوان بما أخرجه الحاكم والدارقطني عن إسحاق بن إبراهيم بن حوتا حدثنا عبد الملك الذماري حدثنا سفيان الثوري عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجها، قال ابن الجوزي : قال أبو زرعة عبد الملك الذماري منكر الحديث، وقال الرازي : ليس بالقوي ووثقه العلاس وأما إسحاق بن إبراهيم فمجهول، قلت : لعل الحاكم عرف إسحاق حتى حكم بصحة الحديث والظاهر أن الحديث حسن، قال ابن همام : تضعيف ابن معين ابن حوتا فيه نظر بعد تعدد ما ذكر من الطريق الصحيحة والحسان مما هو بمعناه يرفعه إلى الحجية بمعناه، وفي الباب أثر ابن مسعود رواه أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليان عن إبراهيم قال دفع عبد الله بن مسعود إلى زيد بن خويلة البكري مالا مضاربة فأسلم زيد إلى عريس بن عرقوب الشيباني في قلائص فلما حلت أخذ بعضه وبقي بعض فأعسر عريس بلغه أن المال لعبد الله فأتاه يسترفقه فقال عبد الله أفعل زيد فقال نعم فأرسل إليه يسأله فقال عبد الله أردد ما أخذت وخذ رأس مالك ولا تسلمن ما لنا في شيء من الحيوان، قال صاحب التنقيح : فيه القطاع يعني بين إبراهيم وعبد الله فإنه إنما يروي بواسطة علقمة أو الأسود، قال ابن همام : هذا غير قادح عندنا خصوصا في إرسال إبراهيم النخعي، قلت : لو صح هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان لكان نسدا لأبي حنيفة في خلافية أخرى وهو أنه لا يجوز قرض الحيوان عنده خلافا لمالك والشافعي وأحمد احتجوا على جواز فرض الحيوان بحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فأتاه إبل من إبل الصدقة فقال : أعطوه، فقالوا : لا نجد إلا رباعيا خيارا قال :" أعطوه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء " رواه مسلم، وحديث أبي هريرة. كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فأغلظ له فهم له أصحابه فقال :" دعوه فإن لصاحب الحق مقالا " فقال لهم اشتروا سنا فأعطوه إياه، فقالوا : إنا لا نجد سنا إلا خيرا من سنه قال :" اشتروه وأعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء "، متفق عليه. وجه قول أبي حنيفة في عدم جواز القرض في الحيوان أنه لا ينضبط فلا يجوز قرضه كما لا يجوز جعله ثمنا في البيع نسيئة والسلم فيه، وهذا التعليل في مقابلة الحديثين الصحيحن غير مقبول ما لم يصح حديث النهي عن السلف في الحيوان فإن السلف يعم السلم والقرض فإن صح حديث ابن عباس يجب تقديم المحرم على المبيح وإلا فما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقراض البكر يقتصر على مورده ولا يقاص عليه غيره من الحيوان لأنه معدول عن سنن القياس فإن قيل إن كان الحيوان غير منضبط ولا يجوز ثبوته في الذمة فلم جوزته الناكح و الخلع على عبد أو أمة أو فرس وأوجبتم فيه الوسط قلنا ههنا قياسين قياس على البيع حيث نهى رسول الله صلى الله عيه وسلم عن البيع نسيئة وقياس على الدية حيث أوجب فيها الإبل فقلنا ما كان فيه مبادلة مال بمال لا بد فيه كمال الانضباط وذلك كالبيع والإجارة والصلح عن الإقرار بمال، وما كان فيه مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع والصلح عن دم عمد والصلح عن إنكار لا يشترط فيه كمال الانضباط فيجوز فيه ذلك قياسا على الدية ومن ثم أجمع المسلمون على أن غرة جنين الحرة عبد أو أمة وليس ذلك في غرة
﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ أي مسافرين ﴿ ولم تجدوا كاتبا فرهان ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم الراء والهاء والباقون فرهان بكسر الراء وألف بعد الهاء، ورهان جمع رهن بفتح الراء وسكون الهاء مثل بغْلٍ وبغالٍ. ورهن بالضمتين جمع رهان جمع الجمع كذا قال الفراء والكسائي، وقال أبو عبيد وغيره رهن بالضمتين جمع رَهُن بالفتح والسكون أيضا على وزن سُقُفٍ وسَقُفٍ، والرهن لغة حبس الشيء قال الله تعالى :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ﴾ وفي الشرع جعل اسما لما يحبس بحق يمكن استيفاؤه منه، ولما كان الحبس هو معناه اللغوي والمعنى اللغوي يكون معتبرا في المعنى الشرعي فهو عقد لازم لا يجوز للراهن استرداده من المرتهن ما بقي عليه درهم، وقوله تعالى : فرهان خبر مبتدأ محذوف أو فاعل فعل محذوف مبني للمفعول أي فالذي يستوثق به رهن أو فليؤخذ رهن أو فعليكم رهان، والأمر ليس للإيجاب إجماعا بل للإرشاد والشرط خرج مخرج العادة على الأعم الأغلب فليس مفهوم معتبرا عند القائلين بالمفهوم أيضا حيث يجوز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب إجماعا، وقال مجاهد وداود : ولا يجوز إلا في السفر عند عدم الكاتب. لنا : حديث عائشة رواه الأئمة السته وحديث أنس رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه بالمدينة من يهودي بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله ومات عليه السلام وكان درعه مرهونا عنده ﴿ مقبوضة ﴾ لأجل هذا القيد قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد : لا يجوز الرهن أي لا يلزم بدون القبض، وقال مالك : يلزم بنفس العقد ويجبر الراهن على التسليم لنا أن مشروعيته ولزومه ثبت بنص القرآن مقبوضة وكان القياس يقتضي كونه تبرعا غير لازم لأن الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئا فيقتصر على مورد النص ولأجل اشتراط القبض في الرهن، قال أبو حنيفة : لا يجوز رهن المشاع سواء كان قابلا للقسمة أو لا لأن الشيوع ينافي دوام القبض بل يقتضي بالمهاباة فصار كما إذا قال رهنتك يوما دون يوم والرهن بمعنى الحبس يقتضي دوام الحبس لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، بخلاف الهبة فإن المانع هناك من الهبة في المشاع غرامة القسمة على الواهب وهو فيما يحتمل القسمة لا فيما لا يحتمله، وقال مالك والشافعي وأحمد : يجوز رهن المشاع مطلقا سواء كان قابلا للقسمة أولا.
