هذه السورة مدنية، وهي تتناول جملة من المعاني والقضايا والقواعد التي تغطي جانبا أكبر من نظام الإسلام، وذلك فيما يمس الواقع البشري للإنسان بمختلف مناحيه النفسية والروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمكن أن نعرض لما تناولته السورة في الأمور التالية :
أولها مسألة الحروف المتقطعة أو فواتح السور التي تأتي على رأس جملة من سور القرآن والتي اختلفت فيها أقوال العلماء والمفسرين، ثم التنويه السريع بفريقين من البشر : فريق المؤمنين، وفريق المشركين، ويعقب ذلك تنديد تفضيلي ومؤثر بفريق فاسد مشنوء من البشر، وهو فريق مذبذب مريض يخفي في نفسه الضلال والكفر ليبدي للناظرين والسامعين شاكلة مليحة خادعة، وهؤلاء هم المنافقون الذين يوجدون في كل مكان وزمان، والذين يؤذون المؤمنين من الداخل في صمت وتلصص.
وتتناول السورة ضربا من ضروب التحدي للمشركين والمكذبين أن يأتوا بسورة واحدة- أي سورة – من مثل هذا القرآن من حيث أسلوبه العجيب أو مستواه السامق الفذ، وهو تحد يظل قائما دون مبارحة لتستبين معه حقيقة الإعجاز لهذا الكتاب الحكيم.
ثم استخلاف الله للإنسان في هذه الأرض ليكون منوطا به احتمال الأمانة والمضيء في منهج الله وخطه المستقيم، مع ما رافق ذلك من مساءلة الملائكة لربهم عن جعل هذه الخليفة في الأرض، وهم المسبحون بحمد الله والمقدسون له.
ثم قضية السجود لآدم، وذلك أمر رباني كبير يفرضه الله على جنده الملائكة الأطهار والى جانبهم إبليس الذي ظل عابدا لله حتى تبينت الحقيقة يوم انحسر هذا الكائن الشقي عن طبيعة مستكبرة شاذة، طبيعة آيسة فاسدة تستعلي على الرحمن جل وعلى فلا ترضخ لأمر الله بالسجود لآدم، فكان ذلك بداية السقوط والهلاك.
ثم قضية آدم وزوجه اللذين استمعا لكلمة الله في النهي عن الأكل من هذه الشجرة لكنهما نسيا وأخطأ فأكلا منها، فاقتضت بعد ذلك حكمة الله أن يهبط الثلاثة إلى الأرض حتى حين، إلى أن يرتحلا إلى دار البقاء حيث الحساب.
وتتناول أيضا خطاب الله لبني إسرائيل من أجل أن يذكروا نعمة الله التي امتن بها عليهم فيوفوا بعهده ويرهبوه، ثم يؤمنوا بالقرآن الحكيم الذي جاء مصدقا لما نزل عليهم من كتاب، وألا يخلطوا بين الحق والباطل عمدا وتزويرا، وأن يضطلعوا بأداء ما فرض الله عليهم من صلاة وزكاة، وذلك كيلا يكونوا في عداد الذين يقولون ولا يفعلون.
وثمة تذكير كذلك لبني إسرائيل بما أنعمه الله عليهم وبما فضلهم به على العالمين من معطيات ومنن، وذلك كمنجاتهم من كيد فرعون الذي سامهم عذابا بئيسا من تذبيح أبناء واستحياء للنساء، وكذلك قد فرق الله البحر من أجل بني إسرائيل ليمروا من خلاله إلى حيث السلامة والنجاة مع تغريق فرعون وجنوده حتى أصبحوا من الهالكين.
وتعرض سورة البقرة في قدر عظيم من الآيات لقصة بني إسرائيل، وهي قصة طويلة وغريبة ومريرة بما يكشف عن طبيعة يخالطها التخلخل والشذوذ، يتبين ذلك من خلال مناسبات وأسباب شتى تثير في النفس الحيرة والاشمئزاز، وذلك لفرط التطاول والاجتراء على الله، وهو اجتراء مرفوض يأباه الضمير المؤمن، فقد طلب بنو إسرائيل من نبيهم موسى أن يمكنهم من رؤية الله جهارا وإلا فإنهم لا يؤمنون، حتى أخذتهم الصاعقة بالهلاك جزاء هذا الاجتراء الأحمق.
وقد أمرهم ربهم أن يدخلوا القرية ليأكلوا منها كما يشاؤون على أن يبادروا الدخول وهو ساجدون ثم يقولون ( حطة( حين الدخول ليغفر الله لهم خطاياهم نظير ذلك.
لكن فريقا ظالما منهم قد تكلم بغير ما أمر به وذلك على سبيل السخرية والاستخفاف.
ثم استسقاء موسى لقومه حتى ضرب الحجر بعصاه ( افانفجرت منه اثنتا عشرة عينا( ثم مطالبة بني إسرائيل بطعام أدنى من المن والسلوى كالبقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، وذلك ما يكشف عن النزوع للبطر والعتو في غير تواضع أو إقرار لله بالنعمة، حتى كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والغضب والتفريق المشتت في الأرض وذلك بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق.
وتعرض السورة لقصة البقرة، وهي ما أمر الله بني إسرائيل على لسان نبيهم ومنقذهم موسى عليه السلام أن يذبحوها، وهي بقرة لم تتحدد بصفة من الصفات بل ورد الأمر بإطلاق غير مقيد، وقد ذبح اليهود بقرة، لكن بعد تردد وجدال طويلين غريبين.
وفي السورة كذلك نصيب كبير من الكلام عن بني إسرائيل على أنحاء متعددة من الكشف والتبيين تارة، أو من التنديد والتقريع تارة أخرى، أو من التهديد والوعيد تارة ثالثة، وذلك مثلما كشفت الآيات عن نفاق فريق من بني إسرائيل الذين إذا لقوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان والإخلاص، وإذا خلا بعضهم إلى بعض تلاوموا فيما بينهم وحرض بعضهم بعضا على خداع النبي والمسلمين.
وبعض الآيات كذلك ينطوي على تهديد مخوف لأولئك الذين يزيفون الكتاب ويحرفون الكلم ليقولوا هذا من عند الله، وأولئك لهم الويل والثبور.
وكذلك قد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كيلا يعبدوا إلا الله ولكي يحسنوا للوالدين وذوي القربي واليتامى والمساكين وأن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، وكذلك أخذ ميثاقهم ألا يسفك بعضهم دماء بعض وألا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم بالإثم والعدوان، لكنهم بالرغم من هذه المواثيق المغلظة فقد ضلوا وتولوا معرضين، ثم قتلوا النفس بغير حق وأخرجوا فريقا من الناس من ديارهم ظلما، ومبعث ذلك كله الإيمان المضطرب أو العقيدة المجزأة المتلجلجة التي تسول لبني إسرائيل أن يجعلوا كتاب ربهم ( عضين( أي يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه الآخر.
وفي السورة تنديد عظيم بفعلة بشعة مروعة تتمثل في قتل النبيين وفي عبادة العجل الذي أشربوا حبه في قلوبهم.
وتتضمن السورة كذلك حكما معنويا قاطعا يكشف عن طبيعة بني إسرائيل في كونهم ( أحرص الناس على حياة ( كيفما كانت هذه الحياة ما دامت تموج بالغواية والفتن والشهوات.
وفي السورة بيان أصولي لمسألة النسخ والفرق بينه وبين الإنسان، وذلك بشيء من الإيجاز الذي تسمح به طبيعة الكتابة في هذا التفسير.
وفيها كذلك مقالة اليهود والنصارى إذ زعموا أنهم وحدهم دون غيرهم سيدخلون الجنة، ومرة أخرى تتباين النوايا والقلوب لكل من اليهود والنصارى ليرمي بعضهم بعضا بالإفلاس والسوء، إذ يقول كل فريق عن الآخر إنه ليس على شيء من العلم أو الحق.
والحقيقة الحاسمة التي ينبغي أن تقال في مثل هذا الصدد والتي نطق بها القرآن في هذه السورة هي أن كلا الفريقين اليهود والنصارى لن يرضى في يوم من الأيام عن الإسلام ونبيه أو عن المسلمين حيثما كانوا إلا أن يحيد المسلمون عن دينهم ليتبعوا ملة إحدى الأمتين : اليهود والنصارى.
ثم تحكي السورة قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام إذ عهد الله إليه وولده إسماعيل بناء الكعبة وتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، وقد خفا عليهما السلام في همة لتنفيذ أمر الله بالبناء والتطهير وهما يدعوان الله سبحانه في توسل من أجل أن يتقبل منهما وأنم يجعل من نسلهما أمة مسلمة قانتة لله، وأن يبعث في عقبهما رسولا يعلم الناس الكتاب والحكمة.
وفي السورة دحض لمقالة اليهود والنصارى الذين زعموا أن إبراهيم وعقبه من النبيين كانوا منهم، والآيات تبين في غير لبس أن هؤلاء النبيين جميعا كانوا على ملة التوحيد وكلمة الإخلاص لله، وأنهم ليسوا من اليهود أو النصارى لما كان عليه هؤلاء من الشرك والزيغ عن صراط الله المستقيم.
وفي السورة إيذان بتحويل القبلة شطر المسجد الحرام ليتوجه المؤمنون بتواصيهم وأفئدتهم شطره وذلك في خشوع وامتثال لأمر الله سبحانه.
وفيها حض على الصبر والاحتمال عند وقوع المصائب كيفما كانت وعلى المؤمنين الصابرين صلوات من الله ورحمة لأن الله مع الصابرين.
وفيها إظهار لشعيرتين من شعائر الحج وهما الصفا والمروة، وما يعقب ذلك من بيان شرعي لكيفية الاعتمار والتطواف، وغير ذلك من أفعال الحج أو العمرة.
وفيها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله إلا أن يكون الآكل مضطرا فليس هو بالباغي ولا العادي.
وفيها توضيح لحقيقة البر وهو أنه لا يتحقق في مظاهر شكلية يحددها أن تولى الوجوه نحو الشرق والغرب، ولكن البر في حقيقته يتمثل في حسن المقصود وفي تمام العمل، أما حسن المقصود : فهو إنما يتم عن طريق الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين، وتلك هي أركان الإيمان في عقيدة الإسلام، وأما تمام العمل فهو يتحقق في أسباب كثيرة منها : إيتاء المال للذين يحيق بهم ضيق أو خلة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، ومن تمام العمل كذلك، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
وسوف يرد بيان مفصل لمثل هذه الكلمات أو المسائل عند التفصيل إن شاء الله.
وفيها الحكم بالقصاص في القتلى : الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وما يقتضيه ذلك من تفصيلات فقهية يمكن أن نقررها في موضعها بشيء من التفصيل.
وفيها حكم الوصية بالمال للوالدين والأقربين، وهو حكم منسوخ على ما سوف نعلم في موضعه.
وكذلك قد وردت في السورة فريضة الصوم الذي كان قد فرض على من سبق هذه الأمة من الأمم الحالية، وثمة أحكام شرعية تتعلق بالصوم من حيث الرخصة بالإفطار وغير ذلك من أحكام تفصيلية، فضلا عن التنويه الظاهر بشهر رمضان العظيم الذي أنزل الله فيه القرآن ليكون ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان (.
وفي السورة تحريض للمؤمنين على قتال الكافرين المعتدين، وذلك من أجل أن يقتلوهم حيث ثقفوهم وأن يخرجوهم من حيث أخرجوهم، لأن الفتنة بما يبعد المؤمنين عن دينهم لهي أشد من القتل نفسه، وقاعدة الإسلام في مفهوم القتال ألا تكون هناك فتنة في الأرض تحول بين الناس ودين الله، وحتى يكون الدين لله وهو أن يهيمن الإسلام على ما سواه من شرائع وملل.
وفي السورة كذلك بعض أحكام الحج الذي يتأذى في أشهر معلومات لا مصاغ لوقوع شيء من رفث أو فسوق فيهن، ومن أحكامه كذلك الإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام إلى بقية أعمال الحج من أركان وشروط وسنن.
وتعرض السورة لفريق من المنافقين الذين يعجب السامع لأقوالهم وهي تتعزز بفيض من الإيمان والشهادة لله بأنهم صادقون، لكنهم في الحقيقة طغمة من البشر المخادع الكاذب، البشر المنافق الذي ينطلق في الأرض ليعبث فيها فسادا وتخريبا.
وتعرض السورة كذلك للكافرين الذين زينت لهم الدنيا فانفلتوا عن صراط الله إلى حيث الضلال والشهوات والفسق، وفوق ذلك فقد مضى هؤلاء في خط الشيطان وهم يسخرون من المؤمنين.
وفي السورة تبيين لحقيقة التصور الديني الذي أساسه الوحي، وحقيقة هذا التصور أن المجتمعات أساسا كانت على ملة ربانية واحدة تقوم على الفطرة والتوحيد، وقد نيط بالنبيين المرسلين وظيفة التبليغ ليكونوا مبشرين ومنذرين فانقسم الناس إلى طرائق شتى تتردد بين الكفر والإيمان والنفاق على تفاوت.
وتذكر السورة أن دخول الجنة إنما يكون مسبوقا بامتحان عسير في الدنيا مثلما أصاب المؤمنين السابقين الذين مستهم البأ
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( ثمة أقوال للمفسرين في الحروف المقطعة الواردة في أوائل بعض السور، إلا أننا نعرض للحديث عنها هنا بإيجاز لنعاود الحديث عنها ثانية في سورة آل عمران.فقد ذهب بعض أهل العلم من المفسرين واللغويين إلى أن المقصود بهذه الفواتح من الحروف المقطعة هو التحدي على نحو آكد في الكشف عن إعجاز القرآن وعن عجز العرب دونه وهم الراسخون في الفصاحة والبيان، فقد تحدى الله في قرآنه العاجزين من أجل أن يأتوا بمثل هذا الكلام فنكصوا جميعا، ويريد الله أن يبين للعرب على أعقابكم والذي عز عليكم أن تأتوا بمثل بعضه، لهو كلام من جنس ما تتخاطبون به مما تتألف من حروف في مثل ( آلم ( وغيرها من حروف أخرى مقطعة تأتي فواتح للسور، يوضح ذلك ويرجحه قوله بعد هذه الحروف المقطعة ( ذلك الكتاب ( أي أن هذه الحروف هي التي تؤلف هذا الكتاب، أو أن هذا الكتاب من جنس كلام العرب، وهو كلام أساسه الحرف المقطع المنفصل كالألف أو اللام أو الميم، وذلك آكد في التحدي وأشد في إظهار الدلالة على أن هذا القرآن الكريم معجز وأنه لا تقوى مدارك الإنسان على أن تصطنع مثله.
وقيل : إن المشركين لما تواصوا فيما بينهم أن يعرضوا عن سماع القرآن، وقالوا ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( أراد الله أن يفاجئهم بما يثير فيهم الدهش ويحملهم على الانتباه والإصغاء ليسمعوا القرآن، فأنزل الله هذه الحروف الفواتح لبعض السور.
وقيل إن هذه الحروف الفواتح لهي من أسرار الكتاب الحكيم ولا يقف على المراد منها أحد من الناس، فهي علم مستور استأثر الله به وحده، وهو قول الصحابة وغيرهم وهم في ذلك يحدوهم التورع والحيطة خشية التكلف أو الزلل.
فكانوا يؤثرون أن لا يخوضوا في تأويل هذه الحروف، بل كانوا ينسبون حقيقة المراد بذلك الى الله فهو أعلم بالسر والمقصود.
وقيل :( الكتاب ( بدل من ذلك، وقيل : صفته، وخبر الإشارة ( لا ريب فيه ( يعني لاشك فيه فهو لوضوحه وسطوع برهانه لا يحتمل أيما ارتياب وأن ما يتجلى في القرآن من ظواهر في الإعجاز ينطق في يقين مكشوف أن هذا الكتاب منزل من عند الله فهو يعلو على الشبهات والظنون.
قوله :( هدى للمتقين ( الهدى مصدر ومعناه الدلالة، ويراد به الدلالة التي توصل إلى البغية، وهو في مقابل الضلالة وهي الزلل والضياع، والمتقون هم الذين ثبتت لهم التقوى، والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة.
وكذا التوقي، ومنه فرس واق أي يقي راكبه مما يؤذيه، والتقوى في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، وهي في الحقيقة والواقع إحساس ذاتي رهيف ينبثق عن عقيدة التوحيد الخالص ليرسخ في القلب الوجدان كله، لا جرم أن ذلك إحساس وجداني غامر يفيض على النفس فينمي فيها شعور الخوف من الله بما يظل للمؤمن رقيبا يحول بينه وبين الآثام والمعاصي، أو الدنايا والخسائس وصغائر الذنوب.
والقرآن بما حواه من روائع ومناهج في العقيدة والقيم، وفي الفكر والسلوك والنظم، فإنه هداية للبشرية كافة، وقد خص الله المتقين تشريفا لهم وإجلالا.
إن هذا الكتاب الحكيم يتضمن مقاليد الخير والسعادة والصلاح جميعا، وفيه من أسباب النجاة و والسلامة والفوز ما تنجو به البشرية من كل ألوان التعثر والخطيئة والزلل وما يجعلها على أقوم محجة لتفوز وتنجو في هذه الدنيا ويوم يقوم الإشهاد.
وقوله :( يؤمنون ( من الإيمان ومعناه في اللغة : التصديق، والإيمان في الشرع : كلمة جامعة للإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتصديق هذا الإقرار بالفعل، وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل، قال ابن كثير في هذا الصدد : الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا.
وهو قول أكثر العلماء، وعلى هذا فإن الإيمان إقرار بأركان العقيدة المعروفة واقتران ذلك بالعمل الصحيح المشروع، فلا اعتبار للإقرار أو التصديق المجرد والذي لا يشفعه عمل.
ومن ركائز الإيمان للمؤمنين تصديقهم عن يقين بالغيب المستور مما هو خلف الطبيعة ووراء الشهادة والحس في ظواهر لا يقف عليها الإنسان في تركيبته البشرية، وهي تركيبة يطلبها واقع الحياة في دنيا محدودة، لا تقوى على إدراك ما وراء الطبيعة المشهودة من عوالم الغيبات كالملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والنشور والحساب، وكذلك الله تعالت أسماؤه إنما يؤمن به المؤمنون بالغيب لأن الله ( ليس كمثله شيء( وهو سبحانه ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ( فإنه سبحانه لا يدركه المرء من باب الحس المشهود كالبصر أو السمع أو غير ذلك من أسباب حسية ثقيلة.
وثمة معنى آخر مثير يتفجر من خلال النص القرآني الكريم وهو يصف المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، فإن في ذلك ما يشير بوضوح مكشوف إلى تكريم المتقين، لأنهم يؤمنون بالغيب والإيمان بالغيب ضرب من الرقي المكرم الذي يرتقي من خلاله المؤمن ليكون في صف الأبرار والأطهار من البشر، ولا غرو فإن الإيمان بالغيب يرتفع بالمؤمن ليكون في عداد الغلاة الذين يتسامون على التصور المادي الممحص، التصور المادي المتبلد الثقيل الذي يودي بالإنسان إلى حمأة الهبوط المنحدر والارتكاس المتدهور.
وقوله :( ويقيمون الصلاة ( إقامة الصلاة ترد بإطلاق لتشمل ما فيها من ركوع وسجود وقراءة وخشوع وقيام وقعود، وما يشترط لها من طهارة وستر للعورة واستقبال للقبلة وغير ذلك من وجوه إتمام الصلاة، وللمحافظة عليها وأدائها على أتم نحو وأوفى صورة.
والصلاة في اللغة تأتي على عدة معان منها : الدعاء والرحمة والعبادة والنافلة والتسبيح ثم القراءة، وقيل غير ذلك مما يتناول مفهوم الصلاة في لغة العرب، ولا جرم أن تكون مثل هذه المعاني جميعها وثيقة الصلة بالمفهوم الشرعي لكلمة الصلاة والصلاة في مفهومها الشرعي تتضمن جملة حركات وأقوال وقراءات يؤديها المصلي على سبيل التعبد والطاعة لله، أما تفصيل الصلاة في بيان موضح مستفيض فليس هنا موضع ذلك بل موضعه مظانه في كتب الفقه بما يعرض لفريضة الصلاة بالشرح المبسط التفصيلي.
وقوله :( ومما رزقناهم ينفقون( الرزق : معناه العطاء، وهو يشمل كل وجوه الخير من المال والطعام والكساء وغير ذلك، أما قوله ( ينفقون( فهو من الفعل نفق ومعناه : نفد وفني، ويأتي بمعنى خرج، فالإنفاق الواقع على المال يعني إخراجه من اليد، وبذلك فإن النفقة أو الإنفاق هو إخراج المال من اليد على وجوهه المختلفة أو إفناؤه في سبيل الخير.
واختلف العلماء في المقصود بالنفقة هنا، فقد قيل : يقصد بها الزكاة المقروضة، وقيل : بل هي صدقة التطوع غير المقروضة، وفي قول آخر بأن المقصود ما أنفقه المرء على أهله وعياله أو من وجبت نفقتهم عليه، والقول الذي نرجحه ونطمئن إليه، أن النفقة عامة تتناول كل وجوه الإنفاق من فريضة وتطوع، وما كان لأهل أو عيال أو غيرهم. ١
ثمة خلاف بين أئمة التفسير في المقصود بالموصوف في هذه الآية، فقد قيل إنهم أهل الكتاب الذين آمنوا بهذا النبي وما أنزل عليه من كتاب وما أنزل على النبيين من قبله، أما المقصود بالموصوف في الآية السابقة لهذه فهم مؤمنو العرب.
أما القول الثاني : فهو أن المقصود بالموصوفين في الآيتين هم المؤمنون عموما سواء كانوا من العرب أو من أهل الكتاب، والذي يترجم لدي هو القول بأن الآيتين كلتيهما نزلتا في المؤمنين عموما.
وفي هذه الآية يثني الله على عباده المؤمنين الذين يصدقون القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزل على النبيين قبله من كتب، وهم كذلك مؤمنون دون شك أو ارتياب أن الساعة قائمة، وأن الله سيبعث من في القبور، وهو تأويل قوله ( وبالآخرة هم يوقنون( أي عالمون، واليقين معناه العلم دون الشك.
قوله :( سواء عليهم ءأنذرتهم ( سواء مبتدأ ( ءأنذرتهم ( وما بعده خبر، والتقدير : سواء عليهم الإنذار وعدمه، والهمزة، الأصل فيها الاستفهام، والمراد بها هنا التسوية، وأنذرتهم فعل وفاعل ومفعول، وأم، عاطفة. ١
وفي هذه الآية إنباء عن فريق من الكافرين قد سبق في علم الله أنه سيموت على الكفر، وأن هذا الفريق ( سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( سواء معناها معتدل، أي يتساوى ويعتدل عند هؤلاء الجاحدين أن يستمعوا للنذير أو لا يستمعوا فإنهم فئة من الخلق ميؤوس منها فلن تؤمن أبدا، وذلك تمشيا مع علم الله في الأزل أن هؤلاء سيمضون في طريق الكفر مختارين، وبناء على ذلك فإن قوله :( إن الذين كفروا( يفيد بظاهره العموم، لكنه يراد به الخصوص، وقيل : إن الآية نزلت في كبراء اليهود الضالين أو في آخرين غيرهم ممن ماتوا على الكفر، إلا أن القول الأول هو الذي نطمئن إليه، والله سبحانه أعلم.
وثمة مسألة تختلف فيها أقوال العلماء والمفسرين، وهي مسألة قد تصل إلى حد الإشكال الذي يثير جملة تأويلات وآراء، وهي : لمن يعود التأثير على القلوب والأسماع ليقع عليها الختم أو الطبع أو الإغلاق ؟ هل يعود ذلك لله عز وجل ليكون سبحانه هو المؤثر في عملية الطبع على القلب والسمع للإنسان فلا يؤمن بحق ولا يستمع إلى كلمة الحق، أم أن ذلك يعود إلى الإنسان نفسه، فهو المختار المريد الذي يسلك سبيلا في الخير أو الشر وهو في ذلك حر ؟.
أمام هذين القولين المختلفين أجدني أكثر اطمئنانا وقناعة أن أتصور أن معنى الختم أو الطبع على قلب الإنسان وسمعه قد ورد على سبيل الإخبار بعدم الإيمان وليس على سبيل القهر والإلزام أو على سبيل الخلق المحتوم.
وبعبارة أخرى، فإن الله جلت قدرته عالم علما أزليا بما هو كائن وما سيكون في الكون أو الطبيعة أو الإنسان، فإن ذلك كله مشمول بعلم الله، وهو علم أزلي غامر يحيط بالوجود جميعا من غير أن يند عنه شيء، فهو سبحانه عالم بأفعال الإنسان سواء ما كان منها خيرا أو ما كان شرا، فإنها تقع بإرادة الإنسان وهو في ذلك مخول قدرا من حرية الاختيار.
وخلاصة القول في هذه المسألة : أن الختم الواقع على قلوب الكافرين وأسماعهم والواردة في هذه الآية قد جاء على سبيل الإخبار من الله أن هذا الصنف من البشر لن يختار طريق الهداية والإيمان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أما القلوب فمفردها القلب، وقد سمي بذلك لأنه ينقلب من حال إلى أخرى، فهو بذلك قلب أي سريع التقلب من حيث استيعابه لمزيد من الإيمان واليقين أو سرعة افتقاده لشحنة من زاد الإيمان والتقوى، وشأن القلب وفي مثل هذه المسألة أنك تراه اهتدى واستقام أو استكثر زادا قد تقلب فانتقل عن صراط الحق والإيمان فيما يؤول إلى تدهور خطير سريع يؤثر في السلوك والأعمال لتكون فاسدة، ويؤيد هذا المعنى حديث' الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يقول :« مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة » ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ليثبت فؤاده على الإيمان قائلا : " اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ".
ويقول الشاعر :
ما شمي القلب إلا من تقلبه | فاحذر على القلب من قلب وتحويل |
ولعل الفهم السليم لهذه المسألة أن نتصور المقصود من القلب على شاكلته المرئية في الصدر وأن هذه الشاكلة لهي ذات علاقة أساسية وجوهرية بطبيعة التكوين النفسي والروحي للإنسان، إلا أن طبيعة هذه العلاقة أو كيفيتها غير معروفة للإنسان تماما، وكل الذي يمكن الوقوف عليه أن قلب الإنسان لهو جماع الخير أو الشر فيه ( الإنسان ) وأنه جهاز تكويني بالغ التأثير والفعالية في سلوك الإنسان وتصرفاته القولية والفعلية جميعا، وأنه لا يمكن إسقاط القيمة للصورة المادية للقلب وهو على هيئته من قطعة اللحم، وأن طبيعة العلاقة بين هذه القطعة المحسة والحوافز المعنوية والروحية غير مدركة إدراكا مستبينا.
أمام عن وجود القلب في الإنسان وفي الصدر على وجه الخصوص فقد قال الله في القرآن عن ذلك :( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (.
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
وقوله :( وعلى سمعهم ( أي أن الختم طبع على أسماع هؤلاء الكافرين الذين لا يعون قولا كريما ولا يملكون أن يسمعوا نصحا.
أما إفراده للسمع مع أنه جمع القلوب فسبب ذلك أن السمع في الآية قد ورد على صيغة المصدر من الفعل " سمع " فكأنه يقول : إن الختم قد وقع على سماع هؤلاء الكافرين، وليس المقصود هنا أداة الاستماع وهي الأذن، وقيل غير ذلك.
قوله :( وعلى أبصارهم غشاوة ( الواو للاستئناف، فالجملة هنا مستأنفة بحيث لا ترتبط من حيث الختم مع ما قبلها من القلوب والأسماع، وبذلك فإن الوقوف على قوله ( سمعهم ( مطلوب، ومن المستبعد المرجوح أن تكون الواو هنا عاطفة على ما قبلها فيكون الختم واقعا على الأبصار مع الأسماع والقلوب، ومعلوم أن الختم إنما يقع على القلوب والأسماع ولا يصلح أن يقع على الأبصار التي لا يناسبها غير الغشاوة وهو الغطاء، يؤيد ذلك قوله سبحانه :( وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ( وبذلك فإن البصر تقع عليه الغشاوة ليستقيم المعنى، وغير ذلك لا يتفق والمعنى أو السياق.
ومما يلاحظ لدى تدبر الآية أن المذكورات الثلاثة، وهي : القلوب والسمع والأبصار قد وردت مرتبة بحسب الحظ من الأهمية، فأشد هذه المذكورات أهمية هو القلب ثم السمع وأخيرا يأتي البصر، ولا غرابة أن يرد ذكر القلوب في الطليعة من الاهتمام والأهمية، لأن القلب لهو مناط التأثير والفعالية، ومبعث التنشيط والعزم، وموئل التوجه والسلوك في الإنسان سواء كان ذلك صوب الخير أو الشر.
أمام السمع فلا جرم أن يكون أشد أهمية وتأثيرا في الإنسان من البصر، وذلك من حيث العواقب والسلبيات التي تترتب على افتقاد كل من الطرفين، والحقيقة التي لا شك فيها أن افتقاد الإنسان للسمع سوف يكون سببا لحرمان كبير يحيق بشخصه وذلك من الناحية العقلية والنفسية والروحية، وغير ذلك من النواحي التي تنشىء الشخصية المنسجمة المتسقة للإنسان.
فإن الملاحظ أن السمع في الإنسان لهو سبب لخصائل عظيمة شتى منها سماع العلم بضروبه المتعددة، والاستماع بتدبير للنصيحة النافعة التي يكتسب المرء عن طريقهما ظواهر في الاعتدال والاستقامة أو في الارتداع عن كل مظاهر الإثم والضرر.
ويأتي في طليعة المعطيات الخيرة لخاصية السمع للإنسان أنه يستطيع بوساطتها الاستماع الى القرآن الكريم، وذلك أمر هائل وبالغ الجلال، لما ينطوي عليه من كبير المعاني والمؤثرات التي تلج الكينونة البشرية وهي تتعامل مع كلمات الله في قرآنه الرائع المعجز.
أمام البصر فإن انعدامه لا يفقد شيئا من هاتيك المعطيات التي لا تتحصل إلا بالجهاز السمعي، فالأعمى الذي يكون عاقلا يستطيع أن يستفيد بنفس القدر الذي يفيده المبصر، فهو الأعمى يستمع باهتمام ورهافة لكل ضروب الخير القولية والفعلية التي تطرح أمامه وهو يستمع إليها استماعا.
وقوله :( ولهم عذاب عظيم ( العذاب من الفعل عذب أي منع وحبس، واستعذب بمعنى امتنع عن فعل الشيء أو انصرف عنه، ونقول : أعذبه عن الأمر أي منعه منه أو حبسه عنه، وبذلك فالعذاب معناه في اللغة : ما شق على الإنسان ومنعه من تحصيل ما يريد، وبناء على هذا فإن العذاب الوارد في الآية معناه أن الإنسان العاصي يحبس عنه الخير ليحل عليه بدلا منه ما يضاده من ألوان الشر والضر والبلاء، وذلك ما أعده الله لأولئك الكفرة المتمردين الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة.
هؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون غير ما يبطنون والذين تندد بهم هذه الآيات تنديدا يكشف عن مكنون قلوبهم المريضة الجائفة، فيقول سبحانه :( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( الناس في اللغة أصلها أناس مخفف وقد ورد في معناها جملة أقوال أقتضب منها ثلاثة، أولها أنها من النوس ومعناه التذبذب والحركة، والناس شأنهم أن يدأبوا على التحرك والتذبذب في فعالية لا تنقطع.
ثانيهما : أن الناس من النسيان، وأصل ذلك الفعل نسي، ومعلوم أن الإنسان مبني على النسيان حتى إن أحدا منن البشر لا يتجرد عن هذه الحقيقة الأصيلة، وهي حقيقة لصيقة بطبع الإنسان فلا تبرحه، وأول الخلق كافة آدم عليه السلام كان قد نسي وقال الله سبحانه فيه :( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (.
ثالثهما : أن الإنسان من الأنس أو الإيناس فإن الإنسان كائن مستأنس بمن حوله من أفراد أو جماعات بشرية وفي ذلك يقول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لأنسه | ولا القلب إلا أنه ينقلب |
وقوله :( وما يخادعون إلا أنفسهم ذلك يعني أن عاقبة الخداع لا تحيق إلا بالمخادعين أنفسهم(، وتلك حقيقة مختومة لا يدركها هؤلاء السفهاء المفسدون الذين لا تستوعب قلوبهم وأذهانهم جلال الألوهية والذين يتراءى لهم أنهم يخدعون الله مع أنه سبحانه لا يتطاول إليه سلطان بشر ولا خداع مخاتل أو دجال.
مع أن هذه الظواهر جميعها لا تخرج عن دائرة المرض في مفهومه الشامل، أو أنها أعراض فاسدة قبيحة يتمخض عنها المرض نفسه، لكننا نتصور أن المرض الذي يخالط القلوب فيسميها الإفساد والتخريب لتنشأ عن ذلك ظواهر الشك أو النفاق أو غيره، إنما هو الذي يأتي على الفطرة البشرية لتكون مشلولة فاسدة لا تزجي غير الشر والضلال، أو هو الذي يأتي على النفس فتكون ملتوية غير سوية وقد أفسدها التعقيد والانحراف.
ويمكن إيجاز ذلك في عبارة سريعة لتفسير المرض فنقول : إنه الانحراف الذي يغشى طبيعة الإنسان، فتكون ضالة عن صراط الحق السوي، أو تكون منحرفة انحرافا مشينا يتجه بالإنسان صوب الشر والفساد، أو صوب الضلال والميل عن منهج الله.
وقوله :( فزادهم الله مرضا( قيل : إن هذه العبارة الكريمة تحتمل أحد معنيين : أحدهما : الإخبار وهو أن الله سبحانه يزيد هؤلاء المنافقين مرضا على مرضهم، ثانيهما : الدعاء على المنافقين كي يزيدهم الله مرضا فوق مرضهم، غير أننا نرجح القول الأول، ويمكن أن نتصور كيفية ذلك وهو أن هؤلاء المنافقين سادرون في الغي والضلال، فلا تمر الأيام إلا وهم يزدادون رجسا على رجس، بحيث تتعاظم مفاسدهم وخطاياهم بفعل الفطرة الفاسدة الملتوية التي تسول لهم الخطيئة والحرام.
قوله :( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ( الضمير عائد على المنافقين الذي أعد الله لهم العذاب الأليم، وهو على صيغة مبالغة من الفعل " ألم " والأليم هو المؤلم الموجع، وسبب ذلك أنهم كاذبون فقد كذبوا على الله وكذبوا على المؤمنين إذ قالوا لهم : إننا مؤمنون، وفي قراءة أخرى بالتشديد يكذبون أي يجحدون نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكذبونه فيما جاء به من كتاب.
المقصود بالضمير في الآية الأولى هم المنافقون، أولئك الذين يعيشون في الأرض إفسادا وتخريبا، وهم مع ذلك يرفضون جحودا ومكابرة أن يسمون مفسدين، وهم إذا دعاهم المؤمن في نصح ألا يفسدوا في الأرض أنكروا أن يكونوا مفسدين، ثم انتحلوا لأنفسهم صفة الصلاح وأنهم ليسوا غير مصلحين ولا يبتغون من مسعاهم إلا التقريب بين المؤمنين والكافرين.
والفساد كلمة جامعة لمناحي الشر وضروب المعاصي فكل خطيئة أو إثم يفارقه أهل النفاق إنما يدخل في إطار الفساد، والمنافقون يدأبون دوما على مقاومة المحظورات والخطايا وكل ألوان الفساد والحرام.
وقد ورد في سبب هذه الآية أن المنافقين كانوا يملئون الكافرين ليأتمروا معهم بالمؤمنين مع أن ذلك حرام، فقد نهوا أصلا عن موالاة الكافرين حيثما كانوا لقوله سبحانه :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ( وقوله :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ( وقد زعم المنافقون أنهم يبتغون من ممالأتهم للكافرين الإصلاح وأنهم يعملون من أجل التوفيق والمصالحة بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين، وذلك كذب وزور، فما كان هؤلاء العصاة المتلصصون في الظلام ليبتغوا الخير والإصلاح ولكنهم شرذمة فاسدة شريرة لا تنوي غير الشر والأذى تلحقهما بالمسلمين.
ولذلك يأتي النص الرباني قاطعا ليحسم المسألة على هؤلاء مفسدون لا مصلحون :( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ( وقوله :( ألا ( يفيد التنبيه والاستفتاح، يدخل على الجملة الفعلية والاسمية. ١
وقوله :( لا يشعرون ( أي أن هؤلاء المنافقين الذين يقارفون كل ضروب المعاصي والذين يمالئون الكافرين ويوالونهم ضد المؤمنين لا يعلمون أنهم فسقة وأنهم خارجون عن صراط الله، وهم بذلك يجهلون أنهم عصاة مفسدون، لأنهم يرفضون الاستماع إلى الحقيقة والنصر ويستكفون عن مجرد الإصغاء لكلمة الحق بقولها لهم المؤمنون بإخلاص.
ولقد كان المؤمنون يهتفون بالمنافقين المفسدين ليؤمنوا إيمانا وافيا حقيقيا مثلما أمن الناس الآخرون من أنصار ومهاجرين. وذلك تذكير ودود تتأثر به النفس السليمة الكريمة لكن مثل هؤلاء الجبناء الذين يفارقون فسقهم في خسة لا تطوع لهم أنفسهم أن يقبلوا على الله في خشوع، أو أن يستقبلوا الموعظة والذكرى في تواضع، بل إنهم مستكبرون في حماقة وجهل، لذلك كان جوابهم عاتيا آثما ينم على استكبار متهكم.
سخيف إذ قالوا :( أنومن كما آمن السفهاء ( والسفهاء مفردها سفيه وهو من السفه، ومعناه الخفة والطيش وبساطة الحلوم، كذلك كان يغلظ المنافقون عندما دعوا إلى الإيمان فلجوا واستكبروا في حماقة واستخفاف وهم يتصورون أنهم إذا آمنوا فلسوف يكونون مع أولئك المؤمنين الذين آمنوا سفها بغير علم، كذلك قال المنافقون وهم فريق من الكذبة الفساق الذين يهذون بما لا يعلمون إلا تخريصا وزيفا وافتراء. وحقيقة الحال تبين في غير ما شك أن هؤلاء الفساق هم السفهاء وأنهم ذوو الطبائع الفاسدة المريضة أو الأحلام التي سيمت التبلد والشلل، وفي ذلك يقول سبحانه شاهدا على هؤلاء بالسفه وفساد الأحلام :( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (.
ذلك وصف آخر يميز المنافقون من غيرهم من الناس سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، إذا ما رجعوا إلى ( شياطينهم ( وهم رؤوس الكفر من أهل الكتاب والمشركين نفثوا أمامهم حقيقة ما تنطوي عليه قلوبهم المريضة من غش والتواء ومخادعة، وهم عندئذ يبادرونهم بالقول ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( أي نحن على ملكتم وطريقكم، ولا تكن صدورهم للمسلمين غير الخديعة والاستهزاء.
والشياطين مفردها شيطان وهو مشتق من الفعل شطن، ومعناه : بعد عن الحق والخير، ومصدره شطون ويقال : تشيطن، واسم الفاعل شاطن، أي بعيد عن الخير والحق، والشيطان من الإنس أو الجن، هو الخبيث العاتي المتمرد وذلك لبعده عن الخير.
والشيطان صنفان من حيث الأصل أو الجنس، وهو إما أن يكون من الجن فهو بذلك مستور عن أعين الناس، لكونه ذا تركيبة أخرى لا يدركها بنو البشر، والشيطان من هذا الصنف يوحي لأتباعه وأعوانه بطرقته التغريرية الموسوسة أن يجترحوا السيئات، ويرتكبوا الخطايا، أما الصنف الثاني : فهو من البشر وذلك صنف قد لا يقل في اقتداره على الإطغاء والغواية عن الأول، فذلك صنف خبيث من الناس يملك من فساد الطبع وموات الضمير والرغبة اللحاحة في صنع الشر ما يمكنه من الإفساد والإغواء، وما أكثر الشياطين من البشر الذين يوحون للناس بفعل المنكر ويزينون لهم أن يبادروا الذنوب وكل أنواع الحرام، حتى إن الشياطين من البشر كثيرا ما يلجأون إلى الإغواء والتغرير عن طريق الإرهاب فيما يحمل الإنسان المغرور أو المفتون على اقتراف المحظورات والمفاسد.
ومن الحقائق الملموسة لكل ذي عقل ما يحيق بالبشرية دائما من أساليب التآمر والخداع، وما يحاك لها في الظلام من صنوف الحيل والمخططات، وذلك من أجل أن تساق هذه البشرية نحو الهاوية بكل ما في هذه العاقبة من ضروب الكوارث والمهالك، النفسية منها الاقتصادية والاجتماعية.
إن هذه الحقائق التي نلمسها من خلال الكتب أو الصحافة أو وسائل النشر والإعلام بما يدفع الإنسان نحو الدمار الذاتي أو نحو الانمياع والتفسخ، إن ذلك كله من كيد الشيطان الناموسي، شيطان البشر الذي ينطلق في الأرض خلسة، فينفث الشر والمنكر، ويعيث بين الناس فسادا وتدميرا من أجل أن تستحيل البشرية الى ركام من المجتمعات الحائرة المضطربة، المجتمعات التي يشينها فساد النفس وانهيار القيم وكل مقومات الإنسان الأصلية.
وكذلك فإن الله يستدرج هؤلاء المنافقين الواهمين استدراجا، إنه سبحانه يمهلهم ويمد لهم من العطاء واللعاع وهم سادرون في طغيان تجاوزوا به كل الحدود.
وقوله :( يعمهون ( من العمه، والعموه وهو الضلال والتردد والحيرة، فإن المنافقين ماضون في الأرض طاغين فسقة يظنون أنهم على شيء من الوضوح والتبصر مع أنهم يخبطون في الأرض ضلالا وحيرة وقد أعماهم الإمداد والاستدراج حتى إذا جاء أمر الله سقطوا مع الهالكين في الأذلين، وباءوا من الله بالخسران العظيم.
اسم الإشارة ( أولئك ( في محل رفع مبتدأ، واسم الموصول بعد الإشارة خبر دلت عليه الجملة الفعلية وهي صلة الموصول، الإشارة عائدة على المنافقين الذين بدلوا الهدى ليكون ثمنا ثم استعاضوا عنه ببدل رذل وهو الكفر أو الضلالة، هكذا يعقد المنافقون صفقة من البيع الخبيث الخاسر، وذلك على سبيل الاستعارة التي تكشف عن مبلغ الحماقة والضلالة والتعس الذي وصله أولئك المنافقون وهم يمسكون بالكفر ليطرحوا بدلا منه الإيمان وتلك تجارة خاسرة لم تأت بخير ولم تنطو على غير الوخامة والتخسير.
قوله :( وما كانوا مهتدين ( ذلك نفي للهداية عن المنافقين، أما طبيعة هذا النفي فقد ورد فيها قولان : أحدهما : أن النفي جاء وصفا للمنافقين حال رفضهم للإيمان، فهم بذلك قد اختاروا الضلالة، ثانيهما : أن ذلك إخبار عن علم الله الأزلي بأن هؤلاء لن يهتدوا وأنهم صائرون- في علم الله- الى الضلالة، والراجح عندي هو الأول والله أعلم.
ذلك مثل يضربه الله لهؤلاء المنافقين وهو يطابق حقيقة المنافقين و ما سلكوه من طريق الضلالة والتعتر.
إن هؤلاء المنافقين الذين رأوا الحق واستمعوا إليه وأدركوه إدراكا ثم رفضوه ونبذوه، مثلهم كالذي تكون من حوله نار مستوقدة مضيئة تكشف له عما حوله من أمور وأشياء حتى إذا أبصر ما حوله وكان مبصرا مهتديا انطفأت النار فذهب الضياء والنور وأصبح الذي كان مستنيرا لا يرى شيئا فتعثر في الضلال والعمه.
تلك هي حال المنافق إذ تأتيه نسائم الإيمان، وتهتف به نداءات الخير والهداية من أجل أن يستقيم ويهتدي ثم يجحد ذلك كله وينفلت عنه انفلاتا عاتيا ليكون في صف العصاة والأذلين.
واختلف المفسرون في شأن المنافقين هنا من حيث كفرانهم بعد إيمان، أو أنهم لم يكونوا قد أمنوا من قبل، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم في يوم من الأيام، ثمة قولان في هذه المسألة مع أن ظاهر الآية يوحي باعتبار القول الأول وهو أن هؤلاء المنافقين قد كفروا بعد الإيمان، وأنهم اتبعوا الضلال بعد أن لامست الهداية قلوبهم.
وهم يتفصون أيضا بالعمى الذي تنحجب معه الرؤية وتنغلق به الأبصار فلا يكون إذ ذاك اهتداء أو استبصارا، وذلك كشف مريع يبين حقيقة المنافقين الذين انقلبوا إلى مغاليق في بصائرهم وفي كل أداة من أدوات الحس فيهم، سواء كان ذلك السمع أو النطق أو البصر. إن هؤلاء باتوا قساة في طبائعهم وقلوبهم إلى أن بلغوا الإيصاد المطبق يغشى فيهم كل مسلك من مسالك التفكير أو الفطرة، وتلك هي درجة الإياس الذي لا يرتجي بعده إيمان أو هداية، وذلك قوله سبحانه :( فهم لا يرجعون ( لا رجعة للمنافقين الى حومة الخشوع المتذلل لله وحده، ولا رجاء لهم في العودة إلى الإيمان الذي نبذوه في خسة وحماقة ليستبدلوا به الكفر والعمه وليكونوا مع الجاحدين والفاسقين.
قوله :( أو ( جاءت للتخيير وقيل للتفصيل وقيل للشك، وقيل : معناها الواو أي وكصيب من السماء والصيب هو المطر، وهو مشتق من الفعل صاب يصوب أي ينزل.
وذلك مثل آخر يضربه الله للمنافقين مثلما ضرب لهم المثل السابق عندما شبههم بالذي استوقد النار حتى استضاء ما حوله ورأى كل شيء انطفأت النار وذهب الضياء والنور.
فهؤلاء المنافقون مثلهم كأصحاب مطر منهمر من السماء تغمره الظلمات والكثيفة المتراكمة ويتخلله الرعد القاصف والبرق الخاطف، أما الظلمات فهي صورة عن الكفر الذي يركم في نفوس المنافقين والذي نهوا عنه، ويقصد بالرعد التخويف من عذاب الله وسخطه أن يحيق بهؤلاء المجرمين الفساق.
أمام البرق فهو يمثل آيات الله الكريمة التي تكشف عن سرائر هؤلاء المنافقين فتفضحهم فضحا،
والمنافقون دائما خائفون من سطوع الإسلام وإشراقه أن ينفذ إلى قلوبهم ولذلك فهم ( يجعلون أصابعهم في آذنهم من الصواعق حذر الموت ( أي أنهم يغمضون أعينهم عن رؤية الحق ويصمون آذانهم صما، كيلا يستمعوا إلى صوت الإسلام وكلمة الحق فينصرفوا عن الشرك والنفاق، وهم إذا ما انصرفوا فإن ذلك – في تصورهم- موت.
ذلك الذي تمكنا من تصوره في تأويل هذا المثل في هذه الآية، مع أن أقوالا كثيرة قد وردت في تأويله والله أعلم بالصحيح.
وقوله :( حذر الموت ( حذر : مفعول لأجله منصوب، مضاف إليه مجرور، أما الصواعق فهي جمع صاعقة وهي نار تسقط من السماء مصحوبة بصوت مؤثر خارق، وتأتي الصاعقة بمعنى الصيحة تأتي بالعذاب ومنها الصعق ومعناه الإغماء والموت.
قوله :( والله محيط بالكافرين ( إنه سبحانه حاصر لهم، ومطبقة إرادته وهيمنته عليهم فلا يستطيعون الإفلات من قبضته أو الند من سلطانه وجبروته.
وقد جاء في تأويل هذه الآية عدة أقوال لكننا نميل إلى أن المقصود بالبرق هنا نور الإسلام، أما الخطف فهو البهر، فالمعنى : إن إشراقة الإسلام المضيئة الوضيئة تبهر قلوب المنافقين وأذهانهم حتى إنهم ليؤمنون بصلوحه وروعته وصدقه وذلك ساعة استلهامهم لحقيقة هذا الدين وهو يمس فيهم الحس وينفذ فيهم الى صميم الفطرة، لكنهم بعد ذلك ينكصون مرتكسين كلما تراءت لهم ظلمات من الشك والتردد فينقلبون على وجوههم مضطرين حيارى.
هكذا يكون المنافقون فهم تارة يمسكون بحبل من الهداية والإيمان في فترة من زمان ثم لا يلبثون أن يبوءوا بالشك والتكذيب، إذ تتلطخ قلوبهم وأذهانهم بوصمة من التردد والارتياب.
قوله :( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ( لو، أداة امتناع لامتناع وهي تفيد التمني، وفي هذا الجزء من الآية تخويف يتهدد المنافقين في كل لحظة، يتهددهم بالإبادة أو المسخ جزاء ما اقترفوه من نفاق، وخواء للضمير، أما التهديد بالإبادة فإنه يكشف عنه إذهاب السمع والبصر وهما أعظم وأشرف ما في الإنسان من جوانب وأجزاء.
أمام التهديد بالمسخ : فلنا أن نتصور ذلك من خلال افتقاد الإنسان لهذين الجزأين الأساسيين فيه وهما السمع والبصر، والإنسان وهو يسام الصمم والعمى فإنه ينقلب إلى كائن خاسر مشلول لا يأتي بخير إلا الجمود والضعف والموات.
والله سبحانه وتعالى لا يعجزه أن يذيق الإنسان أشد البلاء والنكال سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، فإنه سبحانه من صفاته القدرة التي لا يند عن محيطها شيء :( إن الله على كل شيء قدير.
قوله تعالى :( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (.
والله جلت قدرته يدعو الناس كافة سواء فيهم المؤمنون والكافرون أن يعبدوا الله وحده من غير شريك، وأن يخلصوا له في القول والعمل فهو سبحانه مالكهم ومحيط بهم، وهو كذلك خالقهم الرحيم بهم والقريب منهم، فهو جدير بالامتثال لأمره والخضوع لجلاله، إنه سبحانه جدير أن يعبد الناس لجنابه، فهو الذي خلقهم وخلق الذين من قبلهم من شعوب وأمم كثيرة مبثوثة في كل مناحي الأرض على مر الزمن. فإن في عبادة الناس لله وحده وفي انقيادهم لدينه وشرعه ما يجعل لهم الرجاء بأن يكونوا من المتقين، وذلك من الوقاية أو التقية وهي ما يكون ستارا يدرأ المرء العذاب، والمؤمن العابد التقي يدفع عن نفسه العذاب المحدق باتخاذه وقاية من الطاعات واجتناب المعاصي والموبقات.
وكذلك قد جعل الله السماء للناس بناء كأنما هي مظلة، وهي مظلة ممتدة وكبيرة وغير محدودة قد صيرها الله على هذه الصورة الهائلة من البناء المرفوع الذي تتكاثف فيه الخلائق والأجرام في غاية من التوازن الدقيق والإحكام المنظم المضبوط.
بناء سماوي رفيع لا تدرك منه الأبصار والعقول إلا قليلا مما تحقق بأسباب شتى من النظر والرصد والعلم، وما في السماء من حقائق ومخبوءات لهو كثير لا يقف الإنسان إلا على جزء يسير منه كلما امتد به الزمان وتعاظمت له أسباب البحث والاكتشاف يقول سبحانه في ذلك :( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ( والفعل جعل يأخذ مفعولين وهو يعني صير من الصيرورة ويأتي على معان أخرى ترد في موضعها.
وقوله :( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ( السماء اسم مذكر ومؤنث وجمعه سماوات وأسمية، وهو يطلق على كل ما علاك فأظلك ويقال لسقف البيت سماء، وكذلك فإن السماء تسمى المطر فيقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، وأصل السماء من السمو وهو الارتقاء والعلو، نقول سموت وسميت أي علوت وعليت، ونقول فلان لا يسامى وقد علا من ساماه.
فقد أنزل الله المطر من السماء العالية المرتفعة بعد أن كان ( المطر ) حبات من الماء المنتشر المحمول عبر درات الهواء حتى إذا علا ذلك وتسامى فوق الأرض لامس أجواء باردة فتقاطر الماء من خلاله ليؤوب الى الأرض منهمرا تستقي منه الخلائق من بشر وزروع وأنعام، ثم تنبت به الأرض من خيراتها وثمراتها بما يقتات به الناس ويرتزقون أو ما يستمتعون به ويستطيبون.
وحول هذه العملية الربانية العجيبة في إنزال المطر بدءا بتصريف الرياح الموقرة بحبات الماء المتبخر، وانتهاء بالنزول الهاطل المنهمر يقول سبحانه :( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمسلمين فانظر إلى ءاثر رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء قدير (.
قوله :( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ( الأنداد، مفردها ند وهو يرادف النديد الذي يستعمل للمبالغة، والأنداد بمعنى الأكفاء والنظراء والأمثال.
فالند أو النديد معناه الكفء أو النظير أو المثيل، وقيل : الأنداد تعني الأضداد، وأصل الكلمة من الفعل ند ندودا أو ندادا، نقول ند البعير أي نفر وذهب على وجهه شاردا، وفي قراءة بعضهم لقوله تعالى :( يوم التناد ( أي يوم الشرود والهرب في جموح، ومنه التنديد من الفعل ندد أي أظهر العيب في تشهير وافتضاح والله سبحانه يحذر الناس أن يتخذوا من دونه شركاء عدلاء يجعلون لهم من الحظ في الخوف والتقديس والانقياد مثلما يجعلونه لله سبحانه، وذلك هو الإشراك المستشبع الذي تدنو دونه كل خطيئة أو محظور، على أن الإشراك ضروب شتى تورد الإنسان المشرك موارد الكفران الذي يفضي إلى غضب الله والنار. كأن يتجه الإنسان بحسه وهواه صوب آلهة مصطنعة لا تملك شيئا من ضر أو نفع، ولا تملك أن تغير من مقادير الله أدنى تغيير، ولكنه الوهم الفاسد المريب الذي يمس طبائع جانفة مريضة فيزين لها أن تتثبت بهذه الآلهة المختلفة الموهومة.
ومن ضروب الإشراك أن تخشع القلوب للأصنام في انقياد مضلل فاسد، كالذي كان عليه الناس في الأزمنة الغابرة، إذ كانوا يخرون للأصنام ساجدين وهي أصنام يصطنعونها من الحجر أو المدر أو التمر على شواكل مختلفة من هيئة الإنسان أو الطير أو الحيوان، وفي طليعة ذلك اللات والعزى ومناة ثم هبل وأسماء غير ذلك مما يفتعل أولئك في سفاهة وعمه، ومن ضروب الشرك كذلك أن ينصاع الإنسان في شعوره ووجدانه وفي تفكيره وجوارحه لأمر الحكام والساسة الذين يقضون بالباطل وبغير ما أنزل الله، فهم بذلك يضادون الله ويستنكفون عما أنزل من كتاب ودين، وأمثال هؤلاء الحكام والساسة إنما يقفون في غاية الضلال والجريمة التي تتجسد في الافتتات على سلطان الله والاعتداء على جلاله وجنابه العظيمين وذلك بانتحال الخصائص الأساسية الكبرى كالمعبودية أو الملكوت أو التشريع وهي خصائص كبريات لا تتسنى لأحد من الخليقة كائنا من كان، وما انتحالها أو جزء منها إلا التعدي الصارخ المستكبر على الله في عليائه.
وعلى ذلك فإن اللحاق بمثل هؤلاء الحكام والساسة الذين يضادون الله لهو ضرب مستبين من ضروب الشرك الذيب تنشغل القلوب والأهواء لتسير في غير صراط الله، والذي يتثبت الطبع من خلاله بهؤلاء الفساق ليتلهى في خضم الرغائب والشهوات فيسدر مع السادرين إلى حيث السقوط في الأذلين.
ومن أحسن ما روي عن حبر هذه الأمة وإمام المفسرين عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) في هذا الصدد وهو أن الأنداد تعني الشرك وهو أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت، وقول الرجل : لولا الله وفلان.
وقد ورد في الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت فقال له النبي : " أجعلتني لله ندا ؟ ! ".
قوله :( وأنتم تعلمون ( الواو للحال، والضمير في محل رفع مبتدأ والميم للجمع، ( تعلمون( جملة فعلية في محل رفع خبر، والجملة الاسمية المبتدأ والخبر في محل نصب حال.
وهذا الجزء من الآية خطاب للكافرين والمنافقين الذين يتخذون أندادا من دون الله، مع أنهم يعلمون في قرارة صدورهم وفي العميق من نفوسهم أنهم ليسوا على شيء إلا الضلال والباطل، وأنهم ناكبون عن الطريق المستقيمة، عن صراط الله الذي لا يخالطه أمت أو اعوجاج، وأنهم يعلمون أن هذا النبي صادق في تبليغه عن ربه وأن شريعة الإسلام لهي الحق المبين.
إن هذا الجزء من الآية خطاب جدير به أن ينفذ إلى قلوب المشركين وأذهانهم أولئك الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى وهو في نفاذه إليها يقرعها في مواجهة مكشوفة لا تعرف الموارية أو الميل كما يعلم هؤلاء الكذناكبون أنهم متعصبون وأنهم مفترون عسى أن تتململ فيهم بقية من وازع أو فطرة. ١
وقد تحداهم الله كذلك في المدينة في مثل هذه الآية ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله... ( فلئن كان المشركون في شك من هذا القرآن الذي تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فليأتوا بسورة واحدة من مثله إن استطاعوا ثم ليدعوا أعوانهم وأنصارهم ليحضروا عملية التحدي وليشهدوا بأنفسهم محاولة المشركين وهم يصطنعون مثل هذا القرآن.
والمقصود بالعبد هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد سماه الله بذلك لشرف العبودية، له سبحانه، ولا جرم أن تكون العبودية هي الخضوع والتذلل ولا يكون ذلك إلا لله، والإنسان المؤمن إنما يكون ممتثلا لأمر الله في شرعه ودينه، ولا ينقاذ في خضوع وتخشع إلا له سبحانه، وتلك درجة سامية رفيعة يرقى إليها الإنسان، فلا يذل لأحد من دون الله كيفما كانت منزلته، والإنسان المؤمن في هذه الحال من العبودية الخالصة لله قمين به أن يسمى عبدا وهي أشرف ضروب التسمية حقا.
وقوله :( بسورة ( السورة في اللغة معناها المنزلة من البناء، والسور يطلق على ما ارتفع من الأرض أو هو الحائط الذي يحيط بالبناء وسمي بذلك لارتفاعه وإشرافه، وسميت السورة من القرآن بذلك لشرفها وارتفاعها وهي في كلام العرب تفيد الإبانة والانفصال من سورة لأخرى أو أنها قطعت من القرآن على حدة وبعبارة أخرى وجيزة، فإن السورة من القرآن قد سميت بذلك لأنها منزلة منزلة مقطوعة عن الأخرى، وهي تجمع على سور أو سورات. ١
وعلى ذلك فإن هذه الآية جاءت لتتحدى الناس جميعا كيما يجهدوا في أن يأتوا بمثل سورة واحدة من هذا القرآن وأن ينادوا أشياعهم وشركاءهم ممن هم على اللذين ستؤول إليهما محاولة المشركين.
وقوله :( إن كنتم صادقين ( أي فيما تدعون، وهو أنكم قادرون على معارضة هذا القرآن بمثله تصطنعونه من عند أنفسكم.
وجدير بالبيان مما يشهد للقرآن والإعجاز أن العرب- وهم موطن الفصاحة والبلاغة واللسن – قد جهدوا في عناء بالغ ليأتوا بمثل هذا القرآن وقد كان يحفزهم لذلك ما كان يحبههم من تحد قائم لا يتحول، وهو تحد قد أثار في نفوسهم المرارة والإحساس بالخزي والضعف، لأنهم باتوا غير قادرين على محاكاة هذا الكتاب الحكيم، مع أنهم أحوج ما يكونون لمحاكاته أو المجيء بمثله ولو قدر سورة قصيرة واحدة، ولقد ظل القرآن على الدوام يتحدى هؤلاء البلغاء أفرادا ومجتمعين وهم الخصوم اللد للإسلام ونبيه وكتابه، ويدركون أن مكانتهم الذاتية الشخصية باتت تتزعزع، وأن مجدهم العربي الموروث آخذ في الترنح والأرجحة، وأن تصوراتهم وأعرافهم ومصالحهم آيلة الى التبدد والسقوط، وذلك كله بفعل العقيدة الإسلامية الجديدة التي جاء يحملها القرآن، فكانوا بذلك يودون في رغبة مغالية جامحة لو تصدوا لهذا القرآن عنه الناس، وليثيروا من حوله الشبهات والظنون، وهم أنفسهم أقدر الناس جميعا على اصطناع الكلام البليغ.
ولقد استبان عجز العرب عن المحاكاة واصطناع ما يشبه القرآن من خلال إقرارات واقعية صريحة أنطقت فريقا من رجالات العرب كانوا قمة العظماء والبلغاء، وفي طليعتهم عتبة بن ربيعة الذي سمع القرآن لأول مرة فغشيته غمرة من الدهش والذهول فأقر بغير تحفظ أو وناء أن هذا القرآن لم يكن قول بشر. كان ذلك عندما قرأ عليه النبي من سورة فصلت :( حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (.
وكذلك الوليد بن المغيرة وهو صناديد العرب البارزين وأحد مشاهيرهم في ميدان البيان واللسن، ومن الذين يتسنمون ذروة المجد في فن الخطابة والشعر بما يبدأ الخطباء والفصحاء جميعا، ذلك هو ابن المغيرة الذي راغ إلى النبي متحديا حتى سمع منه القرآن مرة فهجعت فيه السورة، واستنام فيه الغرور، وأخذته نوبة من العجب العجاب، قد كان ذلك عندما سمع ابن المغيرة كلمات القرآن تقرع ذهنه ووجدانه قرعا، ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكبر ولربك فاصبر... ( فلم يلبث ابن المغيرة إلا أن يردد في إقرار خاضع " ما كان هذا الكلام ليقوله بشر ".
ثم ذاك الحكيم البليغ المفوه " الكندي " وهو المعروف بحكمته وامتلاكه لمقاليد البيان، وقد كان له : أنصار ومريدون لا يبارحونه ويتسابقون في استماع الحكمة المنطوقة من فمه، فقد قال له هؤلاء مرة : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال : نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. ٢
ذلك إقرار واضح من أحد الموغلين في فن القول والبيان يشهد للقرآن بأنه معجز فذ، كان ذلك عندما قرأ الكندي أول آية في سورة المائدة وهي ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (.
٢ الاتقان في علوم القرآن للسيوطي جـ ٢ ص ١١٧ وإعجاز القرآن للرافعي ص ٣٠٦ والبرهان للزركشي جـ ٢ ص ١٢٠..
والآية تنطوي على التحدي للمشركين : إن كانوا يستطيعون اصطناع مثل هذا الكلام العظيم، والآية كذلك تتضمن مسبقا حقيقة عجزهم عن هذا الاصطناع.
وعلى ذلك فالجملة الفعلية المنفية الأولى تفيد الحال، أما الجملة الفعلية المنفية وهي الواقعة في جواب الشرط فإنها تفيد الاستقبال، وهي لا جرم أن تكون آكد في التحدي وأبلغ في التأثير والاستثارة بما يدفع المشركين لبذل المزيد من الجهد كيما يأتوا بمثل هذا القرآن إن استطاعوا، ولكنهم لن يستطيعوا مهما بذلوا من عناء التكلف، ذلك هو الحكم الفصل الذي انطوت عليه الآية ليعلم كل من يبتغي العلم أن أحدا من البشر لن يقوى في يوم من الأيام على اصطناع مثل هذا القرآن أو بعضه، والحكم الفصل في قوله :( ولن تفعلوا ( يرسخ حقيقة الإعجاز للقرآن.
وبعد هذا التأكيد المسبق الحاسم على إخفاق أية محاولة لاصطناع مثل القرآن فإن الله جلت قدرته يحذر من النار الحارقة التي يتعذب بها الجاحدون لأنعم الله المنكرون لكتابه الحكيم، وذلك في قوله :( فاتقوا النار ( أي اتخذوا من طاعة الله ومجانية نواهيه ومعاصيه وقاية تحتمون بها من حريق النار وما فيها من عذاب أليم لا يطاق.
ويزداد القلب هلعا وارتجافا لدى إدراك المرء أن وقود النار من الناس والحجارة، فيا لهول المشهد الذي يثير في النفس الوجل والترويع إنه مشهد يبعث على الصحو في تبكير كيلا تتعاقب الأيام والسنون ثم يفوت الأوان وتذهب الفرصة التي تتاح للمرء فيها أن يتوب ويعمل صالحا.
وفي اجتماع الناس والحجارة في النار أكثر من مدلول، فإن من جملة ذلك : أن يستوي الإنسان الجاحد ليكونا معا في النار، فهما عنصران سيان يلتقيان في الحريق بلا اعتبار أو حساب، إنهما الحجر الأصم، والإنسان التائه الصفيق الذي قارف ما لم يقارفه حجر ولا بهيمة.
ومن جملة ذلك أيضا : أن يشتد عذاب الكافرين في النار وهم تمسهم الحجارة الحامية مما يضيف إلى الأجساد المصطلية لهيبا واضطراما، وقد ورد في المقصود بالحجارة هنا أنها مصنوعة من الكبريت الأسود وهو شديد الاشتعال، وسواء كانت هي الحجارة المعروفة أمن أنها من الكبريت فإن المقصود الأهم هو بعث التحريق واللهب على نحو أشد لكي يذوق الكافرون والملحدون والمكذبون أقسى النكال الذي تتقاحم فيه أبدانهم وجلودهم وهم يحترقون في النار.
قوله :( أعدت للكافرين ( أي أن هذه النار قد هيئت وتم رصدها للكافرين، ويدل ظاهر هذه العبارة على أن النار موجودة أصلا في هذا الزمان وفي سوابق الزمان، وذلك الذي عليه جمهرة أهل العلم من مفسرين ومحدثين، وثمة قول آخر وهو أن النار لم تخلق بعد وأن عملية الخلق كائنة يوم القيامة ولا يعز شيء من ذلك على الله.
وفي تقديري أن هذا القول مرجوح وأن ما عليه جمهور أهل العلم هو الصواب.
وفي هذه الآية يأمر الله بتبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات، والتبشير هو الإخبار عما يبعث على السرور، إذ تتبدى علائم البهجة والحبور لدى الإخبار بما يسر.
على أن التبشير بالجنات مشروط بالإيمان الذي يقترن بعمل الصالحات فإنه لا قيمة تذكر للإيمان وحده من غير عمل صالح، وذلك هو شأن القرآن دائما لدى تنويهه بذكر الإيمان، فإنه يشفعه بالعمل ليتبين للناس خطورة الإيمان المتجرد الذي لا يعقبه عمل كريم نافع مشروع.
وقوله :( جنات ( من الفعل جن أي ستر وغطى، فالجنات مفردها الجنة وسميت بذلك لأنها تستر من يكون فيها ويستظل بظلها، ويشتق من ذلك أيضا الجن والجنة بكسر الجيم وهم خلق غير مشهود، وهم من غير بني البشر، وقد سموا بذلك لاستتارهم وأنهم لا يرون، وكذلك الجنين قد سمي بذلك لاستتاره داخل الرحم، ثم الجنون وهو استتار العقل بما يحول بينه وبين الوعي والإدراك، ويقال كذلك للترس " مجن " بكسر الميم، لأن صاحبه يتستر به ليقيه الضربات. ١
ولقد أعد الله للمؤمنين العاملين جنات عظيمة فسيحة وارفة بما لم يطرأ على قلب بشر ولم يتصوره إنسان، وذلك لفرط الهناء والحسن والروعة التي تظلل هذه الجنات والتي تنساب من بينها الأنهار الدائمة الجارية فتنشر من حولها البهجة والخير والحبور.
وقوله :( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ( أي كلما أعطوا من ثمار الجنة شيئا حسبوا أنه شبيه بما أعطوه في الدنيا فقالوا ذلك مثل الذي كان لنا من قبل في الدنيا، وذلك لتشابه الصنفين في الشكل واختلافهما في الجوهر والمذاق. ويوضح ذلك قوله تعالى :( وأتوا به متشابها ( الجملة مستأنفة متشابها حال من الضمير في ( به ( ٢ أي أن ثمار الجنة تشبه الحياة الدنيا من حيث الصورة والمظهر والمنظر لكن الصنفين مختلفان تمام الاختلاف من حيث الحقيقة والطعم، ولذلك فإن المؤمنين إذ يلجون الجنة ثم يرون ثمارها يحسبون لأول وهلة أن هذه الثمار شبيهة بتلك التي يعرفونها حال حياتهم في الأرض قبل الفناء.
ولعل هذا المفهوم المستنبط من هذه الآية يشي بحقيقة مفيدة وهي أن حال هذه الدنيا غير تلك الحال في الآخرة، وأن بينهما من حيث الحقيقة والجوهر والكيفية والمعنى بونا أكبر، وشتان شتان ما بين الدارين، وهما إن اتحدتا لدى الوصف وذلك من حيث الصورة والشكل فإن ذلك لا يتجاوز الاتحاد الذي تحتويه الكلمات وذلك على سبيل التقريب للذهن فقط. أمام الاثنتان من حيث الكيفية وحقيقة التكوين، ومن حيث الطابع والجوهر وحقيقة ما تجري، فإنهما من هذه المناحي متنائيان تنائيا غير محدود.
ومن باب التمثيل نقول : تتشابه الدنيا والآخرة بما فيها من نعيم وعذاب، أو حر وقر، أو عذب وملح أجاج، أو ظل وارف ظليل، وسموم حارق حرور، أو حزن ممض وسرور مبهج، وغير ذلك من معان متماثلة أو متنافرة فإن كلا منها في هذه الدنيا يختلف عنها في الدار الآخرة، والمعنيان إذا تشابها مثلما يتراءى للسامع من خلال الكلمة فإنهما متباعدان أشد التباعد من حيث الحقيقة والمعنى، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه التعويل، لأنه الأصل ولأنه الجوهر، وما عدا ذلك من مماثلة في الشكل والصورة فإن ذلك ما لا ينبغي التعويل عليه.
قوله :( ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ( وذلك من تمام الخير والنعيم الذي يمنن الله به على عباده الأبرار الذين كتب لهم الجنة، فإن لهم أزواجا طاهرات وهم جميعا في الجنة خالدون، وأزواج مفردها زوج، ويطلق ذلك على الرجل أو المرأة، فنقول امرأة زوج مثلما نقول رجل زوج، والزوج يعني الصنف الذي له نظير أو نقيض. ٣
والمؤمنون العاملون يكتمل لهم الخير والنعيم في الجنة إذ يجدون لهم فيها أزواجا ( مطهرة ( وطهارتهن تتجلى في أوصاف شتى من طهارة البدن من خبث الحيض أو النفاس أو البول أو الغائط أو البصاق كما أورد أكثر المفسرين، أو أن طهارتهن تتسع لتشمل فيهن طابع النفس والروح معا، فهن بذلك كريمات تقيات طواهر لا يعرفن معنى الدنس ولا تجنح إليه نفوسهن فهن المبرآت العفائف.
قوله :( وهم فيها خالدون ( يعود الضمير على الذين آمنوا وعملوا الصالحات والذين امتن الله عليهم بالجنة والزوجات الطاهرات، فإن ذلك كله من تفضل الله وامتنانه على عباده أن أنعم عليهم بالنعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يتحول. ٤
٢ الدر المصون جـ ١ ص ٢١٨..
٣ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٧٧..
٤ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٥٥-٦٢ وفتح القدير جـ ١ ص ٥٢-٥٦ وتفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٣١-٢٤١..
لما ضرب الله للمنافقين المثلين السابقين وهما :( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ( ثم ( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ( قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية، ( إن الله لا يستحي ( فقد بادروا بالتافه من القول على سبيل الهزء والاستخفاف بكلام الله سبحانه وهذان هزء واستخفاف تتقيأهما حناجر الذين لا يدركون مقاصد الكلم الفذ، وهي مقاصد لا جرم أن تستنهض في الذهن جدية التبصر والتفكير، لكن هؤلاء الجهلة المستخفين لا يعون من الأمور والأشياء إلا ما يتراءى لهم على السطوح دون ما تدبر متمكن سابر، وهم كذلك قد خفي عن إدراكاتهم وتصوراتهم المتبلدة أن هذه الأمثال وغيرها لا ترد في القرآن عبثا ولا هي من قبل الكلمات التي تحفل بها السطور. هي أمثال تعرض للمعاني على شاكلة مرغوبة مثيرة تعين على الكشف عن مقاصد القرآن ومكتوباته التي تنقضي.
وقوله :( إن الله لا يستحي ( لفظ الجلالة : اسم إن منصوب، والجملة الفعلية المنفية بعده في محل رفع خبر إن، ويستحي من الاستحياء وهو بالنسبة لبني البشر معلوم، لكنه بالنسبة لله ينبغي تأويله بما يتلاءم وجلاله سبحانه، ولعل خير ما يرد من تأويل لمعنى الاستحياء هنا بأنه الامتناع أو الاستكفاف، وقيل : معناه الخشية، ويترجح القول الأول، وبذلك يكون معنى الآية على هذا الأساس : إن الله لا يستنكف أن يضرب مثلا من البعوضة ونحوها أو دون ذلك.
وقيل في إعراب ( مثلا ( مفعول به منصوب، و ( ما ( زائدة، و ( بعوضة ( بدل من ( مثلا ( وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب مع أن الأول هو الراجح والله أعلم.
وقوله :( فما فوقها ( الفاء بمعنى الى وتحتمل الفوقية هنا معنيين : أحدهما الدون، أي الأصغر والأشد حقارة.
وثانيهما : الكبر، أي يضرب مثلا بالبعوضة وبما أكبر منها.
وقوله :( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ( ذلك إطراء للمؤمنين وثناء عليهم لسرعة تصديقهم بما يتنزل من السماء بوساطة الوحي، يستوي في ذلك الأمثال والآيات والأخبار، فهم بذلك يعلمون في يقين أن المثل المضروب في الآية لهو مثل حق جدير بإعمال الفكر وتركيز النظر من أجل الخلوص إلى معطيات شتى منها الربط والتقريب، ومنها الكشف والتيسير بما يمكن الإنسان الحريص من الوعي والاستفادة.
ولدى الكتابة في هذه المسألة نشهد في تثبت مستيقن أن هذا المثل حق من الله وأنه ليس من العبث أو اللغو في شيء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل إن الله يضرب الأمثال الكثيرة لكي يتدبر الناس ويتبصروا وليكون لهم من ذلك ما يحمل أذهانهم على الوعي والإدراك وما يحمل قلوبهم وطبائعهم على الإيمان والاستيقان.
والحق خلاف الباطل وهو مصدر للفعل الماضي حق بمعنى وجب وثبت، فالحق هو الوجوب والتثبت واليقين، وتلك أمور لا يخالطها شك أو باطل.
قوله :( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا (.
الذين، اسم موصول في محل رفع مبتدأ والجملة الفعلية ( فيقولون ( وما بعدها خبر، والجملة من مقول القول في محل نصب مفعول به للفعل فيقولون.
ويتساءل الكافرون في جحود ونكر عن الذي يريده الله من ضربه لهذا المثل، وهو تساؤل سقيم وظالم يضيف إلى سجل الكفرة والمشركين مزيدا من الجهالات والضلالات التي تكشف عن عقول قد سميت العطب فلم تعد تقتدر على الاستفادة والاستبصار.
وقوله :( ماذا ( جاء في إعرابها أكثر من قول : فقد ذهب بعضهم إلى أنها تشكل جملة اسمية من مبتدأ وخبر أي أن ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، وذا معناه الذي في محل رفع خبر مبتدأ، وقيل : إن ( ماذا ( بمنزلة اسم واحد يفيد الاستفهام وهو في محل نصب مفعول به للفعل أراد، وقوله ( مثلا ( منصوب على التمييز. ١
قوله :( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ( الضلال معناه في اللغة الضياع، والإضلال التضييع، والإنسان الضال هو الشخص الضائع الذي يسير على غير بصيرة أو هدى، أما الهدى فهو يعني البيان أي الوضوح المتكشف المستبين.
وسبيل الهدى هي التي تتصف بالاعتدال والاستقامة كي يتيسر فيها المسير بغير تعثر. وأما المقصود الذي يعود إليه الضمير في قوله :( به ( فهو المثل المضروب الذي سخر منه المنافقون وأهل الكتاب يحفزهم إلى ذلك الغباء المطبق والحماقة الكبيرة.
ولا يسخر من ذلك المثل الرباني المضروب إلا من كان في علم الله الأزلي ضالا، وكثيرون هم الذين يميلون عن صراط الله والذين تجنح قلوبهم وعقولهم نحو الخطأ من التصور فيحتسبون في علم الله مجرمين ضالين، وفي المقابل هؤلاء الجانحين إلى الهاوية يقف فريق المؤمنين الصادقين الذين استروحت أنفسهم مذاق العقيدة والإيمان والذين أخبتت قلوبهم ومشاعرهم لأمر الله إخباتا.
قوله :( وما يضل به إلا الفاسقين ( من الفسق وهو الخروج، سميت الفأرة فويسقة، وذلك لخروجها كي تعبث وتؤذي، والفاسقين منصوب على المفعولية للفعل يضل وفي الآية تبين لهذا الفريق الضال من الناس لما جحدوا الأمثال المضروبة الكريمة التي عرض لها القرآن من بين آياته، وهي أمثال ربانية تتوارد في سياق القرآن لمعاني وأغراض توضيحية تتعامى عنها أبصار الذين أضلهم الله على علم، وأولئك هم الفاسقون الذين خرجوا من ظل الرحمن ليلجوا طائعين حومة الشيطان.
وثمة قول ثان وهو أن الآية تشمل جميع الكافرين من مشركين وأهل كتاب أو غيرهم الذين كلفوا بالطاعة فعصوا، مثلما كلفوا بمجانبة المعاصي ومحارم الله، ثم أتوا ذلك كله فهؤلاء جميعا قد نقضوا عهدهم مع الله بعد أن كان هذا العهد متوثقا، قوله :( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ( خير ما قيل في ذلك من تفسير : أن هؤلاء الفاسقين الناقضين لعهدهم مع الله لم يأتمروا بأوامر الله التي تحل الحلال وتحرم الحرام، وذلك ما أمر الله به أن يوصل، وقيل أيضا : إن المقصود بقطع ما أمر الله به أن يوصل هي الأرحام، فقد قطعها هؤلاء ولم يصلوها، والراجح القول الأول، فهو أشد ملاءمة للسياق والمعنى، فإنه من البعيد أن يطلب من الفاسقين الخارجين عن دين الله أن يصلوا الأرحام، وهذه مسألة فرعية- مع أنهم يكذبون بالدين ويجحدون نبوة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
قوله :( ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ( الإفساد في الأرض يشمل كل ألوان المعصية والإثم، وكل ما يقارفه العصاة من مخالفات عن أمر الله بما يتضمن الشرك وهو غاية الإفساد في الأرض، وغير ذلك من وجوه التمرد على شريعة الله، ولا جرم أن هؤلاء هم الخاسرون، وذلك من الخسارة وهي تعني الهلاك أو النقص، أما الهلاك : فإنه محيط بهؤلاء الذين يجنحون للمحظورات والخطايا، فإنهم آيلون إلى السقوط في عذاب الله، وأما النقص : فإنهم ناقصوا الحظ والمنزلة بما يسوقهم في النهاية إلى التدمير في هذه الدنيا ثم إلى السعير في الآخرة.
قوله :( وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ( ورد في بيان هذا الجزء من الآية جملة أقوال لعل أصولها : أن يكون المقصود هو الأمانة مرتين والإحياء مرتين، أما الموتة الأولى : فهي حين كان الناس غير مخلوقين بعد، فإن أي إنسان من قبل أن يخلق لهو في عداد الموتى الذين لا يملكون حياة ولا انتشارا ولا تأثيرا، قال سبحانه في مثل هذا المعنى :( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( وقوله كذلك في آية أخرى :( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( هذه هي الموتة الأولى.
أما الموتة الثانية فهي معلومة ذاتها التي تحيق بالإنسان بعد حياة فإذا هو ميت وهي عاقبة محتومة سيفضي إليها كل كائن، طال الأجل أم قصر، ( إنك ميت وإنهم ميتون ( فتلكما موتتان.
أما الإحياء مرتين، فإن أولاهما : هذه التي يحياها الإنسان بعد أن يخلق ليدب على الأرض كادحا فترة من زمان إلى أن يقضي، وبعدها يظل برفاته حبيس الرمس راكدا لا يريم إلى فترة لا يدري سوى الله كم من السنين تبلغ، وبعدها بأذن الله للساعة أن تقوم، ليبعث الموتى من قبورهم إلى حيث النشر والحساب.
وثانيهما : تلك التي يكون عليها الإنسان بعد بعثه من قبره ليعود حيا على التمام وليلاقي حظه الحساب المسطور.
فتلكما موتتان : وذلكما إحياءان اثنان، وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى ( ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين (.
وقوله :( ثم إليه ترجعون ( بعد الإحياء الثاني الذي يعقب الموت يساق الناس إلى الله ليروا أعمالهم، وأصدق ما يجيء في هذا الصدد قوله سبحانه في سورة الزلزلة التي تزلزل لوقعها وشدة تأثيرها النفوس والمشاعر والأبدان وهي تتصور فداحة الموقف العصيب الرهيب في يوم مجلجل مشهود :( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (.
وفي قوله :( لكم ( تذكير بالمنة من الله على الناس، فقد أوجد لهم الأرض بما يركم في جوفها وعلى متنها من أسباب الحياة والعيش الآمن الميسور وذلك كالهواء والغذاء والماء وغير ذلك من خليقة مبثوثة في كل مناحي الأرض مما يحقق للإنسان عيشه الآمن.
قوله :( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ( الكلمة ( ثم ( تتعلق بالخلق لا بالإرادة أي تفيد الترتيب من حيث الإنشاء والإبداع لا من حيث الإرادة المقترنة بعلم الله الأزلي.
ذلك أن إرادة الله القاضية بخلق الأشياء لم تأت على مراحل فإن ذلك لا يتحقق إلا بالنسبة للخلق والإيجاد، أما إرادة الله القاضية بالخلق فإنها قديمة قدم الذات العلية نفسها. والله سبحانه من صفاته الإرادة فلم تكن هذه لتأتي على مراحل تعالى الله ذلك.
وقوله :( استوى إلى السماء ( فإن أقوال المفسرين تكاد تجمع على أن ( استوى ( بمعنى قصد، فبعد أن خلق الله الأرض قصد إلى السماء ليخلقها، وقيل :( استوى إلى السماء ( أي صعد إليها، والقول الأول هو الراجح والله أعلم.
على أن ظاهر الآية يفيد أن خلق الأرض كان سابقا لخلق السماء، يعزز ذلك قوله تعالى :( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداد ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض اثنيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين(.
واستدل آخرون على أن خلق السماء كان أسبق من خلق الأرض بقوله تعالى بعد ذكر خلق السماء :( والأرض بعد ذلك دحاها( لكن التأويل المناسب لمدلول النصين خروجا من التعارض بينهما هو أن الأرض إذ خلقت قبل السماء لم يكن خلقها على الشكل الأولى الذي تصلح معه الحياة، بل كان ذلك على سبيل الإيجاد البدائي المجرد أو التخليق الذي لم يكن متبلورا بعد، وإنما حصل التبلور والاكتمال في خلق الأرض بما تصلح معه للحياة بعد أن خلقت السماء، ويمكن إدراك هذا المعنى من المفهوم الوارد في الآية، فدحي الأرض يعني جعلها صالحة للحياة والعيش بإيجاد الأسباب لذلك من إخراج للمياه، وإنبات للزرع والشجر، وإيجاد للهواء وغير ذلك مما ييسر للخلائق أن تعيش.
قوله :( فسواهن سبع سماوات ( أي جعلهن وصيرهن سبع سماوات، والفعل سواهن من الاستواء وهو الاعتدال والاستقامة، وبذلك فإنه يقهم من ظاهر العبارة أن الله خلق السماوات السبع على نحو سوي معتدل ليس فيه اعوجاج أو خلل، بل خلق متوازن مترابط لا يعتوره أدنى ضعف أو تعارض أو فوضى، يقول سبحانه في كلمات كريمة أخرى :( الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (.
قوله :( وهو بكل شيء عليم ( ( هو ( ضمير في محل رفع مبتدأ، وخبره ( عليم ( وذلك تعظيم لقدر الله، وإظهار لشأنه الأجل وعلمه الذي وسع كل شيء فهو سبحانه محيط علمه بالأشياء والحوادث جميعا وعالم بالأسرار والخفايا والأستار والخبايا وبكل ما استكن في هذا الوجود. ١
والملائكة مفردها ملك وهو مشتق من الألوك وقيل من المألك وهي تعني الرسالة، وأصل ملك ملأك ثم نقلت حركة الهمزة إلى الام فسقطت، وقيل في لفظ ملك أنه مشتق من الفعل أنك بمعنى أرسل، وقيل غير ذلك وعلى العموم فإن الملائكة من حيث المفهوم اللغوي تعنى الرسل. ٢
وفي الآية إخبار من الله عن خطابه للملائكة بأنه خالق في الأرض ( خليفة ( جاء في معناها عدة أقوال منها أنه يخلق من كان قبله من الملائكة أو غير الملائكة.
وقيل : بل سمي خليفة لأن نسله وذريته يعقب بعضهم بعضا على هيئة أمم وأجيال، وثمة قول ثالث جدير بالاهتمام وهو أن آدم خليفة الله في إمضاء أحكامه وتنفيذ أمره وشرعه، فالله سبحانه هو الآمر الموجب، وهو سبحانه شارع الدين لعباده بما في الدين من أصول وكليات وما يتفرع عن ذلك من فروع وتفصيلات، وذلك كله بتقدير الله وأمره الذي ينبغي للناس أن يمتثلوه دون تقصير أو تخلف، ومن بعد ذلك يأتي دور الإنسان وهو دور كبير حقا، يتجسد في اضطلاع هذا الإنسان الخليفة بتطبيق شرع الله كاملا غير منقوص وباتخاذ كل ما يلزم من أسباب إجرائية أو وقائية أو غير ذلك من أسباب وذلك لإجراء شرع الله على العباد.
والإنسان " الخليفة " لهو كائن عظيم القدر في تصور الإسلام، وهو كذلك بالغ الشأن وكبير الاعتبار في ميزان الله، وهو لا يعدله في شأنه واعتباره أي كائن آخر إذا ما كان ( الإنسان ) على صراط الله ويمضي في الحياة على بصيرة من منهج الله الكبير، أو كان من المؤمنين الأوفياء الذين صدقوا الله المقاصد والنوايا، واستمسكوا بعقيدة الإسلام تعمر قلوبهم بالأمن والرضا، ذلك هو الإنسان " الخليفة " الذي يمشي على الأرض ذاكرا لآلاء الله شاكرا لأنعمه، لا يند عن صراطه وشرعه ولو احتمل معطاء وباعثا للخير له ولمن حوله من الناس حتى البهائم والأنعام ينظر إليها بعين الرعاية والحدب والرحمة.
ذلك هو الإنسان " الخليفة " الذي يحمل في الأرض أفدح أمانة قد عجزت دون حملها السماوات والأرض والجبال، وتلك هي أمانة العقيدة التي يطويها القلب في شغافه وحناياه لينطلق في ضوئها عاملا كادحا باذلا لا يتوانى عن أداء الخير والفريضة والمعروف، ولا يثني عن وجيبة التبليغ للناس في شجاعة وحماسة وإحساس بفريضة الجهاد يؤديها العبد المؤمن دون تهيب أو فرق ودون ضعف أو جل أو خجل.
والإنسان وهو على هذه الشاكلة من الإيمان والعمل ومن البذل والاستقامة والصبر، لهو ذو شأن عظيم من حيث المنزلة، وهو الكائن المكرم المفضل الذي يسمو على الكائنات جميعا والذي يرصد له الله من العناية والصيانة والتشريع ما يرقى به رقيا عظيما، وليس لأحد بعد ذلك أن يعتدي على هذا الإنسان " الخليفة " كيفما كان الاعتداء، فإنه لا يعتدي عليه إلا جانف هالك، وأصدق ما يرد في هذا الصدد، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك :( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) ٣ ويقول في حديث آخر يطير منه القلب هلعا رعبا :( لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار ) ٤ وفي الحديث القدسي :( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذ بي لأعذته ).
وقوله :( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( لا تتصور أن مثل هذا السؤال من الملائكة يرد على وجه الاعتراض أو الاستنكار وهم العباد الأبرار المقربون الذين ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( ولكنه يرد على سبيل التعرف والاستفهام، على أن ظاهر الآية يدل على علم الملائكة بما ستؤول إليه حال البشر لدى وجودهم في هذه الدنيا، فلسوف يكون ثمة إفساد وسفك للدماء وغير ذلك من وجوه المعاصي والمفاسد والآثام وما يتفرع عن ذلك من قضايا ومشكلات تجرجر المتاعب والشدائد ونسبب الهموم والبلايا.
أما سبب إدراك الملائكة لهذه الحقيقة من الإفساد وسفك الدماء : فلعل ذلك لعلم قد علموه من الله بوجه من الوجوه كالإلهام أو غيره، فهم لا يعلمون الغيب، لكنهم أعلموا أن بني آدم لو جاءوا الى هذه الأرض فسوف يكثر الفساد، وتنتشر الآثام والمعاصي، ويقع القتل والجور وسفك الدماء بغير حق، وقد جاء في تعليل معرفة الملائكة كذلك أنهم قد أدركوا هذه الحقيقة من خلال اللفظة القرآنية التي واجههم بها الله وهي ( خليفة ( فعرفوا بما أوتوه من نباهة وعميق إدراك أن الخلافة مناط القضاء والفصل بين العباد، وفي ذلك من المنازعات والخصومات ما يقود في الغالب إلى المحظورات والخطايا والمعاصي، وقيل غير ذلك من تأويلات والله أعلم بالصواب.
ويستفاد من قوله تعالى :( جاعل في الأرض خليفة ( وجوب نصب إمام أو خليفة للمسلمين يسمعون له ويطيعون، لتجتمع به كلمتهم وينفذ فيهم أحكام الشريعة فيفصل بين الناس فيما يعرض لهم من خلافات ومنازعات فينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم فيهم حدود الله بما يزجرهم عن فعل الفواحش والمنكرات إلى غير ذلك مما لا يمكن إقامته أو تنفيذه إلا بالإمام المسلم العادل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما طريقة اختيار الخليفة للمسلمين فأوسط ذلك وأعدله أن يجتمع أهل الحل والعقد – وهم فئة العلماء في المسلمين – فينظروا أكثر الناس صلاحا لحمل هذه الأمانة الكؤود، لينصبوه إماما للمسلمين، فإذا رضي من نصبوه لذلك بحمل أمانة الخلافة بايعه أهل الحل والعقد، ثم بادره المسلمون جميعا بالبيعة بعد أن يعرض على مسامع الناس برامجه وخططه في سياسة البلاد ورعاية شؤون المسلمين.
أما الواجبات المنوطة بالإمام والتي يضطلع بمراعاتها وتنفيذها دون لين أو تردد فقد ذكرها الماوردي بما نوجزها هنا إيجازا وهي عشرة أشياء.
الأول : حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.
الثاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث : حماية البيضة٥ والذب عن الحريم٦ لينصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع : إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
الخامس : تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون منها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.
السادس : جهاد من عائد الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله في إظهاره على الدين كله.
السابع : جناية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
الثامن : تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع : استكفاء الأمناء٧ وتقليد النصحاء٨ فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال.
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ولا يعول على التفويض٩ تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين وبغش الناصح١٠.
ويشترط في الإمام كيما تناط به وجيبة الإمامة جملة شروط هي :
أولا : الإسلام فلا يجوز بحال أن تناط إمامة المسلمين بغير مسلم، وكيف يعقل أن يكون حاكم المسلمين على غير ملتهم ثم يسوسهم بشريعة الله التي يجحدها ويستدل على ذلك بقوله تعالى :( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( وهذا يدل بظاهره على أن الذي يلي أمور المسلمين هو أحدهم وعلى ملتهم.
ثانيا : الذكورة فإنه لا يكون حاكم المسلمين إلا واحدا من الرجال، ولا يجوز أن تناط إمامة المسلمين أو ولايتهم بامرأة لقوله عليه الصلاة والسلام، " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". ١١
أما وجه ذلك من المعقول : فهو أن وجيبة الخلافة أو الولاية ثقيلة وصعبة وكؤود إنها وجيبة لا يقوى على احتمالها غير الصناديد النوادر من الرجال أولي العزم والحزم والبأس، لا جرم أن الإمامة أو الولاية لا يطيقها الناس برمتهم أو جلتهم، وذلك بالنظر لفداحة هذه المهمة الخطرة التي تضطرب لها عزائم الرجال وهممهم فهي لا يصلح لها من الناس إلا من كان لا يلين ولا يضطرب ولا يتعثر لدى مواجهة الملمات والنوائب، وذلك – لعمر الحق- عمل فادح ومزلزل لا يطيقه إلا من أوتي حظا هائلا من قوة الإرادة والصبر، وشدة العزيمة والبأس فضلا عن أوصاف أخريات في العلم والحلم والخلق، لا جرم أن ذلك مما تنكص دون بلوغه النساء اللواتي جبلن على الرقة والعاطفة واللين تمشيا مع طبيعة الأنوثة التي لا تطيق مثل هذه الوجيبة الشاقة العسيرة، أما توليها لوظيفة القضاء فلا يجوز كذلك، وهو قول أكثر العلماء خلافا للحنفية إذ قالوا بجواز تقلدها القضاء، فلها أن تقضي في عامة الأمور باستثناء الدماء والحدود.
ثالثا : العدالة وهي ضد الفسق، ويراد بها الاعتدال في الأحوال الدينية، وبيان ذلك اجتناب الكبائر والمحافظة على المروءة بترك الصغائر، وأن يكون الإمام ظاهر الأمانة غير مغفل.
وقال ابن حزم في صفة الإمام : إن يكون مجتنبا للكبائر مستترا بالصغائر. ١٢
رابعا : العلم الذي يكون بمقتضاه مجتهدا في مختلف النوازل والأحكام قال القرطبي في ذلك : أن يكون ( الإمام ) ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث.
خامسا : السلامة من العيوب وذلك كالعيوب البدنية، كما لو كان فاقدا أرجليه أو إحداهما، أوز كان فاقدا ليديه أو إحداهما أو كان ضريرا لا يبصر، أو أصم لا يسمع، أو كان أخرس لا ينطق، فتلك عيوب لا يستطيع المرء معها من تولي أمر الناس، فالذي تناط به وجيبة الإمامة ينبغي أن يكون على غاية من النشاط والحركة وتمام اليقظة والحذر وبالغ الاهتمام واليقظة والحرص، وتمام القدرة على الإقناع وفض النزاعات والخصومات.
وكذلك العيوب العقلية، كالجنون والعته والصرع وانفصام الشخصية، واضطراب الأعصاب المستديم إلى غير ذلك من الأمراض المزمنة والخطيرة التي تحول بين المصاب بها وبين تولي أمور المسلمين. ١٣
سادسا : أن يكون الإمام من قريش إلا أن يطرأ زمان فلا يكون في قريش إمام مناسب تتوفر فيه شروط الإمام العادل الصالح، وحينئذ لا
٢ البيان للأنباري جـ ١ ص ٧٠..
٣ رواد الترمذي والنسائي عن ابن عمرو انظر الجامع الصغير للسيوطي جـ ٢ ص ٤٠٣..
٤ روى مثله الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة انظر الجامع الصغير جـ ١ ص ٤٢٦..
٥ البيضة : الساحة والحوزة استباح بيضتهم، أي أصلهم ومجتمعهم وموضع سلطانهم ومستقر دعوتهم وبيضة الإسلام جماعتهم وبيضة الدار وسطها، انظر تاج العروس للزبيدي جـ ٥ ص ١١..
٦ الحريم : وفعله حرم ومنه الإحرام والمحرم، وسميت بذلك الأشهر الحرم ومنه الحرمة وهس ما لا يحل انتهاكه وتأتي بمعنى الذمة والمهانة وتجمع على الحرمات يقول سبحانه : ومن يعظم حرمات الله أي يجتنب معاصيه ومحارمه فالحريم أو الحرمة أو الحرمات هي حدود الله التي لا يجوز تعديها انظر مختار الصحاح ص ١٣٢ والمعجم المحيط جـ ٤ ص ٩٥..
٧ استكفاء الأمناء : أي طلب الأكفاء من الناس ليستأمنوا على شؤون الرعية..
٨ تقليد النصحاء أي تعيين العاملين المخلصين ليضطلعوا بإدارة شؤون المسلمين..
٩ التفويض معناه أن يناط بالإمام تعيين الولاة والأمراء وتفويضهم بتصريف شؤون المسلمين.
١٠ الأحكام السلطانية للماوردي ص ١٥-١٦..
١١ رواه النسائي وروى البخاري نحوه انظر كشف الخفاء ومزيل الإلباس جـ ٣ ص ١٩٧..
١٢ المحلى لابن حزم جـ ٩ ص ٣٦٢..
١٣ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٢٧٠ انظر بدائع الصنائع المكاساني جـ ٧ ص ٣ وشرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج ٧ ص ٢٥٣..
أما تعليم آدم الأسماء كلها فإن ذلك موضع خلاف بين العلماء والمفسرين في ماهية هذه الأسماء وفي حقيقتها، ولعل أصوب هذه الأقوال هو أن الله جلت قدرته قد علم آدم الأسماء التي يتعارف بها الناس مثل : إنسان وأنعام وأرض وسماء وبحر وبر وسهل وجبل وماء وتراب وطعام وهواء وزرع وثمر وذكر وأنثى وخير وشر وصدق وعدل وغير ذلك مما عرفته البشرية، ذلك هو القول الذي يمكن الركون إليه وترجيحه وإن كان قد ورد غير ذلك في المقصود من الأسماء والله أعلم.
قوله :( ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء ( عرض الله المسميات على الملائكة وطلب منهم أن يكشفوا عن أسماء هذه المسميات، وذلك على سبيل الامتحان لهم، كيما يعلموا فيما بعد أن هناك من خلائق الله من هم أعلم منهم أو من هم أعظم منهم درجة وهؤلاء هم النبيئون وذلك على القول الذي يذهب الى تفضيل النبيين على الملائكة.
وقوله :( إن كنتم صادقين ( وذلك في زعمكم أنه لم يخلق أحد يبعد أعلم منكم، وفي قول آخر لابن عباس : إن كنتم صادقين في قولكم إن آدم وذريته سوف يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء.
قوله :( إنك أنت العليم الحكيم ( ذلك تأكيد منهم على أن الله تباركت أسماؤه عليم بالحقائق جميعها مما هو كائن أو ما سيكون وهو كذلك عليم بما يعلمه الناس وما لا يعلمونه، وكذلك فإن الله سبحانه حكيم في قضائه وتصريفه لشؤون الحياة والخلائق، ولا يصدر شيء من ذلك إلا حكمته البابلغة المطلقة.
