تفسير سورة الأنعام

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله جل ذكره:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
تمدّح الحقّ- سبحانه- بقدرته القديمة الشاملة لجميع المقدورات، الصالحة لإيجاد المصنوعات، ولم يتجمل بإضافة غير إلى نفسه من اسم أو أثر، أو عين أو طلل.
قوله جل ذكره: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
من الإبعاد والإسعاد، والصد والرد، والدفع والنفع، والقمع والمنع.
السورة التي تذكر فيها الأنعام
«بسم الله الرحمن الرحيم» باسمه استنارت القلوب واستقلّت، وباسمه زالت الكروب واضمحلت، وبرحمته عرفت الأرواح وارتاحت، وبا (... ) «١» انخنست العقول فطاحت.
ويقال باسم الله نال كلّ مؤمّل مأموله، وبرحمة الله وجد كل واجد وصوله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)
بدأ الله- سبحانه- بالثناء على نفسه، فحمد نفسه بثنائه الأزلىّ وأخبر عن سنائه الصمدى، وعلائه الأحدى فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».
وقوله عز وجل: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» : ف «الَّذِي» إشارة و «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» عبارة. استقلت الأسرار بسماع «الَّذِي» لتحققها بوجوده، ودوامها لشهوده، واحتاجت القلوب عند سماع «الَّذِي» إلى سماع الصلة لأن «الَّذِي» من الأسماء الموصولة بكون القلوب تحت ستر الغيب فقال: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ».
(١) مشتبهة.
قوله جل ذكره وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
خلق ظلمة الليل وضياء النهار، ووحشة الكفر والشرك، ونور العرفان والاستبصار.
ويقال جعل الظلمات نصيب قوم لا لجرم سلف، والنور نصيب قوم لا لاستحقاق سبق، ولكنه حكم به جرى قضاؤه.
ويقال جعل ظلمات العصيان محنة قوم، ونور العرفان نزهة قوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
أثبت الأصل من الطين وأودعها عجائب (السير) «١»، وأظهر عليها ما لم يظهر على مخلوق، فالعبرة بالوصل لا بالأصل فالوصل قربة والأصل تربة، الأصل من حيث النّطفة والقطرة، والوصل من حيث القربة والنّصرة.
قوله «ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» : جعل للامتحان أجلا، ثم جعل للامتنان أجلا، فأجل الامتحان فى الدنيا، وأجل الامتنان فى العقبى.
ويقال ضرب للطلب أجلا وهو وقت المهلة، ثم عقبه بأجل بعده وهو وقت الوصلة فالمهلة لها مدى ومنتهى، والوصلة بلا مدى ولا منتهى فوقت الوجود له ابتداء وهو حين تطلع شموس التوحيد ثم يتسرمد «٢» فلا غروب لها بعد الطلوع.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣).
(١) إما ان تكون (السير) جمع سيرة او تكون (السير) مصدر سار يسير، ولا نستبعد.
انها فى الأصل (السر) فالسر- كما يقول صاحب اللمع- هو خفاء بين العدم والوجود (اللمع ص ٤٣٠) [.....]
(٢) وفى ذلك يقول الشبلي:
تسرمد وقتى فيك وهو مسرمد وأفنيتني عنى فصرت مجردا
(اللمع ص ٤٤٢)
وهو الذي هو معبود من فى السماء، مقصود من فى الأرض، وهو الموجود قبل كل سماء وفضاء، وظلام وضياء، وشمس وقمر، وعين وأثر، وغير وغبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤)
أي لا يزيدهم كشفا ولطفا إلا قابلوه جحدا وكفرا، ولا يوليهم إقبالا إلا قابلوه بإعراض، ولا يلقاهم بسطا إلّا (....) «١» بانقباض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥]
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥)
إنهم أصرّوا على الخلاف مستكبرين، وعن قريب يقاسون وبال أمرهم، ويذوقون غبّ جحدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)
يعنى من تقدّمهم كانوا أشدّ تمكنا فى إمهالنا، وأكثر نصيبا- فى الظاهر- من أقوالنا سهّلنا لهم أسباب المعاش، ووسّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وطّنوا على كواذب المنى قلوبهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النّدم، وذاقوا دونه طعم الألم. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمّا انخرطوا- في الغىّ- عن
(١) مشتبهة.
سلكهم، ألحقناهم فى الإهلاك بهم، سنّة منا فى الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادة فى الإكرام أجريناها لأوليائنا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
يخبر عن كمال قدرته فى إبداء ما يريده بعد ما قضى لهم الضلال، فلو أشهدهم كلّ دليل، وأوضح لهم كل سبيل ما ازدادوا إلا تماديا فى الضلال والنفرة، وانهماكا فى الجهل والغىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨)
بيّن أنّ العبرة بالقسمة دون الاعتبار بالحجة، وما يغنى السراج عند من فقد البصر؟
كذلك ما تغنى الحجج عند من عدم عناية الأزل؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)
من لم يقدّس سرّه لبّس عليه أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
أي سبقك- يا محمد- من كذّب به كما كذّبت، فحقّ لهم نصرنا، فانتقمنا ممن ناوءهم، فعاد إليهم وبال كيدهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)
قل دوخوا فى الأرض، وسيحوا فى سيركم فيها من الطول والعرض، ثم انظروا هل أفلت من حكمنا أحد، وهل وجد من دون أمرنا ملتحدا «١» ؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)
سلهم هل فى الدار ديار؟ وهل للكون- فى التحقيق- عند الحق مقدار؟ فإن بقوا عن جواب يشفى، فقل: الله فى الربوبية يكفى.
قوله: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» : أخبر وحكم وأراد على حسب ما علم، فمن تعلّق بنجاته علمه سبق بدرجاته حكمه، ومن علمه فى آزاله أنه يشقى فبقدر شقائه فى البلاء يبقى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)
الحادثات لله ملكا، وبالله ظهورا، ومن الله بدءا، وإلى الله رجوعا. وهو «السَّمِيعُ» لأنين المشتاقين، «الْعَلِيمُ» بحنين الواجدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)
أبعد ما أكرمنى بجميل ولايته أتولى غيره؟ وبعد ما وقع علىّ ضيا عنايته أنظر فى الدارين إلى أحد؟ إنّ هذا محال فى الظنّ والتقدير.
قوله جل ذكره: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ.
له نعت الكرم فلذلك يطعم، وله حقّ القدم فلذلك لا يطعم.
(١) الملتحد- الملجأ لأن اللاجئ يلجأ إليه (المنجد).
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
أي إنّى بعجزي متحقق، ومن عذاب ربى مشفق، وبمتابعة أمره متخلّق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)
من أدركه سابق عنايته صرف عنه لاحق عقوبته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
إنّه من ينجيك من البلاء، ومن يلقيك فى العناء. وإذ المتفرّد بالإبلاغ واحد فالأغيار كلّهم أفعاله وإن الإيجاد لا يصلح من الأفعال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٨]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)
علت رتبة الأحدية صفة البشرية، فهذا لم يزل وهذا لم يكن فحصل «١». ومتى يكون بقاء للحدثان مع وضوح سلطان التوحيد؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٩]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩).
(١) وبتعبير آخر هذا واجب الوجود وهذا ممكن الوجود- كما يقول أهل الفلسفة.
غلبت شهادة الحقّ- سبحانه- كلّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائق الشيء علومهم، والحقّ- سبحانه- هو الذي لا يخفى عليه شىء، ثم أخبره- صلّى الله عليه وسلّم أنه مبعوث إلى الكافة ومن سيوجد إلى يوم القيامة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
أحاط علمهم بصدق المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- فى نبوّته، ولكن أدركتهم الشقاوة الأزلية فعقدت ألسنتهم عن الإقرار به فجحدوه جهرا، وعلموا صدقه سرّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢١]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)
شؤم الخذلان بلغ بالنكاية فيهم ما جرّهم إلى الإصرار على الكذب على الله تعالى، ثم لم يستحيوا من اطلاعه، ولم يخشوا من عذابه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٢]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)
يجمعهم ليوم الحشر والنشر، لكنه يفرقهم فى الحكم والأمر، فالبعث يجمعهم ولكن الحكم يفرقهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٣]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)
«١» هذا الذي أخبر عنهم غاية التمرد حيث جحدوا ما كذبوا فيه وأقسموا عليه، ولو كان لهم بالله علم لتحققوا بأنه يعلم سرّهم ونجواهم، ولا يخفى عليه شىء من أولاهم وعقباهم، لكن الجهل الغالب عليهم استنطقهم بما فيه فضائحهم.
(١) أخطأ الناسخ فكتبها (مشرقين) بالقاف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٤]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
هذه كلمة تعجب يعنى إنّ قصتهم منها ما هو محلّ التعجب لأمثالكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٥]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)
بيّن أن السمع- فى الحقيقة- سمع القبول، وذلك عن عين اليقين يصدر، فأما سمع الظاهر فلا عبرة به.
ويقال من ابتلاه الحقّ بقلب مطبق، ووضع فوق بصيرته غطاء التلبيس لم يزده ذلك إلا نفرة على نفرة.
قوله جل ذكره: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
يعنى من أقصته القسمة الأزلية لم تنعشه الحيلة الأبدية «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٦]
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)
«٢» فى هذه الآية إشارة صعبة (لمن) «٣» يدعو إلى الحق جهرا ثم لا يأتى بذلك سرا.