مسألة : وإذا ثم الرهن بالقبض خرج المرهون من ملك الراهن يدا وبقي في ملكه رقبة وملكه المرتهن يدا لا رقبة فلا يجوز للراهن الانتفاع بالمرهو من ركوب الدابة المرهونة والسكون في الدار ولبس الثوب ونحو ذلك إلا برضاء المرتهن لأنه ينافي مالكية المترهن يدا ولزوم حبسه دائما هذا عند أبي حنيفة ج وقال الشافعي يجوز للراهن الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم :" الرهن مركوب محلوب "، رواه الدارقطني والحاكم عن حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعل هذا الحديث ابن أبي حاتم فقال قال أبي رفعه مرة ثم ترك الرفع بعده ورجح الدارقطني ثم البيهقي رواية من وقفه عن من رفعه، قلنا : هذا الحديث مجمل يحتمل أن يكون مركوبا للراهن ويحتمل أن يكون مركوبا للمرتهن فلا يجوز الاستدلال به.
مسألة : ولا يجوز للراهن شيء من التصرفات الشرعية في المرهون، فإن فعل فما كان منها يحتمل الفسخ كالبيع والهبة ونحو ذلك ينعقد بناء على ملك الرقبة ويتوقف على أجارة المرتهن أو فك الرهن، وإما ما لا يحتمل الفسخ كالعتق فينفذ بناء على ملك الرقبة وعدم احتمال الفسخ، ويجب عليه قيمة العبد رهنا عند المرتهن إن كان موسرا وعلى العبد السعي في قيمته إن كان معسرا هذا عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك يتوقف عقد البيع، وعند الشافعي ينفذ إن كان موسرا ولا ينفذ إن كان معسرا.
مسألة : يجب على الراهن نفقة المرهون بناء على ملك الرقبة، وزوائد المرهون من الولد والصوف واللبن والثمر ونحوه كلها ملك الراهن إجماعا قال عليه الصلاة والسلام :" له غنمه وعليه غرمه " وقيل : ملك للمرتهن عند أحمد، لكن عبارة ابن الجوزي في التحقيق يقتضي أنه ملك الراهن عنده حيث قال للمرتهن استيفاء النفقة من دره وظهره.
مسألة : زوائد المرهون يكون مرهونا عند أبي حنيفة ح لأن لها حكم الأصل فيكون مملوكة للراهن رقبة وللمرتهن يدا، وبناء على عدم مالكيته رقبة لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بل يكون ذلك ربا ولا يجوز للمرتهن في المرهون شيء من التصرفات المبنية على الملك.
مسألة : ما أنفق المرتهن على المرهون إن كان بإذن الراهن يكون دينا عليه وإن كان بغير إذن يكون متطوعا، وقال أحمد يكون دينا عليه مطلقا ويجوز للمرتهن استيفاؤه من ظهره ودره، واستدل على ذلك ابن الجوزي بحديث " الرهن مركوب محلوب " وبما رواه البخاري عن الشعبي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الرهن بما فيه يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " ورواه أبو داود بلفظ يحلب مكان يشرب، ورواه الطحاوي بلفظ الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا " قلنا : هذا الحديث يدل على أن نفقة الرهن واجب على من يركب والإجماع انعقد على أن نفقة الرهن على الراهن فلعل هذا الحكم كان قبل تحريم الربا حين لم يكن القرض الذي يجر منفعة منهيا عنه، وحين لم يكن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين بالمعيار الشرعي من غير عقد جرى بين المالكين منهيا عنه فهذا الحكم منسوخ على ما يقتضيه الإجماع بآية الربا، وبقوله تعالى :﴿ فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وبقوله تعالى :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم ﴾ وأما قوله الرهن بما فيه فغير منسوخ ومعناه الرهن مضمون بما رهن فيه من الدين يعني إن كان الدين مثل الرهن أو أقل منه فالدين يسقط بهلاك الرهن والفضل من الرهن أمانة.
