تفسير سورة المؤمنون

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ المؤْمِنون
(مَكِيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ومن السورة التي يذكر فيها المؤمنون.
قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)
أي قد نَالُوا البَقاء الدائم في الخير، ومن قرأ قد أُفْلِحَ المؤمنونَ.
كان معناه: قد أُصِيرُوا إلى الفلاح.
ويروى عن كعب الحَبْر: أن الله عزَّ وجلَّ لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء، خلق آدمَ - ﷺ - بِيَدِه وخلق جنَّةَ عَدْنٍ بيده، وكتب
التوراة بيده، فقال لجنَّة عدنٍ تكلمي فقالت ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)
لما رأت فيها من الكرامة لأهلها،
و (الْمُؤْمِنُونَ) المصدِّقونَ بما أتى من عند اللَّه، وبأنه واحد لا شريك له.
وأن محمداً - ﷺ - نبيُّه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)
أصل الخشوع في اللغة الخضوع والتَوَاضع، ودليل ذلك قوله:
(وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).
وقال الحسن وقتَادَةُ: خاشعون خائفون.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه كان إذا وقف في صلاته رفع بصره نحو السماء، فلما نزلت (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) جَعَلَ نظره موضع سُجُودِه..
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
اللغو كل لَعِبٍ وهَزْلٍ، وكُلُّ مَعْصِيَةٍ فمُطَّرحةٌ مُلْغَاة، وهم الذين قد
شغلهم الجد فيما أمرهم اللَّه به عن اللغْوِ.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)
معنى (فَاعِلُونَ) مُؤتُونَ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)
أي يحفظون فروجهم عن المعاصي.
* * *
(إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
مَوْضِعُ " ما " خفَضٌ ودخلت " على " ههنا لأن المعنى أنهم يلامون في
إطْلاقِ ما حُظِرَ عَلَيْهم، (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ فِإنَهُم لَا يُلَامون على ما أُحِلَّ لَهُمْ
مِنْ تَزوج أرْبع، ومِنْ ملك اليَمِين، والمعنى أنهم يلامون على ما سِوى
أَزْوَاجِهِمْ وملك أيمانِهِمْ.
(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)
أي فمن طلب مَا بَعْدَ ذَلِكَ.
(فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ).
ومعنى (الْعَادُونَ) الجائرون الظالمونَ الذين قَدْ تَعدَّوا فِي الظلْمِ.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)
ويقرأ لأمانتهم واحداً وَجَمْعاً.
(وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ).
أي يقومُون على حفظ أَمَانَتِهِمْ وَعَهْدِهم، يَرْعَوْنَ ذلك، وأصل الرَّعْيِ
في اللغَةِ القيامُ على إصلاح ما يتولَّاه الراعي من كل شيءٍ تقول: الِإمام
يَرْعَى رَعِيتَهُ، والقيِّمُ بالغنم يَرْعَى غَنَمه، وفلان يَرْعَى مَا بَيْنَه وبَيْنَ فُلانٍ، أي يقوم على إصْلاح ما بينه وبينه.
* * *
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ).
وَصَلَواتِهِم يقرأ أن جميعاً.
(يُحَافِظُونَ).
معناه يُصَلونَها لوقتها، والمحافظة على الصلَواتِ أَن تُصَلَّى في أَوْقَاتِها.
فأمَّا الترك فَداخل في بَابِ الخُرُوجِ عَنِ الدِّينِ.
والذين وُصِفُوا بالمحافظة هم الذين يرْعَوْنَ أَوْقَاتَها.
* * *
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)
أيَ من وصف بما جرى من الِإيمَانِ والعَمَلِ بما يلزم المؤمِنَ أُولئِكَ هُم
الْوَارِثُونَ.
* * *
(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)
روي أن اللَّه - جل ثناؤه - جعل لكل امْرِئ بَيْتاً في الجَنَّةِ وَبَيْتاً في النَّارِ
فمن عَمِلَ عَمَلَ أهلَ النَّارِ وَرِث بيتَه مِنَ الجَنَّةِ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ، ومن
عَمِلَ عَمَلَ أهْلِ الجنَّة ورث بيته من النار من عَمِلَ عَمَل أهل النَّارِ، والفِرْدَوْس: أصله رُومي أعرب وهو البسْتَان، كذلك جاء في التفسير.
وقد قيل إنَّ الفِرْدَوْس يعرفه العَرَب، وسُمِّى الموضِع الذي فيه كرم فردوساً.
قال أبو إسحاق: روينا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبل رحمه الله في كتابه " كتاب
التفسير "، وهو ما أجازه لي عبد الله ابنه عنه أن اللَّه عزَّ وجلَّ، بنى جَنَّةَ
الفِرْدَوْسِ لَبِنةً من ذهب ولَبِنةً من فِضةٍ، وجَعَلَ جِبَالها المِسْكَ الأذْفَر.
ورَوينَا عن غيره أن اللَّه - جَلَّ ثناؤه - كنس جَنّة الفردَوْسِ بِيدِه، وبناها لبنةً من ذهب مُصَفًّى ولبنةً مِنْ مِسْكٍ مذَرًّى، وغرس فيها مِنْ جَيِّدِ الفَاكِهَةِ وَجَيِّد الريْحَانِ.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
سُلَالَة: فعالة. فخلق اللَّه آدم - عليه السلام - مِنْ طِينٍ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣)
على هذا القول يَعْنِي وَلَدَ آدم.
وِقيل مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طينٍ، من مَنِيِّ آدم - ﷺ -
وسُلَالَة: القليل فيما يَنْسَلُ. وكل مَبْنَى عَلَى فُعالة، يراد به القليل.
فمن ذلك الفُضَالَة والنُّخَالة والقُلاَمَة. فَعَلَى هذَا قياسُه.
* * *
وقوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
(١٤)
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)
وتقرأ على أرْبَعةِ أوْجهٍ:
أحدها ما ذكرنا. وتقرأ: (فَخَلَقنا المضغة عَظْماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العَظْمَ لحماً)
ويقرأ: (فخلقنا المضغة عَظْماً فكسونا العظام لحماً).