ويقال خالفت أحوالهم قضايا أقوالهم، وجرى إجرامهم مجرى من ألقوا حبالهم على غاربهم، وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله.
(١) تساوى هذه العبارة فى المعنى ما يأتى بعد قليل (وكذلك من أبعده عن القسمة لم يقربه فعله).
(٢) سقطت الواو من الناسخ فأثبتناها.
(٣) وردت (لم) وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٧]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)
يعنى حين ينجز للعبد ما وعده له من القربة يشغل من شاء بنوع من العلة حتى لا يطلع أحد على محل الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٢٨]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)
غدا يوم تنهتك الأستار، وتظهر الأسرار- فكم من مجلّل بثوب تقواه، ويحكم له معارفه بانه زاهد فى دنياه، راغب فى عقباه، محب لمولاه، مفارق لهواه، فيكشف الأمر عن خلاف ما فهموه، ويفتضح عندهم بغير ما ظنوه.
وكم من متهتك ستر بما أظهر عليه! ظنّ الكلّ أنه خليع العذار هيّن الأعلال، مشوش الأسرار، فظهر لذوى البصائر جوهره، وبدت عن خفايا الستر حقيقته «١».
ثم قال: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» أخبر عما علم أنه لا يكون أنه لو كان كيف كان يكون فقال لو ردّ أهل العقوبة إلى دنياهم لعادوا إلى جحدهم وإنكارهم، وكذلك لو ردّ أهل الصفاء والوفاء إلى دنياهم لعادوا إلى أحسن أعمالهم:
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)
(١) لاحظ كيف ان القشيري متاثر إلى حد كبير بتعاليم الملامتية، فأهل الملامة يقومون بأعمال تستوجب ملامة الناس سترا لأسرارهم وصونا لأحوالهم قصدا إلى محاربة دعوى النفس، والاكتفاء بعلم الحق بأحوالهم وحقائقهم.
يا حسرة عليهم من موقف الخجل، ومحل مقاساة الوجل، وتذكر تقصير العمل! فهم واقفون على أقدام الحسرة، يقرعون أسنان الندم حين لا ندم ينفعهم، ولا شكوى تسمع منهم، ولا رحمة تنزل عليهم.
وحين يقول لهم: أليس هذا بالحق؟ يقرّون كارهين، ويصرخون بالتبري عن كل غير قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)
خسران وأي خسران! لم يخسروا مالا، ولا مقاما ولا حالا، ولكن كما قيل:
لعمرى لئن أنزفت دمعى فإنه لفرقة من أفنيت فى ذكره عمرى
المصيبة لهم والحسرة على غيرهم، ومن لم يعرف جلال قدره متى تأسّف على ما يفوته من حديثه وأمره؟! وقوله: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : ما كان للنفس فيه حظ ونصيب اليوم فهو من الدنيا، وما كان من الدنيا فإنه- لا محالة- يلهيك عن مولاك، وما يشغلك عن الحق ركونه فغير مبارك قربه.
قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ: هذه تعزية للرسول- صلّى الله عليه وسلّم
وتسلية. أي قد نعلم ما قالوا فيك وهم إنما قالوا ذلك بسببنا ولأجلنا. ولقد كنت عظيم الجاه فيهم قبل أن أوقعنا عليك هذا الرقم وكانوا يسمونك محمدا الأمين، فإن أصابك ما يصيبك فلأجل حديثنا، وغير ضائع لك هذا عندنا، وحالك فينا كما قيل:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
يعنى إنّ من سلك سبيلنا صبر على ما أصابه من حديثنا، فلا خسرت فينا صفقته، ولا خفيت علينا حالته، وما قابل حكمنا من عرفنا إلا بالمهج، وما حملوا مالقوا فينا إلا على الحدق:
إنّ الألى ماتوا على دين الهوى وجدوا المنية منهلا معسولا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٥]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)
لفرط شفقته- صلّى الله عليه وسلّم- استقصى فى التماس الرحمة من الله لهم، وحمل على قلبه العزيز بسبب ما علم من سوء أحوالهم ما أثّر فيه من فنون الأحزان. فعرّفه أنهم مبعدون عن التقريب، منكوبون بسالف القسمة.
ولو أراد الحقّ- سبحانه- لخفّف عنهم، ولو شاء أن يهديهم لكان لهم مقيل فى الصدور، ومثوى على النشاط، ولكن من كبسته العزّة لم تنعشه الحيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٦]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
من فقد الاستماع فى سرائره عدم توفيق الاتّباع بظاهره، والاختيار السابق فى معلومه- سبحانه- غالب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٧]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)
استزادوا من المعجزات وقد حصل من ذلك ما يذبح العذر، ولم يعلموا أن الله المانع لهم فلولا ما (... ) «١» من بصائرهم لما تواهموا من عدم دلائلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
يعنى تساوت المخلوقات، وتماثلت المصنوعات فى الحاجة إلى المنشئ: فى حال الإبداع ثم فى حال البقاء، وكذلك جميع الصفات النفسية والنعوت الذاتية توقفت عن الإيجاد والاختيار، فما من شىء من عين وأثر، ورسم وطلل.. إلا وهو على وحدانيته شاهد، وعلى كون أنه مخلوق.. دليل ظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)
الذين فاتتهم العناية الأزلية سدّ الحرمان أسماعهم، وغشّى الخذلان أبصارهم.
(١) مشتبهة وربما كانت (سد) فهى فى الخط إلى ذلك أقرب.
والإرادة لا تعارض، والمشيئة لا تزاحم «١»، والحقّ- سبحانه- فى جميع الأحوال غالب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)
إذا مسّكم الضرّ، ونابكم أمر فممّن ترومون كشفه؟ ومن الذي تؤملون لطفه؟
أمخلوقا شرقيا أم شخصا غربيا؟ أم ملكا سماويا أم عبدا أرضيا؟
ثم قال: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» : أي إنكم- إن تذللتم بنفوسكم أو فكرتم طويلا بقلوبكم- لن تجدوا من دونه أحدا، ولا عن حكمه ملتحدا، فتعودون إليه فى استكشاف الضر، واستلطاف الخير والبرّ، كما قيل:
ويرجعنى إليك- وإن تناءت ديارى عنك- معرفة الرجال
وقد تركناك للذى تريد فعسى إن خبرته أن تعودا
فإذا جرّبت الكل، وذقت الحلو والمرّ، أفضى بك الضرّ إلى بابه، فإذا رجعت بنعت الانكسار، وشواهد الذل والاضطرار، فإنه يفعل ما يريد: إن شاء أتاح اليسر وأزال العسر، وإن شاء ضاعف الضر وعوّض الأجر، وإن شاء ترك الحال على ما (قبل) «٢» السؤال والابتهال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٢]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢).
(١) وردت (تزاهم) بالهاء وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (قيل) وهى خطأ فى النسخ.
يخبر عن سالف سنته فى أبداء الأمم وما أوجب لمن أطاعه منهم من النعم والكرم، وما أحلّ بمن خالفه من الألم وفنون النّقم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)
يعنى أنهم لما أظلّهم البلاء، فلو رجعوا بجميل التضرع وحسن الابتهال والتملق لكشفنا عنهم المحن، ولأتحنا لهم المنن، ولكن صدّهم الخذلان عن العقبى فأصروا على تمردهم، فقست قلوبهم وتضاعفت أسباب شقوتهم.
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ يخبر عن خفىّ مكره بهم، وكيف أنه استدرجهم، ثم أذاقهم وبال أمرهم فقال: لما طالت عن الحضرة غيبتهم، ولم تنجح مواعظنا فيهم سهّلنا لهم أسباب العوافي وصببنا عليهم عزالى «١» النّعم، وفتحنا لهم أبواب الرفاهية، فلما استمكن الرجاء من قلوبهم أخذناهم بغتة وعذبناهم فجأة، وأذقناهم حسرة فإذا هم من الرحمة قانطون، ولما خامر قلوبهم- من أسباب الوحشة عن الاستراحة بدوام المناجاة- آيسون.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٥]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى لم يبق منهم عين ولا أثر، ولم يرد حديث منهم أو خبر،
(١) العزالي: يقال أنزلت السماء عزاليها إشارة إلى شدة وقع المطر
والله- سبحانه وتعالى- بنعت العزّ واستحقاق الجلال لا عن فقدهم له استيحاش، ولا بوجودهم استرواح أو استبشار «١» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٤٦]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)
عرّفهم محلّ عجزهم، وحقيقة حاجتهم إلى القدرة القديمة لدوام فقرهم.
وحذّرهم فقال: إن لم يدم عليهم نعمة أسماعهم وأبصارهم، ولم يوجب لهم ما ألبسهم من العوافي- بكل وجه فى كل لحظة- فمن الذي يهب ما سلبه، أو يضع ما منعه، أو يعيد ما نفاه، أو يردّ ما أبداه؟ كلا... بل هو الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)
«٢» يقول إن عجّل موعوده لكم من العقاب أفترون أن غير المستوجب يبتلى؟ أو أن المستحقّ له يجد من دونه مهربا ومنجى؟ إنّ هذا محال من الظن.
قوله جل ذكره: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ.
(١) فالحق- سبحانه- لا يلحقه زين بطاعة المطيع ولا شين بمعصية العاصي. [.....]