مسألة : إذا مات الراهن يباع المرهون في دين المرتهن فقط ولا يتعلق له حق سائر غرماء الراهن، لأنه كان مالكا يدا من الابتداء ومستحقا لملك الرقبة وكان يده يد استيفاء.
مسألة : وإن هلك الرهن في يد المرتهن من غير تعد كان مضمونا عند أبي حنيفة ومالك لأنه كان مالكا يدا ويده كان يد استيفاء وبالهلاك تقرر الاستيفاء فلو وجب على الراهن أداء الدين ثانيا لزم الربا، فقال مالك يضمن بالقيمة لوقوع الاستيفاء به، وقال أبو حنيفة بالأقل من الدين والقيمة والفضل أمانة، كذا روى الطحاوي عن عمر، ح وعند شريح والحسن والشعبي مضمون بالدين وقال الشافعي وأحمد أمانته في يد المرتهن لا يضمن إلا بالتعدي لقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، الرهن لمن رهن له غنمه وعليه غرمه " رواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني والحاكم من طريق زياد ابن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا " لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه " قال الدارقطني زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات وهذا حديث حسن متصل، وأخرجه ابن ماجه من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري، وأخرجه الحاكم من طرق عن أبي هريرة موصولا أيضا، ورواه الأوزاعي ويونس وابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد مرسلا، ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك وابن أبي شيبة عن وكيع، وعبد الرزاق عن الثوري كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك ولفظه " لا يعلق الرهن من صاحب الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه " وصححه أبو داود والبراز والدارقطني إرساله وله طرق عند الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة وروى ابن حزم والدارقطني من طريق شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يعلق الرهن الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه " قال ابن حزم : فيه عبد بن نصر له أحاديث منكرة، وقوله :" له غنمه وعليه غرمه " قيل إنها مدرجة من قول ابن المسيب، كذا قال أبو داود في المراسيل، قال ابن عبد البر هذه الفظة اختلف في رفعها ووقفها فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبي ذئب ووقفها غيرهم. وجه احتجاج الشافعي بهذا الحديث أن الحديث يدل على أن الرهن لا يخرج ما ملك الراهن وهو معنى قول :" لا يغلق الرهن " ومعنى قوله :" لصاحبه غنمه " يعني سلامته " وعليه غرمه " يعني هلاكه، قلنا تأويل الحديث ليس هكذا بل تأويله على ما ذكره ابن الجوزي عن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يرهنون ويقولون إن جئتك بالمال إلى وقت كذا وإلا فهو لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" لايغلق الرهن " وروى الطحاوي بسنده عن إبراهيم نحوه وروي عن مالك بن أنس وسفيان بن سعيد أنهما يفسران هكذا، ومعنى قوله له غنمه يعني زوائد المرهون له وعليه غرمه يعني عليه نفقته وهذا المعنى مجمع عليه، ولنا في وجوب الضمان ما رواه الطحاوي ثنا محمد بن خزيمة ثنا عبيد الله بن محمد التيمي قال أنا عبد لله بن مبارك قال ثنا مصعب بن ثابت عن عطاء بن أي رباح أن رجلا ارتهن فرسا فمات الفرس في يد المرتهن فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم :" ذهب حقك " هذا مرسل والمرسل عند ناجحة ويؤيده ما رواه البخاري عن أبي هريرة " الرهن بما فيه " وقد مر، وكذا عن أنس عند الدارقطني رواه ابن الجوزي بطريقين ضعيفين وهذا يدل على أن ما فضل من القيمة فهو أمانة وهو القياس إذ الاستيفاء لا يتحقق إلا بقدر الواجب.