والتوحيد والجمع ههنا جائزان، لأنه يُعْلم أن الإنسانَ ذُو عظام، فإِذَا ذُكِرَ على التوحيد فِلأنه يَدلُّ على
الجمع، ولأنَّهُ مَعه اللحْمَ، ولفظه لفظ الواحِدِ، فقد عُلِمَ أن العَظْمَ يُرَادُ به
العِظَامُ.
وقد يجوز من التوحيد إذا كان في الكلام دليل على الجمع مَا هُوَ أشَدُّ
مِنْ هذا قال الشاعر:
في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم عِظامٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ).
فيه ثلاثة أقوال: قِيل جُعِلَ ذكراً أَوْ أنثى، وقيل نفخ فيه الروح.
وقيلَ أنْبِتَ عليه الشًعْرُ.
ويروى أَن عمَر كان عند رسول الله - ﷺ - حين نزلت هذه الآية، فقال عَمر: فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ، فقال - ﷺ - لعمر إن الله قد ختم بها الآية.
* * *
وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
ويجوز لمائِتون، ويجوز لَميْتون.
وأجْوَدها (لَمَيِّتُونَ)، وعليها القراءة.
وجاءت مائتون لأنها لما يستقبل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧)
يعنَى به سبع سموات، فكل واحدة طريقة.
(وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، أي لم نكن لنغفلَ عن حفظهنَّ، كما
قال: (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفوظاً).
وجائز أن يكون (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي إنا لِحِفْظِنَا إيَّاهُمْ خلقنا هذا الخلق.
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨)
ويروى أن أربعة أنهار من الجنة، دجلةُ والفراتُ وَسِيحانُ وجِيحانُ.
ومعنى (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) جعلناه ثابتاً فيها لا يزول.
* * *
وقوله: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
(شَجَرَةً) منصوب، عطف على قوله: (فَأنْشَأنَا لَكُمْ به جَنَّاتٍ) أي، وأنشأنا
لكم به شجرةً.
ويقرأ (من طور سَيْنَاءَ) بفتحَ السين، وبكسر السين (١)، والطور
الجبل، وقيل إن سيناء حجارةٌ، وهو - واللَّه أعلم - اسمٌ لِمكَانٍ.
فمن قال سَيْناء، فهو على وصف صحراء، لا ينصرف، ومن قال سِينَاء - بكسر السين - فليس في الكلام على وزن فِعْلاَء على أن الألف للتأنيث، لأنه ليس في الكلام ما فيه ألف التأنيث على وزن فِعْلَاءَ، وفي الكلام نحو عِلْباءٍ مُنْصَرِفٌ.
إلا أن سِيناء ههنا اسم للبقعة فلا ينصرف.
قوله: (تَنْبًتُ بِالذُهْنِ).
يقال نبت الشجر وأَنْبَتَ في مَعْنًى واحدٍ، قال زُهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً لهم حتى إذا أنبت البَقْلُ
ومعنى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت وفيها دُهْنٌ وَمَعَها دُهْن كما تقول:
جاءني زيد. بالسيف، تريد جاءني ومعه السيف.
وقوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَشَجَرَةً﴾: عطفٌ على «جناتٍ». وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِيناء» بكسر السين. والباقون بفتحها. والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها. فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول، وهمزتُه للتأنيث، بل للإِلحاقِ ك «سِرْداح» و «قِرْطاس» فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء، قال الفارسي: «وهي الياءُ التي ظهرَتْ في» دِرْحايَة «. والدِّرْحاية: الرجلُ القصيرُ السمينُ.
وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال:»
والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل «حِمْلاق» وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام «سنأ»] يعني: مادة سين ونون وهمزة. وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل. على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها، وقيل: للتعريف والعُجْمة، قال بعضهم: والصحيحُ أن «سِيْناء» اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا: سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل، والخِنْذِيْذ: الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً، فهو مِن الأضداد، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ، والزِّحْلِيلُ: المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى.
وقال الزمخشري: «طُوْرُ سيناء وطور سينين: لا يخلوا: إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء، وسينون، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك، فيمَنْ أضاف. فَمَنْ كَسَرَ سينَ» سيناء «فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ، أو التأنيثِ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء. قلت: وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها. وكسرُ السين من» سِيْناء «لغةُ كِنانة.
وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث، فَمَنْع الصرف واضحٌ. قال أبو البقاء:»
وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح. وما حكى الفراء مِنْ قولهم: ناقةٌ فيها خَزْعال «لا يَثْبُتُ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه».
وقد وَهِم بعضُهم فجعل «سيناء» مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما: أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم، الثاني: أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ، لكنْ المادتان مختلفتان، فإنَّ عَيْنَ «السنا» نونٌ وعينَ «سيناء» ياء.
كذا قال بعضُهم. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّم أن عينَ «سيناء» ياءٌ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء، ووزنها حينئذٍ فِيْعال، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
يعنى بها الزَيْتُون.
* * *
قوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
(جِنَّةٌ) في معنى جُنُون، والجنَّةُ اسم للجِن.
* * *
وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
تقرأ مُنْزَلاً وَمَنْزِلاً جميعاً، فالمَنْزِل اسم لكل ما نزلتَ فيه، والمُنْزَلَ
المصدر بمعنى الإنزال، يَقُول: أَنْزَلْتُه إنْزَالاً وَمُنْزَلاً ويجوز مَنْزَلاً، ولم يقرأ بها
- فلا تقرأن بها -. على معنى نزلت نزولاً وَمَنْزَلاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)
وهذا جوابُ الملأ مِنْ قَوْمِ ثمودَ (١).
فأمََّا " أَنَّكُمْ " الأولى، فموضعها نصب
على معنى أيَعدُكم بأَنكُمْ إذا متم، وموضع " أَنَّ " الثانية عند قوم كموضع
الأولى، وإنما ذُكِرَتْ تَوْكِيداً.
فالمعنى على هذا القول: أَيَعِدُكم أَنكُمْ تُخرَجُونَ إِذَا مِتمْ، فلما بَعُدَ مَا بَيْنَ أن الأولى والثانية بقوله: (إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظَاما) أُعِيدَ ذِكر " أنَّ " كما قال عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) المعنى فله نار جهنم.
