مكية وآياتها ثنتان وعشرون
ﰡ
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) ﴾
﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ﴾ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيْوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُ [بِهِ] (٢) مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ" (٣)، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة البروج: ٩ / ٢٥٨ وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين من قبل حفظه" والطبري: ٣٠ / ١٢٨. وذكره ابن كثير في التفسير: ٤ / ٤٩٢، وقال: "هكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف الحديث. وقد روي موقوفا على أبي هريرة وهو أشبه" وأخرجه المصنف في شرح السنة: ٤ / ٢٠٤.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: "الشَّاهِدُ" يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، "وَالْمَشْهُودُ" يَوْمُ عَرَفَةَ.
وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "الشَّاهِدُ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَ"الْمَشْهُودُ": يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النِّسَاءِ-٤١)، وَقَالَ: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: "الشَّاهِدُ": مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَ"الْمَشْهُودُ": اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَيَانُهُ: قَوْلُهُ "وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الشَّاهِدُ" آدَمُ، وَ"الْمَشْهُودُ" يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ "الشَّاهِدُ" الْإِنْسَانُ وَ"الْمَشْهُودُ" يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الشَّاهِدُ الْمَلَكُ يَشْهَدُ عَلَى ابْنِ آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَتَلَا "وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ" (ق-٢١) و"وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ" (هُودٍ-١٠٣) وَقِيلَ: الشَّاهِدُ [الْحَفَظَةُ وَالْمَشْهُودُ بَنُو آدَمَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: الشَّاهِدُ] (٣) آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ. بَيَانُهُ: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (الْبَقَرَةِ-١٤٣).
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: "وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ" فَقَالَ: الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ: نَحْنُ، بَيَانُهُ: "وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (النِّسَاءِ-٧٩) وَقِيلَ: الشَّاهِدُ أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ ابْنُ آدَمَ، بَيَانُهُ: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ" الْآيَةَ (النُّورِ-٢٤) وَقِيلَ:
(٢) أخرجه الطبري: ٣٠ / ١٣٠ عن ابن عباس، وفيه علي بن زيد. ورواه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنه، في الموضع نفسه. وأخرجه النسائي في التفسير: ٢ / ٥١٤. قال الهيثمي في المجمع: ٧ / ١٣٦: "رواه البزار ورجاله ثقات". قال الطبري مرجحا: ٣٠ / ١٣١: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أقسم بشاهد شهد، ومشهود شهد، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أي شاهد وأي مشهود أراد، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعني مما يستحق أن يقال له (شاهد ومشهود).
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) ﴾
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ أَيْ: لُعِنَ، وَ"الْأُخْدُودُ" الشَّقُّ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ كَالنَّهْرِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ:
أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدَانَ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ نُوحِ بْنِ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبُرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ، وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ السَّاحِرِ قَعَدَ إِلَى الرَّاهِبِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ ضَرَبُوهُ، فَشَكَا [ذَلِكَ] (١) إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا [جِئْتَ] السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا [جِئْتَ] (٢) أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ أَمِ السَّاحِرُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ: إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، فَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيَتْ [فَاصْبِرْ] (٣) فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ وَكَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتِنِي، قَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنَتْ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي عَزَّ وجل، قال أَوَ لَك رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبَرِئُ بِهِ الْأَكَمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، قَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى [فَدَعَا
(٢) في "ب" خشيت.
(٣) زيادة من "ب".
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ [هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ] (٩) حَمَّادِ بن سلمة. (١٠) حماد بْنِ سَلَمَةَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَى دِينِ عِيسَى فَوَقَعَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ [فَدَعَاهُمْ] (١١) فَأَجَابُوهُ فَسَارَ إِلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ الْيَهُودِيُّ بِجُنُودِهِ مِنْ حِمْيَرَ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ النَّارِ وَالْيَهُودِيَّةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَخَدَّ الْأَخَادِيدَ وَأَحْرَقَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ [لَمَّا] (١٢) غَلَبَ أَرْيَاطُ عَلَى الْيَمَنِ فَخَرَجَ
(٢) زيادة من "ب".
(٣) ساقط من "ب".
(٤) في "ب" فتوسطوا به البحر.
(٥) في "ب" فاقذفوه.
(٦) زيادة من "ب".
(٧) ساقط من "أ".
(٨) زيادة من "ب".
(٩) ساقط من "ب".
(١٠) أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام برقم (٣٠٠٥ (٤ / ٢٢٩٩.
(١١) ساقط من "ب".