﴿ فإن أمن بعضكم بعضا ﴾ أي بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بأمانته عن الرهن والكتابة، وفي قراءة أبي فأنِ ائتَمِن والمعنى واحد ﴿ فليؤد الذي اؤتمن أمانته ﴾ أي دينه سماه أمانه لإيتمانه بترك الكتابة والرهن عن أنس قال :﴿ قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال :" لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " رواه البيهقي في الشعب { وليتق الله ربه ﴾ في الخيانة والإنكار من الحق وفي مبالغات، وقد مر في الحديث آية المنفق ثلاث وذكر فيه :" إذا اؤتمن خان " ﴿ ولا تكتموا ﴾ أيها الشهداء ﴿ الشهادة ﴾على المديونين إذا ما خانوا ولم يؤدوا ما أمن بعضكم بعضا وأنكروا الحق الذي عليهم، ويحتمل أن يكون المراد لا تكتموا أيها المديونين الشهادة بالحقوق الذي عليكم أي أقروا على نفسكم ﴿ ومن يكتمها ﴾ أي الشهادة بالحق ﴿ فإنه آثم قلبه ﴾ مرفوع بالفاعلية أو الابتداء أي يأثم قلبه أو قله آثم والجملة خبر إن وأسند الإثم إلى القلب لأن الكتمان فعل القلب ففي الإسناد إليه تأكيد ومبالغة كما يقال رأيته بعيني وسمعته بإذني وحفظته بقلبي أو لأنه رئيس الأعظاء وأفعاله أعظم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن في جسد بني آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " متفق عليه عن النعمان بن بشير، قيل : أراد به مسخ القلب نعوذ بالله منها ﴿ والله بما تعملون ﴾ من الشهادة والكتمان ﴿ عليم ﴾ تهديد، وهذه الآية دليل على أن كتمان الشهادة حرام أداؤها فريضة وإن لم يسأله المشهود له، وإذا كان المشهود له لا يعلم بشهادة الشاهد يجب على الشاهد أن يعلمه بأنه شاهد، وقال قوم الشهادة من قبل أن يستشهد مذموم لحديث عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خير أمت قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم،
﴿ لله ما في السموات وما في الأرض ﴾ خلقا ومُلكا ومِلكا، قيل : فيه دليل على أن كل ما سواه تعالى متحيز ولا شيء من الممكنات مجردا وإلا لكان بيان خالقيته ومالكيته قاصرا لأن الأهم إثبات ملكية المجردات وهذا ليس بشيء بل التحقيق أن من الممكنات مجردات وهي أرواح البشر والملائكة وغيرهم وقد انكشف على أرباب القلوب من المجردات القلب والروح والسر والخفي والأخفى والله تعالى أعلم بخلقه ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ وإنما اقتصر ههنا على ذكر ما في السموات وما في الأرض بناء على قصر نظر العوام عليها وذكرها كاف للاستدلال على الصانع جلت قدرته، ولأن الاستدلال لا يتصور إلا بأمور مشهودة معلومة للعوام لا بأمور مختفية على الخواص ومن ثم لم يذكر ههنا العرش والكرسي مع أنهما ليسا في السموات والأرض والله أعلم.
﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ﴾ من الرذائل كالنفاق والرياء والعصبية وحب الدنيا والغضب والكبر والعجب والأمر والحرص وترك التوكل والصبر والحسد والحقد ونحو ذلك مما هو من أفعال القلوب والنفوس، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس من من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية " رواه أبو داود، وعن حارثة بن وهب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواط مستكبر " متفق عليه، وفي رواية لمسلم " كل جواظ زنيم متكبر " وعن الحسن مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حب الدنيا رأس كل خطيئة " رواه البيهقي في شعب الإيمان، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق " رواه ابن عدي، وعن جابر مرفوعا " حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر، ومن سب أصحابي فعليه لعنة الله ومن حفظني فيهم فأنا أحفظه يوم القيامة " رواه ابن عساكر، وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال :" حب علي عبادة " وعن علي قال : والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق رواه مسلم، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فيك مثل من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له، ثم قال :" يهلك في رجلان محب مفرط يفرطني ما ليس في ومبغض يحمل شنآني على أن يبهتني " رواه أحمد، عن أبي هريرة مرفوعا قال الله تعالى :" الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما أدخلته النار " رواه مسلم، عن عطية السعدي مرفوعا، إن الغضب من الشيطان، رواه أبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا " إن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل " رواه البيهقي في الشعب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا أول صلاح هذه الأمة اليقين والزهد وأول فسادها البخل والأمل " رواه البيهقي، وعن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من سعادة ابن آدم رضاؤه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم ابن آدم سخطه بما قضى الله " رواه أحمد والترمذي، وعن معاذ بن جبل مرفوعا قال :" يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك مشاحن " رواه الدارقطني وصححه ابن حبان، وفي رذائل النفس ومحامدها أحاديث لا تكاد تحصى، وقيل معناه وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من كتمان الشهادة، كذا قال الشعبي وعكرمة، أو من ولاية الكفار فهو نظير ما في آل عمران :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾ إلى أن قال :﴿ قل إن تخفوا ما في صدوركم ﴾ الآية، كذا قال مقاتل، والتحقيق أن كتمان الشهادة وولاية الكفار داخلان فيما استقر في أنفسكم ولا وجه للتخصيص بعد ثبوت المؤاخذة على الجميع بالنصوص والإجماع، وقيل : المراد به العزم المصمم على المعاصي من أفعال الجوارح قال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان أيؤاخذك الله العبد بالهم قال : إذا كان عزما أخذ بها، قلت : لو ثبت المؤاخذة على العزم فالعزم أيضا داخل في المعاصي القلبية، لكن الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من هم بسيئة فلم يعمل بها لم يكتب عليه وإذا عمل بها كتب بمثلها " الحديث ﴿ يحاسبكم به الله ﴾ يوم القيامة حساب عرض حسابا يسيرا ﴿ فيغفر ﴾ وذلك ﴿ لمن يشاء ﴾ مغفرته وإما حساب مناقشة فيأخذ به ﴿ ويعذب من يشاء ﴾ تعذيبه، قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب يرفع الفعلين على الاستئناف والباقون بالجزم عطفا على جواب الشرط ﴿ والله على كل شيء ﴾ من العذاب والمغفرة وغير ذلك ﴿ قدير ﴾ لا يمكن لأحد الاعتراض عليه إن شاء عذب على الصغيرة وإن شاء غفر الكبيرة من غير توبة.