(٢) أخطأ الناسخ فكتبها (الظالمين)
يعنى ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه تجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة فى الآجل ما يحصل من خلافهم.
فمن آمن وصدّق أنجزنا له الوعد، ومن كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضّر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٠]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)
يعنى قل لهم إنى لا أتخطى خطى، ولا أتعدّى حدّى، ولا أثبت من ذات نفسى شيئا، وإنما يقال لى أبلّغت؟ وأقول: أجل، أوصلت.
ثم قال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» : هل يتشاكل الضوء والظلام؟ وهل يتماثل الجحد والتوحيد؟ كلا... لا يكون ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
الإنذار إعلام بمواضع الخوف، وإنما خص الخائفين بالإنذار كما خصّ المتقين بإضافة الهدى إليهم حيث قال: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» لأن الانتفاع والاتّباع بالتقوى، والإنذار اختص بهم.
ويقال: الخوف هاهنا العلم، وإنما يخاف من علم، فأمّا القلوب التي هى تحت غطاء الجهل فلا تباشرها طوارق الخوف.
قوله: «مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ» يعنى كما أنه لا ناصر لهم من الأغيار فلا معتمد لهم من أفعالهم، ولا مستند من أحوالهم، ولا (يؤمنون) «١» شيئا سوى صرف العناية وخصائص الرحمة.
(١) الصواب أن تكون (يأمنون) لأن ما بعدها منصوب، ولو كانت يؤمنون لكان ما بعدها مجرورا، والسياق يقوى اختيار (يأمنون).
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٢]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)
هذه وصية له- صلّى الله عليه وسلّم- فى باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قصروا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدى الله أراد أن يبيّن له أثر حسن الابتهال فتولّى- سبحانه- خصيمتهم.
وقال: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» : لا تنظر يا محمد إلى خرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم فى سرائرهم «١» ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه- سبحانه- قال «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصا مخلوقا يريد الحق سبحانه؟
ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق- فى التحقيق- إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها «٢».
فيقال تكلم الناس فى الإرادة: وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل فى القلوب يسلب
(١) واضح من كلام القشيري اتصاف هذا النفر بصفات كثيرة تدنو بهم من أهل التصوف، وهكذا نجد أن السهروردي فى مقدمة «عوارفه» يوضح أن سبب نزول هذه الآية فى أهل الصّفة الذين كانوا يلازمون صفة مسجد المدينة وليس لهم شغل سوى العبادة وتلاوة القرآن وكان أحدهم إذا ركع قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته لتمزق ثوبه... إلخ (عوارف المعارف ص ٤٧).
(٢) يقول القشيري فى هذا المعنى فى «رسالته» : المريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم، لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد- في عرف هذه الطائفة من لا إرادة له، فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا (الرسالة ص ١٠١)
القرار من العبد حتى يصل إلى الله فصاحب الإرادة لا يهدأ «١» ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون وصوله إليه- سبحانه- سكونا ولا قرارا، كما قال قائلهم:
ثم قطعت الليل فى مهمه لا أسدا أخشى ولا ذيبا
يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
ويقال تقيّدت دعوتهم بالغداة والعشىّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمال الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» ثم قال: «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» أي مريدين وجهه فهى فى موضع الحال «٢».
ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، ولا مطالبة من عقباهم، ولا همّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولّى حديثهم وقال: ولا تطردهم- يا محمد- ثم قال: ما عليك من حسابهم من شىء فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مئونة قال تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ».
لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلّ يتولى الحقّ- سبحانه- حسابه فإن كان أمره خيرا فهو ملاقيه، وإن كان شرا فهو مقاسيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
أمّا الفاضل فليشكر، وأمّا المفضول فليصبر.
ويقال سبيل المفضول على لسان المحبة الشكر، ولا يتقاصر شكره عن شكر الفاضل، قال قائلهم فى معناه:
أتانى منك سبّك لى فسبّي أليس جرى بفيك اسمى؟ فحسبي
(١) وردت (ولا يهدى) والصواب أن تكتب (ولا يهدأ) منعا للبس.
(٢) أي إن الجملة الفعلية (يريدون وجهه) تعرب حالا
وقال آخر:
وإنّ فؤادا بعته- لك شاكر وإنّ دما أجريته- لك حامد
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٤]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)
أحلّه محل الأكابر والسّادة، فإن السلام من شأن الجائى إلا فى صفة الأكابر فإن الجائى أو الآتي يسكت لهيبة المأتى حتى يبتدئ ذلك المقصود بالسؤال فعند ذلك يجيب الآتي.
ويقال إذا قاسوا تعب المجيء فأزل عنهم المشقة بأن قل: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ».
ويقال السلام هو السلامة أي فقل لهم سلام عليكم سلمتم فى الحال عن الفرقة وفى المآل عن الحرقة «١».
قوله جل ذكره: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
إن وكل بك من كتب عليك الزلة فقد تولّى بنفسه لك كتابة الرحمة.
ويقال كتب بمعنى حكم، وإنه ما حكم إلا بما علم.
ويقال كتابته لك أزلية، وكتابته عليك وقتية، والوقتية لا تبطل الأزلية.
قوله جل ذكره: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
يعنى من تعاطى شيئا من أعمال الجهّال ثم سوّف فى الرجوع والأوبة قابلناه، يعنى من تعاطى شيئا بحسن الإمهال وجميل الأفضال، فإذا عاد بتوبة وحسرة أقبلنا عليه بكلّ لطف وقبول.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٥]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥).
(١) اى سلمتم فى الدنيا من عذاب نأبه وهجره، وسلمتم فى الآخرة من عذاب جهنم ذات الحريق.
نزيل الإشكال، ونفصح «١» طريق الاستدلال، ونطلع شموس التوحيد، ونمد أهله بحسن التأييد، ونسم قلوب الأعداء بوسم الخذلان، ونذيقهم شؤم الحرمان لئلا يبقى لأحد عذر، ولا فى الطريق إشكال.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)
يعنى صرّح بالاعتراف بجميل ما خصصناك به من وجوه العصمة والنعمة، وأخبرهم أنك فى كنف الإيواء متقلّب، وفى قبضة (الصون) مصرّف فلا للهوى عليك سلطان، ولا لك من محل التحقيق تباعد أو عن الحضور غيبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥٧]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧)
قل إنّ الله- سبحانه- لم يغادرنى فى قطر الطلب والتباس التحيّر، وأغنانى عن (كدّ) «٢» الاستدلال، وروّحنى بشموس الحقيقة. ولئن بقيتم فى ظلمة الالتباس فليس لى قدرة على إزالة ما مننيتم به من التحير، ونفى ما امتحنتم به من الجهالة والتردد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)
(١) من الإفصاح وهو الإبانة والإيضاح.
(٢) وردت (قد) والقصود عناء الاستدلال وكده- حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى مثل هذا الموضع.
لو قدرت على إبداء ما طلبتم من إقامة البراهين لأجبتكم إلى كل ما اقترحتم علىّ- شفقة عليكم، لكن المتفرّد بالحكم لا يعارض فيما يريد.
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ: المفتاح ما به يرتفع الغلق، والذي يحصل مقصود كلّ أحد، وهو قدرة الحق- سبحانه فإنّ التأثير لها فى الإيجاد، والموصوف بقدرة الإيجاد هو الله:
ويقال أراد بهذا شمول علمه، أي هو المتفرّد بالإحاطة بكل معلوم، وقطعا لا يسأل عن شىء، ولا يخفى عليه شىء.
ويقال عندك مفاتح «١» الغيب وعنده مفاتح الغيب فان آمنت بغيبه مدّ الشمس على غيبك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
إنه يتوفّى الأنفس فى حال النوم وفى حال الوفاة، وكما أنه لا يعاقبك بالليل فإنه لا يعذبك- إذا توفّاك- على ما جرحت بالنهار مع علمه بأفعالك، فبالحرىّ ألا يعذّبك غدا- إذا توفّاك- على ما علمه من قبيح أحوالك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦١]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١)
(١) نسبة المفاتح إلى الإنسان- إن صحّ أن القشيري قالها- يمكن تأويلها على انها جمع مفتح مصدر ميمى بمعنى الفتح والفتوح وهما من فضل الله، ولكنهما بالنسبة إلى المفاتح الالهية كنسبة ضوء المصباح إلى ضوء الشمس، إذا ظهر شعاع الشمس غمر ضوء المصباح... هكذا نفهم من السياق- والله أعلم.
فوق عباده بالقهر والرفعة، وفوقهم بالقدرة على أن يعذّبهم من فوقهم بإنزال العقوبة عليهم والسخطة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٢]
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)
ردّهم إلى نفسه. وما غابوا عن القبضة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٣]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)
تذكير النعمة يوجب الزيادة فى المحبة، فإنه إذا عرف جميلا أسداه تمكّن من قلبه الحبّ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٤]
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤)
المتفرّد بالقدرة على إيجادكم الله، والذي هو (الخلف) «١» عما يفوتكم الله، والذي حكم بنجاتكم الله، والذي يأخذ بأيديكم كلما عثرتم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٥]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)
إذا أراد الله هلاك قوم أمر البلاء حتى يحيط بهم سرادقه كما يحيط بالكفار غدا إذا
(١) وردت (الخلق) بالقاف وهى خطأ فى النسخ.