(١٢) ساقط من "ب".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أن خربة احتقرت فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ التَّامِرِ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ إِذَا أُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْهَا انْبَعَثَتْ دَمًا وَإِذَا تُرِكَتِ ارْتَدَّتْ مَكَانَهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فِيهِ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عمر فكتب ١٨٩/أأَنْ أُعِيدُوا عَلَيْهِ الَّذِي وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ (٢)
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -قَالَ: كَانَ بِنَجْرَانَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ حَمِيرَ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ ذُو نُوَاسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ شَرَحِيلَ فِي الْفَتْرَةِ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بِسَبْعِينَ سَنَةٍ] (٣) وَكَانَ فِي بِلَادِهِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ تَامِرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَى مُعَلِّمٍ يَعْلَمُهُ السِّحْرَ فَكَرِهَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ فَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى الْمُعَلِّمِ [وَكَانَ] (٤) فِي طَرِيقِهِ رَاهِبٌ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ حَسَنُ الصَّوْتِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى حَدِيثِ صُهَيْبٍ إِلَى أَنْ قَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ مَا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: فَكَيْفَ أَقْتُلُكَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ وَأَنْتَ عَلَى سَرِيرِكَ فَتَرْمِينِي بِسَهْمٍ بِاسْمِ إِلَهِي، فَفَعَلَ الْمَلِكُ [ذَلِكَ] (٥) فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ تَامِرٍ لَا دِينَ إِلَّا دِينَهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَأَغْلَقَ بَابَ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ أَفْوَاهَ السِّكَكِ وَخَدَّ أُخْدُودًا وَمَلَأَهُ نَارًا ثُمَّ عَرَضَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ، وَمَنْ قَالَ: دِينِي دِينُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَامِرٍ أَلْقَاهُ فِي الْأُخْدُودِ فَأَحْرَقَهُ، وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ امْرَأَةٌ أَسْلَمَتْ فِيمَنْ أَسَلَمَ ولها أولاد ثلاث أَحَدُهُمْ رَضِيعٌ، فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ: ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ وَإِلَّا أَلْقَيْتُكِ وَأَوْلَادَكِ فِي النَّارِ، فَأَبَتْ فَأَخَذَ ابْنَهَا الْأَكْبَرَ فَأَلْقَاهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ، فَأَبَتْ فَأَلْقَى الثَّانِيَ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: ارْجِعِي، فَأَبَتْ فَأَخَذُوا الصَّبِيَّ مِنْهَا لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ فَهَمَّتِ الْمَرْأَةُ بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ لَا تَرْجِعِي [عَنِ الْإِسْلَامِ] (٦) فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكِ، فَأُلْقِيَ الصَّبِيُّ فِي النَّارِ، وَأُلْقِيَتْ أُمُّهُ عَلَى أَثَرِهِ (٧).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبْزَى: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ اسْفِنْدِهَارَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْرِي عَلَى الْمَجُوسِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَى قَدْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَانَتِ الْخَمْرُ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَتَنَاوَلَهَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ فَغَلَبَتْهُ عَلَى عَقْلِهِ، فَتَنَاوَلَ أُخْتَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ السُّكْرُ نَدِمَ، وَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا هَذَا الَّذِي أَتَيْتُ، وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُ
(٢) انظر: سيرة ابن هشام: ١ / ٣٧-٣٨.
(٣) ساقط من "ب".
(٤) ساقط من "ب".
(٥) ساقط من "ب".
(٦) ساقط من "ب".
(٧) انظر: البداية والنهاية لابن كثير: ٢ / ١٢١.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَخَذُوا رِجَالًا وَنِسَاءً فَخَدُّوا لَهُمْ أُخْدُودًا ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ النِّيرَانَ فَأَقَامُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا، فَقَالُوا: أَتَكْفُرُونَ أَمْ نَقْذِفُكُمْ فِي النَّارِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (٣).
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ نَبِيُّهُمْ حَبَشِيٌّ، بُعِثَ [نَبِيٌّ] (٤) مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ الْآيَةَ (غَافِرٍ-٧٨) فَدَعَاهُمْ فَتَابَعَهُ أُنَاسٌ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ أَصْحَابُهُ وَأُخِذُوا وَأُوثِقَ مَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ فخدوا أخدودًا فملؤها نَارًا فَمَنْ تَبِعَ النَّبِيَّ رُمِيَ فِيهَا، وَمَنْ تَابَعَهُمْ تَرَكُوهُ، فَجَاءُوا بِامْرَأَةٍ وَمَعَهَا صَبِيٌّ رَضِيعٌ فَجَزِعَتْ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ مُرِّي وَلَا تُنَافِقِي.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا مِنَ النَّبَطِ [أُحْرِقُوا بِالنَّارِ] (٥) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: وَاحِدَةً بِنَجْرَانَ بِالْيَمَنِ، وَوَاحِدَةً بِالشَّامِ، وَالْأُخْرَى بِفَارِسَ، حُرِّقُوا [بِالنَّارِ] (٦) أَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ فَهُوَ أَبْطَامُوسُ الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ فَبُخْتَنَصَّرَ، وَأُمَّا الَّتِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ ذُو نُوَاسٍ يُوسُفُ، فَأَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ وَفَارِسَ فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ فِيهِمَا قُرْآنًا وَأَنْزَلَ فِي الَّتِي كَانَتْ بِنَجْرَانَ (٧)، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا مِمَّنْ يَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ آجَرَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ فَرَأَتْ بِنْتُ الْمُسْتَأْجِرِ النُّورَ يُضِيءُ مِنْ قِرَاءَةِ الْإِنْجِيلِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِيهَا فَرَمَقَهُ حَتَّى رَآهُ [فَسَأَلَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ] (٨) فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْبِرَهُ بِالدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، فَتَابَعَهُ هُوَ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَهَذَا بَعْدَمَا رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ يُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ فَخَدَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْقَدَ فِيهَا نَارًا فَعَرَضَهُمْ عَلَى الْكَفْرِ، فَمَنْ أَبَى
(٢) أخرجه الطبري: ٣٠ / ١٣٢.