وقوله :( فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ( كان إنباء آدم للملائكة عن أسمائهم وأسماء الأشياء المختلفة الأخرى، مبعث إعجاب الملائكة أنفسهم لهذا الكائن العظيم الجديد الذي ما كانوا يعرفونه من قبل حق المعرفة إلى أن كشف الله لهم عن شأنه واعتباره حتى سألهم الله :( ألم أقل لكم إني... ( أي ألم أكن قد بينت لكم من قبل أني أعلم بالغيب، غيب السماوات والأرض، وأن شيئا فيهما لا يخفى على أمره وأن ما سيقع من أمور وأحداث بدءا بالهيئات منها حتى الجسام الفوادح فإني علام بذلك كله، وكذلك فإني عليم بما تظهرونه من أقوال وأمور وقضايا، وعليم كذلك بما تبطنونه من أخبار وأسرار تظل خبيئة النفوس والنوايا، وقيل في معنى هذا الشطر من الآية : إن الله عليم بحقيقة ما أبدوه وهو قولهم :( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( وأن مآل هذا القول ليس كما تحسبه الملائكة أو تتصوره، أما الشطر الأخير من الآية وهو ( وما كنتم تكتمون ( أي أن الله عليم بما كانت الملائكة تتصوره وهو أن الله سبحانه لن يخلق أحدا أعلم منهم أو أعظم منهم فضلا، وقيل غير ذلك والله جل وعلا أدرى وأعلم.
إذ ظرف زمان في محل نصب، قلنا جملة فعلية تتألف من الفعل ثم الفاعل وهو الضمير نا، وفي الآية بيان عن أمر الله للملائكة أن يسجدوا لآدم لكي يرسي في أذهانهم حقيقة هذا الكائن العظيم الذي سيكون له ولذريته شأن جليل وبالغ الأهمية، وقيل الخوض في معنى السجود الوارد في هذه الآية فإننا نؤثر أن نؤكد على أن السجود وهو قمة الخضوع والامتثال أصلا لا يكون إلا لله وحده. وعلى ذلك فإن السجود لآدم ليس من باب العبادة، ولكنه يقتضي تفصيلا نوضحه في الفقرات الآتية :
فقد اختلفت كلمة أهل العلم في حقيقة السجود الذي مارسته الملائكة لدى الطلب منهم بأداء ذلك، ولعل القولين التاليين هما اللذان يعول عليهما لدى التدقيق في هذه المسألة.
أما القول الأول : فهو أن السجود لآدم كان على النحو الذي حدده الشرع والعرف وهو وضع الجباه على الأرض، وذلك الذي يناسب ظاهر اللفظ في الآية الكريمة، وهو أقل إغراقا في التأويل الذي قد يحمل على التكلف، لكن ينبغي التركيز على الحقيقة الأساسية وهي أنه ليس المقصود من السجود العبادة، فإن العبادة لا تكون لأحد سوى الله، وعلى ذلك يمكن تفسير قوله :( اسجدوا لآدم ( أن يكون السجود أمامه ليكون كالقبلة للمصلي، فالمسلمون في صلاتهم يتوجهون صوب الكعبة، فهم بذلك يسجدون إليها أي صوبها أو شطرها لا لها أو من أجلها وذلك كله على سبيل التكريم لآدم والتعظيم ولتعلم الملائكة أي كائن هذا الذي يقفون أمامه احتراما وإجلالا أو أنه كائن ذو شأن مقدور ومسطور في علم الله القديم، وسيكون من ذريته من أطهار النبيين والصديقين والمتقين ما يخلب اللب خلبا.
وأما القول الثاني : فهو أن السجود ليس على هيئته المعروفة من الانحناء ووضع الجبهة على الأرض مثلما هو مبين في الشرع، وإنما المقصود بالسجود الذي أدته الملائكة هو التذلل والانقياد، وذلك الذي ينسجم مع المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، فكأن الأمر من الله للملائكة في أن يخضعوا لآدم وأن يقفوا أمامه في تطامن وإجلال إقرارا منهم له بالفضل، هذان القولان خير ما ورد في تجلية حقيقة السجود، وهما قولان لا جرم أن يكونا موضع تقدير الباحث المتدبر، مع أن أقوالا أخرى للعلماء في هذا الصدد لا نجد حاجة لطرحها ومناقشتها.
قوله :( فسجدوا إلا إبليس ( امتثلت الملائكة لأمر الله سراعا فخروا ساجدين غير إبليس الذي أبى أن يمتثل للأمر، وإبليس من الإبلاس وهو الأس، والفعل أبلس بمعنى أيس الرجل أي افتقد الأمل والرجاء ثم اسم الفاعل مبلس وهم الآيس، وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى :( فإذا هم مبلسون ( وقيل أن هذا الاسم لا ينصرف لأنه أعجمي. ١
على أن إبليس من حيث أصله يعتبر مسألة أثارت بين العلماء خلافا يمكن أن نعرض له هنا في إجمال، فقد ذهبت جمهرة كبيرة من العلماء إلى أن إبليس واحد من الملائكة، وذلك ما يوحي به ظاهر الآية، وعلى هذا يكون الاستثناء هنا متصلا لكن فريقا آخر من العلماء قد ذهبوا إلى أنه لم يكن الملائكة، وأنه من الجن فيكون الاستثناء بذلك منقطعا، أي أن المستثنى – وهو إبليس- ليس من جنس المستثنى منه وهم الملائكة واستدل هؤلاء على ذلك بأن الملك دائم الطاعة والتقوى لله، وأنه لا يعصي له أمرا كلفه به، وفي ذلك يقول سبحانه عن الملائكة ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( وثمة نص قرآني آخر يزجي بالدلالة الواضحة الجلية على أن إبليس ما كان من الملائكة وهو قوله سبحانه :( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ( وذلك تبيين لحقيقة إبليس وأنه من حيث أصله كان من الجن وهؤلاء صنف من الخليفة التي لا تشبه الملائكة أو البشر وذلك لتحليقهم أصلا من جنس النار، ( وخلق اللجان من مارج من نار ( ذلك ما ورد في أصل إبليس وإن كنا نرجح القول الثاني وهو أنه من غير الملائكة والله سبحانه أعلم.
وقوله :( أبى واستكبر وكان من الكافرين ( امتنع إبليس من السجود وتولى عن أمر الله مستكبرا بعد أن أغواه إحساسه بالعظمة والكبر، وذلك داء خطير يعصف بالمخلوق ويزين له كل ضروب المعصية والفسق عن أمر الله، الى أن يودي به أخيرا في الهاوية والسقوط في الأذلين ومع الكافرين الذين يجحدون نعمة الله ويعلنون عليه الحرب والتمرد في مجاهرة وتوقح.
والدعوة لآدم وزوجه أن يأكلا من الجنة رغدا، وليست الجنة – كما يتصور بعض الجاحدين في التفكير من أمثال المعتزلة- في الأرض استنادا إلى ظاهر من بعض النصوص القرآنية، وما هذا التصور إلا مجانبة للصواب الذي اجتمعت عليه الدلائل القاطعة الجلية، فلا تتردد مقال ذرة في التيقن بأن الجنة المذكورة هنا لهي في السماء.
وقوله ( رغدا ( صفة لمفعول مطلق محذوف، وتقديره أكلا رغدا، ١ والرغد هو السعة والعيش الهانىء المطمئن الذي ليس فيه نصب أو ضيق، نقول راغدا ورغيد أي عائش في خير ولين وسعة.
وقوله :( حيث شئتما ( حيث ظرف مبني على الضم، أي اسكنا أي مكان من هذه الجنة، واستمتعا بطيباتها وخيراتها وتقلبا هاتين خلالها لا ينالكم فيها تعب، ولا يطرأ عليكم هم ولا حزن، وأنتم صائرون كذلك في هذا النعيم إلى ما شاء الله.
قوله :( ولا تقربا هذه الشجرة ( وذلك نهي من الله لآدم وزوجه كيلا يقتربا مجرد اقتراب من الشجرة المعنية التي بينها الله لهما، والمقصود في النهي أصلا هو الأكل، لكن النهي عن مجرد الاقتراب لهو آكد في التحذير ومجانبة الشجرة ومن المبادىء الأصولية المعتمدة في شريعة الإسلام مبدأ " سد الذرائع " وهو يقوم على تحريم ما وقع في الحرام أو ما يوشك أن يكون سبيلا تقود إلى المحظور نفسه، وذلك كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، كما تبين في الحديث الشريف.
واسم الإشارة ( هذه ( في محل نصب مفعول به، والشجرة بدل منصوب لكن هذه الشجرة من حيث حقيقتها ونوعها غير معروفة، وكل التفسيرات التي وردت في هذا الصدد لتحدد هذه الشجرة بالاسم لا تستند الى دليل موثوق من نص، وهي لا تستند في ذلك إلا الى أقوال في التوراة أو الإسرائيليات التي لا نركن إليها والتي لا تصلح دليلا في مثل هذه المواقف الغيبية، وعلى ذلك فإنه لا مساع لامرئ مسلم أن يخوض في مثل هذه المسألة خوض المتكلف فيما يورده موارد التمحل والزلل. إنما يجدر بالمسلم أن يقف في ذلك عند مفهوم العبارة المحدد للنص القرآني وهو أن آدم وزوجه قد نهيا عن الأكل من شجرة معينة، في الجنة لا نعلم عن حقيقتها وتحديدها شيئا، وكل الذي نعرفه أنها شجرة، الله أعلم بها.
قوله :( فتكونا من الظالمين ( من الظلم ومعناه : وضع الشيء في غير موضعه وفي المثل " من استرعى الذئب في غير موضعه المناسب الذي يقتضي الإخلاص والحذر هكذا تكون المعاصي والذنوب دليلا على السير في غير المسار السليم أو الصراط المستقيم، حتى الإنسان نفسه إذا ما تنكب عن صراط الله أو تمرد على دينه ومنهجه سبحانه فقد وضع نفسه في غير موضعه الصحيح، بل إنه ضل ضلالا أو دس به إلى العمه والازورار ومضى يخيط في طريق وعر ملتوية، وما كان شيء من ذلك ليكون لولا التنكب عن صراط الله ليكون بدلا منه صراط آخر غير سوي ولا سليم وذلك هو الظلم.
والمصدر شطون وهو البعد، وعلى ذلك فالشيطان كلمة تتضمن الكائن الجني أو الإنسي البعيد عن الخير والحق، فهو بذلك الكائن العاتي المتمرد الذي تجتمع في كيانه كمل مسالك الشر والباطل، والذي يسعى في الأرض ليثير فيها أسباب الفساد والشر وكل ظواهر الأذى والباطل.
قوله :( فأخرجهما مما كانا فيه ( قد أنزل الشيطان آدم وزوجه بإبعادهما وتنحيتهما عن الجنة حيث النعيم، المقيم وحيث الخير والأمن والعيش الرغيد، وقد كان ذلك حسدا من ذلك الكائن المتمرد اللعين الذي جهد في إغواء آدم ليخرجه وزوجه مما كانا فيه من نعيم الجنة.
قوله :( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ( كان ذلك قرارا ربانيا حاسما لا معقب له، وهو أن يهبطوا من الجنة ليكون بعضهم لبعض عدو، والهبوط معناه النزول من عل إلى أسفل واختلف في حقيقة المخاطبين الذين تشير إليهم واو الجماعة في قوله :( اهبطوا ( ولعل الراجح في ذلك أنهم آدم وزوجه حواء ثم إبليس، وقيل المقصود هم آدم وزوجه وذريتهما من بعدهما، لكن القول الأول أقرب للصواب وذلك بالنظر للإيحاء الذي يشير إليه قوله :( عدو ( ذلك أن بني آدم في صراع محتوم ومستديم مع الشياطين، سواء منهم شياطين الجن أو شياطين الإنس، فكلهم شياطين يوحون لبني البشر بالفتنة وصنع الموبقات ليظلوا في عناء وعنت في هذه الدنيا وليكتب للهالكين منهم وتعس وسوء مصير.
وحقيقة النزول هنا يمكن تصورها على أنها مفهوم نسبي، وذلك بالنظر لتصور الإنسان الحسي عن الهبوط أو الانحدار مما هو عال مرتفع مزعوم ليقول ألا هبوط أو نزول ما دامت الأجرام تدور في أفلاكها وسط هذا الفضاء الرحيب.
قوله :( بعضكم لبعض عدو ( عدو من العدوان وهو الظلم، أو مجاوزة الحد كما قيل والعدوان هنا مجاوزة الحد حاصلان في هذه الدنيا بما تحويه على متنها من خلائق من البشر أو الشياطين، والبشر في هذه الحياة تدور فيما بينهم قوارع الصراع المحتدم وعواتي الظلم اللجوج ما دامت النفوس يحفزها الهوى الجانح أو الأنانية الضاغطة، وكذلك فإن الصراع عات ومحموم بين البشر أنفسهم و الشياطين، و كلا الفريقين يمران في الأرض لا يبرحهما الكيد و العداء و التربص.
و على ذلك فإن بني آدم و الشياطين بعضهم لبعض عدو فضلا عن العداء الذي يدور بين بني آدم أنفسهم، و سوف تظل الحال على هذا المنوال من العدوان المستحكم في هذه الأرض ومن عليها حتى يرث الله الأرض و من عليها. مع أنه قد قيل في المقصود من هذه الآية بأن العدوان المستحكم بين الناس أنفسهم و فيما بينهم.
و في تقديرنا أن هذا القول أن هذا القول مرجوح و أن القول الأول لهو الصواب و الله أعلم.
قوله :( و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين ) الجار و المجرور في قوله :( لكم ) في محل رفع خبر مقدم، و مستقر مبتدأ. الله جل جلاله يقرر بعد هبوط آدم إلى الأرض أن له و ذريته مستقرا و هو القرار المؤقت. و أن لهم كذلك فيها متاع، و هو كل ما يستمتع به من زاد أو كساء أو حديث أو صحبة أو مأوى. على أن ذلك كله يتسم بالتوقيت المحدود الذي ينتهي بعد حين و هو قدوم الموت. و على ذلك فإن الاستقرار و المتاع على هذه الأرض يكونان حال الحياة و قبل انتهاء الأجل، فالمقصود بقوله :( حين ) الموت. و قيل : معناه قيام الساعة. و لا نتصور هذا، بل إن القول الأول هو الراجح.
وبعد تحقيق ذلك امتن الله عليه بالتوبة و الغفران.
و قوله :( فتاب ) من التوبة و هي الرجوع إلى الله بالإقلاع عن المعاصي إلى الطاعات، وكذلك تكون توبة العبد إذ يؤوب إلى ربه طائعا نادما عما اجترحه من مخالفات، أما التوبة من الله فلا يتصور فيها الرجوع منه سبحانه، لكن القول الذي يمكن اعتماده في بيان ذلك هو أن الله عز و جل يقبل توبة العبد إذا تاب و أناب، لأنه سبحانه يقبل التوبة عن عباده. و الله من صفاته أنه ( التواب الرحيم ) فلا ريب في أنه دائم التوبة عظيم التجاوز عن الخطايا و الذنوب، و هو كذلك رحيم بعباده يغمرهم بواسع رحمته و فضله و إحسانه.
و قوله :( جميعا ) منصوب على الحال. و الجملة الفعلية بعد القول في محل نصب مفعول به.
و قوله :( فإما يأتينكم مني هدى ) أصل ( فإما ) : فإن ما، أدغمت إن الشرطية بما الزائدة، و الجملة الفعلية بعدها للشرط. و الهدى ما يهتدي به الإنسان إلى سواء السبيل، يستوي في ذلك كتاب الله أو الرسل أو الملائكة، فكل أولئك دعاة إلى الله يكشفون للبشرية عن دروب التوفيق و الخير، و يحذرونها من عواقب الضلالة و التعثر.
و قوله :( هدى ) فاعل لفعل الشرط قبله. و جواب الشرط مقترن بالفاء و هو قوله :( فمن تبع هداي ). و ذلك شرط آخر يتضمن جملة الشرط ( تبع هداي ) و يتضمن أيضا جوابه ( فلا خوف عليهم ) أي أن جملة الشرط الثاني و جوابه جواب للشرط الأول.
هؤلاء المؤمنون الذين اتبعوا الهدى من ربهم هم الفائزون في الدارين. و أصدق ما ورد فيهم هذه المقالة الوجيزة العذبة و هي جواب الشرط الثاني ( فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون ) و خير ما قيل فيها من تفسير أن هؤلاء المؤمنين لا يخافون يوم القيامة يوم يخاف الناس و يوم ترتجف قلوبهم و أبدانهم، و ذلك لهول الموقف و جلال الخطب المروع. و كذلك فإنهم لا يحزنون كما يحزن الناس لدى مفارقتهم للدنيا حيث الصحب و الخلان و حيث العشيرة و الأهل و المال و الولد. و تلك أمور تشد إليها الإنسان شدا ليظل بها لصيقا من حيث حسه و عاطفته و هواه. فهو إذا ما أحس بفراق ذلك كله دهمته غمرة من الحزن المؤثر، لكن الذين هداهم الله لا يحزنون مثل ما يحزن هؤلاء، ليقينهم أنهم قادمون على خير من ذلك كله. فهم قادمون على رضوان من الله يملأ نفوسهم و أفئدتهم بالسكينة و الرضى و الحبور، ثم ما يتلو ذلك من عطاء الله الواسع مما لا عين رأت و أذن سمعت و لا طرأت على قلب بشر، جعلنا الله في زمتهم.
والذين كفروا هم الجاحدون لجلال الله المنكرون لأنعمه، وهم أصناف كثيرة من الظالمين الذين لا يرعون لله قدرا منهم المشركون والملحدون وأهل الكتاب وهم جميعا كافرون، وذلك لجحدهم وتكذيبهم لآيات الله وهي آيات بينات تنطق بالصدق والإعجاز ولا يمسها شيء من شك لكن الظالمين فريق من البشر الجاحد المستكبر الذي لا يصيخ لنداء الحكمة والعقل، فهؤلاء مكابرون لا يستمرئون غير التردد والفجور وغير التمرد المغتر اللجوج، إن هؤلاء الناس هم ( أصحاب النار هم فيها خالدون ( فهم يجحدوهم ولجوجهم وتمردهم أجدر أن يكونوا أصحاب النار. وصاحب الشيء أو المكان هو الذي يظل مستديم الإقبال عليه والثواء إليه في صحبة مقترنة متشاذة لا تعرف الهجران أو المبارحة، وهكذا يكون الكافرون المكذبون بآيات الله فهم أصحاب النار في ديمومة لا تنقطع، وفي اصطلاء حارق لا يعرف الفتور لكي يذوقوا وبال أمرهم جزاء ما اجترحوه من تمرد على الله وفسوق عن أمره.
أما نعم الله التي أنعمها على بني إسرائيل فهي كثيرة وعظيمة لا نحسب أن أمة من الأمم قد أتيح لها مثل هذه النعم، ومن أنعم الله على بني إسرائيل أن جعل لهم في البحر طريقا يبسا يمشون فيه إلى أن كتب لهم الخلاص والنجاة من فرعون وجنوده الذين غشيهم من الإغراق في اليم ما غشيهم، وكذلك قد فجر الله لهم من الحجر الصلد، ماء دافقا يستقون منه جميعا بعد أن ضربه موسى بعصاه، ثم أنعم الله عليهم بالمن والسلوى وذان طعامان جيدان مهيئان يأكل منهما اليهود من غير أن يبذلوا عناء أو مشقة، ثم أظلهم الله بالغمام ليذرأ عنهم حر الشمس في الصحراء الممتدة التي لا يعمرها نبات ولا ظل، وكذلك قد أنعم الله على بني إسرائيل إذ بعت فيهم نبيين كثيرين، وجعلهم ملوكا وأعطاهم من الخيرات ما لم يعط أحدا غيرهم، ومن أجل ذلك فإن الله يذكرهم بقوله :( اذكروا نعمتي (.
ومن لطيف القول أن يدرك المتدبر هذه المفارقة وهو يتلو تذكير الله سبحانه لأمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :( فاذكروني أذكركم ( فهو لم يقل كما قال لبني إسرائيل ( اذكروا نعمتي ( لما في ذلك من تذكير بالخير والنعمة ليخلصوا من بعد ذلك إلى ذكر الخالق سبحانه، وفي التذكير بالنعمة ما يشير إلى كثرة المنن التي أفاض الله بها على بني إسرائيل، وفيه كذلك مخاطبة الله لأمة الإسلام جاءت لتهتف بالقلوب والأذهان جميعا من أجل أن تتذكر جلال الله ولتقدره حق قدره وذلك على نحو مباشر لا يحتاج إلى تذكير بالنعمة إذ قال ( فاذكروني أذكركم (.
قوله :( وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم ( الجملة الأولى للطلب والثانية جوابه، والله جلت قدرته يطلب من بني إسرائيل أن يوفوا بعهده، وهو هنا عام يتناول جميع الأوامر وما كلفوا به وعلى الأخص التكليف بأن يؤمنوا بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان مكتوبا عندهم في التوراة فكان اسمه بذلك واضحا مستبينا لا يقبل المداهنة أو التحريف، فهو سبحانه يسجل كل ذلك عهدا عليهم، ويأمرهم أن يوفوا به ليوفيهم بعهدهم وهو أن يكتب لهم الخير والسلامة في الدنيا، وفي الآخرة لهم منه الجنة ونعم الجزاء الكريم المقيم.
قوله :( وإياي فارهبون ( من الرهبة أو الرهب وهو الخوف، إياي مفعول به لفعل محذوف مقدر وتقديره : إياي ارهبوا فارهبون، وذلك خطاب من الله لبني إسرائيل ليخافوه فيبادروا بالطاعة ويتجنبوا المعصية، وأصل ذلك كله الخوف من الله جلت قدرته، وهو إذا ما خيف فقد تورع المرء عن التورط فيما يسيء الى جنابه الكريم، وانزجر عما نهى عنه الإله وحذر في كتابه وعلى لسان أنبيائه.
قوله :( ولا تكونوا أول كافر به ( لعل أصوب تفسير لأول كافر بالقرآن أو النبي هو القول بأن المقصود بذلك أنهم أول من كفر من جنس أهل الكتاب بعدما سمعوا بمقدم النبي وما أنزل عليه من قرآن إذ كانوا يقرأون ذلك في كتبهم، ولا يستقيم المعنى إذا ما أخذ بظاهر العبارة التي تبين أنهم أول الناس كفرا، ذلك أنهم كانوا مسبوقين في الكفر بمشركي العرب.
قوله :( ولا تشتروا بئاياتي ثمنا قليلا( من حيث خصوص السبب فقد نزلت في بني إسرائيل الذين كانوا يكتمون خبر النبي في التوراة فقد جاء اسمه عليه فيها مكتوبا جليا، لكنهم أخفوا ذلك وأنكروه مقابل ما اشتروه من حطام الدنيا وما رضوه لأنفسهم من فسق عن أمر الله وتمرد عليه.
لكن عموم الآية أولى بالاعتبار وهو خطاب للناس عموما ألا يشتروا بأوامر الله ونواهيه أو بدينه وشرعه ثمنا قليلا، والثمن القليل يقصد منه الدنيا وما فيها من طيبات ومعايش وتلك هي صورة من صور البيع الذي يقوم على المعاوضة حيث الخسران الفادح الذي يتفاوت فيه العوضان تفاوتا ليس له نظير، مثلما يكون الفرقان بين الصدق والكذب، ولا محالة بعد ذلك أن يكون الثمن المقبوض بدلا من الدين والشرع قليلا، فهو قليل حقا، وهو هين بالغ الهوان حقا.
أما في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وما استنبط منه من معان ودراسات فهو جائز رغم ما ورد في ذلك من أقوال مخالفة، ونستند في الجواز لقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه يحذرهم من هذه المخالفات الكبيرة، لاحتوائها على الجحد والغمط.
وقوله :( وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ( وجه الإعراب في تكتموا يحتمل طريقتين : إحداهما أن يكون الفعل معطوفا على المجزوم الواقع في النهي قبله، وثانيهما : أن يكون الفعل منصوبا بأن المضمرة، وعلى ذلك فإنه بناء على القول الأول ينهى الله سبحانه عن كتمان الحق وهو خبر النبي الكريم الذي ورد اسمه في التوراة والإنجيل من قبل، فقد كتمه اليهود وأخفوا ذكره كأن لم يسمعوا بخبره، أبدا مع أنهم يعلمون أنه نبي مرسل قد أوحى إليه ربه ليكون للناس بشيرا ونذيرا، ويعلمون كذلك أنه مذكور في كتبهم، وأنهم في أنفسهم كاذبون فجرة، والواو في وأنتم للحال والجملة الاسمية المؤلفة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال.
وفي هذه الآية يأمر الله بني إسرائيل أن يلتزموا بعبارة الصلاة والزكاة، ثم ليركعوا مع الراكعين من المسلمين.
وقد يتبادر للذهن تساؤل عن مخاطبة أهل الكتاب وتكليفهم بأجزاء الدين وفروعه مع أنهم كافرون وعلى ملة الشرك وفي تقديرنا أن الإجابة عن هذا التساؤل تحتمل الوجهين التاليين :
الأول : أن ذلك من باب المطالبة بالفرع ليكون التذكير بالأهم هو الأصل أي العقيدة وهي الأساس في هذا الدين كله.
الثاني : وهو التذكير بأهمية وخطورة مثل هذه الشعائر من حيث تأثيرها على النفس البشرية إذ تهذبها تهذيبا، ذلك الذي يمكن تصوره ليون إجابة عن التساؤل والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله :( واركعوا مع الراكعين ( الركوع في اللغة الانحناء، وهو في الصلاة مقترن بالخشوع والتذلل لله، وقد ذكر الركوع لأهميته فهو أحد أركان الصلاة التي لا تنعقد إلا به، وهو تعبير متذلل ينطق به الحس وتؤديه جوارح البدن، في أوفى صور الخشوع والرهبة خلال حركة هادئة واعية، تتلاقى فيها أعضاء البدن الممثل المنحني والشعور الخاشع المستفيض الموصول بالمثل الأعلى.
ونعرض هنا مسألة وهي صلاة الجماعة وذلك لإيجابه أداء الركوع مع جماعة الراكعين، وقد جاء في حكم صلاة الجماعة جملة أقوال يمكن أن تقتضب منها الخلاصة التالية في أقوال ثلاثة :
الأول : أنها سنة مؤكدة فهي بذلك دون الفريضة فلمن أداها أجر كبير، ومن لم يؤدها كان محروما من جزيل الثواب إلى أعده الله للمصلين في جماعة غير منفردين، يضاف الى ذلك أن الحرمان من ثواب الجماعة لا ينقضي عقابا، لأن العقاب يوجبه ترك الفريضة أو انتهاك الحرمان وهو قول الجمهور.
الثاني : أنها واجبة وأن تاركها آثم يستحق العقاب، وذلك استنادا لبعض الأئمة في السنة يقضي ظاهرها بوجوب الجماعة، وكذلك هذه الآية التي تنحن بصددها ( واركعوا مع الراكعين (.
وقد ذهب الى وجوبها أحمد بن حنبل وأهل الظاهر وآخرون.
الثالث : أنها فرض كفاية بحيث يسقط الوجوب إذا ما أقيمت وأداها فريق من المسلمين وذلك الذي ذهب إليه بعض أهل العلم.
هذه خلاصة الأقوال الثلاثة الواردة في حكم الجماعة، وإني وإن كنت أتصور أهمية هذه الأقوال جميعا، نظرا لاستنادها الى الأدلة الصحيحة، لكنني أطمئن للقول الأول وهو أن الجماعة من حيث الحكم تأتي على السنة المؤكدة وذلك بالنظر الى إمكانية التأويل لأدلة القولين الآخرين، وهو تأويل يورد الاحتمال الذي ينخرم معه الاستدلال، ويعزز القول بالسنية المؤكدة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عمر، وفيه بيان بالأفضل والمفضول وأن المفضول لا يكون إلا صحيحا مشروعا وهو لا يوجب عقابا والله سبحانه أعلم. ١
البر معناه الطاعة وهو يتضمن كل وجوه الخير والفضل فيما يكون طريقا الى مرضاة الله سبحانه، والنسيان الوارد في الايسة معناه الترك وليس ما يكون ضد الذكر والمقصود بالكتاب التوراة والإنجيل لما فيهما من خير ونور وذلك من قبل أن يصيبهما التزييف والتحريف.
والآية تتضمن توبيخا وتقريعا يلتذع بهما أهل الكتاب، لأنهم يدعون الى الخير ويأمرون بالطاعات لكنهم يمتنعون من فعل شيء من ذلك، فهم بذلك يأمرون بالفضائل ويتركون أنفسهم من الائتمار أو هم يخالفون عما أمروا به الى عكس ذلك من وجوه الحرام.
قوله :( وأنتم تتلون الكتاب لأفلا تعقلون ( الواو تفيد الحال، والجملة الاسمية بعدها في محل نصب حال، أي كيف يليق بكم أن تكونوا دعاة خير وبر أو أن تأمروا الناس بالطاعة والمعروف وأنتم تخالفون عن ذلك كله وتأتون خلاف ذلك الحرام والمنكر مع أنكم تقرأون ما في كتابكم المنزل عليكم من السماء والذي يأمر بالمعروف أولا، وينهي عن عدم الائتمار بالمعروف ثانيا، إذ لا يجوز لأحد بحال أن يأمر بخليقة حسنة ثم يأتي خلافها.
قوله تعالى :( أفلا تعقلون ( أليست لكم عقول واعية متدبرة تكشف لكم عن وخامة هذا الخلق الفاسد المشين ؟ ألستم تفهمون ؟ فإن ذلكم من خلق الذين لا يعون ولا يدركون، هكذا يشدد الله في التقريع المرير على أولئك الذين يدعون الى الخير ويأتون غيره أو ينهون عن الحرام والباطل وهم شالعون في ما نهوا عنه. وذلك خزي وعار تتلطخ بهما أخلاق الذين لا يستحيون من الله والذين يسعون في الأرض فاسدين مذبذبين حيث لا تتوافق أقوالهم وأفعالهم سواء في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
ومن أشد ما جاء في الكر من حيث الإغلاط على هذا الصنف الكاذب الخسيس مخن النار قوله سبحانه :( يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقارض من نار، قلت من هؤلاء يا جبريل، قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. ٢
وأخرج أحمد كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتتدلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه ". ٣
وعنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء وبذلك فإن كلمات الله تندد أشد تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون، أو الذين يخالفون عما يأمرون به غيرهم، أو الذين لا يأتمرون بما يدعون الناس إليه أو يحذرونهم منه، وذلك خلق الفاسدين الجبناء من الناس الذين يقفون في خط النفاق ليكونوا في الأذلين مع الأشرار والتعساء والمعذبين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وتنديد القرآن بهذا الصنف الخسيس من البشر يظل قائما لا يبرح الأرض لأن الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه كثيرون، وهم لا يخلوا منهم مجتمع من المجتمعات، على أن هذا الخلق الذميم كان مركوزا على نحو واضح مستبين في بني إسرائيل، وذلك مما يمكن الوقوف عليه من خلال الكلمات الربانية في القرآن الحكيم، والتي تكشف عن إغراق أولئك الناس في الخسة والنفاق وهم يقولون ما لا يفعلون.
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٦..
٣ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٦..
وذلك يؤول بدوره الى الامساك عن المعصية وكل ما نهي الله عنه من محظور. وكذلك فإن الصبر على البلاء وما يمتحن الله به عباده في الدنيا لهو من باب الصبر الذي تنحبس معه النفس عن السخط من تقدير الله أو التبرم مما قضى وحكم، واصطبار النفس عند الشدائد يدخل الصابر في الطائعين أو الممتنعين من ارتكاب المعاصي.
ولا ريب في أن الصبر ذو شأن عظيم وهو في ميزان الله له من بالغ الحظ والاعتبار ما يجعله درجة عالية من درجات العبادة التي يقترب بها المرء من الله، وفي ذلك قوله سبحانه :( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ( وبقول سبحانه في آيات قلائل مبدوءة بقسم رباني يهز النفس من الأعماق :( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (.
ومن أعظم ما يجيء في السنة حول الصبر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصبر شطر الإيمان ". ١
وضروب الصبر في الطاعة كثيرة، ومن جملة ذلك أن يصطبر المؤمن على كل وجوه الطاعة كالصلاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وغير ذلك، فإن مثل هذه الأمور تتطلب من المؤمن أن يتحلى بالصبر دائما، ليقوى على الاضطلاع هذه الفرائض الكبيرة وغيرها من فرائض.
وكذلك فإن ضروب الصبر عن المعصية كثيرة، ومن جملة ذلك أن يحبس المؤمن نفسه عن فعل المنكرات مثل الربا والخمر والزنا والزور والنفاق والشح وعقوق الوالدين والهروب من ساحة القتال وغير ذلك من وجوه الحرام والمنكر، فإن الإمساك عن مثل هذه المحرمات يتطلب قدرة على الاحتمال تحول دون السقوط في المعاصي والمحظورات.
وكذلك الصبر على البلاء فإنه ليس بالهين ولا اليسير ولكنه يقتضي قدرا عظيما من قوة الإرادة، ولا يؤتاه إلا الأقوياء وأولوا العزم من الناس الذين يملكون أنفسهم عند وقوع الشدائد والأهوال، فلا يضطربون اضطرابا يثنيهم عن الحق والتوازن، أو يتجاوز بهم الصراط المستقيم، ومثلما توصي الآية بالصبر ليستعين به المؤمن في حياته كلها فإنها كذلك توصي بالصلاة وذلك قوله ( والصلاة )
وهي خشوع وتذلل خلال وقفة سائحة بين يدي رب البرية، ولا جرم أن تفيض على المؤمن وهو يصلي شآبيب من الرحمة ومن غذاء الروح بما يسكب فيه مزيدا من قوة العزيمة والاحتمال، وبما ينمي فيه معاني الخير والاعتزاز والثقة بالله ( والصلاة ) ويفجر فيه طاقات هائلة من عطاء النفس العالية الرضية، وأمام هذا العطاء الروحي الهائل تخنس قوى الشر في الإنسان وتذوي فيه بواعث المادية الآسنة التي إذا انفردت بالإنسان أجاءته إلى حمأة الشهوة المشبوبة المستعرة لتودي به في النهاية في أتون الضلالة والعمه والخسران.
والصلاة ذات وزن أكبر في شريعة الإسلام، لأنها الصلة المتينة الوثقى التي تربط العبد بربه، والتي تربط الأرض حيث الخلائق والبرايا والصراع والفتن بالسماء حيث الكمال والعلياء والمثل الأعلى، وبذلك فإن الصلاة لهي وسيلة روحية كبرى تجد الأرواح من خلالها متنفسا كريما مشدودا وهي تخاطب الإله الخالق الذي فطر السموات والأرض وأنشأ الخلائق والكائنات جميعا، ومن أروع ما يذكر في هذا الصدد عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يستروح بالصلاة استرواحا ليجد فيها حلاوة السكينة الودود وروعة الخطاب الكريم الحاني مع الله سبحانه، فقد روي عن حذيفة ابن اليمان قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حزبه أمر فزع الى الصلاة "، وروي عنه أيضا أنه قال " رجعت الى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حزبه أمر صلى، هكذا يستعين المؤمن بالصبر وبالصلاة وهو يواجه أفانين الأشرار والمناكيد في زحمة الصراع المحتدم بين الحق والباطل، والمؤمن خلال ذلك كله يظل ماضيا في مسار الخير، لا يرده عن ذلك طريق تعويق مصطنع ينتحله أهل الباطل والعدوان.
وقوله :( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ثمة خلاف بين أهل العلم في عود الضمير في قوله ( وإنها ) فهل المقصود بذلك الصلاة وهي أقرب مذكور أم شيء آخر ؟.
بمكن في هذا الصدد أن نعرض لأقوال ثلاثة في عود الضمير المذكور :
القول الأول : إن الضمير يعود على الصلاة، وبذلك فإن المقصود بالكبيرة هي الصلاة، لأنها أقرب مذكور كما بينا آنفا ولأن الصلاة كبيرة حقا، وذلك من حيث الحفاظ عليها وأداؤها على وجهها الكامل المشروع في مواقيتها المستديمة الرتيبة طيلة اليوم والليلة، على أن تكون ذلك مسبوقا بالطهارة العامة التامة، سواء في ذلكم طهارة البدن أو طهارة الثوب أو طهارة المكان الذي تتأدى فيه الصلاة.
القول الثاني : وهو للأستاذ الشهيد سيد قطب – عليه رحمة الله – فقد ذهب إلى أن الكبيرة هي الدعوة الإسلامية وذلك من حيث الانتماء الوافي إليها ثم حملها في شجاعة وصدق ودراية ثم تبليغها للناس في غير انثناء أو نكوص أو تردد، وتلك مهمة لا جرم أن تكون ثقيلة وكؤود وذلك بالنظر إلى التحديات المتوقعة من الخصوم والحاقدين الذي يملؤون كل أطراف الأرض في كل زمان، والذين سوف يثيرون في وجه الإسلام ودعاته حربا طاحنة ضروسا لا تهدأ إلا بعد المفاصلة الحاسمة التي يعقبها خط واحد أو تصور واحد وهو إما الإسلام أو غير الإسلام.
القول الثالث : هو أن الضمير يعود على الصبر والصلاة كليهما، وقد ذكر الصلاة خاصة، لأهميتها وشمولها ولأنها الأغلب وذلك كقوله سبحانه :( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها ) فقد ذكر كلا التجارة واللهو، لكنه رد الضمير إلى التجارة لشمولها وفضلها، وغلبتها على اللهو وهو داخل أصلا في التجارة وفي تقديرنا أن هذا القول صواب وهو الذي نعتمده مع تعظيمنا وإعجابنا باستنباط القولين السابقين والله جلت قدرته أدرى وأعلم. ٢
قوله :( إلا على الخاشعين ) أي الخاضعين الخائفين الذين يوجلون من سلطان الله ويرهبون جنابه، وفي الآية بيان بأن كلا الصبر والصلاة أمر ثقيل على النفوس، لا يطيقه إلا من خشع قلبه لجلال الله، واستقامت جوارحه لتظل في خطه – سبحانه- وهداه.
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٧ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ٨٥-٨٦..
هؤلاء الخاشعين الذين لا يثقل عليهم أمر الصبر والصلاة يعتقدون في يقين لا يعتريه شك أنهم ( ملاقوا ربهم ( أي راجعون إليه صائرون الى الحشر بين يديه في يوم عصيب تشخص فيه الأبصار.
أجل : ليس المقصود من الآية أنهم خير الناس على مر الزمن أو أنهم أفضل الأمم في العالمين طرا طيلة الدهر والزمان، وإلا كان التناقض حاصلا في القرآن ونحن نتلوا قوله سبحانه عن أمة الإسلام :( كنتم خير أمة أخرجت للناس (.
إن المقصود من تفضيلهم على العالمين بالمفهوم الواضح المستبين أنهم قد أوتوا في زمانهم في هذه الدنيا خيرات وأنعم لم تتيسر لأحد غيرهم، وأنهم قد بعث الله فيهم أنبياء كثيرين ما بعث مثلهم في أمة أخرى، فالتفضيل بذلك قدج مضى وانقضى بعد أن جيء بأمة أخرى أفضل منهم.
وبعبارة أخرى فإن التفضيل ليس لأنهم يهود : أو من نسل يعقوب ولد إسحاق عليهما السلام ولا لأي اعتبار آخر يقوم على الجنس أو اللون أو العرق، وكذلك فإن التفضيل ليس للزمان وكل زمان مهما امتد الزمان كما يخلط أحبار يهود أو يغلطون في غير معرفة أو خشية من الله بل إن التفضيلغ كان مسألة دنيوية عابرة لما بينا من ضروب العطاء الذي أسبغه الله عليهم في هذه الدنيا، أما في الآخرة فلهم شأن آخر من الحساب المرير على ما اقترفوه من جرائر وموبقات، مثل قتلهم النبيين والعلماء وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وكذلك نكرانهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ثم ما ارتكبوه في حق البشرية من حبك لمؤامرات الشر والفساد التي تحاك في الظلام من خلال منظمات خبيثة ألت على نفسها إلا أن تعيث في هذا العالم تخريبا وإفسادا بكل الأسباب والوسائل مهما سفت وعنت.
يحذر الله من يوم القيامة، وليس المقصود اليوم نفسه وإنما المقصود ما في هذا اليوم من فوادح قواصم وأهوال رعيبة جسام، ويكشف عن ذلك قوله تعالى في آية أخرى حول هذا الموقف العصيب :( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( وفي هذا اليوم وما يتخلله من أحداث مخوفة قوارع :( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ( أي لا تكفي ولا تغني عن نفس شيئا، فكل امرىء مرهون بعمله لا تحمل نفس من أوزاره شيئا، قال سبحانه :( ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (.
قوله :( ولا يقبل منها شفاعة ( والشفاعة من الشفع وهو ضم الفرد الى الفرد ليكونا اثنين، والفعل شفع أي ضم واحدا الى آخر، نقول شفعت الركعة أي جعلتها اثنتين، ويشتق من ذلك الشفعة والشفاعة وهي ضم ذات إلى ذات أخرى للمطالبة بشيء معين، ٢ والمراد من الآية أن هؤلاء المشركين الضالين لا تنفعهم شفاعة أحد من الناس، وفي مثل ذلك يقول عز من قائل :( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( وفي يوم القيامة تذهب المعايير التي أوجدتها تصورات البشر وأعرافهم، ولا تبقى أية قيمة للاعتبارات الدنيوية كالمال والولد والعشيرة وغير ذلك من المظاهر التي تعودت المجتمعات أن تعيرها كل اهتمام وتقدير.
قوله :( ولا يؤخذ منها عدل ( العدل معناه الفداء، وهو ما يعادل في الوزن والقدر، وفي الآية :( أو عدل ذلك صياما ( وذلك في المشركين الهلكى الذين لا تنفعهم عند الله شفاعة ولا يؤخذ منهم فداء من المال نظير خلاصهم أو العدول عنهم، وفي ذلك بقول سبحانه :( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم (.
قوله ( ولا هم ينصرون ( ينصرون مبني للمجهول والواو نائب فاعل والمقصود بنو إسرائيل الذي لن يكون لهم عند الله نصير أو مجير، وليس لهم من دون الله من يدرأ عنهم الشدة أو يكشف عنهم العذاب، ذلك أنهم كانوا يخرصون في حماقة وسفه وغرور أنهم سوف ينجون من العذاب لحظوتهم بالشفاعة فهم أبناء النبيين والمرسلين، فجاءت الآية لترد عليهم هذا التخريص وتبين أنهم لن يكون لهم شفعاء، وأنهم لنم يقبل من أحدهم فداء ولو كان ملء الأرض، ثم أنهم لن يكون لهم من دون الله معين أو نصير. ٣
٢ القاموس المحيط جـ ٣ ص ٤٧..
٣ الكشاف للزمخشري جـ ١ ص ٢٧٨ وتفسير البيضاوي ص ١٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٨٨-٨٩..
وقيل : إن الكلمة تعني العاتي ذا الدهاء والمكر، وقيل : معناه : بالقبطية التمساح واسم فرعون لا ينصرف للتعريف والعجمة. ١
وقوله :( يسومونكم سوء العذاب ( أي يذيقونكم أشد أنواع العذاب كأن يتخذوكم لهم عبيدا فتظلوا عندهم موضع حقار وزراية، وكاف المخاطب في محل نصب مفعول به للفعل يسوم، و ( سوء ( مفعول به ثان منصوب و ( العذاب ( مضاف إليه، وقوله :( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ( من الذبح وهو في اللغة الشق، والذبح معناه إحداث الشق في الحلقوم لقطعه أو فتقه، وجملة يذبحون قيل أنها بدل من جملة يسومون في قوله :( يسومونكم ( وقيل : هي تفسير لقوله يسومونكم، أي أن تذبيح الأبناء واستحياء النساء جاء توضيحا لسموهم سوء العذاب وهذا هو الراجح والله أعلم.
ولقد كان فرعون حاكما عاتيا متجبرا قضى على بني إسرائيل بالقهر والتقتيل في غير عطف أو رحمة، ويبدو للباحث المتدبر أن هذا المخلوق ما كان سوي النفس ولا مستقيم الطبع والشخصية، فقد كانت تؤرقه ظواهر الشذوذ والمرض النفسي حتى راغ في قسوة محمومة وفي طبع غليظ متحجر يأمر جنوده وأتباعه بقتل الأطفال المواليد من بني إسرائيل واستبقاء البنات منهم على قيد الحياة، وتلك غاية في الظلم وهو يمارس أسوأ أساليب القهر والعنف لمجرد وهم كان يراود تصوره وخياله، فقد ذكر له أن زوال ملكه وسقوط عرضه سيكون على يد واحد من بني إسرائيل كما قيل، ونحن لا نعبأ كثيرا بالسبب الذي أودى بهذا الطاغية الى هذا المستوى الإجرامي الذي يثير في النفس كآبة واشمئزازا. لا نعبأ بالسبب الذي كان وراء هذه الممارسة الغليظة فسواء كان ذلك إيهاما ركب رأس فرعون بأن فرعون أحد اليهود سوف يقضي عليه، أو أن ذلك كان تعبيرا عن نفسية شاذة ملتوية تستطيب عذابات المظلومين وتستمرىء أن ترى الدم المسفوح بقطر بغزارة من جلود المظلومين والمعذبين.
لا يهمنا السبب كثيرا ما دامت النتيجة البشعة قد حلت بأولئك المقهورين ظلما وعدوانا، لا يهمنا ذلك بقدر ما نلاحظه من خلال الدراسة، والبحث أن طبيعة يهود يهود قد سميت بعد هذه الهزات والمصائب الالتواء والشذوذ حتى باتت غير سوية بل باتت غاية من انحراف الطبع وشذوذ النفس، إن التجارب والدراسات كلها تشير إلى طبيعة اليهود الشاذة التي آلت إلى أن تمارس كل ضروب الأذى والتخريب وكل ألوان الإفساد والشر والتدمير، تجتاح أوساط البشرية كافة، فتذيقها الويل والثبور وعظائم الأمور، والكلام في ذلك طويل لأن حلقات البلاء والتآمر والكيد من اليهود للبشرية تحتاج مجالا غير هذا المجال، وذلك لفداحتها وتعدد مآسيها وأرزائها، وهو كذلك مرير، لأنه ينطوي على أحداث مذهلة مريعة منيت بها البشرية والمجتمعات عبر السنين الطوال وهي تعاني الأهوال والشدائد مثل الحروب الطاحنة المدمرة التي تتمخض عن الملايين من الضحايا والمعذبين، ثم الكيد للبشرية لضربها في أعز ما تملك وهي القيم والعقائد، ومكارم الأخلاق، وكذلك الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي يصطنعها رجالات دهاقنة من اليهود تحت شعار مزيف من العلم، ومن جملة هؤلاء فرويد في إفساد النفس وتمييعها لتظل فائرة مشبوبة خلف غريزة الجنس، ثم ماركس وهو الذي في عناد وتوقح عن صفقة آراء غريبة، لا تلبث أن تتداعى أمام المنطق السليم والمناقشة الموضوعية الحرة.
قوله :( وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ( اسم الإشارة وميم الجمع ( ذلكم ( تعني : فعلهم ذلك بكم، أي أن فعل فرعون وجنوده بكم وما أنزلوه بكم من ألوان العذاب لهو بلاء، أي امتحان واختيار عظيم، لما في ذلك من بالغ القسوة وشديد الامتهان.
على أن قصة انفلاق البحر لبني إسرائيل وقائدهم موسى عليه السلام معروفة ومبينة في كتب التفسير بوضوح وإسهاب، وكل الذي نبينه هنا أن بني إسرائيل بعد أن نجوا من سطوة فرعون، وهربوا من ويله وسلطانه اتبعهم فرعون بجنوده المسخرين المستخفين، وهم حشود كبيرة من الرجال الأشرار وذلك ليعيدهم إلى نفوذه وطغيانه، ولقد ظل بنو إسرائيل هاربين واجفين مذعورين لا يلوون على شيء حتى بلغوا البحر فوقفوا بساحله واجمين حيارى لا يقدرون على شيء وكلما دنا منهم فرعون وجنوده ازدادوا هلعا وفرقا، وغشيتهم غاشية مريعة من الخوف والاضطراب، وهم في مثل هذا الموقف الموئس العصيب كانوا يجأرون بالصياح المستغيث في وجه موسى عليه السلام/ ليخلع عنهم هذا الخطر القائم المحدق، الخطر الذي يوشك أن يسوقهم إلى الموت على يد فرعون وجلاديه المجرمين، ثم جاء الفرج بعد ذلك فتمخض العسر عن أجلى يسر وتحولت بهم الحال إلى أسعد حال من السلامة والنجاة من خلال معجزة ربانية أجراها الله جلت قدرته على يد نبيه وكليمه موسى عليه السلام، وفي مثل هذه الساعة المكروبة الحرجة يقول سبحانه :( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( فما أن ضرب موسى البحر بعصاه حتى انفلق، فكانت فيه جملة طرق يابسة مذللة للمسير، وكانت المياه تجف بالطريق من كلا الجانبين وكأنها الأطواد أي الجبال، ومفردها الطود وهو الجبل، أي أن جبالا من المياه الراكمة المجتمعة تتماسك على دفتي كل طريق وذلك بقدر من الله وبإرادته التي تخرق كل قانون مقدور والتي لا تحجبها نواميس الحياة والطبيعة.
هكذا كان يشير بنو إسرائيل من خلف قائدهم موسى خلال هذه الطرق الممهدة في وسط البحر وهم ينظرون عن يمين وشمال فيبصرون أطوادا من جبال من الماء واقفة بإذن الله من غير أن تميل عليهم فتغرقهم إغراقا، وهم وسط ذلك كله سائرون آمنون، وفي ذلك كله قوله سبحانه :( ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يابسا لا تخاف دركا ولا تخشى (.
لقد ضرب الله بني إسرائيل في البحر طريقا سهلا ممهدا يبسا، لكي يسلكوا فيه آمنين مطمئنين لا يدركهم فيه عدو لاحق، ذلك هو قرار الله الفاصل وهو أن يكتب لبني إسرائيل النجاة من طغيان فرعون، ولا جرم أن يكون هذا الحدث الهائل مكرمة ربانية فذة تضاف إلى المكارم التي امتن الله بها على اليهود في زمانهم الغابر، وهي مكارم ما أوتيت أمة في العالمين مثلها ليكون ذلك مظهرا من مظاهر التفضيل الذي حظي به أولئك القوم.
وبعد أن سلك بنو إسرائيل طريق النجاة في البحر أمر فرعون جنوده في حماقة وتغرير أن يتبعوهم فهلك وهلكوا جميعا، ثم قذفه البحر ميتا بلا حراك صوب الساحل فسقط بذلك شيطان أكبر من شياطين الإنس المجرمين العتاة في هذه الدنيا.
ومن لطيف ما يكتب عن هذه القضية أن يهود لمن يصدقوا خبر فرعون وانه أدركه الغرق في البحر، حتى لفظ أنفاسه ما كان اليهود ليصدقوا ذلك الخبر وهم لفرط الهلع الذي استحوذ عليهم ولفظاعة الفرق المرجف الذي أطار قلوبهم جميعا ما كانوا يستطيعون التصديق بأن فرعون قد مات حتى رأوا رأي العين فتثبتوا واطمأنوا لصحة الخبر.
لقد سقط هذا الجبار المتمرد الذي ساس الناس بالباطل بعد أن أزهق نفوسا كثيرة بغير حق طيلة حقبة من الزمن، إلى أن كانت النهاية البشعة وهو يلقى مصيره من التغريق فيطرحه البحر صاغرا خاسئا ليراه الناس جثة هامدة وتبصره الأجيال جيلا بعد آخر، وهو قابع مسجى حتى أيامنا هذه، وفي ذلك يقول القرآن في فرعون وهو يكشف عن ظاهرة من ظواهر إعجازه ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية (.
قوله :( وأنتم ظالمون ) الواو للحال والجملة الاسمية من المبتدأ وخبره في محل نصب حال، لقد فعل اليهود فعلتهم النكراء باتخاذهم العجل إلها فكانوا بذلك ظالمين أي مشركين، والظلم معناه الشرك وهو في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.
والفرق بين المغفرة والعفو، أن الأولى تكون من غير ذنوب قارفها العبد، لكن العفو يمكن أن يكون بعد مقارفة العبد للذنوب، وعلى هذا فقد عفا الله عن بني إسرائيل بعد أن ارتكبوا أسوأ جريرة وهي عبادتهم للعجل، وكان ذلك بعد أن أرهقهم الله بتكليف يؤدونه ليكون لهم عند الله توبة عوضا عن إفراطهم في اتخاذهم العجل إلها، فكان التكليف أن يقتلوا جميعا فيضرب رقاب بعض على نحو ما سنبينه في موضعه من هذه السورة إن شاء الله.
قوله :( لعلكم تشكرون ) كاف للمخاطب في ( لعلكم ) في محل نصب اسم لعل والميم للجمع، والجملة الفعلية في قوله :( تشكرون ) في محل رفع خبر لعل، والشكر هو الاعتراف بالنعمة عن طريق القول والفعل، أما القول فهو دوام النطق والإقرار بنعمة الله بوساطة اللسان، والفعل يتحقق بأداء الطاعات وتجنب المعاصي، ونقيض الشكر الكفر وهو الجحود ونكران النعمة والجميل، وفي الحديث " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " ومن الشكر الشكران ونقيضه الكفران.
لقد عفا الله عن بني إسرائيل ما اقترفوه من جريمة الإشراك بعد أن أرهقهم بعذاب الاقتتال عسى أن يكون ذلك باعثا لهم على الفيئة إلى الله والاعتراف بأنعمه التي أسبغها عليهم فيكونوا بذلك له من الشاكرين.
القول الأول : إن الفرقان هو نفسه الكتاب وقد جيء به بعد الكتاب على سبيل التأكيد.
القول الثاني : معنى الفرقان هنا الفرج والمخرج، وذلك ما كتبه الله لبني إسرائيل بعد أن كانوا مقهورين أذلة تحت نير فرعون، ويعزز هذا القول الآية الكريمة :( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) والمقصود به هنا انفراج الكرب والخروج من العسر والضيق.
القول الثالث : إنه بمعنى التفريق بين الحق والباطل، أي أن موسى قد أوتي التوراة وكذلك أوتي من الله علما يفرق به بين الحق والباطل وذلك هو الفرقان، وهو ما نميل إليه ونرجحه والله أعلم.
قوله :( لعلكم تهتدون ) كاف المخاطب في محل نصب اسم لعل، والميم للحمع والجملة الفعلية المكونة من الفعل وواو الجماعة الفاعل في محل رفع خبر، وقد أنزل الله على بني إسرائيل كتابه التوراة فيه هداية لهم ونور لينجوا من الضلالة ويتجنبوا السقوط في براثن الشر بكل أشكاله.
أما القوم فهم جماعة الرجال ليس فيهم امرأة، والواحد رجل، والجمع أقوام وقد سموا بذلك لقيامهم بالعظائم والمهمات، وقد تدخل النساء في القوم، فإن من المعلوم أن قوم كل نبي يتألف من الرجال والنساء، وينطبق على القوم كل من التذكير والتأنيث، فنقول : جاء القوم وجاءت القوم، وقوله :( يا قوم ) أصلها قومي حذفت الياء للتخفيف، وهي يجوز إبقاؤها في غير القرآن.
قوله :( إنكم ظلمتم أنفسكم ) ذلك تأكيد على أنهم أوقعوا أنفسهم في الظلم وهو في اللغة وضع الشيء في غير موضعه كما بينا سابقا، والظلم كثيرا ما يرد في القرآن بمعنى الشرك، وهو ما سقط فيه بنو إسرائيل عندما اتخذوا العجل لهم معبودا من دون الله، فهم بذلك قد ظلموا أنفسهم وأوردوها سوء المورد وهو الشرك بسبب اتخاذهم العجل إلها، وهم من أجل ذلك قد استحقوا من الله العذاب ليتوب عليهم بعد ذلك. فما كان لجريمتهم النكراء هذه أن تمر بغير حساب في هذه الدنيا، وما كان الله ليتوب عليهم قبل أن يجهدهم بعظيم البلاء وهو بلاء لا جرم أن يكون شديدا. وهو ما يشير إليه قوله سبحانه :( فتوبوا الى باريكم فاقتلوا أنفسكم ) والبارىء هو المبدع للشيء المخترع له، أو المحدث الي يصنع الشيء على غير مثال سبق، أما الخالق فهو من الخلق ويعني التقدير، فالخالق هو المقدر الذي ينقل الشيء من حال إلى حال.
أمر الله بني إسرئايل الذين كانوا مع موسى أن يعلنوا توبتهم بالقتل، وذلك لقوله تعالى :( فاقتلوا أنفسكم ) وقد جاء في كيفية ذلك بضع أقوال للمفسرين نقتضب اثنين منها، أما الأول فهو أنهم وقفوا صفين متقابلين فقتل بعشهم بعضا، من غير تمييز، وقد ظلوا على تلك الحال من الاقتتال حتى سقط منهم خلق كثير ثم تاب الله عليهم من بعد ذلك.
وأما القول الثاني : فهو أن الذين عبدوا العجل وقفوا صفا ثم دخل الذين لم يعبدوه ومعهم السلاح، فمالوا عليهم ضربا بالسيوف والخناجر والسكاكين الى أن قتلوا منهم أناسي كثيرا، لكن الراجح في تقديرنا هو القول الأول وهو ما ذهب إليه كثير من المفسرين، وهو أنهم اقتتلوا فيما بينهم فجعل بعضهم يضرب رقاب بعض أو أحدهم يقتل الذي يليه كائنا من كان حتى أوحي إليهم أن يكفوا عن الاقتتال، كذلك كانت توبة بني إسرائيل إذا ما اقترفوا مثل هذه الكبيرة النكراء.
قوله :( ذلكم خير لكم عند باريكم فتاب عليكم ) اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ والميم للجمع، و( خير ) خبر مرفوع والإشارة في قوله :( ذلكم ) تعود إلى إعلان التوبة الحقيقية من اليهود وهي على الكيفية المبينة من اقتتالهم فيما بينهم، إذ يقتل بعضهم بعضا دون تمييز أو تردد، وفي هذه التوبة العملية القاسية ما يشهد لهم عند الله بالتوبة وهو سبحانه البارىء الذي خلق الوجود والخلائق من العدم والذي يقبل التوبة عن عباده.
وقوله :( فتاب عليكم ) ذلك إعلان من الله لهم بالتوبة بعد أن نفذوا عملية الاقتتال بغير موارية أو تملص وهي عملية لا ريب أن تكون ثقيلة كؤودا تمكن قوم موسى من مجوزتها فاستحقوا من الله التوبة والغفران، وهو سبحانه الذي يغفر الذنوب جميعا والذي يتجاوز عن مساءات المسيئين مهما تكن من الفداحة والكثرة، ( إنه هو التواب الرحيم ). ١
وقد ورد قولان في حقيقة الذين اجترحوا هذه المقولة ( لن نومن لك حتى نرى الله جهرة ).
وأحد هذين القولين : أن ذلك في السبعين من بني إسرائيل الذين اخارهم موسى لميقات ربه، فلما أسمعهم موسى كلام الله عتوا وأسرفوا في التمرد وغالوا مغالاة يتورع عنها الخاشعون الذين يتقون الله فقالوا :( لن نومن لك حتى نرى الله جهرة ) وذلك مطلب لا جرم ينطوي على غاية الاجتراء الفاجر أو التطاول الأثيم المغالي الذي ينم على طبع لجوج متوقح، خصوصا إذا علمنا أن هؤلاء السبعين كانوا من خيرة بني إسرائيل وصفوتهم الذين اصطفاهم موسى لإعلان التوبة نيابة عن قومهم فوق الجبل المقدس.
هؤلاء هم صفوة القوم وطليعتهم في العلم والورع، لا يتورعون عن مطالبتهم السقيمة وهي أن يروا ربهم عيانا علانية، وهي مطالبة لا تتيسر للبشر في هذه الدنيا كما ذهب أكثر أهل العلم فضلا عن أن ذلك لا يليق بمثل هذه الصفوة من خيار بني إسرائيل الذين انتخبهم موسى لميقات الله على الجبل، إنه لا يليق بهم، وهم الطليعة المؤمنة المصطفاة من القوم أن يطلبوا مثل هذا المطلب المتطاول الذي لا تشفعه أية أثارة من تواضع أو تورع أو حياء.
وثاني هذين القولين : أن موسى لما رجع من عند الله ومعه الألواح قد كتب فيها التوراة وفيها علم وهداية ونور، أمرهم أن يهتدوا بهديها وأن يأتمروا بما فيها من أوامر أو زواجر، فقال له قومه مقولتهم هذه العاتية المقبوحة :( لن نومن لك حتى ترى الله جهرة ).
قوله :( فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) الصاعقة هي الصيحة، وقيل النار، أو هي النازلة من الرعد، وكلها معان متشابهة من حيث العذاب الحارق المدمر الذي لا يصيب شيئا إلا دكه دكا وحرفه تحريفا، لما قال قوم موسى مقالتهم العاتية سواء قالها السبعون أو عامتهم أصابهم الله بنوازل من الصواعق الحارقة التي تدمرهم تدميرا، وقد كان ذلك وهم ينظر بعضهم بعضا فكلما أصابت الصواعق فريقا منهم نظر إليهم بقيتهم بعين الوجل كالذي يغشى عليه من الموت.
قوله تعالى :( لعلكم تشكرون ) كاف المخاطب في محل نصب اسم لعل، والجملة الفعلية بعده في محل رفع خبر لعل، ولقد قرر الله انبعاثهم من بعد الموت من أجل أن يبادروا بالشكران، فعسى أن يكون في هذه المنة الربانية العظيمة ما يستنهض فيهم الفطرة، أو يذكي فيهم يقظة الحس فيدعوا لله بالامتثال والتذلل ويتوجهوا إليه شاكرين.
والمعنى أن الله جلت قدرته قد من على بني إسرائيل في الصحراء الحامية فظللهم بالسحاب الواقي الرخي الذي يغمرهم بستار الفيء، كيلا تلتفح وجوههم وجلودهم بحرارة الشمس الحارقة، خصوصا وأنهم كانوا سادرين في التيه حيث الجفاف والقحط وحيث الشمس البارزة المتجلية التي تصلي من تحتها صلبا، في هذا الجو الشديد الحامي أنعم الله على اليهود بأن سترهم بالغمام من فوقهم كأنما هي المظلة يثوي إليها الناس فتقيهم شر العوادي والبوائق.
قوله :( وأنزلنا عليكم المن والسلوى ( أما تأويل ( المن ( فقد جاء فيه عدة أقوال للمفسرين وهي أقوال متقاربة تتراوح في تفسير المن بين اعتباره طعاما أو شرابا، ولعل خير ما ورد في ذلك ما قاله الإمام المفسر ابن كثير وهو يعرض لأقوال المفسرين في حقيقة المن فقال : والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس فيه عمل ولا كد، والمقصود الأهم أن المن ضرب من الطعام أو الشراب أو ما كان مختلطا من كليهما، كان اليهود يتخذونه لهم قوتا سائغا شهيا وهم يجدونه متقاطرا فوق الصخور والأشجار دون أي عناء.
أما ( السلوى ( فإنها صنف من الطير يشبه السماني أو هي السماني نفسه، وذلك طير نافع مأكول قد أفاض الله به على بني إسرائيل في سيناء ليأكلوا منه هنيئا مريئا من غير أن يجدوا في ذلك نصيبا، وفي ذلك يقول لهم سبحانه :( كلوا من طيبات ما رزقناكم ( والطيبات مفردها طيبة، وهي من الفعل طاب يطيب نقول طاب الشيء فهو طيب إذا كان لذيذا أو حلالا، والأمر في قوله :( كلوا ( يفيد الإباحة فقد أباح الله لهم أن يستمتعوا بما رزقهم من حلال لذيذ، وهي نعمة قد أفاشها الله عليهم في ساعات العسر، وفي أحلك أوقات الشدة، التي تجتمع فيها أهوال من الحر والجوع والارتباك والحيرة في مثل الصحراء اليابسة الجرداء التي تغيب فيها كل أسباب العيش والأمان.
ولا يكاد المتدبر يردد كلمات الله في هذا الصدد حتى يستذكر أحداثا من الأهوال والمآسي قد عانى منها أصحاب النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وهم يحتملون من الشدائد والكروب ما لا يقدر على احتماله بشر، نقول ذلك ونحن نستذكر حالات الحروف والجوع والأذى التي كان يعاني منها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، في مستهل دعوة الإسلام، يوم أن تمالأ عليهم الناس من بني عشيرتهم وقومهم إذ كانوا يناصبون الكيد والشر، ويتحرشون بهم ليضيقوا عليهم تضييقا، ثم يأتمرون بهم ليوثقهم أو يخرجوهم أو يقتلوهم قتلا، وفي طليعتهم القائد الملهم الفذ نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق ما يرد في هذا الصدد ما نطق به القرآن الكريم :( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ( ومع ذلك كله فقد ثبت أصحاب النبي عليه السلام في وجه الكوارث والأهوال فما وهنوا أو استكانوا لما أصابهم، وما تزعزعت عزائمهم أمام النوائب والكروب، ولا شددوا على نبيهم في الطلب والدعاء، ولكنهم ظلوا صابرين محتسبين إلى أن كتب الله لهم النصر المبين.
قوله :( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( آتيناهم كثيرا من النعم والخيرات، ورزقناهم كثيرا من الطيبات، وخولناهم ذلك كله ليأكلوا منه ويتمتعوا به ثم ليعبدوا الله ويذعنوا له بالطاعة وتقديم الشكران، لكنهم عصوا وفسقوا عن أمر الله فظلموا بذلك أنفسهم إذ أوردوها أتعس مورد ولم يظلمونا نحن فإننا لا يمسنا ظلم ولا يحيق بنا ضر أو لغوب.
بعد أن من الله على قوم موسى فأذهب عنهم محنة الضياع في التيه حيث الحيرة والتلجلج والاضطراب بعد ذلك أمرهم الله أن يدخلوا ( هذه القرية ( والقرية من الفعل قرى يقري أي جمع يجمع، نقول قرى الماء في الحوض أي جمعه فيه، والمقراة مكان يجتمع فيه الماء وجمعها مقاري وهي الجفان الكبار ومفردها جفنة وهي وعاء واسع لاستيعاب الماء.
وتطلق القرية ويراد بها المدينة، وقد سميت بالقرية، لأنها مكان يجتمع فيه الناس، مثلما نقول قرية النمل مكان اجتماعها، والقارية الحاضرة الجامعة. ١
على أن المقصود بالقرية هنا موضع خلاف المفسرين، فقد قيل إنها أريحا وقيل : هي مصر، وفي قول ثالث : إنها بيت المقدس، وهو ما يميل إليه أكثر العلماء، وسواء كان المقصود هذه المدينة أو غيرها من المدن فإن مثل هذا الأمر يعتبر في حكم المنطق والشريعة قد مضى وانقضى، فهو ليس جزءا من عقيدة التوحيد لا يقبل التغيير أو التطوير ولا هو قاعدة ثابتة في السلوك والأخلاق التي تعتمد القيم الراسخة الأصيلة والتي تظل على الدوام مستقرة لا تتحول. ليس هذا الأمر على شيء من ذلك ولكنه أمر مرحلي قابل للتغيير والتبديل وهو كذلك قابل للتحوير والتطوير بما تقتضيه ملابسات المجتمع ومقتضيات الأعراف والأوضاع والشرائع، فإذا ما خول الله بني إسرائيل أن يدخلوا القدس في غابر الزمان تحت قيادة منقذهم موسى عليه السلام، أو يوشع بن نون من بعده فإن مثل هذه المسألة ليس إلا أمرا مرحليا اقتضته ظروف معينة، وتلك مرحلة من تاريخ بني إسرائيل ليس لها أن تتكرر بالضرورة، لا بحكم المنطق السليم، ولا بحكم النبوة الصادقة، ولا بحكم الدين إذا لم يتخلله تحريف أو خلط أو تزييف، إنه ليس لهذه المرحلة من تاريخ بني إسرائيل أن تتكرر لمجرد أنها حدثت مرة من زمان، لأن حدوثها ما كان إلا تنفيذا لأمر من أوامر مرحلية يمكن أن يقع عليها التبديل أو النسخ لتصبح أثرا مسطورا في الكتب من غير مفعول أو تأثير، فإن من الأولى أن تتغير مثل هذه الأوامر المرحلية التي لا ترتبط بالعقيدة أدنى ارتباط خصوصا إذا علمنا أن ديانة السماء لا تقوم على التعصب للعرق أو الجنس، كليلا يدعي أحد وهو يتصور تصور الواهمين الحالمين، أنه ذو انتماء لشعب مفضل مختار خير من شعوب الأرض طرا، ذلك تصور خاطىء واهم، وأصدق ما يجيء في هذه المسألة من عدم الاعتداد بالآباء والأجداد الذين مضوا إلى غير رجعة ما قاله الله بني إسرائيل :( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ).
قوله :( فكلوا منها حيث شئتم ) كلوا جملة فعلية تتألف من فعل وفاعله، حيث ظرف مكان مبني على الضم مضاف إلى الجملة الفعلية بعده، رغدا اسم مصدر منصوب نائب عن المفعول المطلق ( أكلا ) والرغد الرزق الكثير الواسع.
قوله :( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ( أمرهم الله لدى وصولهم المدينة أن يدخلوها سجدا، والمقصود بالسجود هنا يحتمل أحد معنيين وهما : الركوع، فعلا، أو الخشوع الوجداني الغامر الذي يقترن بالتواضع عند الدخول، وكلا الاحتمالين جيد وإن كنت أرجح الأول وهو أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة ركعا وذلك على سبيل الأخذ بالظاهر والاعتماد على مفهوم السجود الذي يراد به هنا الانثناء على هيئة الركوع.
وفوق أمرهم بالدخول سجدا، أمرهم الله أن يشفعوا ذلك بقولهم :( حطة ) وهي خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وتقديره : مسألتنا حطة، وقد اختلف أهل التأويل في المراد بهذه الكلمة، ويمكن أن نستخلص قولين في المراد بها، أحدهما : أن الله عز وجل قد تعبد بني إسرائيل بحرفية هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم، فإنهم بذلك مأمورون أن يعبدوا ربهم بقولهم حطة، ليكفر الله عنهم مات اقترفوه من المعاصي والذنوب وهم يخالفون عن أمر نبيهم موسى وأمر ربهم ذي الفضل والمنة عليهم.
ثانيهما : أن كلمة حطة تعني احطط عنا الذنوب فهي بذلك منصوبة باعتبارها اسم مصدر، وفي تقديرنا أن القول الأول أقرب للصواب، ذلك أن الله سبحانه قد تعبدهم بقولهم هذه الكلمة ليغفر لهم خطاياهم لولا أنهم بدلوا تبديلا، ويعزز هذا القول ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم، فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاهم وقالوا : حبة في شعرة.
وأخرجه البخاري بلفظ آخر وقال : " فبدلوا وقالوا : حطة حبة في شعرة " ٢ وقد ورد مثل هذا الحديث في غير البخاري ومسلم بلفظ : " حنطة في شعر " وذلك كله على سبيل السخرية والاستهزاء فكتبت عليهم خطيئة مضافة إلى خطاياهم التي قد حفل بها سجل أعمالهم من حيث التمرد والفسق عن أمر الله.
وقوله :( وسنزيد المحسنين ) وعد الله بالتفكير عن سيئات العاصين الذين خالفوا عن أمر الله بعد أن يقولوا حطة، وأنه سبحانه سيزيد في إحسان من ظل منهم مستقيما، فلم يعبد العجل وصان نفسه ولسانه عن الخطايا والذنوب.
٢ تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٩٨..
قوله :( قد علم كل أناس مشربهم ) كان بنو إسرائيل في التيه كثيرين، فقضت مشيئة الله المنان أن تتدفق لهم المياه بغزارة ليشربوا في سهولة ويسر ولئلا يتضايقوا أو يتزاحموا فانفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينا وفي ذلك ما يسد حاجة بني إسرائيل وزيادة، وفيه ما يدرأ عنهم حرارة العطش ويفيض عليهم ببركة العيش الهانيء الرخي.
ويبدو أن عدد العيون الدافقة بالماء جاء كفاء لعدد أسباط بني إسرائيل وهم أسباط قد انحروا من نسيل أبيهم يعقوب وكانوا اثني عشر فردا قد تناسلوا وتكاثروا حتى آلوا إلى خلق كثير قارب المليون من النسمات كما يظهر من الأخبار التي تروي مثل هذه القضايا، وقد علم كل سبط من هؤلاء الأسباط ( مشربهم ) أي موضع شربهم الذي يستقون منه دون تجاوز لغيره، ليكون في ذلك نظام لهم مطرد تستقيم فيه طريقتهم في الشرب، فلا يتزاحمون أو يفتاتون.
وقوله :( كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعتوا في الأرض مفسدين ) يأمرهم أمر إباحة بأن يأخذوا بنصيبهم من خير الله وفضله في المأكل والمشرب، فيأكلوا المن والسلوى وهما طعامان نافعان جيدان كان اليهود، يتناولون منهما ما شاؤوا دون تعب، ويشربون الماء العذب المتفجر من الحجر بإذن الله، وهو سبحانه نهاهم لذلك عن أن يعيثوا في الأرض مفسدين.
وذلك من الغيث وهو الشدة الفساد، وكأن العيث في الأرض بالفساد بات ديدنا تصطبغ به طبيعة بني إسرائيل الذين آلوا إلا أن يجحدوا النعم التي تهاطلت عليهم طيلة حياتهم مع أنبيائهم وفي طليعتهم موسى عليه السلام، وكذلك أن يصموا آذانهم عن كلمات الخير يرددها لهم أنبياؤهم وعلماؤهم، لكن ذلك كله لم يؤثر في هذه الطبيعة الفاسدة المعطلة إلا تأثيرا هينا، حتى بقي سوادهم الأعظم يجتر في دخيلته الغش والخداع فانطلقوا في الأرض يعيثون فسادا.
تحكي لنا هذه الآية قصة البطر الذي ركب النفسية اليهودية بعد أن ضاقوا بطعام المن والسلوى فانقلبوا غير صابرين على هذا الطعام وحده ليرجوا بعد ذلك نبيهم موسى كي يتضرع الى الله عسى أن يخرج لهم من نبات الأرض المختلف كالبقل والفوم والبصل، أما البقل فهو نبات اخضرت به الأرض، وقيل : ما ليس له سوق من النبات.
والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم فهو موضع خلاف المفسرين وأهل اللسان فقد قيل : إنه الثوم المعروف، وقيل الحنطة وقيل غير ذلك.
هكذا بطر اليهود معيشتهم حتى عافت نفوسهم عيش الخير والنعيم حيث الراحة والرخاء وحيث الطعام النافع الجيد الذي كانوا يتناولونه في غاية اليسر وهو المن والسلوى ليستبدلوا بدلا من ذلك خسيس الطعام ودنيئه مثل البقل والقثاء والفوم وغير ذلك من أصناف الطعام الذي يدنو دون المن والسلوى سواء في المذاق والطعم أو في سهولة الحوز والتحصيل أو في كمال المشروعية والحل كما قيل : وأروع ما يرد في هذا الصدد من بيان كاشف مصور ومعبر هو قول الله سبحانه :
( قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ) وأداة الاستفهام تنطوي على التوبيخ المنقرع لمثل هذه الطبائع الفاسدة، وهي طبائع لا ترتضي ولا تهنأ بكريم العيش، ولكنها تظل على الدوام نزاعة للخسائس، ورحم الله الحسن البصري إذ يقول في يهود وهو يعرض لتبيين هذه الآية بالذات : كانوا نتانى أهل كرات وأبصال وأعداس، فنزعوا الى عكرهم عكر السوء، واشتقات طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد.
قوله :( أدنى ) من الفعل دنا يغير همز ومنه الدنو أي قلة الثمن، والدناوة أو الدون وذلك يقال للخسيس من الأشياء أما الفعل المهموز دنأ فهو من الدناءة أي اللؤم والخبث كمما قال بعض اللغويين، فجاءهم الرد بعد هذا المطلب الغريب البطر بأن يهبطوا مصرا، وفي قوله :( مصرا ) جاءت عدة أقوال أهمها قولان : أحدهما أن المقصود بذلك أي مصر من الأمصار على غير تعيين خصوصا وأن مصرا قد وردت في الآية منكرة مصرفة على التنوين، وذلك الذي عليه جمهور المفسرين، وذهب آخرون الى أن المقصود هي مصر فرعون واستدلوا على ذلك بما جاء في القرآن من توريث الله لبني إسرائيل ملك فرعون في مصر، والراجح عندنا هو القول الأول وذلك ما يقتضيه ظاهر الآية في الأمر بدخول القرية علما بأنهم سكنوا الشام بعد ذلك، فضلا عن إيراد الكلمة ( مصرا ) هكذا منونة مصروفة.
قوله :( فإن لكم ما سألتم ) ذلك قرار من الله بإعطائهم ما طلبوا من خسيس الطعام، وهكذا قد امتن الله على بني إسرائيل بإعطائهم ما سألوا لكنهم بطروا ذلك كله، وآلوا إلا أن يظلموا مدبرين لا يلوون على شيء من التورع أو الامتثال أو الشكران. فما عادوا بعد ذلك ليستأهلوا شيئا من الإعفاء أو التكريم إلا المهانة والهوان والتشتيت في الأرض شذر مذر، ومن أجل ذلك قال سبحانه :( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ).
وهذه كلمة الله التي تحمل القرار الرباني الحاسم، وهو قرار إلهي مقدور لا يقبل التعقيب، جاء ليعلن للأرض أن هؤلاء القوم قد ضرب الله عليهم الضعف والهوان ليسيروا في الأرض غير أعزاء ولا كرماء ولتحيط بهم غواشي المسكنة، والمسكنة من السكون وهو ذهاب الحركة، ومنه المسكين سمي بذلك لقلة حركته وسكونه الى الناس، ومنه الفعل استكاتن أي خضع وذل.
قد ضرب الله الذل والهوان على بني إسرائيل ليكون ذلك ديدنا لهم يتوارثونه كابرا عن كابر ليحيوا حياة الاستكانة والتدسس، والخور، وليكونوا أبد الدهر في شق المنافقين والأشرار من الناس، وليكونوا في طليعة الذين يتآمرون على البشرية في أروع ما تملك من عقائد وقيم، وذلك لكي تتبدد هذه المبادىء والقيم فتستحيل البشرية إلى ركام من الخلائق الضالة الممسوخة، ولتغيب عن وجه الأرض شمس الخير فتستطير بعد ذلك أصوات الشر والباطل والفساد.
ولئن تحقق لبني إسرائيل على مدار الزمن بعض الظهور والتسلط، فإن ذلك لا يحمل أية منافاة لقرار الله بضرب الذلة والمسكنة عليهم، ولكن مثل هذا الظهور أو التسلط ليس إلا انعطافا عابرا من مستثنيات الأحداث الشاذة التي يطويها التاريخ في مسيرته الطويلة أو هو مجرد التواء عارض مقدور، ربما يؤثر في عجلة الزمن الدائر بعض التأثير، وهو تأثير يحسب في عداد القضايا النادرة المستثناة التي تند من قواعد الأشياء الأساسية ندا والتي تطفو على سطح الأحداث لتمر بغير وزن أو حساب، ثم تبوء الحياة بعد ذلك الى سابق عهدها في الأصالة الثابتة والاستقرار الدائم.
وقوله :( وباءوا بغضب من الله ) باء بمعنى رجع من البوء وهو الرجوع ومنه المباءة بمعنى أقر واعترف، نقول : باء الحق أو الشيء معناه أقر به وألزم نفسه به، ١ وهكذا باء بنو إسرائيل بغضب من الله أي رجعوا وانقلبوا يحملون على كواهلهم وجباههم غضبا من الله، والغضب هو شدة المقت، نعوذ بالله عوذا يجنينا مقت الله وغضبه، ويباعد بيننا وبين أن نبوء بالآثام والمعاصي.
قوله :( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق ) وذلك تعليل لضرب الذلة والمسكنة عليهم ولبوؤهم بغضب الله، فقد حق ذلك العذاب كله عليهم بسبب ما اقترفوه من جرائم شنيعة نكراء، منها كفرهم بآيات الله، وآياته تشمل كتابه المنزل عليهم من السماء، لهدايتهم وصلاحهم وتشمل كذلك المعجزات التي أوتيها النبيون لتكون لهم علامات واضحة تشهد على نبوتهم وصدق ما يقولون.
ومنها كذلك قتلهم النبيين، ومفردها النبي وهو من الفعل نبأ وأنبأ أي أخبر، والنبأ هو الخبر، ومنه النبوة وأصلها النبوءة ومعناها الإخبار عن الغيب من طريق الوحي، وقيل نبأ الشيء نبوء بمعنى ارتفع فكأن المقصود بالنبوة السمو والارتفاع. ٢
وهذه جريمة بشعة تضاف الى عداد الجرائم التي قارفها بنو إسرائيل وهي قتلهم النبيين بغير حق، ولا ينبغي أن يؤخذ بالمفهوم المخالف هنا ليظن خطأ أن النبيين يمكن أن يقتلوا بالحق، وذلك فهم فاسد لا يستقيم، فإن قوله :( بغير الحق ) لهو مجرد وصف لجريمة اليهود وهي أنهم كانوا يقتلونهم ظلما وعدوانا، ولا يعني ذلك أنهم يجوز قتلهم إن أخطأوا فهم أصلا معصومون عن الخطايا كافة في قول أكثر أهل العلم.
ومن المعلوم أن قتل الإنسان، المؤمن لهو من كبريات الكبائر التي تورد المقترف الجاني مور جهنم، فكيف بالقتيل إذا كان نبيا من النبيين الأطهار الذين قدسهم الله وعصمهم عصمة تحول بينهم وبين الخطايا والآثام ؟ فلعمر الحق إن جريمة بني إسرائيل فظيعة مريعة ترجف لهولها وبشاعتها القلوب والأبدان، خصوصا إذا وقفنا على بعض أخبار تذهب الى أنهم كانوا يقتلون النبيين بالجملة كل يوم، حتى إنهم كانوا يبلغون بضع عشرات يقتلون مرة واحدة، فيا لهول الجريمة، وا لفداحة العدوان النكير الذي تهتز لشدته السماوات والأرض.
وقوله :( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( ذلك اسم إشارة وهو تأكيد للمشار إليه مرة أخرى وهو علة ضرب الذلة والمسكنة عليهم ثم بوؤهم بالغضب من الله، كل ذلك كان علته عصيانهم وعدوانهم ( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ).
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٥٨..
يقول سبحانه : إن المؤمنين الصادقين الذين يرضى عنهم ربهم فيجزيهم خير الجزاء هم الصفوة المؤمنة في كل ذات كتاب أو ملة، سواء في ذلك أمة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، أو أمة كل من اليهود والنصارى والصابئين، إن الصفوة المؤمنة من كل هاتيك الأمم هي التي لها الحظ الأوفى والتي عليها المعول بغير اعتبار للاسم أو الشكل أو المظهر.
أما الذين آمنوا فهم الذين يصدقون نبوة الرسول محمد عليه السلام، والذين هادوا هم اليهود، وسبب التسمية بقوله :( هادوا ) قيل فيه ثلاثة آراء، أحدها : أن هادوا فعل ماض والمضارع يهود بمعنى ثاب يثوب ومنه قوله تعالى :( إنا هدنا إليك ) أي تبنا ورجعنا.
والرأي الثاني : أن الاسم نسبة إلى يهوذا وهو الابن الأكبر ليعقوب عليه السلام أبي اليهود، والرأي الثالث : أن هادوا من الهوادة وهي اللين والرقة، لكنني أرجح الرأي الأول القائل بأن هادوا نسبة الى يهوذا الابن الأكبر، لأن الرأيين الآخرين أساسهما الاشتقاق في العربية مع أن بني إسرائيل ما كانوا يتكلمون العربية في زمانهم بل كانوا ينطقون بلغة التوراة.
ومن جهة أخرى فإن نسبة القولين الأخريين إلى التوبة والهوادة أمر لا يستند الى دليل، أما ( والنصارى ) فمفردها نصراني، وسبب التسمية نسبة لقرية الناصرة حيث كان المسيح عليه السلام يقيم، فسموا بعد ذلك النصارى وقيل غير ذلك.
أما ( والصابئين ) فمفردها الصابىء من الفعل صبأ أو صبو صبأ وصبوء أي خرج، فالصابىء هو الذي يخرج من دين الى دين آخر، ١ ذلك هو المفهوم اللغوي للكلمة، لكن الصابئين من حيث حقيقتهم وملتهم فموضع خلاف العلماء، وخلاصة ما جاء فيهم قولان : الأول : أنهم فرقة من أهل الكتاب تحل ذبائحهم وتنكح نساؤهم والقول الثاني : هو أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولكنهم ذوو ملة يختلط فيها التوحيد بالشرك، فقيل إنهم يعبدون الملائكة أو يعتقدون تأثير النجوم. والراجح عندي أنهم ليسوا من أهل التوحيد ولا من أهل الكتاب وأنهم بذلك مندرجون في أهل الشرك، فلا تحل ذبائحهم للمسلمين، ولا تنكح نساؤهم من قبلهم وتصنيف الأمم في هذا الشأن معروف وهي أمم ثلاث : أمة القرآن ثم النصارى ثم اليهود، فليس من أمة ثالثة بعد هاتين الآخرين تنطبق عليها أحكام أهل الكتاب.
وقوله :( من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ) من مبني على السكون بدل من الذين قبلها وقد بينا آنفا أن الأهمية والاعتبار إنما يكمنان في اليقين الصحيح والتصديق الأوفى اللذين يقومان على الإيمان بالله، وهذا الإيمان لهو أبسط الصور اليقينية التي يدركها العقل في غاية اليسر والتي توجبها الفطرة إيجابا لا يقبل الوناء أو التراخي.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر وهو شطر أساسي وركين تنهض عليه العقيدة من أول لحظة، والإيمان باليوم الآخر قضية حاسمة قاطعة لا تحتمل شيئا من مداهنة أو موارية ولكنها يقينية قد نطقت بها الكتب السماوية جميعها وأجمعت عليها كلمة الأنبياء في كل زمان ومكان، وهي مفرق بفصل بين الحق والباطل أو بين الشك واليقين أو بين الكفر والإيمان، وهي كذلك حقيقة كبرى تنحسر عن طاقة هائلة من التأثير والفعالية التي تقوم على أساسها شخصية الإنسان، وتركيبة المجتمع، وبالتالي فإنها تنحسر عن طاقة ضخمة تتجاوز كل تصور وحسبان من حيث تنمية الإنسان وتكييفه ليجيء على نحو معين من الطابع والسلوك.
ثم يقرن الله سبحانه الإيمان بضرورة العمل الصالح لتكتمل الصورة المطلوبة، فلا إيمان بغير عمل، ولا قيمة للعمل إذا لم يسبقه إيمان متوطد يستكن في صميم الإنسان، حتى إن العمل المطلوب هنا هو المشروط بالصلوح ( وعمل صالحا ) على أن يكون ذلك مشفوعا بالنية التي يتوجه القصد من خلالها إلى الله، كيلا يختلط العمل بالرياء وهو صورة من صور الشرك.
وهؤلاء المؤمنون على اختلاف أجناسهم وتعدد أعراقهم وقومياتهم فهم عند الله لهم الثواب وحسن الجزاء وهم بذلك مأجورون خيرا. وفوق ذلك فإنهم ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) وقد سبق تفسير هذا القول الكريم وخلاصته أن هؤلاء المؤمنين الذين تجمعهم عقيدة الحق وتؤلف بينهم قاعدة الإيمان لا يخافون كما يخاف الناس، وذلك في يوم مزلزل مذهل، وفي ساعة رهيبة حرجة، يشتد فيها الهول وتخور فيها الهمم والعزائم، وكذلك فإنهم لا يحزنون لدى مفارقتهم للدنيا حيث الأهل والنسل والمال وحيث العشيرة والصحب والخلان، ومن شأن المرء أن يحزن إذا أحس بفراق من حوله من خلان وأولي قربى، وكذلك ما حوله من روابط وعلائق وذكريات تشده الى الديار والأوطان ومسقط الرأس، شدا لكن أولياء الله المؤمنين لا يحزنون فإنهم مقبلون على الله الكريم المنان الذي يبسط لهم كل العطاء من خير وجنان بما تهون دونه الدنيا كلها وما فيها من ضروب الخير والراحة والمتاع. ٢
٢ تفسير القرطبي جـ ١ ص ٤٢٢-٤٣٦ وفتح القدير جـ ٩٠-٩٤ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ٩٢-٩٦..
قوله تعالى :( خذوا ما آتيناكم بقوة ) أراد الله جلت قدرته أن يزلزل بني إسرائيل لفرط عصيانهم وتمردهم واختلافهم على أنبيائهم ولشدة مخالفتهم عن أمر الله، فرفع الجبل فوق رؤوسهم حتى أيقنوا أنه ساقط عليهم فمدمرهم تدميرا، وذلك كي تلين نفوسهم للحق وتستقيم طبائعهم بعد اعوجاج وطول أرجحة وميوعة، فيقبلوا على الله باتباع دينه والعمل بما جاءت به التوراة. يبين ذلك ويوضحه ما قاله سبحانه في الآية الأخرى :( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) والنتق هو الرفع فقد رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، ليخافوا ثم يتبعوا كلام الله فقال وهم في هذه الحالة من الخوف الشديد بعد أن نتق فوقهم الجبل ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) أي ألزموا أنفسكم بالتوراة التي أعطيناكم إياها لتكون لكم هاديا ومنيرا، وخذوها بقوة أي بجد واهتمام وعزيمة لا بضعف وهزل ورخاوة كما هي حالكم من الخور والميوعة، وفي قوله :( بقوة ) ما يكشف عن طبيعة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وهي طبيعة تقوم على الرخاوة واللامبالاة وعدم الجد بحيث لا يناسبها الأسلوب الين الكريم أو الخطاب المؤثر الحاني وإنما يناسبها الحزم والشدة، ويؤثر فيها الترويع والعقاب حق تأثير، ومثل هذه المعاني يكشف عنها قوله سبحانه :( بقوة ) ويكشف عنها كذلك نتق الجبل فوق رؤوسهم تهديدا لهم وترغيبا حتى انصاعوا للأمر فخروا ساجدين، وبغير هذا الأسلوب القاسي، المحسوس لا يصلح لمثل هؤلاء القوم شأن، فلا الحجة الدامغة ولا البرهان الساطع، ولا الخطاب الكريم الذي يلج في النفس فيؤثر فيها تأثيرا، ولا الأساليب الأخلاقية العالية التي تستنهض فطرة الإنسان، ولا غير ذلك من أسباب المنطق وأثارة الوجدان يمكن أن يحمل مثل هؤلاء على الالتزام بشرع الله والسير على صراطه المستقيم.
ولعل مثل هؤلاء القوم مجرد نموذج منن البشر الذي لا يثنيه عن الباطل غير القوة، فلا أحسب أن هؤلاء القوم وحدهم لا يستجيبون إلا للقوة ولكن أصنافا كثيرة من البشر في مختلف البقاع والأزمنة وفي مختلف الأجناس والملل لا يرعون إلا إذا أحاطت بهم الشدة وأخذوا بأسلوب العصا الغليظة، ويعزز هذه الحقيقة الحديث الشريف الذي يتسم بالعمومية والشمول إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وقوله :( واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) أمرهم سبحانه أن يأخذوا التوراة، ليتدبروا ما فيها وليعوها وعيا تاما وافيا، فعسى أن يكون في ذلك ما يقيهم العذاب ويدرأ عنهم الشدائد في الدنيا والآخرة.
وفوق ذلك كله فإن الله جلت قدرته رحيم بهؤلاء القوم فقد بسط لهم من أهداب الرحمة والمغفرة ما يثير في النفس العجب، ويرسم للذهن أجلى صورة عن مدى الرحمة التي تتجلى في جلال الله سبحانه، لا جرم أن رحمة الله تدنو دونها سائر الرحمات، فقال سبحانه :( فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) يمن الله على بني إسرائيل بفضله عليهم ورحمته، وأنه أولا هذان : الفضل والرحمة لكانوا من الخاسرين، والفضل هو الإحسان، والرحمة معروفة فهو سبحانه الرحيم الحنان المنان وهو أرحم الراحمين، وهو سبحانه لا يدانيه في هذه الخصيصة أي كائن حتى إنه اسمه الرحمن وهو اسم لا يليق أن يكون لأحد سوى الله، فهو وحده الحقيق بذلك.
وقوله :( الخاسرين ) من الخسر والخسران والخسار والخسارة والتخسير. وهو ضد الربح وهو يعني الضلال والهلاك، ١ فإنه لولا فضل الله على هؤلاء القوم ورحمته بهم لأصابهم الهلاك على الفور، ولهبطوا في الضلال دون إنظار أو وناء، ولكن الله تعالى كان في كل مرة يعصونه فيها يمن عليهم بالفضل والرحمة فيعفو عنهم ويبسط لهم جناح العفو والغفران ليعاودوا السير في ظل الله والالتزام بدينه من جديد، لكنهم أخيرا أبوا إلا التمرد المكرور الذي لا ينقطع حتى دمر الله عليهم تدميرا فكتب عليهم الذلة والمسكنة، ومزقهم في الأرض شر ممزق، وقطعهم في الأرض أشتات أمما.
والمعلوم أن السبت لدى اليهود هو يوم عبادة ينقطعون فيه عن جميع الأعمال والممارسات سوى العبادة وما لها من مقتضيات، فأحست الأسماك والحيتان بغريزتها أن هذا اليوم بات يوم أمن وسلام لها، فلا يصيبها فيه أذى أو اعتداء، فكانت بذلك تفيض صوب الشاطىء بأعداد كثيفة كاثرة مما ألهب في نفوس بني إسرائيل غريزة الطمع وجمع المال فجعلوا يصنعون الحفر والحبائل والبرك لتلجأ إليها الأسماك يوم السبت دون أن تتمكن بعد ذلك من الخروج أو التخلص فتظل حبيسة محشورة على هذه الحال إلى أن ينقضي السبت، ثم تأتي جماعات يهود فتأخذ ما وقع من هذه الأسماك والحيتان متذرعين بأنهمن أخذوها الأحد، وتلك طريقة المعتدين الخونة الذين ألهبهم الطمع واستفز أعصابهم ونفوسهم لتجهد لاهثة وراء المال والحطام الزائل، وقد كان ذلك من خلال أسباب خسيسة في الاحتيال والغش والخداع الأثيم.
وقوله :( السبت ) وهو مفرد مصدر جمعه أسبت وسبوت، ومعناه : الراحة والقطع، والانقطاع عن المعيشة والاكتساب، ١ ليتسنى لهم أن يعبدوا الله غير منشغلين بما يعيق.
وقوله :( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) كان ذلك جزاء لهم على فعلتهم الماكرة بالتحايل على أوامر الله بأسلوب رخيص ينم على سوء في النية وفساد في الطبع والسجية، فقد أمر الله بقدرته المطلقة التي تتحقق فيما بين الكاف والنون ( كن ) أن يتحول هذا الفريق الفاسد المتجاوز المحتال الى قردة، لكن هل انقلبوا إلى قردة من حيث الحكم والمعنى أو من حيث الحقيقة والصورة فوق الحكم والمعنى.
ثمة قولان في هذه المسألة أحدهما : أن الذين اعتدوا في السبت قد نسخ الله نفوسهم وطبائعهم فحولها من هذه الناحية إلى ما يشبه القردة من حيث الطبائع والنفوس من غير أن يؤثر ذلك على ظاهر الخلقة في شكلها الآدمي.
والقول الثاني : أن الله قد مسخهم إلى قردة من حيث الحقيقة والصورة والمعنى فاستحالوا بذلك إلى قردة حقيقيين لا يفرقهم عنهم أي فارق، لا في الصورة ولا في المعنى وذلك ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي نرجحه أخذا بظاهر الآية الحقيقي، إذ لا تعويل على المجاز ما دامت الحقيقة للتعبير القرآني بارزة ومكشوفة والله تعالى أعلم.
على أن الأخذ بالقول الثاني يغني عن الأول أو هو يشمله فظاهر الآية يدل على تحويل هؤلاء المعتدين إلى قردة، وذلك من حيث الحقيقة والصورة، وكذلك من حيث المعنى وهو قد بات مندرجا في تركيبة القرود، ذلك أن من تحصيل الحاصل أن نقول أن القرد ينطوي على خلقة شكلية ومعنوية واضحة ومفهومة، وبعبارة أخرى فإن من المستحيل أن نتصور قردا في طبع يختلف عن طبائع القرود، فما دام هؤلاء قد تحولوا إلى قردة، فإن عملية التحويل باتت كاملة تماما ليكونوا قردة حقيقيين، وذلك من حيث الصورة والمعنى كلاهما.
وقوله :( خاسئين ( أي مبعدين منزجرين، من الفعل خسأ وانخسأ أي بعد وطرد وانزجر والخاسىء هو القميىء الصاغر المطرود الذي لا يترك فيدنو من طارده. ٢
ومثل ذلك قوله تعالى :( قال اخشوا فيها ولا تكلمون ( يقال ذلك لأهل النار الذين يتصايحون راجين فيقال لهم :( اخشوا ( أي امكثوا مبعدين صاغرين مطرودين.
٢ مختار الصحاح ص ١٧٥..
وقوله :( لما بين يديها وما خلفها ) أي لما حولها من القرى، وذلك هو المعنى الراجح الذي نختاره. فقد قيل : جعل الله القرية المعذبة بالمسخ عبرة لما قبلها وما بعدها من حيث الزمان، وقيل : من حيث المكان، لكن المعنى الأول المختار هو المعتمد والذي عليه كثير من العلماء.
وقوله :( وموعظة للمتقين ) مسخ الله أهل هذه القرية الظالمة، ليكون ذلك عظة للذين يتقون الله فيحسبون لعذابه كل حساب، وليعلموا أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنه يوشك أن يسقط عليهم رجزا من السماء يدمرهم تدميرا، أو يصيبهم بعذاب من عنده فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
لهذه الآيات مناسبة تتفق الروايات على أنها جاءت لتبين قصة قتيل من بني إسرائيل لم يعرف قاتله فأمرهم الله بذبح بقرة، ومما يلاحظ في اختيار البقرة بالذات دون غيرها من الأنعام أو البهائم أن ذلك شديد الصلة بعبادة بني إسرائيل للعجل، فأراد الله أن يبين لهؤلاء أن ما عبدوه من عجل ليس إلا صربا من الأوثان التي لا تضر ولا تنفع. وأنه كائن هين مهين أعجم لا يملك من العقل والإرادة ما ينجو به من المخاطر المحتملة، مخاطر الذبح وغيره فها هو ذا يهبط على الأرض ذبيحا بعد أن فصدت عنقه السكين الناحرة الحادة، فكيف يليق بذي عقل أن يثني ساجدا عابدا لمثل هذه الدابة العجماء ؟.
أما قتيل بني إسرائيل فقد ذكر أنه كان ذا مال كثير ولم يكن له أولاد يرثونه إلا بعض أولي قربى، فاستعجل هؤلاء الميراث قبل أوانه فقتلوا مورثهم المالك ثم اختفوا فتحاكموا إلى موسى لينظر في الأمر أو يطلعهم على القاتل، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة – أية بقرة من غير تقييد بوصف أو شرط. ولو أنهم بادروا في هوادة وبساطة ليذبحوا بقرة من البقر، صغيرة أو كبيرة ومهما كان لونها أو هيأتها لأجزأ ذلك عن المطلوب ولكنهم- كما قيل- شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم بعد أن ألحوا في الطلب المتكرر واستقصوا في معرفة الصفات استقصاء يتحرج منه كل تقي فهيم، وآلوا إلا أن يستوضحوا في مغالاة متنطعة كانوا في غنى عنها لو كانوا أتقياء متورعين أو كانوا معتدلين كراما يجملون في الطلب ويقدرون الله حق قدره.