أجمع أهل السنة والجماعة على أن الحساب على المعاصي القلبية والنفسانية والقالبية حق والتعذيب على الذنوب صغائرها وكبائرها حق لكنه ليس بواجب بل في مشيئة الله تعالى، روى طاووس عن ابن عباس قال : فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم يعني سواء تاب عنه المذنب أو لم يتب ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسأل عما يفعل وأنكر المعتزلة والروافض وغيرهم الحساب وقالت المعتزلة وغيرهم : بوجوب العذاب على العصاة وهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث حجة لنا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " قلت : أوليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا ؟ فقال :" إنما ذلك العرض ولكن من نوقش في الحساب يهلك " متفق عليه، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول نعمأي رب، حتى قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته فأما الكفار والمنافقون فينادي فينادي بهم على رؤوس الخلائق ﴿ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ متفق عليه، وعن عائشة قالت : جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأخبرهم فكيف أنا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدرذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل " الحديث رواه الترمذي وفي كلي بابي الحساب والمغفرة أحاديث كثيرة لا تحصى.
فصل : ومن الناس من يدخلون الجنة بغير حسبا عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عيله وسلم يقول :" وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وعن أسماء بنت يزيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة فينادي مناد فيقول أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يؤمر سائر الناس إلى الحساب " رواه البيهقي، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " متفق عليه، وعنه كذلك في حديث طويل. قلت : والذي يظهر من سياق الكتاب والسنة أن لهؤلاء الذين لا يحاسبون هم الصوفية العلية المتعشقة فإن الله سبحانه علق الحساب برذائل النفس حين قال :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوا يحاسبكم به الله ﴾ وذكر إبدائها وإخفائها للتسوية كما في قوله تعالى :﴿ استغر لهم أو لا تستغفر لهم ﴾ وإنما علقه برذائل النفس دون أعمال الجوارح مع أن الحساب ليس مختصا بها لأنها أشد وأغلظ من أعمال الجوارح ولأنه منشأ للمعاصي القلبية غالبا وبعد تزكية النفس وتصفية القلب لا يصدر المعاصي إلا نادرا، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله " ولأن صدرت المعاصي نادرا فالنفس المطمئنة بالخيرات والقلب المصفى عن الزيغ والكدورات يندم فورا ويتوب إلى الله متابا بحيث يجعل الله سيئاتهم حسنات ﴿ وكان الله غفورا رحيم ﴾، عن ابن معسود مرفوعا " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " رواه ابن ماجه والبيهقي، وعنه في شرح السنة موقوفا " الندم توبة " وهؤلاء القوم هم المسميون بفقراء المؤمنين في قوله صلى الله عليه وسلم :" أنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلني ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر " وقد مر في تفسير قوله تعالى :﴿ ورفع بعضهم درجات ﴾. اعلم أن الفقير من لا شيء له وهؤلاء القوم لا شيء عليهم من الوجود وتوابعه، أما الرذائل وصفات النفس الأمارة بالسوء فقد انسلبت منهم بأسرها، وأما الوجود وصفات الكمال فوجدوها مستعارة مستودعة من الله ذي الجلال والإكرام فلما أدوا الأمانة إلى أهلها ونسبوها إليه تعالى لم يبق منهم اسم ولا رسم لذلك لا ترى منهم عجبا ولا كبرياء ولا شيئا من مقتضيات الألوهية الباطلة نعوذ بالله منها، وكلمة مع في قوله صلى الله عليه وسلم سبعون ألفا من كل ألف سبعون ألفا، تدل على أن سبعين ألفا تابع لك ألف فلعل المراد به ﴿ والله أعلم بمراده ﴾ أنهم سبعون ألفا من المكملين مع كل ألف منهم سعبون ألفا من الكاملين من العلماء الراسخين والصديقين والأولياء الصالحين، وقوله صلى الله عليه وسلم :" وثلاث حثيات من حثيات ربي " الظاهر أنه ليس المراد به كثرتهم لأنه لو أريد الكثرة فحثية واحدة من حثياته تعالى يتسعه الأولون والآخرون فإن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، بل المراد به التنويع، فلعل المراد بالحثيات الثلاث الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله وهم الشهداء، والذين بذلوا عمرهم في طاعة الله ﴿ ما عدا المذكورين السابقين ﴾ من العلماء المريدين المتشبثين بالأولياء، والذين بذلوا أموالهم ابتغاء مرضات الله هؤلاء هم الذين أحبوهم وسلكوا سبيلهم وإن لم يبلغوا درجة الأولين، وقوله عليه السلام وعلى ربهم يتوكلون صفتهم من حيث الباطن وتتجافى جنوبهم سيماهم من حيث الظاهر، جعلني الله سبحانه منهم بفضله ومنه.