هذا عَلَى مذهب سيبويه، وفيها قولان آخران أجودهما أن تكون أن الثانية وما عملت فيه في موضع رفع ويكون المعنى أَيَعدُكُمْ أنكم إخراجُكم إذا مُتم. فيكون أنكم مخرجون في معنى إخراجكم، كأنَّه قيل: أيعدكم أنكم إخراجكم وقت موتكم وبعد مَوْتكم، ويكون العامِلُ في " إذَا " إخراجكم، على أن
" إذا " ظرف، والمعنى أنكم يكونُ إخراجكم إذا مِتم.
الثالث أن يكون إذا العامِلُ فيها " مَتَمْ "، فيكون المعنى إنكمْ
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ﴾: الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ اسم «أنَّ» الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، والخبرُ قولُه: ﴿إِذَا مِتٌّمْ﴾ و ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ تكريرٌ ل «أنَّ» الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى: أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم.
الثاني: أنَّ خبرَ «أنَّ» الأولى هو «مُخْرَجُون»، وهو العامل في «إذا»، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ. وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ.
الثالث: أنَّ ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ «إذا» الشرطيةِ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ ل «أنَّكم» الأولى، تقديرُه: يَحْدُث أنكم مُخْرَجون.
الرابع: كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ ل «أنَّ» الأولى، وهو العاملُ في «إذا».
الخامس: أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه، تقديرُه: أنكم تُبْعَثُون، وهو العاملُ في الظرف، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى، وهذا مذهبُ سيبويه.
السادس: أنَّ ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ مبتدأٌ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه، والجملةُ خبرٌ عن «أنكم» الأولى، والتقديرُ: أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «إذا» «مُخْرَجُون» على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز «أنَّ» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها «مِتُّم» لأنه مضافٌ إليه، و «أنَّكم» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ الحرفِ، إذ الأصلُ: أيَعِدُكم بأنَّكم. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو: وَعَدْتُ زيداً خيراً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
متى مُتمْ يقع إخْراجُكم، فيكون خبر إنّ مُضْمَراً، والقولَان الأولانَ جَيدانِ.
ويجوز ُ: أيَعِدُكم أنكُمْ إِذا مِتُّم أنكم مُخْرجُونَ، ولم يُقْرأ بِهَا فلا تقرأنَّ
بها. ويكونَ المعنى في يعدكم يقول لكم ولكنها لا تجوز في القراءة لِأنَّ
القِرَاءَةَ سُنَةٌ.
* * *
وقوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)
يقرأ بفتح التاء وبكسر التاء (١)، ويجوز هيهاتٍ هيهاتٍ - بالتنوين - ويجوز
هيهاتاً هيهاتاً، فأما الفتح والكسر بغير تنوينٍ فكثيرتان في القراءة، وذكرهما
القراء والنحويون، وقد قرئت بالكسر والتنوين، فأما التنوين والفتح فلا أعلَمُ أحَدَاً قَرأ بِهِمَا، فلا تقرأنَّ بِهَا.
فأمَّا الفتح فالوقف فيه بالهاء. تقول هَيْهاهْ هَيْهاهْ - إذا فتحت ووقفت بَعْد
الفتح، فإذا فتحتَ وَقَفْت على التاء سواء عليك كنت تنوِّن في الأصل أو كنت مِمنْ لا ينَوِّن.
فمن فتحها - وموضعها الرفْع وتأويلها البعد لما توعدونَ - فلأنها بمنزلة
الأصواتِ، وليْست مشتقَةً من فِعْلِ فَبنَيَتْ هيهاه كما بُنِيَتْ ذَيَّه وَذِيَّه.
فإذَا كَسَرْتَ جَعْلَتها جَمْعاً وبَنيتها على الكسر.
قال سيبويه: هي بمنزلة عَلقاه.
يعني في تأنيثها.
ومن جَعَلَها جَمْعاً فهي بمنزلة قول العرب: استأصل اللَّه عَرْقَاتِهمْ
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ﴾: اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير:
٣٤١٣ فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه... وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: «البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون». فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و «هيهاتَ» اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: «ما توعدون» فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: «هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون». وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و «لِما تُوْعدون» للبيانِ. قال/ الزمخشريُّ: «لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣] لبيانِ المُهَيَّتِ به». وقال الزجاج: «البُعْدُ لِما تُوعدون» فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما تُوعدون هو المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب» هيهاتَ «كما ارتفع بقولِه:
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه.............................
فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه:»
البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر «. قال الشيخ:» وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر «. قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه:» أو بُعْدٌ «فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما.
وقال ابن عطية:»
طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون «. ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو» لِما تُوعدون «. وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله:
٣٤١٤ هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ... كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر:
٣٤١٥ هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ... دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة:
٣٤١٦ هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه... قال القيسي شارحُ»
أبيات الإِيضاح «:» وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.
والألفُ في «هيهات» غيرُ الألفِ في «هيهاؤه»، وهي في «هيهات» لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في «هيهاؤه» ألف الفَعْلال الزائدة «.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و»
هَيْهاتاً «بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و» هَيْهاتٌ «بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.
و»
هَيْهاتٍ «بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضاً، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. وهَيْهاهْ» بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً. و «أَيْهاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.
ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و «إيهان» بالنون آخراً، و «أيهى» بالألفِ آخراً. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال: «هي مثل بَيْضات» فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ «سَلْقاة» و «جَعْباة» زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلاً، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء «حَصَيَات» و «نَوَيات».
وقالوا: مَنْ فتح تاء «هيهات» فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة «كيف الإِخوةُ والأخَواهْ» ولا «هذه ثَمَرَتْ» لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.
واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء.
وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: «مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ». انتهى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ.
وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: «إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه» لِما تُوْعَدون «أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك». وقال الرازي في «اللوامح»: «فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء]، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً». قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ.
قرأ ابنُ أبي عبلةَ «هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون» من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.
و «ما» في «لِما تُوْعدون» تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وَعَرقاتَهُمْ. فالذي يقول: عرقاتِهم - بالكسر، جعلها جمعاً، وواحدها كأنَّه
عَرْقَة وَعَرْقٌ، وواحد هيهات على هذا اللفظ وأن لم يكن حاله واحِداً: هَيْهة.