أدركتهم العقوبة، وخرج بعضهم على بعض حتى يتبرأ التابع من المتبوع، والمتبوع من التابع.
قوله جل ذكره: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ.
لا طعم أردأ للإنسان من طعم الإنسان: إن شئت من الولاية والمحبة، وإن شئت فى العداوة والبغضة فمن مني بالبغضة مع أشكاله تنغّص عليه عيشه فى الدنيا، ومن منى بمحبة أمثاله تكدّر عليه حاله مع المولى، ومن صانه عن الخلق فهو المحفوظ (المعاني) «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)
يعنى قل لهم إنما على تبليغ الرسالة، فأمّا تحقيق الوصلة بالوجود والحال فمن خصائص القدرة وأحكام المشيئة الأزلية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٨]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)
لا توافقهم فى الحالة، ولا ترد عليهم ببسط القالة. ذرهم ووحشتهم بحسن الإعراض عنهم، والبعد عن الإصغاء إلى تهاويشهم بحسن الانقباض.
قوله جل ذكره: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
(١) المحفوظ (المعاني) اى محفوظة معانيه، وربما كانت فى الأصل (المعاني) بالفاء المفتوحة أي المصون عن كل أذى وعلة.
أي إن بدر منك تغافل فتداركته بحسن التذكر وجميل التّنبّه، فاجتهد ألا (تزل «١» ) فى تلك الغلطة قدمك ثانية لئلا تقاسى أليم العقوبة منّا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٩]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)
أي من كان نقىّ (الثوب) «٢» عن ارتكاب الإجرام يعزل يوم نشره عن ملاقاة تلك الآلام.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٠]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
أي كلهم وما اختاروه فإنّا أعتدنا لهم (من خفىّ المكر ما إذا أحللناه بهم كسرنا عليهم) «٣» خمار الوهم والغلظة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧١]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١)
(١) وردت (تذل) بالذال والصواب أن تكون بالزاي (تزل) اى تقع فهذا هو الملائم للسياق.
(٢) وردت (الثواب) والصواب أن تكون (الثوب) فهو الذي يوصف بالنقاء. [.....]
(٣) ما بين القوسين موجود فى هامش الورقة أثبتناه فى موضعه حسب العلامة المميزة.
أي كان الكفار يدعون المسلمين إلى الرجوع عن الدين والعود إلى الشرك، فقال لهم الله: قل لهم- يا محمد-: أنؤثر الضلال على الهدى بعد طلوع شمس البرهان؟
وندع الطريقة المثلى بعد ظهور البيان؟ ونترك عقوة الجنّة وقد نزلناها؟ ونطلب الجحيم مثوى بعد ما كفيناها؟ إنّ هذا بعيد من المعقول، محال من الظنون.
وكيف يساعد أتباع الشيطان من وجد الخلاص من صحبتهم، وأبصر الغىّ من صفتهم؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٢]
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢)
أي أمرنا بملازمة محل المناجاة لأن اللسان إن تعوّد نجوى السلطان متى ينطق (بمكالمة) «١» الأخسّ؟! قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٣]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)
يعنى أنه لا يعترض على قدرته- سبحانه- حدوث مقصود، ولا يتقاصر حكمه عن تصريف موجود.
(١) وردت (مكاملة) والأوفق بالنسبة للسان أن تكون (مكالمة).
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٤]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤)
الأصل متّهم فى الجحود، والنّسل متصّف بالتوحيد، والحقّ- سبحانه- يفعل ما يريد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٥]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)
لاطفه بسابق العناية، ثم كاشفه بلاحق الهداية فأراه من دلالات توحيده ما لم يبق فى (قضاء) «١» سرّه شظية من غبار العيب، فلمّا صحا من غيم التجوز «٢» سما سرّه فقال بنفي الأغيار جملة، وتبرأ عن الجميع ولم يغادر منها تهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨).
(١) ربما كانت (فضاء) بالفاء فالغبار والغيم يعلقان بالفضاء.
(٢) المقصود من ذلك ما أصاب إبراهيم من اضطراب، وهنا لفتة ذكية من القشيري حيث أراد وصم العقل بالتجويز لانحصار دائرته فى نطاق الحسّ، وعدم استطاعته تجاوز هذا النطاق لأنه معتمد عليه.
يعنى أحاطت به (سجوف) «١» الطلب، ولم يتجل له بعد صباح الوجود، فطلع نجم العقول فشاهد الحق بسره بنور البرهان، فقال: هذا ربى ثم يزيد فى ضيائه فطلع له قمر العلم فطالعه بشرط البيان، «قالَ هذا رَبِّي».
ثم (أسفر) «٢» الصبح ومتع النهار فطلعت شموس (العرفان) «٣» من برج شرفها فلم يبق للطلب مكان، ولا للتجويز حكم، ولا للتهمة قرار فقال: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» إذ ليس بعد العيان ريب، ولا عقب الظهور ستر.
ويقال قوله- عند شهود الكواكب والشمس والقمر- «هذا رَبِّي» إنه كان يلاحظ الآثار والأغيار بالله، ثم كان يرى الأشياء لله ومن الله، ثم طالع الأغيار محوا فى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٧٩]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)
أفردت قصدى لله، (وطهّرت) «٤» عقدى عن غير الله، وحفظت عهدى فى الله لله، وخلصت وجدي بالله، فإنى لله بالله، بل (محو) «٥» فى الله والله الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٠]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)
يعنى قال لهم أترومون ستر الشموس بإسبال أكمامكم عليها أو تريدون أن تجروا ذيولكم وأن تسدلوا سجوفكم على ضياء النهار وقد تعالى سلطانه وتوالى بيانه؟
(١) سجوف جمع سجف وسجف وهو الستر، وأرخى الليل سجوفه أي ظلمته.
(٢) وردت (أصفر) والصواب أن تكون (أسفر) الصبح.
(٣) لاحظ كيف طبق القشيري نظريته فى المعرفة على ندرج ابراهيم (عم) فى الوصول إلى حقيقة الألوهية من عقلية ونورها البرهان إلى قلبية ونورها البيان إلى كشفية ونورها العرفان،
(٤) وردت (ظهرت) بالظاء والصواب أن تكون بالطاء
(٥) وردت (مهو) بالهاء والصواب أن تكون بالحاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨١]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)
«١» يعنى وأي خوف يقع على قلبى ظله ولم ألم بشرك ولم أجنح قطّ إلى جحد؟ وأنتم ما شممتم رائحة التوحيد فى طول عمركم، ولا ذقتم طعم الإيمان فى سالف دهركم! ثم بسوء ظنّكم تجاسرتم وما ارعويتم، وخسرتم وما باليتم. فأيّنا أولى أن يعلن بسرّه ما هو بصدده من سوء مكره وعاقبة أمره؟
قوله جلت قدرته:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٢]
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)
أي الذين أشاروا إلى الله ثم لم يرجعوا إلى غير الله فإن من قال «الله» ثم رجع بالتفضيل- عند حاجاته أو مطالباته أو شىء من حالاته إلى غير الله فخصمه- فى الدنيا والعقبى- الله.
والظلم- فى التحقيق- وضع الشيء في غير موضعه، وأصعبه حسبان أن من الحدثان ما لم يكن وكان فإنّ المنشئ الله، والمجرى الله، ولا إله إلا الله، وسقط ما سوى الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٣]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)
أشار إلى ترقّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيب أهل السلوك فى وصولهم إلى الله، فالتحقق بالآيات التي هى أفعاله ومراعاة ذلك وهى الأولى ثم إثبات صفاته وهى الثانية، ثم التحقق بوجوده وذاته وهو غاية الوصول، فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته «٢».
(١) أخطأ الناسخ إذ كتبها (فكيف)
(٢) للقشيرى كتابان (ترتيب السلوك) و (المقامات الثلاث) لم تصل بعد أيدينا إليها، أولهما توجد منه مخطوطة بالفاتيكان والثاني استعاره بعضهم من مكتبة جامعة القاهرة ولم يرده، فهل يمكن أن نحدس أن هذه الفقرة خلاصة مقتضية لوجهة نظره فى ترتيب مقامات السلوك وعددها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٨]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
ذكر عظيم المنّة على كافّتهم- صلوات الله عليهم، وبيّن أنه لولا تخصيصه إياهم بالتعريف، وتفضيله لهم على سواهم بغاية التشريف، وإلا لم يكن لهم استيجاب ولا استحقاق.
ثم قال: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ....... يَعْمَلُونَ» يعنى لولا حظوا غيرا، أو شاهدوا- من دوننا- شيئا، أو نسبوا شظية من الحدثان- إلى غير قدرتنا- فى الظهور لتلاشى ما أسلفوه من عرفانهم وإحسانهم، فإن الله- سبحانه- لا يغفر الشرك بحال، وإن كان (يغفر) «١» ما دونه لمن أراد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٨٩]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩).
(١) وردت (يفقر) والصواب (يغفر) طبقا للآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به... إلخ).