والبقرة اسم جنس وهي تطلق على الذكر والأنثى، والجمع بقر أو بقرات وهي من الفعل بقر يبقر، بقرت الشيء أي شققته أو فتحته فتحا، ويسمى فلان بالباقر لأنه يبقر كل حجاب ليصل إلى صميم الحقيقة والعلم بعد أن يشق طريقه إلى ذلك شقا، وبقرت البطن أي شققته لبلوغ الجوف. وتبقر في العلم أو المال أي توسع فيه وسميت البقرة بذلك لإمكان شق الأرض وحرثها بالمحراث عن طريقها. ١
أمر الله بني إسرائيل أن يذبحوا مجرد بقرة على طريق الوصول إلى معرفة من قتل الرجل ذا المال، لكن بني إسرائيل كان يعوزهم التواضع وسلامة الطبع والامتثال السريع لأمر الله فعجبوا لمثل هذا الأمر مستنكرين.
( قالوا أتتخذنا هزؤا ) قالوا جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل، والجملة الفعلية وهي مقول القول في محل نصب مفعول به، والضمير ( نا ) في محل نصب مفعول به أول، هزؤا مفعول به ثان. والاستفهام هنا بمثابة استنكار من بني إسرائيل لطلب موسى بذبح البقرة، وهو استنكار لا جرم أن يكون باعثه السفه والحماقة، ولا يصدر ذلك أمام جناب الله سبحانه إلا عن قوم نضبت في نفوسهم منابع الخشية والورع وأفلت عن طبائعهم شمائل التواضع والاستحياء من الله فانفلتوا عن التذلل لسلطانه وأمره بالمساءلة الباغية المستنكرة، على أن المطالبة بالذبح ما هي إلا ضرب من الاستهزاء الذي يترفع عنه كل تقي متواضع فكيف إذا كان الطالب نبيا عظيما كليما لله وهو موسى عليه السلام أحد المرسلين العظام أولي العزم ؟ فأجابهم موسى ليرد عليهم مقالتهم الظالمة وتخريصهم الجهول.
( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) أعوذ من العوذ وهو الاعتصام والالتجاء وموسى عليه السلام يعلن اعتصامه بربه والتجاءه إليه من أن يخوض في عبث من القول الساخر اللاغط مثلما يعرفه هؤلاء القوم وهم يلغظون في عبث سقيم وهزل فاضح.
( قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ( ( فارض ( خبر مبتدأ محذوف تقديره هي وقيل صفة للخبر ( بقرة ( والفارض الهرمة التي ولدت بطونا كثيرة ( ولا بكر ( الواو للعطف، والبكر : الصغيرة التي لم يقع عليها فحل، فلا هي كبيرة هرمة ولا هي صغيرة لم تلد بعد ولكنها ( عوان بين ذلك ( العوان : النصف من النساء والبهائم وجمعها عون بضم العين، فهي بذلك وسط بين الكبر والصغر، والإشارة ( ذلك ( تعود على فارض وبكر، وبعد هذا الكشف عن ماهية البقرة يكرر الله دعاءه لبني إسرائيل أن يبادروا بالذبح فيفعلوا ما أمرهم الله به ( فافعلوا ما تؤمرون (.
وثمة قول بأن هذه الآية فيها دليل النسخ وأن النسخ نفسه واقع هنا، وصورته أن الله قد أمرهم أولا أن يذبحوا بقرة من البقر من غير تحديد بصفة معينة، فلما وصفها بعد ذلك كان نسخا يؤثر في الحكم وهو الطلب دون تقييد، ولا نرى مثل هذا الرأي فإنه لا يلزم مما سبق أن يعتبر ذلك نسخا. ولكن ذلك مجرد توضيح يكشف عن معاني أخرى جديدة ترد على نحو من الوصف أو التبيين، فلئن كان النص في الآية الأولى مطلقا بغير تقييد فهو في الأخرى مقيد بالوصف ولا يلزم من ذلك النسخ بل التقييد.
فبين الله لهم أنها صفراء فاقع لونها، ولا داعي للتأويل في معنى الصفرة أو في موضعها من البقر فخير في مثل هذا الحال أن يؤخذ بالظاهر لندرك أن الصفرة أو في موضعها الأصفر المعروف ولا نحمل في ذلك تكلفا، وكذلك فإن جسد البقرة كله أو غالبه كان يغمره اللون الأصفر، أما الفاقع من اللون الأصفر فهو الشديد الصفرة، وهو من الفقوع والمقصود بالفاقع من لونها الأصفر أن لونها خالص الصفرة لا يخالطه لون آخر. ١
وقوله :( تسر الناظرين ( أي أن الناظر إليها يعجب بها لمنظرها، وذلك من حيث اللون والسمت.
لقد كان يهود في غنى عن كل هذه المساءلات التي تنم على التكلف الممجوج وتنم على طبع يستمرىء الموارية وطول الجدل، إنه الطبع المتلجلج الملتوي الذي يضيق بالاستقامة واليسر والوضوح، ولا يرضى بغير التكلف والتعسير أسلوبا ومنهاج حياة. لقد كانوا في غنى عن مثل هذه الثرثرة والاكثار من السؤال لو أنهم امتثلوا أمر ربهم وأنابوا إليه مبادرين فجاءوا ببقرة أية بقرة فذبحوها وكفى.
وقوله :( وإنا إن شاء الله لمهتدون ( وهذه بادرة خير تحتسب لبني إسرائيل إذ سألوا نبيهم للمرة الرابعة فمضوا لينفذوا ما أمروا به فاستثنوا قائلين :( وإنا إن شاء الله لمهتدون ( وفي ذلك صورة من الإنابة والذكرى التي ينبغي أن تقال في مثل هذا الموقف وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الصدد، لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا.
قوله :( مسلمة لاشية فيها ) المسلمة التي تكون سليمة من العيوب كالصمم والعرج والعمى، وغير ذلك من عيوب وقوادح، وهي كذلك لاشية فيها. والشية العلامة أصلها وشيا وشية والجمع شيات والوشي هو نوع من الثياب الموشية أي المنقوشة، وفعله وشى، والمقصود أن البقرة ليس فيها لمعة أو علامة أو لون يخالف سائر لونها الأصفر.
قوله :( قالوا الآن جئت بالحق ) أي الآن قد بينت لنا المطلوب وأفصحت لنا عن ماهية البقرة، وهم مع هذه المساءلات المتكررة ومع هذا التقصي الطويل الممل فإنهم ما ذبحوها إلا بعد جهد وما كادوا يذبحونها.
يقول بعض أهل التأويل : إنهم كادوا ألا يذبحوا البقرة لغلاء ثمنها أو لخشيتهم من الافتضاح إذا ما تبين فيهم القاتل. وفي تقديرنا أن مثل هذا التعليل صحيح، ولكن يضاف إليه طبيعة بني إسرائيل التي يخالطها الخور والجنوح للهزل المستديم وعدم الجد ثم الرغبة في السؤال المتكرر المنغص الذي لا يحتمل غير السماحة والإسفاف والثرثرة. ١
( قتلتم ( جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل، والميم للجمع ( نفسا ( مفعول به، منصوب وهذه الآية تأتي في مقدمة هذه القصة المنوطة بمعجزة البقرة، وذلك من حيث الترابط في المعنى خلافا لتركيبها من حيث النزول مثلما هو حاصل الآن وذلك هو أسلوب القرآن في كثير من هذه النماذج.
لقد قتل فريق من بني إسرائيل واحدا منهم، طمعا في ماله واستعجالا له قبل أوانه، ثم ادرأوا فيما بينهم حول هذا القتيل وقوله :( فأدرأتم فيها ( الفاء للسببية، وأصل ادرأتم تدارأتم من الدرء وهو الدفع، قلبت التاء دالا، وسكنت لأجل الإدغام، ١ والمعنى : اختلفتم وتنازعتم في كيفية التعرف على القاتل حتى أتيتم موسى عليه السلام ليفصل بينكم ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ( لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع، ( مخرج ( خبره، ( ما ( اسم موصول في محل نصب لاسم الفاعل ( مخرج ( أي إن الله جل وعلا سيخرج ما قد تمالأوا على إخفائه وكتمانه.
قوله :( كذلك يحي الله الموتى ) الكاف في اسم الإشارة للتشبيه في محل نصب صفة مصدر، محذوف وتقديره يحي الله الموتى إحياء مثل ذلك، ١ أي مثلما أحيا الله الميت بضربه بجزء من بقرة مذبوحة، فإن الله يبعث الخلائق من بعد الموت في الآخرة، ولا جرم أن تكون قضية الإحياء بالنسبة للإسرائيلي القتيل بمثابة برهان واقعي محس قد عاينه الملأ بما يذكر بالحقيقة الأساسية الكبرى وهي يوم القيامة، وهي حقيقة تعمل آيات القرآن بما تحويه من نماذج وقصص وأحداث على ترسيخها في الذهن والقلب معا.
هكذا يحي الله الموتى وليس ذلك عليه بأمر عسير أو عزيز، وما تلك الأمثال التي يضربها للناس في القرآن كقصة البقرة أو نحوها غير أسباب تحمل المرء على أن يستفيض من حقيقة إحياء الموتى وبعثهم من القبور في يوم لا ريب فيه.
وكذلك فإن الله يطلع عباده على قدرته المطلقة الدالة على عظمته سبحانه لكي يعيها البشر وتعقلها الأمم جيلا بعد جيل فقال سبحانه :( ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) من العقل وهو في اللغة بمعنى المنع، أي تمتنعون من فعل الحرام، فتكتب لكم النجاة والسعادة.
لقد قست قلوب بني إسرائيل عموما وذلك من بعد ما أراهم الله المعجزة بإحياء القتيل، وأطلعهم على قدرته التي تخرق طبائع الأشياء والتي لا تصدها النواميس والنظم. ومع ذلك كله فقد انقلب بنو إسرائيل مرتدين ناكبين بعد أن غابت في نفوسهم عوامل الخضوع والتقوى وبعد أن شحت فيهم معاني الفيئة والذكرى.
قوله :( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) وقد اختلف في معنى ( أو ) فقد قيل : إنها للتخيير وقيل : معناها الواو العاطفة أي قلوب بني إسيرائيل تشبه الحجارة في قسوتها وأشد قسوة، وفي قول آخر بأن أو معناها هنا : بل، أي أن قلوبهم قاسية كالحجارة بل هي أشد قسوة من الحجارة.
وثمة معنى آخر نرجحه وهو أن الله جلت قدرته أراد أن يبين أن بني إسرائيل من حيث قسوة قلوبهم شطران شطرهم الأول : من كانت قلوبهم كالحجارة في قسوتها، وأما الشطر الثاني : فإن قلوبهم لهي أشد قساوة من الحجارة والله تعالى أعلم.
قوله :( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) يراد بذلك أن قلوب هؤلاء القساة العتاة لهي أشد قسوة من الحجارة نفسها وذلك من حيث التبلد في الحس، أو من حيث الإمساك والضن بالخير، فإن قلوب هؤلاء القوم شديدة الضن والشح، وهي لا تسخو بشيء من الخير كيفما كان، لكن الحجارة الصلدة الصماء تتفجر منها الأنهار، لتبعث في الأرض أسباب الحياة والنماء ولتزهو في الدنيا كل مظاهر الخصب والجمال، وكذلك فإن من الحجارة ما يتشقق أدغمت التاء في الشين فصارت يشقق حتى يتيسر للماء أن يسيل وينهمر ذلك كله منبعث من الحجارة القاسية التي لا تنطق في الظاهر، غير أنها في الحقيقة تسخو بعطاء سائح غزير يكسب في الحياة بواعث الرغد والجمال والبهاء والعيش الهنيء.
وقوله :( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) الهبوط في اللغة النزول، والانحطاط أو التردي من أعلى الى أسفل، ١ لكن المقصود بهبوط الحجارة من خشية الله قد جاء على سبيل المجاز عن خشوعها وانقيادها لأمر الله لكن قلوب هؤلاء يابسة صلدة لا تلين لأمر الله ولا تصيخ لهتاف الحق الساطع الأبلج، وقيل : بل إن الهبوط من خشية الله لهو حقيقة لا شك فيها، وأساس ذلك كله أن الكائنات والخلائق جميعا تسبح بحمد الله وذلك على نحو لا يعرف الناس كيفيته. قال سبحانه :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ٢ وما دمنا نتلو هذا الكلام الرباني بتصديق ويقين فإننا لا نتردد في اطمئنان إلى أن الجبل والشجر والمدر والحجر كل أولئك يسبحون الله ويخشونه حق الخشية، ولا عجب أن يكون من مظاهر هذا التسبيح أو الخشية أن يهبط الحجر من العلو إلى السفل. ولست مترددا في ترجيح هذا الرأي ؛ لما يعززه من دليل كقوله تعالى :( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) ولأنه ليس من الممتنع أن ينطق الجماد بإذن الله. ونظير ذلك ما روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ. وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن " وغير ذلك مما في معناه.
قوله :( وما الله بغافل عما تعملون ) ما نافية تعمل عمل ليس. لفظ الجلالة اسمها مرفوع. غافل خبرها والباء حرف جر زائد، وقيل : يستعمل للتوكيد. ذلك تعقيب ينطوي على تخويف يتهدد به الله بني إسرائيل الذين مردوا على العصيان والظلم، وأن الله سبحانه عليم يما يقارفه هؤلاء من مفاسد ومخالفات لا تخفى عليه.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١١٣..
﴿ أفتطعمون ﴾ جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل " واو الجماعة " والهمزة للاستفهام وهو هنا إنكاري، والآية تيئيس للمسلمين أتباع الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من إيمان يهود. أي هل ترجون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود فيصدقوا نبيكم وكتابكم مع أن آباءهم كانوا أشرار غلاظا يسمعون التوراة كتابهم، ثم يتأولونها على غير معناها الصحيح ؟ كل ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم أنهم كاذبون، وأن تأويلهم للتوراة كان على الوجه المحرف الفاسد. ذلك إيحاء مكشوف لأتباع ملة الإسلام بأن هؤلاء اليهود لا خير فيهم، وأنهم لا رجاء ولا أمل في إيمانهم وعودهم إلى الحق والرشاد، فمثل هذا العود يستلزم نفوسا كريمة خالية من الشذوذ والعطب، أو طبائع تنطوي على فطرة نقية سليمة غير شوهاء، وأنّى لهؤلاء القوم المتمردين الفساق أن يكونوا على هذه الخلقة من سلامة النفس والطبع والفطرة ؟ أنّى لهم ذلك وهم الذين قرأوا التوراة كتابهم المقدس، ووعوه على حقيقته ثم انفتلوا يحرفونه تحريفا ويزيفونه تزييفا ؟ وليس ذلك على سبيل الجهل أو سوء الدراية، ولكنه العمد المقصود الذي تحرض عليه النفس الخربة الكزة. كل ذلك التحريف والتزييف مقصود لا يحفز إليه إلا الرغبة المجردة في الشر والنكوص الجانح صوب الخطيئة والإثم.
﴿ وهم يعلمون ﴾ تعلم يهود أنهم قد نبذوا كلام الله التوراة بعد ما درسوه ووعوه وعقلوه.
وقوله :﴿ إلا أماني ﴾ جمع أمنية. وهي ما يتمناه المرء لنفسه. وهؤلاء، لا علم لهم بالكتاب وهو التوراة ؛ لأنهم أميون. والاستثناء هنا منقطع. فالمعنى أنهم لا يعلمون عن التوراة شيئا إلا ما تسوله لهم أمانيهم وأحلامهم السقيمة أن الله يعفو عنه ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فضلا عن أحبارهم الذين يمنونهم أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة. وقيل : الأماني بمعنى التخريص واختلاق الكذب والافتراء. وهو قول ابن عباس. قوله :﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ إن أداة نفي بمعنى ما. أي أن هؤلاء الكاذبين المفترين الذين ﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾ لا يتقولون ذلك إلا وهم في شك مما يقولون أي يعلمون أنهم كاذبون لا تقوم حياتهم وأوضاعهم وتصوراتهم إلا على الظن الفاسد الذي لا يغني شيئا والذي لا يلبث أن يتبدد أمام الصدق واليقين١.
والويل واقع على الذين يفترون على الله الكذب، فيكتبون بأيديهم ما يفترونه ليقولوا للناس هذا من عند الله وما هو من عند الله ولكنه اختلاق من عند أنفسهم، فهو كلام فاسد مختلق لا ينطوي على غير الباطل والكذب وهو على شاكلة مختلقة من التحريف. أو التغيير والتبديل، وذلك أن يضيفوا للكتاب من عندهم أو يحذفوا تبعا لما تمليه أهواؤهم المريضة، فما راق لهم أبقوه وما لم يعجبهم حذفوه، كل ذلك يقارفونه من غير تورع أو خشية من الله إلا الرغبة في التضليل والإفساد والتخريب.
ونود في هذا الصدد أن نعرض بشيء قليل من التفصيل لأولئك الذين ﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ﴾ فإن هذا النص الكريم واقع على فريق ظالم من بني إسرائيل، أولئك الذين مارسوا الكذب على الله في أشد الصور وأعتاها. لكن النص الكريم مع كشفه لهؤلاء الناس من بني إسرائيل إلا أنه من حيث المقصود الواسع يمتد ليشمل كل الأشقياء من كل ملة أو دين في زمان أو مكان ممن يفترون على الله الكذب والزور، ولا جرم أنهم كثيرون ومنتشرون في مناكب الأرض وعلى امتداد الأجيال والعصور.
ومن الحق أن نقول كذلك : إن فريق بني إسرائيل كانوا في طليعة الكاذبين والدجاجلة الذين كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله. وقصة بني إسرائيل في هذه المسألة الخطيرة بالذات طويلة، وهي تستأهل مزيدا من الشرح والبيان والتفصيل، لكننا لا نملك في مثل هذا الموقف إلا أن نبين سراعا ما أمكن، عن جريمة هؤلاء البشعة في تحريف الكتاب وتزييفه، أو في الاختلاق الفاجر الذي ينسبونه إلى الله. ومثل التوراة في ذلك واضح تماما، ذلك أن أحبار بني إسرائيل قد تصرفوا في كتابهم الأصيل التوراة فراحوا يغيرون فيه ويبدلون ثم يحرفون ويزيدون. ومن بين ذلك تكذيبهم نبوة الرسول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة وكانوا يقرأونه في وضوح ويسر وكانوا يحدثون الناس من قبل بعث هذا النبي الكريم عن زمان يقترب منهم رويدا رويدا يبعث الله فيه نبيا، فما أن انبعث هذا النبي الكريم وعلموا أنه ليس من جنسهم انقلبوا على أعقابهم جاحدين منكرين، فتربصوا به الدوائر، وأتمروا به ليقتلوه، وحرضوا عليه الناس والسفهاء من عرب ومشركين ؛ لينالوا منه شرا وليتخذوه لهم عدوا، وأشاعوا من حوله الشبهات والترهات ؛ ليظن الناس أنه شاعر، أو ساحر، وليحسبوا أنه من المتقولين المفترين.
أما فيما يتعلق بالتوراة- وهي كتاب الله المقدس الذي أنزل على النبي الكليم موسى عليه السلام- فقد انثنى عنه بنو إسرائيل، لأنه لم يوافق أهواءهم ورغائبهم التي تقوم على الأنانية والهوى ولا تجنح إلا للشهوات ؛ لذلك قد أكب أحبار يهود على التوراة، لما أصابها من تلاعب وتزييف. وأشد منذ ذلك نكاوة وعتوا ما قامت به أحبار يهود من وضع كتاب شارح للتوراة وهو التلمود. ذلك الكتاب العجيب الذي يستقطب كل مظاهر الشذوذ والانحراف في بني إسرائيل، بدءا بالحقد الذي تصطبغ به نفسية يهود من غابر الزمن، وانتهاء بكل خصال السماجة والتبلّد والشح والتوقح وانعدام المروءة والحياء وغير ذلك من ذميم الأخلاق التي تنبعث من تصور خبيث معتم ومن طبيعة غليظة كزة، خبث فيها كل بوادر اللين والرحمة بالخليقة، وغارت فيها أية ظاهرة من ظواهر الرأفة واللين. وقد كان ذلك كله يوم أن جيء لبني إسرائيل بالتلمود، ذلك الكتاب المشوه المريع الذي يحمل بين دفتيه تحريضا على الشر والضر والنيل المتواصل من بني البشر بغير توقف أو انقطاع. ذلك هو التلمود الذي جاء ليشرح التوراة فكان غاية في التحريف والتضليل، وغاية في إرساء بذور الكراهية والحقد لدى اليهود ليكيلوا للبشرية على مر الزمن كل ألوان التآمر والكيد.
وثمة كتب وقرارات ومواثيق تضمها قراطيس مخبوءة في أحشاء الظلام الأسود وهي تحوي من البرامج والمخططات ما يحمل للبشرية نذر البلاء والتدمير. ومن جملة ذلك كله ذلك الكتاب الرهيب وهو " بروتوكولات حكماء صهيون " وهو كتاب صغير الصفحات والكلمات، لكنه خطة شاملة خبيثة للقضاء على البشرية في أعز ما تملك من معان في الخير والفضيلة، وللقضاء عليها قضاء ماديا ساحقا يأتي على الحضارات كلها من القواعد ؛ ليذرها قاعا صفصفا وذلك عن طريق الحروب المتتالية الضروس.
أما الإنجيل فلا ريب أنه كتاب سماوي عظيم قد جيء به من عند الله ليكون لبني إسرائيل هاديا ونذيرا، وهو كتاب قام في بدايته على التوحيد الخالص الذي لا تشوبه شوائب الشرك، لكن المحسوبين على المسيح عليه السلام بغير حق قد افتروا على الله أشد افتراء يوم أن كتبوا الإنجيل بما تفرضه أهواؤهم ورغائبهم الذاتية، فجاء الإنجيل نائيا عن أصالة التوحيد الخالص، يستوي في هذه الحقيقة الأناجيل الأربعة : متى ولوقا ومرقس ويوحنا. أما الإنجيل برنابا فلا جرم أن يكون أقرب هذه الكتب جميعا إلى عقيدة التوحيد، وأنه ينطوي على تنويه بذكر النبي محمد عليه الصلاة والسلام. لكن أحبار روما قد أصدروا – في غاية من التعصب- ما يشير إلى بطلان هذا الكتاب والاقتصار على الكتب الأربعة الأولى، وفي ذلك من الدلالة على سوء المقاصد والنوايا، وعلى انعدام الخشوع والتقوى ما يكشف عن طبيعة هؤلاء الناس الذين يتطاولون على الله سبحانه في كتبه المقدسة ؛ ليصموها التغيير والتحريف، وليجعلوها تبعا لأغراضهم وأهوائهم الذاتية لا تمت إلى الدين السوي المستقيم بصلة. ثم هذه المقولات الزائفة التي يلفقها الخراصون من الأحبار والرهبان، والتي تحتشد على شواكل من العبارات الغامضة المضطربة أو الألغاز الموغلة في التوهيم والتعمية واللبس.
وهذه النشرات والكتب التي تضم حشوا من الكلام المصطنع، الكلام الذي يثير في الأرض بواعث الشقاق والخصام ؛ لتظل البشرية في تطاحن وعراك دائمين لا لشيء إلا لمرضاة الطبائع الملتوية التي تتجشأ الحقد والهوس، والتي لا تفتأ تتربص بالإسلام وأهله كل أسباب الكيد والشر.
إن هذه المقولات والنشرات والكتب إنما تتسطر وتطلق باسم الدين افتراء على الله وتزييفا لدينه الحق الذي يندد بالشر والبطل وبكل مظاهر الظلم والخطيئة والفساد.
إنها مقولات ونشرات وكتب تحرض عليها نفوس المارقين من دعاة الشر والسوء الذين تتقاطر صدورهم وتورا وضطغانا لفرط كراهيتها المغالية للإنسانية عموما وللإسلام على وجه الخصوص.
أما المسلمون فإن من بين صفوفهم فريقا من المنافقين الذين يتقمصون أثوابا عديدة شتى تنطلي على المسلمين بمظهرها اللامع المخادع. وهي أثواب تنطوي على الغواية والفتنة، وتخفي وراءها الزور والكذب، يلبسها الأفاكون الدجالون من أدعياء المسميات المصطنعة منه الحرية والاشتراكية والوحدة، ومنها العدل والمساواة والشورى، ومنها الديمقراطية والشعبية وحقوق العمال. وغير ذلك من الشارات والمظاهر الفاسدة المزيفة التي فضحتها الظروف والأحداث، فباتت مكشوفة متعرية لا تنثني على غير النفاق والدجل، وهم مع ذلك كله يزعمون أنهم لا يعصون الله بذلك، وأنهم ليسوا بخارجين عن صراط الله ومنهاجه ! وذلك هو الكذب المفضوح المتسبين.
إن هؤلاء الخراصين الدجاجلة الذين نبذتهم رسالات السماء كافة، والذين خرجوا على منهج الله القويم العادل ؛ ليعيثوا في الأرض فسادا وخرابا، وليفتروا على الله البطل بما تكتبه أيديهم في الليل والنهار، إن هؤلاء جميعا قد توعدهم الله أشد توعد، وأنذرهم في كتابه الحكيم أن لهم الويل، وهو العذاب الحارق المستعر الذي تكتوي فيه أجسادهم وجلودهم، وتتقاحم خلاله جسومهم وأبدانهم لتلاقي هنالك من العذاب اللاذع المضطرم ما لا يقوى على احتماله بشر، ولا يصطبر على هوله وشدته كائن من الكائنات. وما أروع كلمات الله التي تأتي في هذا الصدد لتعبر أجلى تعبير في ألفاظ قليلة وجيزة، لكنه تحمل من الإيقاع المؤثر العذب، ومن النذير المخوف المزلزل، ومن التكرار الذي يزيد في التأثير والفعالية ما لا يحتمله أي كلام غير هذا الكلام :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ﴾.
٢ - مختار الصحاح ص ٧٣٩ والقاموس المحيط جـ ٤ ص ٦٨..
وقوله :﴿ قل أتخذتم عند عهدا فلن يخلف الله عهده ﴾ يسأل الله على لسان نبيه سؤال المستنكر الموبخ إن كان هؤلاء المفترون الحالمون قد أعطوا من الله عهدا فيما نشروه من مُكثهم في النار أياما معدودات. فإن كان الله قد خولهم مثل هذا العهد فإن موف بما عاهد. لكن الحقيقة لا مراء فيها أن شيئا من هذا العهد لم يكن، ولكنه التخريص والدجل، أو الاختلاف التي لا مراء فيها أن شيئا من هذا العهد لم يكن، ولكنه التخريص والدجل، أو الاختلاق المفترى الذي يهذي به هؤلاء الشُداد والمرضى. وأكرم رد وأوفاه على مثل هذا التقول هو قوله سبحانه :﴿ أم تقولون على الله ما لا تعملون ﴾ ( أم ) معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما. وقيل : منقطعة بمعنى بل، وذلك تأكيد على أن هؤلاء يتقولون على الله الكذب بغير علم ولا هدى. وذلك شأن الذين لا يستحيون من الله، ولا يجدون في أنفسهم أثارة من خشية أو تورع، والذين ترين على صدورهم أكنة كثاف من الشك والسوء والرغبة الضالة في التمرد على الله العياذ بالله.
ثم تعرض الآية، بعد التأكيد على حق الله في العبادة، لحقوق العباد من خلال المواثقة التي واثق الله بها بني إسرائيل، ويأتي في طليعة هذه الحقوق ما أوجبه الله للوالدين من بالغ الطاعة والإكرام، حتى قرن ذلك بطاعته هو نفسه، وذلك كقوله :﴿ أن اشكر لي ولوالديك ﴾ وقوله :﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ وذلك بعد قضائه ألا يعبدوا إلا إياه. و ﴿ إحسانا ﴾، منصوب على المصدر بالفعل المقدر، وتقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
ثم يوجب الله الحق لذي القربى وهم الذين تربطهم بالمرء وشائج النسب والرحم من إخوة وأخوات وبنين وبنات وأعمام وعمات وأخوال وخالات وبني إخوة وبني أخوات إلى غير هؤلاء من ذوي القرابة، فهم جميعا أولو قربى تجب صلتهم بإحسان وبر.
وكذلك اليتامى وهو جمع مفردة يتيم من اليتم بضم الياء وفتحها. واليتيم في الناس بفقد الأب، أما في غير الناس فهو بفقد الأم. وقيل : اليتم في الناس من مات أبوه أو ماتت أمه، لكن من مات أبواه الاثنان فهو لطيم. والأصل في تسمية اليتيم بذلك ؛ لكونه منقطع النظير. فاليتيم هو كل فرد عز نظيره، كالدرة اليتيمة سميت بذلك، لأنها لا نظير لها٣. واليتيم الذي تكون هذه حاله تجب العناية به، وتحرم الإساءة إليه تحريما شرعيا مغلظا، فإنه لا يجترئ على الإضرار باليتيم وإلحاق الأذية به إلا من كان ظالما لنفسه أو من أودى بنفسه في جهنم.
وكذلك المساكين، جمع تكسير مفرده مسكين وهو من السكون أي ذهاب الحركة. سمي المسكين بذلك ؛ لسكونه إلى الناس. واختلفوا في حقيقة حال المسكين وفيها يفرق بينه وبين الفقير. فقد قيل : المسكين الذي لا شيء له بإطلاق، أما الفقير فهو الذي له بلغة من العيش، وقد سئل أعرابي : أفقير أنت ؟ فقال : لا والله بل مسكين. وخالف الأصمعي في ذلك فقال : المسكين أحسن حالا من الفقير واستدل على ذلك بقوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين ﴾ ومعلوم أن السفينة كانت تساوي جملة من المال، لكنه سبحانه قال في أية أخرى عن الفقراء :﴿ لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ﴾.
وفي قول آخر وهو أن المسكين والفقير كليهما سيان لا فرق بينهما. وقيل : المسكين الذي يكون ذليلا مقهورا حتى ولو كان يملك شيئا، وذلك يفهم من قوله تعالى في اليهود :﴿ وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴾ ٤.
قوله :﴿ وقولوا للناس حسنا ﴾ مفعول به منصوب. وقيل : صفة لمصدر محذوف، وذلك حق آخر جعله الله للناس على بني إسرائيل وهو أن يقولوا لهم القول الكريم الطيب النافع، بما في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في القول، والعفو عن الناس، والتحدث إليهم في تواضع وتودد.
وكذلك من مواثقته لهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وهذان عملان جليلان كبيران يأتيان في مقدمة العبادات جميعا بما يقرب المرء من ربه درجات، ويدنيه من الجنة فيكون من الفائزين.
ثم يخاطب الله بني إسرائيل الذين خلوا في الأزمنة الغابرة، وذلك في أشخاص أعقابهم من اليهود الذين كانوا شهودا في فترة النبوة المحمدية ؛ وذلك لأن المتأخرين كانوا مثل أسلافهم من الآباء والأجداد الذي عصوا أمر ربهم، وشقوا عصا الطاعة على أنبيائهم. فآذوهم وكلفوهم العنت والتضييق فقال سبحانه :﴿ ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ﴾ التولي الإعراض عن دعوة الله في استكبار وجحد. تولوا عن أوامر الله وتعاليمه إلا القلة القليلة منهم. والجملة الاسمية ﴿ وأنتم معرضون ﴾ في محل نصب حال. أي توليتم عن أمر الله وأنتم في ذلك معرضون، من الإعراض وهو نفس التولي، وقيل : الإعراض يكون عن طريق القلب، لكن التولي يكون بالجسم.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٠..
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٥..
٤ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٣٧ وفتح القدير جـ ١ ص ١٠٨..
وقوله :﴿ تسفكون ﴾ من السفك وهو الإراقة والصب. أما الديار فمفردها دار هي وهي مؤنثة سميت بذلك ؛ لدورانها حول البيت الذي يقام فيها.
قوله :﴿ ثم أقررتم وأنتم تشهدون ﴾ إقرارهم كان واقعا على الميثاق الذي طوقوا به أنفسهم وكانوا على ذلك شهودا.
﴿ أنتم ﴾ في محل رفع مبتدأ. ﴿ هؤلاء ﴾ اسم إشارة في محل رفع خبر المبتدأ. و ﴿ تقتلون ﴾ جملة فعلية في محل نصب حال من " أولاء " وقيل :﴿ أنتم ﴾ مبتدأ، و ﴿ تقتلون ﴾ في محل رفع خبره. و ﴿ هؤلاء ﴾، في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره : أعني١ والمعني أنكم أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم من العهد في التوراة بعد القتل والتهجير من الديار. وغير ذلك مما ذكرته الآية. فيقتل بعضكم بعضا وتخرجون فريقا منكم من ديارهم بغير حق، وأنتم تتعاونون عليه بالباطل والظلم. وقصة ذلك أن بني إسرائيل في المدينة وهو بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة كانوا فريقين متناحرين متحاربين. فريق منهم مع الأوس وفريق آخر مع الخزرج، وكلا الأوس والخزرج من العرب المشركين الذين لا كتاب لهم ولا ملة إلا عبادة الأوثان. وقد كانت الحرب سجالا بين الأوس والخزرج ؛ لأسباب تقوم على العصبية والأنانية والجهالة. وكان أحد الفريقين من يهود ممالئا للأوس ضد الخزرج يناصرونهم ويظاهرونهم عليهم. والفريق الآخر كان ممالئا للخزرج ضد الأوس، فإذا نشب بين الأوس والخزرج قتال انحاز كل من طرفي يهود نحو حليفه من العرب المشركين " الأوس والخزرج " وقاتلوا إلى جانبهم ضد إخوانهم من بني إسرائيل فقتلوا منهم فريقا وأخرجوا منهم فريقا آخر من ديارهم وهم يتظاهرون عليهم بالإثم والعدوان. والتظاهر التعاون، والعدوان تجاوز الحد أو الإفراط في الظلم. وبذلك كان كل فريق من اليهود يظاهر حليفه من العرب بما يكون في ذلك من قهر للفريق الآخر من اليهود وإخراج لبعضهم من بلاده.
قوله :﴿ وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾. ﴿ أسارى ﴾ مفردها أسير وهو من الإسار بمعنى القيد الذي يكون وثاقا لمن يقع في الأسر. و ﴿ تفادوهم ﴾ من المفاداة أو الفداء وهو أن يطلب من الأسير دفع فدية مالية لتسريحه. كان اليهودي الذي يحارب إلى جانب حلفائه من العرب المشركين إذا وقع في أسر خصومه من اليهود الآخرين، فإنهم يضطرونه لدفع فدية من المال ؛ كيما يسرحوه مع أن التوراة تحرم أن يقتل اليهود بعضهم بعضا، أو أن يخرجوا أحدا من دياره أو يظاهروا عليه خصومهم من الآخرين. وبعبارة أخرى : فإن التوراة تفرض على اليهود من خلال هذه الآية أربعة فروض هي : ألا يقتل بعضهم بعضا، وألا يخرج بعضهم بعضا من دياره، وألا يظاهروا غيرهم على بعضهم، وأن يفادوا أسراهم بالمال إذا وقعوا في أسر خصومهم. وبعبارة أخرى، ثمة عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم. وهذه عهود أربعة أخذت عليهم : ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم. وهذه عهود قد واثق الله بني إسرائيل بها في التوراة، لكنهم قد نقضوا كل هذه العهود باستثناء المفاداة التي تحققت على نحو يقوم على التحيل والتناقض. فهم قاتلوا إخوانهم في الملة، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا المشركين عبدة الأوثان عليهم، ثم فادوهم بالمال. لا جرم أن ذلك التواء وتناقض يكشف عن سلوك فاسد مضطرب. سلوك فيه مخالفة صريحة لما جاء في التوراة، فكيف يتطابق الإخراج والإيقاع في الأسر مع المفاداة بالمال لفكاكهم من الأسر ؟ ! إن ذلك نكول صريح عن شرع الله. أو هو ضرب من تقسيم الملة إلى ما يؤخذ وما يترك !.
أما قوله :﴿ وهو محرم عليكم إخراجهم ﴾ الواو للحال والجملة الإسمية بعدها في محل نصب حال. هو ضمير في محل رفع مبتدأ. ﴿ محرم ﴾ خبره،
﴿ إخراجهم ﴾ بدل من الضمير المبتدأ. وقيل في إعراب هذه الجملة غير ذلك٢.
أما قوله :﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ﴾ في ذلك استفهام ينطوي على توبيخ ونكير لفعلة هؤلاء الشنيعة. وهي فعلة تحتسب في عداد الكفر الصريح المكشوف. وهو إيمان هؤلاء القوم ببعض ما جاء في الكتاب والعمل به، ثم كفرهم ببعض الآخر وإعراضهم عنه.
والذي يلفت النظر هنا أمران يكشفان عن حقيقة الكفر في غاية من الوضوح الحاسم والذي لا يقبل المداهنة أو اللين.
الأمر الأول : أن إعراض هؤلاء القوم عن بعض ما جاء في كتابهم وانثناءهم عن العمل به لهو الكفر نفسه. حتى إن مجرد التصديق الباهت الذي يظل حبيس النفس ليس له أدنى وزن أو أهمية في ميزان الله تعالى، فلا خير في تصديق إذا لم يكن مقترنا بالعمل تمارسه الجوارح ؛ وذلك ليعلم الإنسان المؤمن في ضوء هذا التصور الفاصل أنه لا يتاح له أن يعبر حومة المؤمنين الصادقين إلا إذا كان عاملا بما رسخ في ذهنه من مدركات وتصورات.
الأمر الثاني : أن الإيمان والعمل ببعض ما جاء في الكتاب لا يغني عن الإيمان والعمل به جميعا. فإن قضية الإيمان لا تتجزأ، والإيمان حقيقة متكاملة متسقة لا تعرف التجزئة والانقسام، وأي إيمان أو تصديق بجزء من العقيدة لا يمحو عن المرء عار الكفر والجحد بالعقيدة كلها. وكذلك فإن العمل ببعض ما جاء في الكتاب ثم الإعراض عن العمل ببعضه الآخر لا يرد عن المرء وصمة الكفر التي كتب الله أنها تدفع المدبرين عن صراط الله ومنهجه الواضح المتسق. هؤلاء الذين يُقبلون على الله بوجه ثم يُقبلون على غيره بوجه آخر. أو الذين يفرقون في العبادة ليجعلوا جزاء منها لله وأجزاء أخرى لغير الله من الأرباب المنتشرة في الأرض.
لذلك فإن الله ينكر على هؤلاء الشاردين في توبيخ غليظ جنوحهم إلى غيره من مختلف الأرباب. وفي ذلك إعلان حاسم يكشف عن حقيقة الإيمان في مفهومه الصحيح المتسق وهو أنه لا مساغ للتفريط بجزء من الدين، وأن العمل بجزء آخر منه لا يرد عن المرء وصمة الكفر الشنيع.
قوله :﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ذلك نذير من الله شديد لأولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهم الذين يجترئون من الدين بعضه فيعملون به، ثم يعرضون عن بعضه الآخر. أو الذين يصدقون ببعض ما في الدين من قضايا أو أركان أو معان، ثم يرتابون ببعض الآخر، مجاراة لما تهواه أنفسهم أو اكتفاء بما يروق لهم من بعض المعاني أو الأحكام. ومثل هذا الإيمان المنتقص لا يغني عن حقيقة الإيمان الكبرى كالذي بينا آنفا. وبذلك فإن الله يتهدد هذا الصنف من الناس بوخيم العاقبة التي تؤول إلى شطرين من العذاب. أولهما : الخزي والعار في هذه الدنيا يصم الله بهما من يعرضون عن بعض ما جاء في منهجه سبحانه ؛ لأن من أعرض عن بعض ما في المنهج كان كمن أعرض عن المنهج كله. لكن صور الخزي والعار في هذه الدنيا يندرج في خصمها كل أصناف الذلة والصغار والهوان، أو الفقر والجنوح والمعاناة وكل مظاهر المضانكة التي يذوق خلالها الشاردون عن منهج الله ألوان البلاء والنصب والمرارة.
وثانيهما : هو أشد فظاعة وعتوا وهو العذاب يوم القيامة. العذاب الذي يشم كل ظواهر الشدة والهول، والذي يدنو دونه كل عذاب من أعذبه الدنيا وما فيها من أرزاء وأهوال تمر سراعا. إن العذاب يوم القيامة لا يتصوره الخيال، ولا يستيطع الحس أن يستشعره ؛ وذلك للكيفية البالغة في الإذهال والتي لا قبل للخلائق بها. إنه العذاب الحارق اللاهب الذي تتسجر فيه جسوم العصاة والأشرار الذين يشردون عن منهج الله ليلاقوا في النار من سوء المصير وفادح الويل ما لا يتصوره عقل بشر ولا يطيقه مقدور كائن كيفما كان ! !.
ذلك الذي يتوعد الله به عباده الناكبين عن صراطه الشاردين عن منهجه وهم جميعا بين يديه وفي قبضته فيعلم ما في صدورهم من أسرار وأستار إن خفيت على الكائنات جميعا فإنها لا تخفى عليه سبحانه.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٥..
لقد بعث الله النبيين من بعد موسى لهداية بني إسرائيل وترشيدهم إلى الحق والخير، وكان أخرهم عيسى المسيح الذي جاءهم بالمعجزات الحسية المستبينة وبالدعوة إل المودة والتسامح وطيب القلوب وأن يؤوبوا إلى حقيقة التوراة دون تحريف أو تزييف، لكن ذلك كله قد شق عليهم وأحنقهم فبيتوا في قلوبهم السوء والرغبة في الخداع والغدر، فانقلبوا مستكبرين عتاة يتطاولون على النبيين بسوء القول، ثم يميلون عليهم ميل الطغاة المجرمين فيقتلوهم قتلا ؛ ذلك لأن الرسل قد جاؤوا بالحق وبما يخالف أهواء بني إسرائيل وبإلزامهم بأحكام التوراة التي تصرفوا في مخالفتها والتلاعب بنصوصها ومعانيها.
وليوافق ذلك ما يهواه بنو إسرائيل الذين مردت نفوسهم على التحريف في الكتاب واصطناع ما يروق لهم من ديانة وتعاليم. من أجل ذلك لم يستطيعوا طوق ما جاء به أنبياؤهم المرسلون فانفتلوا يكذبون تارة ويعتدون عليهم بالقتل تارة أخرى، وما فتئت هذه الوصمة تستحوذ على طبائع يهود حتى جاء النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ) فكادوا له كيدا وأرادوا قتله بالسم في خيبر : فقال عليه الصلاة والسلام في مرض موته : " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ١ وفي ذلك يقول سبحانه :{ أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) الهمزة للاستفهام. والفاء للعطف. وكلما ظرف زمان. فريقا مفعول به منصوب بقوله كذبتم. وفريقا الثاني منصوب بقوله تقتلون. وقدم المفعول به للاهتمام به٢.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٠٦..
قالت اليهود للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حينما دعاهم إلى التوحيد والإسلام ﴿ قلوبنا غلف ﴾ جمع أغلف. والقلب الأغلف كأنما أغشي غلافا فهو لا يعي ولا يفقه. والقلوب الغلف يعني عليها أغطية أو أغشية تغشاها وتحيط بها فتسترها عن الفهم والتمييز. وقال ابن عباس : أي قلوبنا ممتلئة علما فلسنا بحاجة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمه. وقيل : غلف جمع غلاف. أي أن قلوبنا أوعية للعمل فكيف يعزب عنها علم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ١.
هكذا يقولون في سفاهة وعتو وهم يعلمون أنهم كاذبون مبطلون. ومن أجل ذلك استحقوا من الله اللعن وهو الإبعاد والطرد من مواطن الخير، وذلك بسبب ما أظهروه من كفر صراح.
وقوله :﴿ فقليلا ما يؤمنون ﴾ قليلا منصوب ؛ لأنه صفة مصدر محذوف. وما زائدة. والمعنى أن هؤلاء الجاحدين الكفرة لا يؤمنون بغير القليل مما معهم من كتاب ويكفرون بأغلب ما فيه. وقيل : إنهم لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، أي لا يؤمنون أقل إيمان. فالمراد بالقلة هنا النفي. والمعنى : لا يؤمنون أصلا. كقوله :﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ أي لا يشكرون أصلا٢.
٢ - البيان الأنباري جـ ١ ص ١٠٦ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٦١..
المقصود بالكتاب هو القرآن، فلما جاءهم وفيه التصديق لما معهم من كتاب وهو التوراة وقد كانوا أيضا يستفتحون على الذين كفروا، أي يستنصرون عليهم بمجيء النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ). وفي ذلك يقول عبد الله ابن عباس- رضي الله عنهما- : كانت يهود خبير تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. فكانوا إذا التقوا بهذا الدعاء هزموا غطفان، فلما بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كفروا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وذلك هو شأن يهود في نقضهم للعهود وكذبهم على الله وعلى أنفسهم. فقد كانوا يعلمون في قرارة أنفسهم أن محمدا عليه الصلاة والسلام نبي قد أوحي إليه، وأن القرآن كلام الله المعجز المنزل على هذا النبي الأمي، ومع ذلك كله فإن ديدنهم النقض والزيغ والتكذيب لا لسبب إلا محض الزيغ والهوى والمريض.
من أجل ذلك فقد استوجب هؤلاء الجاحدون الطرد والإبعاد من كل خير، وذلك من خلال اللعن يَصِمُ هذا الصنف من البشر الخائر الفاجر المتردد.
وقوله :﴿ فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ﴾ باؤوا أي رجعوا واستوجبوا، فقد استحق اليهود بعد هذا الإنكار، وجزاء ما اقترفوه من جحد. وتفريط غضبا من الله على غضب، وذلك لفرط زيغهم عن صراط الله وما سجلوه على أنفسهم من مخالفات كبيرة مشينة، منها عبادة العجل، وإبدالهم ما أمروا به من قول وهو حطة فبدلوا ذلك سخرية واستخفافا، ثم قتلهم النبيين بغير حق ومطالبتهم أن يروا الله عيانا وجهرة، وكذلك إنكارهم نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع إقرارهم المسبق بصدق نبوته من قبل أن يأتي، وغير ذلك من المقارفات الكبيرة. من أجل ذلك استحقوا من الله الغضب بعد الغضب، ثم إن لهم من الله العذاب المهين١.
وقوله :﴿ قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ﴾ سؤال فيه إحراج لهم وتوبيخ. فهم إن كانوا على شيء من الحق والإيمان فلم تجرؤوا على النبيين من قبل فقتلوهم ظلما وعدوانا ؟ وهل يجرؤ على قتل نبي من كان يحمل في قلبه ذرة من إيمان ؟ !
أخذ الله على بني إسرائيل العهد أن يستقيموا على صراطه ودينه وأن يعملوا بما في التوراة. لكنهم أبوا وتولوا معارضين مدبرين، كان ذلك بعد أن رأوا الأدلة الحسية على صدق الرسالة وبعد إعلانهم عن التوبة إلى بارئهم والرجوع إلى دينه مرارا حتى تهددهم الله بالجبل إذ رفعه فوق رؤوسهم كأنه ظُلة وأيقنوا أنه ساقط عليهم. ذلك تخويف من الله لبني إسرائيل، وهو تخويف واقع مشهود أرعب قلوبهم وأرعد فيهم المشاعر والأبدان ؛ لكي يصيخوا إلى النذير الذي يغشاهم بالعذاب أو الموت إلا أن يهتدوا ويأخذوا بما في التوراة فينجوا. جاء هذا التهديد مقترنا بقوله سبحانه لهم :﴿ خذوا ما آتاكم بقوة واسمعوا ﴾ أي ألزموا أنفسكم التوراة، واعملوا بما فيها من هداية وتعاليم وذلك ﴿ بقوة ﴾ أي بجد وعزم واجتهاد. وقوله :﴿ واسمعوا ﴾ لا يعني مجرد السمع وحده ولكن الأهم المقصود هو الطاعة. فقد أمرهم أن يلتزموا بالتوراة طائعين مذعنين لله دون ميل أو انثناء أو تردد.
وقوله :﴿ قالوا سمعنا وعصينا ﴾ وذلك على سبيل المجاز فقد لا ينطقون ذلك بألسنتهم حقيقة، وإنما كانت حالهم تنطق به كأنما يقولون سمعنا سماعا مجردا وعصينا أن نعمل بما في الأمر. وقيل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا وقوله :﴿ وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ﴾ أي خالط حب العجل قلوبهم فخلُص إلى صميمها خلوصا. وذلك هو الإشراب الذي يداخل القلب مداخلة تستعصي على الفكاك، وذلك على سبيل الاستعارة التي تتجلى من خلالها الصورة على التمام. وهي صورة القلب الزائغ المتجانف الذي استحوذ عليه حب العجل حتى مرد عليه مرودا شائنا. وفي صدد التعبير بالإشراب يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الفتن تتشربها القلوب تشربا : " تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأيما القلب أشربها نُكت فيه نكتة سوداء " والنكتة العلامة، وقوله :﴿ قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ﴾ بعد الحديث الكريم عن القلوب المريضة التي أشربت حب العجل يأمر الله نبيه أن يخاطب هؤلاء القوم الفساق خطاب التنديد والذم بأنه بئس هذا الإيمان الفاسد الزائف الذي تنطوي عليه صدوركم، وبئس الذي يأمركم به هذا الإيمان من سقيم العبادة والتوجه. وهذا الضرب من الإيمان ليس من الحق أو الهداية في شيء وما هو إلا الباطل والضلالة برمتها.
﴿ أحرص الناس على حياة ﴾ والمفعول الثاني :﴿ أحرص ﴾ وأما الواو بعد حياة فهي تحتمل العطف والاستئناف. وفي تقديرنا أن العطف هو الصواب. وعلى هذا يكون المعنى أن اليهود أحرص الناس جميعا على حياة، وهم كذلك أحرص من الذين أشركوا على حياة. وذلك من باب عطف الخاص على العام. فالخاص المعطوف هم الذين أشركوا، والعام المعطوف عليه هم الناس.
أما القول الثاني وهو أن الواو تفيد الاستئناف فذلك يعني تمام الكلام عند حياة. وتبعا لذلك فالذين يودّ أحدُهم لو يعمّرُ ألف سنة، هم الذين أشركوا. والظاهر أن ذلك مخالف للسياق. فإن الصواب أن يكون المراد أي اليهود أشد خلق الله حرصا على حياة. وهم كذلك أشد حرصا حتى من الذين أشركوا، وهذه حقيقة حال اليهود التي تكشف عنها التجارب والممارسات القولية والعملية التي تكشف عن مدى حرص يهود على حياة. قال الشوكاني في فتح القدير : وتنكير حياة للتحقير. أي أنهم أحرص الناس على أحقر حياة وأقل لبث في الدنيا. فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول ؟ ويرحم الله الأستاذ العلامة سيد قطب، إذ استطاع ببراعته وقدرته على الاستفادة من المعاني القرآنية أن يوقفنا على لفتة عجيبة تتجلى في قوله :﴿ حياة ﴾ وذلك اسم نكرة غير معرفة وتنكير هذا الاسم ﴿ حياة ﴾ يعطي مدلولا واضحا عن طبيعة يهود في رغبتهم في مجرد العيش والحياة، كيفما كانت هذه الحياة. يستوي في ذلك أن تكون الحياة كظيظة بالشرور والمفاسد أو عامرة بالصلاح والخير. فلا قيمة لمثل هذه الاعتبارات في تصور يهود ما دامت الحياة جارية وهي مليئة بالرخاء والشهوات. والمهم أن تكون حياة... أي حياة !
قوله :﴿ يود احدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ﴾ إن حرص يهود يدفعهم للرغبة اللحاحة في طول الحياة والعيش. فإن أحدهم يتمنى ﴿ لو يعمر ألف سنة ﴾ لو مصدرية بمعنى أن. أي أن أحدهم يتمنى أن يمتد عمره ألف سنة، لكن هذا التعمير لا يزحزحه من العذاب. فهو إن عمر ألف سنة أو دون ذلك فإن هذا التعمير لا يغنيه من العذاب شيئا. وقوله :﴿ أن يعمر ﴾ بدل من التعمير الذي يشير إليه الضمير ( هو ) وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ والله بصير بما يعملون ﴾ يصف الله نفسه بأنه عالم بخفايا الأمور فهو سبحانه عالم بالأشياء كلها خبير بها جميعا فلا يندّ عن علمه منها شيء١.
قوله :﴿ فإنه نزله على قلبك ﴾ الضمير في قوله :( فإنه ) يُحتمل عودُه على جلال الله سبحانه فهو الذي نزّل جبريل بالقرآن والهداية والنور على قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ). ويحتمل عوده أيضا على جبريل عليه السلام فهو الذي نزل القرآن على قلب النبي الكريم. والقلب جهاز عظيم القدر والفعالية وهو موضعه الصدر من الإنسان، وهو كذلك مناط العقيدة والإيمان بما يقتضيه ذلك من المعاني والقيم والتصورات، أو على النقيض من ذلك حيث الشك والتكذيب والإلحاد. وقد سمي القلب بذلك، لتقلبه من حال إلى حال ؛ فهو تتأرجح فيه الحال بين الإيمان والإنكار أو بين اليقين والتكذيب. حتى قيل إنه قلّب وذلك لتقلبه.
وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يدحض مقالة يهود بأن جبريل عدو الله. وحاشا لله ! فما كان للوحي الأمين الكريم أن يكون عدوا لله وهو أمين السماء وحامل الأمر من ربه إلى العباد في الأرض. وهو عليه السلام لا ينشط من تبليغ رسالة أو أداء أمانة أو تلاوة كتاب إلا بإذن الله سبحانه. وقد نزل بالكتاب الحكيم على قلب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ﴿ مصدقا لما يبن يديه ﴾ أي أن الكتاب الذي نزله على قلب النبي فيه تصديق لما قبله من كتاب وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتاب. وهو كذلك يحمل للمؤمنين الهداية والبشرى، ويخوف بالتحذير والتنذير.
ويخاطب الله نبيه عليه السلام أيضا أن يعلن للناس عن فداحة المعاداة لأحد من ملائكته أو رسله، فهؤلاء جميعا مصطفون قد اختارهم الله من بين العباد فهو سبحانه يقضي في ذلك كله ولا رادَّ لقضائه، ويحكم ولا معقب لحكمه. وعلى ذلك فإن معاداة أحد من ملائكته ورسله لهي معاداة لله جل جلاله، سواء كان الملك المعادى جبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة، فهو جميعا أبرار أطهار لا يخصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وما معاداة أحدهم إلا وصمة كفر تطبع على قلوب الضالين الفاسقين.
قوله :﴿ فإنه نزله على قلبك ﴾ الضمير في قوله :( فإنه ) يُحتمل عودُه على جلال الله سبحانه فهو الذي نزّل جبريل بالقرآن والهداية والنور على قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ). ويحتمل عوده أيضا على جبريل عليه السلام فهو الذي نزل القرآن على قلب النبي الكريم. والقلب جهاز عظيم القدر والفعالية وهو موضعه الصدر من الإنسان، وهو كذلك مناط العقيدة والإيمان بما يقتضيه ذلك من المعاني والقيم والتصورات، أو على النقيض من ذلك حيث الشك والتكذيب والإلحاد. وقد سمي القلب بذلك، لتقلبه من حال إلى حال ؛ فهو تتأرجح فيه الحال بين الإيمان والإنكار أو بين اليقين والتكذيب. حتى قيل إنه قلّب وذلك لتقلبه.
وفي هذه الآية يخاطب الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يدحض مقالة يهود بأن جبريل عدو الله. وحاشا لله ! فما كان للوحي الأمين الكريم أن يكون عدوا لله وهو أمين السماء وحامل الأمر من ربه إلى العباد في الأرض. وهو عليه السلام لا ينشط من تبليغ رسالة أو أداء أمانة أو تلاوة كتاب إلا بإذن الله سبحانه. وقد نزل بالكتاب الحكيم على قلب النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ﴿ مصدقا لما يبن يديه ﴾ أي أن الكتاب الذي نزله على قلب النبي فيه تصديق لما قبله من كتاب وهو التوراة والإنجيل وغيرهما من كتاب. وهو كذلك يحمل للمؤمنين الهداية والبشرى، ويخوف بالتحذير والتنذير.
ويخاطب الله نبيه عليه السلام أيضا أن يعلن للناس عن فداحة المعاداة لأحد من ملائكته أو رسله، فهؤلاء جميعا مصطفون قد اختارهم الله من بين العباد فهو سبحانه يقضي في ذلك كله ولا رادَّ لقضائه، ويحكم ولا معقب لحكمه. وعلى ذلك فإن معاداة أحد من ملائكته ورسله لهي معاداة لله جل جلاله، سواء كان الملك المعادى جبريل أو ميكال أو غيرهما من الملائكة، فهو جميعا أبرار أطهار لا يخصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وما معاداة أحدهم إلا وصمة كفر تطبع على قلوب الضالين الفاسقين.
ثم يعلن الله جلت قدرته أنه لا يكفر بهذه الدلائل والبراهين إلا الفاسقون. والفاسقون من الفسق وهو الخروج. والفاسق الذي يخرج عن صراط الله وعن منهجه القويم. وتسمى العرب الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من حجرها. والفاسقون أو الفسقة والفساق من الفسق كما بينا فكلهم خارجون عن تعاليم الله وعن دينه المستقيم. قال ابن عباس في سبب نزول قوله :﴿ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات ﴾ هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، ما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها، فأنزل الله هذه الآية١.
ذلك بيان لنكث يهود المواثيق ونقضهم للعهود التي طالما ألزموا أنفسهم بها. والله سبحانه ينكر عليهم هذا الطبع الفاسد فيسأل في إنكار وتنديد ﴿ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ﴾ الهمزة للاستفهام بمعنى التوبيخ والواو للعطف. وكلما تفيد الشرط. فكأن هذا الخلق الذميم بات فيهم طبعا متمكنا وديدنا قد مردت عليه نفوسهم وأعصابهم فما عادوا يوفون بعهد أو ميثاق. فما يكون من ميثاق تعقده يهود إلا وينبذه فريق منهم. والنبذ الإلقاء والاطراح.
قوله :﴿ بل أكثرهم لا يؤمنون ﴾ أكثر هؤلاء القوم مكذبون رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أن التوراة قد احتوت ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام والأمر باتباعه ومؤازرته. يقول سبحانه في مثل ذلك :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾.
قوله :﴿ كأنهم لا يعلمون ﴾ نبذ هؤلاء التوراة بميلهم عما فيها من تصديق لنبي الإسلام ومضوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ؛ كيلا يصيخوا لنداء الحق وكأنهم لا علم لهم بحقيقة الأمر مع أنهم على علم سابق بالحقيقة التي كانوا يقفون عليها وهم يقرؤون التوراة. ومن أصدق ما يجيء في هذه القضية قول الله عن هؤلاء القوم في القرآن :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾.
أما الذي كانت الشياطين تتلوه على عهد سليمان فهو السحر الذي قيل إن الشياطين كانت تتبعه وتقرأه على الناس زاعمين أنه من صنع سليمان. والحقيقة أن ذلك السحر ما كان من صنع سليمان، بل إن من كيدهم وخبثهم. وحقيقة المسألة- فيما ذكره ابن عباس- أن سليمان عليه السلام قد دفن تحت كرسيه ما اطلع عليه من كتبهم في السحر. ولما توفي عليه السلام ظهر الإنس والجن على الكتب، وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخذوا به وجعلوه دينا لهم، فأنزل الله تكذيبا لهم، فقال سبحانه :( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) وفي هذا دلالة على أن السحر ضرب من الكفر يورد المتشبثين به موارد الشرك والضلالة. وكذلك فإن الآية تنفي أن يكون السحر من صنع سليمان، ولكنه من صنع الشياطين فهم الذين اختلقوه وابتدعوه، وهم كذلك الذين افتروا على سليمان بقولهم : إنه كان يخفي تحت كرسيه سحرا. وحاشا لله فما كان لنبي أن تكون له أدنى علاقة بسحر، ولكنها النبوة الصادقة الميمونة، والوحي القدسي الكريم الذي يتنزل على هذا النبي المقصود بخبر السماء.
وبذلك فإن السحر لهو من اختلاق الشياطين الذين يعلّمون الناس إياه. وكذلك يعلمونهم كما قال سبحانه :﴿ وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ﴾ وما نريد أن نقول في ذلك شططا، ولا نفلت العنان للقلم والكلام في هذه المسألة فنذهب بعيدا إلى ما يقرّبنا من الزلل.
والذي نستطيع ذكره في توضيح هذه القضية ببساطة أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل الله على الملكين ببابل وهما هاروت وماروت، بدل من الملكين.
أما الذي أنزل على هاروت وماروت ببابل فكان سحرا، وهو ابتلاء من الله للناس على سبيل الفتنة، ويكشف عن هذا المدلول قوله تعالى :﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ﴾. وعلى هذا فإن سليمان لم يكفر، وكذلك فإن الملكين ببابل لم يكفرا، لكن الله جعلهما ببابل وأنزل عليهما السحر، فتنة للناس وليبتليهم بهما وبما أنزل عليهما. ويدل على ذلك قولهما لمن يأتيهما من الناس :( إنما نحن فتنة فلا تكفر فكأنهما يشرحان للناس ما أنزل عليهما من بلاء وفتنة ثم يحذران كذلك من اتباع السحر.
ذلك الذي نستطيع ذكره هنا ولا نمضي في هذه القضية أكثر من ذلك، خشية الزلل والتكلف. وقوله :﴿ فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ﴾ يراد بواو الجماعة في قوله ﴿ فيتعلمون ﴾ " السحرة " فهم الذين يقبلون على الملكين هاروت وماروت ليأخذوا منهما السحر من غير أن يعبأوا بالتحذير والنصيحة المقدمين من هذين الملكين قبل التعليم. بل كان السحرة يتعلمون منهما هذا الفن المحظور رغم النصيحة والزجر، ثم يمضون في الناس يفرقون بين المرء وزوجه بسحرهم والنفث فيهم.
قوله :( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) ذلك نفي من الله لوقوع الضرر عن طريق السحر. والضمير ( هم ) بعد يعود على السحرة وقيل على اليهود، وقيل على الشياطين.
والمهم في ذلك أن هؤلاء الأشقياء لن يوقعوا بسحرهم ضررا بأحد ( إلا بإذن الله ) أي بإرادته وقضائه، لا بأمره فإن الله سبحانه لا يأمر بالشر والباطل، لكنه سبحانه لا يندّ عن إرادته وقضائه شيء أو حدث.
وفي الآية كذلك تقرير بأن الذين يمارسون السحر إنما يتعلمون ما ليس لهم فيه نفع أو خير، ولكنه يعود عليهم بالضرر في هذه الدنيا حيث الإهانة والزراية والنكال الذي يجب أن يحيق بالساحر المفتري الدجال. وكذلك فإن الضرر يعود عليهم في الآخرة حيث العذاب الأشد الذي يحيط بهذا الصنف من البشر الكاذب المحتال.
وقوله :﴿ ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ﴾ يؤكد الله جلت قدرته أن هؤلاء اليهود يعلمون ألاّ خلاق لمن آثروا السحر على دين الله القويم الذي جاءهم وهو
الإسلام والخلاق هو النصيب واللازم في ﴿ لمن اشتراه ﴾ لام الابتداء. من بمعنى الذي في محل رفع مبتدأ. وخبره قوله :﴿ ما له في الآخرة من خلاق ﴾ واشتراه، صلة الموصول١.
وقوله :﴿ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ﴾ يندد الله سبحانه بما باعث به يهود أنفسهم للشيطان حينما رضوا بالسحر بدلا من دعوة الحق التي دعاهم إليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ). فبئس ما صنع هؤلاء من صفقة خاسرة سوف تودي بهم إلى الهلاك والتخسير لو كانوا يعلمون ذلك.
ولا بد هنا من كلمة في موقف الإسلام من السحر. فهل هو حقيقة أم غير ذلك ؟ وما حكم الشرع في الساحر ؟ وهل يباح العلم بالسحر ؟
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن السحر حقيقة، وأنه موجود بدليل قوله سبحانه في السحر والسحرة :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ﴾ وغير ذلك من نصوص تتضمن وقوع السحر بالفعل، وخالف المعتزلة وأبو حنيفة في ذلك، وذهبوا إلى أنه لا وجود للسحر أصلا. وهو لا يعدو في طبيعته وحقيقته دائرة الخيال والتوهيم. واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام والسحرة لما ألقوا حبالهم وعصيهم :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ﴾ وبذلك فإن السحر ضرب من التخيل الذي يراود تصور الإنسان.
على أن السحر من حيث الحكم الشرعي معدود من الكبائر التي نهى عنها الدين أشد النهي ؛ لما في ذلك من توهيم للناس وحملهم على التصديق بقدرة البشر على اختلاف المعجزات أو ما يشبهها. وفي ذلك من التخليط والإلباس ما يوقع الناس في الحيرة والشك والزعزعة في العقيدة. وعلى ذلك فقد حذرت الشريعة من السحر والسحرة، وتوعدت من يتلبس بهذه الكبيرة بالعذاب الشديد. يبدو ذلك من حديث السبع الموبقات التي حذر منها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي : " الشرك بالله والسحر.. " ويقول عليه الصلاة والسلام : " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد|.
وعلى هذا ذهب إلى تكفير الساحر طائفة من السلف. وقيل : بل لا يكفر، ولكن وحده ضرب عنقه ؛ لما رواه أحمد والترمذي عن جندب الأزدي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " حد الساحر ضربه بالسيف " وروى الشافعي وأحمد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة٢.
أما استعمال السحر فإنه يوجب العقاب عند بعض العلماء على الخلاف. فقد ذهب الإمامان مالك وأحمد إلى وجوب قتل الساحر الذي يستعمل السحر، وقد ثبت في حقه ذلك. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى عدم قتله، واشترط الشافعي لذلك أن يقتل الساحر بسحره أحدا، فإذا لم يقتل أحدا فلا يجوز قتله. واشترط أبو حنيفة لقتله أن يتكرر منه القتل عن طريق السحر، أو أن يقر بالقتل فعلا٣.
وفي توبة السحر خلاف كذلك. فقد اتفق الأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد على عدم قبول التوبة من الساحر باعتباره كافرا. وذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى قبول توبته إلا إذا ظهر منه ما يوجب الكفر.
أما العلم بالسحر دون استعماله ؛ وذلك لتجنبه واتقائه فإنه جائز، وذلك الذي ذهب إليه بعض أهل العلم ؛ استنادا إلى قوله تعالى :( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) ومجرد العلم بالسحر لا يضر، بل ينفع، فإنه يمكّن العالم به من التفريق بينه وبين المعجزة ؛ كيلا يخلط الناس بين الأمرين.
وقد رُد ذلك بأن تعلم السحر حرام، فقد ذهب أكثر العلماء إلى أن مجرد التعلم قبيح عقلا، وهو كذلك حرام من الوجهة الشرعية، بل إن تعلم السحر من أجل استعماله كفر، وقالوا أن الاستدلال بتلك الآية ليس في هذا الموضع ؛ لأن تلك إنما دلت على امتداح العالمين بأمور الشرع، وليس السحر من الشرع في شيء٤.
هذه خلاصة وجيزة في قضية السحر نكتفي بها على ما بيناه دون تفصيل.
٢ - تفسير ابن كثير جـة ١ ص ١٤٤..
٣ - المغني لابن قدامة جـ ٧ ص ٦٤٤ والمجموع شرح المهذب للنووي جـ ١٨ ص ٣٨٥، ٣٩٠ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ١١٣..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٤٤-١٤٧ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤٦ والكشاف جـ ١ ص ٣٠١..
وفي تأويل آخر أن اليهود إذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا. قالوا : راعنا. وذلك على سبيل التورية فهم يقصدون من " راعنا " الرعونة وليس المراعاة أو الالتفات إليهم. فوافق ذلك ما كانوا يقولونه بلغتهم مما يعني الرعونة ومنها الأرعن أي الخفيف السفيه المتطيش. وحاشا لله ! فما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلا القمة البالغة في سعة الإدراك، وفرط العبقرية والذكاء، وتمام الحكمة والاتزان، وجمال الخلق والطبع، وروعة الشجية والفطرة.
وهذان القولان في تأويل هذه الآية متكاملان متقاربان وقد تضمنتهما بتفصيل أكثر آية النساء ﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكنا خيرا لهم وأقوم ﴾.
وعلى هذا فقد أمر الله المسلمين ألا يقولوا للنبي ﴿ راعنا ﴾ ولكن يقولوا ﴿ انظرنا ﴾ أي أقبل علينا وانظر إلينا ؛ لما في ذلك من جلال الخطاب الذي يتحقق به الاحترام للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بدلا من الكلمة المريبة تندلق من أفواه يهود وهي تحتمل الخبيث من المقصود نحو النبي الكريم
( صلى الله عليه وسلم ).
ثم يؤكد الله على السمع، ويحذر من معصية أمره سبحانه، فإن معصيته تسوق إلى العذاب الذي سيمنى به الكافريون ﴿ واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ﴾ أي وأحسنوا سماع ما يكلمكم به نبيكم بآذان واعية وقلوب حاضرة ؛ حتى لا تحتاجوا إلى الإعادة وطلب المراعاة.
قوله :﴿ والله يختص برحمته من يشاء ﴾ الله جلت قدرته يختار لرسالته ودينه من يصطفي من العباد. فقد اختار من بين الأمم لحمل هذا الدين العظيم هذه الأمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس، واصطفى من بين العباد هذا النبي الأمي محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ليكون أول مبلغ للرسالة فقام في الناس على خير ما يكون عليه التبليغ والأداء من غير تقصير، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
والله سبحانه هو المتفضل المنّان الذي ملأت آلاؤه أرجاء الوجود جميعا بما في الوجود من ملائكة وجن وإنس وكائنات ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾.
ويبدو هذه التعريفات أنها متقاربة وذلك من حيث إن النسخ يعني الإزالة أو التبديل، فهذه المعاني شديدة التقارب بما ذكره الأصوليون من تعريف للنسخ. أما النسخ من حيث ضروبه وأقسامه على التفصيل، ومن حيث المواضع التي يقع فيها النسخ، ومن حيث النسخ بين القرآن والقرآن، ثم بين القرآن والسنة، وغير ذلك من مسائل تتعلق بالنسخ، فإن موضع ذلك كله في كتب الأصول حث البيان المفصل والشامل لهذه القضية الهامة.
وعلى العموم فإن الآية تعني أنه : ما نرفع حكم آية، سواء كان الرفع واقعا على التلاوة والمعنى كليهما، أو على التلاوة دون المعنى، أو المعنى دون التلاوة، ﴿ أو ننسها ﴾ فإن الله جلت قدرته لسوف يأتي بخير منها أو مثلها. وقوله :﴿ ننسها ﴾ معطوف على ﴿ ننسخ ﴾. وفي قراءتها وجهان وهما : ننسأها بالهمز، وننسها بغير همز. وقراءتها بالهمز تعني : نؤخرها فلا ننسخها، وهو من الإنسان أو التأخير، وفعله أنسأ بمعنى أخر. نقول أنسأ الله أجلك أي أخره ليطيل في عمرك٣.
وأما قراءتها بغير همز من النسيان وفعله نسي. أي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان الله سبحانه ينسيه ما يشاء من آيات لحكمة يعلمها ويقدرها هو جل ثناؤه. وفي تعزيز هذا المعنى يستشهد سعد بن أبي وقاص بقوله تعالى :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ وقوله :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ وفي تقديرنا أن هذا هو الصواب ليكون معنى الآية : أن الله لا يقدر لعباده رفعا لآية أو إباحة لتركها بعد نسيان إلا ويأتي بمثلها أو خير منها من الآيات.
وقوله :﴿ نأتي بخير منها أو مثلها ﴾ لا يفهم من هذا أن بعض القرآن خير من بعضه الأخر، فإنه كله خير، وهو كله مقدور من عند الله جاء متضمنا لجوانب الخير جميعا، وهو في روعته وبلاغته وكمال معناه يستوي أوله ووسطه وآخره، فهو في أعلاه عظيم باهر وفي أسفله رفيع مشرق. ومعنى الخير هنا الذي يأتي به الله فهو ما كان أنفع للعباد مما كان لهم به خير. فالله جل ثناؤه يقرر نسخ الآية أو نسيها ليخلفها بما هو أكثر نفعا للناس أو بما يكون مساويا له في النفع في هذه الدنيا وفي تلكم الأجلة الباقية.
قوله :﴿ ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ﴾ قوله :﴿ ألم ﴾ في الآيتين سؤال ينطوي على تقرير لحقيقة ما ورد في هاتين الآيتين، لكن العلاقة وثيقة بين الاستفهام التقريري هنا وقضية النسخ السابقة. فقد عجبت يهود من ورود النسخ في القرآن وأخذوا يطعنون في صدق نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق القرآن الكريم. مع أنه لا غرابة في مثل هذه القضية، فإن النسخ قد وقع في كثير من الأحكام في التوراة. وليست المسألة هنا غير التعصب والحقد والهوى والعناء. وكم كان أجدى لو رضخت يهود وغير يهود لكلمة الله وتشريعه للنسخ. فليس في ذلك ما يثير عجبا، فإن الله شارع النسخ لهو المقتدر على كل شيء، وهو الذي يملك السماوات والأرض، بل له ملكوت كل شيء فله إقرار ما يشاء ونسخ ما يشاء، وله الحكمة في ذلك من غير معقب ولا نديد.
قوله :﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ الولي من الولاية وهي السلطان. يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ هنالك الولاية للحق الحق ﴾ أي له السلطان والهيمنة دون أحد من خلقه. فإنه ليس للناس سوى الله سلطان أو نصير يركنون إليه أو يستمدون منه العون والمدد. فهو –جل ثناؤه-يهب العزة لمن يشاء ويمنن بالقوة والمنعة يكتبهما لمن أراد من عباده.
٢ - الموافقات للشاطبي جـ ٣ ص ٣٠٧ والمحصول للرازي جـ ١ ص ٥٢٦ والمستصفى للغزالي جـ ١ ص ٦٩..
٣ - القاموس المحيط جـ ١ ص ٣١..
إن هذا الإنسان الصالح، في طبعه ونفسه وسلوكه، والصالح في فكره وما حواه العقل من مذخور المعرفة والتصور، لهو الذي يثير في نفوس الكفرة المتعصبين اللُّد خصلة الحسد فيتمنون بذلك عودة المسلمين إلى دين غير دينهم، إلى دين أو ملة أخرى تحرفهم عن سلامة العقيدة والفكر، وعن سلامة الوعي والتصور الذي يبعثه الإسلام في الإنسان. يتمنون أن تتجه قلوب المسلمين وعقولهم إلى أية عقيدة أو ديانة أخرى غير الإسلام ؛ ليتسنى بعد ذلك قودهم إلى مباءات الضعف والخور والانحلال والتبعية فينماعوا في الأرض شاردين ضالين حيارى. أو ليتقلبوا ضعافا تابعين تتشبث أهواؤهم بأهل الكتاب وهم يركضون وراءهم ركض اللاهث الذليل المستضعف.
والحسد نوعان : أحدهما مذموم، والآخر محمود. أم المذموم : فهو أن يتمنى المرء أن تكون له النعمة كالتي عند غيره مع رغبته في زوالها من عند هذا الآخر، والتمني في ذاته لا بأس فيه لو لم يكن مقترنا برغبة الزوال للخير والنعمة من عند الآخرين. وهو إحساس يبسط للعيان حقيقة طبع فاسد وبغيض يتمنى معه الحسود لو تنمحق النعمة أو الخير من عند أصحابه.
وأما الحسد المحمود : فهو أن يتمنى المرء ما لدى غيره من الخير والنعمة مع رغبته في دوامها عنده. فهو يجب أن تكون له النعمة كالتي عند غيره، وما في ذلك من بأس، وذلك إحساس فطري معقول لا يصطدم بطبيعة هذا الدين الذي يلائم الفطرة البشرية أعظم تلاؤم، لكنه لا تخالطه أدران الأنانية والأثرة ليتمنى زوال هذه النعم من عند غيره. ويمكن أن يطلق على هذا التمني المشروع " الغبطة " وهي تمني ما عند الآخرين مع الرغبة في بقائها عندهم١. وللاستدلال على وجود هذا الضرب من الحسد المشروع يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " ٢.
قوله :﴿ من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ أي أنهم كانوا يحسدون المسلمين ويتمنون لهم الضلال والارتداد عن دينهم ولم يكن تمنيهم هذا صادرا عن كتاب لهم ولا أمروا به، بل كان من تلقاء أنفسهم وطبائعهم الحاقدة الحاسدة، هذه الطبائع الملتوية الشاذة التي لا تحب الخير للإسلام أو المسلمين. فهم في حسدهم هذا لا يستندون إلى مبرر أو دليل إلا الكراهية البحتة والحسد الحاقد الممحض. مع أن هؤلاء أعراف الناس بحقيقة النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وذلك لمعرفتهم المسبقة بأنه المبعوث من عند الله ليكون للناس رسولا وهاديا ونذيرا. وهي حقيقة ما كانت تغيب عن أذهانهم لولا الطبع الفاسد وما كان يركم في نفوسهم من حسد. فقد كانوا يتلون في كتبهم السماوية أن هذا النبي مرسل من عند الله، فلا هو بالمنتحل ولا هو بالمفتري.
قوله :﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ يأمر الله عباده المؤمنين أن يظلوا صابرين على الحق مستمسكين بدين الله، فلا تزعزعهم مكائد الكافرين وأذاهم. ويأمر الله كذلك أن يتجاوزوا عن مساءلة الظالمين الكافرين بالعفو والصفح، فلا يؤاخذوهم ولا يحاسبوهم على ما اقترفوه من إضرار وتأذية إلى أن يكتب الله لهم النصر. وقد ذهبت جمهرة كبيرة من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة، نسختها آيات القتال. وذلك كقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾.
وقوله تعالى أيضا :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ويؤيد قولهم بالنسخ هنا قوله تعالى بعد ذلك :﴿ حتى يأتي الله ﴾.
وقيل : إن الآية محكمة ولم يقع عليها نسخ. والمراد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين مدعوون جميعا للصبر على البلاء مما يلحق بهم من ضروب الضرر والتعدي. وذلك هو شأن المسلم ؛ إذ يجلله الخلق الكريم فيبادر بالعفو والصفح عن مساءات الظالمين الذين ما فتئوا يثيرون في وجوه المسلمين الشر والعدوان والأذى.
قوله :﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾ وهذه الحقيقة متسقة تماما مع الوعد السابق في قوله تعالى :﴿ حتى يأتي الله بأمره ﴾ فهو جلت قدرته قد كتب النصر لعباده الصابرين العاملين، وكتب أن الغلبة له سبحانه ورسله ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ وذلك كله على الله هين ويسير ؛ لأنه سبحانه على كل شيء قدير.
٢ - رواه ابن ماجه عن سالم عن أبيه جـ ٢ ص ١٤٠٨..
وكذلك أن تؤدى الزكاة، يدفعها من يملك المال والنصاب إلى الذين يستحقونها من متكففين وعالة وذوي عوز وغير ذلك من وجوه مبينة مشروعة تؤدى فيها الزكاة، وهاتان الفريضتان تتقدمان فرائض الإسلام، وتحتلان مكان الصدارة من حيث الأهمية، وهما يأتيان في طليعة الأعمال الكريمة التي سيجدها العامل أمامه بعد الموت. وسوف لا يجد إذ ذاك غير ما قدمه من خير الأعمال والأقوال والنوايا، وما عدا ذلك من شؤون الدنيا ليس إلا متاعا تتلذذ به النفس حال الحياة حتى إذا جاء الأجل المحتوم، باتت هذه المخلفات والرواسب التي يستمتع به الوارثون.
وجاء في الحديث أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " أيكم مال وارثة أحب إليه من ماله ؟ " قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثة. قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " ليس منكم من أحد إلا مال وارثة أحب إليه من ماله، مالك ما قدمت ومال وارتك ما أخرت ".
وجاء في حديث آخر : " إن العبد إذا مات قال الناس : ما خلّف، وقالت الملائكة : ما قدم " وهكذا يجد المرء ما قدمت يداه في دنياه من صالح القول والعمل، يجد ذلك كله محتسبا له عند ربه من غير نسيان. والله سبحانه عالم بما صدر عن كل إنسان، فلا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن ملكوته من مثقال ذرة ﴿ إن الله بما تعملون بصير ﴾ ١.
يبين الله اغترار كل من الفريقين من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ؛ إذ زعم كل فريق أنه على الحق، وأنه الذي كتبت له الجنة دون غيره من الأمم. فزعمت يهود أن لن يلج الجنة إلا من كان على ملتهم وطريقهم. وفي المقابل زعمت النصارى أنهم وحدهم أهل الجنة، وأن غيرهم من خلائق محذوفون في النار. وهذه المزاعم التي يطلقها كل من الفريقين ليست إلا تمنيات حالمة واهمة تفيض بالحماقة والعمه والغرور الذي لا يستند إلى حقيقة أو برهان إلا الافتراء والسفاهة ؛ ولذلك قال لهم الله في قرآنه متحديا :﴿ هاتوا برهانكم ﴾ فإنهم لا يملكون برهانا من حجة أو دليل على صدق ما يطلقون من مقولات زائفة كاذبة. فلا التوراة الأساسية الصحيحة تحمل مثل هذا التصور الخاطئ المغرور، ولا الإنجيل المبرأ من التحريف يشهد لهذا القول الظالم المختلق.
قوله :﴿ من أسلم وجهه لله ﴾ أي من استسلم لله وخضع. وقيل : من أخلص نفسه لله.
وقد ذكر الوجه هنا لشرفه، فإن الوجه يحتوي على صورة الإنسان المميزة. الصورة الحسنة المنسجمة التي تكشف عن إبداع إلهي كريم خُص به هذا الكائن المفضل وهو الإنسان الذي كرمه الله واختاره من بين الخلائق ليكون عظيمها وسيدها.
وفي الوجه كذلك ظواهر شتى من الخصائص الإنسانية التي كتبها الله لابن آدم، منها السمع والبصر والشم والذوق والنطق. وهي أسباب تتلاقي جميعا في هذا الجزء الأهم من الإنسان وهو الوجه.
ومن خلال الوجه تتراءى للناظر البصير ملامح معبرة مستبينة تكشف عما يجيش في صدر المرء من مكنون، وعما يعتور في أطوائه المستورة من مقاصد. ولا جرم أن تستبين مثل هذه المقاصد حتى توشك القسمات والملامح في الوجه أن تتحدث عنها فتكشفها كشفا.
وقوله :( وهو محسن ) الواو للحال، والجملة الإسمية بعدها في محل نصب على الحال. وفي هذه الآية :( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ) تجتمع حقيقتان متكاملتان لا مناص من اجتماعهما معا وهما الإيمان والعمل. فإسلام الوجه إلى الله جزء من عقيدة الإسلام التي تفرض أن يكون الانقياد والخضوع لله وحده دون سواه. فإذا كانت هذه الحقيقة مركوزة في النفس بات الإنسان في تصوره وإحساسه مشدودا إلى الله بحبل متين وليس مشدودا أدنى شد لأي اعتبار من الاعتبارات أو جهة من الجهات. وهذا هو الأصل الأكبر الذي ينبني عليه هذا الدين. وهو دين شامل ومتسع وكبير يقوم أول ما يقوم على العقيدة المتينة الصلبة التي تضرب بجذورها في أعماق الكينونة البشرية.
أما الحقيقة المكلمة الثانية فهي العمل، وذلك في وقوله :﴿ وهو محسن ﴾ وذلك تعبير يتسم بالشمول والمرونة. فإنه يندرج في مفهوم الإحسان كل وجوه الخير والعمل النافع المثمر. فتلكما حقيقتان وهما الإيمان والعمل المشروع يفضيان إلى استحقاق المرء من الله أجرا كريما. وله بعد ذلك ألا يخاف وألا يحزن ﴿ ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ وخير ما جاء في تفسير ذلك أن المؤمن لدى مفارقته الدنيا لسوف يكون آمنا مطمئنا ؛ فهو لا يحيق به خوف مما يواجهه بعد الموت من أهوال وشدائد، وهو كذلك لا يمسه الحزن أسفا على الحياة عند الفراق. وذلك لعمر الحق عطاء جزيل يمتنّ الله به على العبد المؤمن، وهو عطاء لا يتصوره الإنسان إلا عند معاينته الموت، فيدرك عظمة الخير المقدر في أحلك الساعات وأشدها عسرا. وهو كذلك يتصوره المؤمن وهو يتدبر آيات الله تتحدث عن عرصات يوم القيامة وأهوالها، وما يستقبله بعد الموت من بلايا وثبور وعظائم الأمور.
( صلى الله عليه وسلم ) : فقال رافع بن حرملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله في ذلك الآية. أما قوله :( وهم يتلون الكتاب ) أي أن كلا من الفريقين يتلو في كتابه المنزل إليهم خبر الفريق الآخر وصدق ما أنزل إليهم من كتاب. فاليهود يقرأون في التوراة صدق نبوة عيسى وصدق الكتاب الذي أنزل عليه وهو الإنجيل. وكذلك النصارى يقرأون في الإنجيل صدق نبوة موسى وصدق التوراة التي جاءته من السماء. ولكنهم مع ذلك كله يكذب بعضهم بعضا، ولا يدفعهم لهذا التكذيب والجحد إلا الحسد والكراهية والعناد. لو أن النفوس كانت سليمة من المرض ولم يخالطها اللي والشذوذ لاستطابت كلمة الحق تنطق بها في إخلاص واستقامة وتجرد.
وقوله :( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) والمراد بالذين لا يعلمون يحتمل أربع جهات : أولها النصارى واليهود، وثانيهما الأمم التي سبقت هاتين، وثالثها العرب، ورابعها جميع هؤلاء الذين تنكبوا عن صراط الله المستقيم، والذين ناصبوا نبي الإسلام الحرب والعداء، وذلك هو القول الراجح والله أعلم.
على أن الكافرين من المشركين وأهل الكتاب سيظلون على الدوام في تنازع وشقاق وهم تغشاهم بواعث الكراهية والأنانية والمشاحنة إلى أن تقوم الساعة وإذ ذاك يقضي الله بينهم بالعدل وهو سبحانه يتولى الصالحين وهو أعدل العادلين١.
ولعل هذا المراد الذي ذكره أكثر العلماء أقرب ما يكون إلى الصواب. غير أن مفهوم هذه الآية يمكن انسحابه على كل حداثة تتضمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. فإن صدّ المسلمين عن الصلاة في بيوت الله، والحيلولة بين أهل العلم وكلمة الحق يقولونها على الملأ، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك كله من ضروب المنع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها.
وخراب المساجد تناول كل أوجه الهدم والتدمير أو الإفساد والتلويث أو صد المسلمين ؛ كيلا يقيموا في المسجد شعيرة الصلاة وغيرها من الذكر والقول الحسن. ويتناول كذلك صد المرشدين وأهل العلم من الذين يدعون إلى الله على بصيرة، والذين يبعثون في المسلمين روح الهمة والاستعلاء، ويستنهضون فيهم العزائم والإرادات ؛ لينطلقوا من عقال الضعف والاسترخاء ؛ وليتحرروا من إسار المهانة والتخلف والجهل. إن منع هؤلاء المرشدين العالمين الداعين إلى الله على بصيرة لهو صورة مقبوحة مشهودة من صور الخراب لمساجد الله، وذلك بفعل الأفاكين والدجاجلة من ساسة وحاكمين وغيرهم، أولئك الذين يجهدون أنفسهم في الليل والنهار وهم يتآمرون على الإسلام ؛ ليصدوه عن البشرية ؛ وليحجبوا عن أهل الأرض الاستماع الواعي لكلمة الإسلام في كل القضايا والمشكلات.
قوله :﴿ أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ﴾ ( أولئك )، مبتدأ. وما بعده في محل رفع خبره. والمصدر من ﴿ أن يدخلوها ﴾ في محل رفع اسم كان. ﴿ لهم ﴾ خبر كان ﴿ خائفين ﴾ في محل نصب حال٢. والجملة خبر معناه الطلب، فهي تنطوي على مبدأ وخبره ويفرق بينهما النفي. غير أن الآية تحمل في مضمونها الطلب للمسلمين ألا يمكنوا المشركين من دخول بيوت الله إلا تحت الهدنة والجزاء وهم متهيبون وجلون.
وفي قول آخر أن الآية تتضمن بشارة للمسلمين الأولين بأن الله جلت قدرته سوف يذل المشركين فلا يدخل أحد منهم البيت الحرام إلا على تخوف أن يؤخذ فيقتل، وقد كان ذلك بالفعل. فإنه لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة أمر في السنة التاسعة للهجرة أن ينادي مناد " ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته " ٣.
وقوله :﴿ لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ﴾ قد أعد الله لأولئك المشركين الذين يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والذين يسعون كذلك في خرابها ألوانا منا لخزي والذلة ترهق وجوههم ليبوءوا بسخط من الله وغضب. حتى إذا دخلوا الدار الآخرة واجههم هنالك العذاب الشديد البئيس الذي لا تطيقه طبائعهم ولا جسومهم ؛ لفرط ما يسومون من هول التعذيب الأليم الموجع.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١١٩..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٥٦..
لقد تغيظ اليهود من ذلك أشد تغيظ، وساءهم أن يتولى المسلمون عن قبلتهم الأولى التي كانوا عليها، فزادوا من عداوتهم ونكارتهم للنبي وصحبه، وجعلوا يفترون على النبي ودينه والمسلمين الأكاذيب. ويثيرون من حولهم الأراجيف، يحفزهم إلى ذلك ضغينة وتعصب. وهو تعصب ذميم مسف، يعتمد الصورة والشكل دون الحقيقة أو الجوهر والمضمون. ولا جرم فهو تعصب لا يستند إلى شيء من تفكير سليم أو عقيدة واعية مستبينة سليمة، ولكنه التعصب الفارغ المتبلّد الذي يعتمد الحماقة والسفه، ويستند إلى المزاج والهوى.
والآية تبين للناس جميعا أنه يستوي عند الله أن تكون القبلة صوب جهة أو غيرها، فالجهات كلها من صنع الله وتقديره، وهو سبحانه يملك الأرض والسماء والحياة والثقلين، ويملك السماوات والأرض وما بينهما من أشياء وكوائن وما فوق التراب من أحياء نشطة تنوس أو جوامد ثوابت لا تريم، وهو سبحانه يملك الجهات جميعا بما في الجهات من مشرق ومغرب فذلكم كله لله، وهو محصور وبارز في قبضته وبين يديه. فلا داعي بعد ذلك أن تخاصم يهود في القبلة مادام ذلك كله مقررا بإذن الله وإرادته. فلا ينبغي أن نعبأ بالجهة في مفهومها الحسي، ولكن العبرة في أمر الله وفي تقديره، فهو سبحانه قد تعبّد المؤمنين باتباع القبلة التي ارتضاها وكتبها لهم سواء في ذلك مكة حيث البيت الحرام أو بيت المقدس حيث المسجد الأقصى.
وقوله :﴿ فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾ أينما أداة شرط تجزم فعلين وما زائدة. ﴿ تولوا ﴾ فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والجملة المقترنة بالفاء جواب الشرط. فأينما يتوجه الناس يجدوا أن الله أمامهم. فهو سبحانه لا تحيط به الجهات، ولا تحده الأمكنة والحدود، ويستوي عنده في المكان أو الزمان مشرق ومغرب أو قريب وبعيد، فذلك كله في حكم الله وميزانه سواء.
فلا عبرة بعد ذلك للتشبث بالمكان الحسي المحدود الذي تشنجت عليه يهود فإن المكان والزمان لله. وكيفما كان المكان أو الزمان فإنهما محوطان بقدرة الله وعلمه وهيمنته. ومن الناحية الشرعية فقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ وحيث ما كنتم قولوا وجوهكم شطره ﴾ وقيل : بل الناسخ هو قوله تعالى :﴿ فول وجهك شطر المسجد الحرام ﴾ وذلك يعني أن يتوجه المصلون في صلاتهم نحو الكعبة قبلتهم الأبدية، وفي ذلك إبطال للتخيير السابق الذي يتوجهون بموجبه كما شاؤوا مشرقا أو مغربا.
ولست مطمئنا للقول بالنسخ هنا، بل إنني أرجح أن تكون الآية محكمة. فإنه ليس بالضرورة أن يكون مدلول الآية الخيار في الصلاة بين التوجه نحو المشرق أو المغرب. بل المقصود في الغالب أن تتوجه قلوب العباد ومشاعرهم إلى الله. وأن تظل المقاصد والنوايا مشدودة نحو الخالق سبحانه، ليستقيم العمل ويصفو من درن الشرك والرياء.
وذلك يرتبط أشد ارتباط بقضية العقيدة التي تقوم أول ما تقوم على التوحيد الخالص المبرأ من شوائب الشرك وغبش التصور.
وقوله :﴿ إن الله واسع عليم ﴾ الله جلت قدرته يسع الناس والخلائق جميعا بعونه وإحسانه وتفضله وغفرانه، فهو الكريم المنان الذي تتهاطل آلاؤه وخيراته على الأرض لتشمل الخليقة كلها، فما من كائن إلا وهو عائش في حومة الفضل من الله سبحانه. وهو سبحانه عليم بخلقه، عليم بما تجترحه الكائنات من قول أو عمل وما تكنه الصدور من مكنونات وأسرار، كل ذلك في علم الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء١.
وسبحانه مفعول مطلق يعنى التقديس والتنزيه لله عن نقيصه البنوة والوالدية، فإن الله جلت قدرته متنزه عن الضعف بكل صوره ومظاهره وأشكاله. ومن جملة ذلك اتخاذ الصاحبة- وهي الزوجة- أو اتخاذ الولد ؛ فإن ذلك عنوان الضعف الذي لا يليق بجلال الله وعظمته التي تعلو على كل مظهر من مظاهر النقص أو الضعف.
ومن المعلوم يقينا أن يستشعر الإنسان بعواطفه الضاربة في أعماقه وعروقه حاجته للآخرين، ونخص بالذات حاجته للزوج يشاركه الحياة والعيش ويشاطره الحبور والمضاضة، ويرد عنه مرارة الإيحاش الذي لا يطاق. وكذلك حاجته للولد يستأنس بكلماته العابثة المستعذبة وهو طفل صغير، ويشتد به أزره وهو شاب قوي كبير، ثم يحس أن فيه امتدادا لحياته بعد الممات.
وهذا الإحساس كله لا جرم أن يزجي بالدليل على ظاهرة الضعف التي تخالط طبيعة الإنسان على وجه الأرض. وحاشا لله سبحانه أن ينسب إليه مثل هذا الإحساس، أو أن يُفتات١ على جلالة وسلطانه بمثل هذا الافتيات الفاسد المقبوح. وهو افتيات لا جرم يثير غضب الرب ويبعث على سخطه واشتداد مقته والعياذ بالله.
قال سبحانه في مثل هذا الموقف :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السماوات يتقاطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا أن دعوا للرحمان ولدا ﴾.
ويقول النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) : " قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشمتني ولم يكن له ذلك، فأما : تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا " ٢.
إن الله جلت قدرته غني عن الصاحبة، وغني عن الولد، وغني عن الخلائق كافة. وهو سبحانه يملك الخلائق كافة، بل يملك الحياة والوجود جميعا، وكل ما في الوجود إنما يدور بأمره وتقديره، وهو صائر إلى مآله المقدور ﴿ بل له ما في السماوات والأرض ﴾ كل ما في الكون مملوك لله. كل ما في الأرض وما في السماوات من خلائق وكائنات أحياء وغير أحياء لهو مملوك لله وحده دون شريك من صاحبة أو ولد أو والد. فهو تباركت أسماؤه المتفرد في ملكوت هذا الوجود، فهو المالك لكل مالك، والأكبر من كل كبير. سبحانه.
وقوله :﴿ كل له قانتون ﴾ قانتون مفردها قانت. وهو من القنوت بمعنى الطاعة والإحساس الكامل بالعبودية والخضوع لله٣. ذلك أن كل ما في السماوات والأرض مطيع لله مقر له بالوحدانية.
وقد يتساءل متسائل من غير المؤمن كيف يُحتسبون في عداد القانتين ؟
التأويل المناسب لهذا المسألة أن غير المؤمنين من البشر والجن يحتسبون مطيعين بالنظر لطبيعتهم التي خُلقوا عليها. وهي طبيعة التكوين التي يمضي على أساسها الكائن في حياته، ولا يستطيع أن يتحول عنها البتة. فهي طبيعة أصيلة مفطورة كانت من صنع الله ومن تقديره الذي لا يتخلف.
وعلى ذلك فإن الكائن وهو يتحرك في دائرة من الطبع والغريزة والميول الفطرية إنما يتحرك ضمن الكيفية الأصيلة التي جبل عليها هذا الكائن، وهي كيفية ليست من اصنطاع أحد وإنما هي من صنع الله. وبذلك نقول : إن الكائن قانت لله دائما، يستوي في ذلك أن يكون مؤمنا أو غير مؤمن. فالجميع يتحركون ويتصرفون بناء على فطرتهم وكيفية تخليقهم، هذا التخليق الذي صنعه الله وقدره في الكائنات تقديرا.
أما الخلائق الكثيرة الأخرى من غير ذات العقل فلا ريب أنها جميعا قانتة لله على نحو وكيفية لا يعرفها أحد من الناس إلا من أذِن له الله فأوقفه على حقيقة ذلك. يقول سبحانه في ذلك :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٦٠..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٥٢..
ومن البديع يرد مفهوم البدعة وهي نوعان : بدعة حسنة مشروعة وأخرى سيئة ممنوعة. أما البدعة الحسنة المشروعة فهي ما كانت موافقة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة، فهي بذلك ليست مخالفة لأمر من أمور الشرع أدنى مخالفة، لا صريحة ولا ضمنية تؤول إلى المحظور في النهاية.
ومثال ذلك ما رآه عمر بن الخطاب في البدعة الحسنة، إذ جمع الناس على صلاة التراويح في جماعة بعد أن كان الناس يصلونها فرادى زمن النبوة الكريمة وفي زمن الصديق الخليفة الراشد الأول- رضي الله عنه- وقال عمر في ذلك : " نعمت البدعة هذه ".
أما البدعة السيئة الممنوعة فهي ما كانت مخالفة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة، ويتضمن ذلك كل قول أو عمل لا يقوم على أساس من الشرع معتمد أو جاء على غير مثال سابق من أعمال الصحابة أو أقوالهم فهو بذلك ممنوع شرعا يجب النهي عنه ودفعه.
والبدع السيئة في هذا الزمان كثيرة يصعب التحدث عنها في هذا المجال الذي نعرض فيه لهذه المسألة مرورا سريعا. ومثال البدع السيئة زيارة القبور في أيام العيد من قبل الرجال، فقد اعتاد كثير من المسلمين من خلال أعراف ضالة زيارة القبور في مناسبات معلومة كالعيدين وهما الفطر والأضحى. فهم يذهبون إلى القبور حيث يزور بعضهم بعضا ؛ ليتبادلوا هناك المعايدات أو يعاودون عبارات التعازي من جديد ثم يحتسون القهوة وبعدها ينصرفون.
وكذلك الأساليب التي يمارسها بعض المتصوفين وأصحاب الطرق وأخص منها بالذات " الدروشة " وهي حركة يمارسها المتصوف الدرويش في حالة من الهوس المخبول الذي يجد الدرويش فيها نفسه غير ذي وعي أو ضبط. ومعلوم أن الإسلام ينشر في المرء كل أسباب الوعي والإدراك والضبط، ليكون على بصيرة من أمره، فيعبد الله على علم، وليؤدي رسالته في الناس فاهما حاذقا بصيرا. أما الأساليب البلهاء التي يمارسها الدراويش في حركات مخبولة غير واعية، والتي يفتقد فيها الإنسان كل توازن فهي ليست من الدين في شيء. وكذلك الأذكار المضافة التي يرددها المؤذن بعد عبارات الأذان المشروع، فإنها زيادة عما هو مشروع مما بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة، إلى غير ذلك من ألوان البدع الكثيرة. والله سبحانه أعلم.