فإن هذا تقديره - وإن لم ننطق به.
وأما عَرْقَاتٌ فقد تكلم بِوَاحِدِهَا.
يقال عرق وعرقاة وَعَرْقَةٌ وَعَرْقَان.
وإنما كُسِرَ في الجَمْعِ لأنَّ تاء الفتح في الجمع كسر
تقول: مررت بالهنداتِ، وكذلك رأيتُ الهنداتِ.
ويقال أَيْهَات في معنى هيهات. ويقال هيهات ما قلتَ وهيهات لما
قُلْتَ، فمن قال هيهات ما قلت فمعناه البعد ما قلت، ومن قال: هيهات لما
قلت فمعناهُ البعد لقولك، وأنشدوا:
فأيهات أيهات العقيق ومن به... وأيهات خل بالعقيق نواصله
فأمَّا مَنْ نَوَّنَ هيهات فجعلها نكرة، ويكون المعنى: بُعدٌ لِمَا تُوعَدون.
* * *
وقوله تعالى: (قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠)
معناهُ عَنْ قليل، و " مَا " زائدة بمعنى التوكيد، كأنَّ مَعْنَاه: عَنْ قَلِيل
لَيُصْبِحُن نَادِمِينَ حَقًّا.
* * *
وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢)
الغثاء الهالكُ والْبَالِي من وَرَق الشجرِ الذي إذا جرى السيلُ رأيته
مُخَالِطاً زَبَدَهُ.
* * *
وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
ويقرأ تَتْرًى، ويجوز تَتْرِي غير مُنَوَّية بالكسر، ولم يُقْرَأْ بِهِ فلا تَقْرأَنَّ بهِ.
من قرأ بالتنوين فمعناه وَتْراً فاَبْدَل التاءَ من الواو كما قالوا تَوْلج وهو من
وَلجَ، وأصله وَوْلج، وكما قالَ الشًاعِرُ.
فإِن يكن أَمْسى البِلَى تَيْقورِي
أَي: وَقاري، وهو فيعول من الوقار. وكما قالوا: تُجَاه وإنما هو وُجَاه
من المُواجِهة، ومن قال تترى بغير تَنْوينِ فإنما جعلها على فَعْلَى بألف التأنيثِ
فلم ينَون، ومعنى تَتْرَى من المواتَرةِ، وقال الأصمعي معنى واتَرْتُ الخبرَ
اتبعت بعضَه بَعْضاً وبين الخبرين هُنيَّة.
وقال غيره: الموَاتَرَةُ المتابعة، وأصل
كل هذا من الوِتْر، وهو الفَرْدُ، وهو أَنْ جَعَلْتَ كل وَاحِدٍ بعد صاحبه فَرْداً فَرْداً (١).
* * *
وقوله: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
ولم يقل آيتين، لأن المعنى فيهما آيَة واحدة، ولو قيل آيَتَيْن لجاز
لأنهما قد كان في كل واحد منهما ما لم يكن في ذَكَرٍ وَلَا أَنثى، مِنْ أَن مَرْيَمَ
وَلَدَتْ من غير فَحْل، ولأن عيسى روح من اللَّه ألقاه إلى مَرْيَمَ ولم يكن هذا
في ولدٍ قط.
وقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ).
في ربوة ثلاث لغات رَبْوَة، ورِبْوَة، ورُبوة، وفيها وجهان آخران، رَبَاوَة.
وَرِباوة. وهو عند أهل اللغة المكانُ المرتَفِع وجاء في التفسير أنه يعني بربوة
هَنَا بيتُ المَقْدِس، وأَنه كَبِدُ الأرْضِ وأنه أقرب الأرض إلى السماء.
وقيل يعني به دِمَشْق، وقيل فلسطينُ والرحْلَةُ.
وكل ذلك قد جاء في التفسير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿تَتْرَى﴾: فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ «رُسُلَنا» بمعنى متواتِرين أي: واحداً بعد واحدٍ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي. وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ. والثاني: أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه: إرسالاً تَتْرى أي: متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ «تَتْرَىً» بالتنوين. وباقي السبعةِ «تترى» بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ. وهذه هي اللغةُ المشهورةُ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان، أحدُهما: أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس، فقوله: «تَتْرَىً» كقولك: نَصَرْتُه نَصْراً. وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً. وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه، فيُقال: هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو: هذا نَصْرٌ، ورأيت نصراً، ومررتُ بنصرٍ. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً. الثاني: أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين. وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ، الثالث: أنها للتأنيثِ كدعوى. وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ. الثاني: أنها للإِلحاق. الثالث للتأنيث. واخْتُلف فيها: هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى، أو اسمُ جمعٍ كأسرى وشتى، كذا قالهما الشيخ. وفيه نظرٌ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ. وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه.
واختلفوا في مَدْلُولِها: فعن الأصمعيِّ: واحداً بعد واحد، وبينهما مُهْلَة. وقال غيره: هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة. وقال الراغب: «والتواتُرُ: تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى. قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ والوَتِيْرَة: السَّجِيَّةُ والطريقة. يقال: هم على وَتيرةٍ واحدةٍ. والتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرة: الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن.
قوله: ﴿أَحَادِيثَ﴾ قيل: هو جمعُ»
حديث «ولكنه شاذٌّ. وقيل: بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة. وقال الأخفش:» لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ. ولا يُقال في الخير. وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع «. وقال الزمخشري:» الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «. قال الشيخ:» وأَفاعيل ليس من أبنيةِ اسمِ الجمع، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى «أحاديث» وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو «حديث» فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا «. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أي ذات مُسْتَقَر، و " مَعين " ماء جَارٍ من العُيُونِ. وَقَالَْ بَعْضهمْ يجوز أن
يكون " فَعِيلا " من المَعْنِ، مشتقا من المَاعُونِ.
وهذا بَعِيد لأن المَعْن في اللغة الشيء القليل، والماعونُ هُوَ الزكاةُ، وهو فاعول من المَعْنِ، " وإنما سُمِّيتِ الزَكَاةُ بالشيء القليل، لأنه يؤخَذُ مِنَ المالِ رُبْعَ عُشْرِهِ، فهو قليل من كثير.