يعنى إن أعرض قومك- يا محمد- فليس كلّ من (.....) «١» على الجحود أظهرناهم، بل كثير من عبادنا نزّهنا- عن الجحود- قلوبهم، وعجنّا بماء السعادة طينتهم وهم لا يحيدون عن التوحيد لحظة، ولا يزيغون عن التحصيل شمّة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٠]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)
أولئك الذين طهّر الله عن الجحد أسرارهم، ورفع على الكافة أقدارهم، فاقتف- يا محمد- هداهم، فإنّ من سلك الجادّة أمن من العناء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
من توهّم أن العلوم «٢» تحيط بجلاله فالإحاطة غير سائغة فى نعته، كما أنّ الإدراك غير جائز فى وصفه، وكما أن الإشراف محال على ذاته.
ثم قال: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً» أي سلهم عن الأحوال، وخاطبهم فى معانى أحكام الرسوم والأطلال، فإن بقوا فى ظلمة (الحيرة) «٣» فقل: الله تعالى، ثم ذرهم. يعنى صرّح بالإخبار عن التوحيد، ولا يهولنّك نماديهم فى الباطل، فإنّ تمويهات الباطل لا تأثير لها فى الحقائق.
(١) مشتبهة.
(٢) يقصد بها علوم العقل. [.....]
(٣) وردت (الجبرة) والخطأ فى النقط.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٢]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
كتاب الأحباب عزيز الخطر جليل الأثر، فيه سلوة «١» عند غلبات الوجد، ومن بقي عن الوصول تذلّل للرسول، وقيل:
وكتبك حولى لا تفارق مضجعى وفيها شفاء للذى أنا كاتم
كأنى ملحوظ من الجنّ نظرة ومن حوالىّ الرّقى والتمائم
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٣]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)
يعنى إن الذين ينزلون منزلة المحدّثين، ولم تلق إلى أسرارهم خصائص الخطاب- فالحقّ- سبحانه عنهم برىء. والمتّبع بما لم ينل كلابس ثوبى زور، وفى معناه أنشدوا.
إذا اشتبكت دموع فى خدود تبيّن من بكى ممن تباكى
(١) وردت (صلوة) بالصاد وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٤]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)
دخلت الدنيا بخرقة، وخرجت منها بخرقة، ألا وتلك الخرقة أيضا (.....) «١»،
وما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجت إلا بحكم التفرد. ثم الأثقال والأوزار، والأحمال والأوضار لا يأتى عليها حصر ولا مقدار فلا مالكم أغنى عنكم ولا حالكم يرفع منكم، ولا لكم شفيع يخاطبنا فيكم فقد تقطّع بينكم، وتفرّق وصلكم، وتبدّد شملكم، وتلاشى ظنكم، وخانكم- فى التحقيق- وسعكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٥]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)
موجد ما فى العالم من الأعيان والآثار والرسوم والأطلال يسلّط العدم على ما يريد من مصنوعاته، ويحكم بالبقاء لما يريد من مخلوقاته، فلا لحكمه ردّ، ولا لحقّه جحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٦]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)
وكما فلق صبح الكون فأشرقت الأنوار كذلك فلق صبح القلوب فاستنارت به الأسرار، وكما جعل الليل سكنا لتسكن فيه النفوس من كدّ التصرف عن أسباب المعاش
(١) مشتبهة.
كذلك جعل الليل سكنا للأحباب يسكنون فيه إلى روح المناجاة إذا هدأت العيون من الأغيار.
وجعل الشمس والقمر يجريان بحسبان «١» معلوم على حد معلوم، فالشمس بوصفها مذ خلقت لم تنقص ولم تزد، والقمر لا يبقى ليلة واحدة على حالة واحدة فأبدا فى الزيادة والنقصان، ولا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم يتناقص حتى لا يرى، ثم يأخذ فى الظهور، وكذلك دأبه دائما إلى أن تنقض عليه العادة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٧]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧)
كما أن نجوم السماء يهتدى بها فى الفلوات فكذلك نجوم القلوب يهتدى بها فى معرفة ربّ الأرضين والسموات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٨]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)
ذكّرهم وصفهم حين خلقهم من آدم عليه السّلام. وكما أن للنفوس والأبشار مستقرا ومستودعا فللأسرار والضمائر مستقر ومستودع، فمن عبد مستقرّ قلبه أوطان الشهوات والمنى، ومن عبد مستقره موقع الزهد والتّقى، ومن عبد مستقره- حيث لا مسكن ولا مأوى- وراء الورى «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ٩٩]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)
(١) وردت (بحسمان) بالميم والصواب أن تكون (بحسبان)
(٢) أي فى حال الفناء يتلاشى فى الوجود الذي لا تحده حدود.
تجانست أجزاء الأرض وتوافقت أقطار الكون، وتباين النبات فى اللون والطّعم واختلفت الأشياء، ودلّ كلّ مخلوق بلسان فصيح، وبيان صريح أنه بنفسه غير مستقل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٠]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)
«١» سدّت بصائرهم فاكتفوا بكل منقوص أن يعبدوه، وتلك عقوبة لأرباب الغفلة عن الله تعالى عجّلت.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠١]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
البديع الذي لا مثل له، أو هو المنشئ لا على مثال، وكلاهما فى وصفه مستحق.
والواحد يستحيل له الولد لاقتضائه البعضية، والتوحيد ينافيه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٢]
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)
(١) خرق الإفك اختلقه، أو من خرق الثوب إذا شقه فيكون المعنى: (اشتقوا له) وإشارة القشيري تعتمد على المعنيين.
تعرّف إليهم بآياته، ثم تعرّف إليهم بصفاته، ثم كاشفهم بحقائق ذاته.
فقوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» تعريف للسادات والأكابر، وقوله: «خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» تعريف للعوام والأصاغر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٣]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)
قدّس الصمدية عن كل لحوق ودرك، فأنّى بالإدراك ولا حدّ له ولا طرف؟! «وَهُوَ اللَّطِيفُ» الذي لا يخفى عليه شىء، «الْخَبِيرُ» الذي أحاط علمه بكل معلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٤]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)
أوضح البيان وألاح الدليل، وأزاح العلل وأنار السبيل، ولكن قيل:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٥]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)
أوقع الفتنة فى قلوبهم فخنست عليهم الأحوال: فمن شبهة داخلتهم ومن حيرة ملكتهم.
ومن تحقيق أدركه قوم، وتعريف توقف على آخرين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٧]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)
العجب ممن أقرّ بقصور حاله عن استحقاق المدح ببقائه عن مراده، وكيف يصف معبوده بجواز ألا يرتفع فى ملكه مراده؟!
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٨]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)
يعنى خاطبهم بلسان الحجة والتزام الدلائل ونفى الشبهة، ولا تكلّمهم على موجب نوازع النّفس والعادة، فيحملهم ذلك على ترك الإجلال لذكر الله.
ويقال لا تطابقهم على قبيح ما يفعلون فيزدادوا جرأة فى غيّهم، فسيكون فعلك سببا وعلّة لزيادة كفرهم وفسقهم.
قوله جل ذكره: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لبّسنا عليهم حقائق الأشياء حتى ظنوا القبيح جميلا، ولم يروا لسوء حالتهم تبديلا، فركنوا إلى الهوى، ولم يميزوا بين العوافي والبلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)
وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يغنى وضوح الأدلة لمن لا تساعده سوابق الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)
العجب ممن تبقى على قلبه شبهة فى مسألة القدر «١»، والحقّ- سبحانه- يقول:
(١) يشير القشيري بذلك إلى القدرية الذين يقولون بخلق الأفعال، فسموا قدرية من قبيل تسمية الشيء بضده، بينما سمى خصومهم بالجبرية.
ويوصف القدرية بانهم مجوس هذه الأمة، لأنه كما أن أتباع زرادشت يعارضون خالق الخير بمبدإ ثان هو علة الشر كذلك هم- أي القدرية- يخرجون أعمال الإنسان السيئة من دائرة خلق الله، فالله ليس هو الذي يخلق المعصية بل إرادة الإنسان المستقلة.
«وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ»، لا بل من حقائق التقليب بقاء إشكال هذا الأمر- مع وضوحه- على قلوب من هو من جملة العقلاء، فسبحان من يخفى هذا الأمر مع وضوحه! هذا هو قهر القادر وحكم الواحد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
لأن الآيات وإن توالت، وشموس البرهان وإن تعالت فمن قصمته العزّة وكبسته القسمة لم يزده ذلك إلا حيرة وضلالا، ولم يستنجز إلا للشقوة حالا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)
كلّما كان المحلّ أعلى كانت البلايا أوفى، والمطالبات أقوى، فلمّا كانت رتب الأنبياء- عليهم السلام- أشرف كانت العداوة معهم أشد وأصعب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٣]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)
وكلت أسماع الكفار باللغو وقلوبهم بالسوء فرضوا لأنفسهم أخسّ الأنصباء «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٤]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)
(١) الأنصباء جمع نصيب وهو الحصة من الشيء (المنجد).
قل لهم أترون أنى- بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أذر اليقين، وأوتر التخمين وأفارق الحقّ، وأقارن «١» الحظ؟ إن هذا محال من الظن.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)
تقدّست عن التغيير ذاته، وتنزهت عن التبديل صفاته. والتمام ينفى النقصان. وكلّ نقصان فمن الحدث أصله، وأنّى بالنقص- والقدم وصفه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٦]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)
أهل الله قليلون عددا وإن كانوا كثيرين وزنا وخطرا، وأمّا الأعداء ففيهم كثرة.