وقوله :﴿ وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ قضى بمعنى حكم وقدر أو أراد، إذا أراد الله إمضاء أمر من الأمور أو إنقاذ شيء قرره من قبل، فإنه يحقق ذلك فعلا بقوله :﴿ كن ﴾ وهي فعل تام. بمعنى أحدث. فقوله :﴿ كن فيكون ﴾ أي أحد فيحدث. والمراد هو حصول ما تعلقت به إرادة الله بلا مهلة، وذلك بطاعة المأمور المطيع بلا توقف. وقيل : الكلمة ﴿ كن ﴾ تجري على الأمور كلها. فلزم بذلك أن تأتي الكلمة على الجمع ؛ لأنه إذا قال لكل أمر كن ولكل شيء كن فهن كلمات على الجمع، لا المفرد. وهو المراد بقوله عليه السلام : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " وبهذه الكلمة أوجد الله عز وجل عيسى عليه السلام من غير أب. قال سبحانه :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾.
وبهذه الكلمة كذلك أوجد الله من خلق منذ القديم، ويوجد أيضا من يخلق حتى يرث الأرض والسماوات ومن فيهن. وهي كلمة الله التامة التي يحقق بها ما يريد من إبداع الخلق أو فعل أو أمر. وهو سبحانه بعد ذلك له ملكوت كل شيء، ولا تملك الأشياء والكائنات حيال قوله :﴿ كن ﴾ إلا الإذعان المستسلم الكامل، والتنجيز المحقق الفوري استجابة للأمر الأكبر من رب العالمين١.
المقصود بالذين لا يعلمون هم مشركو العرب. وذلك الذي نميل إليه ونرجحه مع أنه قيل إن المقصود بهم اليهود، وقيل النصارى، لكن سياق الكلام يبين رجحان الأول، فقد قال المشركون العرب على نحو من الإحراج والتحدي للنبي :﴿ لولا يكلمنا الله ﴾ ولولا هنا أداة تحضيض بمعنى هلا. أي يكلمنا الله تكليما فنسمع ذلك سماعا نطمئن به، وهلا أتيتنا يا محمد بآية – أي علامة- دالة على صدق دعوتك ورسالتك ؟ هكذا يطلب السفهاء المعاندون الجهلة ! وهو مطلب لا ينم على رغبة في التثبت والتصديق وسلامة المقصد، ولكنه مطلب يدل على رغبة مولغة في اللجوج والتحدي، وهو يدل كذلك على طبائع جبلت على العناد والاستكبار والصلف من غير إذعان لحجة واعية أو منطق سليم.
ومثل هذه المقالة كانت الأمم السابقة تتحذلق بها على سبيل الخصام الفاجر والعناد العاتي المكابر. فقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم مثل ما قالته العرب للرسول ( صلى الله عليه وسلم )، والقرآن يحدثنا عن مقالة بني إسرائيل لنبيهم موسى وهم في ذلك يضربون في المغالاة والجنوح رقما قياسيا ؛ إذ طلبوا أن يروا الله جهرة ﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾ وفي آية أخرى :﴿ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾.
هكذا تتطابق مقالة العرب المشركين، وما قاله أهل الكتاب من قبل ؛ ولذلك يقول سبحانه هنا :﴿ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم ﴾ أي أن قلوب هؤلاء وأولئك قد تشابهت جميعا في العمى أو في ترك الإيمان الصحيح وفي الاتفاق على الكفر. وقوله :( كذلك ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف. أي قولا مثل ذلك. وقيل : في محل رفع مبتدأ. وما بعد ذلك خبره. وقوله :﴿ مثل قولهم ﴾ مثل مفعول به منصوب لقال. وقيل : صفة لمصدر محذوف١.
وقوله :﴿ قد بينا الآيات لقوم يوقنون ﴾ الآيات هي الدلائل والبراهين الواضحة الساطعة التي بينها الله للناس ؛ تبيينا تتحقق منها عقول المنصفين الذين يبتغون المعرفة دون عناد أو مكابرة ؛ وكذلك لتستيقنها نفوس الذين تبرأت طبائعهم من المرض والفساد.
وكذلك قد أرسل الله نبيه الكريم ليكون للناس بشيرا يحمل إليهم أخبار السعادة والأمن والطمأنينة وأخبار الجنة وما حوته من خيرات ليس لها في هذه الدنيا نظير.
وهو عليه السلام مبعوث أيضا ؛ ليكون للناس نذيرا يخوفهم من سخط الله وعذابه، ويحذرهم من انتقامه الذي لا يرد عن الفاسقين إذا حاق بساحتهم، وهو كذلك يخوفهم من شديد عقابه الأكبر في اليوم العسير المشهود يوم القيامة.
قوله :﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾ الواو السابقة للنفي تفيد العطف. أي أن مهمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تتأدى على وجهها الصحيح الأوفى إذا بلغ رسالته للناس وقام بوجيبة التبشير لهم والتنذير دون تقاعس أو تحفظ أو وجل. وبذلك تبرأ الذمة ويستتم الأداء للأمانة ولا عليه بعد ذلك إذا ما لجت الأمة أو تمردت على دعوة الحق، فهو عليه السلام ليس مسؤولا عنهم إذا ما كبكبوا في الجحيم. وفي مثل هذا الموقف يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ فإنما عليك وعلينا الحساب ﴾ ويقول عز من قائل :﴿ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ﴾ ١.
ذلك إعلان من الله مسبق للنبي والمسلمين يفيد أن اليهود والنصارى سوف لا يرضون عن هذه الملة الإسلام ولا أهلها. وسوف لا تُجدي معهم كل أسباب الحوار والإقناع والمنطق، ولا تؤثر في طبائعهم ونفوسهم الكزة كل البراهين والحجج. وليس هناك إلا سبيل واحدة يرضون عنها وهي أن يتبع النبي والمسلمون من بعده ملة الشرك التي عليها اليهود والنصارى، أما غير هذه السبيل من سبل المناقشة والمحاجة والبرهان فهو أمر ميئوس منه، وهو إنما يفضي بهم إلى مزيد من المكابرة والعناد والانتكاس. فإن أولئك فريق من البشر المتعصب الذي انكمشت فيه ظواهر اللين والخير، وغارت فيه معاني اللين والتواضع والاستحياء، وما باتت فيه عز النفوس التي مزقها الحسد والحقد، وألبسها التعصب أغشية صفاقا من سوء الطبع ورغبة مستديمة في الكيد والتآمر على الإسلام وأهله.
وقوله :﴿ ملتهم ﴾ يستفاد منه أن ملة الكفر واحدة، وذلك الذي عليه كثير من العلماء والمفسرين. والملة هي الدين، وقيل الشريعة١.
وبعد التيئيس من إرضاء اليهود والنصارى واستحالة موادتهم للنبي والمسلمين إلا باتباع ملة الارتكاس والتولي عن ملة الإسلام، فإنه بعد ذلك يأمر الله نبيه عليه السلام ليقرر في حسم قاطع ومكشوف بأن ( هدى الله هو الهدى ) فإن الهدى الصحيح الذي يقوم على الحق والاستقامة والرشاد لهو هدى لله. وهو سبيله العدل وصراطه المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا عوج والذي تجتمع فيه كل عناصر الخير والصلوح. وليس غير هدى الله إلا السبل المعوجة التي أفرزتها أهواء البشر ورغبائهم الشاذة الضالة.
قوله :﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ﴾ وذلك تهديد من الله يخوف به عباده، عسى أن يكون في ذلك ما يردعهم عن اتباع أهواء أهل الكتاب بعد أن عرفوا وجه الحقيقة والصواب بنزول القرآن. وليعلم المسلمون بعد ذلك أنهم إذا انحرفوا عن دين الله، وحادوا عن سبيله التي لا تعرف العوج وغرتهم الأماني الواهمة، فاتبعوا أهل الكتاب، ومضوا على أثرهم يقلدونهم في كل مناحي الحياة أو جلها، بعد أن نزل القرآن عليهم فلا جرم أن يكونوا خاسرين. فقد خسروا دنياهم ؛ لتجردهم من أصالة الانتماء إلى شريعة الله والانسلاخ من ملة التوحيد الخالص. وهم بخسارتهم هذه باتوا فاسقين مما سيخ. وكذلك قد خسروا الدار الآخرة، فما لهم من الله حينئذ من عاصم ينصرهم ويدفع عنهم هول العذاب وبطش الإله المنتقم الجبار.
وقوله :﴿ الذين ﴾ اسم موصول في محل رفع على الابتداء، والجملة الفعلية من ﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ في محل نصب حال. وخبر المبتدأ في الجملة الإسمية ﴿ أولئك يؤمنون به ﴾١ وقوله :﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ أي قرأونه قرة تدبر وإمعان وخشوع مع العزم على الاستفادة والامتثال، فيحلون بذلك حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يحرفون كلمهُ عن مواضعه، ولا يتأولون منه شيئا على غير تأويله المناسب والصحيح.
قوله :﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ يشبه قوله تعالى عن بعض أهل الكتاب الذين هدوا إلى الإيمان فآمنوا، والذين شرح الله صدورهم للإسلام لما وقفوا على أمره وحقيقته فأسلموا فقال سبحانه فيهم :﴿ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ﴾ وقال أيضا ﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ﴾.
قوله :﴿ ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ﴾ الخسران المبين الأكبر يحيق بكل أولئك الذين يكفرون بدين الإسلام، وينكرون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليه من كتاب وهو القرآن الحكيم الذي فيه خبر الأولين والآخرين وهو نذير للناس كافة بين يدي عذاب مقيم شديد. وذلك يشبه قوله تعالى :﴿ ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ﴾ ٢.
٢ - الكشاف جـ ١ ص ٣٠٨ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٧٢ وفي ظلال القرآن جـ ١ ص ١٤٦..
أما أن يفضلوا على غيرهم من حيث التكريم والاعتبار تحت تصور موهوم بأنهم خلق مفضل متميز، أو أنهم شعب الله المختار، فإن ذلك لا يستند إلى شيء من دليل أو منطق إلا الهوى الجامح والتعصب الممجوج وهو تعصب للذات والعرق تنبذه أديان السماء نبذا
وفي هذا اليوم العصيب لا يقبل من أحد إلا ما قدمه من عمل خالصا لوجه الله الكريم. وإذا لم يكن للمرء يومئذ عمل كان في سجله مسطورا، فإنه لا ينفعه شيء ولا يدرأ عنه العذاب فداء أو شفاعة، فلا الفداء من مال أو غيره، ولا الشفاعة من أحد الشافعين ينجي المفرط الخاسر بمثقال قطمير، ويومئذ يخسر المبطلون والفساق ويحسون مرارة الحسرة والهوان، وهم إذ ذاك يلتفتون من حولهم في وجوم وحيرة وشخوص ويتشبثون في إياس مطلق بمن ينصرهم وينقذهم وليس من مجير أو نصير.
لقد امتحن الله إبراهيم عليه السلام ﴿ بكلمات فأتمهن ﴾ والمراد بالكلمات على وجه العموم مجموعة الأوامر والنواهي التي كُلف بها هذا الخليل العظيم عليه السلام. وهي أوامر ونواه لا جرم أنها ثقيلة وعسيرة وأن احتمالها والاقتدار عليها بثقل كاهل كل إنسان إلا أن يكون فريدا في نوعيته ومستواه، أو أن يكون ذا عزم مكين لا يهون مهما اشتدت الخطوب أو تراكمت الأهوال والمحن.
أما حقيقة الكلمات على التفصيل والتي ابتلى الله بهن إبراهيم فهن موضع كلام طويل ومختلف للمفسرين. ولعل أصوب ما ورد في ذلك هو قول الحبر العظيم ابن عباس : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذا في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلاف، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمر به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتُلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له :﴿ أسلم قال أسلمت لرب العالمين ﴾ على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
هذا القول الجامع لابن عباس يكشف عن أمهات قواصم من التكليفات المزلزلة التي نيطت بإبراهيم عليه السلام، فنجح فيها نجاحا يكشف عن حقيقة هذا الإنسان العظيم الفذ. الإنسان الذي عجمه الله بأفدح البلايا والشدائد، فما لان ولا استكان، بل مضى لأمر الله ملبيا حتى وفّى تمام الوفاء.
ويا لله لهذا الإنسان الوفي العظيم الذي يُقبل في استسلام لله وطواعية أن يُلقى في النار بعد أن وثقه قومه بالقيود والأغلال، فظل صابرا محتسبا رابط الجأش فما تراجع ولا انثنى عن عقيدته ودينه ولا كرّ مهزوما في نفسه متقهقرا ليعود إليهم مستسلما معتذرا كما يفعل الضعفاء والمهزومين في الكروب وفي ساعات الضيق والعسرة.
ويا لله لإبراهيم الخليل وهو يوحَى إليه في المنام بذبحه ولده ! ! فما تلعثم ولا انثنى، بل، بل قص على ولده خبر الرؤيا، فأجابه ولده في بر وطاعة وامتثال :( يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ).
إن الكلمات لتعجز بالغ العجز عن إيضاح الصورة لهذا الحدث المثير الجلل. وهو حدث لا يقوى على طوقه واحتماله إلا من كان كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
إن أحدنا يشق عليه أن يضرب ولده في قسوة وتبريح حتى وهو يؤدبه، فكيف به وهو يضع السكين على عنقه ثم يحزها حزا ليقطعها !
ذلك الذي لا تبلغه طاقات الإنسان مهما تجمع فيه من مذخور العزيمة وقوة الاحتمال، لكن النبيين المرسلين صنف آخر من البشر المتميز الرفيع، يرقون إلى عظيم الدرجات التي لا ينثنون عندها عن أي تكليف من ربهم، وفي الطليعة من النبيين المرسلين هذا النبي الصابر الجليل إبراهيم الخليل.
قوله :﴿ إني جاعلك للناس إماما ﴾ الإمام القدوة الذي يؤتم به ؛ لفضله ومزاياه الخاصة، ولما أوتيه من خصائص في الثبات والاستقامة والطاعة والامتثال لأمر الله. وعلى ذلك فإنه عليه السلام جدير أن يجعله الله للناس جميعا إماما فيما بيناه ليقتدي به الآخرون في كل زمان ومكان.
قوله :﴿ قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ﴾ طلب إبراهيم من ربه أن تكون الإمامة في ذريته من بعده ؛ فيكون النبيون جميعا من بعده من نسله. فأجابه الله سبحانه بأنه ﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ والظالمين مفعول به للفاعل ﴿ عهدي ﴾ والعهد بمعنى النبوة. وقيل : الأمر، ويطلق العهد على الأمر أي لا ينبغي أن يلي الظالم من أمري شيئا. وقيل : العهد بمعنى الإمامة أو الاستخلاف. أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال الإمامة والاستخلاف من كان عادلا مبرأ من كل صور الظلم وعلى هذا ؛ فالإمام إنما يكون من أهل العدل والفضل والإحسان. أما أهل الفسوق والجور والفساد فليسوا أهلا لتولي إمامة المسلمين. وكيف يصلح لهذه المهمة العظيمة من كان جائرا فاسقا لا تقبل شهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة ؟ ! وإذا ابتلي المسلمون بإمام جائر فإن الصبر على طاعته أولى من الخروج عليه إن كان في منازعته والخروج عليه ما يثير الفتن والشر المستطير كإشاعة الفساد وإراقة الدماء وإغراق البلاد في الفوضى وخطر التدخل من الكافرين١.
وخلاصة القول في هذه العبارة الكريمة أن الله تفضّل بالاستجابة لطلب إبراهيم أن تكون الإمامة والنبوة في عقبه المؤمنين الصالحين على ألا يتولى أمر الله أحد من الظالمين من ذريته علما بأن في ذرية إبراهيم ظالمين كثيرين، وأمثال هؤلاء ليس لهم أن يكون أحدهم إماما فإن الإمام ينبغي أن يكون مؤمنا صادقا، وعلى ملى التوحيد والحنيفية ماضيا.
وكذلك قد جعل الله الكعبة للناس أمنا، فهي مصدر أمن وسلام وطمأنينة لمن يعوذ بها أو يثوي إليها. ومعلوم أن العرب خارج البيت العظيم كانوا يقتتلون فيما بينهم ويتخطف بعضهم بعضا طمعا في مغنم أو رغبة في تسلط قبلي يقوم على العصبية السخيفة، لكن الذين يثوبون إلى البيت كانت تظللهم أجنحة الرحمة والأمان، فلا يمسهم شيء من أذى أو سوء. حتى قيل : إن الحد لا يقام على من لجأ إلى الحرم. وهو قول أبي حنيفة وآخرين. وقيل : بل يقام الحد عليه ؛ لأن الحكم الأول منسوخ.
قوله :﴿ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ﴾ مقام إبراهيم موضع خلاف المفسرين، لكننا نعتمد القول الذي نطمئن إليه فنرجحه وهو ما كره البخاري أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت وغرقت قدماه فيه. قال أنس : رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم. وقيل : إنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم.
ويريد الله جلت قدرته أن يثير الذكرى في نفس كل مسلم يؤم البيت الحرام فيتذكر إبراهيم الخليل عليه السلام وما تركه من أثر عظيم تجلى في بناء أقدس بيت في الأرض وهي الكعبة، وبذلك فكل حاج يؤت البيت مطالب بالصلاة في مقام إبراهيم، على ما ورد في هذه المسألة من خلاف بين العلماء. فقد قيل بأفضلية الصلاة لأهل مكة، والطواف للوافدين من خارج مكة. وهو قول الإمام مالك، خلافا للجمهور إذ قالوا : الصلاة أفضل مطلقا١.
وقوله :﴿ مصلى ﴾ أي موضع صلاة. فإن على الآمّين البيت الحرام أن يصلوا ركعتي الطواف في المكان الذي كان إبراهيم يقف عليه ليناوله إسماعيل الحجارة لإتمام بناء الكعبة. أما موضع المقام نفسه فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله :﴿ وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ﴾عهدنا بمعنى أمرنا أو أوحينا وهما متقاربان. فقد أمر الله كلا من إبراهيم وإسماعيل عن طريق الوحي بتطهير الكعبة وما حولها من الأوثان والرفث والرجس وقول والزور، كما ذكر عن مجاهد وسعيد بن جبير. والمقصود الأساسي من ذلك أن يتطهر البيت من كل شيبة من أو شاب الباطل أو الشرك وأن يكون نقيا من أخلاط الرفث والقذر ليكون البيت نقيا طاهرا نظيفا كما يليق بحرمته وقدسيته واعتباره العظيم ؛ فهو أول بيت وضع للناس في الأرض ؛ ليذكر فيه اسم الله ؛ وليؤمه الناس من كل حدب وصوب طيلة الزمان ؛ لينالوا من الله المثوبة والغفران.
ويراد للبيت أن يظل طاهرا من درن الشرك والقذر ؛ لتؤدى فيه العبادة والمناسك من قبل الطائفين وهم الذين يطوفون بالبيت وذلك من الطوف وهو السير رملا أو على مهل من حول الكعبة في عملية تعبدية معروفة مقترنة بالخشوع والتبتل والابتهال إلى الله سبحانه، وكذلك للعاكفين، من العكوف وهو حبس النفس عن التصرفات العادية وانشغالها بأمور العبادة من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك. ثم الركع السجود وهم الراكعون الساجدون أي المصلون عند الكعبة.
ومع أن النص قد وقع على البيت العتيق بالاسم، فإنه لا مانع من انسحاب الحكم على كل بيت من بيوت الله ليشمله وجوب التطهير، فيؤمه العابدون من المصلين والعاكفين والذاكرين وهو على هيئته اللائقة الكريمة من شرف التطهر والنقاء من كل درن.
ويرد في هذا الصدد حكم الصلاة في جوف الكعبة أو على ظهرها. فإن الأصل الذي تعورف عليه بغير تكلف أو اختلاف أن تكون القبلة جهاتها جميعا مثابة للناس لتصح الصلاة شطرها. أما الصلاة في جوف الكعبة فموضع خلاف الفقهاء. فقد ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى جواز الصلاة في جوفها إلا أن تكون الصلاة صوب الباب، ومع ذلك فإن الأفضل عند الشافعي أن يصلي النفل داخل الكعبة. أما الفرض فإن الأفضل أن يصليه خارجها. وخالفهما في هذه المسألة الإمام مالك ؛ إذ ذهب إلى عدم صحة الصلاة في جوفها استدلالا بما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل الكعبة ولم يصلّ حتى خرج، فلما خرج صلى صوب الكعبة ركعتين وقال : " هذه القبلة ".
أما الصلاة على ظهر الكعبة فغير صحيحة في مذهب مالك والشافعي ؛ لأن المصلي على ظهرها لم يستقبل شيئا، وهي صحيحة عند أبي حنيفة. واشترطت الشافعية لجواز الصلاة على ظهر الكعبة أن يضع المصلي بين يديه سترة متصلة بالسطح ليكون المصلي متوجها نحو جزء من السطح. وبغير ذلك لا تصح الصلاة٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١١٢-١١٥ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٦٨، ١٦٩ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٩٧-٩٨ وبدائع الصنائع جـ ١ ص ١٢١ والمهذب للشيرازي جـ ١ ص ٦٧ وأسهل المدارك للكشناوي جـ ١ ص ٢٦٧..
تتضمن الآية دعاء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لمكة أن يجعلها الله بلدا آمنا فيعمها الرخاء والطمأنينة والرزق الوفير. وقوله :( آمنا ) من الأمن والأمان وهو يعني الطمأنينة والسلام بعيدا عن الشك والاضطراب والتخوف وفي منجاة من كل ظواهر الشر والعدوان.
هذا هو دعاء إبراهيم لمكة أن يجعلها الله تعالى عامرة بالبركة والسلام فلا يتخللها أذى ولا يقع بساحتها بائقة من بوائق العدوان والشر، وما من شيء فيها إلا وهو آمن لا تتطاول إليه يد بأذى حتى الشوك والشجر يظل مسترسل الأوراق والغصون فلا يتجاوز عليها أحد بالقطع. حتى الصيد تمرح قطعانه في أرجاء مكة فلا يناله أحد بآلة أو شراك مادام يتظلل بأفياء هذه البلدة المباركة القدسية التي كتبها الله مثابة للمؤمنين على طول الزمن فتهوي إليها أفئدتهم وأرواحهم ؛ ثم يدخلونها وهم آمنونا مطمئنون، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، ولا عدوان ولا تخاصم، ولا قتال ولا اقتتال.
وثمة مسألة تستوجب التوضيح وهي ما إذا كانت مكة حرما آمنا بدءا بعهد إبراهيم وبفضل دعائه، أم أنها كانت كذلك قبل إبراهيم. فقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن مكة باتت آمنة بفضل الدعاء الخاشع الذي تضرع به إبراهيم عليه السلام في قوله :﴿ اجعل هذا بلدا آمنا ﴾ واستدلوا على ذلك بجملة أحاديث نبوية نذكر منها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : " كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )، فإذا أخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " ١.
وأخرج مسلم أيضا في هذا الصدد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال :" إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومُدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة " ٢. وغير ذلك من الأحاديث كثير.
وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن مكة قد جعلها الله بلدا حراما قبل إبراهيم الخليل بل يوم خلق الله السماوات والأرض، فهي بذلك حرام بحرمة الله تعالى بداء بإيجاد الخليفة حتى تقوم القيامة. واستدلوا لذلك بعدة أحاديث أخر، منها ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكُه، ولا يُنفر صيده، ولا يُلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يُختلى خلاها " قال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : " إلا الإذخر " ٣.
وهناك أدلة أخرى من السنة غير هذا الحديث تدل كلها على أن حرمة مكة سابقة لدعاء إبراهيم، وأنها في كتاب الله وقدره محرمة يوم خلق السماوات والأرض وهو ما نرجحه والله أعلم.
وعلى هذا الترجيح لا تُتصور منافاة بين الأدلة لكل من الفريقين. ويمكن تصور التوفيق بين أدلة الفريقين أن ما احتج به الفريق الأول من أدلة إنما يكشف عن مجرد تذكير إبراهيم بحرمة مكة وإعادة الإخبار للناس بهذه الحقيقة. وعليه فإن مكة كانت بلدا حراما منذ القدم، لكن إبراهيم الخليل عاود التذكير مجددا بهذه الحقيقة.
أما أي البلدين خير وأفضل ؟ فقد ذهب جمهور المفسرين وأهل العلم إلى أن مكة خير من المدينة وأفضل مع أن لكل منهما خيرا وفضلا، وأنهما كلتيهما مباركة ومقدسة، وأنهما مضافا إليهما بيت المقدس في فلسطين خير بقاع الله وبيوته في الأرض، إلا أن مكة لهي ذروة السنام في القدسية والأفضلية ؛ لأنها بلد آمن ترسو على متنه الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا والتي جاء فيها قوله سبحانه :﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ وقوله ﴿ أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾.
وفي فضل مكة وحرمتها ووجوب نشر الأمن والسلام والطمأنينة فيما يقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح ".
وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ؛ فلا يحلف لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب " وهو ما رواه أبو شريح العدوي لعمر بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة٤.
وقوله :﴿ وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ﴾ دعا إبراهيم ربه أن يرزق أهل مكة من بركات الأرض في ثمارها الطيبة ذات الطعوم النافعة الجيدة.
وقوله :﴿ من آمن ﴾ :( من ) اسم موصول في محل نصب بدل من ( أهله ) وهو بدل بعض من كل٥. وبذلك فقد كان دعاء إبراهيم لمن آمن من أهل مكة خاصة ؛ ليخرج منا لمستفيدين من الأمن والثمرات من ليسوا مؤمنين، لكن الله تباركت أسماؤه قد كتب الرزق للناس كافة، سواء فيهم المؤمن والكافر وكذلك المستقيم والعاصي ؛ ليأخذ الناس جميعا بحظوظهم من هذه الدنيا الحياة وما يملأها من الخيرات والمنافع والثمرات. وتلك هي سنة الله في الدنيا وفي الناس. فهو سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ويكتب الحياة واللذة والرغد للناس جميعا على اختلاف أهوائهم ومللهم وانتماءاتهم. والأصل في ذلك أن الحياة لهي ميدان اختبار وعمل، ثم تفضي بعد ذلك إلى الدار الآخرة حيث الجزاء ولا عمل. وخير الجزاء للذين أحسنوا في هذه الحياة الدنيا والذين أخلصوا لله النوايا ليعبدوه وحده بلا شريك.
وعلى هذا الأساس فإن الله- جلت قدرته- يكتب الرزق لمن يشاء من عباده، سواء في ذلك من آمن منهم ومن كفر، أما من كفر فإن الله يمتعه في الدنيا بما كتبه له من الحظ والعطاء الفاني، ثم يلجئه بعد ذلك إلى عذاب النار وهو أسوأ عاقبة يؤول إليها العبد المعذب الخاسر ليبوء بهوان المصير والعذاب البئيس، وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ﴾.
٢ - نفسه..
٣ -- تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤.
٤ - رواه البخاري انظر تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤..
٥ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٢٢..
وكان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يقولان حال رفعهما للقواعد من البيت :﴿ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك.. ﴾ فهما يدعوان الله أن يتقبل منهما ما قدما من عمل وهو بناء البيت وتأسيس قواعده. وذلك هو شأن العابدين المخلصين في القول والعمل، الذين تتدفق قلوبهم بالإخلاص لله، الإخلاص الذي يتنافى مع أبسط مراتب الرياء أو الأثرة أو التعصب للذات.
وشأن المؤمن دائما أن يلح على الله سبحانه ؛ كيما يتقبل منه العبادة، وأن يهبه الإخلاص ويباعد بينه وبين الرياء وحبوط الأعمال.
وقوله :﴿ إنك أنت السميع العليم ﴾ كاف المخاطب في محل نصب اسم إن، أنت توكيد تابع لكاف المخاطب، السميع خبر، العليم صفته.
الله جلت قدرته سميع الدعاء، ويستجيب للذين يعبدونه مخبتين مخلصين والذين تترطب ألسنتهم وأفواههم بجميل الثناء على الله والعوذ به. وهو سبحانه عليم بما تكنه الصدور من توحيد لله وإخلاص إليه أو دون ذلك منا ينافيه من شرك أو رياء. الله سبحانه عليم بما يطويه المرء من خفايا المقاصد ومن أستار تظل دفينة مخبوءة لا يكشف سترها إلا هو سبحانه.
وقوله :﴿ وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ﴾ المناسك مفردها منسك وهو المتعبّد ومنه الناسك وهو العابد. وعلى ذلك فالمنسك اسم للعبادة، والمقصود بالمناسك، هنا جميع ما يُتعبد به إلى الله يف الحج مثل الصفا والمروة ومنى ورمي الجمار ومزدلفة وعرفات والكعبة. فهذه وغيرها أماكن للحج أو مناسك يتعبد عندها الحجيج على النحو المبين المشروع.
ويدعو إبراهيم وإسماعيل ربهما أن يمتن عليهما وعلى المسلمين من ذريتهما بالتوبة فإنه سبحانه تواب رحيم. أي شديد التوب عظيم الرحمة بالعباد.
لقد كتب الله في مقاديره الأزلية ما يوافق دعوة إبراهيم الخليل ببعث محمد عليه السلام من العرب ؛ ليكون رسولا للناس كافة وللزمان جميعا إلى أن يرث الله الناس والأرض والزمان. لقد بعثه الله للناس استجابة لدعوة إبراهيم التي وافقها ما كان مكتوبا في علم الله القديم، وما أنبأت عنها كلمات عيسى المسيح عليه السلام ؛ إذ قال لقومه بني إسرائيل كما قص علينا القرآن :﴿ إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ﴾.
وقد أخرجه الإمام في ذلك عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ".
ومهمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) - كما بينتها الآية- هي أن يتلو على الناس آيات الله وهي القرآن، ثم يعلمهم إياه.
ونستطيع أن نميز بين التلاوة للقرآن وتعليمه كما يتضح من ظاهر الآية، وهو أنه يراد بتلاوة الآيات مجرد قراءتها للناس، فيتلونها على سبيل التعبد، ومعلوم أن القرآن متعبد بتلاوته، فما يتلوه مؤمن أو يحفظه إلا كان له بذلك أجر.
وقوله :( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) يراد بالكتابة القرآن، أما الحكمة فقد قيل : إنها السنة، وقيل : بل هي جملة العلوم المتعلقة بأمور الدين. وقيل : الفهم، وهو سجية مهداة من الله للعبد.
وقوله :﴿ ويزكيهم ﴾ جملة فعلية فعلها يزكي، والفاعل يعود على الرسول المبعوث من ذرية إبراهيم، والضمير المتصل بالفعل في محل نصب مفعول به والميم للجمع. وأصل الكلمة من التزكية وهي التطهير والإصلاح. زكا فلان أي طهر أو صلح. وعلى ذلك فالرسول المبعوث يكون داعيا لإصلاح القوم وتطهيرهم تطهيرا حقيقيا بكل ما تحتمله كلمة التطهير من معنى. ومن ضمن ذلك أني قع التطهير على النفس فيغسلها وينقيها من أوضار الشذوذ والأمراض، ويقع على العقل والذهن فيخلصهما من منزلقات الفكر الجانح وانحرافات التصور الضال المريض، ويقع على الحياة الاجتماعية فيباعد بينها وبين كل ظواهر التفكك والتفسخ وكل أسباب الخلق الآسن بما يصون للمجتمع كرامته ونظافته ؛ ليكون مجتمعا قويا نقيا متماسكا، لا تمسه أية وشيبة من أو شاب الفساد أو التفسخ أو الانمياع أو الفوضى.
قوله :﴿ إنك أنت العزيز الحكيم ﴾ ذلك إقرار كامل ينطق به إبراهيم وإسماعيل على سبيل الخضوع لله خضوعا تاما وعلى سبيل الإخبات والإذعان لله وحده هو أنه سبحانه عزيز أي قوي في ملكوته وإرادته وتقديره، فلا يعجزه في الكائنات شيء، ولا يؤوده أمر أو خبر في السماء ولا في الأرض. وهو كذلك حكيم، فإنه يتصرف في الكون ببالغ حكمته التي لا يقف على حقيقتها إلا هو، وإنه لا يصدر عن أمره وإرادته شيء في الوجود إلا عن حكمة مطلقة بالغة. فلا مجال للصدفة أو الفوضى أو التدبير القاصر المحدود كالذي عليه البشر، ولكنه التدبير الكامل الأوفى، والحكمة التامة التي لا تحتمل الخطأ.
تنطوي الآية الأولى على استفهام يتضمن تقريعا وتوبيخا لأهل الكتاب والمشركين الذين سفهوا أنفسهم بإبعادها عن ملة التوحيد التي كان عليها إبراهيم عليه السلام ؛ ولذلك قال :﴿ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ﴾ أي لا يزهد عن ملة إبراهيم وهي الحنيفية البعيدة عن الشرك، ولا ينأى عنها إلا من فعل بنفسه من ظواهر السفه ما يجعله سفيها. والسفه معناه : الجهل : ضد الحلم : وهو الخفة والطيش. سوفه نفسه ؛ أي حملها على السفه، أو بمعنى سفّه نفسه بالتشديد١.
قوله :{ ولقد اصطفيناه في الديناج من الاصطفاء وهو الاختيار للنبوة والرسالة. ومعلوم أن ذلك يقع بتقدير الله واختياره وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته، وهو كذلك أعلم حيث يجعل اختياره من الصفوة المصطفاة من أولي العزم من الرسل من مثل إبراهيم الخليل عليه السلام. فالله جلت قدرته قد اصطفى إبراهيم في هذه الدنيا ؛ ليكون رسولا خليلا وليكون أبا عظيما لنخبة عظيمة من النبيين والمرسلين.
وقوله :﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ الضمير المتصل في محل نصب اسم إن وهو يعود على إبراهيم الخليل. وخبرها ﴿ لمن الصالحين ﴾ فقد كان إبراهيم ذا حظ مرتين، إحداهما في الدنيا، إذ اصطفاه الله برسالته. وأن يكون في ذريته الكتاب والنبوة ثم النبي الخاتم ( صلى الله عليه وسلم ). وثانيهما في الآخرة ؛ إذ كتبه الله من الصالحين وهم الفائزون أهل الخير والنجاة والفلاح.
قوله :﴿ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ هكذا أوصى كل من إبراهيم ويعقوب بنيه. أوصاهم باتباع الملة الحنيفية السمحة والالتزام بدين الله الذي ارتضاه واصطفاه لهم. وبناء على ذلك وصى كل منهم بنيه بخير وصية، وهي ألا يموتوا إلا وهم مسلمون. وفي ذلك تنبيه لهم بدوام الاستقامة والالتزام بشرع الله، فلا يميلوا أو ينحرفوا ؛ لأن المرء إنما يبعث يوم القيامة على هيئته في آخر حياته. فإن كانت هيئته وحاله على معصية الله بعث يوم القيامة مع العصاة والفساق. وإن كانت هيئته وحاله على طاعة الله بعث مع الأخيار والفائزين ؛ ومن أجل ذلك يوصي إبراهيم ويعقوب بينهم أن يكونوا في حياتهم على صراط الله المستقيم، وأن يحافظوا على الملة وما تقتضيه من الأوامر والتكليفات، وأن يحاذروا المعاصي والمحرمات باستمرار ؛ كيلا يفجأهم الموت وهم على حال من الفسق عن أمر الله فيبعثوا فاسقين.
وفي هذه الآية توبيخ لهؤلاء الكافرين جميعا كأنما يقول لهم : هل شهدتم يعقوب وهو يوصي بنيه بما أوصاهم به ؟ ! والحقيقة أنكم لم تشهدوه ولم تعلموا عن ذلك شيئا. والمعلوم أن يعقوب إذ حضره الموت قال لبنيه وهم مجتمعون من حوله :﴿ ما تعبدون من بعدي ﴾ أي سألهم عن حقيقة معبودهم من بعده وذلك على سبيل التنبيه إلى ضرورة الاستمساك بالملة السمحة، ملة أبيهم وإبراهيم والذين جاؤوا من بعده من النبيين، وعلى سبيل التحقق من سلامة إجابتهم ؛ ليطمئن قلبه وهو يدنو من الموت ويوشك أن يبارح الدنيا.
فكان جوابهم مثلما أراد ﴿ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ﴾ فملة التوحيد واحدة لا تتجزأ ولا تحتمل اختلافا. وإنما هي الحنيفية الحقة التي قامت عليها الأديان السماوية جميعا بداء بأبي البشر آدم وانتهاء بالنبي الخاتم صلوات الله عليه. وهم جميعهم تشدهم عقيدة ملتئمة واحدة، ويجمعهم دين واحد وهو الإسلام الذي يعني الاستسلام والخضوع لله وحده والذي يقوم أساسا على التوحيد الكامل والإقرار لله سبحانه بالعبودية المطلقة. قال سبحانه :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾.
وفي الحديث النبوي الشريف ما يدل على الوحدة في الدين والعقيدة، والتفاوت في الشرائع " نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " ١ والمراد بأولاد العلات، الأخوة لأب واحد وأمهات متعددة. وفي هذا التشبيه ما يبين أن النبيين جميعا يلتقون على صعيد الملة الواحدة وهي ملة التوحيد، ويتفاوتون من حيث الشرائع التي تغطي مقتضيات الأحوال والظروف والبيئات.
وعن حقيقة الاستسلام لله والإذعان له بالعبودية والامتثال يجيب بنو يعقوب أباهم ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ أي عابدون خاضعون ممتثلون. وفي ذلك من الدلالة على أن النبيين جميعا مسلمون، وأن أتباعهم وأشياعهم والذين آمنوا برسالاتهم واتبعوهم- غير مشركين ولا محرفين- كذلك مسلمون. ذلك ما يفرضه مفهوم العبارة وحقيقة المدلول الواضح السليم لكلمة الإسلام بما يعنيه من امتثال وخضوع واستسلام لله وحده٢.
.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٧٤- ١٨٦ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٣٠ -١٣٧ وتفسير البيضاوي ص ٢٦، ٢٧..
( أمة ) خبر مرفوع. والجملة الفعلية بعده نعت. و ( خلت ) بمعنى مضت، ويراد بالأمة المشار إليها والتي مضت هي آباء بني إسرائيل من النبيين مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم. فقد كان بنو إسرائيل يركنون إلى انتسابهم إلى آبائهم من النبيين والمرسلين، ويفاخرون الناس بهذا الانتساب، فبينت لهم هذه الآية أن السابقين من النبيين والصالحين قد مضوا، وأن ما كسبوه من عمل فهو لهم وليس بعائد عليكم، وأنه لن ينفعكم إلا ما قدمتموه لأنفسكم من أعمال.
وكذلك فإن أحد من أولئك لن يحمل من أوزاركم شيئا، وأن ما تقارفونه من الآثام والفسق والمعاصي إنما يحيق بكم وحدكم، ولن يغني عنكم أسلافكم من ذلك شيئا. وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي لا تحمل نفس ما اقترفه نفس أخرى من مخالفات وسيئات.
وكذلك الذي ورد في الحديث المرفوع " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه " فإن كانت كفة الأعمال للمرء مرجوحة، فلن يشفع له أن يكون ذا نسب رفيع مشهور ؛ إذ لا قيمة لا عتبارات الحسب أو النسب أو العصبية كيفما كان نوعها أو صورتها، ولكن الاعتبار كله للعمل الصالح المشروع الذي تسبقه النية الحسنة والإخلاص الكامل لله وحده.
وعلى هذا فإن ما قدمه السلف من خير العمل ليس عائدا إلا عليهم أنفسهم، وإن كان الذي قدموه شرا فهو عليهم وحدهم ولا يسأل عنه الخلف وفي هذا يقول سبحانه :﴿ ولا تسألون عما كانوا يعملون ﴾.
ذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية الأولى أن عبد الله بن صوريا الأعور اليهودي قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد. وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية :( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ) وهود مفردها يهودي، ونصارى مفردها نصراني. وكلا الفريقين أهل كتاب وهم جميعا من المشركين الذي زعموا أن لله شريكا ؛ إذ قالت اليهود :﴿ عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴾ وكل فريق من هذين الفريقين يظن أنه على الحق، فهو بذلك يتجرأ في حماقة بالغة وسفه فاضح ليدعو النبي محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين فيكونوا من اليهود أو النصارى. لاجرم أن هذا الاجتراء المتوقح لهو غاية في النكر وفساد السجية.
ثم يأتي الرد حاسما مباشرا وفي الحال :﴿ قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ﴾ وملة منصوب على المفعولية للفعل المحذوف المقدر
﴿ نتبع ﴾ أي أخبرهم يا محمد أننا نحن هذه الأمة المؤمنة المسلمة لا نتبع ملة الشرك والميل عن الحق، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا. و ﴿ حنيفا ﴾ منصوب على المفعولية كذلك لفعل تقديره أعني، وقيل على الحال١. وقد كان إبراهيم على الحنيفية وهي التوحيد والاستقامة البعيدة عن أية صورة من صور الشرك. والحنيف من الفعل حنف أي مال٢. فإبراهيم – عليه السلام- كان مائلا بطبعه وفطرته وسلامة تكوينه النفسي والروحي نحو الإسلام والامتثال لأمر الله تماما ﴿ وما كان من المشركين ﴾.
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٣٤..
ومما يلفت النظر ما ذكره ابن عباس إذ قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا ( صلى الله عليه وسلم ). وكذلك فإن على النبي والمسلمين أن يؤمنوا بما نزل على كليم الله موسى وروح الله عيسى بن مريم فقد أوتي الأول التوراة وأوتي الثاني الإنجيل وهما كتابان عظيمان فيهما خير الدنيا والآخرة، وينطويان على ما فيه إسعاد بني إسرائيل لو أنهم التزموا بما فيهما من مضمون ولم يتجرأوا عليهما بالتحريف والتنزييف.
ويجب التنبيه هنا إلى حقيقة التكليف الوارد في الآية وهو قوله :﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم... ﴾ فالمطلوب هو مجرد التصديق والإيمان بما أنزل على النبيين السابقين من كتب، وأنهم قد أوحي إليهم. وليس على المؤمن من هذه الأمة أن يلتزم بأكثر من ذلك. فالقضية المبدئية أن يؤمن المسلم ويصدق بحقيقة الكتب السماوية الصادقة المبرأة من التلاعب والتحريف. أما ما نشاهده بين ظهراني اليهود والنصارى من توراة وإنجيل فما علينا من بأس أن نقف منهما موقف المحايد الحريص فلا نصدق ولا نكذب ؛ ذلك أننا إذا صدقنا وأيقنا بما فيهما من غير تحفظ فلسوف تقع لا محالة في خطأ التصديق بما ليس من كلام الله مما هو مزيد أو مفترئ قد أضيف إلى كل من التوراة والإنجيل. أما إذا كذبنا بهما جميعا فلسوف يفضي هذا التكذيب المطلق إلى التكذيب بما صح فيهما.
وعلى العموم فإن على المسلمين أن يؤمنوا بالتوراة والإنجيل كتابين منزلين من عند الله من قبل أن يمسهما التحريف والخلط. أما التوراة والإنجيل على حالهما التي نرى اليوم، فما على المسلمين من سبيل لو أنهم وقفوا منهما موقف المتوسط المحايد من غير تصديق ولا تكذيب، وخير ما يستدل به على ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله " ١.
قوله :﴿ وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ﴾ أي أننا نؤمن بما نزل على النبيين ونصدقهم في ذلك جميعا دون استثناء، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وإنما نؤمن بالنبيين كافة وأنهم جميعا صادقون ويصدرون فيما يقولون ويبلّغون عن وحي الله الأمين. ويشبه ذلك قوله سبحانه في المسلمين الذين يؤمنون بجميع النبيين والمرسلين من غير تفريق فلا يصدقون بعضا منهم ويكذبون آخرين ﴿ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم الآخر كالذي عليه اليهود والنصارى.
قوله :( ونحن له مسلمون ) الضمير في قوله :( له ) يعود على لفظ الجلالة. أي أننا نحن أتباع هذه الملة نعلن في تصديق قاطع مستيقن أننا على صراط الله القويم وعلى سبيله المستقيم، وأننا ممتثلون لأمره ودينه وشرعه غير مترددين ولا مرتابين ولا مستنكفين.
أما إن تولوا عما آمن به المسلمون وصدقوه ﴿ فإنما هو في شقاق ﴾ والشقاق والمشاقة بمعنى الخلاف والعداوة، نقول شاقة مشاقة وشقاقا أي خالفه، وحقيقة ذلك أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه٢.
قوله :﴿ فسيكفيكهم الله ﴾ وهذه جملة فعلية. فعلها المضارع يكفي. وقد تعدى إلى مفعولين، أولهما الكاف في محل نصب مفعول به أول، وثانيهما الهاء في محل نصب مفعول به ثان والميم للجمع، ولفظ الجلالة فاعل. وذلك وعد من الله سبحانه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سوف يكفيه أعداءه من الأشرار والمخالفين والمعاندين، هؤلاء الحاقدون اللّد الذين حاربوا دين الله وشاقوا الله ورسوله. فسوف يكفي الله نبيه بأس هؤلاء ومكرهم، ويرد عنه ما يبيتونه له من سوء وعدوان. وقد أنجز الله لنبيه الكريم ما وعده من هزيمة للعدو وتدمير لخططه ومؤامراته وتبديد لجهوده وقُواه حتى مني أخيرا بالهزيمة تلو الهزيمة وبالانتكاس والتقهقر وذلك هو مصير الذين يشاقون الله ورسوله، ويحادون دين الله. لا جرم أنهم صائرون إلى ذل الهزيمة والخزي والعار.
قوله :﴿ وهو السميع العليم ﴾ الضمير المنفصل في محل رفع مبتدأ، و ( السميع ) خبره مرفوع، و ( العليم ) نعت. فالله سبحانه يسمع ما تفوه به ألسنة البشر من أقوال، سواء في ذلك الأقوال التي تصاغ في اختلاف الشر وابتداع الأذى والمنكر يصيبان المؤمنين. أو الأقوال النافعة السديدة التي تنطق بها أفواه المؤمنين من الناس. فهو سبحانه سميع لذلك كله على نحو وكيفية لا يعلمها إلا هو. وهو كذلك ( العليم ) الذي يعلم أسرار الحياة والكائنات وما يختفي في أطواء الوجود من حقائق وأسرار، ومن معلومات وأخبار لا يعلم منها الناس إلا ما كان هينا يسيرا غاية في البساطة.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٤٢ ومختار الصحاح ص ٣٤٣..
قوله :( ومن أحسن من الله صبغة ) ( ومن ) اسم استفهام في محل رفع على الابتداء، ( أحسن ) خبر مرفوع، ( صبغة ) منصوب على التمييز. وذلك سؤال إنكاري. أي ليس من صبغة أحسن من صبغة الله. ليس من دين ولا ملة ولا عقيدة ولا رسالة عرفتها البشرية خير من الإسلام. لا جرم أن الإسلام خير ما عرفت الدنيا من عقائد وملل ومبادئ. وذلك بما يتميز به الإسلام من خصائص عظيمة تخلو منها عامة المذاهب والعقائد والتصورات الأخرى. وبذلك يندد الله تنديدا بالذين يصطنعون لأنفسهم صبغة غير صبغة الإسلام، كالذين ينتحلون الشرائع والمذاهب والأفكار الضالة يختلقونها من عند أنفسهم لتكون بديلا عن صبغة الله وهي الإسلام. وأيما اختلاق مقبوح كهذا فإنه الكفران والاستكبار والتمرد على الله، والعياذ بالله.
قوله :﴿ ونحن له عابدون ﴾ جملة إسمية مبتدأها الضمير ( ونحن ) وخبره ( عابدون ) أما الواو فهي عطف على قوله ( آمنا بالله ) كذلك يقول المؤمنون الصادقون فهم يقرون أنهم عابدون لله، ماضون على منهجه الثابت القويم ليظلوا على الدوام عابدين لله ممتثلين لأمره خاضعين لسلطانه وجبروته.
وقوله ﴿ في الله ﴾ أي في دينه وحقيقة شأنه والقرب منه والحظوة عنده. والمقصود أهل الكتاب وخصوصا اليهود، فقد كانوا يجادلون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الله وفي دينه وفي مبلغ القرب منه. فكانوا يفاخرون المسلمين بأنهم أقدم منهم دينا وأكثر أنبياء وأشد كرامة ؛ لانتسابهم لآبائهم من النبيين والمرسلين كما يزعمون. وزعموا كذلك أنهم أنبياء الله وأحباؤه فهم بذلك أعظم عند الله حظوة ومكانة، إلى غير ذلك من المفاخرة الفاسدة التي تقوم على التعصب والجهل، ولا تستند إلى غير الحماقة والسفاهة والضلالة والتشبث بمقولات فارغة تافهة جوفاء لا تغني من الحق شيئا.
وبعد هذا الاستنكار لهذه المحاجة العميقة يأمر الله نبيه بالرد عليهم وهو أن الله ﴿ ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ﴾ أي لم هذه المحاجة العقيمة التي لا تنفع مع أن البدهيات تزجي بأن الله جلت قدرته هو رب الجميع، وليس ربكم وحدكم كما تزعمون وتتوهمون ولكنه ( ربنا وربكم ) وكذلك فإن أعمالنا غير أعمالكم، فكل منا يعمل على شاكلته، وكل منا ملاق حسابه عند ربه، والله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا وليس بغافل عما يعمل المفسدون، فأنتم بريئون منا ونحن بريئون منكم. جاء في ذلك قوله سبحانه في آية أخرى :( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريئ مما تعملون ).
وقوله :﴿ ونحن له مخلصون ﴾ من الإخلاص وفعله خلُص بضم اللام أي صفا وصار نقيا. نقول : خلُص الماء من الكدر أي صفا تماما، وخلاصة الشيء ما صفا منه. ويطلق الإخلاص في الشرع أو الدين على تصفية الفعل أو القول من ابتغاء المخلوقين. فإن ابتغاء أحد من المخاليق يعني التشريك في القصد الدافع للفعل أو القول. أو هو تفتيت للنية في توجهها إلى الله وإلى غيره من العباد، سواء كانوا من الجنة أو الناس أو الملائكة. ذلك أن الإخلاص في القول أو الفعل يعني أن يكون التوجه منصبا تماما في سبيل الله، وأن يكون القصد محصورا في ابتغاء مرضاة الله وليس منشطرا إلى شطرين أو إلى جملة أشطر لتتعدد النوايا والقصود ويكون التشريك في الابتغاء والعبادة، فلا يبقى للإخلاص بعد ذلك وجود. حتى إن الإشراك في الابتغاء والقصد لا يستحق إلا التنديد والرفض، ولا يستوجب غير التخسير والحبوط، ولا قيمة عندئذ للشطر من الابتغاء السارب في طريق الله والذي يحسبه الواهم ضربا من الإخلاص. والحقيقة أن قضية الإخلاص أساسية وخطيرة وكبرى وهي لا تقبل الانشطار أو التجزئة، ولكنها قضية واحدة منسجمة لا تتجزأ، فلا تصلح أن تنشطر بين الله وأحد من خلقه.
وبعبارة أخرى فإن الإخلاص لا يكون إلا لله وليس لأحد من خلقه معه، وإذا كان شيء من ذلك بانت الإخلاص منعدما وغير ذي وجود. يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الصدد من الإخلاص : " إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي. يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالي، فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنا لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء " ١
﴿ قل أأنتم أعلم أم الله ﴾ ولا شك أن الله أعلم بحقيقة الأمر، فهو سبحانه أعلم أن إبراهيم ما كان من إحدى الطائفتين، وليس على ملة إحداهما، ولكنه كان حنيفا مسلما.
قوله :﴿ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ﴾ سؤال تهديد لأهل الكتاب ووعيد. فإنه ليس أظلم من الذي يخفي في نفسه شهادة فيها الحقيقة أو الخبر الصحيح وهو أن النبيين كانوا على ملة الإسلام بما يعنيه من استسلام لله وامتثال لأمره سبحانه. وقيل المراد بكتم الشهادة هو إخفاء خبر النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ إذ كان مذكورا في التوراة والإنجيل وكان أهل الكتاب يجدونه مكتوبا باسمه عندهم، لكنهم تغاضوا عن ذلك وعمدوا إلى اسمه عليه السلام فأزالوه، وفي ذلك نكران للشهادة وكتم لما أودعهم الله إياه من أمانة العلم والخبر وكشفهما للناس، لا جرم أن هذا الكتم في الشهادة غاية في العتو أو الظلم يسقط فيه هؤلاء الجاحدون الضالون.
قوله :﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ ( ما ) تعمل عمل ليس. لفظ الجلالة اسمها مرفوع. ( بغافل ) الباء حرف زائد، غافل خبر ما، وغافل من الغفلة وهي غيبة الشيء عن بال الإنسان وعدم تذكره له على سبيل الإهمال. وحاشا لله سبحانه أن يلحقه شيء من عيوب البشر مثل الغفلة فإنه جل وعلا منزه عن الضعف والنقص كعيوب النسيان أو الغفلة أو غير ذلك من عيوب لا تبرح بني البشر، لكن الله غير غافل عما يعمله الناس، وذلك ينطوي على تخويف وتنذير لأهل الكتاب الذين جحدوا ملة الإسلام وكذبوا خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام. وما أولئك بمفلتين من قبضة الله وعذابه الذي سيحيق بهم لزيغهم وتكذيبهم وفساد قلوبهم.
وفي سبب نزول هذه الآية ذكر عن ابن عباس قوله : إن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل عز وجل :( فولوا وجوهكم شطره ) أي نحوه، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا :( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) فأنزل الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ١.
هكذا يطلق المشركون والمنافقون واليهود في سفاهة وجهل سؤالهم عن تولي المسلمين للقبلة الجديدة. وهو سؤال سخيف وجاهل لا ينطوي على شيء من حسن النية أو سلامة التفكير أو رجاحة العقل. وذلك ديدنهم طيلة تاريخهم العابث الطويل. وهو ديدن السفهاء واللهو وفساد النية أو إطلاق العنان للسان بغير تحفظ ليهرف تهريفا أو يبعث بالعبارة في تسيب وثرثرة.
مع أن القضية هينة وبالغة اليسر لو صلحت النوايا وصفت القلوب وانتظم التفكير انتظاما يباعد بينه وبين الثرثرة السخيفة والتصور الهابط اللئيم.
إن القضية واضحة ويسيرة لمن يبتغي الوضوح واليسر، وهي أساسها أن الجهات جميعا لله وهي جزء من ملكوت الله العظيم المطلق، وهو سبحانه يأمر بالتوجه مثلما يريد سواء كان ذلك صوب الكعبة أو الشام أو المشرق أو المغرب ؛ فكل أولئك ملك لله الكبير المتعال ؛ ولذلك جاء الرد وجيزا ومؤثرا وحاسما ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ويشبه ذلك قوله سبحانه في آية أخرى سابقة تبين أن التقوى والخير والصلاح إنما يتحقق بالإيمان الصحيح المقترن بالعمل المشروع الصالح وليس بالمظاهر الشكلية التي يحددها التوجه نحو الشرق أو الغرب ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله... ).
قوله :( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) يريد الله أن يهدي هذه الأمة إلى القبلة العظيمة قبلة إبراهيم عليه السلام لتكون القبلة المتبعة حتى آخر الزمان. والله جلت قدرته يهيء لعباده الصالحين من الأسباب ما ييسر لهم الاهتداء والمسير على الصراط المستقيم وهو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه. وإذا فرط الناس في ما تهيأ لهم من أسباب الهداية كانوا من المفرطين الذين أوردوا أنفسهم موارد الخسران والهلاك.
نود أن نمر على بعض المسائل التي تنبثق عن هذه الآية لنناقشها من الوجهة الشرعية. منها : وقت تحويل القبلة بعد الهجرة إلى المدينة، أو حجم المدة التي توجه النبي والمسلمون خلالها نحو بيت المقدس بعد أن غادروا مكة إلى المدينة مهاجرين. فقد ذكر أن ذلك كان ستة عشر شهرا. وذلك ما أخرجه البخاري والدارقطني عن الباء قال : صلينا مع رسول الله ( ص ) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس. وقيل سبعة عشر شهرا استنادا إلى ما ذكر من رواية أخرى.
ومنها : كيفية استقبال بيت المقدس فهل كان ذلك عن رأي واجتهاد من النبي ( ص ) أو أن ذلك بناء على أمر من الله ووحي ؟ والذي عليه جمهور العلماء وفيهم ابن عباس أن استقبال النبي لبيت المقدس لدى مقدمه إلى المدينة كان بناء على أن وتوجيه من الله، ثم نسخ ذلك بوجوب استقبال الكعبة. ودليل قوله سبحانه :( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ). وذلك الذي نميل إليه ونرجحه.
ومنها : حين فرضت الصلاة على النبي والمسلمين في مكة، هل كانت قبلتهم حينئذ الكعبة أم بيت المقدس. جاء في ذلك قولان. فقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن النبي والمسلمين كانوا يستقبلون وهم في مكة بيت المقدس، وظلوا كذلك حتى هاجروا إلى المدينة ومكثوا يستقبلونه سبعة عشر شهرا أخر إلى أن أمرهم الله بالتوجه صوب الكعبة.
وثمة قول آخر، وهو المعتمد والذي نرجحه، وهو أن قبلة المسلمين الأولى كانت الكعبة فقد أمروا- وهم بمكة- بالتوجه إلى الكعبة كأول قبلة حتى هاجروا إلى المدينة فصرفهم الله إلى الشام حيث بيت المقدس إذ صلى صوبه ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا على الخلاف عسى أن يكون في ذلك تطييبا لقلوب يهود واستمالة لمشاعرهم فيما قد يكون سببا في ترغيبهم في الإسلام. وبعد ذلك أمر النبي والمسلمون بالتوجه إلى الكعبة مرة أخرى.
ومنها : أن القبلة أول ما نسخ من القرآن وأنها نسخت مرتين، كذلك أجمع العلماء. أما المرتان اللتان وقع فيهما النسخ على القبلة فإحداهما نسخ التوجه إلى مكة ؛ ليستقبل المسلمون بيت المقدس. وثانيتهما نسخ هذا الحكم ليستقبلوا الكعبة مرة أخرى٢.
ومنها : جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو المعتمد عند الأصوليين مع أن هذه مسألة خلافية. وقد ذهب الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء إلى أن السنة تنسخ بالكتاب. وقالوا : إن ذلك جائز عقلا وشرعا. أما جوازه عقلا فبيانه أن الكتابة والسنة كليهما وحي من الله، لكن السنة وحي غير متلو. ونسخ أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلا. أما جوازه شرعا فهو وقوعه، كمسألتنا هذه، وهي نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه نحو الكعبة. وهو ما يقتضيه قوله تعالى :( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم ) والآية فيها الدليل على جواز نسخ السنة بالقرآن. وكيفية ذلك أن صلاة النبي في المدينة نحو بيت المقدس كانت حكما مبنيا على السنة أصلا إذا لم ينزل في هذا الحكم قرأن. حتى نسخ هذا الحكم باستقبال الكعبة ؛ بناء على ما نزل من القرآن كقوله تعالى :( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ٣.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ١٨٩- ١٩٠..
٣ - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي جـ ٢ ص ٢٦٩، والمحصول للرازي جـ ١ ص ٥٥٣- ٥٥٥..
لقد جعل الله هذه الأمة بين الأمم وسطا ؛ لتكون خير البشرية كافة بما أوتيت من خصائص مميزة قمينة بتفضيلها تفضيلا ظاهرا. وهي خصائص تتجلى في كمال الكتاب المعجز الحكيم الذي جاء حاويا لخبر الأولين والآخرين، وفيه صلاح البشرية في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. وتتجلى كذلك في كمال الشريعة والمنهاج اللذين يغطيان واقع الحياة كلها بما فيها من قضايا السياسة والتربية والاقتصاد والسلوك ومطالب النفس والروح جميعا.
وتتجلى أيضا في الموقف المتميز السليم المجانب لكلا الإفراط والتفريط، وهاتان ظاهرتان مرفوضتان مغايرتان لطبيعة الإسلام القائمة على الاعتدال ومراعاة الفطرة السليمة، ومعلوم أن الإسلام دين وسط، فلا هو بالإفراط كالذي عليه اليهود من حيث تحريفهم للتوراة بما يلائم شهواتهم ويميل معها ميلا عظيما، ولا هو بالتفريط الذي عليه النصارى وذلك من حيث عزوفهم في ملتهم عن الحياة وما فيها من طيبات إلى الدرجة المغالية المذمومة التي لا تطاق والتي تحتسب ضربا من العذاب يؤز النفس ويؤلم الجسد.
ومن جهة أخرى فقد كان اليهود مفرّطين ؛ وذلك لاجترائهم المذهل على أنبيائهم بالقتل والضرب والتكذيب والتعذيب، أما النصارى فقد كانوا مفرطين ( بسكون الفاء ) ؛ وذلك لغلوهم المسرف في إجلال نبيهم عيسى عليه السلام حتى أحلوه مقام الإله، لكن أمة الإسلام ليست على شيء من ذلك. ولكنها الأمة المعتدلة الوسط التي تقوم على المحجة المستقيمة والتي تنفر من التفريط والإفراط. فهي أمة لا تعبد أحدا سوى الله، وترتكز في عقيدتها على أساس ثابت مكين واحد هو التوحيد القائم على أعظم مقولة في دين الإسلام وهي " لا إله إلا الله ".
وينظر المسلمون للأنبياء جميعا على أنهم عباد مصطفون أبرار قد اختارهم الله من بين خلقه لتناط بهم أمانة التبليغ. فهم بذلك أناس من جنس البشر، لكنهم يفوقون البشر بما أوتوه من حظوة الاصطفاء، وبما ركب في شخوصهم وفطرتهم من زخم الروح والاستعداد الذاتي العظيم ومن العصمة التي تدرأ عن طبائعهم مقارفة الخطايا.
قوله :( لتكونوا شهداء على الناس ) اللام للتعليل، وواو الجماعة اسم تكون في محل رفع، ( شهداء ) خبر ومفردها شاهد أو شهيد.
وهذه خصيصة أخرى من كبريات الخصائص لهذه الأمة المبجلة الوسط. وتتجلى هذه الخصيصة لهذه الأمة في كونها شهيدة على الناس يوم القيامة ؛ إذ تشهد لهم أو عليهم بما أسلفوه من أعمال.
وفي هذا الصدد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده عن النبي ( ص ) أنه قال : " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم، فيُدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح : من يشهد لك، فيقول محمد وأمته ".
وأخرجه الإمام أحمد بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ص ) : " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم هذا ؟ فيقولون : لا. فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم. فيقال : من يشهد لك فيقول : محمد وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم. فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا ".
هذا هو تأويل الشهادة لهذه الأمة على الناس يوم القيامة. وفي ذلك إبراز للشأن العظيم الذي تحتله هذه الأمة بما يجعلها خير أمة أخرجت للناس، ويجعلها كذلك أمة وسطا لتقف على ذروة السنام من التكريم والاعتبار في الدنيا والآخرة.
قوله :( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) القبلة التي كان النبي عليها هي بيت المقدس. فهي قبلته والمسلمين حال هجرتهم إلى المدينة وذلك بأمر وتوجيه من الله سبحانه ؛ ليميز أهل اليقين من الشك وليستبين الذين يثبتون في الطريق وهم ماضون على صراط الله وعلى منهجه القويم، ثم الذين ينكصون على أعقابهم وينتكسون انتكاسة المرتدين الأشقياء.
قوله :( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) كان تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى مكة أمرا كبيرا أثار الاهتمام والتساؤل من كثير من الناس، وهو كذلك حدث يثير دهشة يهود وكثيرين غيرهم ممن راعهم هذا التحول غير المتوقع ؛ لذلك كانت قضية تحويل القبلة بالنسبة لأولئك جميعا أمرا عظيما قد تمخض عن فتنة أفقدت ضعاف العزيمة والعقيدة جل إيمانهم أو بعضه ( إلا على الذين هدى الله ) فإنه يستثني من هؤلاء المفتونين المنتكسين من ثبتوا على الحق ولم يزعزعهم إعصار الفتنة ممن هدوا إلى الامتثال لأمر الله والانقياد لشرعه وما أنزله من تكليف مهما كان ثقيلا أو عسير الاحتمال.
قوله :( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) كان ذلك جوابا عن سؤال طرحه بعض المسلمين عن مصير الذين صلوا نحو بيت المقدس ثم ماتوا من قبل أن تحول القبلة نحو مكة، فهل هم مأجورون على استقبالهم الأول ؟ فقد أخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس أن قوما كانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم ماتوا، فقال الناس : ما حالهم في ذلك ؟ فأنزل الله هذه الآية. وبذلك فإن الله لا يضيع أجر هؤلاء العاملين الذين استقبلوا بيت المقدس في صلاتهم طيلة مقامهم في المدينة من قبل أن تحول القبلة إلى البيت الحرام٢. أما قوله :( إيمانكم ) أي بالقبلة الأولى التي كنتم عليها وذلك بناء على اتباعكم أمر نبيكم إذ توجه صوب بيت المقدس فأطعمتموه وتوجهتم معه دون مُشاقة أو خلاف. ولا شك أن ذلك كله منوط بإيمانكم بالله ورسوله وأنكم تتصرفون وتنشطون تبعا لما تفرضه العقيدة.
قوله :( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) ذلك تعقيب على ما سبق من حكم، وهو تعقيب ينسجم تماما مع ما سبقه من معنى، وبذلك يأتي الحكم السابق والتعقيب اللاحق في الآية مؤتلفين تمام الائتلاف ومتسقين غاية الاتساق. فالله جلت قدرته لا يظلم الناس شيئا ولا يحرم أحدا من حقه مثقال ذرة، حتى إن كانت هذه حسنة، فإنه يضاعفها أضعافا كثيرة. وهو سبحانه لن يتر العالمين المتقين الذين صلوا نحو القدس أجورهم فهو سبحانه ( بالناس لرءوف رحيم ) الرؤوف من الرأفة وهي أشد من الرحمة. فالله تباركت أسماؤه من حيث رحمته بالمخاليق ليس كمثله أحد ورحمته بالعباد بالغة مطلقة لا تعرف الحدود.
وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين لولدها، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها. فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله ( ص ) : " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ألا تطرحه " ؟ قالوا : لا يا رسول الله. قال : " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها " ٣
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٦..
٣ - تفسير بن كثير جـ ١ ص ١٩٢ والكشاف جـ ١ ص ٣١٩..
جاء في سبب هذه الآية ما ذكر عن ابن عباس قوله : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله ( ص ) لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ( ص ) بضعة عشر شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) إلى قوله :( فولوا وجوهكم شطره ).
وذكر عن البراء أن النبي ( ص ) قبل بيت المقدس سنة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت، وأنه صلى صلاة العصر وصلى قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بلله لقد صليت مع رسول الله ( ص ) قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وفي رواية عن البراء كذلك قال : لما قدم رسول الله ( ص ) المدينة صلى نحو المقدس ستة عشرا شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله ( ص ) يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فصرف إلى الكعبة١.
إن الله يرى ويعلم تحول وجه النبي ( ص ) إلى السماء متمنيا أن يأمره الله بتحويل قبلته وهو في الصلاة إلى مكة حيث الكعبة الشريفة.
وقد استجاب الله تباركت أسماؤه لهذه الرغبة المستكنة وهذا المطلب القدسي الذي يعتبر عن أصدق معاني الإخلاص والتشوف لأعظم مكان في الأرض، مكة حيث الكعبة التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا.
استجاب الله لما كان يتمناه النبي ( ص ) إذ أعلمه أنه منجز له رغبته بالفعل حتى يرضى وتطمئن نفسه ( فلنولينك قبلة ترضاها ) وذلك هو الوعد اليقين من الله، الوعد الذي لا يتخلف وهو تحقق حالما أمره الله بالتوجه ناحية الكعبة هو ومن معه ومن بعده من المسلمين إلى قيام الساعة ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) والشطر معناه الجهة أو القصد أو الناحية أو الحيال٢.
واختلف العلماء في حقيقة المراد بالجهة أو الناحية هنا والتي ينبغي على المصلي أن يتوجه صوبها حال الصلاة. فقد ذهب فريق من أهل العلم منهم الشافعي إلى أن المراد بالشطر هنا هو عين الكعبة، فلا تتم صلاة المسلم إلا إذا استقبل عين الكعبة، وذلك استنادا إلى ظاهر قوله :( شطره ) أي جهته المعينة وهي الكعبة. وشطر منصوب على الظرفية المكانية. والهاء ضمير في محل جر مضاف إليه.
وذهب فريق آخر من العلماء وهم الأكثر إلى أن المقصود استقبال الجهة لا العين، وبذلك يكون معنى شطره جهته أو قبله. وذلك هو الراجح في تقديرنا للأدلة التالية :
أولا : ما رواه ابن عباس أن رسول الله ( ص ) قال : " البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " وفي حديث آخر عن النبي ( ص ) : " مابين المشرق والمغرب قبله " ٣.
ثانيا : أن التكليف باستقبال العين غير مقدور عليه وهو من باب التكليف بالمحال أو بما يشق كثيرا ؛ إذ ليس محققا أن يكون في مستطاع المصلي استقبال البيت عينه. ويمكن أن ينبني على ذلك :
ثالثا : ما لو تصورنا صفا طويلا من المصلين، فإن من المحال أن يتجه جميعهم إلى نفس البيت، وحقيقة ذلك ما لو كان طول الصف أضعاف طول البيت، فإنه لا يكون في استقباله عينا إلا الذين يتساوى مجموع طولهم مع طول البيت نفسه، أما الآخرون من الصف فلا يستطيعون البتة أن يكونوا قبل البيت بالعين والتحديد ؛ لذلك يمكن الجزم بأن المقصود بالاستقبال الجهة لا العين.
أما المشاهد للكعبة المعاين لها فإن عليه أن يستقبلها نفسها لا محالة، وهو إن ترك مثل هذا الاستقبال المحدد فلا صلاة له، ولا يعذر حينئذ إن صلى صوب أية جهة أخرى، وذلك الذي عليه إجماع العلماء.
وإذا خفيت القبلة على المصلي كأن يجنّ عليه الليل، أو يكون في سجن مظلم أو زنزانة ضيقة حاشرة غابت فيها معالم القبلة فإن على المصلي في مثل هذه الحال أن يتحرى القبلة ما أمكن، حتى إذا بذل الجهد المقدور واستبرأت ذمته من وجوب البحث والتحري جاز له أن يصلي صوب الجهة التي وقع عليها استدلاله٤.
وقوله :( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ) هذا المدلول وثيق الصلة بما سبق من أحكام ومدلولات وهو رد على أهل الكتاب- اليهود- الذين ساءهم تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى البيت العتيق مع أنهم ( اليهود ) يعلمون تمام العلم أن عملية التحويل لهي حق لا شك فيه، وأنها قد أوحي بها إلى النبي فامتثل لأمر الله سبحانه. وهم كذلك يقرأون في كتابهم التوراة أن هذا النبي لصادق، وأنه لا ينطق عن الهوى وأن ما جاءهم به إن هو إلا من عند الله ساء في ذلك الأخبار أو التكليفات الدينية مثل تحويل القبلة وغيرها.
قوله :( وما الله بغافل عما يعملون ) ذلك تهديد مخوف يرعب الله به أولئك الجاحدين من أهل الكتاب الذين مردوا على المناكفة الغليظة والتحدي اللئيم، فأبوا إلا الله أن يقاوموا دعوة الإسلام فيناصبوه العداء والحرب من أول مجيئه حتى يومنا هذا وما بعده من أيام إلى قيام الساعة. وبذلك فإن الله يتهدد هؤلاء الفاسدين الجاحدين مرضى النفوس، وينذرهم بعذابه المنتظر والذي سيحيق بهم والله سبحانه ليس بغافل عنهم. وأداة النفي ( ما ) تعمل عمل ليس ولفظ الجلالة اسمها مرفوع. وخبرها غافل والباء زائدة.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٣٥..
٣ - رواه الترمذي عن أبي هريرة..
٤ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ١٧٢ وما بعدها وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٤٢ والبدائع جـ ١ ص ١١٨ والمجموع للنووي جـ ٣ ص ٩٢ والمغني جـ ١ ص ٤٣٨...
وقوله :( ولئن ) اللام موطئة للقسم : والله لئن أتيت. وقوله :( ما تبعوا قبلتك ) جواب القسم المقدر المحذوف سد مسد جواب الشرط.
يبين الله لرسوله في هذه الآية أن أي دليل من المنطق أو الحجة أو الدين لن يحمل اليهود أو النصارى على الاقتناع فيتبعوا القبلة التي استقر عليها حكم الله نهائيا. وهم في ذك لا يدفعهم لمثل هذه المواقف غير التعصب والهوى وشدة المكابرة والعناد.
وكذلك فإن النبي ( ص ) ماضي على الحق باتباعه القبلة الأخيرة وهي البيت العتيق، وهو عليه السلام في ممتثل لأمر ربه مطيع لتوجيهه وشرعه دون أدنى تردد أو وناء. فما كان له البتة أن يتبع قبلة هؤلاء المشركين. والمشركون بدورهم معاندون مكابرون لا يتبعون قبلة الإسلام. بل إن الفريقين المشركين وهم النصارى واليهود مفترقان مختلفان متباينان لا تجمعهما قبلة واحدة، ولا يميل أحدهما لقبلة الفريق الآخر ؛ ولذلك قال :( ومت بعضهم بتابع قبلة بعض ) فاليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس، ثم يخوف الله عباده المؤمنين ويحذرهم من أتباه الكافرين في أهوائهم مع أنهم يعلمون تمام العلم أن محمدا ( ص ) نبي صادق، وأنه قد أوحي إليه من ربه. فيقول سبحانه في ذلك :( ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) وبالرغم من أن الخطب في ظاهره موجه للنبي ( ص )، لكن المقصود به المسلمون. فهم الذين يتعرضون لأسباب الفتنة وكل ظواهر الغواية والترهيب والتضليل والخداع، لكن النبي ( ص ) معصوم، مميز بفطرته المثلى وسجاياه العظام، لاجرم أنه لا تنال منه أعصاير الفتنة بكل ضروبها وألوانها.
٢ -- الكشاف جـ ١ ص ٣٢١ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٨٢ وفتح القدير جـ ١ ص ١٥٥..
قوله :( فاستبقوا الخيرات ) أي بادروا في تسابق جاد وعازم لفعل الخيرات وهي بعمومها تتناول كل وجوه الطاعة والامتثال من صلاة وزكاة وجهاد وإكرام الجار وبر بوالدين وإغاثة للمضطر والمكروب والملهوف حتى إماطة الأذى عن الطريق. ذلك كله من وجوه الطاعة والصلاح التي يتناولها مفهوم الخيرات. وهي جميعا قد دعا الله سبحانه لمبادرتها في نشاط لا يعرف التثاقل، وفي حماسة لا يناسبها الخذلان أو التلبد أو العجز. ينبغي أن يبادر المؤمنون فعل الخيرات جميعا في همة عالية وجد مندفع، يحفزهم لذلك العقيدة المؤثرة الفعالة التي تربط المؤمن به برباط من الثقة واليقين بعظمته وجلاله سبحانه، ليكون مستديم الصلة به وحده دون أحد من خلقه فيظل على الدوام عاملا بشرع الله وفاعلا لأوجه الخير في كل مناحي الحياة.
وقيل : إن المقصود باستباق الخيرات هو المبادرة بالصلاة على وقتها دون تأخير وذلك على الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، مع أنهم متفقون على أفضلية الأداء في أول الوقت. فقد روى الدارقطني عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله ".
وروى الدارقطني أيضا بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " خير الأعمال الصلاة في أول وقتها ".
وفي رواية ثالثة للدارقطني أن النبي ( ص ) قال : " أول الوقت رضوان الله، ووسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله ".
على أن هناك خلافا بين الفقهاء في بعض الصلوات من حيث أداؤها في وقتها أو تأخيرها. فقد ذهب الشافعي إلى أفضلية أداء الصلاة في وقتها دون تأخير، وهو في ذلك يعني الصلوات الخميس جميعا، سواء في ذلك الظهر أو العشاء الأخيرة، وسواء كانت الوقت صيفا أو شتاء، وذلك استنادا إلى ظاهرة الأدلة من السنة نفسها.
وذهب الإمام مالك إلى أفضلية تأخير صلاة الظهر عن وقتها حتى الإبراد، وذلك في الصيف حيث الحر الشديد ؛ استنادا إلى ما أخرجه البخاري والترمذي بإسندهما عن أبي ذر الغفاري قال : كنا مع النبي ( ص ) في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي ( ص ) : " أبرد " ثم أراد أن يؤذن فقال له : " أبرد " حتى رأينا فيء التلول فقال النبي ( ص ) : " إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وهو ما ذهب إليه الإمام مالك أيضا فقد ذكر عنه قوله : أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر لما بينا من أدلة. وتفصيل هذه المسائل في مواطنه من كتب الفقه.
وقوله :( أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ) ( أين ما ) أداة شرط تجزم فعلين. ( تكونوا ) فعل الشرط مجزوم بحذف النون. ( يأت ) جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة من آخره.
بعد الدعوة للاستباق في فعل الخيرات ومبادرة الطاعات دون تأخير، يعيد الله للأذهان فكرة الموت، وهو أمر مريع مخوف جلل لا يطرأ على البال حتى يوقظ فيه دوام الصحو واليقظة، ولا يمس خبره الحس والوجدان حتى يثير في النفس الرهبة والتوجس.
فإن مصير الخليفة إلى الموت المتربص المحتوم، ثم نجد بعد ذلك مساقها إلى الله في يوم حافل بالأهوال والقواصم وحافل بالشدائد والوجل. وذلكم يوم القيامة حيث الحساب الدقيق الكاشف عن الأعمال والنوايا بين يدي الله سبحانه. وهو العالم بالأسرار والأستار، المطلع على خفايا الصدور وهو ( على كل شيء قدير ).
قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ).
وقوله :( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ).
هذه آيات ثلاث تتفق من حيث التجانس في العبارة ومن حيث المعنى والمضمون.
وهي آيات يلاحظ فيها التكرار الذي لا يقع في الكتاب الحكيم عبثا، بل إنه تكرار ينطوي على كثير من المعاني والأحكام.
ويمكن القول هنا أن التكرار في هذه الآيات الثلاث حول استقبال الكعبة يحتمل في تعليله أمرين. أحدهما : التأكيد من الله جلت قدرته للنبي والمسلمين على الامتثال في طواعية تامة لاستقبال القبلة الجديدة بعد أن نسخ الحكم السابق وهو استقبال بيت المقدس ؛ وذلك كيلا يجد بعض المسلمين في نفوسهم شيئا من التردد أو الشك أو العنت، وليبادروا التوجه في الحال نحو البيت العتيق ؛ تنفيذا لكلمة الله وتحقيقا لأمره الذي لا معقب له.
الثاني : أن التكرار ينطوي على جملة فوائد شرعية تفصيلية في تبيين كيفية التوجه والاستقبال في مختلف الحالات أو الظروف أو المواضع :
منها : أن من عاين الكعبة مُشاهدة أو حسا عليه أن يتوجه نحوها عينها بالذات، وإذا لم يفعل ذلك كأن يتجه صوب جهة أخرى مخالفة فإنه لا صلاة له أو كالذي افتقد شرطا أساسيا من شروط الصلاة وهو استقبال القبلة، وقيل بل هو ركن من أركانها على الخلاف.
ومنها : أن من كان في مكة، لكنه لم يشاهد البيت فعليه أن يستقبل المسجد الحرام حيث الكعبة.
ومنها : أن من كان خارج مكة من مختلف البلدان فعلية أن يتوجه في قبلته نحو مكة، وقد بينا سابقا الحديث حول هذه المعاني إذ يقول الرسول ( ص ) : " البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ".
ومنها : إذا سافر المسلم وأراد أن يقوم للصلاة فعليه أن يتوجه نحو القبلة أول دخوله الصلاة حين التحريم، ولا جناح عليه بعد ذلك إذا ما اتجهت به السفينة أو الطائرة أو وسيلة النقل نحو أية جهة أخرى مغايرة.
وقوله :( لئلا يكون للناس على الله حجة ) الحجة المحاجة وهي المخاصمة أو المجادلة. والمراد أن الله شرع لكم الكعبة قبلة تتوجهون نحوها في الصلاة حيثما كنتم، ولا يشترط في ذلك أن يكون التوجه نحو العين ما دمتم منتشرين في بقاع الأرض ولم تستطيعوا معاينة البيت أو مشاهدته. فإن قال لكم المشركون : كيف تستقبلون البيت ولستم ترونه، فإن سؤالهم أصبح غير ذي قيمة مادام المقصود هو الجهة لا العين.
قال القرطبي في تأويل هذه الآية : لا حجة لأحد عليكم إلا حجة الداحضة إذ قالوا :( ما ولاهم )، وتحير محمد في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق.
وقوله :( إلا الذين ظلموا منهم ) أي ليس لأحد عليكم حجة إلا الحجة الداحضة التي تفرزها ألسنة الظالمين من أعدائكم، وهي حجة قائمة على الفساد وانتفاء التفكير السليم.
وقوله :( فلا تخشوهم واخشوني ) " لا " تفيد النهي. ( تخشوهم ) فهل مجزوم بحذف النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل. والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والميم للجميع. أما الخشية فهي الخوف، فإن الله يحذر عباده المؤمنين من خشية الناس بل عليهم أن يخشوا ربهم وحده ؛ فإنه أحق أن يخشاه الناس.
وقد تنتاب قلب المرء غاشية من الخوف من البشر. فإنه لا إثم في ذلك مادامت هذه الخشية لم تؤثر في عزيمة المؤمن ولم تخفف من طاعته وامتثاله لأوامر الله، لكن الخشية من الناس إذا ما كانت سببا في اجتيال العباد عن عقيدتهم وفتنتهم عن دينهم، أو كانت سببا في زعزعة الإيمان وتبديده في النفوس فيما يحرف المؤمنين عن صراط الله ليسيروا في طريق الباطل والشهوات.
قوله :( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) تمام النعمة من الله على عباده المؤمنين بجعلهم ملتئمين منسجمين على أساس من عقيدة الإسلام لمتينة الثابتة التي تقوم على التوحيد وعلى أساس من أخوة الإيمان تؤلف بين قلوب هذه الأمة ؛ ليكونوا متحدين في تصوراتهم وتطلعاتهم وأهوائهم، وليكونوا متوجهين نحو قبلة ثابتة واحدة هي البيت العتيق الذي كتبه الله للناس مثابة وأمنا. وفي ذلك كله ما يجعل أتباع هذه الملة في نعمة من الله وفي هداية منه سبحانه. لا جرم أن الله كتب لهذه الأمة الهداية، فهي على المحجة البيضاء، والطريق السوي السليم. وهو قوله :( ولعلكم تهتدون ) ١.
قوله :( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ).
وقوله :( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ).
هذه آيات ثلاث تتفق من حيث التجانس في العبارة ومن حيث المعنى والمضمون.
وهي آيات يلاحظ فيها التكرار الذي لا يقع في الكتاب الحكيم عبثا، بل إنه تكرار ينطوي على كثير من المعاني والأحكام.
ويمكن القول هنا أن التكرار في هذه الآيات الثلاث حول استقبال الكعبة يحتمل في تعليله أمرين. أحدهما : التأكيد من الله جلت قدرته للنبي والمسلمين على الامتثال في طواعية تامة لاستقبال القبلة الجديدة بعد أن نسخ الحكم السابق وهو استقبال بيت المقدس ؛ وذلك كيلا يجد بعض المسلمين في نفوسهم شيئا من التردد أو الشك أو العنت، وليبادروا التوجه في الحال نحو البيت العتيق ؛ تنفيذا لكلمة الله وتحقيقا لأمره الذي لا معقب له.
الثاني : أن التكرار ينطوي على جملة فوائد شرعية تفصيلية في تبيين كيفية التوجه والاستقبال في مختلف الحالات أو الظروف أو المواضع :
منها : أن من عاين الكعبة مُشاهدة أو حسا عليه أن يتوجه نحوها عينها بالذات، وإذا لم يفعل ذلك كأن يتجه صوب جهة أخرى مخالفة فإنه لا صلاة له أو كالذي افتقد شرطا أساسيا من شروط الصلاة وهو استقبال القبلة، وقيل بل هو ركن من أركانها على الخلاف.
ومنها : أن من كان في مكة، لكنه لم يشاهد البيت فعليه أن يستقبل المسجد الحرام حيث الكعبة.
ومنها : أن من كان خارج مكة من مختلف البلدان فعلية أن يتوجه في قبلته نحو مكة، وقد بينا سابقا الحديث حول هذه المعاني إذ يقول الرسول ( ص ) :" البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ".
ومنها : إذا سافر المسلم وأراد أن يقوم للصلاة فعليه أن يتوجه نحو القبلة أول دخوله الصلاة حين التحريم، ولا جناح عليه بعد ذلك إذا ما اتجهت به السفينة أو الطائرة أو وسيلة النقل نحو أية جهة أخرى مغايرة.
وقوله :( لئلا يكون للناس على الله حجة ) الحجة المحاجة وهي المخاصمة أو المجادلة. والمراد أن الله شرع لكم الكعبة قبلة تتوجهون نحوها في الصلاة حيثما كنتم، ولا يشترط في ذلك أن يكون التوجه نحو العين ما دمتم منتشرين في بقاع الأرض ولم تستطيعوا معاينة البيت أو مشاهدته. فإن قال لكم المشركون : كيف تستقبلون البيت ولستم ترونه، فإن سؤالهم أصبح غير ذي قيمة مادام المقصود هو الجهة لا العين.
قال القرطبي في تأويل هذه الآية : لا حجة لأحد عليكم إلا حجة الداحضة إذ قالوا :( ما ولاهم )، وتحير محمد في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق.
وقوله :( إلا الذين ظلموا منهم ) أي ليس لأحد عليكم حجة إلا الحجة الداحضة التي تفرزها ألسنة الظالمين من أعدائكم، وهي حجة قائمة على الفساد وانتفاء التفكير السليم.
وقوله :( فلا تخشوهم واخشوني ) " لا " تفيد النهي. ( تخشوهم ) فهل مجزوم بحذف النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل. والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والميم للجميع. أما الخشية فهي الخوف، فإن الله يحذر عباده المؤمنين من خشية الناس بل عليهم أن يخشوا ربهم وحده ؛ فإنه أحق أن يخشاه الناس.
وقد تنتاب قلب المرء غاشية من الخوف من البشر. فإنه لا إثم في ذلك مادامت هذه الخشية لم تؤثر في عزيمة المؤمن ولم تخفف من طاعته وامتثاله لأوامر الله، لكن الخشية من الناس إذا ما كانت سببا في اجتيال العباد عن عقيدتهم وفتنتهم عن دينهم، أو كانت سببا في زعزعة الإيمان وتبديده في النفوس فيما يحرف المؤمنين عن صراط الله ليسيروا في طريق الباطل والشهوات.
قوله :( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) تمام النعمة من الله على عباده المؤمنين بجعلهم ملتئمين منسجمين على أساس من عقيدة الإسلام لمتينة الثابتة التي تقوم على التوحيد وعلى أساس من أخوة الإيمان تؤلف بين قلوب هذه الأمة ؛ ليكونوا متحدين في تصوراتهم وتطلعاتهم وأهوائهم، وليكونوا متوجهين نحو قبلة ثابتة واحدة هي البيت العتيق الذي كتبه الله للناس مثابة وأمنا. وفي ذلك كله ما يجعل أتباع هذه الملة في نعمة من الله وفي هداية منه سبحانه. لا جرم أن الله كتب لهذه الأمة الهداية، فهي على المحجة البيضاء، والطريق السوي السليم. وهو قوله :( ولعلكم تهتدون ) ١.
وذلك تذكير من الله للمؤمنين بنعمته التي جعلها لهم مثل إرساله محمدا ( ص ) من بينهم هاديا لهم ومرشدا يتلو عليهم آيات الله سبحانه وفيها من الترشيد وخير البيان ما يخرجهم من الظلمات إلى النور، وما يطهرهم من دنس الجاهلية الضالة وما فيها من أدران الشرك وأوضار الباطل.
قوله :( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) ( الكتاب )، يعني القرآن ( الحكمة ) معناها السنة النبوية، على الراجح من أقوال العلماء. فإن النبي ( ص ) مخول من ربه بتبيين الكتاب للناس في سنته القولية والعملية ؛ وذلك ليعلموه وليقفوا على حقائقه وتفصيلاته وما انطوى عليه من معان وأحكام وبينات مما لم يكونوا يعلمون من قبله بمثله.
فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن أنس قال : قال رسول الله ( ص ) : " قال الله عز وجل : يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الملائكة – أو قال : في ملأخير منه- وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة ".
قوله :( واشكروا لي ولا تكفرون ) الشكر هو الاعتراف بالنعمة وفعل الطاعة وترك المعصية. وبذلك فإن الشكر يكون باللسان مع إقرار القلب المؤمن بالنعمة، ويرافق ذلك كله العمل بأوامر الله. فإنه لا يجدي شكران باللسان وإقرار بالقلب من غير اقتران بالطاعة. بل إن الشكران على وجهة الأتم إنما يكون بالقول والعمل مع انعقاد القلب على الإقرار والخضوع. وأيما انتقاص من ذلك لسوف يكون كفرانا قد نهى الله عنه فقال :( ولا تكفرون ) والكفر هو الستر والتغطية. ويراد به هنا الجحود لنعمة الله. فإن العبد المؤمن مدعو لذكر الله بطاعته، ومدعو كذلك لشكرانه بالاعتراف بنعمه وفضله عليه وعدم كفرانه لهذه النعمة ؛ فإن جحد هذه النعم لهو الكفران١.
والصبر لغة معناه حبس النفس عن الجزع. وبذلك فإن الإنسان الصابر هو الذي يحبس نفسه عن مواطن السقوط والضعف، فلا يضل أو يهوي، وقد ورد أن الصبر أنواعه ثلاثة : صبر على ترك المحارم والمعاصي، وصبر على فمعل الطاعات والقربات، وصبر عل المصائب والنوائب كالمرض أو الفقر أو موت قريب أو عزيز.
والله جلت قدرته يدعو المؤمنين في كلامه هذا أن يستعينوا – حال مضيهم على طريق الله والدعوة إليه- ( بالصبر والصلاة ) فإن الصبر خير ما يهتدي إليه الإنسان الداعية ليظل قوي الأعصاب والبأس، فلا تنال منه الشدائد والفتن. وكذلك الصلاة فإنها من خير ما يفر نحوها المؤمن إذا انتابته النوائب والمحن، فإنه في الصلاة تجد النفس أمنها وسكينتها، ويجد القلب رجاءه وطمأنينته، فيهدأ هدوء الآمن من المحبور. حتى إذا فرغ من الصلاة وجد في نفسه من اشتداد العزم والهمة ما يزداد به ثباتا وحماسة واستعصاما.
ولقد كان من شأن الرسول ( ص ) إذا حزبه أمر صلى ؛ لما في الصلاة من عذوبة الأمن والطمأنينة وسكون الأعصاب الفائزة المضطربة في ساعات تتوالى فيها الكروب وتشتد فيها الأحوال والخطوب. ولا يجد المؤمن العابد المبتلى حينئذ من مندوحة إلا الفرار إلى الله يبث إليه الشكوى، ويطرح ما في نفسه من لواعج التأزم والأسى، وذلك عبر خطاب يجلله الخشوع في الصلاة أو الدعاء، وبعد ذلك سوف يجد المؤمن العابد الصابر أنه غير مسيب ولا منقطع، وأنه في رعاية الله وكلاءته ( إن الله مع الصابرين ).
قوله :( أموات بل أحياء ) أموات وأحياء، مرفوعان ؛ لأن كل واحد منهما خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير : هو أموات، بل هم أحياء١ ينهى لله عن تصور الموت لمن يقتل في سبيل الله شهيدا. فإن الشهادة عظيمة الأمر والقدر. وإن الشهداء صنف مميز من الناس الذين كتب الله لهم الرفيع من الدرجات، ليجيئوا في المنزلة بعد النبيين والصديقين وحسن أولئك رفيقا.
وفي هذه الآية برهان على أن الشهداء باقون أحياء، وأنهم لا يموتون، كقوله تعالى في آية أخرى :( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فهم دائمو الحياة بعد مقتلهم، وذلك على كيفية لا نعلمها نحن. وما نجاوز في العلم غير هذا الحد الذي بينته الآية هنا. وهو أن الذين يقتلون في سبيل الله أحياء غير أموات. أما تفصيل ذلك وبيان كيفيته فما أحاطنا القرآن من علم ذلك شيئا. فقال سبحانه :( ولكن لا تشعرون ) لا ندري كيف يظلون أحياء. وفي صورة أو كيفية. وما نوع الحياة التي جعلت لهم بعد الفوز بالشهادة، فهل هي حياة كحياتنا في هذه الدنيا، أم هي حياة من جنس آخر ؟.
وكذلك يبتلي الله عباده المؤمنين بمصيبة الموت، كأن يموت للمؤمن قريب أو حبيب يثير فيه بالغ الحزن والأسى.
ويبدو من صيغة التأكيد ( لنبلونكم ) والتي ترد في معنى القسم أن من سنة الله أن يُبتلى المؤمنون في أمنهم بالخوف، وفي قوتهم بالجوع، وفي أموالهم وثمراتهم بالنقصان والخسران، ثم في أنفسهم بالموت ؛ ليكون في ذلك امتحان عسير يمحص الله به المؤمنين الصابرين، أو يميز الثابتين الأقوياء من الضعفاء الخائرين الذي يجزعون في الشدة ويتملكهم الروع والهلع.
ثم يأمر الله نبيه ( ص ) أن يبشر الصابرين بجزيل الثواب وعظيم الأجر على صبرهم واحتمالهم دون أن يميلوا أو يتزعزعوا.
على أن الصبر على المحن إنما يكون معتبرا إذا كان عند صدمة الخبر الفادح، فإذا ما ثبت المؤمن لدى ورود الصدمة واسترجع فذلكم الذي له البشرى بالرحمة والرضوان. وفي ذلك قد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي ( ص ) قال : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ".
وشرط الصبر لتمامه وكمال شرفه ألا يجزع المبتلى عند صدمة الخبر الداهم، وألا يبث للناس شكايته على سبيل الإياس والزعزعة والابتئاس، ولكن ليكظم ألمه ويحبس نفسه عن البث والشكوى أو الأنين في ضعف وخور.
ولا تنحصر المصيبة في أنواع معلومة مما يصيب الإنسان فيؤزه ويؤلمه، ولكنها تشمل كل صورة من صور الابتلاء مهما كان حجمها أو تأثيرها. وبذلك فإن المصيبة كما يراها الدين تتضمن كل وجه من وجوه الشر التي تصيب الإنسان فتؤذيه، صغيرا كان الأذى أو كبيرا. فقد ذكر أن مصبح رسول الله ( ص ) قد انطفأ ذات ليلة فقال :( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فقيل : أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال : " نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة " وأخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله ( ص ) يقول : " ما يصيب المؤمن من وصب١ ولا نصب٢ ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمُّه إلا كفّر به من سيئاته " ٣.
٢ - النَّصب: التعب. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٢٥..
٣ - صحيح مسلم (٤/١٩٩٣) برقم ٢٥٧٣..
والصلوات مفردها صلاة. وهي من الله على عباده تعني العفو والمغفرة والثناء الحسن. اسم الإشارة ( أولئك ) عائد على الصابرين. وهم الثابتون المحتسبون الذين إذا أصابته مصيبة ثبتوا واسترجعوا. فإن أولئك يكرمهم الله بعفوه وغفرانه وينزل عليه رحمته وسلوانه ؛ وذلك لثباتهم وتجلدهم دون جزع أو نكوص. قوله :( وأولئك هم المهتدون ) أي للحق والصواب ؛ حيث استرجعوا وأذعنوا واستسلموا لقضاء الله من غير جزع ولاتبرم.
وفي قول ثان أن الناس يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية فكانوا بذلك يتحرجون من الطواف بينهما، فنزلت الآية من أجل ذلك.
وفي قول ثالث لبعض الأنصار قالوا : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فنزلت الآية.
وفي قول رابع أخرجه الإمام البخاري وهو شبيه بالقول الثاني. وهو أن أنسا رضي الله عنه سئل عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل :( إن الصفا والمروة من شعائر ).
والصفا في اللغة جمع ومفرده صفاة وهي الحجر الصلد الأملس الذي لا يُنبت١.
وأما المروة فهي مفرد وجمعه المرو وهي حجارة بيض براقة توري النار٢.
وذكر القرطبي في تفسيره أن الصفا من الاصطفاء، وقد سميت بذلك ؛ لأن آدم قد اصطفاه الله ليكون صفوته. وهو عليه السلام وقف عليه فسمي به. ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنّث لذلك.
وقوله :( من شعائر الله ) ( شعائر ) جمع مفرده شعيرة وهي تعني العلامة من الشعار، فالشعائر المعالم أو العلامات التي جعلها الله أعلاما للناس يتعبدون عندها.
وحج البيت يعني قصده والتوجه إليه. والاعتمار يراد به العمرة أي الزيارة٣.
أما من الناحية الشرعية فإن المقصود بالتطوف بالصفا والمروة وهو السعي أن المسير بينهما مشيا وهرولة سبع مرات.
وقد ورد أن النبي ( ص ) لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول :( إن الصفا والمروة من شعائر ) ثم قال : " ابدأ بما بدأ الله به " وفي رواية ثانية : " ابدأوا بما بدأ الله به ".
وأخرج الإمام أحمد بإسناده أن النبي ( ص ) كان يطوف بين الصفا والمروة والناس بيد يديه وهو وراءهم وهو يسعى ويقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ".
وفي روية أخرى عنه ( ص ) : " كُتب عليكم السعي فاسعوا ".
أما السعي من حيث الحكم فقد ذهب الشافعي، وأحمد في رواية عنه، ومالك إلى أنه ركن ؛ استنادا إلى النصوص النبوية آنفا.
وذهب أحمد في رواية أخرى عنه وآخرون معه إلى أنه واجب وليس بركن. فمن تركه عمدا أو سهوا أمكن جبره بدم.
وذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وآخرون إلى أن السعي سنة مستحبة.
واحتجوا لذلك بقوله سبحانه :( ومن تطوع خيرا ) فإنه يفهم بذلك أن السعي مجرد تطوع فهو بذلك مستحب غير مفروض. والذي نميل إليه ونرجحه أن السعي فرض استنادا إلى الأدلة من سنة النبي ( ص ) التي ذكرناها، ومنها قوله عليه السلام : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أما قوله :( ومن تطوع خيرا ) أي زاد ( الساعي ) في طوافه بينهما على القدر المطلوب وهو سبعة فيطوف ثامنة أو تاسعة. وقيل : يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع. وقيل غير ذلك، لكن الراجح عندي الأول. وفي ذلك ما يبطل الاستدلال بهذه الآية على سنية السعي ؛ وذلك لوقوع الاحتمال في أوجه الدليل. ومعلوم أنه إذا وقع الاحتمال سقط الاستدلال.
وقوله :( فإن الله شاكر عليم ) يجازي الطائفين المتنفلين الذين يتطوعون زيادة على المفروض، وهو سبحانه عليم بأعمالهم كلها لا يعزب عنه منها شيء، صغير كان أم كبيرا٤.
٢ - مختار الصحاح ص ٦٢٢..
٣ - المصباح المنير جـ ١ ص ٣٣٧..
٤ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ١٨٠ -١٨٤ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٩٣..
كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى يحتمل المراد به صنفان من الناس. أما الصنف الأول : فهم أهل الكتاب الذين كتموا الحق يوم أنكروا نبوة محمد ( ص )، وكذبوا القرآن مع أن ذلك كله وارد في كتابهم التوراة والإنجيل، وأنهم مكلفون بالتصديق والإيمان دون انحراف أوشك، لكنهم مع ذلك كذبوا وجحدوا وأبوا إلا التمرد والتكذيب في لجاجة وعتو كبيرين.
وأما الصنف الثاني : فهم الذين يكتمون العلم أيا كان اعتقادهم أو ملتهم، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو المسلمين فما يكتم علما إلا من كان ضالا أثيما سوف يُمنى بالعذاب الشديد. وقد جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن رسول الله ( ص ) قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ١.
وجاء في لصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ).