روى البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة وروى مسلم وغيره نحوه عن ابن عباس أنه لما نزلت ﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾ الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت إليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا ﴿ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ قلت لعل الصحابة حين نزلت ﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ الآية، فهموا منه أن الله يحاسب على خطرات الأنفس، أو أنهم بناء على هضم أنفسهم اتهموا أنفسهم بالرذائل فاشتد ذلك عليهم فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم طريقة التسليم والرضاء والتوكل التي هي صفات النفوس المطمئنة الكريمات، وأنزل الله تعالى لرفع ظنهم عن محاسبة الخطرات وتسليتهم بالشهادة على صدق إيمانهم وصحة نياتهم وتزكية نفوسهم وتصفية قلوبهم فإن زوال رذائل النفس مقتضى الإيمان، والإيمان الحقيقي الكامل لا يكون إلا بعد فناء النفس وزوال رذائلها والمطلق ينصرف إلى الكامل، والمراد بالمؤمنين المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان وهم الصحابة رضوان الله عليهم كما في قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ والتحق بهم من كان إيمانهم كإيمانهم من أهل السنة والجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة " قالوا من هي يار سول الله ؟ قال :" ما أنا عليه وأصحابي " رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو ﴿ كل ﴾ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد مهم، قال البيضاوي : لا يخلو من أن يعطف المؤمنون على الرسول فيكون الضمير الذين ينوب عنه التنوين راجعا إلى الرسول والمؤمنين أو يجعل المؤمنون مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين وباعتباره يصح وقوع كل مع خبره خبر مبتدأ، ويكون إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان وإيمانهم عن نظر واستدلال ﴿ آمن بالله وملائكته وكتبه ﴾ قرأ حمزة والكسائي وكتابه على الإفراد يعني القرآن والإيمان به يتضمن الإيمان بجميع الكتب أو المراد بالكتاب الجنس، والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل الكتاب أكثر من الكتب ﴿ ورسله ﴾ وقالوا أو قائلين ﴿ لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أي في الإيمان بهم كما فرق اليهود فقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وأحد نكرة في سياق النفي فعمت كلهم ولذلك دخل عليه بين، وقرأ يعقوب لا يفرق على الغيبة والضمير راجع إلى كل نظر إلى لفظه كضمير آمن راجع إليه ﴿ وقالوا ﴾ الضمير راجع إلى الرسول والمؤمنين جميعا أو إلى لفظة كل من حيث المعنى ﴿ سمعنا ﴾ قولك ﴿ وأطعنا ﴾ أمرك وأجبناك، قال البغوي روي عن حكيم بن جابر رضي الله عنه أن جبرئيل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسأل تعطه فسأل بتلقين الله عز وجل فقال ﴿ غفرانك ﴾ أي اغفر غفرانك أو نسألك غفرانك ﴿ بنا وإليك المصير ﴾ المرجع بعد الموت وهو إقرار منهم بالبعث فهو داخل في الإيمان، وما ذكرنا من حديث الصحيحين يدل على أن قولهم سمعنا الخ كان قبل نزول هذه الآية فذكر الله تعالى حكاية عنهم وثناء عليهم وهو الأرجح.
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي ما يسعه قدرتها وذلك فيما ينبني من الأحكام على القردة الممكنة، أو ما دون مدى قدرتها وذلك فيما يبتني من الأحكام على القدرة الميسرة كالزكاة على نمو المال وحولان الحول وغير ذلك، وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه، والمراد بالقدرة ههنا هي القدرة الموهومة الموجودة قبل الفعل من سلامة الأسباب والآلات بعد إقامة الدلائل والبراهين على الأوامر والأحكام من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة، لا القدرة الحقيقة التي لا توجد إلا مع الفعل، ولهذا يتوجه الخطاب والعذاب إلى قوم نوح وفرعون وأبي جهل وأشباههم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة وأخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون قال الله تعالى :﴿ لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ﴾ ومشيئة الله تعالى غير مقدور للبشر فكذا مشيئة التي علقت بمشيئة الله تعالى، وهذا سر من أسرار الله تعالى يجب الإيمان به والسكوت عنه وترك البحث فيه فإنه مزلة الأقدام، قال أبو هريرة فيما روى عنه الشيخان وغيرهما أن الصحابة لما اشتد عليهم نزول قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ الآية وقالوا يعني بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾ أنزل الله تعالى هذه الآية فنسخ بهذا ذلك، قلت : وقول أبي هريرة فنسخ بهذا ذلك مبني على التجوز فإن حقيقة النسخ هو رفع حكم شرعي بعد ثبوته وذا لا يتصور إلا في الأحكام دون الأخبار، وذلك إخبار بالمؤاخذة على أفعال القلوب، وهذا إخبار بعدم وقوع التكليف فوق الطاقة فلا يحتمل النسخ غير أن هذه الآية لما كان مزيلا لظنهم بالمؤاخذة على حديث النفس وموجبا لتسليتهم عبر أبو هريرة بالنسخ مجازا إلا أن يقال إن قوله تعالى :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ الآية وإن كان إخبارا لكنه يدل على تحريم رذائل النفس كما يدل قوله تعالى :﴿ كتب عليكم الصيام ﴾ على الإيجاب وكان بصيغته شاملا لحديث النفس وقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله ﴾ الآية على عدم التكليف على حديث النفس فإن ليس في وسعنا والتحريم تكليف فهو يدل على عدم التحريم فكان ناسخا للتحريم في بعض ما اشتملت عليه الآية الأولى والله أعلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أوتتكلم " متفق عليه، قال البغوي ذهب ابن عباس وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه تعالى أراد بهذه الآية حديث النفس الذي ذكره في قوله :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ الآية، قلت : معناه أن حديث النفس الذي ذكره في قوله :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم ﴾ الآية، قلت : معناه أن حديث النفس داخل في حكم الآيتين بالمؤاخذة وعدم التكليف فلزم النسخ كما ذكرنا لا أن حكم الآيتين منحصر في حديث النفس بل عموم الآيتين ظاهر والله أعلم.
