ﰡ
﴿والسمآء ذَاتِ البروج﴾
أقسَم الله تعالى بالسماءِ البديعة وما فيها من نجوم لِينبِّهَنا الى ما فيها من دقة الصنع، وبالغ الحكمة، لِنعلمَ ان الذي خلَقها أجلُّ وأعظم.
والبروج اثنا عشر وهي: الحمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُنبلة، والميزان، والعقرب، والدَّلو، والجَدي، والحوت، والقوس. وتحلُّ الشمس كل شهرٍ في واحد من هذه البروج، وكلٌّ منها يضمُّ منزلَين وثلُثاً من منازل القمر، وعددها ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل يوم في واحد منها ويستتر ليلتين يغيب فيهما.
ومنازل القمر هي: الشرطان، والبطين، والثريا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعة، والذِراع، والنثرة، والطَرْف، والجَبْهة، والزّبرة، والصرفة، والعَوّاء، والسِّماك الأعزل، والغفر، والزُّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنعائم، والبلدة، وسعدُ الذابح، وسعد بَلَعَ، وسعدُ سُعود، وسعدُ الأخبية، والفرغُ الأول، والفرغُ الثاني، وبطنُ الحوت.
ونرى في السماء ستة بروج، والستة الاخرى تكون في سماء نصفِ الأرض المغيَّبة عنّا.
ونرى في المنازل اربعة عشر منزلا، والبقية في النصف المغيّب عنّا. والبروج الاثنا عشر، منها ستة في شمال خط الاستواء، وستة اخرى في جنوبه.
فاما التي في شماله فهي: الحمل، والثور، والجوزاء.
وهذه الثلاثة تقطعها الشمس في ثلاثة اشهر هي فصل الربيع، ثم السرطان، والاسد، والسنبلة، وهذه هي فصل الصيف.
والستة التي في جنوب خط الاستواء هس: الميزان، والعقرب، والقوس، وفيها يكون فصل الخريف.
ثم الجدي، والدلو، والحوت، وفيها يكون فصل الشتاء. هكذا قسّم القدماء البروج والمنازل.
ولقد اقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من نجوم لا تُعدُّ ولا تحصى، ومن جملتها هذه البروج، لأننا نراها ونشاهدُها دائما، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة.
﴿وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر﴾ [الأنعام: ٩٧].
وقال: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ [الحجر: ١٦].
وقال: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥].
ولذلك اهتم العرب بهذه السماء العجيبة، وعرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسمّوها بأسماء مخصوصة، وذكروا في أشعارهم بعضها، مثل الفَرْقَدَين والدَّبَران، والعَيُّوق، والثريا، والسِّماكَين، والشِّعْرَيَيْن، وغيرهما مما ذكر في كتب الفلك والأدب والتفسير والتاريخ....
وقد صور العلامة ابو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي جميع أسماء الكواكب المستعملة عند العرب في كتابه البديع: صور الكواكب الثمانية والاربعين، والذي حوى نحو مئتين وخمسين كوكبا....
فالقَسم بهذه السماء البديعة الصنع، العجيبة التركيب، وما فيها من نجوم ومجرات، ومجموعات لا نعلم منها الا القليل القليل - قَسَمٌ عظيم، والذي أقسَمَ أجَلُّ أعظمُ.
﴿واليوم الموعود﴾
هو يوم القيامة الذي وعَدَ اللهُ أنه لا بدّ آتٍ للحساب والجزاء.
﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾
وبجميع ما خلق اللهُ في هذا الكون العجيب، مما يشهده الناس ويرونه رأيَ العين. وبهذا يوجه الله تعالى انظارنا الى ما في هذا الكون الواسع الكبير من العظمة والفخامة والحكمة، لنعتبر ونتعظ، ونعلم أن الله الذي خلق هذا الكون هو الذي يستحق أن يعبد.
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود﴾
قاتلَ اللهُ أصحابَ الأخدود ولعنهم، فهم الذين شقّوا في الأرض شقاً مستطيلا كالخندق، وملأوه بالنيران، وحرقوا بها المؤمنين بالله.
ثم بيَّنَ من هُم أسحابُ الأخدود فقال:
﴿النار ذَاتِ الوقود﴾
إنهم أصحابُ النار المتأججة التي أوقدوا فيها الحطب الكثير، فارتفع لهبها.
ثم بيّن إجرامَهم وقسوةَ قلوبهم بقوله:
﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ﴾
قُتل هؤلاء المجرمون ولُعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم جلوسٌ حولَها، يشهدون العذابَ، ويتشَفَّون بإحراقهم.
﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾
وما كان للمؤمنين من ذنْبٍ عندهم، ولا انتقموا منهم، إلا لأنهم آمنوا بالله العزيزِ، الغالبِ الذي لا يُضام مَنْ لاذَ به، الحميدِ في جميع اقواله وافعاله.