وعلى العموم فإن الله يتوعد الكاتمين الذين يخفون ما بينه الله في الكتاب، أي الكتب السماوية. وهؤلاء الذين يكتمون ما بينه الله من العلم ولا يبينونه للناس سوف يلعنهم الله أي يبعدهم من رحمته ودائرة غفرانه وفضله ليبوءوا بالخزي والعار والعذاب البئيس. وكذلك سوف يلعنهم اللاعنون. و ( اللاعنون ) يراد بهم الملائكة والمؤمنون من الناس. وقيل : جميع الناس، وفي قول ثالث أنهم الكائنات جميعها. والراجح عندي القول الأول والله أعلم.
.
هذه مجموعة أدلة على وحدانية الله سبحانه، وعلى قدرته البالغة وهيمنته التي تحيط بالأشياء جميعا. وهي سبعة أدلة ينطق كل واحد منها بجلال الخالق الأعظم وإرادته المطلقة التي لا يصدرها أي يحول دون نفاذها شيء.
وأول هذه الأدلة : السماوات السبع التي جعلها الله طباقا عظاما كثافا. وهي على امتدادها وعظمة اتساعها وما يسبح في أرجائها وفضائها من هائل الأجرام وعظيم الخلائق، من كواكب سيارة وأخرى ثوابت غاية في الكثرة والضخامة والبعد بما لا يقوى على عدّه العادون، ولا يتصور مداه العالمون، إن ذلك كله ينطق بالبرهان المستبين على قدرة الخالق ووحدانيته وتفرده في الكمال والمعبودية.
وثانيهما : هذه الأرض التي ندبّ عليها، لما تقوم عليه من دقة النظام والناموس وروعة التناسق المتكامل ودوام الحركة المنتظمة الرتيبة وتمام التركيب المتماسك الموزون من أبحر وأنهر ومحيطات، ومن هاد وسهول وأطواد راسيات، ومن تراب مختلف ألوانه وأنواعه، وأحجار متعددة الأنواع والصفات منها الصلد الأملس ومنها اللين السهل ومنها الأسود والأدكن أو الأسمر والرمادي أو الترابي. وغير ذلك من الكيفيات والصفات أو الحقائق المقدورة والسمات، كل أولئك ينطق بأجلى دليل وأسطع برهان على عظمة الإله الأحد الفرد الصمد.
وثالثها : اختلاف الليل والنهار، سواء كان الاختلاف بينهما في الطول والقصر، أو في النور والظلمة، أو في إقبال أحدهما وإدبار الآخر. وكل ذلك يؤلف وحده برهانا متميزا لا يقوى على تحقيقه وصنعه إلا الله القادر.
ورابعها : الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس. والفلك السفن. وهي تستعمل في المفرد والجمع، وفي المذكر والمؤنث. ولا جرم أن جريان الفلك طافية على وجه الماء فيه الدلالة على عظمة الله. ومما يثير الانتباه أن تكون في عنصر الماء خاصية الكثافة الملائمة التي تجعله مناسبا للطفو على سطحه. ومن أعجب ما نشاهد : هذه الأحمال الضخمة من الأمتعة والبضائع والأشياء الثقال التي تركم وسط السفينة الواسعة الكبيرة وهي تجري فوق الماء في سريان ليّن آمن عجيب، ولولا ما ذرأه الله في الماء من خاصية رائعة مميزة لغارت الأشياء في جوف الماء إذا ما أصابت سطحه. إن ذلك لبرهان عظيم يحمل الدليل الأكبر على أن الله حق، وأنه سبحانه موجد الخلائق والأشياء كافة.
وخامسها : المطر الذي ينزل منهمرا من السماء ؛ لبعث الحياة في النبات والزرع فيكتسي وجه الأرض بثوب جميل أخضر مما يحمل للأذهان والحس بشائر الخير والخصب والبركة. ولولا الماء المنهمر من السماء لأجدبت الأرض وعمها اليبس والموات. وما ينزل المطر لسقي النبات والزرع وإحياء الأرض بعد موتها إلا بأمر الله وتقديره. وذلك هو البرهان على عظمته سبحانه.
وسادسها : تصريف الرياح. أي إرسالها على أشكال وكيفيات متعددة مختلفة.
فمنها البارد الحار، ومنها العاصف والليّن، ومنها ما كان بشيرا بالنصر أو كان نذيرا بالهلاك، ومنها ما كان جائيا من الجنوب أو الشمال، أو كان جائيا من المغرب أو المشرق. وكل ذلك بإرادة الله وتقديره، فلا يندّ عن أمره وقدره شيء. وهو برهان جلي على أن الله حق وأنه على كل شيء قدير.
وسابعها : تسخير السحاب. وهو يجمع على سحب والمفرد سحابة. وسمي بذلك ؛ لانسحابه في الهواء. والتسخير معناه التذليل ؛ ذلك أن السحاب وهو ما يحمل المطر، قد سخره الله من أجل العباد والأحياء ؛ وذلك بإرساله مذللا من مكان لآخر ؛ ليعم الخير وتفيض البلاد بالعطاء والخصب.
إن هذه الحقائق كلها تحمل من صدق البراهين والدلالات على قدرة الله وعظيم سلطانه وأنه مالك كل شيء وهو على كل شيء قدير.
الكافرون الذين يشركون مع الله غيره يتخذون من دون الأنداد. ومفردها الند أو النديد وهو الضد أو النظير والمثيل.
إن هؤلاء المشركين يعبدون من دون الله آلهة أضدادا آخرين. وهؤلاء الأضداد الأنداد كثيرون ما بين صنم ووثن، أو حاكم طاغية متجبر، أو رئيس، أو ملك يستخف الناس لطاعته في كل الأحوال أو يرهبهم ويذلهم إذلالا. وسواء أطاعه قومه وامتثلوا لأمره وسلطانه من دون الله حبا أو نفاقا، فإنهم يحتسبون مع المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى.
وقوله :( يحبونهم كحب الله ) أي يحب المشركون هذه الآلهة المصطنعة مثل حبهم لله ذاته سبحانه. فقد استقرت في أنفسهم وأذهانهم الشائهة محبة هؤلاء الأنداد من أصنام وأوثان وحاكمين وملوك بما يعدل محبتهم لله سبحانه.
وأكاد أقول : إن كثيرا ما تترجح في نفوس هؤلاء المشركين المحبة للآلهة المزيفة المصطنعة لتصبح أشد محبتهم لله. نلاحظ مثل هذا المعنى في أولئك المنافقين ن الناس- وفي زماننا هذا- الذين يعيشون داخرين أذلة وهم يتوددون في ملق للساسة وأولي الأمر والسلطان. وهم في ذلك يتوجهون إليهم في ضعف واستخذاء بأشد مما يتوجهون به إلى الله بارئهم.
قوله :( والذين آمنوا أشد حبا لله ) إن المؤمنين يحبون الله الحب الأكبر، الحب الذي يتضاءل دونه كل حب، وإن محبتهم لله لهي أشد من محبة المشركين للأنداد على اختلاف صورها وأسمائها. بل إن محبة الله لهي إحساس مميز وفذ ؛ لأنها محبة قائمة على الحق، مستندة إلى عميق الفطرة السليمة والذهن المستنير والوعي المسترشد البصير، والعقيدة الصادقة الراسخة.
قوله :( ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ) هؤلاء المشركون الذين ظلموا في هذه الدنيا، لو أنهم يرون العذاب الذي سيحيق بالظالمين لعلموا إذ ذاك أن القوة لله وحده.
وبعبارة أخرى لو يعلم المشركون ما سيحل بهم من عذاب على ظلمهم وشركهم، لكانوا قد انتهوا عما هم فيه من ظلم ومخالفة عن أمر الله.
إنه إذا قامت القيامة يُهرع الظالمون إلى من يتشبثون به فينقذهم من العذاب النازل المحدق، وهم يومئذ تتغشاهم ظلمات من الرهب والإياس فلا يجدون من حولهم أحدا يرتجون منه خيرا أو شفاعة. فلا الأصنام ولا الأوثان ولا الحاكمون ولا الملوك ولا ذوو الجاه والسطوة والمال، ولا أحد غيرهم يملك يوم القيامة شفاعة أو يستطيع أن يزحزح من العذاب قيد أنملة.
ويوم القيامة تتقطع بالظالمين والمشركين والمجرمين أسباب الخلاص والنجاة، فلا سبيل لهم حينئذ غير سبيل العذاب البئيس يوم يُساقون مقهورين أذلة إلى جهنم ؛ لذلك قال سبحانه :( وتقطعت بهم الأسباب ) والأسباب جمع سبب وهو يعني في اللغة الحبل، ثم استُعير لكل شيء يُتوصل به إلى أمر من الأمور١.
وقوله :( كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) مثلما أراهم الله العذاب فتمنوا أن يتبرأوا من معبوديهم في كرة أخرى، فإن الله يريهم أيضا أعمالهم حسرات عليهم أي أنهم يرون أعمالهم الفاسدة يوم القيامة فتأخذهم الحسرة وهي الندامة الشديدة والتلهف البالغ. ولسوف يرون العذاب القارع المروع فجأة حتى يُسقط في أيديهم وتتقطع قلوبهم وجلا ثم يساقون إلى النار فيمكثون دائمين ما بقي الزمان ( وما هم بخارجين من النار ) وقوله في الآية :( كذلك ) الكاف في محل رفع على الابتداء. وتقديره : مثل ذلك الإراء الفظيع ( يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ) أي ندامات وتلهفات. والإراء هنا من رؤية البصر فيكون الفعل ( يريهم ) متعديا لمفعولين وهما الهاء في يريهن. والثاني ( أعمالهم ). فتكون حسرات منصوبة على الحال. وقيل : من رؤية القلب، فتكون حسرات مفعولا به ثالثا١.
وذلك إرشاد من الله للناس وتوجيه لهم أن يأكلوا من خيرات الأرض ( حلالا ) وسمي الحلال بذلك ؛ لانحلاله من عقدة الحظر ( المنع ) أما الطيب فمعناه الحلال.
وقد جاء المعنى مكررا للتأكيد. وقيل معناه المستطاب المستلذ في نفسه، وهو ما كان غير ضار للأبدان أو العقول.
ومن أشد وجوه الشر التي يقارفها الإنسان في حياته أن يأكل غير الحلال من الطعام مما حرمه الشرع، ونهى عنه كالربا والغلول والرُّشا وغير ذلك من أوجه المال الخبيث. وهو مال يثقل به كاهل الإنسان المعتدي ؛ لما يحمله من أوزار الاعتداء على أموال الناس بالباطل. وقد روي عن ابن عباس أنه لما تليت هذه الآية قام سعد بن أبي وقاص وقال : يا رسول الله ! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال : " يا سعد أطبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به ".
وقوله :( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) خطوات الشيطان هي طرقه ومسالكه التي تقود إلى الشر والمعصية وتفضي إلى النار. وما من شك أن الشيطان عدو ظاهر أكبر للإنسان يحرفه عن مسار الحق وعن صراط الله ومنهجه القويم السليم، وهو كذلك الذي يزلقه إزلاقا ليبوء بالخسران الكبير في هذه الدنيا حيث الشقوة والمعاناة والمضانكة، ثم ليهوي أخيرا في جهنم وذلكم هو الخسران المبين.
والفحشاء لغة القبح، والفاحش كل شيء جاوز الحد، ومنه الغبن الفاحش وذلك إذا جاوزت الزيادة ما يعتاده الناس١.
والمقصود بالفاحشة أو الفحشاء ما نهت عنه الشريعة، وغالبا ما تردد في القرآن بمعنى الزنا، وقيل : السوء ما لا حد فيه، أما الفحشاء ما وجب فيه الحد.
وقوله :( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) جملة أن تقولوا في محل جر معطوف على السوء والفحشاء، فإن الشيطان لا يكتفي أن يغري عبيده وأتباعه من البشر بفعل السوء والفحشاء، ولكنه يذهب إلى أشد من ذلك إجراما ونكرا وهو التسويل لهؤلاء العبيد والأتباع أن يفتروا على الله الكذب بمختلف الوجوه. فيقولوا هذا حلال وهذا حرام حرام بغير علم. وقيل : بل المراد أولئك الذين حرموا على أنفسكم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فجعلوه شرعا لهم افتراء على الله. وغير ذلك من وجوه الافتراء على الله، سواء باصطناع الأقوال أو الآراء أو الشرائع أو المذاهب أو النحل التي تنسب إلى الله كذبا وزورا مما نسمعه أو نشاهده أو نقرأ عنه كثيرا، في هذا الزمان وفي الأزمنة الفائتة. وذلك هو القول على الله بغير علم يحفز الشيطان عبيده وأتباعه لاصطناعه ؛ ليكونوا ظالمين مفترين، وليثيروا في الناس أسباب الشك والخلط والبلبلة، وليعيثوا في الأرض تشويها وإفسادا.
وفي مثل هؤلاء المقلدين الصم يقول الله في إنكار وتقريع :( أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) الهمزة تفيد الاستفهام في إنكار، والواو للعطف. إن الله جلت قدرته ينعى على هؤلاء الجهلة السفهاء حماقتهم وضلالهم بأنهم يقلدون آباءهم في الباطل حتى ولو كان آباؤهم لا يملكون فهما ولا وعيا ولا هداية.
أما التقليد فهو الأخذ بقول من غير حجة، والمقلد من اعتقد صحة فتيا أو رأي دون استناد إلى برهان، يستوي في ذلك أن يكون المقلد من الجاهلين الذين لا يستطيعون أن يهتدوا إلى حجة أو دليل كالعوام، وهم فئة من الناس لا تملك أثارة من علم أو معرفة. أو أن يكون المقلد من المتعصبين الذين تنثني صدورهم وطبائعهم على أقوال أو آراء معينة، لا يبغون عنها حِوَلاً. ولا يرتضون من دونها بديلا. أولئك صنف من الناس يميل مع طبعه الجانف، ويحفزه هواه المريض فلا يعبأ بالحجة أو المنطق ولا يصبح لصوت العقل السليم والحجة القويمة.
وهذان الصنفان من المقلدين خاطئان. وذلكم هو التقليد الفاسد المرفوض الذي وقع عليه التنديد في الآية الكريمة ؛ لما فيه من إزهاق للمنطق السليم أو الحجة النيرة الراجحة، ولما فيه من اتباع للهوى الذي يحرف المرء صوب العناية والضلالة والباطل.
لكن التقليد المستساغ ذلكم الذي يتبع فيه المرء سبيل الوحي المنزل من السماء. وأساس ذلك أن الوحي حق. أو هو وجه من أوجه الحق المطلق الأكبر. فهو بذلك صواب كله وحق كله ؛ لأنه من إرادة الله سبحانه ؛ إذا امتنَّ على الإنسان في هذه الأرض أن هداه إلى صراطه المستقيم، وعلمه من الحق ما لم يكن يعلم.
وما كان الإنسان ليعلم كثيرا من وجوه الحق لولا الوحي الصادق الأمين الذي يحمل إلى الأرض رسالة اليقين بما في ذلك العقيدة صادقة متماسكة متينة قائمة على صدق الفطرة وكامل الوعي والتفكير المستنير.
ومن التقليد السليم اتّباع العلماء والمستنبطين وأولي الألباب في مختلف مناحي العلوم والمعارف ما داموا من الصالحين الأتقياء الذين يعلّمون الناس الخير ويبصرونهم بحقيقة أمورهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذا الإتباع الحميد قد أثنى الله على النبي يوسف عليه السلام الذي أعلن عن اتباعه ملة آبائه من الأطهار الميامين، فقال سبحانه :( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ).
وفي اتباع أهل العلم وأولي الفكر النير السديد من العلماء والمتخصصين يقول سبحانه :( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ).
وفي قول آخر وهو أن ذلك مثل ضربه الله للمشركين في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه من دعائهم شيئا.
وفي تقديرنا أن القول الأول هو الراجح. ذلك أن النبي ( ص ) لهو الراعي لهذه الأمة ؛ فهو هاديا ومرشدها إلى السلامة والنجاة، لكن المشركين المعاندين أشبه بالأنعام والدواب التي لا تفقه من دعائه وندائه لهم شيئا، بل تسمع مجرد صياح فقط. وقريب من ذلك قوله تعالى في هذا النبي الكريم ( ص ) إذا دعا قومه لعبادة الله والانسلاخ من ربقة الجاهلية، لكنهم في أول الأمر نكصوا نكوصا جانحا، وكان مثلهم في ذلك مثل الحمر التي تتولى فرارا من أسد عظيم :( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ).
وقوله ينعق من النعيق وهو الصياح. والدعاء يعني العبادة. والنداء ما كان بصوت مرتفع يسمعه البعيد.
وقوله :( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) ذلك وصف للكافرين الشاردين عن نداء الحق لما غشيهم من شلل أصاب فيهم الآذان فباتوا صما، وأصاب فيهم الألسن التي تنطوي فباتت خرسا وكذلك قد أصاب فيهم الأبصار فارتدوا عميا لا يبصرون من الحق شيئا.
ومثل هذا الشلل العام الذي أصاب الآذان والألسن والأبصار قد آل أخيرا إلى أسوأ مآل، وهو أن هؤلاء المشركين المشلولين أصبحوا لا يفهمون من الحق والخير شيئا، بل إنهم لا يفهمون غير الفاسد من القول ولا يسلكون غير السبيل الباطل والخسران ( فهم لا يعقلون ).
ويأمر الله كذلك أن يشكر المؤمنون ربهم عقيب استمتاعهم بالطيبات من الرزق، والشكر من العبادة لله يعني الاعتراف بالنعم التي امتن بها الله على الناس، ويقترن بذلك العمل وهو المبادرة بالامتثال والطاعات، وبذلك فإن الشكر يكون بالقول والعمل معا. ذلك إن كان المؤمنون يبتغون لأنفسهم الخير والرضى من الله ليظفروا بسليم العاقبة وحسن المآل. وفي الأكل الحلال والاستمتاع بالطيبات من الرزق أخرج الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ص ) : " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال :( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقكم ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُدِيَ بالحرام فأنّى يستجاب لذلك ".
( الميتة ) وهي الدابة مأكولة اللحم أصلا، لكنها فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة. فما كان كذلك فهو غير مأكول إلا ما استثني من ذلك وهما السمك والجراد ؛ لقوله تعالى :( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) وفيما أخرجه أهل السنن عن النبي ( ص ) قال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " يشير بذلك إلى البحر.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه والدارقطني عن ابن عمر حديثا مرفوعا : " أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال " وبذلك فإن استثناء السمك والجراد يأتي على سبيل التخصيص لهذا الآية الكريمة.
أما الانتفاع بالميتة التي فارقتها الروح من غير تذكية شرعية معلومة فهو موضع خلاف كذلك. فثمة قولان في هذه المسألة : أحدهما : أن الانتفاع بالميتة جائز واستدلوا على ذلك بأن النبي ( ص ) مرّ على شاة ميتة لميمونة فقال : " هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموها فانتفعتم به ".
وثانيهما : أن الانتفاع بالميتة كيفما كان غير جائز ؛ استنادا إلى ما روي عن النبي ( ص ) قوله : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر : " لا تنتفعوا من الميتة بشيء " وفي حديث آخر :" لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ".
والراجح عندي هو القول الثاني ؛ استنادا إلى الدليل الظاهر : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " وهو نص متأخر حتى يمكن الحكم بأنه ناسخ لما عارضه من حديث. والله سبحانه وتعالى أعلم.
والميتة إذا كانت في بطن الذبيح جنينا فثمة خلاف في ذلك. والراجح أنها تؤكل، إلا إذا ظل الجنين حيا بعد ذبح أمه أو نحرها. فإنه في مثل هذه الحالة يكون له حكم الحي الذي يذكى ليؤكل، لكنه إن كان ميتا فإنه يحتسب عضوا من أعضاء أمه فيؤكل دون تذكية. وقيل : لا يؤكل ؛ لكونه ميتا، والقول الأول هو الراجح بدليل ما رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله ( ص ) سئل عن البقرة والشاة تذبح، والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت فقال : " إن شئتم فكلوه، لأن ذكاته ذكاة أمه ".
وإذا وقع في الطعام حيوان طائر أو غيره فمات فثمة قولان : أحدهما : يذهب إلى نجاسة الطعام كله ؛ لمخالطته الميتة. وثانيهما : يذهب إلى نجاسة المرق ؛ إذ لا يمكن تطهيره بل يراق، أما اللحم فيطهر إذا غسل بالماء. وفي تقديرنا أن هذا هو الراجح ؛ لأن المرق الذي وقعت فيه النجاسة قد تخالط بها تماما فعير مستطاع فصلها عنه، لكن اللحم إذا غسل تماما أمكن تنقيته من أدران النجاسة. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال : " يغسل اللحم ويؤكل ".
أما البيضة واللبن يخرجان من الدابة المأكولة بعد موتها، فقد اختلفت كلمة الفقهاء فيهما، وقد اتفق الإمامان الشافعي ومالك على أنهما لا يؤكلان لنجاستهما، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما، لكنهما اختلفا في مصدر نجاستهما. فقال الشافعي : إنهما نجسان بنجاسة الأصل وهي الميتة وهما عضوان منها. وقد استند في ذلك إلى عموم قوله تعالى :( حرمت عليكم الميتة ).
وذهب الإمام مالك إلى أن البيضة واللبن يكونان طاهرين في الأصل وذلك بعد موت الدابة من غير تذكية، لكنهما ينجسان لمجاورتهما اللحم النجس.
أما أبو حنيفة فقد قال بطهارتهما. وعلل ذلك بأن اللحم يؤكل بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير حاجة لتطهير أو غسل.
أما ( الدم ) فهو نجس ويحرم أكله أو الانتفاع به. إلا ما عمت به البلوى من الدم فهو معفو عنه، وذلك كالدم يخالط اللحم والعروق، أو ما يصيب بدن الجزار وثوبه مما يصعب معه التحرز. فإن كان كذلك فهو مما تعم به البلوى، أو ما يكون التحرز منه يفضي إلى الحرج. ومن قواعد الشريعة السمحة دفع الحرج. فإن من قواعد هذا الدين قيامه على التسهيل واليسر ودفع الحرج بكل ظواهره في كل مناحي الشريعة قال سبحانه :( وما جعل عليكم في الدين حرج ).
على أن هذا النص الكريم في تحريم الدم يفيد العموم، لكنه حرج منه صنفان من الدم وهما الكبد والطحال، وذلك ما جاءت به السنة الكريمة فيما روي مرفوعا من حديث ابن عمر : " أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال " فهما بذلك مباح أكلهما على سبيل التخصيص. فالنص في ذاته عام، لكنه مخصص بالسنة الصحيحة.
وأما ( لحم الخنزير ) فهو محرم العين سواء ذكي أم لم يُذكّ. فهو حرام جملة وتفصيلا إلا ما روي عن شعره. والمقصود بتحريمه عينا أنه نجس وحرام لذاته وعلى هذا لا يتحول إلى مباح بالتذكية بل هو باق على صفته من النجاسة والتحريم فلا يجوز شرعا أن يؤكل منه شيء ولا أن يُباع أو يُشترى باستثناء الشعر فإنه يجوز استعماله للخرازة. فقد سئل النبي ( ص ) عن ذلك فقال " لا بأس بذلك " والمراد بالخرازة خياطة الثياب.
قوله :( ما أهل به لغير الله ) الواو تفيد العطف. ما اسم موصول في محل رفع معطوف على الميتة. ( أهل ) فعل ماض مبني للمجهول. وهو من الإهلال، ومعناه رفع الصوت. نقول : استهل الصبي أي صاح عند ولادته. وقد كان من عادة العرب الصياح باسم المقصود بالذبيحة٢.
وقد ذكر عن ابن عباس وغيره من أهل العلم أن المراد بما أهل به لغير الله هو ما ذبح على الأنصاب أو الأوثان. فإذا توجه الذابح بنيته نحو غير الله كانت ذبيحته مما أهل به لغير الله فلا يحل إذن أكلها. وذلك المجوسي يذبح للنار، فإذا ذبح ذكر اسم النار. وكالوثني يذبح للوثن، فإذا ذبح ذكر اسم الوثن على المذبوح. ثم ذلك الذي لا دين له، فهو غير مبال بملة من الملل. ولا يهمه أن يكون ذا دين من الأديان كأولئك الماديين الملحدين، فهم إذا ذبحوا فما تحل ذبيحتهم للأكل، بل ترمي للكلاب ويندرج في هذا الحكم كل ذبيحة يكون توجه النية فيها لدى الذابح نحو غير الله. مثل ذلك الذي يذبح ذبيحته على الدار أو السيارة أو نحو ذلك. وشأن ذلك شان الذي يذبح على النصب أي من أجلها.
وقوله :( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) المضطر هو المحتاج. من الفعل اضطر على وزن افتعل، وهو من الضرورة. فمن حاقت به ضرورة أبيحت له هذه المحظورات فله أن يأكل منها.
ويستوي في الاضطرار أن يكون سببه الإكراه من عدو أو ظالم، أو الجوع الشديد الذي يخشى معه الهلاك. فإن للمضطر حينئذ أن يأكل من الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو ما أهل لغير الله به. على أن يكون المضطر غير واجد طعاما غير هذا المحظور، فإن وجد طعاما كالثمر وغيره لواحد من الناس وكان يعلم أنه ليس في أكله ما يجرّ عليه تهمة السرقة، فله أن يأكل منه ما يسد حاجته ويُذهب عنه شدة المخمصة والتلف ؛ ليقوى بعد ذلك على السعي إلى أن يبلغ ما يريد.
وفي ذلك أخرج ابن ماجه أن النبي ( ص ) سئل : أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب ؟ !. فقال : " كل ولا تحمل، واشرب ولا تحمل ".
وأخرجه ابن ماجه بإسناده عن عبّاد بن شرحبيل قال : أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا٣. من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله ( ص ) فأخبرته فقال للرجل : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا، ولا علمته إذ كان جاهلا " فأمره النبي ( ص ) فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.
وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي ( ص ) سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " والخبنة هي ما يحمل تحت الإبط. وخبنت الشيء خبنا أي أخفيته.
وقوله :( غير باغ ولا عاد ) غير منصوب على الاستثناء. وقيل على الحال٤. وباغ أي متجاوز للحد الذي تندفع معه الحاجة ؛ إذ ليس للمضطر أن يأكل أو يشرب أكثر مما يحتاج إليه من إذهاب لشدة الجوع وخطره على الحياة. وعاد : أن يجد بديلا عن هذه المحرمات ثم يأكلها.
وفي قول آخر :( غير باغ ) أي غير قاصد من أكل المحرمات تحصيل لذة أو شهوة، بل يقصد دفع الحاجة وغائلة الجوع الذي يخشى منه على النفس مع انعدام الطعام الحلال. ( عاد ) أي مستوف للأكل فوق ما يسد الرمق.
وفي قول ثالث : الباغي والعادي يشملان كل قاطع للسبيل أو مفارق للجماعة خارج على الإمام أو من كان خارجا من بيته في معصية فألمت به الحاجة. ومثل هؤلاء لا يستحق الرخصة في الأكل من الطعام المحظور حتى وإن كان مضطرا ؛ وذلك لبغيه وعدوانه. ذلك ما ذهب إليه أكثر الفقهاء خلافا للإمام أبي حنيفة ؛ إذ جعل لكم من هؤلاء رخصة الأكل من المحرمات حال الاضطرار استنادا إلى إطلاق النص الكريم. وهو أحد قولين للإمام الشافعي. وذلك الذي نرجحه ونميل إليه اعتمادا على الآية في إطلاقها هنا، ويقول سبحانه في آية أخرى :( ولا تقتلوا أنفسكم ) فإن الإمساك عن أكل الحرام عند الضرورة ربما أوقع في الهلاك أو إذهاب النفس، وذلك أشد حرمة ونٌكرا من أكل الطعام الحرام.
وقوله :( إن الله غفور رحيم ) يغفر الله للمضطر خطيئته ويتجاوز له عن السيئة في الأكل من مال غيره بغير إذنه. وهو تبارك وتعالى ( رحيم ) إذ أباح للمضطر أن يأكل من مال غيره دون إذنه حفاظا على نفسه من الزهوق٥.
أما استعمال المحرمات للتداوي، كشرب الخمر ونحوه مما حرمه الشرع، فذلك موضع خلاف، فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى عدم جواز التداوي بما حرم الله كالخمر وغيره مما يحرم أكله أو شربه. وهو قول المالكية والحنابلة وكذا الشافعية. فقد منع بعضهم التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة لحديث العرنيين. ومنع بعضهم التداوي بكل محرم ؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم " ٦ ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه، فقال : إنما أصنعها للدواء، فقال عليه السلام : " إنه ليس بدواء ولكنه داء " ٧. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز شربه.
وقال الإمام أبو حنيفة : يجوز شرب الخمر للتداوي دون العطش. وهو قول الثوري. ودليل ذلك إباحة النبي ( ص ) لعبد الرحمن بن عوف أن يلبس الحرير لحكة أصابته٨.
أما مقدار ما يؤكل من المحرم كالميتة ونحوها : فإن المباح من ذلك ما فيه سد الرمق والأمن من الموت، فلا يبلغ بذلك حد الشبع وهو قول الحنفية، والحنابلة وأحد القولين للشافعي. ووجه ذلك أن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل فوق ما يسد الرمق ؛ لأنه بعد سد الرمق لا يكون مضطرا.
وذهبت المالكية إلى جواز الأكل من الميتة ونحوها من المحرمات حتى الشبع وهو أحد قولي الشافعي. ودليل ذلك ما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نفقت٩ عنده ناقة ولم يكن عنده ما يقتات غيرها، فسأله النبي ( ص ) : " هل عندك غنى يغنيك " قال : لا. قال : " فكلوها " ولم يفرق بين الشبع وما دونه. وما جاز سد الرم
٢ - مختار الصحاح ص ٦٩٧..
٣ - المقصود بالحائط البستان..
٤ البيان للأنباري جـ ١ ص ١٣٧..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٢٦- ٢٣٣ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٠٥..
٦ - رواه الطبراني في الكبير عن أم سلمة..
٧ - رواه مسلم في صحيحه..
٨ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٤٠٩ والمغني جـ ٨ ص ٦٠٥ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٣١..
٩ - نفقت أي فنيت. انظر المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٨٩..
المراد بالكاتمين لما أنزل الله هم اليهود، فقد أخفوا حقيقة الرسول محمد ( ص ) وصفته التي كانت مكتوبة عندهم في التوراة. وكان من أمانة الصدق والتبليغ أن يبينوا للناس أن هذا هو نبي الأمة، وأنه صادق أمين قد آتاه الله الوحي، لكنهم أنكروا ذلك بالكلية وكتموا في صدورهم خبر الرسالة المحمدية، وذلك في مقابل ما اشتروا به ثمنا قليلا. والثمن القليل هو جنوحهم للرياسة وعلو المكانة، فقد كانوا يتصورون أنهم موضع اعتبار وتكريم، فخشوا بذلك على مكانتهم أن تهون إذا أظهروا صدق الكتاب الحكيم " القرآن " أو اعترفوا بنبوة محمد ( ص ).
ومما يذكر أيضا أن اليهود كانوا يستفيدون من قريش عطاء ماليا بخسا وهو ما كانوا يأخذونه على هيئة رشا وهدايا عوضا لتملقهم إليهم وإطرائهم والثناء عليهم وكذلك الإعلان في صراحة أن العرب المشركين خير من محمد وأتباعه، وأنهم وما يعبدون على حق وصدق. وأن المسلمين على الباطل.
ذلك هو اشتراؤهم بدينهم وكتابهم ثمنا قليلا. فقد أعطوا كثيرا إذ فرطوا في دينهم وكتابهم، وأخذوا بدلا من ذلك ثمنا بخسا على هيئة عطايا أو هدايا أو رشاء.
وذلك ثمن حرام بخس أخذوه بدل تفريطهم في دينهم وكتابهم، فكان بذلك أن جزاءهم النار يأكلونها في بطونهم لتنصهر بها الأحشاء والأمعاء والحوايا وليذوقوا وبال أمرهم جزاء افترائهم على الله وممالأتهم للمشركين كذبا وملقا وزورا.
وكذلك فإن الله سبحانه لا يكلمهم يوم القيامة. أي يحيطهم بغضبه فلا يرضى عنهم ( ولا يزكيهم ) أي لا يجعلهم مع الطاهرين الأزكياء ولا يثني عليهم خيرا، بل إن الله قد أعد لهم عذابا مؤلما وهو العذاب الذي ليس له في صورة العذاب مثيل، لا في الإيلام، ولا في الإيجاع، ولا في التحريق. فإنه العذاب المخوف الذي تجتمع فيه كل أسباب الهوان والتعس والإيلام من إذلال وخزي أو تحريق وإصلاء او تعذيب بالسم والجوع أو إطعام بما لا ينفع ولا يغني من جوع كالزقوم والضريع والغسلين، والعياذ بالله من ذلك كله.
المراد باسم الإشارة ( أولئك ) هم اليهود الذين اعتاضوا عن الاستقامة وقول الحق والعدل والالتزام بشرع الله ودينه، بالزيغ والانحراف إذ كذبوا على الله بنكرانهم نبوة محمد ( ص ) وتحيزهم إلى فئة المشركين. وذلك هو اشتراء الضلالة وهي الكفر والانحراف والتحيز للشرك والباطل، ودفعوا بدل ذلك عقيدتهم وملتهم إذ زيفوهما تزييفا وبدلوهما تبديلا. ومثل هذا التزييف أو التبديل أو الانحراف يؤول بهؤلاء المشركين إلى عذاب الله بدلا من مغفرته.
وقوله :( فما أصبرهم على النار ) ما تفيد التعجب والتقدير : شيء أصبرهم. أصبر فعل ماض مبني على الفتح والضمير المتصل في محل نصب مفعول به. والميم للجمع وما في محل رفع مبتدأ، وما بعدها خبر١. والآية تبين فظاعة العذاب الأليم الذي يحترق فيه هؤلاء المشركون الضالون. وهم حين يلجون النار يُكبكبون فيها تكبكبا وهم داخرون مقهورون. حتى إن من يبصرهم وهم يتقاحمون في النار يمتلكه العجب المدهش لصبرهم على النار المتأججة المستعرة التي تصهر الجبال فكيف بالجلود والأبدان ؟ !.
وقيل :( فما أصبرهم على النار ) أي ما أدومهم وأطول بقاءهم في النار وقيل : ما تفيد الاستفهام ومعناه التوبيخ. وقيل : تعني الاستهانة والاستخفاف بهم.
أولئك هم الكافرون المكذبون الذين اختلفوا في الكتاب بتكذيبهم النبي محمدا ( ص ) وبإعلانهم جهارا أنه لم يرد ذكره في الكتاب. إن هؤلاء الجاحدين المعاندين ( لفي شقاق بعيد ) والشقاق أو المشاقة بمعنى المخالفة. نقول : شاقه شقاقا أي خالفه مخالفة. وحقيقة ذلك أن يأتي كل من المتخالفين بما يشق على صاحبه، فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه.
( البر ) اسم جامع للخير. وهو منصوب على الخبرية لليس. والمصدر المؤول من أن والفعل في محل رفع اسم ليس. والتقدير : ليس البر توليتُكم١.
وقد ورد في سبب نزول الآية أن أهل الكتاب وبعض المسلمين قد شق عليهم أن يغيروا قبلتهم التي كانوا عليها وهي بيت المقدس ثم يتوجهوا بعدها إلى مكة القبلة الجديدة. لقد غضب اليهود من ذلك أشد الغصب واستاءوا بذلك كثيرا. وكذلك قد ارتاب فريق من المسلمين من ضَعَفَةِ الإيمان وكأن البرّ والإيمان والإحسان كله محصور في شكل التوجه إلى جهة من الجهات، سواء كانت شرقا أو غربا. فليس البر في التوجه نحو مشرق أو مغرب إن كان ذلك عن غير أمر من الله. ولكن البر كما شرحته الآية هو الإيمان الصحيح الأوفى الذي يأتي مقتران بالعمل الصحيح المشروع.
ما قيمة التوجه صوب جهة من الجهات مادام ذلك شكليا بحتا وغير قائم على العقيدة الواعية الراسخة، وغير مقترن بالعمل النافع المشروع. ليس الإسلام قائما على التعصب لمتشنج أو الشكلية الخاوية من المضمون. ولا هو بالدين الذي يعتمد طقوسا شكلية بلهاء تتلقاها الأجيال كابرا عن كابر دون وعي أو إدراك أو تبصر.
ولكن الإسلام دين الفطرة والعقل. وهو طريقه الوحي المنزل من السماء الذي يحمل للأرض معالم الهداية والرشاد ليثوب الناس إلى ربهم وليمضوا في طريقه، طريق الحق والعدل والنور، طريق الهداية والفضيلة والعمل المخلص النافع.
وها هي الآية الكريمة تبين حقيقة البر الذي ينفع الناس والذي يقودهم إلى الخير ومرضاة الله، فقال سبحانه :( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه... ) ذلك هو البر الصحيح المقصود. وليس هو التوجه نحو شرق أو غرب دون ترشيد من الله إلا التعصب والاستعصام بالشكليات غير الواعية.
إن البر هو الإيمان بالله أولا. فإن الله جل شأنه حق يملأ الوجود كله. وما من ظاهرة في هذا الكون ولا حقيقة أو معلوم أو خليقة من خلائق الأحياء وغير الأحياء إلا ويشهد في سطوح مكشوف على وجود الله وعلى عظمته وجلاله وهيمنته المطلقة.
وكذلك يوم الآخر. وهو يوم حافل ورهيب ومشهود تتلاقى فيه البشرية كافة وتجتمع فيه الأحياء جميعا. وفي هذا اليوم الشديد تلاقي كل نفس ما قدمت من عمل. وإذ ذاك لا مناص لكل امرئ من مواجهة مصيره المرتقب تبعا لما قدم في الدنيا. وحينئذ لا تنفع أحد شفاعة ولا تنجيه من العذاب خُلة كان يعقدها في الدنيا مع عظيم أو رئيس أو ذي مكانة وصولجان. بل إن هذه ساعة الفزع الأكبر التي تغيب فيها الوساطات والعلائق والشفاعات. وما من إنسان حينئذ إلا وهو حائر واجف مرتعب لا يلوي من خلفه أو خلفه أو حوله على شيء.
وكذلك الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين. وهذه أركان ثلاثة أخرى من أركان العقيدة في هذا الدين الكبير. فإنه لا قوام لا إيمان امرئ إلا أن يستوفي في نفسه أركان هذه العقيدة الستة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيرهما وشرهما.
ولا يكتمل البر تماما إلا بالعمل كذلك، فإنه لا يكفي أن تتركز في النفس معاني الإيمان إلا أن يقترن بعمل الصالحات، وهي في قوله :( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب )، فإن من تمام البر إعطاء المال مع الحاجة إليه أو الرغبة فيه لذوي القربى والآخرين الذي بينتهم الآية. والمال منصوب على المفعولية. ( ذوي ) منصوب بالياء ؛ لأنه مفعول ثان للفعل ( آتى ) أي أعطى. وبذلك فإن شبه الجملة- ( على حبه ) - تأتي معترضة ؛ لما في ذلك من تبيين لتمام البر الذي يكون عند إعطاء المال مع الرغبة فيه أو الحاجة إليه. فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر.
وفي حقيقة المال الذي يُقدم على حبه خلاف. فقد قيل : إن المراد بهذا المال الزكاة. وفي قول ثان : إن المراد ما كان من مال يؤدي غير الزكاة. وذلك هو الصواب. فقد أخرج الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله ( ص ) : " إن في المال حقا سوى الزكاة " ثم تلا هذه الآية ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) ويشبه ذلك أيضا قوله تعالى :( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) وقوله سبحانه :( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ).
وقوله كذلك في آية أخرى :( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ). قوله :( ذوي القربى ) هم أقرباء الرجل. فهم أولى بالبر والعطايا خصوصا إذا كانوا محاويج معوزين. فقد جاء في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم اثنتان : صدقة وصلة، فهم أولى الناس يبرك وإعطائك ".
أما اليتامى فهم الذين مات آباؤهم، ولما يبلغوا الحلم ولم يكن لهم معيل كاسب. هؤلاء الصغار الذين مات آباؤهم ولا يستطيعون أن يتكسبوا ؛ لصغرهم وافتقاد من يقوم على رعايتهم، هم الأيتام الذين أوصى الله بهم وأوجب أن يعطوا من المال ما يدرأ عنهم الفاقة، ويدفع عنهم غائلة الطوى والحاجة، أما إن بلغ اليتيم الحلم فقد بات رجلا يستطيع أن يكد ويكتسب. فهو حينئذ لا يعطي من المال بكونه يتيما، إلا أن يكون ذا حاجة فإنه يعطي. وقد جاء في الحديث الشريف : " لا يُتم بعد احتلام " ٢.
أما المساكين فهو جمع تكسير مفرده مسكين. والمسكين هو الذي يملك ما يكفيه أو يسد حاجته من الطعام والكساء والإيواء. وفي ذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ".
وأما ابن السبيل فإنه يراد به المسافر المنقطع الذي لا يمتلك مالا. أو هو البعيد عن أهله ودياره والذي انقطعت به أسباب العيش لافتقاده المال. فذلكم يعطي من المال ما يمكنه من بلوغ أهله ودياره.
وقيل : إنه يتناول الضيف فإنه معتبر من أبناء السبيل. والضيف الذي ينزل بأحد المسلمين له واجب الضيافة من إطعام وإيواء وإتحاف.
وقوله :( والسائلين ) وهم الذين يسألون الناس آو يتعرضون لطلبهم، فإنهم ينبغي أن يعطوا سواء كان ذلك من مال الزكاة أو غيرهما.
على أن السائل يعطي دون مسائلته أو التنقيب عن حقيقة حاله. فما يعتبر في هذا الأمر غير الطلب من أحد السائلين، فإنه إذا سأل وجب إعطاؤه دون مجادلة أو منّة حتى وإن جاء السائل يلبس الفاخر من الثياب. فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال : قال رسول الله ( ص ) : " للسائل حق وإن جاء على فرس ".
وقوله :( وفي الرقاب ) وهم المكاتبون. ومن المكاتبة وهي عقد بين العبد والسيد يلتزم العبد بموجبه دفع مبلغ من المال لسيده بدل إعتاقه على أن يكون الدفع على التراخي. هؤلاء المكاتبون أمانات في رقاب الأسياد المالكين. فعليهم أن يرعوهم حق رعايتهم، وأن يعاملوهم بالرحمة والإحسان، وأن يستجيبوا لطلبهم في المكاتبة ليتمكنوا بعد ذلك من الفكاك من رق العبودية. وبذلك فإن الشريعة توجب إعطاء هذا الصنف من الناس قدرا من المال يستعينون به على التحرر. ومن المعلوم أن هذا القدر من المال غير داخل في مبلغ الزكاة الواجب إخراجه لمستحقيه، ولكنه يؤديه المؤمنون الراغبون في عمل البر. وفي الحديث الشريف : " في المال حق سوى الزكاة ".
قوله :( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي أتم الصلاة على أحسن وجه من تمام الركوع والسجود والقراءة وتمام الخشوع والطمأنينة مع ما يرافق ذلك من اجتماع النية وحضور القلب.
وكذلك فإن من البر إيتاء الزكاة. أي دفعها لمستحقيها دون تأخير أو تردد أو إنقاص. والمراد بالزكاة هنا المفروضة وهي غير المذكورة في أوجه البر السابقة، يؤيد ذلك ما قاله الرسول ( ص ) : " إن في المال حقا سوى الزكاة ".
وقوله ( الموفون بعهدهم إذا عهدوا ) العهد هو الموثق والأمان والذمة٣.
والوفاء به واجب على المسلم ليكتب عند الله مؤمنا صديقا وإلا كان على شعبة من النفاق، فقد صح في الحديث الشريف : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ".
والوفاء بالعهد بعد الالتزام والتعاهد يكون بين العبد وربه، أو بين العبد وغيره من الناس، فإذا عاهد المسلم ربه ليلتزم بأمر من الأمور المشروعة وجب الوفاء بذلك. وهو كذلك إذا عاهد أحدا غيره من العباد، فما يكون له بعد ذلك أن ينقض عهده أو يُخلف ما ألزم نفسه بالوفاء به.
وقوله :( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) ( والصابرين ) منصوب على المفعولية لفعل مدح محذوف، وقيل : معطوف على قوله :( ذوي القربى ) ٤ و ( البأساء ) معناه الفقر. ( والضراء ) معناه المرض. أما البأساء فهو الحرب.
هذه هي المقتضيات الحقيقة للبر، والتي تنطق بها حقيقة هذا الدين العظيم، فلا طقوس أو شكليات، ولا مظاهر جوفاء يعوزها المضمون كشأن المشركين وأهل الكتاب الذين يعبأون بالصورة دون المعنى، وبالشكل دون الحقيقة، وبالطقوس الخاوية البلهاء دون العقيدة الواعية والفكر السليم. وسواء كان التولي نحو المشرق أو المغرب، فإنه لا قيمة لذلك ما لم يقترن بالتوجه الحقيقي والكامل نحو الله وحده وما لم يقترن كذلك بجملة الأسس الإيمانية والتطبيق العملي لظواهر هذا الدين، وهي مقتضيات البر التي متحدثنا عنها آنفا. ما بين إيمان صحيح وإيتاء للمال على حبه ثم إقامة للصلاة وأداء للزكاة ووفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس. ولا يمارس ذلك أو يحققه على التمام إلا من كان من الصادقين المتقين. وفي ذلك يقول سبحانه آخر الآية :( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) ٥.
.
٢ - رواه أبو داود عن علي..
٣ - مختار الصحاح ص ٤٦٠..
٤ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٤٠..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٣٨- ٢٤٤ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٩٠..
ولقد شرع الإسلام القصاص عقابا رادعا تنزجر به نفوس الذين يسول لهم الشيطان أن يعتدوا على الآخرين بغير حق. وقد بينا سابقا أن الإسلام جاء مناسبا للفطرة البشرية تماما، إذ جعل ولي القتيل أو المعتدى عليه بالخيار بين ثلاث. فإما القصاص، وإما الدية، وإما العفو. وذلك خلافا للكتب السماوية من قبل الإسلام فكانت من هذه القضية بالذات ما بين إفراط وتفريط. فالتوراة كان فيها إيجاب للقصاص دون الدية أو العفو. والإنجيل كان فيه إيجاب للعفو دون القصاص أو الدية.
ومن ذلك يبدو أن كلا الموقفين يأتي في غير صالح الفطرة البشرية أو أن كليهما لا يتلاءم مع المصلحة التي تقتضيها حقيقة التفاوت في رغبات البشر.
ومعلوم أن الناس متفاوتون ما بين حاد يؤثر الانتقام وإشفاء الغليل، أو راغب في مال تهدأ معه سورة الغضب في نفسه، أو وقور متبتل ودود يؤثر العفو على المال وإشفاء الغليل. فقد جاءت شريعة الإسلام ملاءمة لمثل هذه الطبائع المتفاوتة في رغائبها. وتطلعاتها. فشرعت بذلك الولي أو المصاب أن يختار بين أمور ثلاثة : القصاص والدية والعفو.
ويتبين من هذه الآية أن الناس كانوا لا يعدلون في القتل العمد، بل كانوا يقتلون الرجل بالمرأة والحر بالعبد وذلك على سبيل المفاخرة والاستكبار. فكانوا إذا قتلت المرأة في القبيلة المشهورة قال أولياؤها : لا نقتل إلا رجلا بدلا منها من قبيلة القاتل. وإذا قتل الرجل فيها قال أولياؤه : نقتل بدلا منه اثنين أو أكثر ولا نكتفي بواحد أو القاتل نفسه. وإذا قُتل العبدُ في القبيلة ذات النفوذ والصيت قالوا : لا نقتل بدلا منه إلا حرا.
وذلك تصرف جاهلي ظالم أساسه التصور الضال الذي يراود أذهان الفاسدين والمنحرفين من الناس الذين يعيشون على الجاهلية الحمقاء في تعصبها وسفاهتها واستكبارها ؛ لذلك نزل قوله سبحانه ليضع الأمور في مواضعها الصحيحة وليقيم للقضايا وقواعد الحياة كلها خير ميزان :( كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) أي لا ينبغي أن يُقتل بدل العبد حر، ولا بدل الأنثى رجل. وإنما ينبغي أن يقتل القاتل نفسه سواء كان القاتل حرا أو عبدا أو أنثى. وسواء كان القتيل عبدا أو امرأة. ذلك هو القضاء العدل الذي يقوم على المماثلة دون انحراف أو تعصب أو جنوح للهوى.
ويتفرع عن هذه القضية جملة مسائل منها : هل يقتل الحر بالعبد ؟ أي أن الحر إذا قتل عبدا فهل يقتل به ؟
فقد هب الإمام ا [ و حنيفة وداود الظاهري والثوري وآخرون أن الحر يقتل بالعبد. وهو مروي عن فريق من الصحابة والتابعين. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :( كتب عليكم القصاص في القتلى ) وكذلك قوله تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) وذلك فيه عموم وهو يشكل الأنفس كيفما كانت دون تمييز بين حر وعبد أو ذكر وأنثى٢. واستدلوا كلك بالحديث : " المؤمنون تتكافأ دماؤهم " ٣ فليس من فرق إذن بين حر وعبد. وذلك خلافا لمذهب الجمهور بعدم قتل الحر بالعبد٤. وذهب آخرون من العلماء إلى غير ذلك فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد.
والراجح عندنا المذهب الأول استنادا إلى ما ذكرناه من دليل، ويعزز ذلك قول النبي ( ص ) : " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن خصاه خصيناه " ٥
وهل يقتل المسلم بالكافر ؟
ذهب أبو حنيفة إلى قتل المسلم بالكافر، وهو يستند في ذلك إلى عموم قوله تعالى :( كتب عليكم القصاص في القتلى ) ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) فأيما نفس تُقتل عمدا وجب قتل قاتلها، مادام القتيل ذميا ؛ لأن الذمي يساوي المسلم في حرمة الدم. فهو ( الذمي ) محقون الدم على التأبيد وهو من دار الإسلام. وكذلك لو سرق المسلم فإنه تقطع يده في ذلك ؛ لأن مال الذمي مصون ؛ لذلك يُحكم بقتل قاتله في العمد. لكن جمهور العلماء قالوا : لا يقتل المسلم الكافر، واستدلوا لذلك بما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يقتل مسلم بكافر " وذلك حديث صحيح، وهو يصلح لتخصيص العموم في قوله تعالى :( كتب عليكم القصاص ) وقوله تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ).
وهو ما نميل إليه ونرجحه والله تعالى أعلم٦.
وهل يقتل الرجل بالمرأة ؟
أجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة. أما القصاص بينهما فيما دون النفس فهو المعتبر عند أكثر أهل العلم منهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور، لكن أبا حنيفة – رضي الله عنه- خالفهم في ذلك وقال : لا قصاص بين المرأة والرجل فيما دون النفس، وإنما يكون القصاص في النفس.
وفي تقديري أن قول الإمام في هذه المسألة مرجوح، فإنه إذا وجب القصاص بينهما في النفس فمن الأولى أن يكون القصاص بينهما فيما دون النفس٧.
وهل يقتل الوالد بولده ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة. فقد ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي إلى أنه لا قَود على الأب في قتل ابنه وأن عليه الدية فقط، وقد استندوا في قولهم هذا إلى الحديث : " لا يقاد والد بولده " ٨ وتعلقوا أيضا في قضاء لعمر- رضي الله عنه- إذ قضى بالدية المغلطة في قاتل ابنه ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة.
وقد خالف الإمام مالك الجمهور في هذه المسألة، وقال بالتفصيل. فإن رماه الأب بالسلاح على سبيل التأديب أو الحنق٩ فقتله وما كان يقصد بذلك قتلا فقد ذكر عنه أنه يقتل به. وفي قول آخر عنه أنه لا يقتل به، بل يدفع ديته مغلظة.
أما إذا قصد قتله فعلا وعلى نحو مستبين ومكشوف كأن يضجعه ويذبحه ذبحا قتل به قولا واحدا١٠.
وهل تقتل الجماعة بالواحد ؟
ذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء إلى أن الجماعة يقتلون بالواحد، فإذا تمالأ كثيرون على قتل واحد بريء عمدا جاز قتلهم جميعا. وخالفهم في ذلك الإمام أحمد بن حنبل الذي قال : لا تقتل الجماعة بالواحد، وتوجيه ذلك عنده أن الله سبحانه شرط المساواة في القصاص ولا مساواة بين الجماعة والواحد. فقد قال تعالى :( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) وذلك يقتضي المساواة ولا مساواة في قتل الجماعة بالواحد.
لكن الحقيقة الظاهرة أن هذا القول الذي ذهب إليه أحمد مرجوح وما ذهب إليه الجمهور هو الراجح والصحيح.
وتوجيه ما ذهب إليه الجمهور أن المراد بالقصاص في الآية المذكورة هو قتل من قتل أيا كان القاتل، ويستوي في ذلك أن يكون القاتل واحدا أو أكثر، فإن كانوا أكثر من واحد فكل واحد منهم مشارك في القتل. وفي ذلك رد مناسب على ما اعتاده العرب، إذ كانوا يريدون أن يقتلوا بمن قتل من لم يقتل، ويقتلون بدل القتيل الواحد مائة، وذلك على سبيل المفاخرة والاعتداد بالجاه والسيطرة. فأمر الله – ردا عليهم- أن يقتل كل من قتل.
ومن المعلوم كذلك أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة برجل واحد في صنعاء، وقال قولته المشهورة : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعا. حتى قيل إنه لا يعرف له في زمانه من خالفه من الصحابة فكان ذلك كالإجماع.
وكذلك قاتل علي – رضي الله عنه- الحرورية لما قتلوا رسوله عبد الله بن خباب إذ ذبحوه كما تذبح الشاة. ولما علم علي بذلك قال : الله أكبر ! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا : كلنا قتلناه ثلاث مرات. فقال علي لأصحابه : دونكم القوم. فما لبث أن قتلهم علي بعبد الله بن خباب.
ويعزز ذلك أيضا ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله ( ص ) : " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار ".
ومن ناحية أخرى فإن صون الدماء وحفظ الأرواح يتطلب أن يقتل الجماعة بالواحد ؛ لكيلا يكون ثمة مجال للاحتيال ينفذ منه القتلة. فإذا علمت الجماعة أن قتلهم للواحد لا يوقع عليهم قصاصا تعاون الخصوم على قتل خصم واحد لهم مشتركين. وفي ذلك تأدية لغرضهم المبيت المقصود وإشفاء لغيظهم وغليلهم١١.
وبعد القتل العمد فإن وليّ القتيل له الخيار، فإن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. فإن القاتل في هذه الحالة مكلف بدفع الدية بغير رضاه إن طلبها الولي. أي أن دفع الدية في حق القاتل يصبح فرضا عليه ؛ وذلك لإحياء نفسه وإنقاذها من الموت، لقوله سبحانه :( ولا تقتلوا أنفسكم ) وذلك ما ذهب إليه مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون غيرهم.
قوله :( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) قوله ( مَنْ ) يراد به القاتل، والذي يعفو هو ولي المقتول. والمراد بأخيه، المقتول أو ولي الدم. والمراد بالشيء، الدم الذي يعفو عنه الولي ليكتفي بدلا منه بأخذ الدية. والمعني، أن القاتل والجاني إذا عفا عنه ولي المقتول أو المجني عليه فيما يأخذه منه بالمعروف، وعلى القاتل أو الجاني أن يؤدي له ما عليه بإحسان، أي من غير مماطلة ولا تسويف وقوله :( فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ) يأمر الله في ذلك بحسن الاقتضاء من ولي الدم وحسن القضاء من القاتل. فعلى الولي أن يطالبه بالدية برفق، وعلى الجاني القاتل أن يدفع إليه الدية بإحسان فلا يماطل أو يتردد في الأداء بما يشق على الولي الذي عفا له عن القصاص منه.
وقوله :( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) اسم الإشارة مبتدأ في محل رفع خبره تخفيف مرفوع، لقد خفف الله عن هذه الأمة ثقل الحكم الذي كان مفروضا في القتل العمد في كل من التوراة والإنجيل، فما كان في التوراة غير القصاص، وما كان في الإنجيل غير العفو، وفي كليهما قسوة كما هو معلوم، بل إن كليهما يقف من قضية القتل العمد موقف التطرف الذي يجلب لكثير من الناس حرجا وتعسيرا، لكن شريعة الإسلام جعلت للناس مندوحة أرحب في تقرير مجالات ثلاثة وهي : القصاص أو الدية أو العفو وذلك تخفيف عن كاهل هذه الأمة ورحمة بها.
وقوله :( فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) أي من قبل الدية أو أخذها بدل القول ثم عاد وقتل القاتل فله من الله عذاب موجع شديد ؛ لما في ذلك من سوء النية وخبث القصد وفساد التصرف. فما دام الولي قد قبل الدية فليس له بعد ذلك أن يقتاد من القاتل، وإلا كان في زمرة الكاذبين الذين يخفون للناس مكرا وخداعا وليس ذلك من أخلاق المؤمنين الصادقين، بل هو من أخلاق المنافقين أو الجاهليين كما وصفهم الحسن البصري في هذه القضية فقال : كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فرّ إلى قومه فيصالحون بالدية، فيقول ولي المقتول : إني أقبل الدية حتى يأمن القا
٢ - القرطبي جـ ٢ ص ٢٤٦..
٣ - رواه أبو داود والنسائي عن علي..
٤ -بداية المجتهد جـ ٢ ص ٣٦٤ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٠٩..
٥ - رواه أبو داود عن قتادة..
٦ -بداية المجتهد جـ ٢ ص ٣٩٩ ونيل الأوطار للشوكاني جـ ٧ ص ١١ وسبل السلام للصنعاني جـ ٣ ص ٢٣٥ والمجموع جـ١٨ ص ٣٥٦ والمحلى لابن حزم جـ ١٠ ص ٣٤٧ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣٢١..
٧ - نتائج الأفكار لقاضي زاده جـ ١٠ ص ٢١٩ ونيل الأوطار للشوكاني جـ ٧ ص ١٨ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣٣٢ والمبسوط للسرخسي جـ ١٦ ص ١٣١ والمدونة للإمام مالك جـ ٤ ص ١٩٧..
٨ - رواه أبو داود والنسائي عن علي..
٩ - الحنق، بمعنى الغيظ، أنظر المصباح المنير جـ ١ ص ١٦٧..
١٠ - بدائع الصنائع جـ ٧ ص ٢٣٥ والمجموع جـ ٨ ص ٣٦٣ والمغني جـ ٧ ص ٦٦..
١١ - بدائع الصنائع جـ ٧ ص ٢٣٨، ومغني المحتاج جـ ٤ ص ٢٠ وحاشية الخرشي على مختصر خليل ومعه حاشية العدوي جـ ٨ ص ١٠ والأم للشافعي جـ ٨ ص ٣١١ والهداية للمرغيناني جـ ٤ ص ١٦٨ والشرح الصغير للدردير جـ ٢ ص ٣٨٥..
أما قوله :( ولكم في القصاص حياة ) فهو غاية في الإيجاز والإحكام والروعة بما يعبر عن المقصود في جلاء واضح وبيان فصيح. فقد جاء في الأمثال البليغة لفصحاء العرب، أو الكتب المتقدمة في قول آخر :( القتل أنفى للقتل ) وهذه العبارة رغم إيجازها وفصاحتها فإنها لا تعدل في ميزان البيان والفصاحة شيئا إذا ما قيست بقوله سبحانه :( ولكم في القصاص حياة ) فلا ريب أن القصاص زاجر كبير للناس ؛ إذ يبعث فيهم اليقظة والخوف ؛ كيلا يعتدي بعضهم على بعض، وقد ذكر أن العرب كانت إذا قتل الرجل الآخر استشاط قبيلاهما فاقتتلوا فيما بينهم بما يوقع بينهم عداوة وإزهاقا للنفوس حتى إذا شرع القصاص أمسكوا جميعا عن القتل.
لذلك فإن تشريع القصاص في الإسلام يحقق للناس الأمن والاستقرار وسلامة النفوس، ويحفظ عليهم المهج والأبدان. وبذلك تصان الأرواح وتحفظ الحياة.
وثمة مسألة تعرض في هذا الصدد وهي : هل لأحد أن يقتص بمفرده من أحد غيره ؟ فإن المتفق عليه بين أهل العلم أن إقامة الحدود وتنفيذ القصاص مما أنيط بالسلطان فالحاكم أو نائبه هو المكلف شرعا أن يقيم العقاب على الجاني، والقاتل خاصة. فليس للأفراد أن يقتص الواحد فيهم من غيره وإلا وقع التجاوز وعمت الفوضى، فضلا عن أن ذلك افتيات على سلطة الدولة المكلفة بذلك١.
وإذا اعتدى الحاكم فقتل عمدا فهل يُقتص منه ؟
فقد أجمع العلماء على أن الحاكم عليه أن يستقيد ( يقتص ) من نفسه للمعتدى عليه وذلك إن تعدى على أحد من الناس عمدا. فإنه ليس من فضل له على الناس أصلا إلا أنه قائم على شؤون الرعية يسوسهم بالعدل ويقيم شريعة الله. والأصل في ذلك أن المسلمين تتكافأ دماؤهم٢.
وقد ثبت عن الخليفة الأول أبي بكر- رضي الله عنه- أنه قال لرجل شكا إليه من عامل قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه.
وروى النسائي في سننه عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله ( ص ) يقسم شيئا إذا أكبّ عليه رجل، فطعنه رسول الله ( ص ) بعرجون كان معه فصاح الرجل، فقال له رسول الله ( ص ) : " تعال فاستقد " قال : بل عفوت يا رسول الله.
وذكر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ! لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ( ص ) يقص من نفسه.
وذكر عنه –رضي الله عنه- أنه خطب الناس فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعل ذلك به فليرفعه إليّ أقصه منه.
وقوله :( لعلكم تتقون ) أي تتركون القتل العمد فتسلمون من الموت قصاصا، وتحفظون بذلك حياتهم وأرواحكم من الهلاك. والتقوى هي اسم جامع لفعل الخيرات والطاعات وترك المعاصي والمحظورات.
٢ - المغني جـ ٧ ص ٦٦٣ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٥٦..
هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبا حتى نزلت آية المواريث ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدين والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) وما بعدها من آيات في الفرائض فكان ذلك ناسخا لما بين يدينا من آية في الأمر بالوصية للوالدين والأقربين.
وبعد نزول آية المواريث في النساء فرض الله لكل ذي حق حقه في الميراث، فما عاد الأبوان أن يرثا، أما الأقربون فمن كان له نصيب في الميراث فليس له أن يستحق وصية، ومن ليس له نصيب بقي على حاله من جواز الوصية له.
والظاهر من السياق في هذه الآية أن الوصية كانت مفروضة للوالدين والأقربين قبل نزول أية النساء في تبيين الفرائض. لكن الوصية باتت منسوخة بعد نزول آية البقرة هذه.
وقيل : إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بالحديثة الصحيح : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث " ذلك أن آية المواريث لا يتعين فيها مفهوم النسخ بوضوح مثلما هو في الحديث.
وعلى أية حال فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بالكتاب والسنة والإجماع حتى إنها باتت بعد ذلك منهيا عنها ؛ لقوله عليه السلام : " فلا وصية لوارث ".
أما الأقارب الذين ليس لهم نصيب في الميراث فإنه يندب أو يوصى لهم في حدود ثلث المال، بل أنهم أولى بالوصية من الأباعد ؛ لقوله سبحانه :( والأقربين بالمعروف ).
وفي التخصيص على الوصية والدعوة لها أخرج الشيخان عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ".
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله ( ص ) يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.
وقوله :( إن ترك خيرا ) الخير هو المال. ولم تحدد الآية حجم المال الذي يستحب إخراج الوصية منه. وفي تقديري أن ذلك منوط بتورع المؤمن الذي يبتغي الوصية على ألا يكون في ذلك ضير على الورثة.
وقوله :( بالمعروف ) أي بالرفق والتوسط والاعتدال. إذ يوصي صاحب المال للأقربين وغيرهم في نغير إجحاف يلحق بالورثة. وخير ذلك ما كان معتدلا فلا إسراف ولا تقتير.
ولعل خير حجم للوصية أن يكون دون الثلث كالربع أو الخمس. ويستفاد ذلك مما ثبت في الصحيحين أن سعدا رضي الله عنه قال : يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : " لا " قال : فبالشطر ؟ قال : " لا " قال : فالثلث ؟ قال " الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ".
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله ( ص ) قال : " الثلث والثلث كثير ".
وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه أوصى بالخمس. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلى من أوصي بالثلث. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أوصى بالربع.
وذهب فريق من العلماء إلى أن الذي له مال قليل وله ورثة فمن الأفضل له ترك الوصية. وقد روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم.
وثمة مسألة وهي : هل تجوز الوصية بأكثر من الثلث ؟
فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث لكن الحنفية خالفوا في ذلك إذ قالوا : إذا لم يكن للموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله. وعللوا ذلك بأن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثة أغنياء لا يتكففون الناس كما في الحديث الشريف.
وكذلك أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله.
أما إذا أذن ورثة الموصي أن تزيد الوصية على الثلث، فقد أجازها عامة العلماء باستثناء أهل الظاهر، إذ قالوا : لا يجوز الوصية بأكثر من الثلث حتى وإن أجازها الورثة. واستدل الجمهور على قولهم بالجواز بما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ".
وقوله :( حقا على المتقين ) حقا، منصوب على المصدر، وتقديره : حق حقا. ولا يعني الحق هنا الفرضية والوجوب. ولو كان كذلك لقال على المسلمين، وليس المتقين وحدهم بما يدل على أن المراد بالحق الندب. وقيل : بل الوصية واجبة من قليل المال وكثيره١.
والضمير ( بدله ) في محل نصب مفعول به، والمراد به الوصية أو الإيصاء الذي نطق به الموصي. فإنه ليس لسامع –وارثا كان أو غيره- أن يبدله أي ينقصه أو يزيد فيه أو يكتمه ليحرم منه الموصى له. ومن يفعل شيئا من ذلك فإنه آثم وما ينقص ذلك من أجر الميت الموصي مادام قد استبرأ لنفسه بالتوصية للآخرين على مسمع من الورثة أو غيرهم، وفوق ذلك فإن الله جلت قدرته مطلع على الوصية وهو سبحانه عليم بما يتعمده السامعون أو الورثة من تحريف للوصية كالنقص أو الزيادة أو الكتمان لذلك قال :( إن الله سميع عليم ).
والجنف في الوصية يتناول الميل خطأ أو الميل المتعمد. فقد يميل الموصي بدافع من عاطفة أو شفقة نحو قريب أو حبيب، وذلك كأن يبيعه محاباة وهو ما كان بثمن بخس أو أن يوصي لابن بنته لينصرف المال بعد ذلك إلى بنته، أو أن يوصي إلى زوج ابنته ليصل المال بعد ذلك إلى ابنته.
وبذلك فإن الجانف في الوصية هو المائل عن العدل وخط الشرع المستقيم سواء كان الميل على سبيل الخطأ أو العمد. فهو غير جائز في الوصية ما دام يؤدي في النهاية إلى الأذية والإضرار بالورثة.
وقوله :( فأصلح بينهم فلا إثم عليه ) المصلح المقصود هنا هو الوصي أو من يملك الإصلاح كواعظ ينهى عن الحيف ويأمر بالعدل.
وطريق الإصلاح في الآية تحتمل وجهين. أحدهما : أن المصلح سواء كان وصيا أو غيره لا إثم عليه إذا ما قام بالوعظ ورد الحيف بقصد الإصلاح ما بين الورثة أنفسهم أو ما بين الموصي والورثة. وبعدها فإن الله غفور للموصي إذ عدل عن الجنف وما فيه من إضرار بالورثة.
وثانيهما : أن الوصية إذا علم بالحيف في الوصية فله أن يعدل عما أوصى به الميت ( الموصي ) إلى ما هو مقبول شرعا ليأتي ذلك منسجما مع روح الشرع في العدل في الوصية وعدم الجنف فيها ؛ كيلا يتضرر الورثة أن يتأذوا. ومثل هذا التصرف من الوصي جائز وهو من باب الإصلاح لا التبديل المحظور، وهو بذلك حق وعدل وهو المقصود من قوله تعالى :( فأصلح بينهم ) فإن ذلك إصلاح وخير فلا إثم على الوصي إن قام به ؛ لذلك جاء قوله :( فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) أما الميل المتعمد في الوصية بما يضر الورثة فإنه حرام. وقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس أن الرسول ( ص ) قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " ٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٧٠- ٢٧٢ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ٧٣..
الصوم في اللغة الإمساك عن الطعام والشراب والكلام١. وهو في الشرع الإمساك عن الطعام والشراب والجماع بنية الطاعة لله، وذلك ابتداء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وعرفه ابن قدامة بقوله : الصوم عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص٢.
على أن الصيام عظيم الفائدة للإنسان بما يحقق له المنفعة في جسده ونفسه، أما في مجال الجسد فإنه مناسبة زمنية فريدة ترتاح فيها المعدة من دوام الانهماك الشاغل في عملية الطعام ومعالجته. وفي ذلك من الجهد ما يقود في كثير من الأحيان إلى عديد من الأمراض. والنبي ( ص ) يبين للإنسان المؤمن أن الصوم طريق الصحة والعافية للأبدان رغم ما تشعر به النفس من لسعة الجوع وحرارة العطش أو انكسار وعناء يؤثران في ظاهر الإنسان، لا في جوهره وحقيقته. فقال عليه الصلاة والسلام في ذلك : " صوموا تصحوا " ٣ وغير ذلك من فوائد للأبدان يحققها الصوم. وهي فوائد كثيرة تتحدث عنها أقلام المتخصصين من أهل الطب.
وأما في مجال النفس فلا جرم أن يكون الصوم نافعا. وتتجلى هذه المنفعة فيما نحسه من واقع الصوم، سواء كان ذلك في اشتداد العزم وتقوية الإرادة، أو في إطفاء لهيب الشهوة ؛ كيلا تحتدم وتجنح. ومعلوم أن الطعام يمد الشهوات بطاقة التحرك والاشتداد والفوران، خصوصا شهوة الجنس فإنها يغذوها الإكثار من الطعام بطاقة مندفعة تظل في استعار فائر حتى تجد متنفسها بأي أسلوب، لكن الصيام يخفف كثيرا من سورة هذه الشهوة الخطيرة حتى تأخذ في البرود والرقود والانكسار، وحينئذ يحس الإنسان روعة التحرر من غلواء الشهوة. وفي ذلك قد نبه النبي ( ص ) إلى أهمية الصيام، وأنه خير سبيل للشباب العزاب ؛ كيما تهجع شهواتهم أو ترقد، فقال : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
وبالصوم تقوى الإرادة ويشتد العزم. وفي ذلك إكساب لنفس المؤمن إذ يزداد بالصوم قوة في الطبع والهمة فيكون في الحياة ثابتا صابرا متجلدا. ولا جرم أن الإرادة بالنسبة للإنسان من المذاخير الهامة التي تختزنها طبيعة الإنسان. فإنه بالإرادة يمضي في الحياة قدما دون أن تتعثر نفسه بمصاعب الطريق. وإذا منيت إرادة الإنسان بالضعف والخور بات الإنسان مخذولا ومسلوب العزم ليعيش مع المهزومين والخالفين. وليس شيء كالصوم في تقوية الإرادة وشحذ الهمة والعزم وتمكين النفس من دوام التشبث بالصبر وقوة الاحتمال.
ومن أجلى صور الفوائد للصوم أنه يهذب النفس الصائمة. ويأتي في طليعة التهذيب أن الصوم يُنمّي في النفس المؤمنة الصائمة حقيقة الوازع المرهف أو الإحساس الكبير المتواصل بصحوة الضمير ويقظة الحس الوجداني الذي يربط العبد المؤمن الصائم بربه.
وما يمضي الصائم في صومه حتى يحس بروعة الصلة الشعورية المتينة التي تربطه بربه والتي لا تقع عليها أبصار الناس أو مشاهداتهم. وإنما هي صلة ذاتية تتوطد في دخيلة الصائم وهو يحجب عن نفسه الطعام والشراب والملذات في غير ما استكراه أو اصطناع، ولكن عن رغبة وافية فياضة وعن توجه مطمئن طائع إلى الله وحده.
ومن أجل ذلك فقد استخلص الله الصوم بالذات من بين العبادات ليكون له سبحانه ؛ لما فيه من سرية مستورة لا يطلع عليها أحد سوى الله. فقد ثبت في الحديث الشريف عن النبي ( ص ) أنه قال مخبرا عن رب العزة جل وعلا : " يقول الله تبارك وتعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ".
وما يجده الصائم لدى الإفطار من أمن النفس وسكينتها فإنه أمر محسوب. وذلك فيض من رحمة الله يسكبها في قلوب الصائمين وهم يحسون بكامل الراحة والرضى والحبور ساعة الإفطار، أن وفقهم الله لتمام الصيام بعد أن أمسكوا بخطام الشهوة واستحوذوا على زمام النفس فكانوا من الناجحين في هذا الامتحان القاسي. وفي ذلك يقول النبي ( ص ) : " للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ".
ويخاطب الله في الآية عباده المؤمنين أنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم من قبلهم، وقوله :( كما كتب ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف تقديره " كتابا " أي كتب كتابا كما. وقيل في محل نصب على الحال من الصيام٤.
وقد جاء في كيفية صيام الذين من قبل هذه الأمة أقوال كثيرة. فقد قيل : كانوا يصومون أياما ثلاثة ويوم عاشوراء من كل شهر. وقيل : كانوا يصومون خمسين يوما في كل عام. وقيل غير ذلك مما لا نستطيع أن نركن إليه، لكن المهم في الآية أن الله جلت قدرته فرض الصيام على هذه الأمة مثلما فرضه على الأمم السابقة.
وبذلك لم تكن هذه الأمة وحدها مكلفة بالصيام.
كذلك فإن المقصود بزمن الصوم الذي ذكرته الآية هو شهر رمضان بقوله بعد ذلك ( شهر رمضان ) مع أن فريقا من العلماء قالوا : إن المقصود هو صيام ثلاثة أيام من كل شهر. وفي تقديرنا أن هذا القول مرجوح فإن المقصود هو الشهر الكريم المعروف والذي بينته الآية٥.
وقوله :( لعلكم تتقون ) الترجي هنا في حق الصائمين. فهم يصومون راجين أن يكونوا بالصيام من المتقين.
أما قوله :( تتقون ) فيحتمل وجهين : أحدهما : أنكم بالصيام تكبحون جماح الشهوة، وتخففون من حدتها واشتدادها. وثانيهما : أنكم بالصيام تجتنبون المحرمات، وتنتهون عن المعاصي، وتكونون قد أديتم فريضة عظيمة كتبها الله عليكم ؛ فيرضى عنكم ويجعلكم من المؤمنين العالمين المتقين. وكلا المعنيين متقاربان حتى يجدر الأخذ بعموم الدلالة لهذه العبارة. فالمتقون هم الممتثلون لأوامر الله المبادرون بالطاعة له سبحانه، سواء في ذلك تنفيذ ما كلف به وأمر أو تجنب ما نهى عنه وزجر.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢١٣ المغني جـ ٣ ص ٨٥ وتفسير الطبري جـ٢ ص ٧٥..
٣ - رواه أحمد والطبراني بسندهما أبي هريرة مرفوعا..
٤ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٤٢
.
٥ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ٧٦..
وقوله :( فمن كان منكم مريضا أو على صفر فعدة من أيام أخر ).
اختلفت كلمة العلماء في تحديد مستوى المرض الذي يرخص معه للمريض أن يفطر. فقد قال جمهور من أهل العلم : إذا كان المرض مؤلما ومؤذيا ويخشى تماديه وازدياده جاز للمريض أن يفطر.
وذهب الإمام مالك إلى أن المرض الذي يشق على الإنسان ويرهقه عسرا فإنه يُباح معه للمريض بموجب هذا الوصف أن يفطر.
وقال الشافعي : إنه ليس للمريض أن يفطر إلا إذا ألمت به ضرورة تضطره إلى ترك الصيام، فإن كان كذلك أبيح للمريض أن يفطر، لكنه إذا كان في مقدوره أن يحتمل الضرورة فليس له أن يفطر. وفي تقديري أن هذا القول لا يخلو من إعنات وتعسير ترفضهما شريعتنا السمحة.
وقال ابن سيرين : متى كان الإنسان في حال يستحق معها اسم المرض فقد جاز له أن يفطر، وذلك قياسا على المسافر لعلة السفر.
وفي ضوء هذه الأقوال التفصيلية يمكن أن نتصور المرض بالنسبة لرخصة الإفطار أو عدمها على أربعة ضروب.
الضرب الأول : وهو المرض الشديد الذي لا يطاق والذي يؤدي فيه الصوم إلى الهلاك غالبا، فإنه في مثل هذا الحال يصبح الإفطار بالنسبة للمريض واجبا، وليس له إذن أن يصوم مخافة أن يهلك ؛ لقوله تعالى :( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ).
الضرب الثاني : وهو المرض الذي لا يحتمله الصائم إلا بضرر محقق أو بمشقة عسيرة مؤذية والصوم وإن كان لا يخلو من مشقة، لكنه ليس الأصل فيه أن يحتمل إعناتا وتعسيرا ؛ لما في ذلك من حرج. ومن أصول الشريعة أن الحرج مرفوع ؛ لقوله سبحانه :( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) والمريض في مثل هذه الحال يستحب له أن يفطر. وذلك على سبيل الندب لا الإيجاب. وبذلك فإن الإفطار في حق المريض في الحال الأول واجب، لكنه في حقه في الحال الثاني مندوب ندبا.
الضرب الثالث : مريض لا يخلو من ألم أو إيجاع، لكنه يحتمله دون أن يلحق به ضرر أو عنت. وفي مثل هذا فإن المريض مباح له الإفطار، فلا الإفطار واجب ولا هو مستحب استحبابا كالحكمين السابقين، ولكنه لا يتجاوز حد الإباحة التي يستوي فيها الحكم بين الفعل وتركه.
الضرب الرابع : أن يكون المرض هينا يسيرا عابرا كنوبة من صداع بسيط أو حمى خفيفة تمر الإنسان، فلا ترهقه عسرا، ولا تؤثر في عافيته إذا صام أدنى تأثير، وفي مثل هذا المرض الهين اليسير خير للمرء أن يصوم. أو أن الصوم في حقه في هذه الحال أفضل. والله تعالى أعلم١.
وقوله :( أو على سفر ) للعلماء في مسألة السفر اختلاف وتفصيل. مع أنهم أجمعوا على رخصة الإفطار في سفر الطاعات كالحج والجهاد وصلة الرحم وطلب الرزق للعيش، أما سفر المباحات كالتجارة والنكاح فهو موضع خلاف، لكن الراجح جواز الإفطار، وأما سفر المعصية كالسرقة وقطع الطريق والزنا فمختلف فيه كذلك مع أن الراجح عدم جواز الرخصة بالإفطار فيه.
أما مسافة السفر التي يباح فيها الإفطار فهي موضع خلاف كذلك. فقد ذكر عن الإمام مالك أنها يوم وليلة، وهي عند الشافعي مقدرة بيومين، وذكر عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس والثوري أنها ثلاثة أيام، وقيل غير ذلك٢.
هل يجوز للمسافر أن يبيت النية بالإفطار ؟
اتفق العلماء على أنه ليس له أن يبيت النية بالفطر. وتوجيه ذلك أن المسافر لا يكون أصلا مسافرا بالنية، بل يكون مسافرا بالممارسة الفعلية وهي السفر نفسه، وذلك بخلاف المقيم فإنه تتحقق إقامته بمجرد النية ولا يفتقر ذلك إلى عمل. فالمقيم إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحال.
أما الذي يأمل أن يكون مسافرا فإنه لا يجوز له أن يفطر اعتمادا على مجرد الأمل بالسفر، لكنه إن نهض للسفر فعلا بعد الأمل جاز له الإفطار ؛ لوجود الممارسة الفعلية وهي اسلفر.
وإن أفطر اعتمادا على مجرد الأمل بالسفر، فذلك موضع خلاف وتفصيل للفقهاء لا مجال لذكره هنا٣.
وثمة خلاف آخر بين الفقهاء في أيهما أفضل في السفر الإفطار أم الصوم ؟
فقد ذهب الجمهور منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل في السفر لمن يقوى على ذلك، ولا يشق عليه كثيرا. أما إن خشي الضرر والمشقة الكبيرة فالإفطار أفضل. وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل : إن الفطر أفضل : عملا بالرخصة المشروعة، كما جاء في الحديث : " إن الله يحب أن تؤتى عزائمه " وبقوله تعالى :( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ). وقال آخرون إن المسافر مخير بين الصوم والإفطار، فهما بذلك من حيث الحكم سيان في حقه ؛ وذلك لحديث أنس –رضي الله عنه- قال : سافرنا مع النبي ( ص ) في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.
وذهب بعض أهل الظاهر إلى وجوب الإفطار للمسافر في رمضان. وقد احتجوا في ذلك بقوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) فهم يقولون : إن ذلك يفيد الوجوب للإفطار في السفر ثم يقضي بدلا منه لعدة أيام أخر خارج رمضان. واحتجوا كذلك بالحديث : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وكذلك بقوله ( ص ) : " ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله لكم فاقبلوا ".
وفي تقديرنا أن قول الجمهور هو الراجح ؛ وذلك لما يعززه من أدلة واضحة مستفيضة. وهي أدلة بعيدة الاحتمال، وجليّة من حيث الاستدلال، لكن ما استدل به الآخرون من أدلة، فهي غالبا ما ترد واقعة معينة لا تشبهها الوقائع الأخرى، أو أن الدليل ربما جاء مطابقا لموقف دون غيره من المواقف المتعددة الناجمة أثناء السفر، وذلك تبعا لمستوى الضيق والمشقة اللذين يكونان في السفر٤.
وقوله :( فعدة من أيام أخر ) عدة خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره الواجب أو الحكم. والعادة بمعنى المعدود. و ( أخر ) صفة الأيام. وهي معدولة عن آخر. وقيل : جمع أخرى، كأنه أيام أخر ثم كثرت فقيل : أيام أخر. وقيل غير ذلك٥. والمعنى أن من أفطر يوما أو بعض أيام أو أفطر الشهر كله لعذر من سفر أو مرض فعليه أن يقضي بدلا من ذلك في غير رمضان حتى يؤدي المعذور ما في ذمته من حق لله بما يعدل الأيام التي أفطرها في رمضان.
وإذا أفطر المرء في رمضان لعلة من مرض ثم مات في مرضه أو كان مسافرا فمات أثناء السفر، فما من شيء عليه وتبرأ بذلك ذمته، وذلك قول الجمهور. وذهب آخرون إلى أن المريض يموت من مرضه في رمضان، فإنه يجب الإطعام عنه مقابل أيامه التي أفطر فيها.
وثمة خلاف في الذي يموت وعليه صوم من رمضان لم يقضه، فهل لأحد أن يصوم أو يطعن عنه ؟ فقد ذهب مالك والشافعي والثوري إلى أنه ليس لأحد أن يصوم عن أحد. استنادا إلى قوله تعالى :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وقوله سبحانه :( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وكذلك ما روي عن النبي ( ص ) : " لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدّاً من حنطة ".
وذهب أحمد وإسحاق وأبو ثر والليث وأهل الظاهر إلى أنه يجوز أن يصام عنه، لكنهم خصصوا ذلك بالنذر. فإن كان قد نذر صوما ثم مات ولم يصم جاز أن يصام عنه، أما صوم رمضان فلا. وقد استدل هؤلاء على ذلك بما روي عن ابن عباس قال : جاءت امرأة إلى رسول الله ( ص ) فقالت : يا رسول الله ! إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر. أفأصوم عنها ؟ قال " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها " قالت : نعم. قال : " فصومي عن أمك ".
وثمة قول ثالث لآخرين أجازوا فيه أن يصام عنه بإطلاق، سواء كان ذلك في رمضان أو في النذر، احتجاجا بما روي عن الرسول ( ص ) : " من مات وعليه صيام صام عنه وليه ".
وفي تقديرينا أن هذا الاحتجاج عام في الصوم كله إلا أنه مخصص بحديث النذر الذي رواه ابن عباس في المرأة التي جاءت تسأل النبي ( ص ) عن أمها التي ماتت وعليها صوم نذر. ويمكن القول كذلك أن حديث النذر مخصص ؛ لعموم الحديث : " لا يصوم أحد عن أحد " أو أن هذا الحديث متعلق بصوم رمضان.
أما في الإطعام عن الذي مات ولم يصم فقد ذهب إلى جوازه أحمد وإسحاق استدلالا بقوله ( ص ) في الحديث السابق : " ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة " ٦
وقوله تعالى :( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) ( وعلى الذين ) في محل رفع خبر مقدم ( يطيقونه ) جملة فعلية تتألف من فعل وفاعل ومفعول به، وهي صلة الموصول لا محل لها من الإعراب وتعني يحتملونه أو يقدرون عليه. ( فدية ) مبتدأ مؤخر مرفوع ( طعام ) بدل من فدية ( مسكين ) مجرور على الإضافة.
وهذه الآية قد جاء في تفسيرها عدة أقوال مختلفة، لكننا نستخلص منها ما نراه أصوب وهو قول ابن عباس : نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة وذلك إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، أي يقدرون عليه دون أذية أو ضرر يقع عليهم، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فزالت الرخصة عن هؤلاء الشيوخ والعجزة، إلا لمن عجز منهم عن الصوم إن كان معذورا. وعلى العموم فقد جاء في تفسير هذه الآية عدة أقوال مختلفة يمكن أن نوجزها في الأقوال الثلاثة التالية :
القول الأول : لما شُرع صيام رمضان شق ذلك على الناس، فصام فيهم من صام وأفطر من أفطر، فكان من أفطر أطعم عن كل يوم مسكينا بدل إفطاره. وكان قد رخص لهم في ذلك حتى نسخت هذه الآية بالآية بعدها :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ).
القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس، وهو أن هذه الآية نزلت رخصة للشيوخ والعجزة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت هذه الآية بقوله :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فزالت الرخصة بالإفطار بعد النسخ إلا لمن كان عاجزا لا يقوى على الصوم. وذلك القول المعتمد كما بينا.
القول الثالث : وهو مروي عن ابن عباس أيضا وابن مسعود وآخرين من علماء السلف، وهو أن هذه الآية ليست منسوخة ولكنها نزلت في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة الذين لا يستطيعان الصوم فيطعمان بدلا عن كل يوم يفطران فيه مسكينا. فقد ذكر عن أنس- رضي الله عنه- أنه بعدما كبر أطعم عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر. وذكر عنه أيضا لما ضعف عن الصوم صنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. وفي قول آخر وهو أن ثمة " لا نافية " مقدرة. وتقدير الكلام هكذا " وعلى الذين لا يطيقونه فدية طعام مسكين " وهذا القول وإن كان يعنيه القول الثالث، إلا أنه قول بغير دليل.
ويمكن أن يلحق بالشيوخ والعجزة كل من المرأة الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما من جراء الصيام، فلهما بذلك أن تفطرا وتطعما فدية بقدر ما أفطرتا. كذلك الذي يكون في ساحة الجهاد فإن الإفطار في حقه واجب ؛ وذلك لئلا يضعف بالصوم عن فريضة الجهاد فيميل العدو على المسلمين ميلة واحدة٧.
أما غير هؤلاء المعذورين من النار فليس لهم إلا أن يصوموا.
وقوله :( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) نختار في تسفيرها ما قاله ابن عباس وهو أن الذي يبتغي الإفطار من الشيوخ والعجزة وقدم بدلا من ذلك فدية من طعام لمسكين، فإنه من الخير له أن يقدم فدية أخرى لمسكين آخر. وقيل : المراد، من تطوع خيرا فصام مع الفدية. وقيل : من تطوع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه٨.
وقوله :( وأن تصوموا كخير لكم إن كنتم تعلمون ) هؤلاء
٢ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٢٥١، والمغني جـ ٣ ص ١٤٩ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢١٤..
٣ تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٧٨..
٤ - بداية المجنهد جـ ١ ص ٢٥١ والمغني جـ ٣ ص ١٥٠..
٥ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٤٣..
٦ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٨٥..
٧ - المغني جـ ٣ ص ١٣٩-١٤٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢١٥ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ٧٩- ٨١.
٨ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ٨٣، ٨٤ والكشاف جـ ١ ص ٣٣٥..
ورمضان من الفعل رمض رمضا أي اشتد حره. وفي الحديث الشريف : " شكونا إلى رسول الله ( ص ) الرمضاء في جباهنا فلم يشكنا " ورمض الصائم يرمض إذا احترقت جوفه من شدة العطش. والرمضاء هي الحجارة شديدة الحر، ومنها اشتق اسم رمضان، وقد سمي بذلك لما وافقت تسميته الزمن الذي سمي فيه إذ كان شديد الحر كالرمضاء، ويجمع رمضان على رمضانات وأرمضة وأرمضاء، وقيل أيضا رماضين٢.
وثمة قول وجيه في تعليل هذه التسمية وهو أنه سمي بذلك ؛ لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة. وذلك من الإرماض ومعناه الإحراق٣.
وقوله :﴿ الذي أنزل فيه القرآن ﴾ أي أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، وكان ذلك في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالذات. وفي ذلك يقول سبحانه ﴿ إنا أنزلناه في ليلة مباركة ﴾ وقوله :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ﴾ وبعد إنزال القرآن إلى السماء الدنيا في تلك الليلة الكريمة المباركة تقرر تنزيله منجما على النبي ( ص ) تبعا للأحوال والظروف ومقتضيات الحياة.
وقوله :﴿ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ﴾ هذه حقيقة كاملة يقف عليها العارفون بهذا الدين، العاملون بالكتاب الحكيم وما ينطوي عليه من روائع الإعجاز في مختلف المناحي والضروب، سواء في ذلك روعة البيان والأسلوب أو روعة التشريع في كماله وشموله واتساعه بما يغطي واقع الحياة كلها، أو روعة التربية وتهذيب النفس بما يصنع الأعاظم من الرجال والعظيمات من النساء على نحو فذ عجيب وكيفية غريبة لا نظير لها في تاريخ الأفراد والأناسي.
وذلك الذي يدفعنا للقول مبادرين بأن القرآن جاء للناس هدى، فهو فيه هدايتهم وما يأخذ بأيديهم ونفوسهم وطبائعهم وأذهانهم وكل أسباب الحياة والمعايش إلى الخير والسعادة وإلى الأمن والرشاد، وما يقتضيه ذلك من معاني العدل والفضل والاستقامة والتعاون والتواد.
وكذلك فإن القرآن ﴿ بينات من الهدى والفرقان ﴾ أي أنه يحمل للبشرية دلائل وبراهين فيها الهداية والتفريق الجلي الواضح بين الحق والباطل.
وقد قدمنا في مطلع تفسير الآية أن هذا الشهر عظيم الفائدة والقدر. وهو ليس كغيره من الشهور، بل إنه خيرها وسيدها، وإن فيه كبير الأجر للعاملين المخلصين، وكبير الوزر على الخاطئين العصاة أو الساهين الناكبين عن شريعة الله وعن قسطاسه العدل.
وفي عظمة الشهر وجليل قدره أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ".
وروى النسائي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم ".
وروى النسائي عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله ( ص ) " إن الله تعالى فرض رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
قوله :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ من اسم شرط. ( شهد ) فعل ماض والجملة الفعلية في محل جزم للشرط. ( الشهر ) ظرف زمان منصوب وليس مفعولا به. والفاء مقترنة بجواب الشرط. واللام للأمر يصمه مجزوم بلام الأمر وأصلها يصومه. والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به. ومعنى الآية أن من حضر شهر رمضان وكان غير معذور إلا هادم لركن عظيم من أركان هذا الدين، ومقارف لمعصية فظيعة هي إحدى الكبائر من الذنوب٤.
وفي هذا الصدد من الحديث عن الصيام وفرضيته على كل مسلم عاقل بالغ مقيم صحيح البدن، نعرض لجملة مسائل لنناقشها مناقشة فقهية.
المسألة الأولى : فهم بعض أهل العلم أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر أثناءه فإنه لا يجوز له أن يفطر بحجة السفر، بل إنه يباح الإفطار للمسافر الذي أقبل عليه الشهر وهو في حال السفر. وقد استندوا في هذا الرأي إلى ظاهر قوله تعالى :( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) فالذي حضر الشهر أثناء السفر له أن يفطر.
ولا نظن هذا القول إلا مرجوحا ضعيفا، وبذلك فهو قول لا يعول عليه، والرد عليه من السنة واضح، فقد ثبا عن النبي ( ص ) أنه خرج من شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر.
المسألة الثانية : في الإفطار في السفر، هل هو واجب أم مباح ؟ فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه مباح وليس واجبا، وأن صورة الأمر الواردة في الآية لا تفيد الوجوب، بل تفيد التخيير، فالمسافر مخير بين الصيام والإفطار.
وذهب آخرون من العلماء إلى وجوب الإفطار في السفر استنادا إلى ظاهر قوله تعالى :( فعدة من أيام أخر ) وفي تصورنا أن هذا الرأي ( الثاني ) مرجوح لا يعول عليه فهو بذلك غير معتمد. وقول الجمهور هو الصحيح. ويعزز ذلك ما روي أن الصحابة كانت تخرج مع النبي ( ص ) وفيهم الصائم والمفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وبذلك فإنه لو كان الإفطار واجبا لأمرهم النبي ( ص ) به ولأنكر عليهم الصيام.
المسألة الثالثة : أيهما أفضل في السفر الصيام أم الإفطار ؟ فقد قال الشافعي : إن الصيام أفضل ؛ وذلك لما ثبت عن النبي ( ص ) أنه كان يصوم في السفر.
وقال آخرون : إن الإفطار للمسافر أفضل ؛ وذلك نظرا للرخصة بالإفطار حال السفر. وكذلك لما سئل النبي ( ص ) عن الصوم في السفر قال : " من أفطر فحسن، ومن صام فلا جُناح عليه " وفي حديث آخر " عليكم برخصة الله التي رخص لكم ".
وذهب آخرون إلى أن الصيام والإفطار في السفر سواء ؛ وذلك لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : يا رسول الله ! إني كثير الصيام أفأصوم في السفر ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر ".
ولعل الصواب في هذه المسألة أن من شق عليه الصوم في السفر حتى بلغ منه حرجا، فإن الإفطار في حقه أفضل. ودليل ذلك حديث جابر أن النبي ( ص ) رأى رجلا قد ظلل عليه، فقال : " ما هذا ؟ " قالوا : صائم. فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " أما إن كان الصوم لا يشق عليه في السفر، ولا يبلغ به الحرج والجهد، فإن الراجح لدينا إذ ذاك أن الصوم أفضل والله تعالى أعلم٥.
المسألة الرابعة : هل يجب القضاء متتابعا أو يجوز فيه التفريق ؟
ثمة قولان في الإجابة عن ذلك. وأحد هذين القولين أنه يجب التتابع في قضاء الصوم بحيث تصام الأيام متتابعة يتلو أحدها الآخر دون تفريق بينها بإفطار يوم أو أيام، وليس من دليل على ذلك إلا الاحتجاج بأن القضاء يشبه الأداء ويقوم مقامه. والأداء لا يكون إلا متتابعا فكذلك القضاء.
وثان هذين القولين وهو الصحيح. وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف إذ ذهبوا جميعا إلى أن التتابع في صوم القضاء غير واجب، فالصائم قضاء إن شاء تابع وإن شاء فرق تفريقا. وتوجيه هذا القول أن التتابع إنما وجب في الشهر ؛ لضرورة أدائه في نفس الشهر. وأما بعد انقضاء الشهر ( رمضان ) فلا يبقى بعد ذلك إلا المقصود وهو صيام عدة أيام. وذلك بعدد الأيام التي أفطرها المعذور في رمضان ؛ ومن أجل ذلك قال سبحانه :( فعدة من أيام أخر ) وذلك بإطلاق ليس فيه تحديد بالتتابع، بل إن الآية تنطوي على المقصود الأساسي وهو وجوب صيام عدة أيام على سبيل القضاء من غير اشتراط بتتابع٦.
وثمة مسألة هامة أخرى جديرة بالاعتبار والنظر، وهي ما لو رؤي الهلال في بلد، فهل يلزم الصيام كل البلدان الأخرى ؟ وفي ذلك تفصيل نبينه في الآتي : إذا رؤي هلال رمضان في بلد فقد لزم الصيام كل البلدان الأخرى القريبة من بلد الرؤية، كما لو رؤي في بغداد مثلا وجب على أهل المدن الأخرى غير النائية كالبصرة والكوفة أن يصوموا. وكذا لو رؤي في دمشق لزم أهل حمص وحماة وحلب أن يصوموا، أي أن البلدان القريبة تلتزم بحكم الرؤية، سواء كان ذلك في هلال رمضان الموجب للصيام، أو في هلال شوال الموجب للإفطار حيث العيد. وإذا لم يره القريبون من بلد الرؤية فليس ذلك إلا لتقصيرهم في الملاحظة والتأمل لرؤية الهلال، أو لعارض طرأ فحجب عنهم الرؤية. وذلك ما ليس فيه خلاف.
لكن الخلاف في اختلاف رؤية الهلال عند تباعد البلدان، وذلك كما بيم المشرق والمغرب. وهو أن يُرى الهلال في العراق ولم يُر في المغرب. أو رؤي في دمشق ولم يُر في اليمن أو الحجاز. وذلك للبعد بين بلد الرؤية والبلدان الأخرى.
على أن السبب في عدم الرؤية عند تباعد البلدان هو اختلاف مطالع القمر تبعا لكروية الأرض، وصغر حجم القمر إذا ما قورن بالأرض، فإذا رؤي الهلال في أقصى المشرق ربما لم يره أهل المغرب في نفس الليلة. وكذا ما بين شمال الأرض وجنوبها، فإن كان كذلك، كان في المسألة من حيث حكم الصيام ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو أنه إذا رؤي الهلال في بلد لزم جميع المسلمين أن يصوموا ؛ وذلك لقوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ ولقوله عليه الصلاة والسلام : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين ) ٧.
وهذا يقتضي وجوب الصيام في حق الجميع لمجرد الرؤية في بلد. وهو قول الحنابلة وبعض الشافعية وأكثر المالكية٨.
القول الثاني : وهو أنه إذا كانت البلدان بعيدة بعدا عظيما عن بلد الرؤية فلا تلتزم بالصيام، وإنما يلزم الصيام بلد الرؤية دون غيره ؛ وذلك نظرا لاختلاف مطالع القمر مما يقتضي رؤية الهلال في بلد دون غيره من البلدان النائية. وهو قول الحنفية وأكثر الشافعية وبعض المالكية٩ وقد احتجوا بحديث كريب، وهو ما يعول عليه كثيرا في هذه المسألة.
فقد روى الجماعة عن كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة. فقال : أنت رأيته ؟ فقلت : نعم. ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا، هكذا أمرنا رسول الله ( ص ).
وموضع الاستدلال هنا هو قوله : " هكذا أمرنا رسول الله ( ص ) ". والأمر المشار إليه هو ما قاله ابن عباس : " فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال أو نكمل عدة شعبان ثلاثين يوما ". أي أن أهل البلد النائي والذين لم يروا الهلال لم يلزمهم حكم رؤيته في البلد الآخر، بل عليهم التربص حتى يروا الهلال أو يكملوا الثلاثين. ويؤيد ذلك ما رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) قال : " إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأي
.
٢ - القاموس المحيط جـ ٢ ص ٣٤٤ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٥٦..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٩١..
٤ - فتح القدير جـ ١ ص ١٨٢ وتفسير النسفي جـ ١ ص ٩٤ والبيان للأنباري جـ ١ ص ١٤٤..