(٣) أخرجه الطبري: ٣٠ / ١٣٣. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٦٥ لابن المنذر.
(٤) ساقط من "ب".
(٥) انظر: ابن كثير: ٤ / ٤٦٩.
(٦) ساقط من "أ".
(٧) ساقط من "ب".
(٨) ساقط من "ب".
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) ﴾
﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ﴾ بَدَلٌ مِنَ الْأُخْدُودِ، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْقُوا فِي النَّارِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ، وَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَى مَنْ عَلَى شَفِيرِ الْأُخْدُودِ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَحْرَقَتْهُمْ (١). ﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ﴾ أَيْ: عِنْدَ النَّارِ جُلُوسٌ [لِتَعْذِيبِ] (٢) الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قُعُودًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ [عِنْدَ الْأُخْدُودِ] (٣). ﴿وَهُمْ﴾ يَعْنِي الْمَلِكَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَدُّوا [الْأُخْدُودَ] (٤) ﴿عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ ﴿شُهُودٌ﴾ حُضُورٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَشْهَدُونَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَلَالٍ حِينَ تَرَكُوا عِبَادَةَ الصَّنَمِ. ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَرِهُوا مِنْهُمْ ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ مَا عَابُوا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مَا عَلِمُوا فِيهِمْ عَيْبًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْبًا إِلَّا إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ﴿شَهِيدٌ﴾
(٢) في "ب" يعذبون.
(٣) زيادة من "ب".
(٤) ما بين القوسين ساقط من "أ".
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا﴾ عَذَّبُوا وَأَحْرَقُوا ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ يُقَالُ: فَتَنْتَ الشَّيْءَ إِذَا أَحْرَقَتَهُ، نَظِيرُهُ "يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ" (الذَّارِيَاتِ-١٣) ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ﴾ بكفرهم ١٨٩/ب ﴿وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ الَّتِي] (١) أَحْرَقُوا بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأُخْدُودِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْكَلْبِيُّ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَوَابُهُ: "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ" يَعْنِي لَقَدْ قُتِلَ.
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَوَابُهُ: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ لَشَدِيدٌ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هُودٍ-١٠٢). ﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾ أَيْ يَخْلُقُهُمْ أَوَّلًا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ. ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ﴾ لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿الْوَدُودُ﴾ الْمُحِبُّ لَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمَوْدُودُ، كَالْحَلُوبِ وَالرَّكُوبِ، بِمَعْنَى الْمَحْلُوبِ وَالْمَرْكُوبِ. وَقِيلَ: يَغْفِرُ وَيَوَدُّ أَنْ يَغْفِرَ، وَقِيلَ: الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ. ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "الْمَجِيدِ" بِالْجَرِّ، عَلَى صِفَةِ الْعَرْشِ أَيِ السَّرِيرِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ حُسْنَهُ فَوَصَفَهُ بِالْمَجْدِ كَمَا وَصَفَهُ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: "رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (الْمُؤْمِنُونَ-١١٦) وَمَعْنَاهُ الْكَمَالُ، وَالْعَرْشُ: أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَكْمَلُهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى صِفَةِ ذُو الْعَرْشِ. ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ يُرِيدُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ﴾ قَدْ أَتَاكَ خَبَرُ الْجُمُوعِ الْكَافِرَةِ الَّذِينَ تَجَنَّدُوا
﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) ﴾
ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ فَقَالَ: ﴿فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ ﴿فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ لَكَ وَلِلْقُرْآنِ كَدَأْبِ [آلِ فِرْعَوْنَ] (١) مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ. ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾، عَالِمٌ بِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، يَقْدِرُ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾، كَرِيمٌ شَرِيفٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ، لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ شِعْرٌ وَكِهَانَةٌ. ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾، قَرَأَ نَافِعٌ: "مَحْفُوظٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى نَعْتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّا نَحْنُ، نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، وَمِنْهُ نُسِخَ الْكُتُبُ، مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَمِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ. أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ ابن مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ، قَالَ: وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَحَافَّتَاهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ. (٢)
قَالَ مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.
(٢) موقوف على ابن عباس وفيه إسحاق بن بشر، قال ابن حبان: لا يحل حديثه إلا على جهة التعجب وقال الدارقطني: متروك. وقال الذهبي: يروي العظائم عن ابن إسحاق وابن جريج والثوري. انظر: الضعفاء لابن حبان: ١٣٧، الميزان للذهبي: ١١٨٤. وراجع ابن كثير: ٤٤٩٨.