فائدة : بعدما ثبت أن المؤاخذة على رذائل النفس أسد من المؤاخذة على أعمال الجوارح وأن التكليف فوق الطاقة غير واقع أرجو أن المؤمن إذا بذل جهده وصرف همته مهما أمكن على دفع رذائل النفس بالمجاهدة ولم يقتف هواها ولو بالتكليف وتشبث بأذيال الفقراء مريدا لإزالتها لعل الله تعالى يغفر له رذائلها ولم يؤاخذه عليها لأنه قد بذل جهده ووسعه في الانتهاء عما نهى الله عنه وأن الله تعالى وعد العفو عما ليس في وسعه، وأما من لم يرفع رأسه لملاحظة عيوبها ولم يقصد دفع رذائلها فسوف يدعوا ثبورا ويصلى سعيرا، وبهذا يظهر فرضية أخذ طريقة الصوفية والتشبث بأذيال الفقراء كفرضية قراءة كتاب الله تعالى وتعلم أحكامه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " فلا بد من أخذ كتاب الله تعالى لاستنباط أحكامه والعمل والتذكر والاتعاظ به وصعود مدارج القرب بتلاوته وأخذ أذيال آل رسوله وعترته لتهذيب النفوس والقلوب على حسب مرضات الله تعالى وهدايته ﴿ لها ﴾ أي للنفس ﴿ ماكسبت ﴾ من خير بواسطة الجوارح أو بغير واسطتها ﴿ وعليها ﴾ وذر ﴿ ما اكتسبت ﴾ من شر كذلك يعني لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعصيتها إلا هي، وتخصيص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الاكتساب فيه اعتمال والشر يشتهيه النفس ويجتذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير.
﴿ ربنا لا تؤاخذنا ﴾ تقديره قولوا ربنا على تؤاخذنا أي تعاقبنا ﴿ إن نسينا ﴾ أي تركنا شيئا مما وجب علينا بالنسيان وهو ضد الذكر ﴿ أو أخطأنا ﴾ في إصابة العمل من قلة مبالاة، وهذه الآية تدل على أن المؤاخذة على الخطأة والنسيان لم يكن ممتنعا عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناول السموم يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ كذلك تعاطي الذنوب يفضي على العقاب لو لم يغفره الله وإن كان بغير عزم أو يوجب ضيق الصدر وغبن القلب، كان حضرة الشيخ الشيهد رضي الله عنه يروي عن شيخه السيد السند نور محمد البداوني رضي الله عنه أنه كان إذا أهدي إليه طعام أو شيء يتوجه إليه بنظر البصيرة فإن لم ير فيه ظلمة أكله واستعمله أو أعطى غيره وربما دفن بعض الأطعمة التي أهديت إليه، فقال له من لا بصيرة له ماذا تفعل أيها الشيخ هلا تطعم به غيرك ؟ فيقول : سبحان الله هل يجوز لمسلم رأى في طعام سما ولا يأكله فيعطي غيره ليأكل. وهؤلاء الرجال هم الخاطبون بقوله صلى الله عليه وسلم :" استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " لكن ثبت بالسنة وانعقد عليه الإجماع أن الله سبحانه بفضله ورحمته تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان فورد هذا الدعاء لأجل الاستدامة واعتداد النعمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر وقد مر فيما قبل، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " الحديث، أنه رفع إثمهما فلا يؤاخذ بها الله تعالى قي الآخرة ولا أثر لهذا الرفع في الدنيا فإن الخطأ والنسيان والإكراه واقع محسوس غير مرفوع والدنيا درا العمل فإذا وقع شيء منها لا بد للمكلف تداركها مهما أمكن، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " فلا يسقط قضاء الصلاة والصوم ونحو ذلك بعلة الخطأ والنسيان إجماعا ويجب سجدتا السهو بالسهو في الصلاة إجماعا والقتل خطأ يوجب الكفارة والحرمان عن الإرث إجماعا والشافعي رحمه الله قد يعتبر الخطأ والنسيان في أحكام الدنيا أيضا.