٥ - بداية المجتهد ١ ص ٢٥١ والغني جـ ١ ص ١٥٠ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢١٧..
٦ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢١٧..
٧ - أحكام القرآن لابن العربي جـ ١ ص ٨٤ والمغني لابن قدامة جـ ٣ ص ٨٨ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٩٥ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٤٥..
٨ - رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة..
٩ - البدائع جـ ٢ ص ٨٣ والمجموع جـ ٦ ص ٢٧٣ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٢٩٥ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٤٥..
وقيل سأل أصحاب النبي ( ص ) : أين ربنا ؟ فأنزل الله الآية.
وقيل انه لما نزلت ( وقال ربكم ادعوني أستجيب لكم ) قال الناس : لو نعلم أي ساعة ندعو ؟ فنزلت ( وإذا سألك عبادي عني ) ١.
وروى الإمام أحمد بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي ( ص ) أنه قال : " إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يده يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين ".
وأخرج أحمد عن أبي سعيد أن النبي ( ص ) قال : " ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا : إذا نكثر، قال : " الله أكثر ".
وروى الإمام مالك بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي ".
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن النبي ( ص ) أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل " قيل : يا رسول الله ! وما الاستعجال، قال :: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عنه ذلك ويدع الدعاء ".
ويستجيب الله للعبد إذ دعاه في غير إثم ولا معصية، على أن يكون الداعي حاضر الذهن والقلب وأن يكون موقنا بالإجابة. فلا يجدي الدعاء عن ظهر قلب غافل أو كان الداعي مرتابا غير موقن بأن دعاءه مستجاب. وفي يقول الرسول ( ص ) فيما رواه عنه عبد بن عمرو : " القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل ".
ومن الساعات الكريمة التي تتعاظم فيها أجور الأعمال ويزداد فيها العاملون من الله قربة، ساعات الصيام في شهر رمضان المبارك، ولعل أروع الظواهر وأهمها في هذا الشهر المفضل أن يستجيب الله فيه الدعاء، وبذلك فإن على المؤمن أن يحرص على الدعاء أثناء الصيام دون ملل ؛ وذلك لأمرين.
أولهما : أن مجرد الدعاء إلى الله في خشوع وتذلل لهو عبادة عظيمة يكتب فيها الله الأجر للداعي.
وفي أهمية الدعاء وفضله يقول النبي ( ص ) : " الدعاء مخ العبادة " ٢.
ثانيهما : أن الدعاء في شهر الصيام مستجاب على أن يكون الداعي مستكملا أسباب التقبل من خشوع وطمأنينة وتذلل ويقين بالاستجابة.
وقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا.
وفي حديث آخر رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أيضا عن النبي ( ص ) قال : " إن الصائم عند فطره دعوة ما ترد ".
وفي رواية لأحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول : بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ".
وقوله :( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) وجاء في تأويل قوله تعالى :( فليستجيبوا ) أن السين والتاء زائدتان، واللام لام الأمر. أي فليجيبوا دعوتي إليهم بالطاعة والامتثال، وليكونوا مؤمنين بي إلها خالقا فردا أحدا صمدا. وفي ذلك ما يسلك بهم سبيل الرشاد ويباعد بينهم وبين الغي والضلال والباطل. وقيل : معناه : فليستجيبوا لي بالطاعة يقال : استجبت له واستجبته بمعنى أجبته. وقيل : فليطيعوا لي. فالاستجابة بمعنى الطاعة. وقيل : فليدعوني٣.
٢ رواه الترمذي عن أنس..
٣ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ٩٣ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٣١٣..
كان في ابتداء الإسلام إذا حل شهر الصيام فإنه يحل للمسلم الأكل والشرب والجماع بعد الغروب حتى صلاة العشاء أو النوم، فإذا صلى العشاء أو نام- قل النوم أو كثر- فإنه ليس له بعد ذلك أن يأكل أو يشرب أو يواطئ، بل يظل ممسكا بقية ليلته والنهار حتى المغرب. وذلك فيه من المشقة ما هو معلوم وما يضيق به كثير من الناس.
ونعرض الآن لما ورد من سبب في نزول هذه الآية، فإن الكشف عن السبب يزيد كم بيان المقصود. فقد ذكر عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي ( ص ) إذا كان الرجل صائما، فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وأن قسي بن صرمة الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال " هل عندك طعام ؟ قال : لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه، فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي ( ص ) فنزلت هذه الآية. ففرح المسلمون بها فرحا شديدا.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : إن الناس كانوا من قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي ( ص )، فقال : أشكوا إلى الله وإليك الذي صنعت. قال : " وما صنعت " قال : إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعدما نمت وأنا أريد الصوم، فزعموا أن النبي ( ص ) قال : " ما كدت خلقا أن تفعل " فنزل قوله تعالى :( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) والرفث هو معناه الجماع. فقد رخص الله للمسلمين في هذه الآية الأكل والشرب والجماع طيلة الليل بدءا بالمغرب حتى مطلع الفجر١.
وقوله :( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ( هن ) ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ( لباس ) خبر. ذلك تعبير رباني كريم غاية في التصوير الموحي الذي يعبر عن امتزاج الجسدين امتزاجا مباشرا، كأنما الواحد منهما لباس يلتصق به الآخر ويستتر به. وهو التصادق مادي ومعنوي وثيق يكشف عن عمق المودة والانسجام والتلاحم بين الزوجين.
وقوله :( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) ( تختانون أنفسكم ) أي تخونون أنفسكم بإيقاعها في المحظور وهو الجماع بعد صلاة العشاء أو بعد النوم قبيل العشاء في رمضان. وتلك خيانة من المسلم لنفسه ؛ إذ يوقعها في ما حرمه الله. وهي خيانة للنفس أساسها طبيعة الضعف في هذه النفس ؛ إذ يوقعها في ما حرمه الله. وهي خيانة للنفس أساسها طبيعة الضعف في هذه النفس التي تجنح للشهوة الغلابة، وتضيق بما يصدها عن ممارسة ذلك، فلا يتيح لها من فرص الإشباع بما فيه الكفاية لكن جل وعلا امتن بالتوبة والعفو عن عباده الذين اختانوا أنفسهم، ورخص لهم بالجماع بعد العشاء وكذلك الأكل والشرب.
قوله :( فالآن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ) المراد بالمباشرة الجماع
فقد أباح الله لعباده المواقعة في الليل من رمضان ما بين الغروب والفجر، وأن يطلبوا ما كتب الله لهم والمراد به الولد المتحصل بعد الجماع. وقيل : المقصود بما كتب الله لهم ما أباحه لهم من الجماع في الليل من رمضان. وقيل غير ذلك.
وقوله :( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) أباح الله للمسلم التمتع بالأكل والشرب طيلة الليل إلى أن يستبين له بياض النهار من سواد الليل. وجاء التعبير في الآية عن ذلك بالخيط الأبيض والخيط الأسود. ولا ينبغي أن يفهم النص على ظاهره فيوعى وعيا حرفيا كما وعاه بعض الناس إذ وهموا أن المراد بالخيط هو الحبل الدقيق المعروف ؛ بل إن المقصود بالخيط الأبيض بياض النهار إذا انفجر ولاح ضوءه في الأفق. وأما الخيط الأسود فهو سواد الليل يغشى السماء. ومما يزيل اللبس والإبهام هنا قوله :( من الفجر ) فذلك تبيين للمقصود من الخيط الأبيض والخيط الأسود. فليس المقصود من ذلك الحبل الدقيق كالعقال ونحوه وإنما النهار بضيائه والليل بسواده هما المقصودان.
فقد حدث الإمام أحمد بإسناده عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والأخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله ( ص ) فأخبرته بالذي صنعت فقال : " إن وسادك إذا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " وبذلك فإنه مباح للمسلم أن يأكل ويشرب ويواقع طيلة الليل حتى الفجر.
وهنا يرد الكلام عن أكلة السحور وهو ما كان قبيل الفجر بزمن قصير. والسحور مستحب شرعا للمؤمن، فقد ندب إليه النبي ( ص ) ؛ لما فيه من تقوية للبدن على الإمساك طوال النهار، ولما فيه كذلك من صحوة في الليل ترافقها صحوة للحس والقلب والذهن في فترة ساكنة هادئة من الليل. وهي فترة تحلو فيها اليقظة وتنبعث فيها النفس ناشطة بعد رقاد، إنها فترة السحر الوادع الذي تجد فيه الروح وأشواقها، فتفيض على الحياة والواقع بنسائم الأمن والراحة والإحساس بالطمأنينة الكاملة والحبور الغامر، هي فترى السحور التي يسن فيها الأكل شرعا ؛ لما فيها من بركة، فهي بركة الطعام الذي يغدو البدن بطاقة الاقتدار والاحتمال، وبركة اليقظة التي تفيق فيها الروح بعد سهادٍ راقد لتعيش فترة وجيزة من الزمن حافلة بالرضا والسكينة.
وفي السحور يقول النبي ( ص ) في رواية الصحيحين عن أنس : " تسحروا فإن في السحور بركة ". وروى مسلم عن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور ".
وفي حديث آخر لأبي سعيد قال : قال رسول الله ( ص ) : " السحور أكله بركة فلا تدعوه، ولو أن أحدكم تجرع جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسرحين ".
ويستحب للمتسحرين تأخير السحور إلى قبيل الفجر بمدة وجيزة من الزمن مقدرة بتلاوة خمسين آية القرآن. فقد جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال : تسحرنا مع رسول الله ( ص ) ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس : قلت ليزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال قدر خمسين آية.
وفي حديث للإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور ".
وجدير بالبيان هنا أن الفجر فجران. أولهما : ما كان ضياء ساطعا على هيئة بياض مستطيل في الأفق لا يلبث أن يزول لتعقبه ظلمة.
وثانيهما : ما جاء عقيب الفجر الأول وكان ضوءه منتشرا، وهو إيذان بطلوع النهار. ومن أجل ذلك ينادي المؤذن بأذانين.
والأذان الأول منهما إنما هو لإيقاظ النائم وتذكير الساهي وإرجاع القائم. أما الثاني فهو الفجر المقصود الذي يجب معه الإمساك. يقول الرسول ( ص ) : " الفجر فجران، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا، وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يُحل الصلاة ويُحرم الطعام.
وقد ورد في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله ( ص ) قال : " لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ؛ فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ".
وعنه ( ص ) قال : " لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره- أو قال نداء- بلال ؛ فإن بلالا يؤذن بليل أو قال : ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم ".
وفيما رواه مسلم عن إسماعيل بن إبراهيم أن رسول الله ( ص ) قال : " لا يغرنكم أذات بلال ولا هذا البياض لعمود الصبح حتى يستطير " وفي رواية أخرى عنه ( ص ) : " ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر ".
يؤخذ من هذه الأدلة أن ما تعورف عليه من أذان الإمساك في هذه الأيام والذي يسبق أذان الفجر لا يَصْدق عليه هذا الاسم. فإن أذان الإمساك في هذه الأيام هو في حقيقته مرادف لأذان بلال عندما كان يؤذن بليل لإيقاظ النائم وتحذير الساهي وإرجاع القائم. فإنه بعد هذا الأذان لا ينبغي الإمساك عن طعام أو شراب أو جماع، بل إن ذلك كله مباح حتى يحين وقت الأذان الثاني وهو أذان الفجر الذي يسبق طلوع النهار.
ومما يتبع ذلك من مسائل أن من أصبح جنبا في رمضان فلا حرج عليه. وعليه أن يغتسل نهارا. فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة- رضي الله عنهما- أنهما قالتا : كان رسول الله ( ص ) يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم.
وأما الحائض أو النفساء فليس لها أن تصوم، بل إن إفطارها واجب حتى وإن جاءها المخاض أو الحيضة قبيل الغروب بزمن قصير، وعليها القضاء بعدة أيام أخر خارج شهر رمضان، أما الصلاة فلا قضاء فيها تخفيفا من الله ورحمة، فلا تقضي المرأة الحائض ولا النفساء ما فاتها من صلوات بسبب الحيض أو النفاس٢.
وفيما يتعلق بالنية فإن تبييتها في الصوم من قبل الفجر واجب ؛ ذلك أن الصيام ضرب من العبادة التي لا تتم إلا بالنية. وهي غير النية ليست إلا عملا من الأعمال العادية التي لا يَصدق عليها اسم العبادة المراد بها وجه الله. فقد روى الدارقطني عن السيدة عائشة عن النبي ( ص ) قال : " من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له ".
وروى الدارقطني عن حفصة أن النبي ( ص ) قال : " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " ذلك الذي ذهب إليه جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة إذ قال : لا يشترط تبييت النية قبل الفجر. وقول الجمهور هو الراجح والمعتمد٣.
وقوله :( ثم أتمموا الصيام إلى الليل ) فرض على الصائم أن يظل ممسكا عن الجماع وعن كل ما يلج الجوف طيلة النهار حتى تغرب الشمس، وبذلك فمجال الصيام من حيث الزمن ما بين الفجر والغروب، فإذا غربت الشمس أفطر الصائم ولا مساغ حينئذ للتأخير. وقد جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ( ص ) : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ".
والحكم بإتمام الصيام إلى الليل يستلزم الحديث عن الوصال في الصيام. وهو أن يصل الصائم يوما بيوم يليه من غير أن يأكل أو يشرب بينهما شيئا، وذلك أمر منهي عنه شرعا ؛ لما فيها من ضرر يلحق بصحة البدن أو احتمال الهلاك من طول الإمساك عما يسد الرمق.
وقد جاء في الحديث مما رواه أحمد عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا تواصلوا " قالوا : " يا رسول الله ! إنك تواصل، قال : " فإني ليست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " قال : فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي ( ص ) يومين وليلتين ثم رأوا الهلال فقال : " لو تأخر الهلال لزدتكم " كالمنكل لهم.
وعن عائشة رضي الله عنهما قالت : نهى رسول الله ( ص ) عن الوصال رحمة لهم فقالوا : إنك تواصل. قال : " إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني " وبذلك فإن وصال النبي
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٢٢ والمهذب للشيرازي جـ ١ ص ١٧٧..
٣ - المغني جـ ٣ ص ٩١ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٤٨..
ذلك نهي عن أكل الأموال بغير الحق ويشمل ذلك كل وجوه الأكل الحرام مما تبين عن طريق الكتاب أو السنة. والأكل الحرام يذهب بالبركة، ويرسخ في النفس درن الشرح والجشع، ويشيع بين الناس الكراهية والتحاسد والبغضاء، وينتزع من بين الأفراد كل بقية للمودة أو الثقة أو البركة.
وأكل الأموال بالباطل أو جهة كثيرة، وهي كالرشا والقمار والسرقة والتطفيف في الميزان والمكيال، وكذلك أثمان الخمور والخنازير وأجور النساء الزواني اللواتي يأتين الفاحشة، ثم أكل المهور وغيرها من الأموال عن غير طيب نفس أو الاحتكار والربا والغش والخداع في البيع والتعامل وغير ذلك من أصناف الأكل الحرام الذي يسحت البركة ويودي بالآكلين الظالمين إلى النار. وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : " ومن نبت جسمه من حرام، فالنار أولى به ".
وقوله :( وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم ) أي لا تأكلوا أموال الناس بغير حق، ثم تعمدوا بعدها لمصانعة الحكام أو القضاة فترشوهم بالمال لكي يقضوا لكم بالباطل. واعلموا أن أي قضاء من هذا النوع لا يُحل حراما ولا يقلب لكم الباطل حقا، بل إن الحرام لا يتحول عن صفته هذه بالحكم الجائر أو القضاء الباطل. فإذا قضى القاضي لأحد الخصمين بالباطل فما يأكل هذا الخصم إلا الحرام أو النار، ولا يبيت ماله هذا حلالا بمجرد القضاء غير المطابق سيء النية قد جار في حكمه عن قصد. ويمكن القول كذلك أن القاضي لا إثم عليه ولا حرج إذا ما قضى في ضوء ما يتراءى له من بينة جلية كافية، فهو يقضي بحسب الظاهر وليس له بعد ذلك أن ينقب عن القلوب والسرائر.
وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله ( ص ) قال لاثنين جاءا إليه يختصمان : " لا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " وبذلك فإن الحكم من الحاكم في قضية للمتخاصمين لا يغير الشيء عن حقيقة أمره. فهو لا يحوّل الحرام حلالا ولا يحول الحلال حراما. ولكن الحاكم يحكم على الظاهر من البينة. فلا يحل المال إذا لخصم ذي براعة في التحيّل واختلاق البينات الكاذبة مهما تعددت وتضافرت ؛ لأنه يعلم أنه مبطل وأنه مفتر وأنه آكل أموال الناس بالباطل ؛ لذلك قال سبحانه في الآية :( وأنتم تعلمون ) الواو للحال. ( أنتم ) ضمير في محل رفع مبتدأ ( تعلمون ) جملة فعلية في محل رفع خبر.
وسمي هلالا ؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه. واستهل بمعنى تبين. نقول استهل الصبي أي صاح عند الولادة فظهرت حياته. وأهل المعتمر أو الحاج رفع صوته بالتلبية. وتهلل وجه الرجل فرحا أو استهل أي ظهر فيه السرور.
ومنه قوله تعالى :( وما أهل به لغير الله ) أي نودي عليه بغير اسم الله تعالى وأصله رفع الصوت.
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن معاذ بن جبل قال للنبي ( ص ) : يا رسول الله ! إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم يتقص حتى يعود كما كان ؟
وقيل : سبب نزولها أن قوما من المسلمين سألوا النبي ( ص ) عن الهلال وسبب محاقة وكماله ومخالفته للشمس في دوام كمالها واستدارتها وعدم نقصانها.
وقوله :( قل هي مواقيت للناس والحج ) ذلك جواب عن سؤال السائلين السابق، فالأهلة أصلها القمر. وقد جعله الله متفاوتا مختلفا وعلى منازل تتراوح بين الصغر والكبر أو بين الدقة والاكتمال أو بين السطوع المتلألئ والذبول الشاحب. كل هذه المراحل المتعددة المتعاقبة للقمر بانتظام قدرها الله لتكون ( مواقيت للناس ) و ( مواقيت ) مفردها ميقات وهو الوقت. فقد جعل الله من تعدد الأهلة بتعدد الهيئة والصورة للقمر ما يمكن الناس من يسر التعامل والعيش، وذلك بضرب الآجال والمواعيد لتحقيق القضايا والمعاملات وأداء الصوم والحج والالتزام بالعهود والمواثيق والعقود كالإجارات والرهان والمقارضات وسائر أنواع البيوع، إلى غير ذلك مما تقتضيه مصالح العباد. وهي مصالح وقضايا وشؤون تتحدد على أساس من الزمن ( المواقيت ) ولولا ذلك لتعثرت حياة الناس ومعايشهم فلخالطها اللبس والتنازع والخصام.
ومن تسخير الأهلة الناس كي تكون لهم مواقيت للحج استنبط بعض الفقهاء حكما شرعيا وهو أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يصح مع الكراهة استنادا إلى هذه الآية. ذلك أن الله جعل الأهلة كلها- على مدار السنة- مواقيت للحج. وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومالك وخالف الشافعي في ذلك محتجا بقوله تعالى :( الحج أشهر معلومات ) أما أن تكون الصلة كلها مناسبة للإحرام بالحج استنادا إلى ظاهر قوله :( مواقيت للناس والحج ) فذلك مجانب للصواب وهو مرجوح١.
وقوله :( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ( البر ) اسم ليس مرفوع. وهي كلمة جامعة للإحسان والخير. والمصدر من أن تأتوا في محل نصب خبر ليس. والظاهر من السياق للآية أن اتصال السؤال عن الأهلة بإتيان البيوت من ظهورها جاء متفقا فنزلت الآية في القضيتين كليتهما.
وفي سبب نزول هذه الآية ثمة قولان متقاربان : أحدهما : أن الأنصار كانوا إذا جحدوا وعادوا لا يدخلون بيوتهم من أبوابها، فقد كان من عاداتهم أنهم إذا أهلوا بحجج أو عمرة يلتزمون شرعا ألا يكون حائل بينهم وبين السماء. فكان الحاج فيهم أو المعتمر إذا عاد لبيته لا يدخل من الباب، كيلا يحول السقف بينه وبين السماء المكشوفة. فكان من أجل ذلك يتسلق الجدران ليتسنم ظهر بيته وهم يرون ذلك ضربا من النسك أو العبادة. فرد الله تصورهم هذا وبين لهم أن البر هو التقوى والتزامهم بما شرع.
ثانيهما : وهو لابن عباس إذ قال : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بحج، فإن كان من أهل المدر نقب في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج، أو ينصب سلما ليتمكن من الصعود أو النزول بسببه. وإن كان من أهل الوبر فإنه يدخل إلى الخيمة من خلفها إلا إن كان من الحمس. والحمس جمع مفرده الأحمس وهو من الحماسة بمعنى الشدة، وسموا بذلك لشدتهم. فهم بذلك حمس أي شداد. ويدخل في الحمس قبائل عربية ذات شهرة ومكانة منها قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وآخرون٢.
في ضوء ما تقدم من بيان لسبب النزول وغيره نود التذكير بالجزأين التاليين.
أولهما : أن السؤال عن الأهلة وإتيان البيوت من غير أبوابها كانا بمثابة قضيتين وردتا متفقتين معا. وبعبارة أخرى فإن السؤال عن الأهلة جاء في وقت كان الناس يدخلون بيوتهم من غير أبوابها، فنزلت الآية في القضيتين معا.
ثانيهما : ما وقف عليه الأستاذ الشهيد سيد قطب-رحمه الله- وهو أن السؤال عن الأهلة يخالطه التكلف والاستعجال، فما كان السائلون مؤهلين أصلا لمعرفة الحقيقة الطبيعية التي يسبر على أساسها القمر في دورانه حول الأرض ليبدو على أشكال متفاوتة من لأهلة. ٣
إن هذا السؤال المتكلف المستعجل من السائلين عن هذه الحقيقة يوحي بالتكلف البطر غير المرغوب، كشأن الذي يستنكف عن الدخول في البيت من بابه المعلوم ثم يأتيه من خلفه إيثارا للاعوجاج الملتوي ومجانفة عن سواء السبيل.
كذلك الذين يقفزون في غير تبصرة موزونة ولا تفكير متئد سليم ليسألوا عن حقيقة طبيعية لجزء عظيم من أجزاء ها الكون ( القمر ) وذلك من حيث هيئته وتفاوت حجمه على نحو مطرد مقدور.
كان حريا بأولئك السائلين أن يكفوا عن مثل هذا السؤال الذي يعز عليهم إدراكه في زمانهم، وكان عليهم أن يأخذوا أنفسهم بالتقوى وما يتطلبه ذلك من مقتضيات البر والطاعة، فإن ذلك أبعد عن التكلف في السؤال وهو بمثابة الإتيان للبيوت من أبوابها لا من ظهورها. والله سبحانه وتعالى أعلم.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٣٣..
٣ - في ظلال القرآن جـ ٢ ص ٩٥..
كان القتال قبل الهجرة ممنوعا. وهو ما يدل عليه قوله تعالى :( ادفع بالتي هي أحسن ) وقوله :( فاعف عنهم ) وقوله :( واهجرهم هجرا جميلا ) ولما هاجر النبي ( ص ) إلى المدينة أمره بالقتال بقوله :( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ) فكان النبي يقاتل من قاتل ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وروي أن هذه أول آية نزلت في الأمر بالقتال. وقيل : أول آية في ذلك هي قوله تعالى :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ).
قوله :( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المفسدين ) فقد جاء في تأويل هذه الآية قولان :
القول الأول : إن الله يأمر عباده المؤمنين بمقاتلة أعدائهم الذين يقاتلونهم حتى إذا كف الأعداء عن مقاتلتهم، كان على المؤمنين أن يكفوا كذلك بالمثل ؛ لأن قتالهم من لم يقاتلهم من الكافرين يعتبر عدوانا والله سبحانه ( لا يحب المعتدين ).
وقيل أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وبقوله تعالى :( وقاتلوا المشركين كافة ).
القول الثاني : إن هذه الآية ليست منسوخة بل هي محكمة. وتأويل ذلك أن الله يأمر المؤمنين بمقاتلة أعدائهم الكافرين الذين شأنهم وحالهم وهمهم قتال المسلمين. فكأن الكافرين على قتال دائم مع المؤمنين، فمن كانت حالة هذه وجب قتاله.
أما الاعتداء الذي نهى الله عنه في هذه الآية فهو كما قاله الحسن البصري يتناول المنهيات من أمور الحرب مثل الغلول والمثلة وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ثم الرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة. ويصدق ذلك كله ما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله ( ص ) كان يقول : " اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلو، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع ".
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله ( ص ) إذا بعث جيوشه قال : " اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوالدان ولا أصحاب الصوامع ".
وعن عبد الله بن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي ( ص ) مقتولة فأنكر رسول الله ( ص ) قتل النساء والصبيان.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره صورا ستا لأولئك الذين يتجنبهم المسلمون في الحرب فلا يقتلونهم وهم على التفصيل التالي :
أولا : النساء إن لم يقاتلن المسلمين فلا يؤذين ولا يقتلن، أما إن قاتلن المسلمين أو عملن على تقوية الأعداء بتحريضهم على قتال المسلمين وإمدادهم بالمال والغذاء والعلاج وغير ذلك فإنهن بذلك يقتلن.
ثانيا : الصبيان فهم لا يقتلون ؛ لما ثبت من دليل في النهي عن قتلهم ؛ ولأنهم أصلا غير مكلفين، لكنهم إن حملوا السلاح مع الأعداء وقاتلوا المسلمين فقد بات قتلهم واجبا.
ثالثا : الرهبان. وهم كذلك لا يقتلون ولا ينبغي إيذاؤهم وإنما يتركون وحالهم من عبادتهم، لكنهم إذا شاركوا الأعداء في قتال المسلمين قتلوا. وفي يقول أبو بكر الصديق في وصية له ليزيد بن أبي سفيان حينما بعثه إلى الشام : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا.
رابعا : الزمنى. وهم ذوو الأمراض والعلل المزمنة فإنهم إذا لم يعينوا الكافرين على قتال المسلمين تركوا على الراجح.
خامسا : الشيوخ المسنون. فإن في حكم هؤلاء تفصيلا. فإن كان المسن كبيرا هرما لا يستطيع قتالا أو تقديم رأي أو مشورة للعدو فإنه لا يقتل. وقد ذهب إلى ذلك الإمامان مالك وأبو حنيفة- رضي الله عنهما- وهو قول الجمهور.
أما الإمام الشافعي فله في ذلك قولان. أحدهما : مثل قول الجمهور السابق.
وثانيهما : أنه يقتل. والصحيح ما ذاهب إليه الجمهور استنادا إلى وصية الصديق رضي الله عنه إلى يزيد بن أبي سفيان بعدم قتل أصناف من الناس وفيهم الشيوخ إلا إذا شاركوا في أذية المسلمين في قول أو رأي أو مشورة أو عمل.
سادسا : العسفاء. وهو جميع مفرده : عسيف وهو الأجير. وكذلك الفلاحون الذين ينقطعون لحراثة الأرض وزراعتها. ففي مثل هؤلاء خلاف من حيث الحكم. فقد قال الإمام مالك بعدم قتلهم. وقال الشافعي بقتلهم إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية. والظاهر أن ما ذهب إليه مالك في هذه المسألة وهو الراجح ؛ وذلك لقول النبي ( ص ) : " الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن حراثا كما ذكر١.
ويوجب الله كذلك إخراج المشركين من البلاد التي أخرجوا منها المسلمين. والظاهر أن خصوص السبب المقصود في هذه الآية هم كفار مكة، إذ أخرجوا المسلمين من بلادهم ( مكة ) فباتوا من بعد طلك مهاجرين، لكن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم في الأصول. فإن الحكم بوجوب إخراج المشركين المعتدين ينسحب على كل الأحوال المشابهة التي يعتدي فيها الظالمون على المسلمين فيخرجونهم من ديارهم بغير حق.
وقوله :( والفتنة أشد من القتلى ) تأتي الفتنة بمعنى الاستمالة. نقول فتن المال الناس أي استمالهم. وفتن فلان في دينه أو أفتن بمعنى أنه مال عنه. والفتنة بمعنى الشرك والمحنة والابتلاء٢.
وجاء في المقصود من هذه الآية عدة أقوال نقتضب منها اثنين :
أولهما : أن فتنة المسلم بحمله على الكفر والبعد عن دين الإسلام وذلك بمختلف الوسائل والأسباب منها التعذيب والتخويف والتهديد ومنها الإغراء والإغواء بالمال وغيره، فإن ذلك لهو أشد من القتل. أو أن قتل المؤمن أهون عليه من فتنته عن دينه إلى الشرك.
ثانيهما : أن فتنته عن دينه أشد نكرا من قتله للمشركين في الأشهر الحرم وقد غيَّر المشركون المسلمين بذلك، وراحوا يصرخون بأن أصحاب محمد يقتلون الناس في الأشهر الحرم، وبذلك يريد الله أني علم هؤلاء الضالون والظالمون أن فتنتهم للمؤمنين وصدهم عن سبيل الله وعن دينه أعظم جرما من القتل في الشهر الحرام.
قوله :( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) ينهى الله عن مقاتلة المشركين عند المسجد الحرام. أي ليس لهم أن يبدأوهم بالقتال في الحرم إلا إذا اعتدى عليهم المشركون وبدأوهم بالقتال. وفي مثل هذه الحال وجب على المسلمين أن يصدوهم ويقتلوهم جزاء عدوانهم ومبادأتهم بالقتال.
وبذلك فإن الحكم الثابت المستفاد من هذه الآية هو تحريم القتال عند المسجد الحرام باستثناء ما بينا من عدوان الكافرين ومبادأتهم. ولا ينبغي الاحتجاج في هذا الصدد بمقاتلة النبي لمشركي مكة يوم الفتح ؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعضد شجره ولا يختلى خلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ( ص ) فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ".
وقيل إن الآية منسوخة بقوله تعالى :( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) والراجح أنها محكمة وليست منسوخة، يعزز ذلك ما بيناه من دليل وهو الحديث السابق.
٢ - المصباح المنير جـ ٢ ص ١١٥ والقاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٥٦..
وقوله :( فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) إذا انصرف المشركون عن قتال المسلمين وعن إيذائهم وفتنتهم فدخلوا في الإسلام، أو كانوا من أهل الكتاب ورضوا بدفع الجزية صاغرين فإن عليكم حينئذ أن تكفوا عن قتالهم ؛ لأن العدوان لا يكون إلا على الظالمين ويأتي العدوان هنا بمعنى المقاتلة والجزاء. ذلك أن العدوان من المؤمنين على الظالمين هو بمثابة الجزاء على العدوان وذلك كقوله تعالى :( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) أما الظالمون فهم المشركون. أو يراد بهم الذين يعتدون فيبدأون بقتال المسلمين٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ١١٠-١١٣ وتفسير البيضاوي ص ٤١..
وقوله :( والحرمات قصاص ) لحرمات مفردها حرمة، وهي تكون للشهر وللبلد وللإحرام. فنقول : حرمة البلد، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام، وحرمة المسجد، والحرمة هي ما لا يحل انتهاكه. وتأتي أيضا بمعنى المهابة وذلك على سبيل الاحترام.
وهذه المسميات التي بيناها لا يحل انتهاك واحد منها ؛ لما لكل واحد منها من حرمة وهي حرمة البلد، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام، وحرمة المسجد.
أما الشهر الحرم فهي أربعة، واحد منها فرد وثلاثة سرد وهي : رجب ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم٢.
وقوله :( قصاص ) أي مماثلة ومساواة. فقد أقص الله المسلمين من المشركين إذ أعادهم إلى مكة ظافرين في الشهر الحرام بعد أن صدوا من قبل ذلك في الشهر الحرام فكان ذلك قصاصا من الله أي مماثلة ومساواة.
وقوله :( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) هذه الآية من أمهات ما جاء في الكتاب الحكيم مما اشتمل على أحكام وقضايا جنائية. او هي أصل في العقاب المثل الذي يسري على الناس عموما دون تمييز ما دام الجرم واقعا عن طريق العمد. فمن قتل بشيء وجب قتله بمثل ما قتل به إلا أن يعفو الولي كما بينا في آية القصاص. وذلك الذي عليه جمهور الفقهاء. ويستثنى من هذا العموم ما لو قتله بفسق، كالقتل بإسقاء الخمر أو باللواط فإنه في مثل هذه الحال يقتل بالسيف، لكن الشافعية قالوا : إنه بالرغم من القتل بالفسق فإنه يقتل بوسيلة مشابهة لما قتل به على ألا تكون فسقا. وكيفية ذلك عندهم أن يسقى بدل الخمر ماء حتى يموت، أو يُطعن في دبره بعود فيموت.
والأساس في ذلك كله أن يتحقق العدل بالمماثلة وهو العقاب بالمثل. وقد روي عن السيدة عائشة – رضي الله عنها- قالت : ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية٣ صنعت لرسول الله ( ص ) طعاما فبعثت به فأخذني أفْكَلٌ، أي رعدة من شدة الغيرة، فكسرت الإناء. فقلت : يا رسول الله ما كفارة ما صنعت ؟ قال : " إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام ".
أما القتل بالمثقل ففيه تفصيل. وهو ما كان بالحجر أو العصا أو الخنق أو التردية من أعلى إلى أسفل أو التغريق في الماء أو القتل بالسم ونحو ذلك مما ليس بحديد محدد كالسيف أو الرمح أو السكين.
فقد شد الإمام أبو حنيفة- رحمه الله- في هذه المسألة إذ ذهب إلى أنه لا قصاص في القتل بالمثقل، بل تجب فيه الدية على العاقلة. واحتج أبو حنيفة لرأيه هذا بما نحسبه استنادا للعقل وحده، إذ قال إن القصاص عقاب كامل فهو بذلك يقتضي – من أجل تنفيذه بالعدل- أن تكون الجريمة كاملة. ولا تكون كاملة إلا إذا كان القتل بالحديد المحدد. وأي قتل بغير هذه الوسيلة يعتبر في تصور الإمام أبي حنيفة دون الجرم الكامل الذي يستوجب العقوبة الكاملة، ألا وهي القصاص وكذلك قد استند إلى جملة أخبار لا تخلو من احتمال فلا تصلح معه للاستدلال.
لكن جماهير الفقهاء وأهل العلم قد خالفوا الإمام أبا حنيفة في هذه المسألة إذ قالوا بوجوب القود ( القصاص ) في القتل بالمثقل. فإنه ما من قتل- كيفما كان سببه- إلا وهو معتبر جرما يقتضي قودا ؛ وذلك لعموم الأدلة من الكتاب والسنة في إيجاب القصاص في القتل كيفما كانت وسيلته مادام عمدا٤. وقد روي عن أنس بن مالك أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها : من صنع هذا بك، أفلان، أفلان ؟ حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله ( ص ) أن ترض رأسه بالحجارة. وفي رواية : " فقتله رسول الله ( ص ) بين حجرين " وجاء في الحديث عن القتل بالإحراق والإغراق عمدا وأن في ذلك القصاص " من حرّق حرّقناه، ومن غرّق غرّقناه " ٥.
ذلك هو تأويل الاعتداء بالمثال الوارد في قوله تعالى :( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) والعدوان على المعتدي هو بمثابة الجزاء على اعتدائه فلا مساغ بعد هذه الأدلة الظاهرة المتضافرة للقول بعدم القصاص في القتل بالمثقل ونحسب ان مثل هذا القول مرجوح، وأنه مدعاة لتفشي القتل ظلما ولاجتراء القتلة والمجرمين على القتل بغير حق. فإذا أيقن المجرمون القتلة أنه لا قصاص في القتل بالمثقل وأنه لا قصاص إلا ما كان بالحديد، عمدوا إلى القتل بغير وسيلة الحديد وذلك كالقتل تغريقا أو خنقا أو بالسم أو بالعصا أو التردية من مكان مرتفع.
قوله :( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) تقوى الله طاعته عن رضى ويقين وامتثال أوامره جميعا وذلك باتباع ما أمر والانتهاء عما زجر. وإذا كان العباد على تلك الحال من التقوى فليعلموا أن الله معهم مؤيدهم ومثبتهم في هذه الدنيا، وهو كذلك منجيهم يوم القيامة.
٢ - مختار الصحاح ص ١٣٢..
٣ - هي صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي (ص) بعد غزوة بني قريظة وقتلهم..
٤ - المغني جـ ٧ ص ٦٣٨ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٣١٣ والمدونة الكبرى جـ ٤ ص ٤٩٥ واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى للإمام أبي يوسف ص ١٤٨ وتحفة الفقهاء جـ ٣ ص ١٤٩..
٥ - أخرجه البيهفي عن البراء..
وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وكثيرون غيرهما في معنى هذه الآية : المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة فيقول الرجل : ليس عندي ما أنفقه.
هذان قولان في سبب نزول هذه الآية من أقوال أخرى كثيرة ومتقاربة يفضي كلها إلى المقصود بإلقاء النفس في التهلكة، وهما ترك الجهاد والنفقة في سبيل الله. فلا يترك أحد الجهاد ولا يبخل في النفقة في وجوهها المشروعة إلا من أودى بنفسه في التهلكة وهي مصدر فعله هلك يهلك.
وثمة أمثلة نسوقها لنبين فيها حكم الشرع وذلك في ضوء هذه الآية التي تحذر من إلقاء النفس في التهلكة.
فقد اختلف أهل العلم في الرجل يقتحم الحرب ثم يحمل على العدو بمفرده.
والراجح في هذه المسألة أنه إذا كان يقصد بذلك طلب الشهادة وقد خلصت فيه النية لله فلا بأس عليه في ذلك وليس ذلك من التهلكة في شيء. يقول الله سبحانه :( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ) فذلك هو الذي يبيع نفسه طلبا لرضوان الله.
ولو حمل الرجل بمفرده على أعداد كثيرة من المحاربين أو اللصوص أو المشركين، فإن كان في حمله عليهم ما ينكّل بهم أو يحدث فيهم رجة نفسية واضطراباً أو ثغرة ينفذ منها المسلمون إلى قلب العدو فذلك حسن وهو ضرب من الحماسة الشجاعة المندفعة التي يكتب الله به للمتحمس الشهادة إذا ما قُتل.
وكذلك لو حمل مسلم بمفرده على أعداد كثيرة من عساكر العدو في المعركة وهو ينبغي بذلك تجرئة المسلمين على الاندفاع في اقتحام هاجم، فضلا عن الترعيب الذي يحدثه في نفوس الأعداء فذلك حسن أيضا.
وحول هذا المعنى في مثل هذه المواقف رُوي أن رجلا قال للنبي ( ص ) : أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ؟ قال : " فلك الجنة " فانغمس في العدو حتى قتل.
ومما نسمعه في عصرنا هذا أن يزجي أحد الناس بنفسه في وسط العدو فيموت وإياهم. وذلك كالذي يتمنطق بحزام من الذخيرة المتفجرة فيدفع بنفسه في قلب العدو ليفجر فيهم ما يحوطه من عتاد متفجر موقوت. ومثل هذا الرجل الشجاع كأنما هو في شخصه وجسده قنبلة قابلة للانفجار ساعة إلقائها صوب العدو. فما حكم ذلك. وهل من بأس على المرء الشجاع المندفع في مثل هذه الحال ؟
نقول والله المستعان أن هذا المندفع الهاجم الشجاع وهو يبتغي الشهادة في سبيل الله، فضلا عن مراده تدمير العدو وإشاعة الرعب في صفوفه، له من بالغ الأجر والتكريم ما لم يعلم مداه وقدره إلا الله. وهو سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله :( وأحسنوا إن اله يحب المحسنين ) يأمر الله أن يعمل المؤمنون الطاعات على أفضل الدرجات وخير المقامات، سواء في ذلك الإنفاق أو الجهاد وغير ذلك من جوه الإحسان وهو أرقى الدرجات في مراتب الأعمال والطاعات٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٣٦١- ٣٦٥ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ١١٩، ١٢٠..
إتمام الحج والعمرة أي أداؤهما وإقامتهما على خير وجه من تمام النسك والإخلاص لله.
والعمرة من الاعتمار بمعنى الزيارة. وهي مفرد وتجمع على عمر وعمرات١.
ومن حيث المعنى الشرعي فهي الحج الأصغر، وهي ركنها الطواف والسعي وشرطها بينهما وبين الحج في إحرام واحد، فقد ثبت أن النبي ( ص ) جمع في إحرامه بحج وعمرة٢. وثبت عنه كذلك في الصحيح أنه قال لأصحابه : " من كان معه هدي فليُهل بحج وعمرة " وعنه ( ص ) أنه قال في الصحيح : " دخلت العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة ".
أما العمرة من حيث حكمها الشرعي فهي موضع خلاف. فقد ذهب فريق من أهل العلم وفيهم ابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين وسعيد بن جبير والشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنها واجبة. واحتجوا لذلك بحديث مرفوع عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن الحج والعمرة فريضتان لا يغُرّك بأيهما بدأت " واحتجوا كذلك بظاهر قوله تعالى :( وأتموا الحج والعمرة لله ) فقد أوجب إتمامها مثلما أوجب إتمام الحج، وذلك تكليف بالشيء فهو واجب لا سنة.
وذهب آخرون وهم الحنفية ومالك والنخعي إلى أن العمرة سنة وليست واجبا مستدلين لذلك بما ذكر عن جابر بن عبد الله قال : سأل رجل رسول الله ( ص ) عن الصلاة والزكاة والحج : أواجب هو ؟ قال : " نعم " فسأله عن العمرة : أواجبة هي ؟ قال : " لا وأن تعتمر خير لك ".
أما الآية فقد ردوا الاحتجاج بها على فرضية العمرة وقالوا أن الله سبحانه وتعالى إنما قرنها بوجوب الإتمام لا في الابتداء. أي أن الآية جاءت للإلزام بالإتمام لا للإلزام بالابتداء وهذا هو الراجح والله أعلم٣.
وقوله :( فإن حضرتم فما استيسر من الهدى ) جاء في هذه الآية أنها نزلت عام الحديبية سنة ست عندما حيل بين النبي ( ص ) وبلوغ البيت الحرام لأداء العمرة.
فرخص الله للمسلمين يومئذ أن يذبحوا ما معهم من هدي وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم، وأن يتحللوا من إحرامهم.
والإحصار لغة معناه المنع والحبس. حصره العدو أو المرض، وأحصره، بمعنى منعه أو حبسه٤. والمحصر من حيل بينه وبين بلوغ البيت الحرام لسبب من عدو أو جور سلطان أو مرض.
لكن العلماء اختلفوا في تعيين حقيقة المانع الذي تكون به الرخصة للإحصار. وذلك على قولين. أولهما : أنه العدو خاصة وهو قول جماعة فيهم ابن عباس وابن عمر وأنس والشافعي فقد ذهب هؤلاء إلى أن الحصر يختص بالعدو فلا يتحلل من إحرامه إلا من حصره عدو وليس غيره.
وثانيهما : أن الحصر عام فهو يتناول كل سبب يمنع من الوصول إلى البيت سواء في ذلك العدو أو المرض أو الضلال في الطريق أو غير ذلك من أسباب. وهو ما ذهب إليه بعض السلف منهم ابن مسعود وابن الزبير وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير ومجاهد وآخرون غيرهم. وهو ما نرجحه استنادا إلى عموم المدلول لمفهوم الإحصار الذي يتناول جملة العوائق أو الأعذار دون تخصيص. ولما روي عن الرسول ( ص ) قوله : " من كُسر أو وُجع أو عرج فقد حلّ وعليه حجة أخرى ".
وعلى العموم فإن المحصر الذي منعه من بلوغ البيت مانع سواء كان عدوا أو غيره- يتحلل من إحرامه حيث أحصر ثم ينحر هديه ويحلق رأسه. وقيل : يبعث بهديه إلى الحرام إن أمكن ذلك. فإذا بلغ الهدي محلّه صار المحصر حلالا. أي تحلل من إحرامه بمجرد بلوغ الهدي محلّه٥.
وثمة خلاف آخر حول وجوب القضاء على من أحصر. فذهب مالك والشافعي إلى أن من أُحصر بعدو فلا قضاء عليه سواء في الحج أو العمرة، شريطة أن يكون قد حج الفريضة قبلها، أو اعتمر عند من أوجبها إيجابا، فإن حج أو اعتمر قبلها فما عليه من قضاء. وذهب أبو حنيفة إلى أن المحصور بمرض أو عدو عليه حج أو عمرة من قابل أو في وقت يزول فيه الإحصار٦.
وقوله :( فما استيسر من الهدي ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره محذوف تقديره عليكم. والجملة الفعلية بعده صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. وقيل ما في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره انحروا او اهدوا. والهدْي ما يُهدى إلى بيت الله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
ومعنى الآية : انحروا مما كان في ميسوركم من بهيمة الأنعام سواء كان ذلك من الشياه أو الأبقار أو الإبل. وبذلك فإن الشاة مما استيسر من الهدي وأنها تجزئ. وذلك الذي عليه جمهور العلماء. وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : أهدي النبي ( ص ) مرة غنما.
وفي قول آخر لابن عمر وعائشة وابن الزبير بأنه لا يجزئ في الهدي من الأنعام للمحصر إلا من الإبل والبقر فقط، ولا يكون الهدي من الشياه. والقول الأول هو الراجح ؛ نظرا للدليل من السنّة الذي ساقه الجمهور واستنادا إلى الظاهر من الآية وهو أن يقدم المحصر ما تيسر له من الأنعام وقد لا يتيسر له غير الشاة في هذه الحال٧.
قوله :( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) المخاطب بذلك من كان حاجا أو معتمرا سواء كان محصرا أو غير محصر فليس له أن يحلق إلا بعد أن يبلغ هديه موضعه، وموضع الهدي بالنسبة للمحصر هو موضع إحصاره الذي لا يستطيع مجاوزته إلى البيت العتيق، كالذي فعله النبي ( ص ) وأصحابه بعد أن صدتهم قريش عن بلوغ البيت عام الحديبية فنحروا ثم حلقوا. وهكذا الحاج أو المعتمر إذا كان في حالة من الإحصار فإنه لا يتحلل من إحرامه بالحلق إلا بعد أني نحر الهدْي في محلّه الذي وقع عليه فيه الإحصار.
وأما موضع الهدْي بالنسبة لغير المحصر فهو البيت العتيق، فليس له أن يتحلل من إحرامه بالحلق إلا بعد نحره للهدي في محل وهو البيت ؛ لقوله تعالى :( ثم محلها إلى البيت العتيق ) وذلك في حق الآمن غير المحصر٨.
وقوله :( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ).
جاء في سبب نزول هذه الآية ما روي عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله ( ص ) فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله ( ص ) أن يحلق رأسه وقال : " صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدّين مدّين لكل إنسان، أو انسك شاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك ". يستفاد من هذا أن الحاج أو المعتمر في حال الإحرام إذا أصابه في رأسه سوء أو مرض ونحوه مما يؤذيه ويسبب له المضايقة والحرج جاز له أن يحلق رأسه فيُذهب الشعر حيث المرض أو التفث أو الأذى على أن يفتدي بأي الأشياء الثلاثة المذكورة في الآية. وهي إما صيام أيام ثلاثة، أو إطعام ستة مساكين لكل واحد منهم مدّان، او تقديم نسك وهو شاة. ولا يشترط في هذه الأشياء الثلاثة الترتيب، بل للمعذور الرخصة في اختيار منها ما يشاء فورودها في الآية لا يفهم منه الترتيب، بل التخيير ويعزز ذلك الحديث الذي ذكرناه " أي ذلك فعلت أجزأ عنك ".
وقوله :( فإذا آمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) إذا ذهب الخوف وزال الإحصار وأصبحتم آمنين ثم فرغتم من القران أو التمتع فعليكم أن تذبحوا ما أمكنكم من الهدي وأقّله شاة. ويؤخذ من هذه الآية تشريع الإحرام بأقسامه الثلاثة : الإفراد والقِران والتمتع. فمن أحرم بالحج وحده كان مفردا، ومن احرم بالعمرة والحج معا كان قارنا، ومن أحرم بالعمرة فتحلل منها بعد أدائها ثم أحرم بعد ذلك بالحج في موعده من نفس العام والشهر كان متمتعا. وذلك جائز كله بالإجماع. وأخرج مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله ( ص ) فقال : " من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يُهل بحج فليهلّ، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليهلّ " قالت عائشة : فأهلّ رسول الله ( ص ) بحج، وأهلّ به ناس معه، وأهلّ ناس بالعمرة والحج. وأهلّ ناس بعمرة وكنت فيمن أهلّ بالعمرة.
أما التمتع بالعمرة إلى الحج الوارد في الآية فهو على وجهين :
أولهما : التمتع المعلوم الذي أجمع عليه العلماء، وهو المراد بقوله سبحانه :( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) وكيفيته أن يحرم المسلم بعمرة في أشهر الحج على ألا يكون من أهل مكة، فإذا قدم مكة واعتمر تحلل من إحرامه وظل مقيما حلالا بمكة حتى موعد الحج فيؤدي مناسكه قبل خروجه إلى بلده كما سنبينه.
ثانيهما : القِران : وكيفيته أن يجمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فيهلّ بهما جميعا ويقول حين التلبية : لبيك اللهم بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف بالحجة والعمرة طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا. وذلك الذي ذهب إليه مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وهو مذهب كثير من الصحابة والتابعين. واستدلوا على ذلك بما أخرجه البخاري من حديث النبي ( ص ) لعائشة : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وفي رواية أخرى : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك ".
وذهب آخرون وفيهم أبو حنيفة والثوري والأوزاعي إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين. واستدلوا لذلك بحديث عن علي كرم الله وجهه أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله ( ص ) فعل.
أما أن يسمى القران تمتعا ؛ فذلك لأن القارن يتمتع بترك السفر وما يتخلله من تعب مرتين. واحدة للعمرة وأخرى للحج فهو إذا متمتع ببحبوحة الاختصار في السفر من مرتين إلى واحدة ويجمعهما معا في إحرام واحد. هذا وجه من التمتع يستفاد من قوله سبحانه :( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) ٩.
وقوله :( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ). المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد هديا لعدم المال أو لعدم البهيمة نفسها، فإن عليه صيام عشرة أيام. الثلاثة الأولى منها في الحج، والسبعة الأخرى إذا رجع إلى أهله وبلده، واختلفوا في موعد الأيام الثلاثة الأولى. فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المتمتع الذي لا يجد هديا يصوم اليوم الذي قبل يوم التروية ثم يوم التروية نفسه ثم يوم عرفة فتلك أيام ثلاثة، وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إلى صيامهن ما بين الإهلال بالحج إلى يوم عرفة. وقال الثوري والأوزاعي : له صيامهن من أول أيام العشر من ذي الحجة. وقيل : يصومها مادام بمكة في أيام منى وقيل غير ذلك.
ويبقى في ذمته صيام أيام سبعة أخرى. وقد رخص الله له في الآية أن يصومها إذا رجع إلى وطنه، فقال سبحانه في ذلك :( وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) ذلك تأكيد على اكتمال الأيام لتكون عشرة. وهو كقول تعالى :( ولا طائر يطير بجناحيه ).
وقوله :( ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام ) اسم الإشارة عائد على وجوب الدم على التمتع. ويراد به الغريب الذي ليس من أهل مكة. أما أهل مكة فإنهم لا متعة لهم وهو ما يفهم ظاهرا من الآية. فقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول : يا أهل مكة، لا متعة لكم أحلّت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، وإنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل " بعمرة. على أنه يمكن تحديد مكان
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٣٠ وفتح القدير جـ ١ ص ١٩٤ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ١٢٢..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٣٠ وفتح القدير جـ ١ ص ١٩٤ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ١٢٢..
٤ - المصباح المنير جـ ١ ص ١٥٠..
٥ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٣٠١، ٣٠٢ والكشاف جـ ١ ص ٣٤٤..
٦ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٣٠٢، ٣٠٣ وتفسير القرطبي جـ ٢ ص ٣٧٦..
٧ - الكشاف جـ١ ص ٣٤٤ وفتح القدير جـ ١ ص ١٩٥، ١٩٦ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٣١..
٨ - الكشاف جـ ١ ص ٣٤٤ وتفسير البيضاوي ص ٤٢.
٩ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٣٣، ٢٣٤ وتفسير الطبري، جـ ٢ ص ١٤١ وما بعدها..
وقال آخرون بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة. وذلك الذي ذهب إليه الأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهم. وقد احتجوا لهذا القول بالآية :( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ). والراجح عندي ما ذهب إليه الشافعي وهو أن الإحرام بالحج لا يصح إلا في أشهره المعلومة، ويرجح ذلك حديث جابر عن النبي ( ص ) : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " يضاف إلى ذلك أن الإحرام طيلة العام إذا وقع، فإن فيه حرجا عظيما. وهو في قواعد الشريعة مرفوع. وقد اختلف العلماء في حقيقة الأشهر المعلومات الواردة في الآية. وثمة قولان في ذلك :
أحدهما : أن الأشهر المعلومات هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعطاء ومجاهد والزهري وغيرهم.
ثانيهما : أنها شوال وذو القعدة والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة كله، وهو قول ابن عباس وعمر وعلي وابن الزبير والسدي والشعبي والنخعي. وهو مذهب الأئمة أبي حينفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي يوسف وأبي ثور.
وقوله :( فمن فرض فيهن الحج ) من اسم شرط في محل رفع مبتدأ وخبره فعل الشرط ( فرض ) وجواب الشرط الجملة المقترنة بها الفاء ( فلا رفث ).
والمعني أن من أحرم بالحج فألزم نفسه به ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) الرفث هو الجماع ومقدماته وأسبابه، فإن ذلك كله حرام في حال الإحرام. وبذلك يحرم على المحرم بالحج أو العمرة أن يباشر النساء أو يقبّل أو يعمل شيئا من دواعي الجماع كيفما كانت. وأما الفسوق فهو في اللغة الخروج، وفعله فسق يفسق أي خرج يخرج. وقد قال الله سبحانه عن إبليس إذ تمرد على ربع وعصاه. ( ففسق عن أمر ربه ) أي خرج عن أمره، والمراد بالفسوق جميع المعاصي التي يخرج بها المرء عن أمر الله وعن الامتثال لشرع، والمرء إذا أحرم بالحج أو العمرة أو كليهما فإن عليه أن يكون في غاية الطاعة والامتثال والأدب مع الله سبحانه فلا يرفث بشيء من أمر النساء أو الجمع ودواعيه، ولا يفسق بشيء من المعاصي. وهي وإن كانت محظورة في جميع أحيان السنة، لكن تحريمها في حال الإحرام آكد وأشد. ولا يتجنب المحرم هذه المحظورات من رفث أو فسوق في الحج حتى يفوز عند الله بخير الجزاء وعظيم الغفران. فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( ص ) :" من حج هذا البيت فلم برفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
وأما الجدال في الحج فقد جاء فيه أقوال عديدة، نختار منها ما ذكر عن كثير من العلماء من الصحابة والتابعين وهو أنه المراء والملاحاة حتى إغضاب الآخرين. وقد سئل ابن عباس عن الجدال فقال : المراء، تماري صاحبك حتى تغضبه. والمراء والملاحاة أسلوب الغلاظ الجفاة من الناس الذين ديدنهم كثرة الحديث والتكلم في غير علم أو فائدة بما يغيظ السامعين ويغضبهم. ومن خلق المسلم أن يكون ذا وقار واتزان، وأن يؤثر طول الصمت وقلة الكلام على الثرثرة الفارغة.
وفي تجنب الجدال والفسوق في الحج يقول النبي ( ص ) : " من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه ".
ثم يرغّب الله عباده المؤمنين بفعل الخيرات. وهو سبحانه عليم بهذه الأفعال، وسوف يجزيهم بها ؛ لذلك قال سبحانه :( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ١.
وقوله :( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) جاء عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أن أناسا كانوا يخرجون للحج وليست معهم أزودة، مفردها زاد، ويقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا ؟ فأمرهم الله أن يتزودوا بما يكف وجوههم عن الناس.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن المتوكلون فأنزل الله :( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) ٢ وفي ذلك ما يبين للناس أن طبيعة هذا الدين عملية، فإنه ليس من الدين التواكل الذي يعجز معه بعض الواهمين والجهلة عن السعي والبذل والعطاء ليقولوا : نحن المتوكلون. فإن المتوكلين الحقيقيين الذين يرضى عنهم الله هم العاملون الباذلون الذين يأخذون بزمام الجد والعمل في غير عجز أو كسل وهم مع ذلك كله يتوكلون على الله، ولا يبرح أنفسهم شعور الاعتماد عليه وحده سبحانه.
ومع الدعوة للتزود بزاد الدنيا من طعام وغيره فإن الله يدعو الحجاج والمعتمرين للتزود بزاد الآخرة ليكتب الله لهم النجاة وسلامة المصير. وذلكم هو زاد التقوى وهو خير زاد تتزود به القلوب، فقال سبحانه :( فإن خير الزاد التقوى ) ثم يعطف الله بالتأكيد على التقوى إذ يخاطب من عباده أولي الألباب. وهم ذوو العقول والأفهام النيّرة، يخاطبهم بالدعوة لتقواه فيبادرون لعمل الطاعات ويبتعدون سراعا عن المناهي والمحظورات، فقال سبحانه :( واتقوني يا أولي الألباب ).
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٣٧..
وقوله :( فإذا أفضتم من عرفات ) أي انصرفتم مندفعين من عرفات وذلك عقيب الغروب لهذا اليوم المشهود. واسم عرفات يطلق على البقعة من الأرض في الحرم التي يجتمع فيها الحجاج جميعا. وهو وقوف أساسي ومفروض لا يتم لأحد حج من دونه. وهو ركن للحج بإجماع العلماء وفيه يقول الرسول ( ص ) : " الحج عرفات- ثلاثا- فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ".
وكذلك فإن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ثم أفاض منها قبل الزوال لا يعتد بوقوفه ذلك ما وقع عليه الإجماع وذهب جمهور العلماء أيضا إلى تمام الحج لمن وقف بعرفة بعد الزوال ثم أفاض في النهار من ذلك اليوم قبل الليل، لكن الإمام مالكا خالف في ذلك واشترط لتمام الحج أن يأخذ الواقف في عرفة من الليل شيئا.
وإذا أفاض الحاج من عرفات قبل غروب الشمس ولم يرجع فما حكمه ؟ ثمة خلاف في ذلك. فقد ذهب الثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم إلى أن عليه دما يقدمه جبرا لهذا الخلل ؟ وقال الحسن البصري : إن عليه هديا من شاة أو بقرة أو بعير.
وقال الإمام مالك، إن عليه حجا من قابل والهدي ينحره في حج قابل وهو كمن فاته الحج.
ومن جهة أخرى فإن يوم عرفة عظيم الفضل والشأن، فإن فيه يغفر الله للمؤمنين الذنوب، ويتجاوز لهم عن الخطايا والسيئات، ويضاعف لهم فيه الأجور والحسنات. وفي ذلك يقول الرسول ( ص ) فيما روته عائشة : " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول : ما أراد هؤلاء ؟ ".
وجاء في الموطأ أن النبي ( ص ) قال : " ما رؤي الشيطان يوما هو في أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر " قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : " إما أنه قد رأى جبريل يزع الملائكة ".
وفي فضل الصوم يوم عرفة يقول الرسول ( ص ) : " صوم يوم يكفر السنة الماضية والباقية ".
وفي فضل الدعاء وتقبله في يوم عرفة يقول عليه الصلاة والسلام : " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ".
وقوله :( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ( المشعر ) من الشعار وهو العلامة أو المعْلَم باعتباره أحد معالم الحج. ويراد بالمشعر الحرام المزدلفة. وسميت بذلك ؛ لاجتماع آدم وحواء فيها إذْ ازدلف آدمُ منها ازدلافا أي دنا منها دنوا. ويأمر الله الحجاج أن يكثروا من ذكره وذلك بالدعاء والتلبية عند المشعر الحرام. وهم يأتون المشعر الحرام ( المزدلفة ) بعد الإفاضة من عرفات عقب الغروب. وفي المزدلفة يصلّون المغرب والعشاء جمع تأخير وذلك بأذان واحد وإقامتين، مثلما يجمعون في عرفات بين الظهر والعصر إلا أنه جميع تقديم بأذان واحد وإقامتين اثنتين، وذلك على سبيل السنة والاستحباب لا الفرض٢.
أما المبيت بالمزدلفة أو الوقوف بها من حيث الحكم فليس بركن ولا فرض. وذلك الذي عليه جمهور العلماء فقد ذهب الإمام مالك وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي إلى أنه سنة مؤكدة، وأن من قام بها أكثر ليله فليس عليه شيء.
وقال الشافعي : إن خرج الحاج من مزدلفة بعد نصف الليل فليس عليه من شيء، وإن خرج قبل نصف الليل ولم يعد إليها افتدى بشاة.
وذهب الشعبي والنخعي والحسن البصري إلى أن الوقوف بمزدلفة فرض. وأن من لم يقف بها فقد فاته الحج ويحوّل إحرامه إلى عمرة.
والراجح هو قول الجمهور بسنية الوقوف بمزدلفة ؛ إذ ليس من دليل صريح أو ظاهرة يبين فرضيته، أما الآية الواردة في هذا الصدد فليس فيها ما يوجب الوقوف بمزدلفة ولا المبيت، وليس في الآية سوى مجرد الذكر لله. وقد أجمعوا على أنه لو وقف الحاج بمزدلفة ولم يذكر الله فإن حجه تام وصحيح. مع أن الذكر هو المأمور به في الآية. وعلى هذا فإن الوقوف أو المبيت ليس مفروضا.
واستدلوا كذلك بحديث الرسول ( ص ) : " الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ولو كان الوقوف بمزدلفة أو المبيت بها مفروضا لبيّنة مع أنه واقع بين مذكورين وهما الوقوف بعرفة ثم منى٣.
قوله :( واذكروه كما هداكم ) الكاف في ( كما ) نعت مصدر محذوف. ما مصدرية أو كافة. ( هداكم ) فعل ماض وكاف المخاطب في محل نصب مفعول به، والميم للجمع. وتقدير المعنى : واذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة. وقد كرر الأمر بالذكر للتأكيد تنبيها للناس على ما أنعم الله به عليهم من الهداية، وإرشادهم إلى مناسك الحج التي هدى إليها إبراهيم عليه السلام من قبل. وقد كان ذلك بعد ضلالهم في الجاهلية وما كانوا عليه من تخبط وجهالة وإشراك ؛ لذلك قال سبحانه :( وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) إن مخففة من الثقيلة. والهاء في ( قبله ) ضمير مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، يعود على الهدى. وقيل على القرآن. وقيل على الرسول ( ص ).
٢ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤١٥- ٤٢١ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٩٥ والثمر الداني ص ٣٧٢..
٣ - بداية المجتهد جـ ١ ص ٢٩٧ والثمر الداني ص ٣٧٣ وتفسير الطبري جـ ٢ ص ١٦٧ -١٦٩..
وقيل : بل إن المقصود بالإفاضة في هذه الآية هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى لرمي الجمار، والمراد بالناس هو إبراهيم الخليل عليه السلام، وبذلك فإن المخاطب هذه الأمة كلها وليست قريشا وحدها. وعلى هذا المعنى : أفيضوا مثلما أفاض أبوكم إبراهيم عليه السلام فقد أفاض من مزدلفة إلى منى.
والراجح من القولين الأول ؛ وذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن السيدة عائشة قالت : كان الحُمس هم الذين أنزل الله فيهم ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) قالت : كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون : لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت ( أفيضوا من حيث أفاض الناس ) رجعوا إلى عرفات.
وقوله :( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) يأمر الله عباده بالاستغفار عقيب كل عبادة ومنها الإفاضة فإذا اندفع الحاج من مزدلفة استغفر ربه وأناب إليه وتوجه إليه بالدعاء. والله جلت قدرته يحب التوابين والمستغفرين ويستجيب للخاشعين المخبتين الذين يدعونه وهم موقنون بالإجابة١.
إذا أديتم مناسك الحج وفرغتم منها فاذكروا الله ثناء عليه ؛ لما امتن به عليكم من زاخر الخيرات والعطايا ومن عظيم الآلاء. اذكروا الله في ذلك مثلما تذكرون آباءكم. وروي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل الله ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) ويستفاد من هذه الآية عموم مدلولها وهو أن يزداد اهتمامهم بذكر الله ليفوق أي ذكر آخر كذكر الآباء. وينبغي للمسلم أصلا أن يظل مستديم الذكر لله ليبقى اسم الله وجلاله حاضرا في ذهنه وحسه وتصوره على الدوام.
وما من شك أن المرء يملكه الغضب إذا ما نيل أبوه بشتم أو سباب. فمن الجدير به أن يكون أعظم غضبا وأشد غيرة إذا ما انتهكت حرمة من حرمات الله ليكون المسلم في ذلك أعظم حبا لله.
وقوله :( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) ذكر عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قوله : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا فأنزل الله هذه الآية.
الدعاء من أجل الدنيا وحدها بما تنطوي عليه من خيرات وثمرات ومباهج لهو أمر فيه دلالة مكشوفة على الاهتمام بالحياة الدنيا وزينتها، مع الذهول والغفلة عن يوم القيامة وما ينتظر الخلائق من أهوال وكروب يوم الفزع الأكبر. وما يسال أحد ربه أن يعطيه الدنيا منفردة إلا ظالم لنفسه خاسر. ولا جرم أن يبوء مثل هذا الجهول بفادح التخسير وسوء المصير.
لذلك قال سبحانه موضحا هذه النتيجة :( وما له في الآخرة من خلاق ) أي حظ أو نصيب.
أما الحسنة في الدنيا فإنها تتناول كل خير حلال أباحته الشريعة ورضيه الله للناس ؛ كيما يلذّوا ويستمتعوا به، ويدخل في إطار الحسنة في الدنيا الزوجة الحسنة الصالحة، والدار الرحبة الجيدة، والرزق الواسع الحلال، والأخلاء الأبرار الودودون، والعلم الزاخر النافع، والثناء الصادق الحسن، وغير ذلك من وجوه الخير والحُسن.
وقد جاء في السنة ما يبين أهمية هذا الدعاء الكريم الجامع، فقد سئل أنس : أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي ( ص ) قال : يقول : " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ".
وروي عن أنس أيضا أن رسول الله ( ص ) عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ، فقال له رسول الله ( ص ) : " هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ ّ " قال : نعم كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله ( ص ) : " سبحان الله لا تطيقه- أو لا تستطيعه – فهلا تقل :( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) " قال : فدعا الله فشفاه.
قوله :( وقنا عذاب النار ) ( وقنا ) جملة فعلية تتضمن فعل أمر، والفاعل يعود على لفظ الجلالة والضمير المتصل " نا " في محل نصب مفعول به أول. ( عذاب ) مفعول به ثان. وقنا من الوقاية وهي الصون والحماية. والآية دعاء عظيم يلهج به لسان المؤمن متضرعا إلى ربه ان يحفظه من عذاب النار وأن يمتّن عليه بإدخاله الجنة فيكون من الناجين من العذاب والفائزين بعظيم العطاء والثواب.
قوله :( والله سريع الحساب ) ( الحساب ) يراد به الجزاء يوم القيامة. والله جل جلاله سريع المجازاة لعباده على أعمالهم. وهو سبحانه يحاسب الناس كنفس واحدة. قيل لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- : كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ قال : كما يرزقهم في يوم١.
وقيل : إن الأيام المعدودات ثلاثة هي يوم النحر ويومان آخران بعده، وللحاج أن يذبح في أيهن شاء. وهو مذهب علي بن أبي طالب.
وما يحتج به للقول الأول قوله تعالى :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) وظاهر ذلك يدل على أن عدة هذه الأيام بعد يوم النحر أكثر من يومين. وفي الحديث ما يؤيد ذلك. فقد ورد عن النبي ( ص ) قوله : " وأيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه " والأيام الثلاثة هي غير يوم النحر. والحاج الذي يريد أن يتعجل المقام للرمي في يومين يصير مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر.
على أن هذه الأيام المعدودات يراد للمسلمين فيها أن يذكروا الله بالتكبير بعد الصلوات المكتوبات. وصورة التكبير في هذه الأيام الجليلة العطرة أن يهتف المؤمنون جميعا : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد.
وثمة خلاف بين العلماء في مدة التكبير من أيام العبد. فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس : إن مدة التكبير من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. وقال ابن مسعود وأبو حنيفة أنها من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر. وقال مالك : مدة التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق وهو قول الشافعي.
وهي أيام عيد المسلمين يتلاقون فيها على صعيد العقيدة المتينة الصلبة، عقيدة الإيمان الواعي والتوحيد الخالص، يضاف إلى ذلك ما يظلل المسلمين في هذه الأيام من أفياء المودة والطمأنينة والحبور وهم يعيشون أياما ملؤها السلام والخير. وفي ذلك يقول الرسول ( ص ) : " يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب وذكر الله ". ١
وعن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " ٢.
وعن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى أن لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل.
قوله :( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ) أيام منى للذبح والرمي عدتها بالتمام ثلاثة أيام غير يوم النحر كما بينّاه في كحينه. فيوم النحر للنحر، والثلاثة الأخرى لرمي الجمار، ذلك لمن أراد لمقام للنسك على التمام، لكن الذي يتعجل فيرى في يومين بعد يوم النحر فجائز ولا إثم عليه. يدل على ذلك ما أخرجه الدارقطني والترمذي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله ( ص ) وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديا فنادى " الحج عرفه، فمن جاء ليلة جَمْع قبل طلوع الفجر فقد أدرك، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه " ويراد بقوله : " جمع " المزدلفة. وقيل في سبب التسمية بذلك لاجتماع آدم وزوجته حواء فيها، أما منى فقد سميت بذلك لكثرة ما يمنى أي يراق فيها من دماء الذبائح٣.
وقوله :( لمن اتقى ) متعلق بالغفران. والتقدير أن مغفرة الله تكون لمن يتقي ربه من العباد فيقبل عليه بدوام التوبة والطاعة وينتهي عن مناهيه ومعاصيه.
وقوله :( واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) أمر الله عباده بتقواه وذلك أن يخشوه حق الخشية، وأن يذكروه في السر والعلن، وأن يبعدوه كأنما يرونه، فهم بذلك يقبلون على طاعته إقبالا، ويدبرون عن معصيته إدبارا. وليعلموا دائما أنهم في آخر الأمر راجعون إليه، وأنهم محشورون ثم موقوفون بين يديه جميعا ولا يعزب منهم عن سلطانه وحسابه أحد.
٢ - رواه أحمد عن نبيشة الهذلي..
٣ - تفسير الطبري جـ ٢ ص ١٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٤٥..
ورد في سبب نزول هذه الآية أن الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى رسول الله ( ص ) فأظهر له الإسلام وهو يخفي في نفسه الكفر والخداع وقال : والله يعلم أنني صادق. وبعد أن انصرف من مكانه مرّ في طريقه بزرع للمسلمين وبحُمُرٍ فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله فيه ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا.. )
وقيل : إنها نزلت في المنافقين الذين عابوا نفرا من الصحابة استشهدوا في الرجيع، وقالوا فيهم : ويح هؤلاء القوم، لا هم قاعدون في بيوتهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم.
ومع أننا لا ننكر مثل هذا السبب الخاص لنزول الآية إلا أننا نعوّل في هذا الصدد على القاعدة الأصولية التي تذهب إلى أن العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب. وعلى هذا فإن الآية يصدق بسطها على كل من يخفي في نفسه كفرا أو نفاقا وهو يظهر من حلاوة اللسان ومعسول القول خلاف ذلك. فالآية بذلك عامة تتناول كل مظاهر النفاق الذي يستتر به الخداعون والكذابون من الناس.
والمعنى للآية أن فريقا من الناس يطوي في صدره الكذب والخداع، سواء كان كافرا أو مسلما ثم يتظاهر أمام الناس بلبوس من الخلق المصطنع يعجب الناظرين. وهو مع ذلك ( ويشهد الله على ما في قلبه ) أي يقول للناس ليصدقوه : الله يعلم أو يشهد أنني صادق، لكن الحقيقة أن الله يعلم أنه ألدّ الخصام، والألدّ من الفعل لدّ يلدّ، أي اشتدت خصومته، والمصدر لدَد. نقول : لدّ الرجل خصمه لدّا أي شدد خصومته. ولدود مبالغة ومعناه خصيم، شديد الخصومة.
أما الخصام فهو مصدر خاصم. نقول خاص يخاصم خصاما. وقيل : جمع ومفرده خصم وهو الشديد الجدال في ظاهر حسن وباطن خبيث١.
وقوله :( فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) هذا المعتد الفاجر العنيد سوف يكفيه من العذاب المرير أن تكون جهنم مثواه ومآله الأخير المحتوم ( ولبئس المهاد ) و ( المهاد ) جمع ومفرده المهد وهو الفراش. فيا لسوء الموطن والمفترش، وبالسوم المنام والمقام، هذا المثوى المحترق الذي تتظلى فيه الجحيم وتنبعث من ألسنة الشواظ واللهب١.
وذلكم هو صهيب الرومي يتحدث عن قصته مع المشركين لدى هجرته من مكة إلى المدينة : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي ( ص ) قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك وتخرج أنت ومالك ؟ والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلّون عني ؟ قالوا : نعم، فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي ( ص )، فقال : " ربح صهيب ربح صهيب " مرتين١.
وقوله :( يشري نفسه ) أي يبيعها. وذلك كقوله تعالى :( وشروه بثمن بخس ) أي باعوه به.
وقوله :( ابتغاء مرضات الله ) ( ابتغاء ) مفعول لأجله منصوب. مرضات مضاف إليه مجرور. لفظ الجلالة مجرور بالإضافة. و ( مرضات الله ) أي رضوانه.
ويستفاد من الآية العموم. فهي تناسب كل مجاهد في سبيل الله يبيع نفسه لله فداء لدينه وعقيدته، لا لشيء من أشياء هذه الدنيا الفانية العاجلة، بل طلبا لرضوان الله سبحانه وهو أقصى ما يرمي إليه المؤمن وأبعد غاية يرومها طيلة مكثه في هذه الدنيا الزائلة. والله جلت قدرته سوف يتولى أمثال أولئك الأبرار المجاهدين الذين باعوا أنفسهم طلبا لرضاه، وهو سبحانه مجازيهم بفضله وكرمه ورحمته ( والله رؤوف بالعباد ).
وقوله :( كافة ) منصوب على الحال من السلم. وقيل من ضمير الداخلين وهم المؤمنون. و ( كافة ) تعني جميعا. والمؤمنون مخاطبون في هذه الآية أن يلتزموا بملة الإسلام وبشريعته دون زيغ أو انتقاص أو إبدال. وهم كذلك مأمورون أن يتجنبوا مسالك الشيطان كيفما كانت وحيثما كانت. وهي مسالك يقود جميعها إلى الضلال والغواية والخسران.
والمعنى أنكم إذا انحرفتم عن دين الله وعن شرعه وتعاليمه بعد أن سمعتم بالأدلة والبراهين الدامغة على صدق هذا الدين ( فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) فهو عزيز أي قوي قادر، ولا يتمنع عليه شيء يريده. وهو حكيم في أمره وتقديره وما يفرضه أو يفضله، فليس من شيء أو فعل أو تقدير يصدر عنه عبثا من غير قصد أو معنى، وإنما هو في ذلك كله له الحكمة البالغة التي قد ندرك جزاء منها ثم نغفل عن أكثرها. ١
وفي الآية إخبار عن كثرة البينات والدلائل التي أحسّها بنو إسرائيل على يدي نبيهم ومنقذهم موسى عليه السلام، وذلك كتحول العصا إلى أفعى، وانفلاق البحر بعد ضربه بالعصا، ثم انبجاس الماء من الحجر الصلد بعد أن ضربه موسى بعصاه، وكذلك تظليلهم بالغمام لوقايتهم من حر الصحراء، وإطعامهم المن والسلوى رزقا كريما ميسورا. كل ذلك كان من جملة البراهين والآيات على صدق النبوة التي قدرها الله لكليمه موسى، لكن ذلك لم يجد إلى أسماع بني إسرائيل أو طبائعهم وأذهانهم سبيلا، بل صدوا عن سبيل الله ودينه صدودا وتولوا عن نداء العقل والحجة مدبرين. وذلك منهم بمثابة التبديل الأثيم لنعمة الله بالكفر والتمرد. ونعمة الله تتجلى في دينه الحق.
وقيل : المراد الإخبار عن كثرة البينات القاطعة على صدق نبوة محمد ( ص ). فقد كانوا يتلون في كتابهم التوراة عن خبر هذا النبي الأمي وعن صفته فيعرفون عنه الخبر اليقين، إلا أنهم ركبوا متن التعصب والحسد والشطط، فما آمنوا ولا امتثلوا، بل إنهم جحدوا وأنكروا هذه الحقيقة الجلية القاطعة الكبرى. وذلك هو التبديل لنعمة الله وهي الإسلام بالكفر حيث الجحود والزيغ واتباع الهوى والشهوات.
وليس من جزاء لمن يبدل نعمة الحق بالباطل إلا أن يبوء بإثمه الكبير لتكون عاقبته الهوان والتخسير ؛ لذلك قال :( ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ).
أما ذكره الذين كفروا في الآية هنا ؛ فذلك لشدة إقبالهم على الحياة الدنيا وزخرفها وزيتها من غير أن يرعوا في ذلك حلال أو حراما ومن غير أن يعبأوا بشرع أو دين، فهم يتهافتون على الشهوات بكل أسلوب أو وسيلة، لا يودعهم عن ذلك تورع أو تقوى حتى ولا حساب من ضمير أو وجدان.
أما المؤمنون فهم يأخذون بحظهم من زينة الحياة الدنيا على نحو ما بينه الله لهم من شرائع وحدود دون مجاوزة أو اعتداء. ومثل هذا الأخذ مباح ومشروع مادام غير متجانف لإثم ولا مقارف لعدوان على حقوق الله أو الناس.
والكافرون وهم يقبلون على الشهوات في تهافت جامح، فإنهم يسخرون من المؤمنين الفقراء الذين لا يملكون غير القليل من الزاد والمؤونة أو دون ذلك، إنهم يسخرون منهم لإقلالهم وقلة ما لديهم من متاع.
ثم يبين الله في إخبار صارم أن هؤلاء الكفرة الذين ملكوا الزينة والثراء في هذه الدنيا، سيأتون يوم القيامة أذلة خزايا وقد غشيتهم كل غواشي العار والمهانة والإحساس بالندم. ولسوف يكون المؤمنون فوقهم سواء في المكان إذ يرتقون إلى أعلى عليين في الجنة، والكافرون دونهم في النار في أسفل سافلين، أو في المرتبة العالية حيث الاحتفاء والتكريم للمؤمنين، والزراية والحقار للكافرين.
قوله :( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) أي أن الله سبحانه وتعالى يفيض بالرزق على من يشاء من عباده من غير عد أو حصر. ويؤيد هذا المعنى ما قاله النبي ( ص ) : " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرض إقلالا ".
وقيل : إن الله يرزق عباده وليس له في الخلق محاسب يحاسبه على فعله وعلى تصرفه في تقسيم الرزق وإعطائه للناس. والأول أظهر.
كان الناس في السابق على دين واحد وعلى ملة واحدة هي ملة التوحيد الخالص. وقد ظلوا على هذه الحال من وحدة العقيدة وسلامة التوجه الخالص إلى الله فترة من الزمن مبدوءة بأبي البشر آدم عليه السلام حتى مجيء نوح عليه السلام. وبعد بعث هذا النبي الصابر العظيم اختلف الناس في دينهم وتفرقوا مللا شتى. وهي ملل قائمة على الإشراك والضلالة. وإذ ذاك أخذ كثير من الناس في الزيغ عن صراط الله والتنكب عن منهجه الكريم الذي بني على عقيدة التوحيد وتمام التوجه إلى الله من أول يوم. وما يختلف الناس في حقيقة الدين ويتعثروا في الاهتداء إلى الصواب، أو يضلوا السبيل ويتفرقوا طرائق قددا، حتى يبعث الله فيهم هداة مصطفين أخيارا ليكشفوا لهم عن سبيل الحق والنجاة وليحذروهم من وخامة التعثر خلف الشيطان. وذلك هو قوله في الآية :( فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين ) فهم يبشرون المهتدين من الناس بأن لهم حسن مآب، أو ينذرون الفاسقين الناكبين بالويل وسوء العاقبة في دنياهم وأخراهم.
وقوله :( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ( الكتاب ) اسم جنس بمعنى الكتب. فقد بعث الله النبيين لهداية العباد وأنزل معهم كتبه متضمنة كل معاني الخير والهداية والترشيد وفيها من المناهج والتعاليم الربانية ما يحقق الإنسانية أكمل سعادة في هذه الدنيا وخير مفازة لهم يوم المعاد.
وتقدير الفاعل في قوله :( ليحكم ) ضمير عائد على الكتاب فهو الذي أنزله الله ( ليحكم بين الناس فيما اختلفوا ) وقيل إنه عائد على الله سبحانه وتعالى، فهو الذي بعث النبيين وأنزل معهم الكتاب، وهو الذي يحكم ( بين الناس فيما اختلفوا فيه ) فقد اختلفوا فيما بينهم وضلوا السبيل حتى تفرقوا إلى ديانات وملل شتى.
وقوله :( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ) أي لم يختلف في الكتاب المنزل من السماء- بما ترتب على الاختلاف من تكذيب وتعدد في الديانات والملل والمذاهب التي ليست على منهج الله- إلا الذين أعطوا الكتاب، مع أن جاءهم بالبينات وهي الحجج والبراهين والأدلة التي تكشف عن وجه الحق والصواب في كل القضايا. لقد جاءهم الكتاب المنزل من السماء يحمل إليهم كل معاني الحق والهداية من أجل أن يهتدوا ويستعصموا بخير منهج وأكمل عقيدة، لكنهم مع كل ذلك قد اختلفوا، وركنوا إلى الشيطان فضلوا ضلالا بعيدا، وانحدروا بأنفسهم ومآلاتهم إلى الهاوية وسوء المصير. وما كان ذلك كله إلا ( بغيا بينهم ) ( بغيا ) مفعول لأجله منصوب. والبغي هو الظلم والاعتداء. والمعنى أنهم اختلفوا في الكتاب لسعيهم في الأرض مفسدين ولبغي بعضهم على بعض وعدم امتثالهم لنداء الحق إذ جاءهم.
وقوله :( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) أي أن الله جل وعلا قد أرشد الذين آمنوا وهم أمة محمد ( ص ) إلى الصواب ومعرفة الحق الذي اختلفت فيه الأمم السابقة من أهل الكتاب فقد هداهم الله لذلك بأن بين لهم ما اختلف فيه أهل الكتاب من قبلهم.
وقوله :( بإذنه ) أي بعلمه، وقيل : بأمره، والراجح عندي أن المعنى يشمل العلم والأمر معا، فالله سبحانه قد هدى هذه الأمة لما اختلف فيه أهل الكتاب وذلك بعلمه وأمره.
قوله :( بإذنه ) أي بعلمه، وقيل : بأمره، والراجح عندي أن المعنى يشمل العلم والأمر معا، فالله سبحانه قد هدى هذه الأمة لما اختلف فيه أهل الكتاب وذلك بعلمه وأمره.
قوله :( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع ( يهدي ) جملة فعلية في محل رفع خبر ( من ) اسم موصول في محل نصب مفعول به للفعل يهدي. وهذه الآية تدل على نحو واضح وظاهر لا يقبل التمحل المصطنع، على أن الله جل جلاله بيده الهداية وترشيد الناس إلى الحق، وأنه سبحانه قادر على هداية الخلق جميعا أو إضلالهم جميعا وما من مهتد ولا ضال إلا والله عليهم بهدايته أو ضلالة في الأزل البعيد.
ومن جهة أخرى فإن الله قد بسط لعباده أسباب الهداية والرشاد كيلا يظلمهم أو يذرهم تائهين حيارى. ومما هو معلوم أن الله جلت قدرته زود الإنسان بقدر هائل من زخم العقل والإرادة والفطرة والدينونة. فما تركه ليمضي في الحياة عبثا وما جعله خاويا متعريا من ظواهر القدرة على الاهتداء إلى الله. ومن كان شأنه غير ذلك فهو كائن معطل مشلول قد غاضت فيه كل ظواهر الهداية والاستبصار١.
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عدة أقوال، منها أنها نزلت في غزوة الخندق عندما أصاب المسلمين الفزع ونالهم من الكرب والشدة ما نالهم.
ومنها أنها نزلت بعد معركة أحد، وهي المعركة الحافلة بالمواقف والمشاهد والعبر، وقد مني المسلمون عقيبها بجراحات وقتل، وأصابهم من القرح ما هزهم هزا.
ومنها أنها نزلت ؛ لتسري عن المهاجرين لتركهم ديارهم وأموالهم وأهليهم بعد أن خرجوا إلى المدينة لا يملكون من كراع الدنيا وزخرفها شيئا. وقيل غير ذلك١.
والصحيح أن هذه الآية تفيد العموم، فهي في مدلولها تنسحب على كل المؤمنين الذين يقعون تحت طائلة الظالمين ليسوموهم العذاب الأليم، وليست هذه الحقيقة قاصرة على زمن بعينه أو مكان محدود أو مجموعة من الناس بالذات، ولكنها تصدق على كل مؤمن أيا كان ابتلاه الله بشيء من عذاب.
ويذكر الله عباده المؤمنين من أصحاب الملة المحمدية بالذين خلوا من قبلهم أي مضوا وبيّن لهم أنهم ( مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) و ( البأساء ) معناها الفقر و ( والضراء ) المرض. فالذين مضوا من قبلُ من المؤمنين امتحنهم الله بالشدائد والأرزاء التي تفتر عندها الهمم وتلين أمامها الإرادات. وكذلك قد امتحنهم بالله بالخوف والترعيب من الأعداء حتى ( زلزلوا ) أي حُرّكوا واضطربوا من شدة الخوف. والزلزلة تكون في الأشخاص وفي الأوضاع والأحوال، وهي بمعنى الحركة والاضطراب لما حل من نكبات وقوارع ترتجف لها القلوب والأبدان.
وذلكم هو شان المؤمنين السابقين الذين ابتلوا بأشد ما يواجه الإنسان من شدائد كالفقر والسقم والترويع من الأعداء الذين بل يرعون في المؤمنين في كل زمان ومكان كرامة أو اعتبارا، وإنما ينقضّون عليهم انقضاض الوحوش الكواسر في غابات يغيب فيها النظام والمنطق والضمير والرحمة.
وفي مثل هذه الزلزلة التي كانت تغشى عباد الله المؤمنين الصابرين عبر العصور السابقة، يحدثنا الخباب بن الأرت قال : قلنا : يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا. فقال : " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه، فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه " ثم قال : " والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ". وفي هذا المعنى من التعذيب للمؤمنين والترويع لهم يقول عز من قائل في آية أخرى :( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ).
وفي يوم الأحزاب " معركة الخندق " أخذت المسلمين نوبة من الزلزال الشديد ؛ لما حاق بهم من شدة وضيق وخوف حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وفي ذلك قال عز من قائل :( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ).
وقوله :( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ). ( والرسول ) اسم جنس، فهو لا يراد به خصوص رسول متعين، بل عموم الرسل الذين أصابهم والذين آمنوا معهم البلاء والشدّة. وقيل : المراد بالرسول هو محمد ( ص ). والقول الأول الراجح ؛ لعدم الدليل على تخصيصه. والمعنى أن الرسول والذين معه، ممن ابتلاهم الله بنكال الكافرين وعدوانهم كان الضيق يبلغ منهم أشد مبلغ بعد أن تنزل بساحتهم الويلات وعظائم الأمور ويزلزلوا، وإذ ذاك يجأرون إلى الله بالدعاء ليعجل لهم بالفرج وهم يقولون ( متى نصر الله ) ( متى ) اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم. ( نصر ) مبتدأ مؤخر. والجملة الإسمية من المبتدأ وخبره في محل نصب مفعول به ليقول. وبعد هذا الامتحان العسير والكروب المريرة التي تمر بالفئة المؤمنة الصابرة، وبعد ما ألم بعباد الله العاملين المخلصين من ضروب الشدائد والأهوال وضروب الترويع والترعيب، بعد ذلك كله ينبجس الفرج ويأتي الخلاص والنصر من عند الله. وفي ذلك يهتف القرآن في تقرير رباني حاسم ونداء علوي مبشر مريح ( ألا إن نصر الله قريب ).
وقيل : إن الآية نزلت في عمرو بن الجموح إذ قال : يا رسول الله إن مالي كثير فبماذا أتصدق وعلى من أنفق ؟
وقيل أيضا : إن الذين سألوا عن الإنفاق فريق من المؤمنين. سألوا النبي ( ص ) عن كيفية الإنفاق من حيث جهاته أو فيما تكون الصدقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، فالأمر بالإنفاق في الآية للندب لا للوجوب فهو ( الإنفاق ) مندرج في صدقة التطوع إلا ما كان للوالدين فإن الإنفاق عليهما يأخذ حكم الوجوب لا الندب إلا إن كانا ذا يسرة ومال. ويمكن إلحاق بعض الأقربين بالوالدين من حيث الحكم بوجوب النفقة إن كانوا معسرين. وذلك كالأخوات والعمات والخالات أو الأخوة والأعمام والأخوال إن كانوا يبلغون من الأسنان عتيا ولا يقوون على العمل تحصيل الرزق، أما غير هؤلاء الأقارب ممن هم أقل درجة في القرابة فالنفقة لهم مندوبة. وكذلك ( اليتامى والمساكين وابن السبيل ) لا ينعقد لهم في ذمة المنفقين وجوب بالإنفاق، بل تكون النفقة عليهم من باب التطور لا الإجبار.
قوله :( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) ما اسم شرط، ( تفعلوا من خير ) جملة الشرط. وجوابه :( فإن الله به عليم ) الفاء مقترنة بالجواب. وذلك تخصيص للمؤمنين على النفقة من أموالهم بسخاء على الأصناف المبينة وهم : الوالدون والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل. والله جل وعلا لا يخفى عليه العمل الصالح، فإنه به عليم وهو مجازي الذين ينفقون أموالهم خالصة لوجهه١.
وفي هذه الآية فرض القتال على هذه الأمة ؛ لما في القتال من ترسيخ لقواعد الدين والشريعة وتثبيت لأسس الحق والعدل والأخلاق. ولما في القتال كذلك من درء لأسباب الشر والأشرار وتبديد لمعالم الفساد والمنكر وإذهاب لدعاة الجريمة والباطل من وجه الأرض. ولولا القتال الذي شرعه الإسلام لاستعلى المبطلون والأشرار ونفخوا بكيرهم في الأرض لينفثوا معالم الفساد بكل صوره وأشكاله ولظلت دعوة الحق واليقين عاجزة عن أب انتشار أو بلوغ للأسماع والأذهان.
أما الجهاد من حيث حكمه في الشريعة فهو فرض على الكفاية إذا اضطلع به فريق من المسلمين سقطت فرضيته عن الباقين من المكلفين في هذه الأمة، وتظل فرضية الجهاد على الكفاية إلا أن يتجاوز العدو في عدوانه فيجوس خلال المسلمين ويحتل جزءا من ديارهم. وفي مثل هذه الحال يصبح القتال فرض عين، أي تنشغل ذمة كل مسلم مكلف بعينه بفرضية القتال، فلا تبرأ هذه الذمة من هذا الواجب إلا بتأدية القتال، وذلك ما قام عليه إجماع المسلمين حول هذه القضية الهامة، ولا يفرط المسلمون في هذا الواجب العظيم إلا وتحيط بهم غواشي المهانة والذل، وتأخذهم قوارع التهديد والعدوان من كل مكان، تلك القوارع التي ما فتئت تتوالى على المسلمين فتذيقهم الويل والثبور والذل.
وقوله :( وهو كره لكم ) أي أن الطباع تكره القتال ؛ لما يفضي إليه من مخاطر الموت أو الجرح أو الخوف أو غير ذلك من مقتضيات الحروب.
وقوله :( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) عسى من الله في القرآن واجبة كما قيل. والمعنى المراد على وجه الخصوص في هذه الآية أن الناس عسى أن يكرهوا القتال، لما فيه من كرب ومشقة واحتمالات الضرر الخاص، ولكنه في النهاية سوف يفضي إلى خير كبير وهو النصر على أعداء الله وتحطيم شوكته والتمكين لهذه الأمة في الأرض لتصيح أمة قوية متمكنة. إلى غير ذلك من وجوه الأمن والاستقرار وتحصيل الخير والرزق والسعادة. وأما المعنى المراد على وجه العموم. أن المرء ربما كره شيئا لما يحسب أنه شر وأنه يؤول إلى نتيجة غير مرضية، وذلك بناء على حسابات الإنسان وتقديراته القاصرة والتي يعوزها الكمال في المعرفة أو الكشف عما يبطنه الغيب من مجاهيل وأخباء. حتى إذا خاص المرء غمار ما كره وجد أنه الخير وأن ما كان يخشاه ويكرهه قد أفضى به إلى الخير والمنفعة.
قوله :( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) عسى أن يرغب المرء في الدعة والقعود دون الجهاد إيثارا للراحة وعدم المشقة والعناء، لكن ذلك سيودي به وبالآخرين إلى هاوية الذلة والاستعباد، وإلى الخنوع للكافرين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويعلمون على تدميرهم والقضاء عليهم قضاء تاما.
وكذلك ربما رغب المرء في شيء ظنا أنه خير، لكنه محسوب في علم الله سرا، وأنه يقود إلى خسران وفشل لا يعلمهما من قبل إلا الله، فليس للمرء في هذه القضايا إلا أن يستسلم لتقدير الله ومشيئته، وأن يرضى بما جعله الله قدرا مقدورا. وإن ذلك ما كان صدفة أو عشوائية ولكنه معلوم مقدر محسوب. والإنسان مهما علم فإنه لا يتجاوز بعلمه نطاق المستطاع المحدود. وهو لا يبرحه الضعف والإحساس بالبساطة والهوان إلا أن يكون جاهلا مغرورا. فإن ظن أنه أكبر من حجمه ومقدوره فقد ظلم نفسه وغار بها في غياهب الضلالة والضياع، وليس أصدق ولا أجمل ولا أكمل من العبارة الربانية الجلية القصيرة إذ يقول سبحانه :( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي يعلم ما يصلحكم وما خير لكم في دنياكم وأخراكم، أما أنتم فلا تعلمون ذلك١.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن الرسول ( ص ) بعث في رجب عبد الله بن جحش الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وكتب لعبد الله بن جحش كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلّم لنا من أخبارهم " فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة، ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكره أحدا منهم، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع. فقالوا : كلنا نرغب فيه وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله ( ص )، ونهضوا فسلك على الحجاز، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ونفذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان. فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرام ثم أنفقوا على لقائهم فقتلوا عمرو ابن الحضرمي، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، ثم قدموا بالعير والأسيرين. فأنكر رسول الله ( ص ) قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ).
وهذه إحدى الروايات التي ذكرت في سبب نزول الآية، وهي في مجموعها تبيين أن نفرا من المسلمين بعثهم النبي ( ص ) لرصد قريش فقتلوا ابن الحضرمي ثم عادوا ومعهم أسيران والعير، وكان ذلك في أول رجب أحد الأشهر الحرم التي لا يباح فيها القتال. وقد عيّرت قريش المسلمين في ذلك بقولها : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب. فرد الله مقالتهم فيما أنزله من هذه الآية. وهو أن القتال في الشهر الحرام غير مباح، ذلك صحيح، لكن الذي اقترفتموه أنتم أيها المشركون أكبر وأشد من القتل في الشهر الحرام، وهو أنكم كفرتم بالله، وصددتم عن دينه، وحاربتم نبيه وأصحابه، وكفرتم بالمسجد الحرام، وصددتم عنه المؤمنين وهم أهله، وأخرجتموهم منه، وفتنتم المسلمين في دينهم حين آذيتموهم وعذبتموهم١.
وقوله :( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) ( قتال ) بدل من الشهر، وهو بدل اشتمال ؛ لأنهم سؤالهم شمل الشهير والقتال. والمعنى أن المشركين يسألونك يا محمد مستنكرين للقتل الذي في الشهر الحرام.
وقوله :( قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) أي قل لهم يا محمد : لئن كان القتال في الشهر الحرام مستنكرا ومحرما فإن ما فعلتموه أنتم من صد عن الإسلام وكفر بالله والمسجد الحرام وإخراج المؤمنين من ديارهم وهو الحرم، لهو أشد نكرا وتحريما. فقبل أن تعيروا المسلمين بهذه المخالفة فاذكروا أنتم ما صنعتموه من مخالفات هي أشد وأعظم. فعيروا أنفسكم قبل أن تعيروا غيركم.
قوله :( والفتنة أكبر من القتل ) الفتنة هي حرف المسلم عن دينه عن طريق التعذيب وغيره. المعنى أن تعذيبكم وتنكيلكم بالمسلمين لحرفهم عن دينهم وصرفهم إلى ملة الكفر، لهو أعظم جرما مما عمله المسلمون من القتل في الشهر الحرام.
قوله :( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) وفوق جرائم المشركين في الصد عن دين الله والكفر به والمسجد الحرام وإخراج المؤمنين منه ظلما وعدوانا، فإنهم لا يزالون مصممين وماضين في حربكم وقتلكم ليردوكم عن الإسلام إن استطاعوا. ومن المعلوم أن الارتداد عن ملة الإسلام إلى ملل الكفر جريمة شنيعة بل هو كبرى الجرائم التي يتردى فيها التعساء في هذه الحياة، فإن الذي يبدل دين الإسلام ليدخل في الكفر ثم يظل على حاله من الارتداد إلى أن يموت كافرا قد باء الخسران وحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة. وحبوط الأعمال أي فسادها أو بطلانها، ومنه الحبط وهو مرض يصيب الدواب والأنعام في بطونها ؛ لكثرة ما تأكله من الكلأ مما يؤدي إلى انتفاخ أجوافها واحتمال موتها٢. وينسحب مثل هذا المعنى على الأعمال الصالحة إذا أتى عليها الحبوط، فإنه يفسدها ويجعلها هدرا بغير قيمة أو اعتبار، وذلك في الدنيا والآخرة. أما حبوطها في الدنيا فهو أن يُضرب عن ذكرها صفحا، فتصبح كأنها لم تكن، فلا يبقى لها في أذهان الناس وذكرياتهم أي تقدير أو حساب. ولا يكون للمرتد بعد موته وحبوط عمله من ثناء عليه أو إحساس بتذكره وإطرائه طيلة الحياة الدنيا، ليكون بذلك نسيا منسيا. وأما حبوطها في الآخرة فهو فسادها وزواها البتة حتى إذا جاء المرتد يوم القيامة لم يجد من أعماله الصالحة شيئا.
وثمة أحكام للمرتد نعرض لبعضها في هذا الصدد، وأولها الاستتابة. فقد ذهب فريق من العلماء إلى أن المرتد عن الإسلام يستتاب، فإن تاب صين دمه وإذا لم يتب قتل.
وفي حجم المدة التي يتاح فيها للمرتد أن يتوب، اختلفوا، فقيل : يستتاب مدة ساعة من نهار، وقيل : يستتاب شهرا، وقيل كذلك : يستتاب أياما ثلاثة وهو قول الإمام مالك. وقال الحسن البصري : يستتاب مائة مرة. وللشافعي في أحد قوليه أن المرتد يقتل في الحال ودون استتابة.
وذكر عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه، إلا أن يطلب التأجيل، فإن طلب ذلك أمهل أياما ثلاثة. مع أن المشهور في المذهب الحنفي أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب.