فإن لاحظتهم- يا محمد- فتنوك، وإن صاحبتهم منعوك عن الحق وقلبوك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)
تقاصرت علوم الخلق عن إدراك غيبه إلا بقدر ما عرّفهم من أمره، والذي لا يخفى عليه شىء فهو الواحد- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٨]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)
هذا فى حكم التفسير مختص بالذبيحة، وفى معنى الإشارة منع الأكل على الغفلة، فإن من
(١) ربما كانت فى الأصل (أقارف) بالفاء، وكلاهما صحيح فى السياق.
أكل على الغفلة فما دامت تلك القوة باقية فيه فخواطره إما هواجس النّفس أو وساوس الشيطان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٩]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
يعنى أي شىء عليكم لو تركتم الغفلة؟ وما الذي يضركم لو استدمتم الذكر؟
وقد تبيّن لكم الفرق بين أنس الذكر ووحشة الغفلة فى الحال والوقت، (ألا) «١» تعرفوا حكم الثواب والعقاب فى المآل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٠]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)
ظاهر الإثم ما للأغيار عليه اطلاع، وباطن الإثم هو سر بينك وبين الله، لا وقوف لمخلوق عليه.
ويقال باطن الإثم خفىّ العقائد و (....) «٢» الألحاظ.
ويقال باطن الإثم ما تمليه عليك نفسك بنوع تأويل.
ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المعرفة- الإغماض عمّا لك فيه حظ، ويقال باطن الإثم- على لسان أهل المحبة- دوام التغاضي عن مطالبات الحب وإنّ بناء مطالبات الحب على التجني والقهر «٣»، قال قائلهم:
(١) وردت (إلى) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) مشتبهة.
(٣) وفى هذا المعنى أنشدوا
إذا قلت: ما أذنبت؟ قالت مجيبة:
حياتك ذنب لا يقاس به ذنب ويقال أسبغت عليكم النّعم ظاهرا وباطنا، فذروا الإثم ظاهرا وباطنا، فإنّ من شرط الشكر ترك استعمال النعمة فيما يكون إثما ومخالفة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢١]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)
ما كانت (....) «١» من الأحوال عاصيا ولربّه ناسيا فتوقّيه شرط عند أصحاب (... ) «٢».
ثم قال: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» فهذا يدل على أنّ من توقّى ذلك اتحدت لله خواطره، وانقطعت عنه خواطر الشيطان. وأصل كل قسوة متابعة الشهوات، ومن تعوّد متابعتها فليودّع صفوة القلب.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٢]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)
الإيمان عند هؤلاء القوم حياة القلب بالله. وأهل الغفلة إذ لهم الذكر فقد صاروا أحياء بعد ما كانوا أمواتا، وأرباب الذكر لو اعتراهم نسيان فقد ماتوا بعد الحياة. والذي هو فى أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفى روح الاستبصار لا يدانيه من هو فى (أسر) «٣» الظلمات، ولا يساويه من هو رهين الآفات.
(١) مشتبهة.
(٢) مشتبهة. [.....]
(٣) وردت (أصر) بالصاد وقد آثرنا (أسر) لتلائم (رهين) الآفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)
لبّسنا عليهم حقائق التوحيد، وسوّلت لهم ظنونهم أن بهم شظية من المحو والإثبات فانهمكوا ظانين أنهم يمكرون، وهم فى التحقيق مخادعون، وسيعلمون حين لا ينفعهم علم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٤]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)
بعد إزاحة العلة، وبيان الحجة، وزوال الشبهة (فالتعلّل) «١» باستزادة البصيرة (إعلام) «٢» عن سوء الأدب، وذلك منهم من التعدي لمساواة من جاء بالاستحقاق بمن جاء بنوع من تسويلات النّفس يوجب مقاساة الهوان. وملازمة الحدود، وترك التعدي على الحقّ قضية التوفيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٥]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)
المسلم لا يتحرك فى باطنه عرق للمنازعة مع التقدير، فإن الإسلام يقتضى تسليم الكل بلا استئثار، ومن استثقل شيئا من التكليف أو بقي منه نفس لكراهية شىء فيعدّ غير مستسلم لحكمه.
ويقال نور فى البداية هو نور العقل، ونور فى الوسائط هو نور العلم ونور فى النهاية هو
(١) وردت (فالتعليل) والسياق يتطلب (التعلل) فيها يقوى ويتضح.
(٢) وردت (إقلام) ولا معنى لها، ونرجح أنها فى الأصل (إعلام) أي علامة.
نور العرفان فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة فى حكم العيان.
ويقال من وجد أنوار الغيب ظهرت له خفايا الأمور فلا يشكل عليه شىء من ذوات الصدور عند ظهور النور، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى».
ويقال أول أثر لأنوار الغيب فى العبد ينبّهه إلى نقائص قدره ومساوئ غيّه، ثم يشغله عن شهود نفسه مما يلوح لقلبه من شهود ربه، ثم غلبات الأنوار على سرّه حتى لا يشهد السرّ بعد ما كان يشهد كالنّاظر فى قرص الشمس تستهلك أنوار بصره فى شعاع الشمس كذلك تستهلك أنوار البصيرة فى حقائق الشهود، فيكون العبد صاحب الوجود دون الشهود ثم بعده خمود العبد بالكلية، وبقاء الأحدية بنعت السرمدية.
قوله جل ذكره: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.
وذلك حتى لا يسعى فى غير مراد الحق سبحانه «١»، وحدّ البشرية ضيق القلب، وصاحبه فى أسر الحدثان والأعلال، ولا عقوبة أشدّ من عقوبة الغفلة عن الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٦]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
الصراط المستقيم إقامة العبودية عند تحقق الربوبية فهو فرق مؤيّد بجمع، وجمع مقيد بشرع، وإثبات للعرفان بغاية الوسع، ونبو عن المخالفات بغاية الجهد، والتحقق بأنّ المجرى
(١) تبدو فى هذه العبارة رائحة الحبرية... نعم، ولكنها جبرية الحب، فالإرادة والمريد والمراد كلها تدور فى فلك الحب، وهذا فرق بين النزعتين الكلامية البحتة والصوفية، عند تصديهما لهذا الموضوع.
واحد لا شريك له، ثم ترك الاعتماد ونفى الاستناد، لا على (حركاته) «١» يعتمد، ولا إلى سكناته يستند، (بل) «٢» ينتظر ما يفتح به التقدير، فإن زاغ صاحب الاستقامة لحظة، والتفت يمنة أو يسرة سقط سقوطا لا ينتعش.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٧]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)
دار السلام أي دار السلامة، ومن كان في رقّ شىء من (الأغراض) «٣» والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة من تحرر عن رقّ المكوّنات، والآية تشير إلى أنّ القوم فى الجنة لكنهم ليسوا فى أسر الجنة، بل تحرروا من رقّ كل مكوّن.
ويقال من لم يسلّم- اليوم- على نفسه وروحه وكلّ ماله من كل كريمة وعظيمة تسليم وداع لا يجد- غدا- ذلك الفضل، فمن أراد أن يسلّم عليه ربّه- غدا- فليسلّم على (الكون) «٤» بجملته، وأولا على نفسه وروحه.
ويقال دار السلام غدا لمن سلم- اليوم- لسانه عن الغيبة، وجنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزّلّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب.
ويقال شرف قدر تلك الدار لكونها فى محل الكرامة، واختصاصها بعندية الزّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار، قال قائلهم:
بنى الحب على القهر فلو عدل المحبوب يوما لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى عاشق بطلب تأليف الحجج
إنّى لأحسد دارا فى جواركم طوبى لمن أضحى لدارك جارا
يا ليت جارك يعطينى من داره شبرا إذا لأعطيه بشبر دارا»
ويقال: وإن كانت الدار منزهة عن قبول الجار، وليس القرب منه بتدانى الأقطار، فإطلاق هذا اللفظ لقلوب الأحباب مؤنس بل لو جاز القرب فى وصفه من حيث المسافة لم يكن لهذا
(١) وردت (حرقاته) والصواب أن تكون (حركاته) لتتلاءم مع (سكتاته).
(٢) أضفنا (بل) ليتضح المعنى وهى غير موجودة فى النص.
(٣) (الأغراض) جمع غرض، وليس بمستبعدان تكون (الأعراض) بالعين جمع عرض، وكلاهما مقول.
(٤) وردت (السكون) وهى خطأ من الناسخ.
(٥) البيت الثاني مكسور ولكننا حرصنا على إثباته كما جاء فى النسخة.
كبير أثر، وإنما حياة القلوب بهذا، لأن حقيقته مقدسة عن هذه الصفات فهو لأجل قلوب الأحباب يطلق هذا ويقع العلماء فى كد التأويل، وهذا هو أمارة الحب، قال قائلهم:
أنا من أجلك حمّلت الأ... ذى الذي لا أستطيع
قوله جل ذكره: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «١».
هذا شرف قدر تلك المنازل حيث قال: «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» لأنه إذا كان- سبحانه- هو وليّهم فإنّ المنازل بأسرها طابت كيفما كانت، قال قائلهم:
أهوى هواها لمن قد كان ساكنها... وليس فى الدار لى همّ ولا وطر
هو وليّهم فى دنياهم، ووليّهم فى عقباهم، هو وليهم فى أولاهم وفى أخراهم وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يدع فيها لغيره نصيبا ولا سوى وليهم الذي هو أولى بهم منهم وليّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه فى جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم (يكلهم) «٢» إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم.
وليهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم.
وليّهم الذي اختطفهم عن كل حظ ونصيب، وحال بينهم وبين كل حميم وقريب، فحرّرهم عن كل موصوف ومطلوب ومحبوب، وليّهم الذي هو مؤنس أسرارهم.
مشاهده معتكف أبصارهم، وحضرته مرتع أرواحهم.
وليّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا فى بدايتهم يقصدون غيره، ولا فى نهايتهم يجدون غيره، ولا فى وسائلهم يشهدون غيره «٣» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)
(١) وقع الناسخ فى ثلاثة أخطاء كتابية ونقلية فى هذه الآية إذ كتبها (فهو وليهم اليوم بما كانوا يكسبون) إذ التبست عليه مع آية اخرى.
(٢) وردت (يكلمهم) بزيادة ميم وهى خطأ فى النسخ.
(٣) لاحظ هنا هذا الترتيب: قصود تم شهود تم وجود.
يعتذرون فلا يسمع، ويحتجون بما لا ينفع، ولقد كانوا من قبل لو أتوا بأقلّ منه قبل منهم، لكن سبقت القسمة فحقت لهم الشقوة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٩]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)
يعنى نجمع بين الأشكال، فالأولياء مجموعون يستمتع بعضهم ببعض، والأعداء مجموعون يفرّ بعضهم من بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٠]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
عرّفهم أنه أزاح لهم العلل من حيث التزام الحجة، لكنه حكم لهم بالشقوة فى الأزل، (فلبّس) «١» عليهم المحجة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣١]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١)
متى يصحّ فى وصفه توهم الظلم والملك ملكه والخلق خلقه؟
ومتى يقبح منه تصرّف فى شخص بما أراد، والعبد عبده والحكم حكمه؟
(١) وردت (فليس) وهى خطأ من الناسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٢]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢)
المحسن فى روح الثواب متنعّم، والمذنب فى نوح العذاب متألم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٣]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)
«الْغَنِيُّ» يشير إلى كشفه، و «ذُو الرَّحْمَةِ» يشير إلى لطفه.
أخبرهم بقوله «الْغَنِيُّ» عن جلاله، وبقوله: «ذُو الرَّحْمَةِ» عن أفضاله فبجلاله يكاشفهم فيفتيهم، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.
ويقال سماع غناه يوجب محوهم، وسماع رحمته يوجب صحوهم، فهم فى سماع هذه الآية مترددون بين بقاء وبين فناء، وبين إكرام وبين اصطلام، وبين تقريب وبين تذويب، وبين اجتياح وبين ارتياح.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٤]
إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤)
الإشارة من هذه الآية إلى قصر الأمل، ومن قصر أمله حسن عمله، وكل ما هو آت فقريب أجله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٥]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)
هذا غاية الزجر لأنه تهديد وإن كان فى صيغة الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٦]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦)
لما بنوا قاعدة أمرهم على موجب الهوى صارت فروعهم لائقة بأصولهم فهو كما قيل.
إذا كان القضاء إلى ابن آوى فتعويل الشهود إلى القرود
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٧]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧)
وسوست إليهم شياطينهم بالباطل فقبلت نفوسهم ذلك إذ الأشكال يتناصرون، فالنّفس لا تدعو إلا إلى الأجنبية، لأنها مدّعية تتوهم أن منها شيئا، وأصل كلّ شرك الدعوى، والشيطان لا يوسوس إلا بالباطل والكفر، فهم أعوان يتناصرون.
ثم قال: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» صرّح بأن المراد على المشيئة، والاعتبار (بسابق) «١» القضية.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٣٨ الى ١٣٩]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩).
(١) وردت (بسائق) وهى خطأ من الناسخ إذ المقصود بما سبق من القضاء. [.....]
أخبر عن أشياء ابتدعوها على ما أرادوا، وأمور شرعوها على الوجه الذي اعتادوا، ثم أضافوا ذلك إلى الحق بغير دليل، وشرعوها بلا حجة من إذن رسول، والاشارة فيه أن من (نحانحوهم) «١» فى زيادة شىء فى الدين، أو نقصان شىء من شرع المسلمين فمضاه لهم فى البطلان، ينخرط فى سلكهم فى الطغيان.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٠]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)
فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشية الفقر على قتل الأولاد، ولذلك قال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤١]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
يعنى كما أنشأ فى الظاهر جنات وبساتين كذلك أنشأ فى السّر جنات وبساتين، ونزهة القلوب أثم من جنات الظاهر فأزهار القلوب مونقة، وشموس الأسرار مشرقة، وأنهار المعارف زاخرة.
ويقال كما تتشابه الثمار كذلك تتماثل الأحوال، وكما تختلف طعومها وروائحها مع تشاكلها من وجه، فكذلك الأحوال مختلفة القضايا، وإن اشتركت فى كونها أحوالا.
قوله جل ذكره: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ.
(١) وردت (تجاتجوهم) وهى خطأ من الناسخ.
حقّ الواجب يوم الحصاد إقامة الشكر، فأمّا إخراج البعض فبيانه على لسان العلم «١»، وشهود المنعم فى عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.
قوله جل ذكره: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
الإسراف- على لسان العلم- مجاوزة الحد.
وعلى بيان الإشارة فالإسراف كلّ ما أنفقته فى حظّ نفسك- ولو كانت سمسمة، وما أنفقته فى سبيله- سبحانه- فليس بإسراف، ولو أربى على الآلاف.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)
يعنى تسخير الحيوانات للإنسان آية مزية فى الفضيلة على المخلوقات. وكما سخّر الأعيان للإنسان كذلك سخّر الأزمان فى تصريف الحدثان لخواصّ الإنسان «٢».
قوله جل ذكره: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ......
إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
الرزق لا يتخصص بالمأكولات بل هو شائع فى جميع ما يحصل به الانتفاع.
وينقسم الرزق إلى رزق الظواهر ورزق السرائر، ذلك وجود النعم وهذا شهود الكرم بل الخمود فى وجود القدم.
وللقلب رزق وهو التحقيق من حيث العرفان، وللروح رزق وهو المحبة بصدق التحرر عن الأكوان، وللسّر رزق وهو الشهود الذي يكون للعبد وهو قرين العيان.
(١) أي إخراج مقدر على حسب المعروف فى الزكاة.
(٢) يشير بذلك إلى ما يحدث على أيدى الأولياء من كرامات
قوله ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الإشارة من ذكر الضأن أن يتأدّب العبد باستدامة السكون والتزام حسن الخلق، فإنّ الضانية مستسلمة لمن يلى عليها، فلا بصياحها تؤذى «١» ولا (ب... وها) «٢»، يعنى كذلك سبيل من وطئ هذا البساط.
وكذلك «فى الإبل آيات» منها انقيادها لمن جرّ زمامها، واستناختها حيثما تناخ بلا نزاع ولا اختيار. ومنها ركوبها عند الحمل، ومنها صبرها على مقاساة العطش، وذوبانها فى السير.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٥]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
بيّن أنّ الشارع الله، والمانع عن الخلق هو الله، وما كان من غير الله فضائع باطل عند الله. بيّن أنه إذا جاء الاضطرار زال حكم الاختيار.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٦]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦).
(١) فى هذه الإشارة الدقيقة نلمح أن القشيري يدعو إلى إيثار الكتمان وعدم البوح بالأسرار، وعلى ذلك كبار الشيوخ. يقول الشبلي. على أثر محنة الحلاج «كنت وابن منصور شيئا واحدا ولكنه أظهر وأنا كتمت».
(٢) مشتبهة، وربما كانت (بعدوّها)، وعندئذ قد تكون العبارة فلا بصاحبها تؤذى ولا بعدوها.
بيّن أن ما حرّم عليهم ضيّعوه إذ لما لم يعاقبهم عليه لم يشهدوا مكره العظيم فيما ابتدعوه من قبل نفوسهم- فأهملوه ولم يحافظوا عليه، فاستوجبوا عظيم الوزر وأليم الهجر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٧]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)
الإشارة منه بيان تخصيص الأولياء بالرحمة، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة. والصورة الإنسانية جامعة (لهم) «١» ولكن القسمة الأزلية فاصلة بينهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٨]
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨)
كذبت قالتهم لأنها لم تصدر عن تصديق، فذمّوا على جهالتهم وإن كانت (....) «٢»
فى التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٤٩]
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)
صرّح بأن إرادته- سبحانه- لا تتقاصر عن مراد، وليس عليه اعتراض.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٠]
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)
(١) وردت (له) والصواب أن تكون (لهم) لتشمل الأولياء والأعداء.
(٢) مشتبهة.
أشار إلى أنّ من تجرّد عن برهان يصرّحه وبيان (يوضّحه) «١» فغير مقبول من فاعله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥١ الى ١٥٣]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣).
(١) وردت (يوضعه) والصواب أن تكون بالحاء ليقوى المعنى والموسيقى اللفظية ونرجح أن الناسخ اشتبه عليه شكل الحاء فظنها عينا.
هذه أشياء عشرة تضمنتها هذه الآية أولها الشرك فإنه رأس المحرمات، والذي لا يقبل معه شىء من الطاعات، وينقسم ذلك إلى شرك جلىّ وشرك خفىّ فالجلىّ عبادة الأصنام، والخفىّ ملاحظة الأنام، بعين استحقاق الإعظام.