قال الراعي:
قوْمٌ على التَّنْزيِلِ لَمَّا يَمْنَعُوا... ماعونَهم ويُبَدِّلُوا التَّنْزِيلا
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
أي كلوا من الحلال، وكل مأكول حَلَالٍ مُسْتَطَابِ فهو داخل في هذا.
وإنَّمَا خُوطب بهذا رسولُ اللَّه - ﷺ - فقيل يَأَ أَيُّها الرسُلُ، َ وتَضَمَنَ هَذَا الخطابُ أن الرسُلُ جَمِيعاً كذا أُمِرُوا.
وَرُوِيَ أن عيسى عليه السلام كان يأكل مِنْ غَزْل أُمِّه، وأَطْيبُ الطيباتِ الغَنائمُ.
* * *
وقوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
أي فاتْقون لِهذَا.
وقد فسرنا في سورةِ الأنْبياء كل ما يجوز في نظير هذه
الآية.
وجملة تأويلها أن دينَكمْ دِينٌ واحد، وهو الإسلام.
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنَ قَوماً جعلوا دينهم أَدْيَاناً فقال:
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
ويقرأ زُبَراً، فمن قرأ زُبُراً فتأويله جعلوا دينهم كتُباً مُخْتَلِفة جمع زَبُورٍ
وَزُبُرٍ، ومن قرأ زُبَراً أراد قِطَعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
ويجوز في غَمَراتِهِمْ، ومعناه في عَمايَتهِمْ وَحَيْرتِهِم.
ومعنى: (حَتَّى حِينٍ).
أي إلى حين يأتيهم ما وُعِدُوا به من العَذَابِ.
* * *
وقوله تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)
(نُسَارِعُ) - بالنون - يُسَارَعُ - بالياء - ويُسَارَعُ على ما لم يُسَم فاعله.
وتأويله أيحسبون أن إمْدَادَ اللَّهِ لَهُمْ بالمال والبنين مجازاة لَهُمْ؛ وإنَّما هو
استدراج من اللَّه لهم، و " ما " في معنى الذي، المعنى أيحسبون أن الَّذِي
نمدهم به من مال وبنين. والخبر معه محذوف المعنى نسارع لهم به في
الخيرات، أي أيحسبون إمْدَادَ ما نُسارعُ لهم به.
فأمَّا من قرأ يُسَارَعُ فعلى وَجْهَين، أَحَدُهُمَا لا يحتاج إلى إضمار، المعنى: أيحسبون أن إمدادنا لهم يسارع لهم في الخيرات، ويجوز أن يكون على معنى يسارع اللَّه لهم به في الخيرات، فيكون مثل نُسَارِعُ، ومن قرأ يسارَع لهم في الخيرات يكون على معنى يُسارَع الإمْدَادُ لهم في الخيرات وعلى معنى نسارَع لهم في الخيرات، فيكون تقوم مقام مَا لَمْ يُسَمَّ لهم، ويكون مضمراً معه به. كما قلنا (١).
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)
ويقرأ يَأتُونَ مَا أَتَوْا - بالقَصْرِ - وكلاهما جيِّدٌ بَالغ، فمن قرأ
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾: في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ «أنْ» و «نُمِدُّهم» صلتُها وعائدُها. «ومن مال» حالٌ من الموصولِ، أو بيانٌ له، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «نُسارعُ» خبرُ «أنَّ» والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم «أنَّ» محذوفٌ تقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ. وقيل: الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم «أنَّ» هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه «في الخيرات»، إذ الأصل: نُسارِعُ لهم فيه، فأوقع «الخيرات» موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات. وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ، وإن. لم يكنْ بلفظِ الأولِ، فيُجيز «زيد الذي قام أبو عبد الله» إذا كان «أبو عبد الله» كنيةَ «زيد». وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ» مِنْ مالٍ «لأنه كان» مِنْ مال «، فلا يُعاب عليهم [ذلك، وإنما يعابُ عليهم] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم».
الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم «أنَّ» و «نُسارع» هو الخبرُ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ «أنْ» المصدريةِ قبل «نُسارع» ليصِحَّ الإِخبارُ، تقديرُه: أَنْ نسارعَ. فلمَّا حُذِفَتْ «أنْ» ارتفعَ المضارعُ بعدَها. والتقديرُ: أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات. والثالث: أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ. وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على «وَبَنِين» لأنه قد حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو: حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ، وأنما تقومُ أنت.
وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب «إنما» بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ، ويكونُ حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ «يُمِدُّهم» بالياءِ، وهو اللهُ تعالى. وقياسُه أَنْ يقرأ «يُسارع» بالياء أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ «يُسارع» بالياءِ وكسرِ الراء. وفي فاعِله وجهان، أحدُهما: الباري تعالى الثاني: ضميرُ «ما» الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً. وحينئذٍ يكون «يسارِعُ لهم» الخبرَ. فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي: يُسارع اللهُ لهم به أو فيه. وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ «ما» الموصولةِ.
وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً «يُسارَع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخيرات» هو القائمُ مَقامَ الفاعل. والجملةُ خبرُ «أنَّ» والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم وقرأ الحسن «نُسْرع» بالنون مِنْ «أَسْرَعَ» وهي ك «نُسارع فيما تقدَّم.
و ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ، وهو إضرابُ انتقالٍ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(يؤتُونَ مَا آتَوْا) فإن معناه يعطون ما أَعْطَوْا وهم يخافون ألا يَتقبل منهم. قلوبُهم خائفة لأنهم إلى رَبِّهم رَاجِعُونَ، أي لأنهم يوقنون بأنهم راجعون إلى اللَّه - عز وجل -.
ومن قرأ (يأتون ما أَتَوْا) أي يعملون من الخيرات مَا يَعْمَلُونَ وقلوبُهم
خَائِفة.
يخافون أن يكونوا مع اجتهادهم مقصرين.
* * *
(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)
وجائز يُسْرِعُونَ في الخيرات، ومعناه معنى يسارعون.
يقال أسْرَعت، وسَارَعْتُ في معنى واحدٍ، إلا أن سارعت أبلغ من أَسْرَعْتُ.
وقوله: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).