أما الذي يبدل ملة الكفر بأخرى كالذي ينتقل من الكفر إلى الكفر، فلا شان لنا به ؛ لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الأصل لترك وحاله. وذلك الذي عليه جمهور الفقهاء. أما الإمام الشافعي فقد ذكر عنه أنه يقتل مستندا في ذلك إلى العموم من حديث النبي ( ص ) " من بدل دينه فاقتلوه " وهو في لم يخص مسلما أو كافرا. وفي تقديرنا أن الأول أرجح ؛ إذ لا صحة لما استدل به الإمام الشافعي من الحديث المذكور على القتل، فإن أصدق تأويل للحديث أنه ينطبق على من بدّل دينه الإسلام بدين آخر.
والآن ما حكم المرتد إذا رجع إلى الإسلام، فهل يحبط عمله السابق ؟ فقد قال الإمام الشافعي : إن الذي يرتد ثم يعود إلى الإسلام لم يحبط عمله، وعليه فإن حجه وصيامه وصلواته وسائر أعماله باق بغير حبوط، وهو بعد عوده إلى الإسلام لا يبقى في ذمته فريضة بحج أو صيام أو غيره، أما الذي يموت وهو باق على حاله من الردة فإن أعماله كلها قد أتى عليها الحبوط. وذهب مالك إلى أن المرتد يحبط عمله بمجرد ارتداده. وبناء على ذلك فإن المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم فإنه يلزمه الحج من جديد. وقال الشافعي : ليس عليه إعادة للحج من جديد، فإن حجه الأول باق٣.
٢ - مختار الصحاح ص ١٢٠..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٢ ص ٤٧ والمغني جـ ٨ ص ١٢٤ والأنوار للأردبيلي جـ ٢ ص ٤٨١ والأحكام السلطانية للماوردي ص ٥٥ والمهذب جـ ٢ ص ٢٢٢ وأسهل المدارك جـ ٣ ص ١٦٠ والهداية جـ ٢ ص ١٦٤..
جاء في سبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا الله في شأن الخمر قائلا : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل قوله تعالى :( يسألونك عن الخمر والميسر ) فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فكان منادي رسول الله ( ص ) إذا أقام الصلاة ونادى : أن لا يقربّن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه، فقال : الله بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة :( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فقال عمر : انتهينا انتهينا١.
أما الخمر فهي مأخوذة من الفعل خمر أي سكر. ومنه خمار المرأة وهو ما يستر الرأس والجيب، وسميت خمرة ؛ لأنها تستر العقل وتغطيه بتأثيرها وفعاليتها٢
على أن الخمر يصنع من ماء العنب إذا طبخ وغلي، ومن غير العنب إذا خامر العقل أو أسكر. وبذلك فمذهب الجمهور من علماء المسلمين أن ما كان من غير العنب إذا أسكر كثيره فإن قليله كذلك حرام استنادا إلى ما رواه الترمذي وأحمد وأبو داود عن ابن عمرو عن النبي ( ص ) قوله : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقوله : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وهو ما رواه مسلم وأحمد وأبو دود والنسائي عن ابن عمر.
وذهب آخرون منهم أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وغيرهم إلى أن غير خمر العنب إذا كان قليله غير مسكر فهو مباح٣. وبعبارة أخرى فإن ما كان من غير خمر العنب إذا كان كثيره هو المسكر دون قليله فإن قليله إذا مباح. وهم في ذلك يعتمدون على الحديث : " إنما الخمر من هذه " إشارة إلى العنب وحده. ولا نرى ذلك إلا مرجوحا لا يمكن الاطمئنان إليه. فالراجح هو القول الأول.
وأما الميسر فهو لغة قمار العرب بالأزلام. وهو من اليسر، بفتح الياء والسين، ومعناه وجوب الشيء لصاحبه. والياسر هو اللاعب بالقداح، وقيل هو نقيض اليامن ( من اليمين ). ويشمل الميسر كل وجوه القمار كالنرد والشطرنج واليانصيب وغير ذلك من أصناف اللعب المقترن بالكسب الحرام٤.
وقوله :( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) وإثم الخمر كبير حقا. وهو ما يترتب على الشرب من فاسد الخلق كالشتم والغيبة والقذف والنيل من أعراض الناس وكراماتهم وكذلك الكذب والزور وفاحش القول والخصام، ومن إثمه أن يفرط الشارب في الصلاة وأن يفتقد من شخصه كل ظاهرة من ظواهر التوازن أو الضبط والوعي.
ومن جليل ما يذكر في عاقبة الخمر ما رواه النسائي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال : اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد، فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام. قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسا فسقته كأسا. قال : زيدوني فلم يرم ( يبرح ) حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه.
أما إثم الميسر فهو كذلك كبير. وهو ينشأ عن مفاسد القمار في تلويث الصدور وإتراعها بالحسد والكراهية والرغبة في الانتقام من اللاعب المقامر الأخر لكسب ماله وإغاظته. وغير ذلك من مفاسد كالخصومات والعداوات والمباغضات وتوتر الأعصاب وشحن النفوس بالحقد. وتلك مفاسد وأضرار توقع المقامرين في الإثم الكبير.
أما نفع الخمر والميسر فهو هيّن صغير إذا ما قيس بمفاسد الخمر والميسر وأضرارهما وما يقتضيه ذلك من كبير الإثم. ونفع الخمرة كما قيل يظهر في نشوتها واستمتاع السكارى بها وما تبعث فيهم من النسيان أثناء الشرب وعقيبه. وأما نفع الميسر فلا يعدو كسبا للمال يحرزه المقامر الكاسب إذا ما أوتي حظا من البراعة أو الحيلة في اللعب. ومثل هذا النفع لكلا المحظورين يكاد لا يُذكر لدى المقارنة بالضرر الفادح الناجم عنهما ؛ لذلك يقول سبحانه في تعبير قصير واضح :( وإثمهما أكبر من نفعهما ).
وجدير بالقول هنا أن بعض العلماء استدلوا بهذه الآية على تحريم الخمر ؛ لتسميتها إثما ؛ ولا يكون الإثم إلا حراما. ونحسب أن هذا الحكم وتوجيهه ضعيفان. ولا نستطيع أن نحكم بتحريم الخمر بناء على ما جاء في الآية أن الخمر فيها إثم، ولم يقل إنها إثم. والصواب في ذلك أن الآية جاءت في ذم الخمر لا تحريمها، أما الحريم فقد علم من آية أخرى وهي آية المائدة.
قوله :( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) السؤال ههنا عن حجم النفقة أو مقدارها، والجواب ( العفو ) مرفوع على الإخبار لمبتدأ تقديره هو. وقرئ بالنصب على المفعولية لفعل تقديره ينفقون.
ومما قيل في تأويل العفو ما ذكر عن جماعة بأنه ما فضل عن العيال، وهو مروي عن ابن عباس. وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى. وقيل : المراد بالعفو الزكاة المفروضة، وهو قول مرجوح، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن العفو هنا يدخل في نطاق التطوع.
ويمكن استخلاص الصواب من القول في المراد من العفو، وهو أنه الفضل، فما فضل عن الحوائج ولم يكن في أدائه ما يؤذي النفس أو العيال فهو عفو. ويمكن الاستئناس لذلك بقول النبي ( ص ) : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " وأخرج الإمام مسلم في ذلك عن جابر أن رسول الله ( ص ) قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " وذلك ما يدفع القول بنسخ هذه الآية. فالصحيح أنها محكمة غير منسوخة بآية الزكاة. ومما هو معلوم في قواعد الشريعة أن المسلم يبيت مكلفا بالتصديق بما يفضل عن الحاجة إذا دهمت المسلمين ظروف عصيبة شاذة عم فيها الفقر ومست الحاجة. وفي الحديث الشريف : " إن في المال حقا سوى الزكاة ".
قوله :( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) أي أن الله يبين لعباده في هذه الآيات أحكامه في النفقة وغيرها ؛ ليتفكروا في شأن هذه الدنيا فيعلموا أنها دار زوال وفناء، وليتفكروا في أمر الآخرة فيعلموا أنها دار مقام ودوام. وقيل : ليتفكروا في الدارين فيؤثرون أبقاهما وأدومهما.
٢ - المصباح المنير جـ ١ ص ١٩٥..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ٥٢ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٤٠٦، ٤٠٧..
٤ - مختار الصحاح ص ٤٧٣..
قوله :( يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ). ذكر في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس قال : لما أنزل الله تعالى ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يُفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله ( ص )، فأنزل الله تعالى :( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ) فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه.
وخلاصة ذلك أن الناس كانوا يتحرجون من مؤاكلة اليتامى ومخالطة أموالهم بأموالهم حتى نزلت هذه الآية ؛ لتدفع الحرج من مؤاكلة اليتامى ومخالطتهم ؛ ولتبين للناس أن الأصل في التفريق بين الحلال والحرام هنا مرهون بالنية وما يخفيه المرء في مقصوده من رغبة في الأذى والعدوان والطمع، أو رغبة في التنمية والتثمير والإصلاح. وتتضمن الآية كل هذه المعاني. فقال سبحانه وتعالى :( قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ) أي أن مؤاكلة اليتامى والتعامل في أموالهم بقصد الإصلاح خير لا جناح فيه. وكذلك فإن الأوصياء على اليتامى لا حرج عليهم في مخالطة المثل لهم بالمثل لليتامى كخلط التمر بالتمر أو الدقيق بالدقيق. فقد كان كافل اليتيم قبل هذه الآية يشق عليه إفراد طعامه عن طعام اليتم وهو لا يجد مندوحة عن خلط طعامه بطعام عياله مع احتمال الزيادة أو النقصان في حصة اليتيم من هذه الطعام. فرخصت له المخالطة بهذه الآية. وهي مخالطة جيدة تقوم على أساس من الأخوة في الدين والثقة التامة في التعامل وذلك معنى قوله :( فإخوانكم ).
قوله :( والله يعلم المفسد المصلح ) أي لا يخفى على الله من داخل اليتيم بقصد الإفساد أو الإصلاح فيجازيه بما قصد. وقوله :( ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) أي لو شاء الله لضيق عليكم ولكلفكم ما يشق عليكم أداؤه، وذلك بتحريم مخالطتهم لليتامى، ولكن الله أباح لكم ذلك فسهّل عليكم، فهو سبحانه ( عزيز حكيم ) أي قوي لا يمتنع عليه شيء قدره وأراده، وحكيم في تصرفه في ملكه١.
أما نكاح الكتابيات في حال الحرب فقد ذكر عن ابن عباس أنه حرام ؛ لوجوب قتالهم جميعا لا التحبب إليهم بنكاح نسائهم.
وفي هذا يقول سبحانه :( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ).
وذهب الإمام مالك إلى كراهة نكاح الحربيات، وهو ما نرجحه١.
ورب سائل يسأل عن السبب في إباحة نكاح المسلم للكتابية، وتحريم ذلك على الكتابي فإنه ممنوع من نكاح المرأة المسلمة.
ولا نريد أن نخوض طويلا في تعليل هذا الحكم، ولكننا نكتفي بالقول : إن الإنسان المسلم يؤمن بنبوة المرسلين جميعا، ويؤمن كذلك بصدق الكتب السماوية بغير استثناء، فهو بذلك يؤمن بنبوة كليم الله موسى وروح الله عيسى المسيح عليهم الصلاة والسلام، ويؤمن بما أنزل إليهما من كتاب. ومثل هذا الإيمان لهو جزء من عقيدة الإنسان المسلم فهو بذلك مكلف تكليفا دينيا أن يحوط زوجته الكتابية –يهودية كانت أو نصرانية- بالرعاية والعطف والتقدير وأن لا يحيف عليها باعتداء أو إهانة. وأي اعتداء على الزوجة الكتابية في دينها أو إهانة لها في مشاعرها الدينية فهو محرم تحريما ؛ لما في ذلك من نيل من قدسية الكتاب الذي تعتقده هي ويؤمن به زوجها المسلم، ومن نيل كذلك من قدسية نبيّها الكريم الذي تنظر إليه هي بإجلال، ويؤمن بصدق نبوته زوجها المسلم، فلا خشية مع هذه الحال على الزوجة الكتابية إذا كانت في كنف الزوج المسلم وفي رعايته.
والأمر يختلف تمام الاختلاف لو تزوج الكتابي- يهوديا أو نصرانيا- المرأة المسلمة فهو أصلا لا يؤمن بدين الإسلام وهو ينكر نبوة محمد ( ص )، ويكذب كتاب الله القرآن. فمن كان هذا شأنه فأنّى له أن يكنّ من الاحترام أو التقدير للمرأة المسلمة لو كانت زوجة له. وإن لمن المعلوم أن الإنسان المسلم- والمرأة خاصة- شديد الاستمساك بعقيدته، وهو ذو شعور ديني مرهف فكيف إذا ما تسلط عليه أحد لا يستبقي في نفسه ذرة من إيمان بدينه وعقيدته ( الإسلام ) ؟ وكيف تكون حال المرأة المسلمة وهي في رعاية زوج كتابي يسخر من الإسلام ونبيه وكتابه ؟ ! لا نحسب في هذه الحال إلا أن يذيقها مهانة السخرية والاستهزاء بدينها ونبيها وكتابها لتظل في كنفه جريحة الشعر والقلب بدوام اعتدائه على أروع وأغلى ما تملك وهو دينها وعقيدتها. وفي ذلك يقول سبحانه :( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي الاستيلاء والظهور والهيمنة.
من أجل ذلك أبيح للمسلم نكاح الكتابية ومُنع الكتابيُّ من نكاح المسلمة.
قوله :( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) الأمة الجارية المملوكة. وهي إن كانت مؤمنة فإنها في ميزان الله خير من المشركة ذات الوسامة والحسب. ولا ينبغي للمؤمن الحريص أن يغفل حين الزواج عن الفتيات المؤمنات ذوات الخلق والعقيدة والتقوى لينصرف بهواه إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها فيختار من النساء ذوات الأحساب أو المال أو الجمال وهن فاسقات أو كوافر. وفي الحديث عن النبي ( ص ) : " لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين ؛ فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل " وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال أيضا : " تُنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب ثم ندم، فأتى النبي ( ص ) فأخبره، فقال : " ما هي يا عبد الله " قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله ( ص ) : " هذه مؤمنة " فقال ابن رواحة : لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين ؛ لنكاحة أمة، وكانوا يرون نكاح المشركات رغبة في أحسابهن. وقيل في نزولها غير ذلك وكله يشهد على أن المرأة المؤمنة خير من المشركة بغض النظر عن فوارق في الحسب والجمال وغير ذلك مما يعجب كثيرا من الناس٢.
وقوله :( ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ) أي لا تزوجوا الرجال المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا، فإن آمنوا رفع عنه الحظر وأبيح لهم الزواج منهن.
وفي الآية بيان واضح حاسم ليس في مداهنة أو مواربة على أن الإيمان أفضل، وأن ما عداه من اعتبارات مفضول. فالمؤمن وإن كان عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة لهو خير وأفضل من المشرك ذي الحسب أو المال أو المنزلة الرفيعة في الدنيا. وهو خير وأفضل كذلك من الفاسق ذي الوسامة الذي يبهو جماله كثيرا من النساء.
وينبغي للفتاة المؤمنة ألا تأخذها في الرجل ظاهرة الجمال أو الحسب لتغفل بعد ذلك عن أهم وأخطر ما فيه من جوانب، وذلكم هو جانب العقيدة وما ينبثق عنها من جمال الخلق والطبع والتصور.
وفي الآية كذلك ما يدل على أنه لا بد للنكاح من وليّ. فيتضح ذلك من قوله :( ولا تنكحوا ) وهو فعل مصدره الإنكاح، والمخاطبون هنا الأولياء. وفي هذا يقول النبي ( ص ) : " لا نكاح إلا بولي ".
وفي بطلان النكاح بغير وليّ يقول النبي ( ص ) : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل- ثلاث مرات- فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشجاروا فالسلطان وليّ من لا وليّ له "
وليس للمرأة بعد ذلك أن تزوج نفسها أو تزوجها امرأة غيرها. وفي هذا يقول النبي ( ص ) : " لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانيةَ هي التي تزوج نفسها " وتفصيل هذه المسألة في موضعه من كتب الفقه.
قوله :( أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ) اسم الإشارة ( أولئك ) يراد به المشركون جميعا رجالا ونساء فهم في مخالطتهم ومناكحتهم ودوام العيش معهم وتمام الركون إليهم، كل ذي يغري بالتشبث بالشهوات وزينة الحياة الدنيا ومتاعها، فضلا عن احتمال الإفساد للنسل. وفي هذا كله ما يسوق إلى الخسران وعذاب النار، لكن الله جلت قدرته بتشريعه الحكيم وترسيخ لأهمية المناكحات بين المسلمين والمسلمات دون غيرهم ما يقود إلى سلامة العاقبة ودخول الجنة. إن هذه الآيات تنطوي على الخير للناس. وهي آيات واضحات بينات تحمل للإنسانية أكمل وتشريع وخير سبيل فيه النجاة من ضلال الدنيا وشرورها. وما على الناس بعد ذلك إلا أن يعكفوا على دراسة الآيات الحافلة الشاملة البينة، وينهلوا من معينها الزاخر بكل أسباب الفوز والسلامة والنجاة ( ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ).
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٤٥..
وأما دم النفاس عند الولادة فلا حد لأقلّه فقد ينتهي بعد يوم أو دون يوم من بدئه، وقد يكون دفقة من دم ثم ينقطع، لكنهم اختلفوا في أكثر، فقال أبو حنيفة : أكثر ستون يوما، وقال الشافعي : أربعون، وذهب الإمام مالك إلى أنه شهران، وقيل غير ذلك. وإذا جاوز المسيل هذه المدة تبعا لكل مذهب سمي ذلك استحاضة وفيها تصلي المرأة وتصوم بعد أن تغتسل ولا يضرها نزول الدم.
والمرأة الحائض أو النفساء لا يجوز في حقها كل من الأمور التالية : الصلاة والصيام والجماع والعدة والطلاق والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه وقراءة القرآن.
على أن المراد في الآية هو النهي عن الجماع حال المحيض، لأن الجماع فيه أذى ( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ). الضمير ( هو ) يعود على المحيض. والمقصود أن المحيض، أذى أي قذر تتأذى به المرأة من أجل الدم في نتنه وفساد ريحه، فلا يجوز حينئذ قربان المرأة جماعا إلا ما أبيح منها. ويبين ذلك قول النبي ( ص ) في هذا الصدد : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " وهو الجماع. فما كان دون الجماع فهو جائز، وتحديد ذلك بما كان فوق الإزار، فقد سئل النبي ( ص ) : ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقل : " لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها " وذلك الذي عليه أكثر العلماء منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وغيرهم.
وإذا أتى أحد زوجته جِماعا حال المحيض فهو آثم، وعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وليس عليه شيء غير ذلك، وقيل بل عليه أن يتصدق بدينار، وقيل : نصف دينار، وذلك لما قاله الرسول ( ص ) : " يتصدق بدينار أو بنصف دينار ".
والذي نختاره في هذه المسألة أن الذي يجامع حال الحيض عليه أن يستغفر ربه وأن يتصدق بدينار أو نصفه جمعا بين القولين وهو أحْوط.
قوله :( ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ) قال ابن عباس رحمه الله :( حتى يطهرن ) بسكون الطاء أي ينقطع دم الحيض عندهن. أما قوله :( فإذا تطهّرن ) بتشديد الهاء أي اغتسلن بالماء، وهو ما قاله آخرون أيضا.
لكن الفقهاء أجمعوا على تحريم الجماع بعد انقطاع الحيض حتى تظهر المرأة. واختلفوا في ماهية الطهر، فقال فريق من العلماء : إنه الاغتسال بالماء، وفي قول ثان : إنه الوضوء كالذي يكون للصلاة، وفي قول ثالث : هو غسل الفرج فقط وبعده يباح للرجل الوطء.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل به جماع الحائض بعد انقطاع الحيض هو الاغتسال بالماء كالذي يكون للجنب. وهو معنى قوله تعالى :( فإذا تطهرن ) بتشديد الهاء. وهو قول مالك والشافعي وآخرون.
وقال آخرون إذا انقطع دم الحائض ثم توضأت حل جماعها ولو لم تغتسل، وأما الإمام أبو حنيفة فعنده إذا انقطع الدم بعد أكثر المدة وهي عشرة أيام، فإنه يباح للرجل الوطء قبل الغسل، والذي يبدو أن هذه الأقوال يعوزها الدليل فلا نطمئن إليها ؛ ولذلك فإن الراجح الذي يطمئن إليه القلب ما ذهب إليه الجمهور وهو تحريم الجماع بعد انقطاع دم الحيض قبل الغسل. فإذا انقطع الدم وحصل الاغتسال أبيح الجماع والله تعالى أعلم.
قوله :( فآتوهن من حيث أمركم الله ) أي فجامعوهن في الفروج ولا تتجاوزوا إلى الأدبار فإنه حرام، وهو أمر إباحة لا أمر وجوب.
قوله :( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) يراد بالتوابين الذين يكثرون التوبة والاستغفار مما قارفوه من معاص وذنوب. والمتطهرون هنا الذين يتنزهون عن فحش الإتيان للنساء في أدبارهن أو وهن حوائض ؛ لما في ذلك كله من أذى وقذر.
وذكر أن أناسا من الأنصار أتوا النبي ( ص )، فسألوه عن ذلك، فقال : " ائتها على كل حال إذا كان في الفرج ". أما الإتيان في الدبر فهو محظور استنادا إلى الدلالة المستفادة من هذه الآية والتي تنحصر فيها الإباحة على الوطء في الفروج حيث الحرث ( النسل ). واستنادا كذلك إلى النصوص من السنة وما ذهبت إليه جماهير العلماء في هذه المسألة. وما من قول يبيح الوطء في الأدبار إلا هو ضعيف أو مرجوح.
ثم يدعو الله عباده أن يقدموا من الطاعات وصالح الأعمال ما يجدون ثمرته يوم القيامة ؛ وعلى المؤمنين أن يكونوا دائما على تقوى من الله، وليعلموا في يقين أنهم ملاقوه في يوم يشتد فيه الهول ويغيب فيه الشفعاء ( وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المومنين ) ١.
قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ حلف ألا يأكل مع الأضياف. والمعنى : لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من عمل البر والطاعة والإصلاح بين الناس، بل عليكم أن تكفّروا عن أيمانكم ثم تفعلوا الخير من بر وطاعة وإصلاح. فإنه خير للمؤمن أن يكفّر عن يمينه، ثم يفعل الخير بدلا من امتناعه عن فعل الخير ؛ لأنه حلف ألا يأتيه. وفي هذا روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله ( ص ) قال : " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " أي آتي العمل الذي حلفت ألا آتيه، ثم أقوم بالتكفير تحلّة لما حلفت من يمين.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير ". وروى أبو دود عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ( ص ) قال : " لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها ".
وقوله في الآية :( عرضة ) أي نصبا. نقول : فلان عرضة للناس، أي نصبا لهم : بمعنى أنه معترض لهم فلا يزالون يقعون فيه. جعلت فلانا عرضة لكذا أي جعلته نصبا له أو نصبته له. وقوله في الآية :( أن تبروا وتتقوا وتصلحوا... ) أي كيلا تفعلوا البر والطاعة والإصلاح كصلة الرحم وغيرها. وعلى هذا فالمقصود هو ألا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم بأن تكثروا من الحلف باسمه ؛ لئلا ( تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس ) أو لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم والإصلاح بين الناس إذا حلفتم على ترك ذلك. وقيل : ألا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتكون هذه الإيمان حاجزا لما حلفتم عليه ومانعا منه، بل افعلوا ما حلفتم عليه وكفروا عن يمينكم.
قوله :( والله سميع عليم ) الله جل جلاله يسمع ما يقوله العباد وما يدور على ألسنتهم من كلام كالأيمان وغيرها، وهو سبحانه عليم بما تخفيه صدروهم من نوايا ومكنونات١.
واللغو من الأيمان ما يأتي خلال الكلام أو المحاورة أو الجدل كقوله : لا والله، بلى والله، وذلك دون قصد لليمين أو الحلف. وقد روي عن السيدة عائشة في هذا الصدد قالت : أيمان اللغو ما كانت في المرء والهزل والحديث الذي لا ينعقد عليه القلب.
وورد في البخاري عن السيدة عائشة أيضا قالت : نزل قوله تعالى :( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) في قول الرجل : لا والله، وبلى والله.
وأما الأيمان فهي جمع مفرده يمين وهي الحلف، وقد سمي الحلف يمينا ؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه فسمي الحلف يمينا مجازا. والمعنى المراد من الآية أن الله جلت قدرته لا يعاقب الناس فيما يحلفون من أيمان لاغية لا ينعقد عليها قلب الحالف، وإنما ينطق بها لسانه على سبيل العادة لا القصد والتأكيد.
وقوله :( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) الله سبحانه وتعالى يعاقب الناس، ويلزمهم بما حلفوا من أيمان على أشياء وهو يعلمون أنهم كاذبون. فقوله :( كسبت ) أي تعمدت، والمراد : الحلف على كذب وباطل أي يحلف الرجل على شيء وهو يعلم أنه كاذب. فذاك الذي يؤاخذ به.
وقوله :( والله غفور حليم ) هذا التعقيب الكريم جاء مناسبا لعدم مؤاخذة الله للعباد على ما تنطق به ألسنتهم دائما من اللغو في الإيمان. وهي أيمان لا تكاد تبرح الألسن ؛ لكثرة ما تدور وتتردد في كل حين وفي كل مجال ومناسبة، في التعامل والتمازح والجد والسمر وغير ذلك من مجالات. ولو كانت هذه الأيمان تحتمل مؤاخذة لكان الأمر بالنسبة للحالفين عسيرا وخطيرا، لكن الله بواسع مغفرته وحلمه قد تجاوز للعباد عن تلك الأيمان.
وعلى هذا يكون معنى الآية : للأزواج الذين يحلفون ألا يجامعوا زوجاتهم وكانت المدة المحلوف عليها تزيد عن أربعة أشهر، أن ينتظروا حتى انقضاء هذه المدة وعليهم بعدها أن يختاروا الفيئة ( الرجوع والجماع ) أو الطلاق. إلا إذا كانت المدة المحلوف عليها دون أربعة أشهر، فعليهم حينئذ أن ينتظروا حتى مرور هذه المدة.
وذهب آخرون إلى أنه بمجرد مرور أربعة أشهر تقع تطليقة واحدة رجعية. وقيل بل طلقة بائنة.
أما التعقيب الكريم على الآية الأولى ( فإن الله غفور رحيم ) أي يتجاوز عن إساءة الأزواج في تعجلهم بالإيلاء بما قد يؤذي الزوجة.
وأما التعقيب الكريم على الآية الكريمة الثانية ( فإن الله سميع عليم ) فهو مناسب للموقف وذلك بعد التربص والفيئة، ولم يبق إلا الطلاق، فإن الله جلت قدرته يسمع ما يلفظه الزوج من تطليق ويعلم ما يكنه في نفسه من نية، سواء في ذلك قصد الإضرار بالمرأة وعدمه. وفي هذا من التخويف والتحذير ما هو ظاهر للحس الرهيف اليقظ١.
أما القروء فهي جمع قلة ومفرده قرء وهو من حيث المفهوم اللغوي يطلق على الطهر والحيض ؛ لأن القرء في اللغة يعني الجمع، فهو إذا أطلق على الطهر كان المقصود به اجتماع الدم في الجسد لا في الرحم. وإذا أطلق على الحيض كان المقصود به اجتماع الدم في الجسد لا في الرحم. وإذا أطلق على الحيض كان المقصود به اجتماع الدم في الحيض١. واختلف الفقهاء في المراد بالقرء. فقد ذهب أبو حنيفة وابن حنبل إلى أنه الحيض، وهو قول كثير من الصحابة منهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وابن عباس وآخرون.
وذهب مالك والشافعي وداود الظاهري وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه الطهر. وهو قول السيدة عائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وآخرين غيرهم٢.
وقوله :( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) ( ما ) اسم موصول في محل نصب مفعول به للفعل ( يكتمن ). والمقصود باسم الموصول، وهو الذي لا ينبغي كتمانه، موضع خلاف العلماء. فقد قيل : إنه الحيض، وقيل : بل هو الحمل، وثمة رأي ثالث بأنه الحيض والحمل معا. والراجح عندي أن الكتمان يقع على كل من الحيض أو الحمل، ولا يشترط أن يكونا معا، فربما تكتم المطلقة حيضتها زاعمة أنها لم تحض وذلك رغبة منها في تطويل العدة لحاجة في نفسها، أو تزعم أنها حاضت وهي في الحقيقة لم تحض وذلك استعجالا منها في انقضاء العدة.
وقيل المقصود بالمكتوم الحمل لتقطع صلته بأبيه الحقيقي، فقد ذكر أنه كانت عادة بعض النساء في الجاهلية كتمان ما في أرحامهن من حمل ؛ وذلك من أجل أن يلحقن الولد بالزوج الجديد. وفي هذا نزلت الآية٣.
قوله :( إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ) ذلك تهديد وتخويف من الله- عز وجل- للنساء المطلقات واللواتي يمضين في الاعتداد، فإن عليهن أن يكشفن في صدق ووضوح عن حقيقة ما في أرحامهن من حيض أو حمل، ولا يبغي أن يفهم من الشرطة المخالفة ليقال : إن كانت المطلقات يؤمن بالله واليوم الآخر فليس لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وبناء على هذا فإن انعدم الشرط انعدم معه الوجوب بعد الكتمان، فإن كانت المطلقات لا يؤمن بالله واليوم الآخر فلا جناح عليهن في الكتمان، وذلك فهم فاسد، بل المقصود هو الإخبار أن كتمان ما في الرحم لهو عمل محرم وشنيع، بل إنه ليس من فعل أهل الإيمان.
قوله :( وبعولتهن أحق برجهن في ذلك ) البعولة جمع مفرده، البعل وهو الزوج، والفعل بعل يبعل أي تزوج يتزوج، وباعل مباعلة إذا باشر زوجته٤. والمعنى للآية أن الأزواج أحق بالزوجات المطلقات أن يراجعوهن وذلك أثناء العدة في الطلاق الرجعي، أما إذا انتهت عدتهن فإنهن أحق بأنفسهن من الأزواج المطلقين، ولهن في هذه الحال الخيار أن يرجهن لأزواجهن بعد عقد ومهر جديدين أو يمتنعن من ذلك. وإذا أراد الزوج إرجاع المطلقة قبل انتهاء العدة فله ذلك، بل هو أحق بها دون حاجة لعقد أو مهر، وليس عليه شيء إلا الإشهاد على الرجعة ؛ لقوله تعالى في آية أخرى :( وأشهدوا ذوي عدل منكم ).
أما كيفية الإرجاع أو صفته التي يكون فيها الزوج مراجعا في العدة فقد ذهب الإمام الشافعي إلى أنه لا يكون مراجعا على الوجه الصحيح المشروع إلا بالقول، وهو أن يقول لها : راجعتك. مع الإشهاد على ذلك، ولا تتم الرجعة عنده بطريقة أخرى غير القول. وقال الإمام مالك : إذا وطئ الرجل زوجته المطلقة أثناء العدة فقد راجعها، وعليه أن يُشهد على الرجعة قبل الوطء، ويكن كذلك مراجعا إذا قبّل أو باشر وهو ينوي الرجعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة، كان ذلك رجعة، وعليه أن يُشهد على ذلك٥.
وقوله :( إن أرادوا إصلاحا ) الزوج أحق برد زوجته المطلقة قبل انتهاء عدتها، على أن يكون قصده في ذلك الإصلاح، وهو أن يصلح شأنه معها بعد ردها، وأن يكون جادا في نشر أسباب التفاهم والود والعيش الكريم في البيت ؛ لكنه إن كان يخفي في نفسه النية بالإضرار واحتباسها في أسر النكاح المنكود فذلك حرام. وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى :( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ).
وقوله :( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) هذه قاعدة في العدل يقوم على أساسها التعامل بين الزوجين في البيت، فلا حيف ولا ضير ولا محاباة، بل لكل واحد منهما من الحق ما يكافئ الواجب الذي عليه.
وعلى هذا الأساس يقوم التعامل المتعادل الموزون بين الزوجين. وذلك في ضوء الآية الكريمة ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) أي للنساء من الحقوق على الرجال مثل ما للرجال عليهن من الحقوق، على أن يكون ذلك كله في إطار من الحسنى والخلق الودود الحاني ؛ لقوله تعالى :( بالمعروف ) فما من تعامل بينهما أو تفاهم أو تخاطب أو أمر أو نهي إلا وينبغي أن يكون ( بالمعروف ) أي بالرفق والود والرحمة والحسنى.
وفي الكشف عن مقاصد هذه الآية يقول الصحابي العظيم ابن عباس : إني لأتزين لا مرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها عليّ ؛ لأن الله تعالى قال :( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ).
وقال الإمام الطبري في تفسير الآية : إن لهن على أزواجهن ترك مضارتهن كما كان ذلك عليهن لأزواجهن٦.
وقوله :( وللرجال عليهن درجة ) الدرجة هي الرتبة والمنزلة، لكن ما المقصود بهذه الدرجة المعطاة للرجال ليفوقوا بها النساء ؟ فقد قيل : هي إنها خلقت من الرجل، وذلك أن الله جلت قدرته خلق أبا البشر آدم ثم خلق منه زوجه فهو بذلك أصلها. وقيل : الدرجة الميراث، فنصيبه في الميراث أكبر من نصيبها. وقيل الدرجة بمعنى الطاعة، فهي منوط بها أن تطيع زوجها ؛ لكونه مسؤولا عنها. وقيل : الدرجة هي المهر الذي يلتزم الرجل بأدائه للمرأة.
على أن نطمئن إليه في المراد بالدرجة أنها القوامة أو المسؤولية التي أعطيها الرجل ليكون قواما على المرأة، فقد شرع الله للرجل أن يكون مسؤولا عن زوجته والأسرة ولا عكس، وذلك تبعا لطبيعة تكوينه البدني والنفسي. فهو أقوى منها جسدا وأشد بأسا وأثبت نفسا وجأشا، وأعظم ما يكون الرجل في سعة أفقه وتفكيره ورجحان عقله ومداركه ليكون بذلك كله مهيئا للاضطلاع بعبء القوامة ( المسؤولية ). وهو ما نميل إليه في هذه المسألة مستدلين بقوله سبحانه وتعالى في آية أخرى ( الرجال قوامون على النساء ) ومنه القوامة أو المسؤولية.
وقوله :( والله عزيز حكيم ) الله قوي، وهو منتقم ممن خالف عن أمره واستنكف عما شرع. وهو سبحانه حكيم في كل ما يبسطه على عباده من شرائع تقرر لهم السعادة في الدنيا، ثم النجاة في الآخر.
٢ -- بداية المجتهد جـ ٢ ص ٧٥، ٧٦ وتفسير القرطبي جـ ٣ ص ١١٣ والثمر الداني شرح رسالة القيرواني ص ٤٨٤..
٣ - فتح القدير جـ ١ ص ٢٣٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٩ وتفسير النسفي جـ ١ ص ١١٤..
٤ - المصباح المنير جـ ١ ص ٦٢..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ١٢٠، ١٢١ وفتح القدير جـ ١ ص ٢٣٦ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٧٢..
٦ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ١٢٣ وتفسير الطبري جـ٢ ص ٢٧٥..
كان الطلاق في الجاهلية وفي ابتداء الإسلام غير محصور في عدد الطلقات، بل كان الرجل يطلّق ما شاء ولو مائة مرة ثم يراجع زوجته في العدة لتظل بذلك كالمعلقة فلا هي زوجة ولا هي مطلقة، وهو لا يبغي من ذلك إلا إغاظتها والإضرار بها. إلى أن نزلت هذه الآية فقيدت الطلاق بثلاث مرا، الثنتين الأوليين منها يحق للرجل مراجعة زوجته فيهما قبل انتهاء العدة في كل مرة. فإذا وقعت الثالثة باتت المرأة مبتوتة لا يحق له مراجعتها إلا بعد نكاح جديد من زوج جديد. وقد روي عن السيدة عائشة – رضي الله عنها- قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة. وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال : والله لأتركنك لا أيما ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارا، فأنزل الله تعالى فيه ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) فجعل الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره١.
قوله :( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) إمساك مبتدأ وخبره محذوف تقديره أفضل أو أحسن وتقديره : فإمساك بمعروف أفضل٢ والإمساك في اللغة معناه التعلق والاعتصام، أو حبس النفس ومنعها من فعل الشيء. وهو في الاصطلاح الشرعي خلاف الطلاق. والتسريح معناه الإرسال ويراد به في الآية الطلاق.
ومعنى الآية أن الرجل إذا طلق زوجته مرة أو اثنتين فهو عندئذ مخيّر في إرجاعها إليه على أن ينوي الإحسان في معاملتها وعدم الإضرار بها وذلك أثناء اعتداد الزوجة من الطلقة، أو أن يتركها إلى أن تنتهي عدّتها فتكون بائنة، وذلك تسريح لها على أن يكون ذلك بإحسان من غير أن يوقع عليها حيفا أو إضرارا كأن ينتقصها حقا من حقوقها. وبذلك يكون الرجل قد خسر طلقتين اثنتين، وبقيت له واحدة ثالثة وهي الآخرة. أو هي بمثابة صمام الأمان للحياة الزوجية بالنسبة للزوجين، فإذا ما انزلق لسان الرجل أو تعثّر في النطق بالطلقة الثالثة فقد انفصمت عرى الحياة بين الاثنين تمام الانفصام، وما عاد يرتجى لهم بعد ذلك تلاق إلا أن تنكح المبتوتة زوجا ثالثا يطلقها فتبين ثم ينكحها الأول، وهيهات لذلك أن يتحقق !.
وقد ذكر عن ابن عباس قوله في هذا الصدد : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسحرها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا.
وفي تبيين الطلقة الثالثة في الآية سأل رجل النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله ( الطلاق مرتان ) فأين الثالثة ؟ قال : " التسريح بإحسان الثالثة ". وفي حديث آخر أن رجلا جاء إلى النبي ( ص )، فقال : يا رسول الله ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة ؟ قال : " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ".
قوله :( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ). لا يحل للزوج أن يضيّق على زوجته، وأن يسومها العسر والضجر لتفتدي منه بما أعطاها من صداق أو جهاز وغيره. وفي يقول سبحانه في آية أخرى :( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) وبهذا فإن أخذ المال من الزوجة على سبيل القهر والاستضعاف أو الابتزاز وذلك بعد قهرها وإرهاقها والتضييق عليها فإنه حرام. ومن ناحية ثانية : فإنه لا يحل للمرأة أن تطلب من زوجها الطلاق أو الافتداء منه بغير عذر إلا البطر والجحود. لا تسأل المرأة زوجها شيئا من ذلك دون مبرر مقبول إلا أن تكون آثمة عاصية لربها. وفي هذا يقول الرسول ( ص ) : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ".
لكن الذي عليه السلف من هذه الأمة وأئمة الخلف فيها أن الخُلع لا يجوز إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة فلم تتمكن من تأدية حقوق الزوج أو معاشرته لإبغاضها له أو أنها لا تطيقه. فإنه يجوز حينئذ للرجل أن يقبل الفدية منها ثم يفارقها. وذلك هو المراد في قوله تعالى :( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) فإذا علم كل واحد من الاثنين أنه سوف لا يقيم حق النكاح لصاحبه، فإنه لا حرج إذ ذاك على المرأة أن تفتدي نفسها بصداقها أو بعضه تقدمه لبعلها ؛ كيما يسرّحها، وليس من حرج كذلك على الزوج أن يأخذ هذا المال منها مقابل تسريحها. وهذه هي المخالعة أو الخلع.
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري عن ابن عباس أن امرأة ثابت ابن قيس أتت النبي ( ص ) فقالت : يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه. فقال رسول الله ( ص ) : " أتردين عليه حديقته " قالت : نعم. وروى الحديث أيضا ابن ماجه عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي ( ص ) فقالت : والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي ( ص ) : " أتردين عليه حديقته " قالت : نعم، فأمره رسول الله ( ص ) أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. والذي يقال : إنها كانت تبغضه بغضا شديدا، ولكنه كان يحبها أشد الحب ففرق النبي ( ص ) بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام. أما صفة الخلع، فإنه طلاق بائن عند جمهور العلماء. وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي في الجديد. وقال به الثوري والأوزاعي. وهو مروي عن عثمان وعلي وابن مسعود وبعض التابعين. وقيل : إن الخلع فسخ وليس بطلاق إلا أن ينويه المخالع. وهو قول ابن عباس وطاووس وعكرمة وإسحاق وأحمد، والشافعي في القديم٣.
وقوله :( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ) إن خفتم، أي علمتم. والمخاطب في هذه الجملة هم المسؤولون كالولاة أو القضاة. وجملة ( ألا يقيما حدود الله ) في محل نصب مفعول به. والمراد بحدود الله ما يجب على الزوجين من حسن الصحبة وطيب العشرة وكريم التعامل بينهما. وعدم مراعاة هذه الحدود يكون من جانب المرأة إذا كرهت زوجة وأبغضته بغضا شديدا لم تستطع معه من أداء حقه في الطاعة وما له عليها من حقوق. وإذا كان الأمر كذلك فقد جعل الإسلام لهما- والزوجة خاصة- سبيلا للفراق أو الخلاص من عيشهما المنكود وتلاقيهما المتنافر، وهو أن تفتدي المرأة منه بصداقها أو بعض صداقها. وفي هذا يقول سبحانه :( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ).
وقوله :( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) حدود الله هي شرائعه التي شرعها للناس. وهي هنا ما تضمنته الآية من بيان لكيفية الطلاق، وأنه مرتان يتلوهما فراق تام. ثم تشريع المخالعة بين الزوجين تدفع الزوجة بموجبها ما أخذته من صداق أو دونه لزوجها على أن يسرحها مادامت تبغضه بغضا شديدا ولا تطيق معه العيش لدمامته أو سوء منظره أو نحو ذلك.
ولا ينبغي لأحد أن يتجاوز هذه الحدود التي رسمها الله وهي شرائعه المبينة في الآية. وهي لا يتجاوزها إلا ظالم لنفسه فموبقها.
وشبيه بذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ( ص ) قوله : " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ".
ولو جمع الطلقات الثلاث في كلمة واحدة فهو من البدع التي تأتي على خلاف ما شرعه الله للناس من أحكام. أو هو خلاف السنة الصحيحة التي بينها الكتاب وسنة الرسول ( ص ) وهو أن يكون الطلاق مرات ثلاثا، كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى بزمن معلوم تحدده العدة تبعا لطبيعة المرأة، فهي في ذوات المحيض ثلاث أقراء، أما في الصغار واليائسات من النساء وهن اللواتي لا يحملن فقدرها ثلاثة أشهر.
وذهب بعض أهل العلم وفيهم المالكية إلى أن جمع الطلقات الثلاث في كلمة واحدة حراما شرعا. ويعزز قولهم هذا ما رواه النسائي في سننه عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله ( ص ) عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال : " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ " حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله ؟.
وعلى أية حال فإن الطلاق بلفظ الثلاث في جلسة واحدة تبين معه المرأة بينونة كبرى فلا تحل لزوجها المطلق إلا بعد نكاحها من زوج ثان ثم تبين منه وتعتد. وقد ذهب إلى ذلك جمهور الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب. وخالفهم في ذلك بعض العلماء إذ قالوا : الطلاق ثلاث في كلمة واحدة يقع طلقة واحدة رجعية. وهو مذهب أهل الظاهر. وقال به ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وروي مثل ذلك عن بعض الصحابة٤.
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٥٧ ومختار الصحاح ص ٢٩٣، ٦٢٤..
٣ - بداية المجتهد جـ ٢ ص ٥٩ وتفسير القرطبي جـ ٣ ص ١٤٣..
٤ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٧٣. وتفسير الطبري جـ ٢ ص ٢٧٦ وفتح القدير جـ ١ ص ٢٣٨ ونيل الأوطار للشوكاني جـ ٦ ص ٢٦٠ وسبل السلام للصنعاني جـ ٣ ص ٢٧٥ وبداية المجتهد جـ ٢ ص ٥٠..
والمراد يكون النكاح الثاني وافيا هو أن تحصل المواقعة من الزوج الثاني للمطلقة ثلاثا، بحيث يقع الجمع ويذوق كل منهما عسيلة الآخر كما ورد في الحديث الشريف، أما مجرد العقد من الثاني عليها من غير وطء فإنها لا تحل بذلك للأول. فقد روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( ص ) في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها فيريد الأول أن يراجعها قال : " لا حتى يذوق الآخر عسيلتها ". وفي حديث من رواية البخاري عن السيدة عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسّها، فسئل رسول الله ( ص ) : أتحل للأول ؟ فقال : " لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول ". وروى البخاري أيضا عن السيدة عائشة قال : دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي ( ص ) فقالت : إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمان بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدية، وأخذت هدية من جلبابها وخالد بن سعيد ابن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال : يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله ( ص ) فما زاد رسول الله ( ص ) عن التبسم، فقال رسول الله ( ص ) : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " والمراد بالعسيلة الجماع. فقد روي عن النبي ( ص ) قال : " ألا إن العسيلة الجماع ".
ونعرض في هذا الصدد مسألة هامة جديرة بالبيان وهي نكاح المحلل، وذلك من الأنكحة الفاسدة التي نهت عنها الشريعة، وتوعدت من يتورط فيها باللعن والتوبيخ على أنه تيس مستعار. وفي هذا أخرج ابن ماجه عن عقبة بن عامر أن رسول الله ( ص ) قال : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : هو المحلل، لعلن الله المحلل والمحلل له ".
وذكر عن ابن عباس قال : سئل رسول الله ( ص ) عن نكاح المحلل، قال : " لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عسيلتها " وذكر أيضا أن رجلا جاء إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول، فقال : لا نكاح إلا نكاح رغبة، كنّا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله ( ص ).
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله ( ص ) قال : " لعن الله المحلل والمحلل له ".
وروى البيهقي بإسناده، أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما. وروي مثل ذلك عن علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة.
وروى عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
وقوله :( فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ) وتفصيل ذلك أنه إذا طلق الرجل زوجته الطلقة الثالثة، فاعتدّت، ثم تزوجها رجل ثان زواجا صحيحا تاما، ثم طلقها واعتدت عدتها المشروعة، جاز لها ولزوجها الأول أن يتراجعا فيما بينهما وهو أن يتناكحا بعقد جديد. وذلك إذا علم الزوجان أنهما سوف يتعاشران بالمعروف ويقيمان الحياة بينهما بالخير والصلاح وعلى هدى من تعاليم الله وشرعه ؛ ولذلك قال سبحانه :( إن ظنا أن يقيما حدود الله ) وللمستزيد من الأحكام في هذه المسائل أن يراجع ذلك في مظانه من كتب الفقه.
وقوله :( وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) وحدود الله هي أحكامه وشرائعه المتعلقة بمسائل النكاح والطلاق وما يحقق للزوجين والأسرة حياة ملؤها الطمأنينة والرضى والود والتفاهم ؛ كيلا يكون ثمة خلل أو تنافر أو مباغضات ما أمكن. وهذه الأحكام والشرائع يبينها الله لتكون مفسرة واضحة للعالمين خاصة، أما الجاهلون فلا شأن لهم في هذا التبيين ؛ لأنهم لا يعونه ولا يستطيعون الوقوف عليه. وليس لهم من سبيل إلا أن يستمعوا للعالمين من الناس فيأخذوا عنهم العلم والأحكام ؛ لذلك قال سبحانه عن حدوده :( يبينها لقوم يعلمون ). ١
وعلى هذا فإن الرجال الذين يطلقون زوجاتهم يكونون بالخيار عند الاقتراب من نهاية العدّة فإن شاءوا وأمسكوا النساء المطلقات، أي راجعوهن وهم تحدوهم في ذلك النية في الإصلاح والعيش والودود، أو سرّحوهن، أي طلقوهن دون شقاق ومخاصمة ودون تضييق وأذى.
وقوله :( ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ) جاء في نزول هذه الآية عن فريق كبير من الصحابة أن الرجل كان يطلق المرأة حتى إذا اقتربت عدتها من الانتهاء راجعها ؛ كيلا يتزوجها غيره، ثم يعاود طلاقها مرة ثانية فتعتد حتى إذا قاربت على انقضاء عدتها راجعها، وهكذا، وهو يبغي من ذلك إطالة مدة العدة للمرأة وجعلها معلقة دائما فلا هي زوجة ولا هي مطلقة، وذلك إضرار بالمرأة كبير وهو كذلك اعتداء ظالم يقع على المرأة من تصرف الرجل إذا لم يخش الله. ولا بفعل ذلك من الأزواج إلا من ظلم نفسه، وذلك بتعرض نفسه للعذاب لاعتدائه على حدود الله ومخالفته أوامره. وقوله :( ضرارا ) مفعول لأجله أو حال منصوب. أي مضارين. وذلك أي يطلق ثم يراجع ثم يطلق ثم يراجع وهكذا. فهذا هو الإمساك ضرارا بقصد إلجائهن إلى الافتداء. وذلك ظلم يستوجب العقاب من الله.
قوله :( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) آيات الله أحكامه وشرائعه. وهي جدّ كلها وليس فيها هزل. ولا ينبغي لأحد أن يطوق نفسه بحكم من الأحكام ثم يزعم بعدها أنه هازل، فما أنزل الله دينه وشرعه للهزل أو اللعب، بل للتطبيق والعمل والالتزام وذلك في جد واهتمام.
قال عبادة بن الصامت في تبيين هذه الآية : كان الرجل على عهد الرسول ( ص ) يقول للرجل : زوّجتك ابنتي ثم يقول : كنت لاعبا، ويقول : قد أعتقت ويقول : كنت لاعبا، فأنزل الله ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا ) فقال الرسول ( ص ) : " ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه، الطلاق والعتاق والنكاح ". وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي ( ص ) قال " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة ". وقال الصحابي الجليل أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول : إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول : كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام : " من طلق أو حرر أو أنكح فزعم أنه لا عب فهو جد " وجاء في موطأ الإمام مالك أن رجلا قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى عليّ ؟ فقال ابن عباس : طلقت منط بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا.
قوله :( واذكروا نعمة الله عليكم ) وهي نعمة عظمة تتجلى في هذا الدين الحنيف الذي يغطي واقع البشرية كلها بكل ما تقتضيه العقيدة الإسلامية والتشريع الإسلامي من رائع التصورات والنظم التي تحقق للإنسان أمنه وسعادته ليكون هانئا مطمئنا في هذه الحياة، وناجيا مفلحا في الدار الآخرة.
قوله :( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ) ما اسم موصول في محل نصب معطوف على نعمة. أي اذكروا نعمة الله واذكروا ما أنزل عليكم. والكتاب هو القرآن، والحكمة يراد بها هنا السنة على الراجح.
فالله جلت قدرته يأمر الناس بذكر نعمته التي أنعمها عليهم وهي الإسلام، ثم أن يذكروا كتابه الحكيم فيقبلوا عليه بالوعي والتفهم والادّكار، وكذلك السنة النبوية باعتبارها المبيّنة المفسرة للقرآن، وهي الشارحة الموضحة له. وهو سبحانه وتعالى يعظ عباده أي يأمرهم بطاعته ؛ لكي يلتزموا بما في هذين المصدرين وهما الكتاب والسنة من زاخر المعاني والمبادئ والأحكام، ثم يدعو الله عباده أن يتقوه، أي يخافوه ويخشوا عقابه، ثم ليتخذوا من الطاعات والقربات والابتعاد عن المعاصي ما يدرأ عنهم العذاب الموعود. فهو سبحانه عليم بأحوال الناس مطلع على أسرارهم وأستارهم. وفي هذا يقول سبحانه :( واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ).
سبب نزل هذه الآية هو معقل بن يسار. فقد ذكر أنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله ( ص ) فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقه لم يراجعها حتى انقضت عدّتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخُطاب فقال، له : يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا، فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله الآية. وعلى هذا إذا طلق الرحل زوجته فانقضت عدتها وبانت ثم تذكرها من بعد ذلك وحنّ إليها وأراد أن ينكحها من جديد فليس لأولياء المرأة المطلقة أن يعضلوها عن ذلك. والعضل معناه المنع أو الحبس. فإذا كان الزوجان المتفارقان قد مال كل منهما للأخر بإخلاص فتراضيا بينهما وأراد أن يعاودا العيش معا في حياة زوجية مستأنفة راضية فلا يحل لأحد أن يمنعهما من ذلك.
وقوله :( ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ) يراد بالإشارة العضل أي أن الأمر من الله بعدم منع المطلقات من الرجوع إلى أزواجهن بعد تراض منهم- يتعظ به ويستجيب له من الناس من كان ذا إيمان بالله، فيسارع إلى الاستجابة لأمره، والامتثال لما أوجب وشرع، ثم كان ذا إيمان باليوم الآخر فهو دائم الخوف من الله فيحسب للقائه في اليوم الموعود كل حساب.
وقوله :( ذلكم أزكى لكم وأطهر ) اسم الإشارة في محل رفع مبتدأ. والميم للجمع. ( أزكى ) خبر مرفوع بضمة مقدرة. وذلك أمر يدركه الحس المؤمن والضمير السليم. وهو أن إرجاع المطلقات إلى أزواجهن إذا تراضوا فيما بينهم بالمعروف وعدم عضلهن عن ذلك لهو أنقى وأطهر للنفس وأبعد عن مواطن الحيف الناشئ عن العضل المتعمد.
قوله :( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) وهي حقيقة ناصعة نصوع الشمس ينكرها غير جاحد جهول. إن الله عنده علم الأشياء جميعا فضلا عن علمه الأكمل بموطن الحق والصواب، لكن الناس لا يعلمون من حقائق الحياة وزاخر المعلومات فيها إلا قليلا، حتى إنهم إذا علموا فلا يجاوز علمهم حد التخمين والظن إلا أن يعلمهم الله. ومن جملة ذلك هنا أن الله أعلم بما في قلب المطلقة من حب لزوجها المطلق ومن معاودة الحنين إليه، وكذا الزوج، ربما عاود الحب قلبه من جديد بعد أن ذكرها عقب الطلاق والعدة فتجدد حبها في قلبه، فالخير الذي لا شك فيه أن يتراجعا بعد عقد وصداق بدلا من عضلهما من ذلك ؛ لما يحتمله العضل من احتمالات التلاقي المريب غير المشروع، لذلك قال :( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ).
أما قوله :( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فهو عام في النساء الوالدات، سواء كن ذوات أزواج أو مطلقات فإنهن يرضعن أولادهن مدة عامين كاملين، وهي المدة الوافية المثلى للرضاع ؛ ولذلك قال سبحانه :( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فلا بأس بالرضاع دون حولين إن كان في ذلك ما يكفي للطفل ولم يلحق به الضرر. وقيل : الآية في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن. والأظهر أن الآية في الزوجات في حال بقاء النكاح ؛ لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، أرضعن أو لم يرضعن.
وصمة مسألة اختلفت فيها كلمة العلماء وهي : الإرضاع حق للوالدة أم هو حق عليها ؟
فقد قيل : إن الإرضاع للمرأة ذات الزوج واجب استنادا إلى قوله تعالى :( يرضعن ) أي ليرضعن فما دام الزوج قائما، ونفقتها يضطلع بها الرجل، فإنها ملزمة بإرضاع الولد. أما المطلقة طلاقا بائنا فلا تكلف بالإرضاع إلا في حالات نبينها في الفقرات اللاحقة. وقيل : إنه في حقهن مندوب وليس واجبا ؛ لان قوله :( يرضعن ) محتمل. ولو أراد التصريح بكونه واجبا عليها لقال : وعلى الوالدات. كقوله :( وعلى المولود له رزقهن ).
وقيل إن الحكم في هذه المسألة مرتبط بالعرف الذي عليه النساء والذي يلتزمن بموجبه بإرضاع أولادهن، فقد صار العرف ههنا كالشرط. وفي القواعد الفقهية أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
أما إذا اشترطت المرأة لنفسها خلاف هذا العرف وهو أنها غير ملزمة بإرضاع الولد فلها ذلك. وعلى الأب حينئذ أن يهيئ لولده الرضاع.
ويستثنى من ذلك كله ما إذا رفض الولد الرضاعة من غير أمه، فإن أمه تكون بذلك ملزمة بإرضاعه إلزاما. ومثل ذلك إذا انعدمت المرضعات في البلد وليس من ترضعه إلا الأم، فعليها الرضاع بغير منودحة أو مناص.
وإذا مات الأب وليس من مال للصبي وجب إرضاعه عليها بخلاف النفقة، فإنها يلتزم بها الأولياء من بعد الأب. وقيل : إرضاعه في هذه الحال على بيت المال.
أما المرأة المطلقة طلاقا بائنا فلا رضاع عليها. وعلى الأب أن يهيئ لولده ذلك استئجارا، إلا أن ترغب أمه في إرضاعه بالأجرة، فإنها أحق بذلك باعتبارها أكثر حنوا عليه وإخلاصا. وتصبح البائنة ملزمة بالإرضاع إلزاما إذا أبى الولد الرضاع من غيرها أو لم يكن في البلد من ترضعه إلا هي. وتفصيل ذلك في كتب الفقه١.
ويرد في هذا المجال من الرضاع مسألة التحريم. فقد تبين من الآية أن كمال الرضاعة يكون في سنتين. وليس من اعتبار للرضاعة خارج هذه المدة، وذلك الذي عليه أكثر العلماء من السلف والخلف. فقد قالوا أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين، فإذا رضع الولد وكانت سنة فوق عامين لم يقع تحريم بهذا الرضاع، وقد احتج العلماء لمذهبهم هذا بما روي عن الرسول ( ص ) في هذه المسألة. فقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يحرّم من الرضاع إلا ما كان في الحولين ".
وروى الترمذي عن السيدة أم سلمة- رضي الله عنها- قالت : قال رسول الله ( ص ) : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعات في الثدي وكان قبل الفطام ". وعلى هذا فإن الإرضاع لا يحرم إلا في الصغر دون الحولين، ولو فطم الصبي دون حولين ثم أرضعته امرأة بعد فصاله فإنه تثبت به الحرمة عند جمهور العلماء خلافا للإمام مالك، فإن هذا الرضاع لا يحرم عنده ؛ لأنه صار بمنزلة الطعام. والراجح قول الجمهور استنادا إلى عموم خبر ابن كعباس " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين ".
قوله :( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) ( المولود له ) هو الأب. والجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم. و ( رزقهن ) مبتدأ مؤخر. والضمير في محل جر مضاف إليه.
والمراد في الآية أن على الأب أن ينفق على الزوجة نفقة رزق وكساء. والمقصود بالرزق هنا الإطعام، على أن يكون ذلك كله بالمعروف، أي بما تعورف عليه وبما جرت عليه العادة في الإنفاق من غير أن يكون في ذلك أسراف ولا تقتير، وتبعا لحال الرجل من اليسار أو الإعسار، وذلك كقوله تعالى :( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ).
أما الوالدات فإن المراد بهن في الآية الزوجات. ودليل ذلك وجوب النفقة عليهن ؛ إذ لو كنّ غير زوجات لما وجبت لهن النفقة. وقيل المراد بهن المطلقات اللواتي لهن أولاد من أزواجهن، فإن على الأب أن ينفق عليهن ما أرضعن الولد. وقيل : الآية عامة في المطلقات ذوات الأولاد، وفي الزوجات حال بقاء النكاح.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية ما يدل على أن الحضانة حق للأم سواء في الغلام أو الجارية. وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. إلا أنه ( الشافعي ) قال : إذا بلغ الولد ثمانية أعوام وهي سن التمييز فإنه حينئذ يخيّر بين أبويه. واحتج الشافعي لذلك بما رواه النسائي عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي ( ص ) فقالت له : زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبي ( ص ) : " هذا أبوك وهذه أمك، فخذ أيهما شئت " فأخذ بيد أمّه.
وفي تقديرنا أن تقييد الحضانة بثماني سنوات من عمر الطفل لا يعوّل عليه. وما احتج به الشافعي لذلك لا يدل على تحديد سن الحضانة بهذه المدّة.
والراجح عندي أن الحضانة حق للأم. وهو حق يمتد حتى سن البلوغ، سواء كان صبيا أو جارية. والدليل على ذلك ما رواه أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي ( ص ) : " أنت أحق به ما لم تُنكح " فإذا نكحت فليس لها في حضانة ولدها. وهو ما خلاف فيه.
وقوله :( لا تكلف نفس إلا وسعها ) ( نفس ) نائب فاعل مرفوع. ( إلا ) أداة استثناء كفّها النفي عن العمل. ( وسعها ) مفعول به ثان منصوب والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. أي أن الأزواج ينبغي عليهم أن ينفقوا على الوالدات مما في مقدورهم وحسب طاقتهم من غير أن يرهقوا في ذلك عسرا٢.
وقوله :( لا تضار والده بولدها ولا مولود له بولده ) أي ليس للأم أن تأبى إرضاع ولدها على سبيل الإضرار والنكاية بأبيه. وعلى أية حال فإن عليها إرضاعه اللّبأ وهو اللبن الذي يدّره الثدي في الأيام الأولى من ولادة الطفل وليس له عنه غنى، وكذلك فإنه ليس للوالد أن يصدّ الأم عن إرضاع ابنها مادامت ترغب في ذلك، وذلك على سبيل الإغاظة المقصود لها.
وقيل في معنى آخر قريب مما بينا وهو أن الأم لا يحل لها أن تدفع عنها الطفل إلى أبيه قاصدة بذلك إضراره بإرهاقه وإشغاله بتربيته وتدبير شؤونه، ولا يحل للأب.
كذلك أن ينتزع منها الولد لمجرد الإضرار بها والإساءة إليها، فإن في تصرف الوالدين على هذا النحو ما يسيء إليهما ويضر بهما إضرارا. وهو إضرار متعمد ومقصود، وقد كانا في غنى عن ذلك لو حبسا عن أنفسهما الغضب وتشبثا بالصبر والعفو وسعة الصدر.
قوله :( وعلى الوارث مثل ذلك ) أي على وارث والد الطفل مثل ما على والد الطفل نفسه من وجوب الإنفاق على والدة الطفل وعدم الإضرار بها. وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض.
وقيل : المراد بالوارث هو وراث الصبي فيما لو مات. وهو يلزمه توفير الإرضاع للولد.
وقيل : المراد هم عصبة الأب فإن عليهم نفقة الصبي وذلك إذا توفي الأب نفسه.
وثمة أقوال مفصلة في هذه المسألة ندع للمستزيد فرصة الرجوع فيها إلى مواطنها من كتب الفقه.
قوله :( فإن أراد فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) الفصل معناه الفطام، والضمير في الفعل ( أرادا ) يعود على الوالدين. والتشاور هو أخذ المشورة للوقوف على الرأي المناسب النافع للطفل دون استبداد أحد الوالدين برأيه. فقد ذكرت الآية في مطلعها أن الرضاع بتمامه وكماله يكون في عامين كاملين، وما تجاوز ذلك فهو ضرب من العبث الذي لا يحرم النكاح، أما إذا اتفق الوالدان بعد تشاور منهما وتراض دون انفراد أحدهما برأيه على فطام الصبي قبل الحولين مادام ذلك نافعا له وفي مصلحته فهو جائز ولا بأس عليهما في ذلك.
قوله :( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ). المخاطب في الآية هم الوالدون والوالدات. والمعنى أنكم إذا أردتم لأولادكم الظئر لإرضاعهم، فلا بأس عليكم في تسليم الطفل واستلامه، إذ تسلّمه أمه لأبيه فيستلمه منها دون مغاضبة أو قصد لإضرار على أن يدفع لها أجرتها الماضية عن الإرضاع بالتي هي أحسن.
قوله :( واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) يحذّر الله عباده من مخالفة شرعه مما أمر به أو عند زجر، وليعلموا دائما أن الله خبير بأعمالهم رقيب عليهم في أحوالهم وأقواهم وتصرفاتهم فلا يخفى عليه شيء من ذلك٣.
٢ - تفسير النسفي جـ ١ ص ١١٨..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٨٤، ٢٨٥ وفتح القدير جـ ١ ص ٢٤٥ وتفسير النسفي جـ ١ ص ١١٨.
والمعنى أن الأزواج الذين يموتون ولهم زوجات على قيد الحياة فإن عليهن أن يعتددن مدة أربعة أشهر وعشرة أيام. حتى إذا تمت عدتهن هذه أبيح لهن بعد ذلك أن يتزين للنكاح إن أردن.
ويشمل هذا الحكم جميع الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن، فإن عليهن جميعا أن يعتددن المدة المبينة استنادا إلى عموم الآية الكريم التي لم تفرق بين مدخول بها وغير مدخول بها، فضلا عما ورد في ذلك من دليل السنة، فقد ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن امرأة قالت : يا رسول الله ! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ قال : " لا " مرتين أو ثلاثا ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة ".
أما المرأة المطلقة تكون حاملا فإن تمام عدتها بوضع حملها بغير خلاف ؛ لقوله تعال :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ).
لكن الخلاف في الحامل المتوفى عنها زوجها. فكيف تتم عدتها ؟ فثمة قولان في هذه المسألة :
أولهما : أن الحامل المتوفى عنها زوجها تتم عدتها بوضع حملها. وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء. واحتجوا لذلك بما ثبت في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية أنها سألت رسول الله ( ص ) عن ذلك- وهو أنها نفست بعد وفاة زوجها بليال- قالت : فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي. وكذلك يستدل لهذا القول بالآية الكريمة :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فإن هذه الآية محمولة في عمومها على الحوامل المطلقات والحوامل المتوفى عنهن أزواجهن.
ثانيهما : أن تمام عدّتها إنما يتحدد بآخر الأجلين. وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس، وهما في ذلك يبغيان الجمع بين قوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) وقوله تعالى :( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فإذا مكثت المرأة حتى أقصى الأجلين تكون قد عملت بمقتضى الآيتين. أما إن اعتدّت بوضع الحمل فذلك يعني أنها تركت العمل بآية عدة الوفاة. ومعلوم أن الجمع بين النصوص المتعارضة أولى من الترجيح بينها.
ذلك الذي ذهب إليه علي وابن عباس، لكنه معارض بقول الجمهور وما استندوا إليه من دليل، وهو الذي نعتبره راجحا والله أعلم.
ويستفاد من قوله تعالى :( فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ) وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها. فقد ثبت في الصحيحين أن الرسول ( ص ) قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ عل ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " على أن المراد بالإحداد ترك الزينة مثل الطيب والاكتحال ولبس المعصفر أو المصبوغ من الثياب الذي يلبس للزينة. ولا بأس في المصبوغ بالأسود ؛ لأنه لباس الحزن إلا أن يكون زينة قوم فتجتنبه ؛ لما فيه من ترغيب فيها للخاطبين، فإذا انقضت مدة الإحداد جاز لها أن تتزين بكل مظاهر الزينة في حدود الشرع مادمت راغبة في النكاح، وذلك هو المعروف الوارد في الآية١.
يخاطب الله في هذه الآية الرجال الذين يبتغون الزواج من النساء في حال عدّتهن من وفاة أزواجهن، فإذا رغب الرجل في نكاح المتوفى عنها زوجها أثناء عدّتها فإنه لا إثم عليه في ذلك إذا ما كان خطابه لها تعريضا لا تصريحا، والتعريض ضد التصريح، وهو أن يحتمل الخطاب أكثر من معنى، وذلك كالنكاح وغيره. وهو من العرض، وعرض الشيء جانبه لا وسطه، والمعرّض حين الخطاب إنما يحوم حول المقصود حوما من غير أن يخوض في صميمه. وبعبارة أخرى فإن التعريض يراد به التلميح لا التصريح١ ذلك إذا ما أراد الرجل أن يخطب المتوفى عنها زوجها أو المطلقة المبتوتة أثناء العدة لكل منهما. والتعريض بخطبة النساء أن يقول الرجل للمرأة على سبيل المثال : إني أبتغي الزواج من امرأة صالحة، أو : إنك امرأة صالحة، وددت أن يكتب الله لي واحدة مثلك، أو : إن لي حاجة في الزواج من الصالحات، أو : لا تسبقيني بنفسك، وغير ذلك من عبارات تحتمل أكثر من معنى، لكنها جميعا تأتي على سبيل التلميح بخطبة المرأة المتوفى عنها زوجها أو المبتوتة حال عدّتها، أما المطلقة طلاقا رجعيا فلا يجوز بحال أن يعرّض لها بخطبة ؛ لأنها لم تبرح كنف الزوجية مادامت في عدّتها، وليس لأحد من الرجال أصلا أن يخاطبها بتلك العبارات باستثناء زوجها الذي يستطيع مراجعتها في كل آن.
قوله :( أو أكننتم في أنفسكم ) ( أكننتم ) بمعنى أخفيتم، من الإكنان وهو الستر والإخفاء، والجملة معطوفة على نفي الحرج في التعريض بخطبة النساء. والمعنى أنه لا إثم عليكم ولا حرج فيما تخفونه في أنفسكم من الرغبة في خطبة المتوفى عنهن أزواجهن أو نكاحهن بعد انقضاء عدتهن.
وقوله :( علم الله أنكم ستذكرونهن ) الله يعلم أنكم ستذكرون أولئك النساء وذلك بألسنتكم أو في نفوسكم، سواء كان الذكر لهن في السر أو العلن. ومن أجل ذلك قد أباح الله لكم مراودتهن في الخطبة تعريضا لا تصريحا.
ثم حذر الله من مواعدة النساء المعتدّات من وفاة أزواجهن سرا. ومواعدتهن بالسر تشمل كل كلام محرّم أثناء الاعتداد، وذلك كالمواعدة على الزنا، أو إلزامها بميثاق على ألا تتزوج غيره، أو أن يقول لها : لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك.
ومثل هذه المواعدات حرام، إلا أن يكون القول معروفا وهو ما أبيح من التعريض وفي ذلك كله يقول سبحانه :( ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ) والاستثناء هنا منقطع. أي ليس لكم أن تخاطبوهن سرا لتنتزعوا منهن مواعدات محرّمة إلا أن تكون المخاطبة مباحة وهي الحديث إليهن تعريضا كما بينا.
قوله :( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) عقدة النكاح هي العقد بين الراغبين في التناكح والمؤلّف من ركنيه الإيجاب والقبول. ويراد بالكتاب العدّة. والمعنى أنه ليس لكم أن تعقدوا عقد النكاح على النساء المتوفى عنهن أزواجهن ولم تنقض عدّتهن بعد.
وقد وقع الإجماع على أنه لا يصح العقد على المرأة حال عدّتها، بل إن ذلك حرام قد نهى عنه الشرع. وإذا تزوج الرجل المرأة في عدتها ولم يدخل بها وجب فسخ العقد، ثم يكون الرجل بعد ذلك خاطبا من الخطّاب إن شاء وقيل إن التحريم يقع مؤبدا مادام العقد قد وقع أثناء العدّة وإن لم يتم الدخول، أما إذا وقع الدخول بعد العقد وفي العدّة وجب الفسخ أولا، ثم تحرم المرأة على التأبيد وهو ما ذهب إليه الإمام مالك مستندا في ذلك إلى ما قاله عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- : أيما امرأة نكحت في عدّتها، فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فُرّق بينهما ثم اعتدت بقية عدّتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطّاب، وإن كان دخل بها فُرّق بينهما ثم اعتدّت بقية عدّتها من زوجها الأول، ثم اعتدّت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدا.
لكن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنها لا تحرم على التأبيد، بل لمن دخل بها في عدّتها أن يخطبها بعد انقضاء عدّتها٢.
قوله :( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) يحذّر الله عباده مما يكنونه في ضمائرهم من نوايا، فإن عليهم أن يخافوه، ويحذروا عذابه وبطشه، وأن يتجنبوا ما نهاهم عنه، وأن يمتثلوا لما بيّن للناس من حدود.
ثم إن الله لا يريد للعباد أن يعيشوا مع اليأس أو يقطعوا مع الله حبل الرجاء، بل عليهم أن يعلموا أن الله جلت قدرته ( غفور حليم ) فهو غفّار للذنوب يتجاوز عن المعاصي والخطايا، وهو كذلك حليم، يتجاوز عن السيّئات، ويشمل العباد بأفياء رحمته التي وسعت كل شيء٣.
٢ - بداية المجتهد جـ ٢ ص ٤٠..
٣ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ١٩٢ -١٩٤..
تتضمن هذه الآية جملة أحكام فقهية تتعلق بالمطلقات وما لهن من حق الفريضة ( المهر ) والمتعة. ويتحدد ذلك كله في ضوء الحال التي عليها المرأة من الطلاق قبل المسيس أو بعده، ومن فرض المهر لها أو عدمه.
ويمكن القول إن المطلقات في هذا الشأن أربع :
الأولى : مطلقة مدخول بها ومفروض لها المهر، فهذه لها المهر كله بغير خلاف، وليس للزوج المطلق أن يسترد من مهرها المسمى شيئا حتى وإن كان الدخول لأدنى فترة من الزمن.
الثانية : مطلقة غير مفروض لها المهر، ولا مدخول بها، فإن لها المتعة وهي تعويض المرأة بشيء من المال تعطاه بحسب الحال من اليسار أو الإعسار الذي عليه الرجل.
الثالثة : مطلقة مفروض لها المهر، لكنها غير مدخول بها، فإن لها نصف ما سمّي لها من صداق. وذلك جاء قوله في الآية :( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ).
الرابعة : مطلقة مدخول بها لكنها غير مفروض لها المهر، فإن لها مهر مثلما كاملا ؛ لقوله تعالى في آية أخرى :( فما استمتعم به منهن فآتوهن أجورهن ). حتى إن الأئمة الثلاثة أبا حنيفة ومالك ابن حنبل ذهبوا إلى وجوب الصداق لها كاملا بمجردة الخلوة وإن لم يقع مسيس ( جماع ).
وقوله :( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) أي لا حرج عليكم في طلاق نسائكم ما لم تمسوهن أي تجامعوهن. وما، هنا شرطية، أي إن لم تمسوهن أو تماسوهن، وقيل : مصدرية ظرفية، أي مدة عدم مسيسكم، وقيل : اسم موصول ومعناه اللواتي، فيكون المعنى : لا حرج ولا إثم عليكم إن طلّقتم النساء اللواتي لم تمسّوهن ( تجامعوهن ) ولم تسمّوا لهن صداقا، وعليكم في هذه الحالة أن تعطوهن متاعا أو متعة، وقد قدّرها بعضهم بالخادم يستأجره الرجل، وقيل : أدنى المتعة ما كانت ثلاثة أثواب وأوسطها ما كان خمارا وجلبابا وثوبا، وقيل غير ذلك. والمقصود بالمتعة أن يكون فيها التطيب لنفس المرأة المطلقة غير الممسوسة والتي لم يذكر لها صداق، وأن يكون فيها كذلك التعويض عما أصابها من صدمة الفراق بما تستعين به على العيش بحسب الوضع الذي عليه الرجل، وذلك هو المعنى لقوله تعالى :( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) والموسع هو ذو اليسار والسعة. وقدره أي وسعه. والمقتر هو المقلّ أو قليل المال. فكل منهما يؤتي المطلّقة غير المفروض لها الصداق وغير الممسوسة متاعا بحسب حاله من اليسار أو الإعسار كما ذكرنا آنفا.
أما المتعة من حيث الحكم الشرعي فهي موضع خلاف. فقد هب فريق من أهل العلم وفيهم عبد الله بن عمر، وعلي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير، وغيرهم إلى أنها واجبة استنادا إلى ظاهر قوله تعالى :( ومتعوهن ) وهو أمر يفيد الوجوب.
وذهب آخرون من العلماء إلى أن الأمر هنا للندب لا للوجوب استنادا إلى قوله :( حقا على المحسنين ) ولم يقل على الجميع. والراجح عندي القول الأول ؛ لما بينّا من استناد إلى مقتضى الأمر في الآية.
وأما المراد بالنساء في قوله :( ومتعوهن ) فقد قيل : إنهن المطلّقات قبل الدخول وقبل فرض الصداق لها، فالمتعة لهن في هذه الحالة واجبة، أما في حق غيرهن فهي مندوبة. وهو ما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر والحسن البصري والشافعي وأحمد والحنفية.
وذهب الإمام مالك وأصحابه إلى أن المتعة مندوب إليها في كل مطلقة سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول، باستثناء المطلقة غير الممسوسة والتي فرض لها الصداق، فإن لها نصفه ولا متعة لها، وأما المطلقة غير المدخول بها والتي لم يفرض لها صداق، فإنها لا شيء لها غير المتعة وهو ما أجمع عليه العلماء.
وقوله :( متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) ( متاعا ) مفعول مطلق منصوب لفعل محذوف تقديره متّعوهن. والمعروف أي ما تعورف عليه وكان وسطا وهو الأمر يوافق ما عليه الشرع من دعوة للاقتصاد.
وقوله :( حقا ) صفة للمفعول المطلق ( متاعا ) وهو ما استدل به العلماء على وجوب المتعة. نقول : حققت عليه الأمر أو أحققته أي أوجبته عليه إيجابا.
وثمة مسألة. وهي إذا مات الرجل قبل أن يفرض لزوجته صداقا أو يدخل بها. فهي بذلك متوفى عنها زوجها دون مسيس أو مهر مسمّى. فقد ذهب العلماء من أصحاب الرسول ( ص ) إلى أن هذه المرأة لها مهر المثل وعليها العدة ولها الميراث. وهو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق والثوري. والدليل على ذلك عندهم ما ذكره الترمذي عن ابن مسعود : أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود : لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله ( ص ) في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود.
وذهب آخرون من أصحاب رسول الله ( ص ) منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر إلى أنه إذا تزوج الرجل امرأة ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا حتى مات، فإن لها الميراث وعليها العدّة ولا صداق لها. وهو ما ذهب إليه الشافعي أيضا، على أن مدار الاستدلال في هذه المسألة ينبغي أن يكون موقوفا على صحة خبر بروع وعلى تثبيته، فهو إن صح فلا مساغ عندئذ إلا الأخذ بالقياس كالذي ذهب إليه الآخرون.
ويتبين من هذه الآية كذلك أن المطلقة المفروض لها الصداق لا يثبت لها شيء من متعة مادامت غير ممسوسة. وليس لها في هذه الحال غير النصف من الصداق المسمى ؛ لأن المتعة إنما يختص بها من النساء المطلّقات من قبل المسيس ولم يفرض لهن فريضة كما بينّا في الآية السابقة.
ولكن فريقا آخر من العلماء قالوا : إن المتعة تجب لكل مطلّقة عموما استنادا لما سبق من آيات واردة في الأمر بالإمتاع على سبيل الوجوب.
وقوله :( إلا أن يعفون ) وذلك استثناء منقطع ؛ لأنه لا علاقة للعفو من الصداق بأخذه وليس أحدهما من جنس الآخر. و ( يعفون ) على وزن يَفْعُلْن أي يتركن والنون نون النسوة. والمعنى للآية أن المطلقة قبل المسيس والتي فرض لها الصداق تستحق من هذا الصداق نصفه على سبيل الوجوب لها إلا أن تعفو عن هذا الحق ( النصف ) أي تتركه للزوج تسامحا وكرما وعن طيب نفس.
وقوله :( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) ( يعفوا ) مضارع منصوب معطوف على يعفو الأولى. والذي بيده عقدة النكاح موضع خلاف، لكن الراجح أنه يراد به الزوج فهو الذي يملك أن يعقد النكاح وأن يهدمه، ويستدل على ذلك بما رواه الدارقطني مرفوعا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال : قال رسول الله ( ص ) : " وليّ عقدة النكاح الزوج " وروى الدارقطني أيضا عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة بني نصر، فطلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل إليها الصداق كاملا وقال : أنا أحق بالعفو منها. وتأول قوله تعالى :( أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح ) يعني نفسه. وقد سأل علي بن أبي طالب شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال : هو ولي المرأة. فقال عليّ : لا، بل هو الزوج. وذلك الذي عليه كثير من أهل العلم من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب. وقيل خلافا لذلك : إن الذي بيده عقدة النكاح وليّ المرأة كأن يكون أباها أو جدها أو أخاها أو من يكون إذنه ضروريا لنكاحها. وهو ما ذهب إليه فريق من العلماء منهم مالك، والشافعي في أحد قوليه، وذلك قول مرجوح، فإن الراجح أنه الزوج " لما بينّا من دليل.
وجملة المقصود في هذا الشأن أن المطلقة غير الممسوسة لها نصف الصداق إن كان مفروضا لها من قبل ؛ إلا أن تسخو فتتنازل عن حقها في هذا النصف للزوج وذلك من باب العفو والتسامح وكريم الخلق، أو أن يسخو الزوج فيتنازل عن حقه في النصف فيدفع لها المهر كاملا، وهو أمر متعلق بسمو الطبع وكريم الخلق لكل منهما، وهو فيه الثناء على الكريم منهما ما يجعله من المتقين، ولا جرم أن يكون في مثل هذا التنازل ما يسوق المتنازل الكريم منهما إلى التقوى، وفي ذلك يقول سبحانه مبينا مناشدا :( وأن تعفوا أقرب للتقوى ).
وقوله :( ولا تنسوا الفضل بينكم ) ( الفضل ) هو تواضع كل منهما وتنازله بسخاء عن شطر المهر للآخر. فقد تسخو المطلقة غير المدخول بها فتتنازل عن شطر المهر الذي تستحقه للرجل، وذلك فضل منها. وقد يسخو الرجل ليتنازل في خلق وإحسان عن الشطر الآخر للمهر فيقدمه لها كاملا وذلك فضل منه. وبذلك يكون الاثنان قد تعاملا بخلق كريم وإحسان واضح فلا ينبغي لهما أن ينسيا هذا الفضل، بل عليهما أن يذكراه ؛ ليظل مثل هذا التذكر سببا في استتباب الأخوة في الدين بينهما وألا يكون الفراق الذي حصل مثيرا للألم والكراهية بينهما. والله جلت قدرته مطّلع على حالهما، وكاشف لما يبيت في نفس كل منهما، فلا يخفى عليه شيء من ذلك ظاهرا كان أو مستورا ؛ ولذلك قال :( إن الله بما تعملون بصير ) ١.
أما الصلاة الوسطى فهي موضع خلاف العلماء سلفا وخلفا.
فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنها الصبح ؛ وتوجيه هذا القول أن ما قبلها صلاتا ليل يُقرأ فيهما جهرا، وما بعدها صلاتا نهار يُقرأ فيهما سرا. وكذلك فإن وقت الصبح يأتي والناس نيام فيجد الناس في أداء الصلاة في هذا الوقت مشقة وجهدا ؛ وذلك لشدة البرد في الشتاء وقصر الليل في الصيف.
وقيل : إنها الظهر ؛ لأنها وسط النهار. وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعائشة- رضي الله عنهم أجمعين-
وقيل : إنها المغرب ؛ لأنها متوسطة في عدد الركعات، فهي ليست بأقل الركعات ولا بأكثر ولا قصر لها في السفر وأنها قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر.
وقيل : إنها صلاة العشاء الآخرة ؛ لأنها تجيء في وقت من النوم يهجع فيه الناس، فأراد الله أن يؤكد على الاهتمام بها وعدم التفريط فيها.
وقيل : إنها العصر. وهو الذي مال إليه أكثر العلماء من صحابة وتابعين ومذاهب. فهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وحفصة وأم سلمة وابن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد ابن جبير وابن سيرين والحسن البصري، وهو مذهب أحمد بن حنبل والشافعي وأبي حنيفة وبعض المالكية. وقد استدلوا لذلك بجملة نصوص من السنة منها ما أخرجه أصحاب السنن عن علي قال : قال رسول الله ( ص ) يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء.
وأخرج الإمام أحمد بإسناده عن سمرة بن جندب أن رسول الله ( ص ) قال : " صلاة الوسطى صلاة العصر ".
وروى ابن جرير الطبري بإسناده عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله ( ص ) : " الصلاة الوسطى صلاة العصر " وأحاديث أخرى من طرق متعددة وكثيرة يمكن الاحتجاج بها على أن المراد بالصلاة الوسطى صلاة العصر.
وقوله :( وقوموا لله قانتين ) ( قانتين ) منصوب على الحال. والقنوت معناه الطاعة والخشوع والسكوت والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام١ والدعاء إلى الله في ضراعة وتذلل. وعلى هذا فمقصود الآية أن يدعو الناس ربهم في خشوع وتذلل، وأن يكونوا له طائعين مستسلمين ولأمرع وشرعه ممتثلين منفذين، وقيل : إن المراد بالقنوت في الآية السكوت في الصلاة. واستدل القائلون بهذا الرأي بأن هذه الآية نزلت في المنع من الكلام في الصلاة، فقد كان الكلام في الصلاة في صدر الإسلام مباحا، فقد روي عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نسلم على رسول الله ( ص ) وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، فقلنا : يا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا ؟ فقال : " إن في الصلاة شغلا ".
وروي عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ( وقوموا لله قانتين ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وجاء في صحيح مسلم أن النبي ( ص ) قال لمعاوية بن الحكم السلمي حسن تكلم في الصلاة : " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وكر الله ".
والذي نرجحه أن تكون الآية شاملة لكل هذه المعاني، فالمسلم مدعو أن يكون قانتا لله بكل ما يتضمنه القنوت من معنى. وهو مدعو كذلك أن يلتزم بالسكوت في الصلاة. وأيما كلام في الصلاة يفسدها إن كان ذلك عمدا ولغير حاجة ملحّة أو ضرورية.
أما إن كان الكلام في الصلاة لحاجة ملحة كأن يكون ذلك لإحياء نفس توشك أن تهلك فإنه جائز، فمن قطع صلاته لمثل هذا السبب كالذي يقطعها لينبه ضريرا مارا في الطريق ومن أمامه بئر يوشك أن يقع فيها فإن عليه أن يبني على صلاته ولا يستأنفها. وقيل غير ذلك.
وإن كان الكلام في الصلاة سهوا فإنه لا يفسدها، وهو ما ذهب إليه المالكية والشافعية خلافا للحنفية الذين ذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة سهوا يفسدها.
والراجح ما ذهب إليه المالكية والشافعية استنادا إلى قوله عليه الصلاة والسلام : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
ويستفاد من الآية كذلك وجوب القيام في صلاة الفرض إن كان المصلي صحيحا قادرا سواء كان إماما أو منفردا. ي قول الرسول ( ص ) في ذلك : " إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما ". وتفصيل ذلك في مظانّه من كتب الفقه.
والرجال جمع مفرده راجل أو رجل وهو الإنسان إذا عدم المركوب ومشى على قدميه. وعكس الرجال الركبان، وهو جمع مفرده الراكب، سواء كان المركوب من الخيل أو الإبل أو غير ذلك من المطايا أو ما كان من مستحدثات العصر كالسيارة أو الطيارة أو السفينة ونحو ذلك، والمراد أن الصلاة حين الخوف من العدو أو غيره لا مناص من أدائها ولا مجال للاعتذار عنها مهما تكن الظروف ومهما اشتدت الخطوب أو ادلهمّت. فإذا كان المسلم في ساعات الخوف، والتحم مع العدو التحاما جاز له أن يصلي ماشيا على قدميه أو راكبا، مستقبل القبلة أو مستدبرها. فقد كان عبد الله بن عمر إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، وهو ما رواه البخاري وفي رواية أخرى لمسلم عنه : فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء.
وجاء عن عبد الله بن عباس قال في هذه الآية : يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه.
وجاء عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال : إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه إيماء حيث كان وجهه فذلك قوله :( فرجالا أو ركبانا ).
وقال الأوزاعي في ذلك كلاما جيدا وهو : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرئ لنفسه، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا.
على أن سبب الخوف الذي رخّص فيه للمسلم أن يصلّي راجلا أو راكبا مستقبل القبلة أو مستدبرها، فموضع خلاف للعلماء، فقد ذهب الشافعي إلى أنه الخوف الذي سببه العدو. فإذا أطل العدو على المسلمين حتى تراؤوا فيما بينهم، أو جاءهم من يخبرهم بأن العدو قريب منهم وكان المخبر مصدوقا وموثوقا به جاز لهم أن يصلوا صلاة الخوف التي تضمنتها هذه الآية.
وذهب أكثر أهل العلم إلى أن سبب الخوف يستوي فيه أن يكون عدوا أو حيوانا مخوفا يريد أن يفترسه، أو سارقا أو متلصصا يريد سلبه وقتله. فإن ذلك كله يبيح للخائف أن يصلي صلاة الخوف المذكورة، وهو الذي نرجحه ونميل إليه استنادا إلى الظاهر من مطلق الآية التي لم تتقيد بسبب من أسباب الخوف.
وقوله :( فإذا آمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) أي إذا زال الخوف واطمأننتم وجب عليكم أن تذكروا الله بأداء الصلاة على وجهها الأكمل بما فيها من قيام وركوع وسجود وقعود وخشوع، وعليكم كذلك أن تبادروا بالشكر لله الذي هداكم لدينه، وعلمكم من الأحكام ما لم تكونوا تعلمونه من قبل، وشرع لكم من التيسير والتسهيل ما يدرأ عنكم كل حرج١.
ويعزز هذا التأويل ما ورد عن الرسول ( ص ) قوله : " إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأي الحول ".
وقوله :( وصية ) منصوب على تقدير فعل محذوف، أي فليوصوا وصية، أو وألزم الذين يتوفون وصية. وقرئت بالرفع على أنها مبتدأ لخبر محذوف. أي عليهم وصية. وقيل : الخبر لأزواجهم وقوله :( متاعا ) منصوب بوصية، أو بفعل محذوف. أي متعوهن متاعا. وقيل : منصوب على الحال.
وقوله :( غير إخراج ) أي ليس لأولياء الميت أن يخرجوها من البيت خلا الحول. و ( غير ) منصوب على الحال، أي متعوهن غير مخرجات. وقيل منصوب ؛ لكونه صفة للمتاع.
لكن النساء المتوفى عنهن أزواجهن، إذا خرجن من البيوت خلال الحول- سواء أوّله أو وسطه- فإنه لا إثم على الأولياء من هذا الخروج، وكذلك فإنه لا إثم عليهم إذا قطعوا عنهن النفقة للخروج ؛ ذلك أن الأولياء كانوا مكلفين بإسكانهن والإنفاق عليهن ما لم يخرجن. وفي ذلك جاءت الآية ( فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ) أي لا حرج ولا جناح على الأولياء في خروج النساء من البيوت أثناء الحول أو رغبن في النكاح بعد انقضاء عدتهن بالحول، وهو الذي يوافق الشرع. وذلك هو المقصود بقوله :( في ما فعلن في أنفسهن من معروف ).
قوله :( والله عزيز حكيم ) ذلك تهديد من الله وإخبار، فهو سبحانه يتوعد الذين يخالفون عن أمره بإخراج النساء المتوفى عنهن الأزواج من البيوت وقطع النفقة عنهن، وهو سبحانه حكيم فيما بيّن للعباد من شرائع وحدود وأحكام.
ثم إن الله يستنهض في المؤمنين المتقين همتهم النشطة في البذل والعطاء ؛ وذلك من أجل أن يسخوا كرماء، فيقدموا للمطلقات متاعا ؛ لذلك قال :( حقا على المتقين ).
على أن العلماء في قضية الإمتاع فريقان. فثمة فريق منهم ذهبوا إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخل، مفروضا لها الصداق أو غير مفروض، وذلك استناد إلى العموم في هذه الآية. وهو ما ذهب إليه الشافعي في أحد قوليه.
وذهب آخرون- وهو الراجح- إلى أن هذه الآية تفيد العموم ؛ لكنها خصصها قوله تعالى في الآية السابقة :( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) ويفهم من هذه الآية أن المتعة لا تكون إلا للمطلقات قبل المسيس ولم يفرض لهن صداق، وهو تخصيص للعموم الوارد في الآية التي نحن بصدد تفسيرها.
وفي كل ما يبينه الله للناس من الأدلة الواضحة والبراهين المكشوفة، وما أنزله في الكتاب من الدلائل والأمثال والمواقف والبينات، فإنه يجلّي فضل الله على العباد. وكان عليهم أن يذكروا ذلك وأن يشكروا لله ما تفضل به وأنعم ( ولكن أكثر الناس لا يشكرون ).
قوله :( واعلموا أن الله سميع عليم ) فلا تتذرعوا عن القتال بأية ذريعة فإن الله سامع ما تصطنعونه من احتجاج واهٍ أو ذريعة مزعومة، وهو سبحانه عليم بما تخفيه صدوركم من جنوح عن فريضة الجهاد، ومن رغبة للقعود عنها.
ومن طريف ما ذكر في هذا الصدد أنه لما أنزلت هذه الآية قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك، فناوله، قال : فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط ( البستان ) وأم الدحداح فيه وعياله فناداها : يا أم الدحداح. قالت : لبيك قال : اخرجي قد أقرضت ربي- عز وجل- حائطا فيه ستمائة نخلة. ومن رواية لزيد قال : قالت أم الدحداح : ربح البيع ! بارك الله فيما اشتريت. ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول :
بشَّرك اللهُ بخيْر وفَرحْ
--مِثْلُك أدَّى ما عليه ونَصَحْ
قد متَّع اللهُ عيالي ومنَحْ
-- بالعَجْوةِ السَّوْدَاءِ والزَّهْوِ البَلَحْ
والعبدُ يسعى وله ما قد كَدَحْ
--طولَ الليالي وعليهما اجْتَرَحْ
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي ( ص ) : " كم من عِذق رَادَاح ودار فَياح لأبي الدحداح " ١.
وقوله :( فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) بعد أن استنهض الله في المؤمنين همتهم ونخوتهم من أجل الإنفاق، وسمى ذلك إقراضا منهم له ؛ وذلك على سبيل التأثير في نفوسهم وبعض الشهامة فيهم وإثارة الحس فيهم والوجدان، بعد ذلك كله يبين الله للمؤمنين المقرضين أن لهم من الأجر أضعافا كثيرة قد تصل إلى سبعمائة ضعف. وفي مثل هذا يقول عز من قائل في آية أخرى :( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبات أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ).
وجاء في الخبر " النفقة في سبيل الله تضاعف إلى سبعمائة ضعف وأكثر ".
قوله :( والله يقبض ويبسط ) أي يمسك الرزق عمن يشاء من عباده ويؤتيه من يشاء فهو سبحانه المالك الرازق. وهذه حقيقة يجدر بالمؤمن أن يعيها ويستيقنها قلبه لكي يبادر بالإنفاق ساخيا، فلا يتردد ولا يخشى من ذي العرض إقلالا. وليعلم المؤمن كذلك أن ما أنفقه من خير لهو باق له في رصيد حسناته يجده مسطورا أمامه يوم القيامة ؛ ولذلك قال ( وإليه ترجعون ).
( الملأ ) اسم جمع ويراد به هنا القوم من بني إسرائيل. والله عز وجل يقص علينا من أخبارهم من بعد موسى عليه السلام إذ كانوا يطلبون من نبي لهم- قيل : اسمه شمعون، وقيل : شمويل أني عين لهم من أنفسهم ملكا يقودهم إلى حرب أعدائهم الذين أذلوهم واحتلوا ديارهم فسألهم نبيهم :( هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ) أي هل من احتمال في أنكم سوف لا تقاتلون عدوكم إذا ما فرض عليكم قتاله ؟ لكنهم أجابوا بصيغة الاستفهام الذي ينطوي على استنكار بما يؤكد على أنهم سيقاتلون عدوهم بغير تخلف أو إبطاء. هذا العدو الذي طردهم من البلاد فاستولى على الأموال وسبي الأولاد، وما أن كتب الله عليهم القتال حتى تخلف أكثرهم عن هذه الفريضة ولم يتصدّ لحرب العدو إلا الفئة المؤمنة الثابتة الصابرة، وفي ذلك يقول سبحانه :( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) ١.
قوله تعالى :( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) استجاب الله لنبي إسرائيل فبث منهم ملكا لهم اسمه طالوت. وهو من غير ذوي النسب والحسب، ولم يكن سليلا لملوك أو مشاهير، بل كان من الفقراء الأتقياء المتواضعين، لكن هذا التقدير الرباني الكريم أثار في نفوس بني إسرائيل الحسد فجنحوا كعادتهم إلى الحدي عن صراط الله والتمرد على أمره، وذلك لما قالوا :( أنى يكون له الملك علينا ونحن حق بالملك منه ) أي كيف لطالوت أن يكون ملكا علينا مع أننا أحق بذلك منه ؛ وذلك لعراقتنا وصلتنا بالملوك، وكذلك فإن طالوت لم يؤت سعة من المال حتى يتسنى له أن يكون ملكا علينا، وذلك هو تصور يهود للأمر، تصور قائم على الاعتبارات التي اختلقتها الأعراف الضالة، الأعراف التي لا تعبأ بالعقيدة الصحيحة المجردة، ولا تعبأ بالقيم والمبادئ الكريمة، وإنما تعبأ باعتبارات المال أو النسب أو الحسب أو غير ذلك من وجوه الشهرة والامتيازات الفاسدة.
لكن الله جل وعلا ردّ مقالتهم وتصورهم هذين ليبين لهم أن طالوت قد اختاره الله ملكا عليهم ؛ لما يتجلى في شخصه من مزايا تؤهله أن يسوس الناس. وقد ذكر الله من هذه المزايا اثنتين أساسيتين هما : البسطة في العلم، والبسطة في الجسم. وذلك ما يجعله الحاكم صالحا لهذه المهمة الكبيرة. فهو إذا كان ذا علم سديد نافع، وذا جسم متين قوي يكسبه المهابة وينتزع له من قلوب الناس ومشاعرهم مظاهر التقدير والإذعان والطاعة، فقد كتب له التوفيق والنجاح في حكمه.
ويقرر الله سبحانه أن يمتن بإعطاء الملك لمن يشاء من عباده. ويقرر سبحانه أن فضله واسع يعطيه من يشاء، وأنه سبحانه يعلم كيف يعطي المال والملك، فهو يعطي ذلك كله عن علم منه وحكمة ؛ لذلك قال :( والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) أي واسع الفضل والعطاء فيوسع به على من يشاء من عباده، وهو أيضا عليم بمن يصطفيه من عباده للملك.
فكل الذي نستطيع تحديده في الآية أن بني إسرائيل طلبوا من نبيهم أن يأتيهم ببرهان على أحقية طالوت في الملك، فأجابهم الله :( إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم ) ولا نتكلف الحديث كذلك عن ماهية التابوت وبداية خلقه ومراحل انتقاله في أسباط بني إسرائيل مما يولع بذكره كثير من المفسرين، وهم يغرقون في الإسرائيليات.
كل الذين نقوله إن هذا التابوت كان علامة صدق نبيهم الذي أعلمهم أن الله باعث لهم ملكا منهم اسمه طالوت ؛ ليكون قائدهم إلى النصر على أعدائهم. وكان التابوت كذلك علامة على أحقية طالوت في الملك، وأن هذا التابوت ( فيه سكينة من ربكم ) أي طمأنينة ووقار ورحمة، فكانوا إذا اصطحبوه في الحرب اطمأنوا وأحسوا بالراحة والشجاعة ثم الاندفاع في حرب أعدائهم غير خائفين.
وفي التابوت كذلك ( بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ) يراد بالبقية عصا موسى ورُضاضُ الأولاح أي حطامها وفتاتها، وبعض الأمتعة لآل موسى وهارون كالثياب وغيرها. كل ذلك تحمله الملائكة في التابوت لتضعه بين يدي طالوت والناس ينظرون.
وقوله :( إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) أي إن في إنزال التابوت وما فيه من سكينة وإيذان بالنصر لهو علامة بينة على صدق ما جاءهم به نبيهم وعلى أحقية طالوت في الملك. وذلك برهان صادق مشهور تستيقنه قلوب المؤمنين وعقولهم.