والثاني من هذه الخصال ترك العقوق، وتوقير الوالدين بحفظ ما يجب من أكيدات الحقوق.
وبعد ذلك قتل الأولاد خشية الإملاق، وإراقة دمائهم بغير استحقاق.
ثم ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما بدا وما استتر، ويدخل فى ذلك جميع أقسام الآثام.
ثم قتل النّفس بغير الحق، وذلك إنما يكون لفقد شفقة الخلق.
ثم مجانبة مال اليتيم والنظر إليه بعين التكريم.
ثم بذل الإنصاف فى المعاملات والتوقي من جميع التبعات «١» ثم الصدق فى القول والعدل فى الفعل.
ثم متابعة السبيل بما تشير إليه لوائح الدليل.
فمن قابل هذه الأوامر بجميل الاعتناق سعد فى داريه وحظى بعظائم منزلته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٤]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤)
يهوّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنّ الذين كانوا قبلنا كانوا فى الضعف والعجز مثلنا، ثم صبروا فظفروا، وأخلصوا فخلصوا.
(١) أي الاحتراز عما فيه تبعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٥]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)
إنزال الكتاب عليهم تحقيق للإيجاب، وإذا بقي العبد عن سماع الخطاب تسلى بقراءة الكتاب، ومن لم يجد فى قراءة القرآن كمال العيش والأنس فلأنّه يقرأ ترسما لا تحققا «١» قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)
أزاح كلّ علّة، وأبدى كل وصلة، فلم يبق لك تعللا، ولا فى آثار الالتجاء إلى العذر موضعا.
قوله جل ذكره: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ.
عقوبة كلّ جرم مؤجلة، وعقوبة التكذيب معجلة، وهى ما يوجب بقاءهم فى أسر الشك حتى لا يستقر قلبهم على شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٨]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)
(١) يمكن ان يصلح هذا الرأى لتحديد موقف القشيري من قضية «السماع» ومدى تأثير القرآن والشعر فى الوجدان الصوفي. أنظر قصة يوسف بن الحسين الرازي (الرسالة ص ١٧١).
أخبر أنه بعد ما (أزاح) «١» لهم العلل اقترحوا ما ليس لهم، و (اغتروا) «٢» بطول السلامة لهم، ثم بيّن أنه إذا أمضى عقوبة عبد حكما فلا معارض لتقديره، ولا مناقض لتدبيره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٥٩]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)
اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم، (فكانوا) «٣» مجتمعين جهرا بجهر متفرقين- فى التحقيق- سرّا بسرّ.
قوله: «لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ». لا نجمعك وإياهم، يعنى شقّك شقّ الحقائق، وشقّهم شقّ الباطل، و (لا اجتماع) «٤» للضدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)
هذه الحسنات للظاهر وأمّا حسنات القلوب فللواحد مائة إلى أضعاف مضاعفة.
ويقال الحسنة من فضله تعالى تصدر، وبلطفه تحصل، فهو يجرى، ثم يقبل ويثنى، ثم يجازى ويعطى.
ويقال إحسانه- الذي هو التوفيق- يوجب إحسانك الذي هو الوفاق، وإحسانه- الذي هو خلق الطاعة- يوجب لك نعت الإحسان الذي هو الطاعة فالعناء منك فعله والجزاء لك فضله «٥».
(١) وردت (ذبح) وذبج العلة وإزاحتها كلاهما مقبول ولكننا آثرنا أزاح لأنه استعملها فى هذا السياق قبل قليل.
(٢) وردت (اعتروا) بالعين والصواب (اغتروا) بالغين.
(٣) وردت (فكا... ) فأكملناها.
(٤) وردت و (الاجتماع) والمعنى يرفضها ويقبل و (لا اجتماع). [.....]
(٥) تعبر هذه الفقرة عن موقف القشيري بالنسبة لقضية وجوب المثوبة والعقوبة على الله بالنسبة للمطيع والعاصي، فبينما يقول المعتزلة بهذا الوجوب، يرفض القشيري كل وجوب على الله، ويعود بالأمر كله إلى الفضل الإلهى.
ويقال إحسان النفوس توفية الخدمة، وإحسان القلوب حفظ الحرمة، وإحسان الأرواح مراعاة آداب الحشمة.
ويقال إحسان الظاهر يوجب إحسانه فى السرائر، فالذى منك مجاهدتك، والذي إليك مشاهدتك.
ويقال إحسان الزاهدين ترك الدنيا، وإحسان المريدين رفض الهوى، وإحسان العارفين قطع المنى، وإحسان الموحدين التخلّي عن الدنيا والعقبى، والاكتفاء بوجود المولى.
ويقال إحسان المبتدئين الصدق فى الطلب، وإحسان أصحاب النهاية حفظ الأدب، فشرط الطلب ألا يبقى ميسور إلّا بذلته، وشرط الأدب ألا تسمو لك همّة إلى شىء إلا قطعته وتركته.
ويقال للزهاد والعبّاد، وأصحاب الأوراد وأرباب الاجتهاد جزاء محصور معدود، ولأهل المواجيد لقاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قوله جل ذكره: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
يعنى (يكال) «١» عليه بالكيل الذي يكيل، ويوقف حيث يرضى لنفسه بأن يكون له موقفا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦١]
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)
أرشده إلى الطريق الصحيح. ولا يكون الإرشاد إليه إلا بانسداد الطرق أجمع إلى ما سواه.
ومن وجد سبيلا إلى مخلوق عرج في أوطان الحسبان لأن الأغيار ليس لها من الإبداع شظية، ومن سلك إلى مخلوق سبيلا وأبرم فيهم تأميلا أو قدّم عليهم تعويلا، فقد استشعر تسويلا، وجرّع تضليلا.
(١) وردت (يقال) وهى خطأ فى النسخ.
و «الصراط المستقيم» ألّا ترى من دونه مثبتا لذرة ولا سنة.
و «الدين القيم» ما لا تمثيل فيه ولا تعطيل، ولا نفى للفرق الذي يشير إلى العبودية، ولا رد للجمع الذي هو شهود الربوبية «١».
والحنيف المائل إلى الحق، الزائغ عن الباطل، الحائل عن ضد الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)
من كوشف بحقائق التوحيد شهد أن القائم عليه والمجرى عليه والممسك له والمنقّل إياه من وصف إلى وصف، و (....) «٢» عليه فنون الحدثان- واحد لا يشاركه قسيم، وماجد لا يضارعه نديم.
ويقال من علم أنه بالله علم أنه لله، فإذا علم أنه لله لم يبق فيه نصيب لغير الله فهو مستسلم لحكم الله، لا معترض على تقدير الله، ولا معارض لاختيار الله، ولا معرض عن اعتناق أمر الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٤]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤).
(١) من اقوال القشيري التي توضح مقصوده هنا: ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع، فمن أشهده الحق- سبحانه- أفعاله من طاعاته ومخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق- سبحانه- ما يوليه من أفعال نفسه- سبحانه- فهو عبد يشاهد الجمع فإثبات الخلق من باب التفرقة، واثبات الحق من نعت الجمع، ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له (الرسالة ص ٣٨).
(٢) مشتبهة وهى قريبة من (المجرى).
كيف أوثر عليه بدلا وإنى لا أجد عن حكمه حولا، وكيف أقول بغير أو ضد أو شريك؟ أو أقول يدونه معبود أو مقصود؟ وإن لاحظت يمنة ما شاهدت إلا ملكه، وإن طالعت يسرة ما عاينت إلا ملكه! بل إنى إن نظرت يمنة شهدت يمنه، وإن نظرت يسرة وجدت نحوى يسره «١» ! قوله جل ذكره:
[سورة الأنعام (٦) : آية ١٦٥]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)
صير التوبة إليكم، وقصر حكم عصركم عليكم، فأنتم المقصودون اليوم دون من هو سواكم. ثم إنه جعلكم أصنافا، وخلقكم أخيافا «٢» فمن مسخّر له، مرفّه، مروّح، يتعب لأجله كثير. ومن معنّي، وذى مشقة أدير عليه رأسه. وجاء البلاء ليختبركم فيما آتاكم، ويمتحنكم فيما أعطاكم. إنّ حسابه لكم لاحق، وحكمه فيكم سابق. والله أعلم.
السورة التي يذكر فيها الأعراف
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الباء مكسورة فى نفسها وعملها الخفض لأنها من الحروف الجارة للأسماء، وهى صغيرة القامة فى الخط، ونقطها الذي تتميز به عن غيرها واحد وهو نهاية القلّة، ثم موضع هذه النقطة أسفل الحرف، فهى تشير إلى التواضع والخضوع بكل وجه.
والسين «من بسم الله» حرف ساكن فالإشارة من الباء ألا تذر- فى الخضوع والتذلل، والجهد والتوسل- ميسورا، ثم تسكن منتظرا للتقدير، فإن منّ القبول بفضله
(١) وردت (يمنه ويسره) بتاء مربوطة والصواب أن تكونا (اليمن واليسر) مضافتين لله- سبحانه.
(٢) يقال هم إخوة أخياف: أي أنّ أمهم واحدة والآباء شتى فهم مختلفون (المنجد)
Icon