فيهِ وجهانِ أحدهما معناه إليها سابقون، كما قال: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)
أي أَوحَى إليها.
ويجوز: (وَهُمْ لها سابِقُونَ) أي من أجل اكتسابها، كما تقول: أَنَا أُكْرِمُ فُلَانَاً لك، أي مِنْ أَجْلِكَ.
* * *
وقوله: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)
ويجوز: ولا يُكلِّفُ نفساً إلا وُسْعَها، ولم يقرأ بها ولو قرئ بها لكانت
النون أجود - لقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ).
* * *
وقوله: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)
يجوز أن يكون " هَذَا " إشارةً إلى ما وصف من أعمالِ البِرِّ في قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) - إلى قوله (يُسَارِعُونَ في الخيرات).
أي قُلُوبُ هؤلاء في عَمَايةٍ من هذا، ويجوز أن يكون " هذا " إشارةً إلى
الكتاب، المعنى بل قلوبهم في غمرة من الكتاب الذي ينطِقْ بالحق.
وأعمالهم مُحْصَاةٌ فيه.
قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ).
أخبر اللَّه - عزَّ وجلَّ - بما سيكون فيهمُ، فأعلم أنهم سيعملون أَعْمالًا
تباعد من الله غير الأعمال التي ذكروا بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
أي: يضجُّون، والعذاب الذي أُخِذُوا بِهِ السيْف، يقال جَأَر يجأر جُؤاراً، إذَا ضَجَّ.
* * *
وقوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
(تَنْكِصُونَ) أي: تَرْجِعُونَ.
* * *
وقوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)
منصوب على الحال، وقوله " به " أي بالبيْتِ الحرام، يقولون: البَيْتُ
لَنَا (١).
وقوله: (سَامِرًا).
بمعنى " سُمَّرا " ويجوز سُمَّارا، والسامِرُ الجَمَاعَةِ الذين يَتَحَدَّثونَ لَيْلاً.
وإنما شمُّوا سُمَّارا مِنَ السَّمَرِ، وهو ظل القمر، وكذلِكَ السُّمْرَة مثشقة من
هذا.
وقوله: (تَهْجُرُونَ).
أي تَهجْرونَ القرآن، ويجوز تَهْجِرُونَ: تَهذونَ. وَقرِئَتْ: تهْجِرُونَ أي
تقولون الهُجْرَ، وقيل كانوا يسبُون النبي - ﷺ -.
ويجوز أن تكون الهاء للكتاب.
ويكون المعْنَى فكنتمْ على أَعْقَابَكمْ تَنكِصُون مستكبرين بالكتاب.
أي يحدث
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾: حالٌ مِنْ فاعل «تَنْكِصُون». قوله: «به» فيه قولان، أحدُهما: أنَّه يتعلقُ ب «مُسْتكْبرين». والثاني أنه متعلقٌ ب «سامِراً». وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب «تَنْكِصون»، كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]. والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب «سامِراً» فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ، فالباء ظرفيةٌ على هذا، و «سامِراً» نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «تَنْكِصُون»، وإمَّا مِنَ الضمير في «مُسْتَكْبرين».
وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو «سُمَّراً» بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً. وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً «سُمَّاراً» كذلك، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء، وكلاهما جمعٌ ل «سامِِر». وهما جمعان مَقيسان ل «فاعِل» الصفةِ نحو: ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب. والأفصحُ الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول: قومٌ سامِرٌ. والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به. قال الشاعر:
٣٤٢٢ كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا... أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
وقال الراغب: «السَّامِرُ: الليلُ المظلم، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ، يَعْنُون الليل والنهار. والسُّمْرة: أحدُ الألوان، والسَّمْراء: كُني بها عن الحِنْطة».
قوله: ﴿تَهْجُرُونَ﴾ قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما. الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: «يعني سَبَّ الصحابةِ». زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لكم بتلاوته عَلَيكُمْ اسْتِكْبَار، ويجوز تنكصُون، وَلا أعْلَمُ أَحَداً قرأ بها.
* * *
وقوله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
جَاءَ في التفسير أن الحق هو اللَّه - عزَّ وجلَّ - ويجوز أن يكون الحق
الأول في قوله: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَق) التنزيل، أي بالتنزيل الذي هُوَ الحَق.
ويكون تأويل: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ) أي لو كان التنزيل بمَا يُحِبُّونَ لَفَسدتِ السَّمَاوَاتُ والأرْضُ.
وقوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ).
أي بما فيه فخرهم وشَرَفَهُمْ، ويجوز أن يكون بذكرهم، أي بالذكر
الذي فيه حظ لهم لو اتَبَعُوهُ.
* * *
وقوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
أي (أَمْ تَسْأَلُهُمْ) على ما أتيتهم به أجراً.
ويقرأ: (خِرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
ويجوز (خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).
* * *
وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)
معناه لَعَادِلًونَ عن القَصْدِ.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
أي ما تواضعوا. والذي أخذوا به الجُوعُ.
* * *
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
قيل السيف والقتل.
(إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
المبلس الساكن المتحيِّر.
* * *
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
هذه (للَّهِ) لا اختلاف بَيْنَ القُرَّاء فيها، ولو قرئت اللَّهُ لَكَانَ جَيْداً.
فأما اللَّتَانِ بعدها فالقراءة فيهما سيقولون (اللَّهُ) و (للَّهِ).
فمن قرأ (سيقولون اللَّهُ) فهو على جواب السؤال، إذا قال: (من رب السَّمَاوَات السْبع)، فالجواب اللَّهُ، وهي قراءة أهل البَصْرَة، ومن قرأ (للَّهِ) فَجيْدٌ أيْضاً، لو قيل مَنْ صَاحِبُ هذه الدار فأجيب زيد لكان هذا جواباً على لفظ السؤال.
وَلَوْ قلت في جواب من صاحب هذه الدار: لِزَيْدٍ، جاز.
لأن معنى " من صاحب هذه الدار " - لمن هذه الدار.
* * *
وقوله: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
أي هُوَ يُجير من عَذَابِه ولا يجير عليه أَحَدٌ من عَذَابه.
وكذلك هو يجير من خلقه ولا يجير عليه أَحَدٌ.