ولا يراد بذلك خروجهم من الإيمان أو الملة، بل خروجهم عن تمام الالتزام وعن كمال الإيمان، كقوله في الحديث : " من غش فليس منا " أي ليس على طريقنا وهدينا، وليس على كمال الإيمان وتمام الالتزام.
وقوله :( ومن لم يطعمه فإنه مني ) أي سيكون على طريقي وهديي، أو سيجاوز النهر معي من لم يطعم النهر. ويطعم معناه يذوق، لم يقل يشرب ؛ كيلا يكون في ذلك تكرار، بل قال يطعم وهو أقوم تعبيرا وأصح حديثا، ثم استثنى وقال :( إلا من اغترف غرفة بيده ) الغرفة منها الفعل غرف يغرف ومنها المغرفة. والغرف باليدين ملؤهما بالماء بعد ضمهما معا، لكن أكثر القوم سقطوا في الامتحان وانهارت عزائمهم لما رأوا الماء، فما احتملوا وما صبروا، فما لبثوا أن شربوا من النهر حتى ارتووا مخالفين أمر قائدهم، ولم يستقم منهم إلا قليل ممن آمنوا وصبروا وثبتوا على الحق ولم تتزعزع هممهم وعزائمهم أمام فتنة الماء البارد العذب حين العطاش الحارق الشديد، ولقد جاوز طالوت النهر ومعه القلة من المؤمنين حتى إذا رأوا جحافل العدو الكثيف الزاحف أمامهم ارتعدت قلوب فريق منهم وغشيهم الجزع ونادوا خائفين :( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) أي لا نقدر على الثبات في وجه هذا العدو الكثيف القوي، لكن الفئة الباقية الأخرى من المؤمنين الصابرين الثابتين على الحق تصدّوا لجالوت وجنوده، ومكثوا أمامه صامدين أقوياء، وهم في ذلك يستمدون العون والنصر من الله هاتفين في ثقة ويقين واستبسال ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) وهي حقيقة لا شك فيها. حقيقة تصدق على المؤمنين العاملين المخلصين المحتسبين الذين يمضون على طريق الله وعلى منهجه الحق في ثبات لا يتزعزع، وعزيمة مكينة صلبة لا تفتر. أولئك هم جنود الله من المؤمنين في كل زمان ومكان يظلون سائرين على صراط الله، لا يضرهم من خالفهم، وهم في ذلك صابرون حتى يكتب الله لهم النصر أو الشهادة.
لما كان المؤمنون في مواجهة جالوت وعساكره الكثيرين، دعوا هنالك ربهم دعاء المتوكل عليه المتوسل إليه، الضارع إليه من خضوع وتذلل ( ربنا أفرغ علينا صبرا وصبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) وذلك دعاء إلى الله أن ينزل عليهم من لدنه صبرا على المكاره وعلى شدائد القتال وأهواله، وأن يثبت أقدامهم في ساحات الحرب فلا يتزعزعوا أو يضطربوا ولا يَوْجلوا أو يفرّوا،
وقوله :( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( لولا ) أداة امتناع لوجود. ( دفع ) مبتدأ مرفوع ولفظ الجلالة مجرور بالإضافة. وخبر المبتدأ محذوف تقديره موجود. و ( الناس ) مفعول به للمصدر ( دفع ). ( بعضهم ) بدل من الناس، والهاء في محل جر مضاف إليه.
وأما المعنى المقصود بالآية فهو موضع تفصيل للعلماء والمفسرين. فقد قيل : إن المعنى : لولا أن الله يدفع بمن يصلّي عمن لا يصلّي وبمن يتقي عمن لا يتقي لهلك الناس بذنبهم.
وقيل : لولا دفاع الله المؤمنين الأبرار عن الفجّار والكفار لفسدت الأرض، وفسادها هلاكها، واستند القائلون بذلك إلى ما روي عن النبي ( ص ) قوله : " إن الله ملائكة تنادي كل يوم : لولا عباد ركّع، وأطفالٌ رضّع، وبهائمُ رتّع لصُبّ عليكم العذاب صبَا ". وغير ذلك من أحاديث تحمل مثل هذا المعنى.
وقيل : لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا، والذي نختاره ونرجحه ما ذكر عن ابن عباس في تأويل هذه الآية إذ قال : ولولا دفع الله العدو بجنوده المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد.
ومما هو معلوم أن الله شرع القتال ؛ لإظهار الحق وإزهاق الباطل، وليجعل منه وسيلة إحقاق للعدل وترعيب للظالمين والمشركين الذين يعتدون على الله في دينه وشرعه وحدوده ؛ ولذلك قال سبحانه معقبا بعد أن قرر تشريع القتال ؛ كيلا يستشري الباطل والشر وتفسد الأرض :( ولكن الله ذو فضل على العالمين ) لله المنّة والفضل أن شرع للمؤمنين القتال، ليرسخوا قواعد الحق والخير والعدل في الدنيا، وليجتثّوا من هذه الأرض كل أسباب الشر والفساد، ولكي يأتوا على المجرمين والأشرار الذين لا يجدي معهم غير سبيل القوة والعنف والتدمير.
لكن كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية التي يظهر فيها التفضيل بين الأنبياء والرسل، وما جاء في عدّة أحاديث عن الرسول ( ص ) ينهى فيها عن التفضيل بين النبيين، ومن جملة ذلك الحديث : " ولا تفضلوا بين الأنبياء " أو الحديث : " لا تخيّروا بين الأنبياء " وأحاديث أخرى شبيهة بذلك.
يمكن الجمع بين الآية والأحاديث للخروج من التعارض الظاهر، هو القول بأن النهي عن التفضيل بين الأنبياء لا ينبغي أن يُفهم على ظاهره الحرفي أو حقيقته النصية. والصواب في ذلك أن يقال إن النهي جاء على سبيل التواضع من الرسول ( ص ).
وقيل : إن هذا النهي قد جاء في حال من الشجار والتنازع بين بعض من المسلمين وأهل الكتاب حول حقيقة النبي الأفضل. فإن كان كل فريق مستمسكا برأيه في النبي الأفضل، وكان ذلك مدعاة للتخاصم والصخب، فلا داعي لهذا التفضيل خصوصا إن كان مثل ذلك التفضيل يساق على سبيل العصبية. وقيل غير ذلك.
وقوله :( وآتينا عيسى ابن مريم البينات ) أي البراهين والدلائل التي تكشف لبني إسرائيل عن صدق نبوته وما جاءهم به من كتاب منزل كريم.
قوله :( وأيدناه بروح القدس ) ( القدس ) الطهر. والمراد بروح القدس هذا الملك الهائل الكريم الطاهر، الملك الخاشع لله، والمبادر دون وناء لطاعة ربه وتنفيذ ما يناط به من أوامر، إنه الوحي جبريل عليه السلام، قد أيد الله به نبيه وروحه عيسى المسيح عليه السلام.
قوله :( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ). تدل الآية على حدوث اقتتال بين الناس بعد كل نبي، وذلك بعدما جاءهم من الله برهان ودليل يكشف لهم عن وجه الحق ويحذرهم من الشر بكل صوره وهيئاته. وما كان اقتتال كل أمة فيما بينهما إلا بالباطل وابتغاء للدنيا، وما فيها من شهوات ولذائذ وحطام.
على أن هذا الاقتتال بين الناس بعد كل نبي ليس بخارج عن سلطان الله وهيمنته فإن الله قادر أصلا أن يحول دون هذا الاقتتال ولكنه سبحانه حد لعباده حدودا كيلا يعتدوها، وألزمهم بفرائض ليس لهم أن يضيعوها أو يفرطوا فيها، وشحنهم لطاقة العقل والإرادة ما هو كفيء لمقتضيات الحياة والعيش في هذه الدنيا. فإذا زاغوا ومالوا عن صراط الله ومنهجه الحكيم كان من الحق والعدل أن ينالوا من الجزاء ما يكون لهم وفاقا.
أجل، إن الناس قد اختلفوا بعد الذي أنزل عليهم من كتاب فيه الهداية والنور فتفرقوا مناحي شتى، وتمزقوا في الأرض إلى ملل ومذاهب وتصورات كلها باطل سوى الملة التي جيء بها على ألسنة النبيين المرسلين ؛ ولذلك قال سبحانه :( ولكن اختلفوا فيمنهم من آمن ومنهم من كفر ). مع أن الله قادر- لو شاء- على ألا يكفر هؤلاء الناكبون الغاوون ولله في مقاديره وما أراد حكمة ومراد قد نهتدي للوقوف عليهما وقد يعز علينا ذلك ؛ لذلك يقول سبحانه :( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ).
وقوله :( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) وذلك تحضيض من الله لعباده المؤمنين من أجل المسارعة في الإنفاق قبل أن تفجأهم القيامة. وإذ ذاك تتبدل الحال غير الحال، فلا بيع حينئذ ولا شراء ولا غير ذلك من تصرفات تعارف عليها الناس في حياتهم الدنيا، إنه ليس إذ ذاك إلا الهلع والوجل وبلوغ القلوب الحناجر ؛ لفرط الرهب والخوف ولهول المنظر الواقع المشهود.
وكذلك فإنه لا ( خلة ) أي صداقة ومنها الخليل أي الصديق، والجمع أخلاء. وخلّة بالفتح بمعنى الفقر والحاجة. وتأتي الخُلّة مضمومة أيضا ومعناها ما خلا من النبت. والخِلّة بالكسر بمعنى الخصلة، أو ما يبقى بين الأسنان. والجمع خلال. والمقصود أنه إذا كانت القيامة فإنه لا تنفع أحدا صداقة صديق إذا أبطأ به عمله، وكذلك فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين ؛ فلا شفاعة حينئذ إلا لمن جعلت له تشريفا من الله.
وقوله :( والكافرون هم الظالمون ) ( الكافرون ) مبتدأ. ( هم ) ضمير الفصل. ( الظالمون ) خبر، وقيل :( الكافرون ) مبتدأ أول. ( هم ) مبتدأ ثان. ( الظالمون ) خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. هذه الجملة غاية في روعة التركيب والمدلول ؛ لما فيها من حصر للمبتدأ في خبره، فيكون المعنى أنه ليس من ظالم أشد ظلما من الكافر. ومن لطيف ما ورد عن عطاء بن دينار في هذه الآية قوله : الحمد لله الذي قال :( والكافرون هم الظالمون ) ولم يقل :( والظالمون هم الكافرون ) ولو قال ذلك لكان كل من ارتكب ظلما كافرا. وذلك غاية في الحرج والعسير.
فقد أخرج الإمام أحمد بإسناده، عن أبيّ بن كعب أن النبي ( ص ) سأله : أي أية في كتاب الله أعظم ؟ قال : الله ورسوله أعلم. فرددها مرارا ثم قال : آية الكرسي. قال : " لينهك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ".
وفي حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءة آية الكرسي بعد الصلاة المكتوبة قال : قال رسول الله ( ص ) : " من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ".
وعن أبي ذر قال : سألت رسول الله ( ص ) : أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم ؟ فقال :( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ).
وروى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أن رسول الله قال : " سورة البقرة فيها آية سيد آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي ".
قوله :( الله لا إله إلا هو ) لفظ الجلالة مبتدأ. ( لا ) نافية للجنس، ( إله ) اسمها، وخبرها محذوف تقديره موجود أو معبود. ( إلا ) أداة حصر. ( هو ) ضمير الشأن في محل رفع بدل من خبر لا المحذوف. والجملة الاسمية من لا واسمها وخبرها في محل رفع خبر المبتدأ الأول ( لفظ الجلالة ).
وهذه أولى الكبريات من الحقائق، يبين الله فيها تفرده المطلق بالإلهية وأنه جلّت قدرته الإله الخالق للعالمين، وأنه ليس في هذا الوجود من إله خالق مبدع مسيطر إلا هو. سبحانه في ملكوته وجبروته تقدّس في سمائه وعليائه.
وقوله :( الحي القيوم ) الحيّ نعت للفظ الجلالة ( الله ). وقيل بدل من الضمير ( هو ) الله جلّت قدرته حيّ في نفسه وهو الذي يبعث الحياة ويهبها للكائنات لتنبعث فيها الحركة والإحساس والنشاط. وهوس بحانه لا يموت ولا يسهو ولا تأخذه غفلة. وهو ( القيوم ) من الفعل قام يقوم. ويرادفه القوام أو القيام أو القيم، وهو الذي لا ند له من أسمائه عز وجل. ومعناه : القائم بتدبير الكون والخلائق، المتصرّف في الوجود كله كيفما شاء١.
وقوله :( لا تأخذه سنة ولا نوم له ) السنة بكسر السين، أصلها الوسنة حذفت الواو فصارت سنة. يرادفها الوسن أي النعاس وهو أخف من النوم. فالنعاس نوبة من استرخاء وفتور تصيب الإنسان ليجد أنه راغب في النوع، نفسه حالة من غياب الشعور والذهن تعقب النعاس٢.
والله جل جلاله منزّه عن معالم الضعف والنقص التي تمتزج بطبع الإنسان وتكوينه النفسي والعصابي والبدني، وذلك كالإحساس بالنعاس والجنوح للنوم إخلادا للراحة. فإن الله سبحانه لا يعتريه شيء من ذلك فهو القائم على الخلق مدبّرا أمرهم متصرفا في مقاديرهم. وقد جاء في الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله ( ص ) بأربع كلمات فقال : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ".
وقوله :( له ما في السماوت وما في الأرض ) ( له ) جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم، ( ما ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ. وما، مع أنها لغير العاقل لكنها والاسم الموصول " من " يتعاقبان في القرآن من حيث الاستعمال في العاقل أو غيره.
والآية إخبار كبير بأن الله له الربوبية المطلقة في هذا الوجود ؛ فهو الذي يملك كل ما في الكون من كائنات وأشياء، فلا يندّ عن سلطانه وملكوته شيء مما خلق سواء في الأرض أو في السماء.
وقوله :( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( من ) اسم استفهام في مجل رفع مبتدأ. ( ذا ) اسم إشارة في محل رفع خبر. ( الذي ) اسم موصول في محل رفع نعت للخبر، وقيل بجل منه.
في هذه الآية إنكار لشفاعة الشافعين باستثناء فريق من البررة والأطهار أذن الله لهم بالشفاعة للعصاة والآثمين والمفرطين من الناس. وجملة الشافعين الذين أذن الله لهم أن يتشفعوا يوم القيامة للمقصرين يأتي في طليعتهم النبيّون وهم خير البرية وأشرع العباد، ثم الصدّيقون وهم المقربون والأبرار من عباد الله المؤمنين، ثم العلماء الذين انقطعوا للعلم وتشره بين الناس ؛ ليبصّروهم بتعاليم الله ؛ وليكشفوا للبشرية عن وجه هذا الدين وما فيه من إشراق وكمال وجمال، ثم الشهداء وهم الذين باعوا أرواحهم في سبيل الله فآثروا الرحيل عن هذه الدنيا لتبقى من بعدهم عقيدتهم والأوطان والديار والكرامة، لا يبتغون من ذلك كله غير مرضاه الله.
على أن الشفاعة من الأبرار والمقربين لا تنبغي إلا لمن يشاء الله ويرضى، فهي أساسها أن يأذن الله بها لمن يريد من عباده المقربين وفي ذلك يقول سبحانه في آية أخرى :( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) وكذلك قوله :( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ).
قوله :( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) ( ما بيت أيديهم ) أي قبلهم. ( وما خلفهم ) أي بعدهم. نقول : من بين يدي أي من أمامه. ومن خلفه أي من ورائه. والمراد أن الله تباركت أسماؤه محيط علمه بالكائنات كلها، سواء فيها ماضيها أو مستقبلها. والضمير في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) يعود على كل عاقل مما في السماوات والأرض. وقيل :( ما بين أيديهم ) والمقصود به الدنيا. ( وما خلفهم ) المقصود به الآخرة.
وقوله :( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما يشاء ) أي لا يطلع أحد على شيء من علم الله المبثوث في مناحي الكون وفي أطرافه إلا أن يشاء الله إطْلاعه على ذلك، فكل علم كيفما كان مقداره أو نوعه إن هو إلا جزء من علم الله المطلق الذي لا يحده حد، فالله مالك كل شيء، وهو مالك لأرجاء الكون وما ينتشر فيه من علوم، فلله المشيئة الكاملة في أن يهب بعض علمه لمن أراد من الناس أو يحجبه عنهم.
وقوله :( وسع كرسيه السماوات والأرض ) نمسك عن الخوض في حقيقة الكرسي من حيث ماهيته وطبيعة استعماله، وما ندركه من ظاهر هذا النص الكريم وغيره من النصوص أن الكرسي خلق هائل عظيم من خلْق الله، وأنه أكبر من السماوات والأرض ودون العرش الذي جعله الله آية قدرته وهيمنته وعظيم سلطانه. فقد ورد عن أبي ذر الغفاري –رضي الله عنه- أنه سأل النبي ( ص ) عن الكرسيّ فقال رسول الله ( ص ) : " والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة ".
وجاء عن ابن عباس قوله : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلت بعضهن إلى بض ما كنّ في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة قي المفازاة.
وقوله :( ولا يؤوده حفظهما ) ( يؤوده ) فعل مضارع مرفوع. نقول آد يؤود أودا. والأود معناه الإثقال بكسر الهمزة. والهاء في ( يؤوده ) ضمير متصل في محل نصب، مفعول به، وهو عائد على الله سبحانه وتعالى. ( حفظهما ) فاعل مرفوع. والضمير هنا في محل جر مضاف إليه أي أن الله عز وعلا لا يثقله ولا يعجزه أن يحفظ السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما. فهو سبحانه حافظ لكل شيء، مريد قادر على كل شيء. وما من خليقة ولا تقدير ولا نظام في السماء أو في الأرض إلا هو كائن بمشيئته وحده. فالله جل ثناؤه العظيم في علاه حتى ما يكون من شيء إلا هو حقير هيّن يسير بين يديه، وهو سبحانه الأكبر من كل كبير، حتى ما يكون من عظيم في السماء أو في الأرض إلا هو فقير إليه، صغير بين يديه ؛ لذلك قال سبحانه في الآية :( وهو العلي العظيم ) ولا ينبغي أن يفهم من ذلك علوّ المكان فإنه سبحانه منزه عن التجسيم أو التحجيم في حيّر، بل المقصود علوّ المكانة والمنزلة وارتفاع الشأن وبلوغه٣.
٢ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٧٧..
٣ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ٤-٩ وتفسير القرطبي جـ ٣ ص ٢٦٩ – ٧٧ ومختار الصحاح ص ٣٢..
هذه الآية تتضمن قاعدة كبيرة من قواعد هذا الدين. وهي قاعدة مبعثها التقدير والإجلال للكتب والأديان السماوية التي جيء بها عند الله. ومبعثها كذلك رفض القسر والإكراه أن يكونا سبيلا لحمل الناس على الإيمان أو الالتزام بعقيدة الإسلام.
وعلى ذلك فغنه لا ينبغي للمسلمين أن يستكرهوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى على الدخول في الإسلام قهرا، فقد استبان الرشد وهو الهداية وطريق الله المستقيم ومنهجه الحق، واستبان كذلك الغيّ وهو الضلال وما يندرج فيه من مبادئ الكفر ومذاهب الباطل وفلسفات الفساد والعمَهْ.
بعدما تميز الحق من الباطل، وحصحص الهدي ساطعا بلجا فإنه لا مساغ حينئذ للمسلمين أن يكرهوا الكافرين على الإيمان إكراها، فإن الإكراه في مثل هذا الأمر لا يجدي ولا يأتي بخير ولا يفضي بالإيمان إلى القلوب عن طواعية واستسلام، ولا بالقناعة والفكر إلى الأذهان والتصوّر عن تصديق وتثبّت ويقين.
إن الإسلام دين واضح متميز قائم على قواعد متينة من العقيدة الثابتة الصلبة، وعلى قواعد من القناعات والأفكار والتصورات التي تتحقق عن طريق الحجة الدامغة المكشوفة والمنطق القوي المستبين. فلا داعي بعد ذلك أن يُحمل الناس على الإيمان قسرا وقهرا ؛ لأن ذلك سبيل الفارغين القساة الذين يقيمون حياتهم في الفكر أو الرأي أو المبدأ على أساس من التعصب الضيّق والأنانية المقيتة المنكمشة والتسلط الظالم الغاشم.
وثمة رأي ضعيف مرجوح حول هذه الآية بأنها منسوخة نسختها آية التكليف بمجاهدة الكفار والمنافقين، فضلا عن إكراه النبي ( ص ) العرب المشركين على الإسلام وقتالهم دون أن يرضي منهم غير الدخول في الإسلام. والصحيح أن هذه الآية غير منسوخة، بل إنها نزلت في أهل الكتاب خاصة. وهم لا ينبغي إكراههم على الإسلام إذا أدوا ما عليهم من جزية. والذين يُكرهون على الإسلام أو القتال دون قبول الجزية منهم هم عبدة الأوثان أو من كان على شاكلتهم من ملحدين وإباحيين. وأولئك لا يستوجبون التكريم والاعتبار ؛ لأنهم باتوا بوثنيتهم وإلحادهم أولي عقول معطلة، وطبائع شاذة لا يروق لها غير الحماقة والضلالة والسفه.
وقوله :( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) من اسم شرط مبني على السكون. ( يكفر ) فعل الشرط. ( فقد استمسك ) جواب الشرط، والفاء مقترنة به. والطاغوت من الفعل طغى يطغى، وهو مأخوذ من الطغيان، والطاغوت الكاهن والشيطان. وكل رأس في الضلال. وجمعه طواغيت وينسحب الطاغوت من حيث المراد به ليشمل كل سبب جرّ طغيانا. أو ما كان فيه إطغار للآخرين وإبعادهم عن صراط الله المستقيم. وذلك كشياطين الجن والإنس، ثم الأوثان التي يتصور المخدوعون جدارتها أو قدسيّتها سوء كانت الأوثان من الأحجار أو الأموال أو الحكام والساسة أو غير ذلك مما خلا الله سبحانه.
والآية تقرر في وضوح قاطع أن من ندّد بتلك الطواغيت ثم حاربها وأعرض عنها مع الإيمان بالله إلها خالقا قادرا منفردا بكل خصائص الإلهية والربوبية فقد اعتصم ( بالعروة الوثقى ) وهي الإسلام. ذلك الدين القويم المتين الكامل الذي جعله الله شريعة للناس يهتدون بهديه في هذه الدنيا. والتعبير بالعروة يشي بقوة هذا الدين وصلابته وكماله. يعزز ذلك قوله تعالى :( لا انفصام لها ) أي أن هذا الدين في قوته ومتانته وصلابته وتماسكه وكماله أشبه بالعروة القوية من الحديث الصلب الذي لا يقبل الانكسار أو التهشيم.
قوله :( والله سميع عليم ) الله جل جلاله يسمع ما تنطق به الشفاه والألسن، ويعلم ما تكنّه القلوب والنوايا من معتقدات ومكنونات وأسرار.
والله جل وعلا ناصر المؤمنين بما أنزل عليهم من كتاب فيه منهج الحق والعدل، وفيه من التبصرة لهم والهداية ما يخرجهم من الظلمات وهي ضروب الكفر والضلال حيث يتخبط الناس ويتيهون، وحيث تشتط البشرية وتضطرب ثم تهوي، إلى النور وهو الإسلام، دين الله ومنهجه إلى الإنسانية لتعيش في خير وراحة وأمن ولتظل في منجاة من التعثر والغواية والضياع.
ونقيض هذه الولاية الكريمة الراشدة، تلك الولاية المضللة التي يخدع بها الشياطين أتباعهم من الكافرين ؛ ذلك أن الشياطين المتمردين من الإنس والجن يخادعون كثيرا من الناس ؛ إذ يسوّلون لهم مناهج الكفر ويجتالونهم عن منهج الله بعد أن يضلّوهم ويغرروهم تغريرا وذلك إخراجهم لهم من النور وهو الإسلام إلى الظلمات وهي الكفر بكل أشكاله وصوره وضروبه، ومن طريف ما جاء في هذه الكلمات الربانية إفراد النور وجمع الظلمات، ومبعث ذلك أن النور وهو الحق واحد، أما الظلمات وهي الكفر فهي كثيرة متعددة بتعدد ألوان الكفر وصوره. كصورة الكفر في الجاهلية العربية الأولى أو ما قبلها من جاهليات كافرة خلال الأزمنة الغابرة، وكذلك صورة الكفر في الصهيونية الماكرة المتآمرة على الإسلام والبشرية جمعاء، ثم صورة الكفر في الشيوعية الملحدة الخبيثة، ثم صورته في الفلسفة الوجودية حيث الإلحاد واليأس والتمييع، ثم الرأسمالية التي تجعل من المال إلها معبودا، وغير ذلك من صور الكفر التي تغطّي وجه الأرض والتي ينفثها الشياطين بألسنتهم وأقلامهم وإيحاءاتهم ؛ ليخرجوا بها الناس من النور وهو طريق الله إلى الظلمات وهي الكفر على تعدد صوره كما بينا.
ثم يبين الله أن هؤلاء الفاسقين عن أمر الله والذين أولياؤهم الطاغوت مردهم العذاب الشديد وهي النار المحرقة ليبوءوا بها وليكونوا أصحاب خالدين. وفي هذا يقول سبحانه :( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ).
وقوله :( إذ قال إبراهيم رحبي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت ) ساق إبراهيم هذه الحدة ليبرهن لنمروذ على يقينية الوجود لله وعلى عظمته وجلاله وسلطانه، فالذي بيده الإحياء والإماتة لهو إله خالق مطلق الإرادة والمشيئة، لكن الطاغية المتأله نمروذ لا يتورع أن يجحد ويتمرد ويستكبر هو يبادر في غرور لجوج وفي عماية مطبقة ليزعم أنه قادر على الإحياء والإماتة. وقد ذكر كثير من المفسرين والشرّاح أن نمروذ كان يقصد بذلك أن يعفو عن المدان بعد تجريمه وذلك إحياء له. أما إن قتله فلا يعني بذلك إلا أنه أماته بمشيئته وإرادته.
حتى إذا استبان لإبراهيم عُقم الاحتجاج المعتبر، وأن هذا الملك الجاحد الطاغية لا يعرف المنطق والبرهان إلى ذهنه وبصيرته سبيلا، بادر إلى مساءلته بما يتحداه ويحرجه إحراجا لا يجد معه مجالا للمواربة أو طول الجدل، فقال الله حاكيا عن إبراهيم في هذا الصدد :( قال لإبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بها من المغرب ) ذلك تحدّ صارخ مؤنس لنمروذ أن يأتي بالشمس من المغرب حال طلوعها خلافا لتقدير الله سبحانه ؛ إذ يأتي بها من المشرق. وهنا ينكشف التمحل والاصطناع، ويتبدد الزيف والمراوغة، ويستبين الضعف الذي يركب طبيعة الإنسان ( فبهت الذي كفر ) وبهت كلمة جامعة، وهي بحث تعبّر عن المقصود أكمل تعبير. وهي تتناول كل معاني الدهشة والحيرة والإحراج والانهزام والتقهقر والارتباك.
قوله :( والله لا يهدي القوم الظالمين ) لا يجعل الله لمثل هؤلاء الكفرة المشركين حجة و برهانا يوثق مزاعمهم، بل إن احتجاجهم وما يصطنعونه من برهان لهو دائما مكذوب وداحض.
والقرية كمن قرى يقري أي جمع يجمع. قريت الماء جمعته، وسمّيت القرية بذلك لاجتماع الناس فيها١. ولم تذكر الآية ماهية القرية المقصودة ولا الذي مر عليها. مع أن أكثر العلماء يقولون إن القرية هي بيت المقدس، والذي مر عليها هو عُزير وهو من علماء بني إسرائيل.
لقد مر العزير – أو غيره- بمدينة بيت القدس فألفاها ( خاوية على عروشها ) وخاوية من خواء وهو الخول. نقول خوت الدار فهي خاوية إذا خلت من السكان وخواؤها على عروشها أن تكون سقوفها وجدرانها ساقطة قد أتى عليها الهدم والتدمير. ولدى رؤية عزير ذلك الخواء والخراب وقف مدهوشا مذهولا وقال :( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) أي كيف لهذه القرية المتهدمة المندثرة ذات الأشلاء والركام والدثور أن تنبعث فيها الحياة من جديد ؟ وهو في مقالته هذه ليس مرتابا في حقيقة البعث والنشور وإحياء الموتى. ذلك أن الذي مر على القرية مؤمن بمثل هذه القضايا الأساسية، لكنه قال قولته هذه على سبيل التعجب والدهش لقدرة الله البالغة ؛ إذ يبعث الموتى لينقلبوا أحياء بعد تمزق وتناثر وشتات.
وقوله :( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) أماته فعل ماض والضمير المتصل في محل نصب مفعول به ولفظ الجلالة فاعل. ( مائة ) منصوب على الظرفية الزمانية. ( عام ) مضاف إليه مجرور. والعام معناه الحول أو السنة. والمراد هو الأهم أن الله جل وعلا قد أماته، وذلك بالتفريق بين جسده وروحه استنادا إلى ظاهرة العبارة القرآنية، ثم رد الله إليه روحه بعد مائة عام فنهض حيا يتحرك ويعي.
قوله :( قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام ). ( كم ) في محل نصب ظرف زمان، وقد اختلفوا في حقيقة السائل فقيل : إن الله جل وعلا. وقيل : كان السائل جبريل عليه السلام وقيل غير ذلك، لكن المهم أن هذا الرجل الذي أماته الله ثم بعثه قد سئل عن حجم المدة التي لبثها في رقدته الطويلة هذه فأجاب بأنها كانت ( يوما أو بعض يوم ) فجاء الرد قاطعا حاسما ينطق بالحدث الهائل الذي يكشف عن معجزة ربانية لا يقوى على مثلها إلا الله، وهو القادر القاهر المالك الذي لا يعز عليه شيء، ولا يستنكف عن أمره وتقديره أحد ( قال بل لبثت مائة عام ) ولكي تكتمل المعجزة وتتضخم أبقى الله طعامه وشرابه على حالهما من الصلاح : فلم يأت عليهما الفساد والتسنّة، فقال سبحانه :( فانظر إلى طعامك وشرابك لن يتسنه ) من السنّه وسمي بذلك ؛ لأنه لم تغيّره السنون والأعوام والتسنه، التكرج الذي يقع على الخبز والشراب وغيره. يقال خبز متسنه٢.
ثم يبين الله لعبده الذي استحياه بعد ما أماته كيف ينشر الحياة في حماره بعد أن استجمع أعضاءه واحدا بعد آخر ما بين عظم ولحم وعصب ودم. وفي هذا الإحياء تبيان من الله لهذا العبد أنه سبحانه لا يعز عليه إحياء الموتى، وأن ذلك عليه يسير، فقال سبحانه :( وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) ( ننشزها ) من النشز وهو الرفع. ومنه المرأة الناشز أي التي ترتفع عن طاعة زوجها مستنكفة. وبذلك فالمراد أن الله سبحانه وتعالى يبين لهذا العبد الصالح عملية الإحياء وذلك بإنشاز العظام وهو أن يرفع بعضها على بعض حتى إذا اكتمل جمعُها كسبت باللحم ليتم التركيب ثم الإحياء.
وقوله :( فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) عندما عاين قدرة الله في إحياء الميت وهو الحمار أعلن وأقر أن الله على كل شيء قدير. ولا ينبغي أن يفهم أن هذا الإقرار كان بعد نكران أو شك، بل إنه إقرار على سبيل الطمأنينة واليقين اللذين تحققهما المعاينة المشهودة. فما كان هذا العبد إلا مؤمنا مستيقنا قد ازداد بالمعاينة والحس ثقة وإيمانا.
٢ -- القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٨٨ ومختار الصحاح ص ٣١٨..
أما سؤال إبراهيم ( كيف تحي الموتى ) لا يحمل أية دلالة على الشك في ذهنه عليه السلام، بل إن الاستفهام بكيف- كما هو معلوم- إنما هو سؤال عن أمر موجود ومتقرر بالفعل لدى كل من السائل والمسؤول. وعلى هذا فالسؤال بكيف يأتي استفهاما عن هيئة الإحياء الثابت المتقرر.
وقوله :( أو لم تؤمن ) أي بقدرتي على الإحياء. وقد سأله ذلك مع علمه أن إبراهيم مؤمن وأنه ما كان شاكا. وإنما كان سؤاله له ليبين للناس أن غرض إبراهيم أن يستزيد إيمانا وأن يترقى من يقين إلى يقين ؛ لذلك جاء قوله سبحانه :( قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ).
وقيل في قوله :( أو لم تؤمن ) الهمزة للإيجاب والتقرير وليست للاستفهام. ويشبه ذلك ما قاله الشاعر : ألستم خير من ركب المطايا. فالهمزة هنا غير استفهامية بل للتقرير والتحقيق، والراجح عندي القول الأول. والله أعلم.
وقوله :( بلى ولكن ليطمئن قلبي ) يطمئن من الطمأنينة وهي الاعتدال والسكون. نقول : اطمأنت الأعضاء أي اعتدلت وسكنت فلا تريم. يقول النبي ( ص ) في كيفية الصلاة الصحيحة : " ثم اركع حتى تطمئن راجعا ". وأما طمأنينة القلب فهي أن يؤمن إيمانا ليس فيه نقص. وقيل : طمأنينة أن يزداد يقينا مع يقينه.
قوله :( قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا ) لا حاجة لنا في الوقوف على نوعية الطير المذكور في الآية. والأهم من ذلك جوهر القضية القائمة على المعجزة الربانية من أجل أن يستيقن قلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويطمئن بعد أن يشهد عيانا عملية الإحياء للموتى. فقد أمره ربه أن يأتي بأربعة أطيار، وقال له :( فصرهن إليك ) من الفعل صار يصور والمصدر صور وهو التقطيع. نقول : رأيت صوارا من البقر بالكسر أي قطيعا. وأصار الشيء فانصار بمعنى أماله١. فالمراد من قوله :( فصرهن إليك ) أي أملهن إليك ثم اذبحن وقطعن تقطيعا، ثم ضع على كل جبل قطعة من هذه الأجزاء المقطعة ثم ادعهن، من الدعاة وهو النداء. أي يقول لهن : تعالين بإذن الله. حتى إذا دعاهن جئن إليه ساعيات مسرعات وقد رد الله إليهن أرواحهن.
وذلك ليشهد إبراهيم عملية الإحياء فيطمئن قلبه أي يزداد إيمانا مع إيمانه وليعلم أن الله جلّت قدرته قادر قوي لا يعز عليه أمر ولا يعجزه شيء وأنه سبحانه وتعالى حكيم فيما يقضي وفيما يفعل ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) ٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ٢٨٨- ٣٠٠ وفتح القدير جـ ١ ص ٢٧٨- ٢٨٣..
إن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. وذلك في غزوة تبوك لما حضّ النبي ( ص ) المسلمين على الصدقة فجاءه إذ ذاك عبد الرحمن ابن عوف بأربعة ألاف وقال : يا رسول الله كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله ( ص ) : " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت ". وقال عثمان بن عفان : يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له. وقيل : نزلت في نفقة التطوّع. وقيل غير ذلك. وعلى أية حال فإن الآية تفيد العموم لتناول وجوه الإنفاق في طاعة الله. ويأتي في طليعة ذلك الإنفاق في سبيل الله وهو الجهاد١.
والله جلت قدرته يحض عباده على الإنفاق مخلصين لوجهه. وقد وعدهم بدل ذلك من الأجر ما يكون أضعافا كثيرة. فما ينفق العبد نفقته يبتغي بها وجه ربه إلا جزاه الله أجرا عظيما، وذلك كالحبة يضعها الزارع في الأرض، تؤتيه سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة لتكون الحصيلة سبعمائة حبة.
وقد أخرج الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي ".
وفي حديث آخر من رواية أحمد أن الرسول ( ص ) : قال : " من أنفق في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف ".
قوله :( والله يضاعف لمن يشاء ) ذلك إعلام من الله جل جلاله بأنه يضاعف الأجر أكثر من سبعمائة ضعف لمن يشاء من عباده العاملين المخلصين.
وقيل : ليس فوق السبعمائة ضعف من زيادة أخرى ولكن المراد هو التبيين والتأكيد لهذه الأضعاف السبعمائة نفسها. والراجح عندي الأول استنادا إلى الظاهر من الآية.
قوله :( والله واسع عليم ) لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع. ( واسع ) خبر. ( عليم ) صفة. المراد بالسعة الفضل والرزق، فإن خزائن الله عظيمة ومديدة ومدرارة وهي لا تنفد، وهو سبحانه عليم بمن يستحق الرزق ومن لا يستحقه إلا نزرا٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣١٦ وتفسير النسفي جـ ١ ص ١٣٣..
وقال أبو سعيد الخُدري : رأيت النبي ( ص ) رافعا يديه يدعو لعثمان يقول : " يا رب عثمان إني رضيت عن عثمان فارض عنه " فما زال يدعو حتى طلع الفجر فنزله قوله تعالى :( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) ١. وتتضمن الآية بعموم مدلولها عظيم الإطراء والثناء على المؤمنين الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وذلك هو الإخلاص شرط القبول للأعمال، وهم كذلك، لا يُتعبون ما أنفقوا منّت ولا أذى. والمن هو ذكر النعمة على معنى التفضل والمفاخرة. نقول : مننت عليه منّا أي عددت له ما فعلت له من الصنائع. مثل أن تقول : أعطيتك، أو فعلت لك، أو أحسنت إليك ونحو ذلك٢.
وينبغي التحذير من المن فإنه من الكبائر وإنه يذهب بأجر الأعمال مهما عظمت. فقد روى النسائي عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاقُّ لوالديه والمرأة المرتجلة تتشبه بالرجال والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ".
وعن أبي الدرداء عن النبي ( ص ) قال : " لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر ".
أما الأذى فالمراد به ما كان مقترنا بالمن بعد العطية مما يمس شعور الآخذين وذلك كأم يقول المعطي للآخذ : ما أشد إلحاحك، أو خلصنا الله منك، ونحو ذلك فإنه لا يعطي أحد من ماله في سبيل الله محتسبا غير متبع عطيته منّا ولا أذى إلا كان له به عند الله جزيل الثواب.
وقوله ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي لا يخافون يوم القيامة من عذاب النار كما يخاف الناس، فهم آمنون مطمئنون. وكذلك فإنهم لا يشعرون بالخزن والأسى لفراق الدنيا وما فيها من لذات وخيرات وذكريات وصحبة وذلك عند الموت ؛ لما يرونه من نعيم مقيم أفضل مقبلون عليه بعد رحيلهم عن هذه الحياة العاجلة الفانية الدنيا.
.
٢ - تفسير البيضاوي ص ٦٠ والكشاف جـ ١ ص ٣٩٣..
وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( ص ) : " إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين أو يبذل يسير أو رد جميل، فقد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرون صنيعكم فيما وأصل المغفرة من الغفر ويعني الستر. والمراد به هنا الستر لحالة المحتاج والتغاضي عن السائل إذا ألح في مسألته أو أغلظ. فإن العفو والتسامح والستر والتجاوز من غير إعطاء خير من التصدق الذي يتبعه منّ وأذى.
قوله :( والله غني حليم ) إنه جل جلاله غني عن العباد وعن صدقاتهم، وهو سبحانه رحيم بالضعفاء والمحاويج والسائلين، وسوف يغنيهم من فضله، فلا حاجة له في صدقات المنانين الذين يمحقون أجورهم بالمن والأذى. وهو سبحانه حليم فلا يعجل للمسيئين عقوباتهم ولا يبادرهم الجزاء، بل يمهلهم حتى إذا تابوا وأنابوا صفح عنهم وتجاوز عن خطيئاتهم.
وقوله :( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) ( صفوان ) جمع ومفردة صفوانة. وقيل : مفرد بمعنى الصفا وهو الصخر الأملس. والصلد هو الحجر الأملس٢ وذلك هو مثل الذي ينفق أو يتصدق ثم يبطل عمله بالمن والأذى أو لرياء. فمثله كالحجر الذي يغطيه التراب حتى إذا أصاب ( وابل ) وهو المطر الشديد٣، بات عاريا أملس مجردا من التراب الذي يغطيه، والذي ينبعث منه الخير والرزق والنماء والبركة.
وتلك حال المتصدق المنان أو المرائي، فإن عمله حابط متجرد من الثواب والقيمة كالصخر الذي يتجرد من التراب مصدر الخير والبركة، كلما أصابه مطر غزير ليصبح بعد ذلك حاسرا مكشوفا أملس لا خير فيه.
وقوله :( لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) هؤلاء المنانون المراؤون لا ينالون شيئا من ثواب بدلا عما قدموه من صدقات وأعمال، بل إن ما قدموا من عمل خالطته المنة لا جرم حابط.
قوله :( والله لا يهدي القوم الكافرين ) هؤلاء المنانون المراؤون الذين لا يبتغون وجه الله أشبه بالكافرين، فهم لا يهتدون إلى سبيل الحق والنجاة، وليس لهم من الله دليل يقودهم إلى الخير، لأنهم ركنوا إلى الأهواء والشهوات. وذلك تعريض بحال منانين، وتنبيه على أن الرياء والمن والأذى في الإنفاق من صفات الكافرين. وفي ذلك تحذير للمؤمنين ؛ لينأوا بأنفسهم عن مفسدة الرياء في النفقات.
٢ - مختار الصحاح ص ٣٦٦..
٣ - مختار الصحاح ص ٧٠٧..
إن هذا الصنف التقي الزكي المخلص من العباد مثله ( كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين ) الجنة بمعنى البستان. وفعله جن يجن، أي ستر يستر. أجنه في صدره أي أكنه ( فلما جن عليه الليل ) أي غشيه وغطاه والجنين معناها الولد المستور في بطن أمه. فالمراد بالجنة ما كان من أشجار وارفة كثيفة يستتر فيها من يدخل إليها١ والربوة المكان المرتفع قليلا والذي يجلله النبات والخصب لكثافة ترابه وتمام انكشافه للشمس والهواء.
هؤلاء المنفقون والمتصدقون المخلصون الذي يبتغون وجه الله مثلهم كمثل هذه الجنة على ربوة تعطي ( أكلها ضعفين ) أي تعطي ثمرها ضعفي ما تعطيه جنة أخرى من الثمر. وقيل : تحمل من الثمر في كل سنة مرتين، والراجح الأول. وقوله :( فإن لم يصبها وابل فطل ) هذه الربوة متميزة بحسن مكانها وتمام خصبها، حتى إن إثمارها يأتي مضاعفا ضعفين ولو لم يصبها إلا طلّ، وهو المطر الخفيف الذي يشبه الرذاذ. فإذا لم يصبها الوابل وهو المطر الشديد بل أصابها الطل وهو الخفيف من المطر فإن حجم إثمارها وعطائها باق على حاله من المضاعفة.
وذلك هو مثل المؤمنين المخلصين الذين ينفقون أموالهم لا يبتغون بها جزاء الناس وشكورهم، إنما يبتغون بها وجه الله فقط، فإن الله جلت قدرته سيضاعف لهم الأجر ويمنح لهم من الثواب الجزيل ما لا يكافئه عمل العابدين في هذه الدنيا، ولا يقدم العبد من العمل اليسير الهين يرتجي به رضوان الله إلا جزاه الله خيرا منه مثوبة وأجرا.
قوله :( والله بما تعملون بصير ) ذلك تخويف للعباد وتحذير لهم من مخاطر المنّة والرياء، لما في ذلك من إحباط للعمل، وليعلموا أن الله سبحانه مطلع على أسرارهم عليم بأستارهم وحقيقة مقاصدهم ونواياهم، فليخلصوا له العمل، كيلا يأتي عليه الحبوط.
وقيل : إن الآية مثل ضربه الله لمن يحسن العمل في حياته، حتى إنا أفضت به السنون إلى آخر العمل تحوّل مع الخاسرين فبُدلت حسناته سيئات وساء عمله وفسدت سيرته والعياذ بالله وسقط مع الخاسرين والظالمين، ثم فارق الحياة على هذه الحال من الضلال والزيغ، فذلك مثله كالذي يكون له بستان فيه خير الشجر من النخيل والأعناب، تنساح من حوله الأنهار وفيه من الثمرات كل أصنافها، حتى إذا أصابه الكبر وله أولاد صغار ضعفاء، جاءتها ريح عاصف فيها نار فاحترقت، فبات خاسرا لا يلوي على شيء ولا يملك من جنته غير الحسرة واللهف.
وقوله :( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) مثل هذه الأمثال يضربها الله للناس ؛ تقريبا لأذهانهم وليستطيعوا الوقوف على معاني الآيات ومقاصدها حتى تكون لهم من ذله عبرة ثم يتفكروا في عظمة الله وفي سلطانه وجلاله١.
والمراد بالكسب ما أمكن تحصيله من الأموال مما كان سبيله التجارة أو الإجارة أو الميراث أو غيره من سائر الأرزاق والمكاسب.
أما ما أخرجه الله لعباده من الأرض فإن مدلوله عام يتناول كل ما حوته الأرض، سواء كان نباتا أو ركازا أو معدنا. فذلك كله مما امتن الله به على عباده فأخرجه لهم من الأرض لاستعماله والاستفادة منه في تحصيل مصالحهم.
قوله ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) أي لا تقصدوا المال الرديء من أموالكم لتعطوه للفقراء والمحتاجين، بل عليكم أن تقدموا من أموالكم ما كان جيدا أو وسطا، أما الرديء فلا. فقد روي أن بعض الأنصار كانوا يخرجون من جذاذ نخيلهم قنو الحشف١ وهو يظن أنه جائز، فنزل فيمن فعل ذلك قوله :( ولا تيمموا الخبيث ) ٢.
وقوله :( ولستم بآخذين إلا أن تغمضوا فيه ) لو قدم إليكم مثل هذا المال الرديء لزهدتم فيه ولما أخذتموه إلا في إغماض، والإغماض يراد به التساهل والتجاوز. وهو أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه.
والمرء مفطور على حب الجيد من المال، حتى إذا قدم إليه الرديء فإنه لا يأخذه إلا ونفسه تعافه أو تعزف عنه ؛ لانحطاط قيمته ومستواه. وذلك هو مدلول العبارة القرآنية الفذة التي لا يجزي عنها تعبير آخر ( إلا أن تغمضوا فيه ) فلا جرم أن ذلك إعجاز.
وعلى هذا فإن الآية تستنهض همم المؤمنين أن يؤتوا من أموالهم أحسنها أو أوسطها، وألا يقصدوا الخبيث الدنيء منها فيتصدقوا به ؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
قوله :( واعلموا أن الله غني حميد ) أي أن الله غني عنكم وعن صدقاتكم وأموالكم، بل إن الناس جميعا فقراء إليه، وهو سبحانه مالك الملك بيده مقاليد السموات والأرض، وهو سبحانه حميد، أي معظم محمود، يحمده العباد والخلائق ويثنون عليه ثناء يليق بجلاله وكماله.
٢ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٥٦..
وفي مقابل هذا التخويف من الشيطان اللعين فإن الله تباركت أسماؤه يزين لعباده خليقة الإنفاق ويرغبهم فيه ترغيبا، واعدا إياهم المغفرة وهي الستر من الله على عباده في الدنيا والآخرة، وكذلك واعدا إياهم الفضل وهو الرزق الحلال الحسن في هذه الدنيا ثم النعيم المقيم يوم القيامة.
وقوله :( والله واسع عليم ) الله سبحانه وتعالى واسع رزقه ولا تنفذ خزائنه فهو يعطي بغير حساب وكيفما شاء، وهو سبحانه يعلم الغيب والشهادة، ويعلم كيف يقسم الأرزاق. كل ذلك جار في إطار حكمته وعلمه.
وفي إغواء الشيطان لابن آدم وإضلاله، ثم في ترشيد الرحمن لابن آدم وتبصيره روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن للشيطان لمّه بابن آدم، وللملك لمّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخبر وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان " – ثم قرأ :( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ).
( ما ) أداة شرط. ( أنفقتم ) جملة الشرط، وجوابه ( فإن الله يعلمه ) والفاء مقترنة بالجوب. والنفقة تتضمن الصدقة بنوعيها : التطوع والفريضة. أما النذر فهو في اللغة الالتزام بفعل خير أو شر١. وفي الشرع أن يلتزم المكلف بشيء مما لو لم يوجبه على نفسه لم يلزمه سواء كان منجزا أو معلقا. فما ينفق المرء من نفقة أو ينذر نذرا إلا كان الله عليما بقصده وما يخفيه في نفسه من مكنون الإخلاص أو الرياء. والظالمون هم المشركون والعصاة الذين تزيغ قلوبهم وأفعالهم عن دين الله وعن منهجه القويم، فأولئك ليس لهم يوم القيامة من نصير يجيرهم من العذاب٢.
٢ - سبل السلام جـ ٣ ص ١١٠ وبلغة السالك للصاوي جـ ١ ص ٣٤٨ ومغني المحتاج جـ ٤ ص ٣٥٤ وأعلام الموقعين جـ ٤ ص ٣٩٠.
قوله :( فنعما هي ) أي نعم ما هي. نعم فعل مدح جامد وفاعله ضمير مرفوع. ما في نصيب تمييز. والتقدير : نعم الشيء شيئا إبداؤها. فإبداؤها مخصوص بالمدح وهو مرفوع ؛ لأنه مبتدأ. وما قبله خبر، ثم حذف إبداء وأقيم الضمير المتصل المضاف إليه مقامه فصار الضمير المجرور والمتصل ضميرا مرفوعا منفصلا. وهو مرفوع بالابتداء لقيامه مقام المبتدأ١. والله تعالى يمتدح الصدقة الظاهرة. وكذا الخفية وهي أفضل إن كانت تطوعا. وبذلك فحكم الصدقة الظاهرة أن تكون أفضل من الخفية إن كانت نافلة، وذلك كيلا يكون الإظهار سببا لتسرب الرياء إلى نفس المعطي، أما إن كانت مفروضة فإظهارها أفضل من أخفائها ؛ لما في ذلك من تشجيع للآخرين. ويستفاد ذلك من ظاهر الآية. ( فهو خير لكم ) والضمير يعود على الإخفاء والإيتاء. ويعزز هذا القول ما أخرجه مسلم في صحيحه عن النبي ( ص ) في إظهار الصلاة وعدمه إذْ قال : " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ".
قوله :( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) الواو موضع خلاف لدى النحويين. لكن الذي نعتمده ونرجحه تمشيا مع سياق الآية أن الواو للاستئناف. وعلى هذا فالفاعل ضمير يعود على لفظ الجلالة ( الله ) ( من )، للتبعيض. أي يكفر الله عنكم بعض سيئاتكم. قوله :( والله بما تعملون خبير ) الله عليم بأفعال العباد وأقوالهم. وهو سبحانه عليم كذلك بما تكنه صدرهم من إخلاص أو عدمه. وهو سبحانه مجازي العباد تبعا لما تحمله نفوسهم في أطوائها من مكنونات.
وروي عن ابن عباس قوله : كان ناس من الأنصار لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا فنزلت الآية فيهم.
والذين يظهر من ذلك أن مقصد المسلمين والنبي ( ص ) من منع الصدقة عن الفقراء من غير المسلمين إنما كان ليسلموا وينقلبوا عن شركهم إلى دين الإسلام، فأنزل الله فيهم :( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ).
وثمة خلاف بين العلماء في نوع الصدقة التي أباحت الآية إعطاءها للفقراء من غير المسلمين. فقد ذهب فريق من أهل العلم في قول مرجوح لا يعوّل عليه إلى جواز إعطائهم من الصدقات عموما، سواء في ذلك صدقة التطوع أو الفريضة.
لكن المذهب الصحيح المعتمد في ذلك أنهم يعطون من الصدقة النافلة ( التطوع ) ولا يعطون من الزكاة المفروضة. وفي ذلك يقول الرسول ( ص ) : " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم " ويعزز ذلك ما ذكره من إجماع أهل العلم على أن غير المسلمين لا يعطون من زكاة الأموال شيئا، لكن أبيح إعطاؤهم من صدقة التطوع.
وجملة القول أن هؤلاء المشركين لا ينبغي حرمانهم من الخير إن تيسر. وما يكون حرمانهم سببا في هدايتهم، بل لا يملك الإنسان هداية غيره من خلق الله، فإن الله جلت قدرته هو الهادي وهو الذي ييسر للعباد من أسباب الهداية والاستقامة وما يقودهم إلى الرشاد.
قوله ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) الخير المراد به المال. فإن المؤمن لا ينفق من ماله إلا كان مكتوبا له في حسابه عند الله ولا يُضيع الله أجر العاملين والمحسنين.
قوله :( وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ) يحتمل معنيين. أحدهما : النفقة المعتبرة والتي يتقبلها الله هي التي يبتغي بها المنفق وجه الله، يكون مخلصا في بذله المال للفقراء، فلا يبتغي من ذلك المديح والثناء أو غرضا من الأغراض الدنيوية، بل يبتغي مرضاة الله، فهو في ذلك مأجور، سواء وقعت صدقته في يد بر أو فاجر، محتاج أو غير محتاج.
وثانيهما : أن هذه الآية شهادة من الله للصحابة الكرام – رضي الله عنهم- بأنهم إنما ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاته فهم بذلك مخلصون في إنفاقهم، وذلك على سبيل الإطراء لهم والثناء عليهم.
قوله :( وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) ذلك بتأكيد لما قبله ( وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ) فإن المنفقين المخلصين توفّى إليهم أجورهم غير مبخوسين أو مظلومين١.
والمراد بالفقراء، أولئك المهاجرين الذين ( أحصروا ) أي حبسوا في سبيل الله فانقطعت عنهم أسباب العيش والارتزاق. وذلك بعد أن هجروا الدار والأهل والمال في مكة نازحين إلى المدينة ؛ ابتغاء رضوان الله ولكي يتمكنوا من عبادة ربهم سالمين آمنين.
وقوله :( لا يستطيعون ضربا في الأرض ) الضرب هو السفر. وذلك كقوله تعالى :( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) فالمهاجرون الذين انقطعت بهم السبل في المدينة بعد أن هجروا مكة حيث المشركون والفتنة لا يستطيعون السفر خارج المدينة طلبا للرزق والمعاش.
قوله :( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) المقصود بالجاهل الذي يجعل حقيقة حالهم وأمرهم. فهو لا يعرف فقرهم وسوء حالهم ؛ لما يراه في ظاهرهم من علو الهمة وحسن المظهر. فهو بذلك يحسبهم ( أغنياء من التعفف ) أي يظنهم الجاهل بحالهم أغنياء. وهم في الحقيقة ليسوا أغنياء ولكنهم متعففون. والتعفف معناه التنزه وترفع النفس والعزف عما يهبط بها أو يشينها.
وفي هذا الصدد الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا " ١.
وقوله :( تعرفهم بسيامهم ) السيما معناها العلامة، والمراد أن هؤلاء المهاجرين المتعففين تعرف فيهم الفقر ورقة الحال وشدة العوز، لما يغشاهم من علامات تدل على ذلك. والمقصود بسيامهم التي تدل عليهم ما يبدو في وجوههم وظاهرهم من أثر التواضع والفاقة وافتقاد الخير والنعمة ؛ لأنهم محصورون لله، وقد انقطعت بهم الأسباب فلا يستطيعون سفرا ولا سعيا لعيش أو ارتزاق.
قوله :( لا يسألون الناس إلحافا ) ( إلحافا ) مصدر في موضع الحال منصوب... والإلحاف بمعنى الإلحاح في الطلب٢ وتلك هي أخلاق المؤمنين الصابرين الذين يكونون في فاقة وعوز، لكنهم يتعففون عن تكفف الناس فلا يسألونهم إلحافا، مع أنهم محتاجون للعون والعطاء. وهذا الصنف من الناس قد استوصى الله بهم خيرا من أجل أن يعطيهم الأغنياء أو الدولة من مال الله الذي آتاهم. وهؤلاء يوصي بهم الرسول ( ص ) فيما رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه- : " ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، إنما المسكين المتعفف اقرأوا إن شئتم ( لا يسألون الناس إلحافا ). وهذه الجملة في محل نصب حال، وكذلك ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) جملة فعلية في محل نصب حال من الفقراء. وكذلك ( تعرفهم بسيامهم ) ٣ وفي حقيقة المسكين روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا ".
وفي معنى قوله تعالى :( لا يسألون الناس إلحافا ) ثمة قولان للعلماء أولهما : أنهم لا يسألون البتة ولا يتكففون أحدا وأنهم دائما متعففون، فهم بذلك لا يسألون الناس، سواء كان ذلك إلحافا أو غير إلحاف، فالتعفف شأن وديدان. وذلك الذي ذهب إليه جمهور المفسرين وهو الراجح.
ثانيهما : أن المراد نفي الإلحاف فقط، أما إن سألوا الناس غير ملحفين فلا بأس. وهو قول مرجوح.
ولا يفوتنا أن نبين النهي عن المسألة مع الغنى وأن ذلك حرام، ولا يسأل أحد غيره وهو غني إلا كان آثما إثما يودي به إلى عذاب الله. يقول الرسول ( ص ) فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : " من سأل الناس أموالهم تكثّروا فإنما يسأل جمرا فليستقلّ أو ليستكثر ".
وروى مسلم أيضا عن ابن عمران أن النبي ( ص ) قال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم " المزعة بضم الميم معناها القطعة. وقوله ( وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ) ذلك ترغيب من الله للمؤمنين، كيما ينفقوا في سخاء ليغيثوا المحاويج والمكروبين وليدفعوا عن الفقراء والعالة خلتهم، فإنه ليس من نفقة يؤديها هؤلاء إلا والله يعلمها، وهو سبحانه سيجازيهم عنها خير الجزاء.
٢ - مختار الصحاح ص ٥٩٣..
٣ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٧٩..
وأخرج الإمام أحمد بإسناده عن أبي مسعود عن النبي ( ص ) قال : " إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة ".
قوله :( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي لا يخافون إذا خاف الناس يوم القيامة فإنهم صائرون إلى كنف الله وظله، فهم آمنون مطمئنون لا يصيبهم الفزع الأكبر مثلما يصيب غيرهم من العصاة والفاسقين.
وكذلك فإنهم إذا فارقوا الحياة والأهل والخلان عند الموت لا يحزنون كما يحزن غيرهم من الناس، وهو حينئذ يدركون أنهم صائرون إلى جوار ربهم حيث الأمن والراحة والنعيم والجنة١.
هذه مسألة هامة من المسائل التي شدد عليها الإسلام، وهي أحد المناهي الكبيرة التي لا يسقط فيها إلا الخاسرون الوالغون في الرجس والذين ينذرهم الإسلام أن تكون جسومهم حصبا لجهنم. ألا وهي مسألة الربا.
والربا جريمة كبرى قد ندد بها الإسلام، وندد بالمتعثرين فيها الذين يأكلون أموال الناس بهذه الوسيلة الخبيثة التي تفضي إلى جمع مركوم من المال الخبيث أو السحت الذي يودي بالمرابين في أودية جهنم.
ولنا أن نتصور فداحة هذه الجريمة التي حذر منها الإسلام ونحن نردد كلمات القرآن في التهديد والوعيد لأكلة الربا الذين لا يأكلون في بطونهم إلا اللهب. يستبين ذلك من الكلمات الربانية المتوعدة المفزعة كقوله سبحانه :( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) وقوله سبحانه :( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) وفي السنة النبوية ما يكشف عن فظاعة الربا وشدة تحريم. فيقول النبي ( ص ) فيما رواه عنه أبو هريرة : " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحياة تجري من خارج بطونهم، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ".
وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول اله ( ص ) : " الربا سبعون جزءا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه ".
وعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- أن النبي ( ص ) قال : " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ".
وروى الدارقطني عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أن النبي ( ص ) قال : " لدرهم ربا أشد عند الله تعالى من ست وثلاثين زنية في الخطيئة ".
قوله :( الذين يأكلون الربا ) أي يأخذونه ويستبيحونه لأنفسهم، وقد عبر عن مطلق الأخذ بخصوص الأكل ؛ وذلك ؛ لأن الأكل أهم المقاصد التي من اجلها يجمع المال أو يؤخذ. والربا معناه الزيادة، فمن زاد أو استزاد أكثر مما ينبغي من رأس المال فقد أربى، على نحو ما سنبينه في موضعه بإيجاز، أما تعريفه في الشرع، فقد عرفه البابرتي في كتاب العناية بأنه " الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع١.
قوله :( لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ذلك وصف لتعس الذين يأكلون الربا ولوضعهم المشين ؛ لما قارفوه في حياتهم من فاحشة الربا. فإنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة ذاهبين إلى الحشر إلا كما يقوم المصروع وهو ( يتخبطه الشيطان من المس ) أي يفسده بالجنون. فهو يمشي متخبطا كمن يتعثر في خطاه حين السير فهو تارة يهوي ساقطا، وأخرى ينهض ماشيا. فهو لا يقوم مرة حتى يسقط أخرى كالمجنون الذي خالطه المس. والمس معناه الجنون.
يقول ابن عباس في هذا الصدد : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. وقيل ابن عباس في هذا الصدد : آكل الربا يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كالحبالى، فكلما قاموا ليمشوا سقطوا وانتكسوا والناس يمشون عليهم.
ويستفاد من هذه العبارة القرآنية أن الصرع يصيب ابن آدم ربما كان سببه مس الشيطان له والعياذ بالله من ذلك. وفي هذا روى النسائي في سننه أن النبي ( ص ) كان يدعو قائلا : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا ".
وفي حديث آخر عنه ( ص ) أنه كان يدعو : " اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام ".
وجدير بالقول أن ثمة أصنافا من المطعومات والموزونات والمكيلات لا يجوز بيع بعضها ببعض من نفس الجنس إلا مثلا بمثل يدا بيد سواء بسواء.
فقد روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( ص ) : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء.
وفي رواية أخرى : " ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ".
يستفاد من هذا الحديث أن هذه الأصناف الستة لا يجوز أن يباع بعضها ببعض- أي من نفس الجنس- إلا أن يكون ذلك مثلا بمثل يدا بيد. المثل بالمثل يعني المساواة بين المبيعين كليهما، سواء كان موزونين أو مكيلين أو مطعومين او غير ذلك ما دام من نفس الجنس. واليد باليد يعني أن يكون التقابض في المبيعين حالا لا مؤجلا. وأي إخلال بهذين الشرطين يدمغ البيع بوصمة الربا. أما إذا اختلفت هذه الأصناف فلا بأس أن تباع متفاضلة على أن يكون التقابض فيها يدا بيد أي حالا لا مؤجلا. وذلك كما لو بيع الذهب بالفضة أو البر بالتمر أو الملح بالشعير، فلا بأس أن يقع التفاضل بينهما سواء في الوزن أو الكيل أو غيرهما مادام التقابض حالا.
ويؤكد هذا المفهوم ويوضحه حديث الرسول ( ص ) وهو من رواية الدارقطني عن علي : " الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، من كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق هاء وهاء ". أي هاك وهات، أو أخذ وأعط. وذلك يعني أن يكون التقابض بين البيعين حالا وفي مجلس العقد. وصورة هذا البيع ما كان على هيئة مقايضة وهي المعاوضة عرضا بعرض. ويستوي في ذلك أن يكون الذهب أحمر أو اصفر مضروبا أو غير مضروب، وكذلك الفضة يستوي فيها أن تكون بيضاء أو سوداء مضروبة أو غير مضروبة، فإنه لا يجوز بيع الواحد منها بجنسه متفاضلا إلا أن يكون مثلا بمثل سواء بسواء. أما بيع الواحد منهما بالجنس الآخر تفاضلا جائز على أن يكون ذلك يدا بيد ؛ وذلك لما بيناه من دليل، ولما روي عن عبادة بن الصامت قال : إني سمعت رسول الله ( ص ) ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ " بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين من زادا أو ازداد فقد أربى.
وعلى ذلك فالربا نوعان : ربا الفضل وربا النسيئة بفتح النون، أما ربا الفضل فهو الزيادة في الميكلات والموزونات عند اتحاد الجنس إذا بيع أحدهما بالآخر. وذلك كبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة أو القمح بالقمح أو غير ذلك على أن يكون ذلك متفاضلا وهو حرام.
وأما ربا النسيئة أو النساء فهو الزيادة في المذكورات السابقة عند اختلاف الجنس إذا كان تسليم أحد المبين مؤجلا. أو هو فضل العين على الدين في الكيلين والموزونين عند اختلاف الجنس٢.
قوله :( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) الضمير في قوله :( بأنهم ) يراد به الكافرون الذين يضادون الله في شرعه. فقد أباح هؤلاء ما حرم الله، ولم يعترفوا بما أنزل الله للناس من شرع، فانفتلوا بذلك عن دين الله وراحوا يهرفون بفاسد الكلام من اعتراض على أحكام الله وإنكار لدينه فقالوا :( إنما البيع مثل الربا ) أي هما مثيلان ولا فرق بينهما فلماذا جعل هذا مباحا وهذا محرما فقضى الله في الأمر بما يحسم المسألة حسما لا يحتمل تأويلا فقال عز من قائل :( وأحل الله البيع وحرم الربا ).
ومن المعلومات القواطع أن الفرق بين البيع والربا ظاهر وكبي ومستبين. فالبيع عقد يقوم على المعاوضة. وبموجبه يقبض البائع الثمن ليدفع للمبتاع المبيع على أساس من الرضا وحرية الإرادة. وعقد البيع على هذا الأساس يحتمل الربح والخسارة. فربما أصاب أحد البيّعين في عقد البيع ربحا، وربما أصاب خسارة. وتتضح هذه الحقيقة على نحو أشد في الشركات ومنها المضاربة. ذلك أن المتعاقدين الاثنين يشتركان في كل من الغُنْم والغُرم أو الربح والخسارة. والقاعدة الفقهية في ذلك معلومة ومشهورة وهي " الغُرْم بالغنم " فكلا المتعاقدين يشتركان في الربح والخسارة وذلكم هو العدل والحق.
لكن الربا يقوم على غير هذا الأساس. فهو في الأصل يقوم على الغرر وقد نهى عنه الرسول ( ص ) ؛ لما فيه من توهيم وتغرير كبيع السمك في الماء أو الطير في الهواء وهكذا يكون الربا. فآخذه بين احتمالين، فهو إما أن يستفيد مما اقترض ويربح، وإما أن يتعثر ويخسر، لكن معطيه إنما يكون ربحه مضمونا. فهو رابح على التأكيد ولا سبيل له أن يخسر، لكن معطيه إنما يكون ربحه مضمونا. فهو رابح على التأكيد ولا سبيل له أن يخسر ؛ لأن الفائدة الربوية المعلومة بالنسبة إليه مشروطة. فهو لا يقرض إلا وهو عالم أن ربحه مضمون ضمن أساس مشروط لا يتخلف. وذلك تغرير وحيف وهو باطل وظلم جعله الإسلام محرما وشدد عليه التغليظ والنكير وتوعد الساقطين فيه حربا في هذه الدنيا ونار جهنم في الآخرة.
وقوله :( فمن جاء موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) شرط وجوابه.
وجملة ذلك أن من بلغه تحريم الربا فانتهى عن فعله وتعاطيه فقد غفر الله ما سلف من أكل الربا. فما كان من أكل للربا قبل التحريم فقد سقطت تبعته في الدنيا وفي الآخرة، فهو في الدنيا غير مطالب بما زاد على رأس المال أو استزاد. وفي الآخرة غير مؤاخذ عن ذلك ؛ لأن من قواعد الشريعة ألا مسؤولية أو جزاء إن لم يكن ثمة التحريم، فإن عليه أن يضع ما كان قد اشترط من ربا، أما الربا الذي أخذه قبل نزول التحريم فلا يلتزم برده ؛ لأنه مندرج في قوله تعالى :( فله ما سلف ) وقوله في آية أخرى :( عفا الله عما سلف ).
وقد ورد أن النبي ( ص ) قال يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس " ولم يأمرهم عليه الصلاة والسلام برد ما أخذوا من زيادة ربوية قبل نزول التحريم ؛ لأن الله سبحانه قد عفا عما سلف. قوله :( وأمره إلى الله ) الضمير عائد على المكلف المنتهي عن أكل الربا والذي عفا الله له عما سلف، فإن أمره إلى الله سبحانه يبسط له الخير وأسباب الهداية والطاعة ويجعل له من أمره يسرا.
وقوله :( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) الذي يعود إلى أكل الربا بعدما جاءه من موعظة وخبر التحريم، فإنه من أصحاب النار الخالدين، وذلك أن استحل لنفسه ما حرمه الله وذلك كفر، فإنه لا يأبى شرع الله ليجد لنفيه من دون الله شرعا آخر إلا من كان كافرا. ويدخل في ذلك من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله. واسم الإشارة ( أولئك ) في محل رفع مبتدأ. ( أصحاب ) خبره. والجملة الإسمية ( هم فيها خالدون ) في محل نصب حال.
٢ - شرح فتح القدير للكمال بن الهمام جـ ٧ ص ٣ وما بعدها وبداية المجتهد جـ ١ ص ١١١- ١١٧ والمهذب جـ ١ ص ٢٧٠-٢٧٣.
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود عن النبي ( ص ) أنه قال : " ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل ".
ولئن كان الربا يمحقه الله ويذهب ببركته وبيده تبديدا، فإن الصدقات يربيها الله. أي يكثرها وينميها ويجعل فيها البركة في الدنيا. وفي الآخرة يضاعف لصاحبها الأجر حتى يكون أضعافا كثيرة. وفي ذلك أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " من تصدق بعدْل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى يكون مثل الجبل ".
وفي رواية أخرى لأبي هريرة أن الرسول ( ص ) قال : " إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمنه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوّه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد ".
قوله :( والله لا يحب كل كفار أثيم ) الكفار معناه الجحود الذي ينكر نعمة الله عليه. وهذا التعقيب في الوصف يناسب حال الجشعين الفسقة الذين يأكلون الربا. وهؤلاء صنف جاحد بطر من الناس لا يرضي بالحلال من الطعام أو المال مما ارتضاه له الله، بل إنه يُعرض في إدبار وتمرد ليستبيح لنفسه الجاحدة الطامعة ما حرمه الله عليه من أموال الناس فهو بذلك مخالف لشرع الله فاسق عن أمره، أثيم.
وقوله :( إن كنتم مؤمنين ) ذلك تحضيض للمؤمنين على ترك الربا واستنهاض لهم أن يلتزموا بأحكام الله وأن يذروا ما كان مشروطا لهم من زيادة على رؤوس الأموال، ويشبه ذلك ما يقوله الواحد لغيره : إن كانت شجاعا فخذ سلاحك وامض لقتال المشركين. ومعلوم أن المخاطب شجاع ؛ لأن المقصود بمخاطبته على هذه الصورة بعث الحماسة في نفسه ليمضي في سبيل الله.
وقد جاء عن ابن عباس في تأويل هذه الآية : إن من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه١. ذ
وثمة كلام جيد للحسن البصري وابن سيرين فقد قالا : والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح.
( وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم ) يؤكد الله عز وجل تحذيره من الربا ونهيه عن أخذ الزيادة على رأس المال. فالمسلمون الذين تابوا إلى ربهم وكفوا عن أكل الربا، فإن عليهم أن يظلوا على يقين من العلم أنه لا يحل لهم إلا رؤوس أموالهم. وهي الأموال التي قدموها للمقترضين وذلكم هو الحق. وذلكم هو العدل. وتلكم هي السبيل القويمة التي لا يقع فيها الظلم على أحد من الطرفين، سواء المقروض والمقترض. وذلك يقول سبحانه :( لا تظلمون ولا تُظلمون ) وفي الحديث الشريف في هذا الصدد عن الرسول ( ص ) أنه خطب في حدة الوداع فقال : " ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ".
بعد أن وقع التنديد بالربا وأكَلته، وبعد النهي المشدد عن الزيادة على رأس المال، فإن الله يندب عباده المؤمنين أن يتراحموا فيما بينهم ليصير الدائن على مدينه إن كان معسرا كليلا فلا يرهقه من أمره عسرا. وذلك على النقيض من حال العرب وفي القرض قبل الإسلام ؛ إذ كان الدائن يقول لمدينه : إذا حل وقت الأداء، إما أن تقضي، وأما أن تُربي.
والقرآن يدعو للتراحم والتعاون والفضل أكثر من مجرد الانتظار إلى حال اليسر، فإنه يندب للعفو والتسامح وإسقاط الدين بالكلية. وذلك في قوله سبحانه :( وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ).
وفي هذا الصدد من العفو وإسقاط الحق عن طيب خاطر يقول الرسول ( ص ) : " من سره أن يُظلله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه " وفي حديث آخرك " من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة ".
وفي حديث آخر عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " من أراد أن تستجاب دعوته وإن تكشف كربته فليفرج عن معسر ".
وفي حديث آخر عن رسول الله ( ص ) قال : " من أنظر معسرا أو وضع عنه قواه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثا، ألا إن عمل النار سهل بسهوة " و الحزن ما غلظ من الأرض. والسهوة الغفلة.
يحذر الله الناس ويخوفهم تخويفا من هذا اليوم العصيب المشهود وهو يوم القيامة، هذا اليوم الحافل الذي تتزلزل فيه الأبدان، وتقشعر لهوله الجلود، وتبلغ فيه القلوب الحناجر، يوم تُعرض فيه أعمال الخلائق على بارئها لتجزى كل نفس ما عملت غير أن يحيق بها ظلم. فالله جل وعلا أعدل العادلين ولا يظلم الناس مثقال ذرة ؛ لذلك قال :( ثم توفى كل نفس ماكسبت وهم لا يظلمون ) ( كل ) نائب فاعل مرفوع. ( نفس ) مضاف إليه، ( ما ) في محل نصب مفعول به ثان١.
هذه أطول آية في القرآن الكريم، وهي مشهورة بآية الدين. وجملة المقصود منها أن تُكْتبَ المدايناتُ توثيقا لها وصونا للحقوق ؛ كيلا تضيع أو يأتي عليها النسيان أو الجحود. ومن المعلوم أن شريعة الإسلام تقوم على الواقعية التي تتدعم بكل مظاهر التيقين والتوثيق مثل الكتابة والإشهاد. وإذا لم يكن الأمر كذلك باتت الحقوق عرضة للنسيان والإنكار. ولا تركن شريعة الإسلام إلى وازع الخشية الدينية وحدها رغم أن هذا الوازع عظيم الشأن، هائل العطاء. ولكن هذه الشريعة تعوّل على الاثنين معا وهما الخشية الدينية ترافقها الأسباب الواقعية المحسة التي يحاسب على أساسها الناس في هذه الحياة أمام القضاء. وليس للجاحد في هذا الصدد إلا أن تقام عليه الحجة أمام السلطان الحاكم ليناقش الحساب فيلقى جزاءه المستحق سواء كان تغريما أو سجنا أو غير ذلك من وجوه الجزاء والعقاب.
والدّين في جملته معاملة ذات عوضين أحدهما يكون نقدا والآخر في الذمة نسيئة. وبعبارة أخرى فإنه معاملة تتألف من عوضين أحدهما عين الآخر دين والعين ما كان حاضرا، أما الدين فما كان غائبا ( في الذمة ).
وقد ورد عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في السلم بفتح السين واللام. وقد ثبت أن رسول الله ( ص ) قدم المدينة وهم يستلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال رسول الله ( ص ) : " من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
والآية في عمومها تفيد استحباب الكتابة للدين أيا كان نوع سواء في ذلك القرض الذي يتم بين دائن ومدين، أو السلم الذي يعقد بين المسلم والمسلم إليه على أن يقبض المسلم إليه الثمن في الحال بدلا عن المسلم فيه الذي يؤخذ في موعده المحدد. ويفهم ذلك من قوله :( فاكتبوه ) والأمر هنا للإرشاد والاستحباب وليس للإيجاب، وهو الراجح الذي عليه جمهور أهل العلم.
قوله :( وليكتب بينكم كاتب بالعدل ) يكتب فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. بين ظرف مكان منصوب، وكاف المخاطب في محل جر مضاف إليه والميم للجمع. ( كاتب ) فاعل مرفوع.
وتدل الآية على أن يكون الكاتب طرفا ثالثا، فليس هو بالدائن ولا المدين ؛ لأن الاثنين مظنة الجور والتهمة، لكن الطرف الثالث أقرب لتسجيل الحق والقسط فلا يزيغ أو يجور.
وقوله :( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب ) أي ليس لكاتب أن يمتنع من كتابة الدين إذا ما دُعي لذلك ؛ فإنه مثلما علمه الله الكتابة فعلية ألا يبخل على غيره بهذه المعرفة. وجاء في الحديث : " من كتم علما يعلمه أًلجم يوم القيامة بلجام من نار ". والكاف في قوله :( كما ) بمعنى مثل، صفة لمصدر محذوف تقديره كتْباً. أيك لا يأب كاتب أن يكتب كتباً مثلما علمه الله.
واختلفوا في حكم الكتابة إذا طلبها المتداينان من الكاتب. فقد قيل : إنها واجبة على الكاتب إذا طلب منه ذلك. وقيل : إنها واجبة عليه في حال فراغه. وفي قول ثالث وهو أن الكتابة في حق الكاتب فريضة إذا لم يكن غيره من يقوم بها.
وهذا هو الذي نرجحه.
وقوله :( وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ) ( يملل ) : من الإملاء أو الإملال. وفعله الماضي أملّ وأملى. واللام للأمر. فإن الله يأمر الذي عليه الحق وهو المدين أن يملل بنفسه على الكاتب بأدائه للدائن في الموعد المتفق عليه أو حين اليسر. والإملال من نفس المدين أوثق للحق ؛ لما فيه من إقرار واضح ممن عليه الحق شخصيا. وعلى المدين كذلك وهو يملل أن يصدق في إملاله وأن يتقي ربه في ذلك فلا يحيف ولا يميل ولا يبخس من الحق الذي عليه شيئا. والبخس معناه الإنقاص١.
وقوله :( فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ) السفيه من السفه هو الخفة ونقص العقل والطيش. فمن كان به طيش أو خفة كالذي يبذر تبذيرا أو ينفق ماله على غير وجهه النافع السديد كالتبذير أو العبث فهو سفيه.
أما الضعيف فهو من الضعف. وذلك مفهوم عام يتناول كل أوجه الضعف في الإنسان وذلك كالعي والخرس والجهل والحياء والخوف. فمن كان من الكاتبين كذلك أو لا يستطيع أن يمل لمرض أو شيخوخة أو نحو ذلك، فقد بات على وليه أن يملل بدلا منه. ووليه هو الأب أو الجد أو الوصي. عن على هذا الولي أن يملل على الكاتب حقيقة الدين على أن يكون ذلك بالعدل فلا جور ولا زيغ وال محاباة.
وقوله :( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) السين والتاء للطلب. أي اطلبوا الشهادة على الدين لتوثيقه اثنين من رجالكم ؛ ولذلك فحكم الشهادة أن يشهد اثنان من الرجال في الحقوق المالية والشخصية والحدود باستثناء الزنا الذي ينبغي أن يشهد فيه أربعة ؛ وذلك لخطورته.
وقوله :( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ) فإذا لم يتيسر اثنان من الرجال ( فرجل وامرأتان ) رجل مبتدأ مرفوع، امرأتان معطوف على رجل. والخبر محذوف تقديره يقومان مقامهما.
وينبغي التقيد بالنص من حيث الإشهاد. فلا يجوز أن يقوم بالشهادة أربع من النساء، بل الإشهاد المحدد معلوم بالنص وهو إما أن يشهد رجلان أو رجل وامرأتان ممن يغلب الظن في استقامتهم وتقواهم وأنهم من الشهود العدول الذين لا يزيغون ولا يميلون، والذين تكشف عن صدقهم وعدلهم سيرتهم الحميدة، وخلقهم الحسن.
وليس للنساء كذلك أن يشهدن في غير الأمور المالية حتى ولو شهدن مع الرجال، فليس لهن أن يشهدن في القصاص أو الحدود مثلا. ولعل التعليل للتفاوت في عدد الشهداء في هذه المسألة يبينه قوله تعالى :( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) ( أن ) بفتح الهمزة، مصدرية في محل نصب مفعول به، بتقدير فعل محذوف. أي يشهدون أن تضل إحداهما٢. وتضل، من الضلال وهو هنا بمعنى النسيان والغفلة وغياب الحفظ. نقول : ضل الرجل الطريق أي زل عنه فلم يهتد إليه فهو ضال. وعلى هذا فالزلل مما يشمله مفهوم الضلال٣ وإذا كان مفهوم الضلال يتسم بالعموم ليتناول الزلل والسنيان والغفلة وغير ذلك، فإنه يتسع ليضم كل معاني الضعف في المرأة، سواء في ذلك النسيان والغفلة والزلل أو الخوف والحياء، وتلك بعض من مركبات المرأة النفسية والعضوية التي تنبثق عن حقيقة أساسية مركوزة وهي الضعف. ولئن كان الرجل والمرأة كلاهما ضعيفين، لكن المرأة لا جرم أن تكون أشد ضعفا وتلك ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ).
ومن أجل هذا الضلال المحتمل في الشهادة والذي يتمخض عنه الضعف في المرأة لشدة حيائها وفرط استعدادها للرهبة والخوف والنسيان، قضت شريعة الإسلام أن يكون الشهود في قضايا المال رجلا واحدا واثنين من النساء ؛ حتى إذا ضلت واحدة منهما ذكرتها الثانية عسى أن يكون تذكيرها يثوب بها إلى الصواب والرشد أو يحفزها أن تنزع عن الزلل وتحريف الشهادة. وذلك من أن تصان الحقوق فلا تضيع أو تتبدد. يضاف إلى ذلك أن المرأة قليلة الإحاطة بشؤون الناس والمجتمع ؛ وذلك لقلة اختلاطها بالآخرين ؛ نظرا لعكوفها عل شؤون البيت والأسرة، فهي بذلك غير جديرة بأداء الشهادة كما يؤديها الرجل وهو الخبير بأمور الناس لاختلاطه بهم. ذلك هو القول الحق في مسألة الشهادة. ولا يجادل في ذلك إلا كل مكابر عنيد أو فاجر كفور يكذب بيات الله وما نزل من الحق من عنده.
وقوله :( ولا يأت الشهداء إذا ما دعوا ) إذا ما نودي الشهداء لأداء شهاداتهم كان عليهم أن يلبوا النداء. والحكم الشرعي لأداء الشهادة موضع خلاف. إلا أننا نقف عل قولين في هذه المسألة نحسب أنهما خلاصة ما ورد في ذلك من أقوال.
أولهما : إن كان ثمة شهداء آخرون يستطيعون أن يؤدوا الشهادة عل وجهها الصحيح فإن الشهادة في حق الواحد بعينه أمر مندوب.
ثانيهما : إذا خيف من فوات الشهادة وضياع الحق وما يتبع ذلك من ضرر سيقع، فإن أداء الشهادة في حق المعطلين العارفين أمر واجب.
وقوله :( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) ( تسأموا ) مجزوم بحذف النون بلا الناهية. والمصدر من أن تكتبوه في محل نصب مفعول به. والهاء ضمير في محل نصب مفعول به للفعل تكتبون. ( صغيرا ) منصوب على الحال، كبيرا معطوف عل ( صغيرا ). والفعل تسأموا أن يكتبوا مدايناتهم إل موعدها المحدد، سواء كانت قليلة أم كثيرة ؛ لما في ذلك من صون لها وإبعاد عن تضييعها. لا جرم أن كتابة الدين والإشهاد عليه يحقق العدل للمتداينين. وذلكم ( أقوم للشهداء ) أي أثبت للشاهد، فهو إذا رأى خطه تذكر به الشهادة ؛ إذ يحتمل أنه لو لم يكتبه لنسيه. وفي الكتابة ما يقرب الناس إل عدم الريبة والتردد ؛ وما يفض النزاع بينهم والخصام. وذلك مقتض قوله تعالى :( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدن لا ترتابوا ).
وقوله :( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ) ( إلا ) أداة استثناء. والمصدر من أن والفعل في محل نصب مستثنى.
و ( تجارة ) خبر كان. ( حاضرة ) صفة لتجارة، والجملة الفعلية من ( تديرونها ) في محل نصب صفة ثانية لتجارة.
إذا كان البيع بالتقابض الحاضر أو يدا بيد، فليس من جناح ( بأس ) ألا يكون ثمة كتابة، بل يدفع البائع السلعة المبيعة للمشتري ليؤدي هذا الثمن حالا دون تأجيل أو نسيئة، فإن كان شيء من تأجيل أو كتابة ندبت الكتابة أو وجبت عل الخلاف.
وقوله :( وأشهدوا إذا تبايعتم ) تلك دعوة كريمة للإشهاد على البيوع مهما كان حجم المبيعات، لكن الفقهاء اختلفوا في حكم الإشهاد عل المبايعات إل مذهبين.
أولهما : أن الإشهاد واجب استنادا إل ظاهر قوله تعالى :( وأشهدوا إذا تبايعتم ) وذهب إلى ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عمر والضحاك وسعيد بن المسيب ومجاهد وداود بن علي الظاهري.
ثانيهما : أن الإشهاد مندوب وليس مفروضا وهو قول أكثر الفقهاء، منهم مالك والشافعي والحنفية. وقد حمل هؤلاء الطلب في الآية على الندب والاستحباب لا الحتم والإيجاب. واستدلوا كذلك بسنة النبي ( ص ) فقد كان عليه السلام يبيع دون أن يُشهد وقد اشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يُشهد أيضا. وذلك الذي نميل إليه ؛ لما ورد من دليل. يضاف إليه أن إيجاب الإشهاد عل المبايعات مهما قلّت أو صغر حجمها وفي كل الأحوال والظروف يوقع الناس في حرج عظيم. ومعلوم أن الشريعة ميسورة وأنها في يسرها تأب الحرج ؛ لقوله تعالى :( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ٤.
قوله :( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) ( يضار ) فعل مضارع مبني
٢ - البيان للأنباري جـ ١ ص ١٨٣.
٣ - القاموس المحيط جـ ٤ ص ٥..
٤ - تفسير الطبري جـ ٣ ص ٧٧ وما بعدها وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٣٤..
والرهان جمع ومفرده رهن وفعله رهن أي ثبت ودام واستمر، والراهن هو الثابت الدائم المستمر، نقول رهنته المتاع بالدين أي حبست متاعه إلى أن يؤدي ما عليه من دين١.
والراهن في الاصطلاح الشرعي كما عرفه القرطبي رحمه الله هو : احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم. وقد جعل الرهن بدلا عن الكتابة عند تعذرها وأغلب ما يكون في ذلك السفر والمقصود من الرهن توثيق الحقوق التي للدائنين عل المدينين ؛ كيلا يجحدوها أو تصيبهم فيها غفلة أو إهمال٢.
ولا يجوز للمرتهن ( الدائن ) أن ينتفع بشيء من الرهن الذي أصبح بحوزته وما الرهن عنده إلا لتوثيق دينه فيطمئن. والمعلوم في مثل هذه المسألة أن دينا جرّ نفعا فهو حرام ؛ لصلته بالربا. وفي هذا الصدد يقول الرسول ( ص ) : " لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غُرمه " أي أن المال المرهون لا يخرج من ملكية صاحبه الراهن وهو المدين ليصبح مملوكا للمرتهن الدائن إذا لم يستطع الأول ( المدين ) أداء ما عليه من دين، بل إن المرهون يظل مملوكا عل الدوام للمدين وعليه نفقته وله ثمرته، وذلك معنى قوله : " له غنمه وعليه غرمه " أما أن يستعمل الدائن المرتهن ثمرة المرهون مادام عنده فذلك غير جائز لصلته بالربا٣.
وقوله :( فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله ربه ) شرط وجوابه وجملة الشرط أمن بعضكم بعضا، والجواب ليؤد الذي أؤتمن أمانته، والفاء مقترن به. و ( الذي أؤتمن ) هو المدين الذي عليه الحق. والأمانة اسم لما يكون في الذمة والمراد أن المدين الذي عليه الحق إذا ائتمنه الدائن وكان موضع ثقته، فعليه أن يكون في موضع الثقة والأمان بالفعل. وعليه بالتالي أن يؤدي ما في ذمته من حق للدائن دون مطل أو تقاعس ودون بخْس للأمانة التي في ذمته من حق للدائن دون مطل أو تقاعس ودون بخْس للأمانة التي في ذمته.
وشأن القرآن دائما وهو يبين للناس حدودهم وخطوط شريعتهم ألا يبرح حتى يخاطب في الإنسان فطرته وقلبه ؛ ليستنهض فيه الهمة، ويثير فيه رهافة الحس ويقظة المشاعر، فتظل على الدوام مبعثا للخير والاستقامة والعدل. يتجل ذلك فهي قوله سبحانه :( وليتق الله ربه ) وذلك بعد إيجاب الأداء في أمانة وحق.
وقوله :( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) ينهى الله عن إخفاء الشهادة أو كتمانها ؛ لما في ذلك من إزهاق للحقوق وتضييع لها.
وقد أوضحنا سابقا أن الأصل في أداء الشهادة من حيث الحكم الشرعي هو الوجوب على الكفاية، فإن كان الشهود كثيرين وتقدم منهم اثنان ليشهدا برئت ذمة الباقين جميعا، لكنه إذا لم يكن من الشهود غير اثنين فقد تعين عليهما أن يؤديا الشهادة صونا للحق، أو كانوا كثيرا لكن الحاكم لم يركن إلى غير اثنين منهم ليقوما بالشهادة، فقد تعين عليهما أيضا أن يقوما لأدائها. فإذا لم يفعلا ذلك وامتنعا من أداء الشهادة وقعا في المحظور وهو كتم الشهادة، ( ومن يكتمها فإنه ثم قلبه ) ( ومن ) اسم شرط جملته الجملة الفعلية ( يكتمها ). والفاء بعدها مقترن بالجواب. والضمير في محل نصب اسم إن، ( ثم ) خبر مقدم. ( قلبه ) مبتدأ مؤخر، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر إن. وقيل غير ذلك من وجوه الإعراب٤.
والذي يكتم الشهادة عند الحاجة إليها عل النحو الذي بيناه يكون ثم القلب. ومن كان قلبه آثما فقد احتمل فسادا كبيرا وفسقا عن أمر الله.
قوله :( والله بما تعملون عليم ) ذلك تحذير من الله للناس ؛ كيلا يكتموا الشهادة فتظل حبيسة في صدورهم فإنه سبحانه يعلم ما تكنه هذه الصدور وما تنثني عليه من فاسد الخبايا وإخفاء للشهادات٥.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ٤٠٩..
٣ - المهذب للشيرازي جـ ٢ ص ٣٠٤..
٤ - البيان للانباري جـ ١ ص ١٨٦..
٥ - تفسير القرطبي جـ ٣ ص ٤١٠- ٤١٨ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٣٦، ٣٣٧ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٩٢..
وقوله :( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوها يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) هذه الآية موضع تفصيل مختلف لدى المفسرين والعلماء، لكننا نستخلص من ذلك كله قولين يمكن التعويل عليهما في إدراك المقصود من الآية :
القول الأول : وهو أن هذه الآية منسوخة. فقد ذهب فريق من العلماء إلى أنه لدى نزول هذه الآية فزعت الصحابة واشتد الأمر عليهم وخافوا من محاسبة الله لهم على ما تكنه قلوبهم وما يخفونه في أنفسهم فأتوا رسول الله ( ص )، ثم جثوا عل الركب وقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال لهم الرسول ( ص ) : " أتريدون ان تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما دفعوا ذلك نسخ الله هذه الآية بقوله تعال :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) وخلاصة هذا القول أن الأمر قد اشتد عل الصحابة وغشيهم خوف شديد لد نزول قوله تعالى :( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فمحاسبتهم عل ما يظهرونه من أعمال قد عرفوه، لكن الذي شق عليهم كثيرا أن يحاسبوا عما يخفونه في أنفسهم من أفكار ووسوسات وهواجس مجردة عن التنفيذ والممارسة. فنسخ الله الآية بقوله :( لا يكلف الله نفسها إلا وسعها ) ١ وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل ".
القول الثاني : وهو لكثير من العلماء وفيهم ابن عباس إذ قالوا : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة. والمعن : إن الله سبحانه وتعالى إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لهم : أني إخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فإنه يخبرهم ثم يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو معنى قوله :( يحاسبكم به الله ) فالمراد بالمحاسبة الإخبار. وأما أهل الشك والنفاق، فإنه يخبرهم بما أخفوه في أنفسهم من السوء والشك والتكذيب. وعلى هذا فإنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة. فإن الله قد يحاسب فيغفر ولا يعاقب وربما حاسب وعاقب. وقد سأل رجل عبد الله بن عمر عن النجوى. فقال ابن عمر : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه٢ فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا، فيقول : رب أعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لكم اليوم ".
وجاء في الخبر " إن الله تعالى يقول يوم القيامة : هذا يوم تُبلى فيه السرائر، وتخرج الضمائر، وإن كتابي لم يكتبوه إلا ما ظهر من أعمالكم، وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه، فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء " ذلك ما نستخلصه في تأويل هذه الآية مع تخريجنا للقول الثاني من أن الآية محكمة لم ينسخها شيء لما بينا من دليل والله تعالى أعلم٣.
والله جل وعلا يغفر إن شاء ويعذب إن شاء وهو سبحانه يقضي بالحق ولا معقب لقضائه، وذلك بما له من مطلق الإرادة وبالغها، ومن تمام الهيمنة وكاملها وهو سبحانه كما قال عن نفسه في آخر الآية في أجمل وصف وأكمله :( والله عل كل شيء قدير ).
٢ - الكنف، بفتحتين بمعن الجانب وجمعه أكناف، أنظر المصباح المنير جـ ١ ص ٢٠٤..
٣ - تفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٣٩ وتفسير الطبري جـ ٣ ص ٩٩..
وقوله :( لا نفرق بين أحد من رسله ) وذلك ثناء آخر عل المؤمنين في هذه الأمة. وهو أن المؤمن لا يفرق بين الرسول كما فعلت اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بل إن المؤمن من هذه الأمة لا يَصدق إيمانه إلا أن يؤمن بالنبيين والمرسلين أجمعين دون تفريق بينهم في الإيمان.
ومن شأن المؤمنين الصادقين المختبتين أن يسمعوا كلام الله ويبادروا بالطاعة دون تخلف، ومن شأنهم كذلك أن يتوسلوا إلى ربهم بالدعاء المتذلل ليغفر لهم خطاياهم وفي ذلك يقول سبحانه :( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ( غفرانك ) مفعول مطلق منصوب بفعل محذوف تقديره اغفر ( المصير ) المرجع والمآب وذلك يوم القيامة.
وفي الآية بيان بأن الله جل وعلا غير مكلف أحدا من العباد بما لا يطيق، والوسع معناه الطاقة أو حجم الاقتدار للإنسان. فما كان فوق طاقة الإنسان مما يفوق حجم قدرته فهو غير مكلف به. وقد يكون التكليف بما يتضمن مشقة على أن يكون ذلك محتملا أو في حدود المقدور للإنسان.
وإن كانت المشقة غير محتملة أو لا يطيقها الإنسان فقد بات المرء فير مكلف بها استنادا إلى قوله تعالى :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ). إن هذه الحقيقة من التيسير والتسهيل ورفع الحرج تتخلل كل جوانب هذا الدين الميسور. سواء في ذلك العقيدة بكل أركانها وأفرعها والأحكام من معاملات وجنايات وسلوك، كل أولئك قد قرره الإسلام ليجيء منسجما مع طبيعة الإنسان وطاقته واقتداره. يدل على ذلك تشريع الإسلام للرخص في كل مناحي الشريعة لتكون للمسلمين مناصا ينفذون منه إلى حومة اليسر كلما حاق بهم ضيق أو حرج يصعب تجاوزه إلا بإعنات بالغ.
وقوله :( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) كسب واكتسب بمعنى واحد وهو التصرف سواء في ذلك عمل الخير أو الشر، وعلى ذلك فالنفس لها ما أصابت من الخير وعليها ما أصابت من الشر من وجوه المحرمات والمحظورات. على أن اللفظين وهما الكسب والاكتساب من حيث المعنى والمدلول لا يفترقان، لكن التكرار المتجانس هنا يراد منه التنويع في التصريف مراعاة لحسن الكلام وجودته بما يروق للنفس وهي تتملاه، كشأن القرآن في هذه المسألة.
وقوله ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ذلك تعليم من الله لعباده المؤمنين أن يدعوه بمثل هذا الدعاء وهو طلبهم إليه متوسلين ألا يؤاخذهم على النسيان والخطأ. ونفي المؤاخذة من الله في نسيان العبد وخطئه تعني رفع الإثم عنه في هذين الأمرين. وبذلك فإن العبد غير مؤاخذ في حال نسيانه وحال خطئه. وتلك رحمة من الله يفيضها على العباد. وفي هذا الصدد روى الطبراني في الكبير عن ثوبان أن رسول الله ( ص ) قال : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
وقوله :( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا )
الإصر في اللغة العهد. والمراد به هنا الذنب والثقل والضيق، وجمعه الآصار١. وذلكم ترشيد آخر من الله للمؤمنين ليدعوه بأن لا يكلفهم من الأفعال الشاقة الصعبة التي لا تطاق، وذلك كالذي أثقل به كواهل الأمم السالفة من التكليف القاهر العسير.
ومن قواعد هذا الدين أنه قائم على الحنيفية والتيسير، وأنه ينفي الضيق والحرج والتعسير كما بيناه نفا ؛ لأنه دين الفطرة الإنسانية، والذي يتلاءم وطبيعة الإنسان في غير ما إعنات أو إحراج. يقول الرسول ( ص ) في ذلك : " الدين يسر فيسروا ولا تعسروا " ويقول عليه الصلاة والسلام : " بُعثت بالحنيفية السمحة "
وقوله :( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) وهو ترشيد ثالث للمؤمنين ليدعوا الله ألا يكلفهم من الواجبات والأعمال ما لا يطيقون. وقد استجاب الله لهذه الأمة دعاءها إذ أسقط عنها إثم النسيان والخطأ، ولم يحملها من الآصار وثقيل التكاليف ما لا يطيقون كالذي أثقل به كواهل الأمم السالفة، وبذلك قد أذهب عنها وطأة التكليف بما لا طاقة للإنسان به.
وأخيرا أفاض الله على المؤمنين بكريم العطاء وجزيل الخير إذا منّ عليهم بالعفو أولا وذلك عن الذنوب التي يقترفها العباد في حق الله، ثم منّ عليهم بالغفر أي الستر فقد ستر الله للمؤمنين ذنوبهم التي اقترفوها في حق العباد.
وفوق ذلك كله تأتي الرحمة من الله يفيضها على عباده المؤمنين ليكونوا دائما في كلاءته وهم تحف بهم أجنحة الرحمة في حلهم وترحالهم وفي حياتهم الدنيوية هذه وما يتخللها من الأفعال والأقوال. وفي يقول سبحانه :( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ).
ثم يأتي الإقرار الحاسم الأكبر من العباد المؤمنين بأن الله جلت قدرته هو وليهم وناصرهم، وإنه الرب المستعان وعليه الاعتماد والتكلان، وأنه ليس لهم دونه من ولي ولا ناصر يكتب لهم النصر عل الأعداء المتربصين الكافرين. وفي ذلك يقول سبحانه :( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) ٢.
نضرع إلى الله متوسلين متذللين ألا يؤاخذنا فيما كسبت أذهاننا من نسيان، وما اكتسبت جوارحنا من أخطاء، وأن يعفو عن زلاتنا، ويغفر لنا الذنوب والآثام، وأن يستر علينا العيوب والمعاصي، وأن يفيض علينا برحمته التي وسعت كل شيء، وأن يكتب النصر لدينه ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. آمين.
٢ - تفسير الطبي جـ ٣ ص ١٠٤- ١٠٧ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٣٤٢، ٣٤٣ وتفسير القرطبي جـ ٣ ص ٤٢٩ -٤٣٣..