مسألة : الكلام في الصلاة ناسيا يفسد الصلاة عند أبي حنيفة لما قلنا، وقال الشافعي لا يفسد لحديث أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاة العشي إما الظهر أو العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبا وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلمناه وخرج سرعان النسا فقالوا قصرت، فقام ذو اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فنظر يمينا وشمالا فقال ما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا صدق لم تصل إلا ركعتين فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر فسجد ثم كبر ورفع، متفق لعيه، قلنا : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى :﴿ وقوموا لله قانتين ﴾ وحديث زيدبن أرقم وقد مر في تفسير تلك الآية.
مسألة : الحج يفسد بالجماع ناسيا عند الجمهور خلافا للشافعي وطلاق المكره والمخطئ يقع عندنا خلافا للشافعي، ومبنى الخلاف الخلاف في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام :" رفع عن أمتي ".
مسألة : والصوم يفسد بالأكل خطأ عند أبي حنيفة وصاحبيه ومالك، وقال أحمد والشافعي لا يفسد. ويفسد الصوم بالأكل ناسيا عند مالك وهو القياس وعند الجمهور لا يفسد، وإنما قال أبو حنيفة بعد فساد الصوم بالنسيان لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا نسي أحدكم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه.
مسألة : الذبيحة يحرم يترك التسمية ناسيا عند مالك وأما عندنا فلا يحرم بالحديث على خلاف القياس، وسنذكر هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
فائدة : قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت لهم العقوبة فحرم عليهم شيء من مطعوم أو مشروب على حسب ذلك الذنب.
﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرا ﴾ عبأ ثقيلا بأصر صاحبه أي يحبسه، والمرادبه التكاليف الشاقة التي لا يستطيع القيام بها ﴿ كما حملته على الذين من قبلنا ﴾ يعني اليهود وذلك بأن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع المال في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها، ومن أصاب ذنبا أصبح ذنبه مكتوب على بابه، ولما عبدوا العجل قيل لهم ﴿ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ﴾ وقيل : المراد بالإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا عن مثله، أوالمعنى لا تجعل في شريعتنا ذنبا لا يكون له توبة ﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ من البلاء والعقوبة أو من التكاليف الشاقة وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وقد ثبت بالشرع عدم وقوعه فضلا، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني ﴿ واعف عنا ﴾ أي تجاوز عن المعاقبة على ذنوبنا ﴿ واغفر لنا ﴾ أي امح ذنوبنا واسترها علينا. ﴿ وارحمنا ﴾ فإنا لا نأتي بالحسنات ولا نترك السيئات إلا برحمتك لا حول ولا قوة إلا بك ﴿ أنت مولانا ﴾ سيدنا وناصرنا وحافظنا وولينا ﴿ فانصرنا ﴾ تفريع على الولاية فإن من حق المولى أن ينصر عبيده ومواليه ﴿ على القوم الكافرين ﴾ المراد بهم عامة الكفرة من الجن والإنس حتى النفس الأمارة بالسوء، قال البغويك كان معاذ رضي الله عنه إذا ختم سورة البقرة قال آمين، ورد في الصحيحين في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه سابقا أن الله سبحانه قال نعم يعني بعدما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ﴾ وكذا بعد الجملة الثانية إلى قوله :﴿ من قبلنا ﴾ والثالثة في قوله :﴿ ما لا طاقة لنا به ﴾ والرابعة إلى آخر السورة كل ذلك قال نعم. وفي رواية ابن عباس عند مسلم والترمذي قال : كل ذلك قد فعلت بدل نعم، وفي رواية عنه قال بعد غفرانك قد غفرت لكم وبعد قوله أو أخطأنا لا أؤاخذكم وبعد لا تحمل علينا لا أحمل عليكم وبعد ﴿ ولا تحملنا ﴾ لا أحملكم ﴿ واعف عنا ﴾ إلى آخره قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين، هذا الحديث يدل على إجابة الدعاء من الله تعالى، فأما عدم المؤاخذة على النسيان والخطأ فثابت في حق جميع الأمة إجماعا وكذا عدم حمل الإصرار وتحميل ما لا طاقة لنا به كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ لأن الشرع واحد مؤبد فما سقط عن الأوائل سقط عن الأواخر ولا نسخ ولا تبديل بعد النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأما العفو والمغفرة لجميع الذنوب والرحمة العامة والنصرة على القوم الكافرين فالظاهر أن الإجابة في هذه الأمور مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه يدل عليه صيغة قد عفوت وغفرت ورحمت ونصرت وإلا لزم مذهب المرجئة بل الذنوب كلها في مشيئة الله تعالى إن شاء غفر وإن شاء عذب، ومن ثم ترى في كثير من الأوقات عدم النصر على الكفار والخذلان، كيف والنصر متفرع على الولاية كما يدل عليه الفاء فأنى يكون النصر عند ارتكاب المعاصي اللهم اغفر لأمة م
Icon