* * *
وقوله: (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
معنى تُسْحَرُونَ، وتؤفَكُونَ: تصرفون عن القَصْدِ والحَق.
* * *
وقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)
(إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
أي طلب بعضُهم مغالبَة بعْضٍ.
(سُبْحَانَ اللَّهِ).
معناه تنزيه اللَّه وتبرئته من السُوءِ، ومن أن يكون إله غَيرٌه تعالَى عَنْ
ذَلِك عُلُوا كَبيراً.
* * *
وقوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)
الفاء جَوَابُ الشرْطِ شرط الجزاء، وهو اعتراض بين الشرط
والجزاء، المعنىِ إمَّا تُرِيَني مَا يُوعَدُونَ فلا تَجعلني يا ربِّ في القوم
الظالمين، أي إنْ نزَلَتْ بِهِمُ النقمةَ يا ربِّ فاجعلني خارجاً عنهم.
ويجوز " فَلَا تَجْعَلَنِّي " ولم يقرأ بها.
* * *
وقوله: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧)
واحد الهمزات هَمْزَة، وهو مَسُّ الشَيْطانِ، ويجوز أن يكون نَزَغَاتِ
الشيطان، ونَزْغُ الشيطان وَسْوَسَتُه حتى يَشْغَل عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تعالَى.
* * *
وقوله: (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
ويجوز " وَأَعُوذُ بِكَ رَبُّ أَنْ يَحْضُرُونِ " ولم يقرأ بها فلا تقرأنَّ بها.
ويجوز وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّي أَنْ يَحْضُرُونِ، ويجوز رَبِّيْ.
فهذه أربعة أَوْجُهٍ.
ولا ينبغي أن يقرأ إلا بواحد، وهو الذي عليه الناس.. رَبِّ بِكسر الباء وحَذْفِ الياء، والياء حُذِفَتْ للبدَاء والمعنى وأعوذ بك يا رَبِّ.
من قال ربُّ بالضمِ فعلى معنى يا أيها الربُّ ومن قال رَبِّي فعلى الأصل. كما قال يا عبادِي فاتَّقُونِ.
* * *
وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)
يعني به الذين ذُكِرُوا قَبْلَ هذا المَوْضِع. ودَفَعُوا البَعْثَ فأعلم أنه إذا
حضر أحَدَهُم الموتُ (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (١).
وقوله: (ارْجِعُونِ) وهو يريد اللَّه - عزَّ وجلَّ - وَحْدَه، فجاء الخطابُ في
المسألة على لفظ الإخْبار لأن الله عزَّ وجلَّ قال: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿حتى إِذَا﴾: في «حتى» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: «بما يَصِفون». والثاني: أنها غايةٌ ل «كاذبون». وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: «حتى تتعلق ب» يَصِفون «أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ». ثم قال: «أو على قولِه» وإنهم لكاذِبون «. قلت: قوله: أو على قولِه كذا» كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير «حتى» مُعَلَّقَةٌ على «يَصِفُون» أو على قوله: «لَكاذِبون». وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.
الثالث: قال ابنُ عطية: «حتى» في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه «. قال الشيخ:» فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن «حتى» إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ «. وقال أبو البقاء:» حتى «غايةٌ في معنى العطفِ». وقال الشيخ: «والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون» حتى «غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ حَذْفِها قولُ الشاعر:
٣٤٢٤ فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني............................
أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.
قوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ في قوله»
ارْجِعُون «بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر:
٣٤٢٥ فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
وقال آخر:
٢٣٢٦ ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ..............................
قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال:»
إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون «. قال:» لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد «. وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.
الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله:»
ارْجِعُون «ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ ثم قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] التفاتاً ل» أهل «المحذوف.
الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه:
٣٤٢٧ قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ.............
أي: قِفْ قِفْ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وهو وحْدَهُ يُحْييِ وُيمِيتُ. وهذا لفظ تعرفه العَرَبُ للجليل الشأن يخبر عن
نفسه بما يخبر به الجماعةُ، فَكذلك جاء الخطاب في (ارْجِعُونِ).
وقوله: (كَلَّا) ردع وتنبيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
" يوم " مضاف إلى " يُبْعَثُونَ " لأن اسماء الزمان تضاف إلى الأفعال والبرزخ
في اللغة الحاجز، وهو هَهُنا ما بَيْنَ موت الميت وبَعْثِه.
* * *
وقوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)
قيل: هذا في النفخة الأولى ويجوز أن يكون بعد النفخة الثانية
والصور، جاء في التفسير أنه قَرْن ينفخ فيه فيبعث الناس في النفخة الثانية، قال عز وجلَّ (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامْ يَنْظُرُونَ).
وقال أهل اللغة كثير منهم: الصور جَمْعُ صورة، والذي جاء في اللغَةِ جمع صورة صُوَر، وكذلك جاء في القرآن: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، ولم يقرأ أحد فأحسن صُورَكم، ولو كان أيضاً جمع صُورة لقال أيضاً: ثم نُفِخَ فِيهَا أُخْرَى، لأنك تقول: هذه صُور، ولا تقول هَذَا صُوَر إلا على ضَعْفٍ فهو عَلَى مَاجَاء في التفسير.
فاَما قوله: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ).
وقال في موضع - آخر: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)
وقال في موضع آخر (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)
فيقول القائل: كيف جاء " ولا يتساءلون "
وجاء (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
فإن يوم القيامةِ مقداره خمسون
ألف سنة، ففيه أزمنة وأحوال.
وإنما قيل يومَئِذٍ كما تقول: نحن اليوم بفعل كذا وكذا، وليس تريد به في يومك إنما تريد نحن في هذا الزمان، " فيومَ " تقع للقطعة من الزمان.
وأمَّا (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
فَلَا يسأل عن ذنْبِه ليستفهم، قد علم اللَّه عزَّ وجلَّ ما سَلَفَ مِنْهُمْ.
وَأَما قوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) فيسألون سؤال توبيخ
لا سؤال اسْتِفْهَام كما قال: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩).
وإنما تسأل لتوبيخ مَنْ قَتَلَهَا.
وكذلك قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ).
فما يُسأل عنه يومَ القيامة تَقْرِير وتوبيخ، واللَّه - عزَّ وجلَّ - قَدْ عَلِمَ ما كان، وأَحْصَى كبير ذلَك وصَغِيرَهُ.