ثم بين الله تعالى انه مطلع على ما فعلوا بالمؤمنين، وأوعدهم بانهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال:
﴿والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾
إنه تعالى مطَّلع على اعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم، فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
وبعد أن ذكر قصةَ أصحابِ الأُخدود، وما فعلوه من العذاب الكبير بالمؤمنين - شدَّد النكير على أولئك المجرمين الذي عذّبوهم، بأنه أعدَّ لهم عذاباً أليما في نار جهنم، وانه إن أمهَلَهم فإنه لا يُهمِلُهم، فقال:
﴿إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق﴾.
وقد اختلف المفسرون في حقيقة أصحاب الأخدود، وأين كان موضعهم ومن هم، وأوردوا أقوالا كثيرة لا فائدة منها فأضربنا عنها وتركناها.....
وبعد ان ذَكر اللهُ تعالى ما أعدّ لأولئك المجرمين من العذاب، بين هنا ما يكون لأوليائه المؤمنين من النعيم المقيم، فقال:
﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير﴾.
بهذا القول الكريم يتمثل رضى الله وإنعامُه على الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، حيث تكون خاتمتُهم في جناتِ النعيم التي تجري من تحتِ أشجارها الانهارُ، وهذا هو الفوزُ الكبير، جزاء صبرهم وإيمانهم وعملهم الصالح.
ثم اخبر تالى عن انتقامهِ الشديد من أعدائه وأعداء رسُله والمؤمنين فقال:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الغفور الودود ذُو العرش المجيد فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾.
ان انتقام الله من الجبابرة والظَلَمة، وأخْذَه إياهم بالعقوبة، بالغُ الغايةِ في الشدة، والنهايةِ في الأذى، فهو الخالقُ القادر الذي يبدأ الخَلْق من العدم، ثم يعيدُهم أحياءً بعد الموت. فإذا كان قادراً على البدءِ والإعادة، فهو قادرٌ على البطش بهم... لأنهم في قبضتِه وخاضعون لسلطانه.
ثم ذكر سبحانه أنه يغفر دائماً، وانه رحيمٌ لعباده، كثيرُ المحبّة لمن اطاعه، فبين في ذلك خمسةَ أوصافٍ من صفات الرحمةِ والجَلال فقال:
١- ﴿وَهُوَ الغفور﴾ وهو كثير المغفرة لمن يتوب ويرجع اليه، في أيها الناس لا تقنَطوا من رحمة الله، فإن رحمته وسِعت كلَّ شيء.
٢- ﴿الودود﴾ المحبّ لأوليائه المخلِصين، اللطيف المحسِن اليهم. وأي صفة أعظمُ من هذه الصفة؟
٣- ﴿ذُو العرش﴾ صاحبُ الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي لا يُرَدّ.
٤- ﴿المجيد﴾ العظيم الكرم والفضل، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال.
٥- ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه.
روي ان ابا بكر الصدّيق رضي الله عنهـ، قيل له وهو في مرض الموت: هل نظرتَ الى طبيب؟ فقال: نعم، قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال لي إني فعّال لما أريد.
﴿هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾.
بعد ان ذكر قصّة اصحاب الأخدود وبيّن حالَهم، وما فعلوا بالمؤمنين - ذكر هنا ان حال الكفار في كل عصر، ومع كل نبيٍّ وشِيعته، جارٍ على هذا المنهج، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم، ولم يرسِل اللهُ نبياً إلا واجَه من قومه مثلَ ما لقي هؤلاء من اقوامهم.
هل بلغك يا محمد ما صَدَرَ من تلك الجموع الطاغية من التمادي في الكفر والضلال وما حلّ بهم؟ إنهم فرعونُ وقومه، وثمود. والكفّار في كل عصر متشابهون، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدْع في الأمم، فقد سبقهم أمم قبلهم وحلّ بهم النَّكال، وكذلك سيكون مآل الجاحدين من قومك، ﴿فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: ٤٩]. إنّ الكفّار في كل عصرٍ غارقون في شَهوة التكذيب، فلا تجزَعْ. إنك لمن المنتصِرين.
﴿والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ﴾ لا يفلتون من قبضته، ولا يُعجِزونه.
ثم رد على تماديهم في تكذيب القرآن، وادّعائهم أنه أساطيرُ الأولين فقال:
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾
إن ما جئتهم به يا محمد من قرآن عظيم، وكذّبوا به - هو من عند الله واضحُ الدلالة على صِدقك، وهو محفوظٌ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي: ذو العرش المجيدِ بكسر الدال، وقرأ الباقون: المجيدُ بالرفع، وقرأ نافع: في لوح محفوظٌ بالرفع، والباقون: محفوظٍ بالجر.