* * *
وقوله: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
يلفح وينفح في مَعْنًى واحِدٍ، إلا أن اللفح أَعْظمُ تأثيراً.
(وَهُمْ فِيها كَالِحُونَ).
والكَالِحُ الذي قَد تَشَمَّرتْ شَفَتُه عَنْ أَسنانِه، نحو ما ترى من رُؤوسِ
الغَنَم إذا مسَّتْهَا النار فبرزت الأسنان وتشمرت الشِفَاهُ
* * *
(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦)
وَتُقْرَأُ شَقَاوَتُنَا، والمعنى وَاحِد (١).
(وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ).
أَقَرُّوا بذلك.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿شِقْوَتُنَا﴾: قرأ الأخَوان: «شَقاوتُنا» بفتح الشين وألفٍ بعد القاف. والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة. وأنشد الفراء:
٣٤٣٠ كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ... بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز. قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ. وشبلٌ في اختياره كالباقين، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وقوله: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
معنى (اخْسَئُوا) تباعَدوا تَبَاعدَ سُخْطٍ.
يقال خَسَأتُ الكلْبُ أَخْسُؤهُ إذا زجَرْته ليتباعَدَ.
* * *
وقوله: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
الأجود إدْغام الدال في التاء لِقُرْب المَخْرَجَيْن، وإن شئت أظهرت.
لأن الدال من كلمة والتاءَ مِنْ كلمة، والدال بينها وبين التاء في المخرجِ شيء
مِنَ التَبَاعِد، وليست الذال من التاء بمنزلة الدال من التاء.
والتاءُ والطَاءُ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وهي من أصُولِ الثنايَا العُلَا وطرف اللسَانِ. والذال من أطراف الثنايا العُلَا وَدُوينَ طَرَفِ اللسَانِ.
وقوله: (سِخْرِيًّا). يقرأ بِالضم والكَسْر، وكلاهما جَيِّد، إلا أنهمْ قالوا إن
بعض أهل اللغة قال: ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وَمَا كان من جهة
التسخير فهو بالضم، وكلاهما عند سيبويه والخليل وَاحِد، والكسر لإتباع
الكسر أحسن (١).
وقوله: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
الكسر أجود لأن الكسر على معنى إني جَزَيْتهمْ بِمَا صَبروا، ثم أَخْبَر
فقال: إنهم همُ الفَائِزُونَ: والفتح جيِّدٌ بالغ، على معنى: (إني جَزَيتُهم لأنهم
هم الفائزون، وفيه وجه آخر: يكون المعنى جزيتهم الفوز، لأن معنى
(أنَّهُم هم الفَائِزُونَ). فوزُهُمْ، فيكون المعنى جزيتهم فَوزَهُمْ.
* * *
وقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿سِخْرِيَّاً﴾: مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ الأخَوان ونافعٌ هنا وفي (ص) بكسرِ السين. والباقون بضمِّها في المؤمنين. واختلف الناس في معناهما. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: «إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: ﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾. قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء: الاستخدام، و» سُخْرِيَّاً «بالضمِّ منها، والسُّخْرُ بدونها: الهزء، والمكسورُ منه. قال الأعشى:
٣٤٣١ إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ
ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما. إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ عبدِ الله كسروه أيضاً، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى.
والياءُ في»
سِخريَّاً «و» سُخْريَّاً «للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص: خصوصيَّة، دلالةً على قوةِ ذلك، قال معناه الزمخشري. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
" كم " في موضع نَصْبٍ بقوله: (لَبِثْتُم)، و (عَدَدَ سِنينَ) منصوب
بـ " كم " ويجوز كم لَبِثم في الأرض مُشَددَ التاءِ.
وكذلك يجوز في الجَوابِ.
* * *
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)
(لَبِثْنَا) و (لُبِثْنَا)
وقوله: (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (١).
أي فاسأل الملائكة الذين يحفظون عَدَدَ مَا لَبِثْنا).
* * *
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
معناه ما لَبِثْتُمْ إلا قَليلاً.
* * *
وقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)
(تُرْجَعُونَ) وَ (تَرْجِعُونَ).
* * *
وقوله: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)
(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
التأويل حسابه عند رَبِّه فإنه لا يفلح الكافرون
والمعنى الذي له عند رَبِّهِ أنه لا يفلح - وجائز أَنه لا يفلح الكافرونَ بفتح أَنَّ، ويجوز أن يكون (فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فيجازيه عليه كما قال:
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) (٢).
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾: قرأ الأخَوان «قل: كم لَبِثْتُمْ». «قُلْ إنْ لبثتم» بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون «قال» في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و «كم» في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و «عددَ» بدلٌ مِنْ «كم» قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن «عد سنين» تمييز ل «كم» وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عَدَداً» منوناً. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «عدداً» مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب «اللوامح». يعني أن الأصل: «سنين عدداً» أي: معدودة، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالاً. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ «لَبِثْتُم» بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ «عدداً» على المصدر و «سنين» بدلٌ منه. وقال صاحب «اللوامح» أيضاً: «وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد». والثالث: أنَّ «عدداً» تمييزٌ ل «كم» و «سنين» بدلٌ منه.
قوله: ﴿العآدين﴾: جمعُ «عادٍّ» من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ «عادٍ» اسم فاعل مِنْ عدا أي/: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: «وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك:» وهذه بِئْرٌ عادية «، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين». قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: «وقُرىء» العادِيِّين «أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟». وقال ابن خالويه: «ولغةٌ أخرى» العاديِّين «يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَمَن يَدْعُ﴾: شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله «فإنما حِسابُه» وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ ل «إلهاً» وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: «وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله:» يَطير بجناحيه «، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك:» مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه «.
الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ»
قولُه لا بُرْهانَ له به «كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله:
٣٤٣٢ مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها...........................
البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ»
لا برهانَ له «على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ»
أنه «بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر» حِسابُه «قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع» الكافرون «في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك» حِسابُه أنه لا يُفلح «في معنى: حسابهم أنهم لا يُفْلحون» انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ل] أنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن «لا يَفْلح» بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. والله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon