تفسير سورة يوسف

الماوردي
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله عزوجل :﴿ الر تلك آيات الكتاب المبين ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنها الآيات المتقدم ذكرها في السورة التي قبلها.
الثاني : الآيات التي في هذه السورة، ويكون معنى قوله تعالى ﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾ أي هذه آيات الكتاب المبين.
الثالث : أن تلك الآيات إشارة إلى ما افتتحت به السورة من الحروف وأنها علامات الكتاب العربي، قاله ابن بحر.
وفي قوله تعالى :﴿ الكتاب المبين ﴾ ثلاثة تأويلات : أحدها : المبين حلاله وحرامه، قاله مجاهد.
الثاني : المبين هداه ورشده، قاله قتادة.
الثالث : المبين للحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف، قاله معاذ.
قوله تعالى :﴿ إنا أنزلناه قرآناً عربياً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إنا أنزلنا الكتاب قرآناً عربياً بلسان العرب، وهو قول الجمهور. الثاني : إنا أنزلنا خبر يوسف قرآناً، أي مجموعاً عربياً أي يعرب عن المعاني بفصيح من القصص وهو شاذ.
﴿ لعلكم تعقلون ﴾.
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾ أي نبين لك أحسن البيان، والقاصّ الذي يأتي بالقصة على حقيقتها.
قوله تعالى :﴿ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحَدَ عشر كوكباً والشمس والقمر ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه رأى إخوته وأبويه ساجدين له فثنى ذكرهم، وعنى بأحد عشر كوكباً إخوته وبالشمس أباه يعقوب، وبالقمر أمه راحيل رآهم له ساجدين، فعبر عنه بما ذكره، قاله ابن عباس وقتادة.
الثاني : أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له فتأول الكواكب إخوته، والشمس أباه، والقمر أمه، وهو قول الأكثرين. وقال ابن جريج : الشمس أمه والقمر أبوه، لتأنيث الشمس وتذكير القمر.
وروى السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال : أتى رسول الله ﷺ رجلٌ من اليهود يقال له بستانة فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رأها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها، فسكت رسول الله ﷺ ولم يجب بشيء، فنزل عليه جبريل بأسمائها قال فبعث رسول الله ﷺ إليه وقال « أنت تؤمن إن أخبرتك بأسمائها » فقال نعم، فقال :« جريان، والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس والوثّاب والعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور » فقال اليهودي : بلى والله إنها لأسماؤها.
وفي إعادة قوله ﴿ رأيتهم لي ساجدين ﴾ وجهان :
أحدهما : تأكيداً للأول لبعد ما بينهما قاله الزجاج.
الثاني : أن الأول رؤيته لهم والثاني رؤيته لسجودهم.
وفي قوله ﴿ ساجدين ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه السجود المعهود في الصلاة إعظاماً لا عبادة.
الثاني : أنه رآهم خاضعين فجعل خضوعهم سجوداً، كقول الشاعر :
وقيل إنه كان له عند هذه الرؤيا سبع عشرة سنة، قال ابن عباس : رأى هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر، فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته فقال : يا بني هذه رؤيا الليل فلا يعول عليها، فلما خلا به ﴿ ق يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين ﴾.
وفي تسميته بيوسف قولان :
أحدهما : أنه اسم أعجمي.
الثاني : أنه عربي مشتق من الأسف، والأسف في اللغة الحزن.
قوله تعالى :﴿ وكذلك يجتبيك ربك ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بحسن الخَلق والخُلق.
الثاني : بترك الإنتقام.
الثالث : بالنبوة، قاله الحسن. ﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : عبارة الرؤيا، قاله مجاهد.
الثاني : العلم والحكمة، قاله ابن زيد.
الثالث : عواقب الأمور، ومنه قول الشاعر :
............ ترى الأكم فيه سُجّداً للحوافر
وللأحبة أيام تذكّرُها وللنوى قبل يوم البيْن تأويل
﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : باختيارك للنبوة.
الثاني : بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، قال مقاتل.
وفيه وجه ثالث : أن أخرج إخوته إليه حتى أنعم عليهم بعد إساءتهم إليه.
﴿ وعلى آل يعقوب ﴾ بأن جعل فيهم النبوة.
﴿ كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم وإسحاق ﴾ قال عكرمة : فنعمته على إبراهيم أن أنجاه من النار، وعلى إسحاق أن أنجاه من الذبح.
قوله تعالى :﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين ﴾ في هذه الآيات وجهان :
أحدهما : أنها عِبَرٌ للمعتبرين.
الثاني : زواجر للمتقين.
وفيها من يوسف وإخوته أربعة أقاويل :
أحدها : ما أظهره الله تعالى فيه من عواقب البغي عليه.
الثاني : صدق رؤياه وصحة تأويله.
الثالث : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى سلم من المعصية وقام بحق الأمانة.
الرابع : الفرج بعد شدة الإياس. قال ابن عطاء : ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها.
قوله تعالى :﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا مِنّا ﴾ وأخوه بنيامين وهما أخوان لأب وأم، وكان يعقوب قد كلف بهما لموت أمهما وزاد في المراعاة لهما، فذلك سبب حسدهم لهما، وكان شديد الحب ليوسف، فكان الحسد له أكثر، ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد.
﴿ ونحن عصبة ﴾ وفي العصبة أربعة أقاويل :
أحدها : أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : أنها من عشرة إلى خمسة عشر، قاله مجاهد.
الثالث : من عشرة إلى أربعين، قاله قتادة
الرابع : الجماعة، قاله عبد الرحمن بن زيد.
﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لفي خطأ من رأيه، قال ابن زيد.
الثاني : لفي جور من فعله، قال ابن كامل.
الثالث : لفي محبة ظاهرة، حكاه ابن جرير.
وإنما جعلوه في ضلال مبين لثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه فضّل الصغير على الكبير.
الثاني : القليل على الكثير.
الثالث : من لا يراعي ما له على من يراعيه.
واختلف فيهم هل كانوا حينئذ بالغين؟ فذهب قوم إلى أنهم كانوا بالغين مؤمنين ولم يكونوا أنبياء بعد لأنهم قالوا ﴿ يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ﴾ وهذه حالة لا تكون إلا من بالغ، وقال آخرون : بل كانوا غير بالغين لأنهم قالوا ﴿ أرسله معنا غداً نرتع ونلعب ﴾ وإنما استغفروه بعد البلوغ.
قوله تعالى :﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : اطرحوه أرضاً لتأكله السباع.
الثاني : ليبعد عن أبيه.
﴿ يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم أرادوا صلاح الدنيا لا صلاح الدين، قاله الحسن.
الثاني : أنهم أرادوا صلاح الدين بالتوبة، قاله السدي.
ويحتمل ثالثاً : أنهم أرادوا صلاح الأحوال بتسوية أبيهم بينهم من غير أثرة ولا تفضيل. وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم.
قوله تعالى :﴿ قال قائلٌ منهم لا تقتلوا يوسف ﴾ اختلف في قائل هذا منهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه روبيل وهو أكبر إخوة يوسف وابن خالته، قاله قتادة.
الثاني : أنه شمعون، قاله مجاهد.
241
الثالث : أنه يهوذا، قال السدي.
﴿ وألقُوه في غيابة الجُبِّ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني قعر الجب وأسفله.
الثاني : ظلمه الجب التي تغيّب عن الأبصار ما فيها، قاله الكلبي. فكان رأس الجب ضيقاً وأسفله واسعاً.
أحدهما : لأنه يغيب فيه خبره. وفي تسميته
﴿ غيابة الجب ﴾ وجهان :
الثاني : لأنه يغيب فيه أثره، قال ابن أحمر :
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ إلى ذاك ما قد غيبتني غيابيا
وفي ﴿ الجب ﴾ قولان :
أحدهما : أنه اسم بئر في بيت المقدس، قاله قتادة.
الثاني : أنه بئر غير معينة، وإنما يختص بنوع من الآبار قال الأعشى :
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وفيما يسمى من الآبار جباً قولان :
أحدهما : أنه ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن.
الثاني : أنه ما لا طيّ له من الآبار، قال الزجاج، وقال : سميت جبًّا لأنها قطعت من الأرض قطعاً ولم يحدث فيها غير القطع.
﴿ يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ﴾ معنى يلتقطه يأخذه، ومنه اللقطة لأنها الضالة المأخوذة.
وفي ﴿ السيارة ﴾ قولان :
أحدهما : أنهم المسافرون سُموا بذلك لأنهم يسيرون.
الثاني : أنهم مارة الطريق، قاله الضحاك.
242
قوله تعالى :﴿ أرسله معنا غداً يرتع ويلعب ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : نلهو ونلعب، قاله الضحاك.
الثاني : نسعى وننشط، قاله قتادة.
الثالث : نتحارس فيحفظ بعضنا بعضاً ونلهو، قاله مجاهد.
الرابع : نرعى ونتصرف، قاله ابن زيد، ومنه قول الفرزدق.
راحت بمسلمة البغالُ مودعاً فارعي فزارة لا هناك المرتع
الخامس : نطعم ونتنعم مأخوذ من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب، قاله ابن شجرة وأنشد قول الشاعر :
أكُفراً بعد رَدّ الموت عنّي وبعد عطائك المائة الرِّتاعا
أي الراتعة لكثرة المرعى.
ولم ينكر عليهم يعقوب عليه السلام اللعب لأنهم عنوا به ما كان مباحاً.
قوله تعالى :﴿ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخافُ أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب، وخوفه إنما كان من قتلهم له فكنى عنهم بالذئب مسايرة لهم، قال ابن عباس فسماهم ذئاباً.
والقول الثاني : ما خافهم عليه، ولو خافهم ما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب لأنه أغلب ما يخاف منه من الصحارى.
وقال الكلبي : بل رأى في منامه أن الذئب شَدّ على يوسف فلذلك خافه عليه.
﴿ وأوحينا إليه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني وألهمناه، كما قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾ [ القصص : ٧ ].
الثاني : أن الله تعالى أوحى إليه وهو في الجب، قاله مجاهد وقتادة.
﴿ لتنبئنهم بأمرهم هذا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا، فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تبشيراً له بالسلامة.
الثاني : أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به، فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذاراً له.
﴿ وهم لا يشعرون ﴾ فيه وجهان : أحدهما : لا يشعرون بأنه أخوهم يوسف، قاله قتادة وابن جريج.
الثاني : لا يشعرون بوحي الله تعالى له بالنبوة، قاله ابن عباس ومجاهد.
قوله تعالى :﴿ قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق ﴾ وهو نفتعل من السباق وفيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه ننتصل، من السباق في الرمي، قاله الزجاج.
الثاني : أنهم أرادوا السبق بالسعي على أقدامهم.
الثالث : أنهم عنوا استباقهم في العمل الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب.
الرابع : أي نتصيد وأنهم يستبقون على اقتناص الصيد.
﴿ وتركنا يوسف عند متاعنا ﴾ يحتمل أن يعنوا بتركه عند متاعهم إظهار الشفقة عليه، ويحتمل أن يعنوا حفظ رحالهم.
﴿ فأكله الذئب ﴾ لما سمعوا أباهم يقول : وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه وتحرّموا به لأنه كان أظهر المخاوف عليه.
﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ أي بمصدق لنا.
﴿ ولو كنا صادقين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه لم يكن ذلك منهم تشكيكاً لأبيهم في صدقهم وإنما عنوا : ولو كنا أهل صدق ما صدقتنا، قاله ابن جرير.
الثاني : معناه وإن كنا قد صدقنا، قاله ابن إسحاق.
قوله عزوجل :﴿ وجاءُوا على قميصه بدمٍ كذب ﴾ قال مجاهد : كان دم سخلة. وقال قتادة : كان دم ظبية.
قال الحسن : لما جاءُوا بقميص يوسف فلم ير يعقوب فيه شقاً قال : يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أيأكل ابني ويبقي على قميصه. ومعنى قوله ﴿ بدم كذب ﴾ أي مكذوب فيه، ولكن وصفه بالمصدر فصار تقديره بدم ذي كذب.
وقرأ الحسن ﴿ بدم كذب ﴾ بالدال غير معجمة، ومعناه بدم متغير قاله الشعبي.
وفي القميص ثلاث آيات : حين جاءُوا عليه بدم كذب، وحين قُدَّ قميصه من دُبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيراً.
﴿ قال بل سوَّلت لكن أنفسكم أمراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بل أمرتكم أنفسكم، قاله ابن عباس.
الثاني : بل زينت لكم أنفسكم أمراً، قاله قتادة.
وفي ردّ يعقوب عليهم وتكذيبه لهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان ذلك بوحي من الله تعالى إليه بعد فعلهم.
الثاني : أنه كان عنده علم بذلك قديم أطلعه الله عليه.
الثالث : أنه قال ذلك حدساً بصائب رأيه وصدق ظنه.
قال ترضيه لنفسه ﴿ فصبر جميل ﴾ فاحتمل ما أمر به نفسه من الصبر وجهين : أحدهما : الصبر على مقابلتهم على فعلهم فيكون هذا الصبر عفواً عن مؤاخذتهم.
الثاني : أنه أمر نفسه بالصبر على ما ابتُلي به من فقد يوسف.
وفي قوله :﴿ فصبرٌ جميل ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى أن من الجميل أن أصبر.
الثاني : أنه أمر نفسه بصبر جميل.
وفي الصبر الجميل وجهان : أحدهما : أنه الصبر الذي لا جزع فيه قاله مجاهد.
الثاني : أنه الصبر الذي لا شكوى فيه.
روى حباب بن أبي حبلة قال : سئل رسول الله ﷺ عن قوله تعالى ﴿ فصبر جميل ﴾ فقال :« صبر لا شكوى فيه، ومن بث لم يصبر ».
﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : والله المستعان على الصبر الجميل.
الثاني : والله المستعان على احتمال ما تصفون.
الثالث : يعني على ما تكذبون، قاله قتادة.
قال محمد بن إسحاق : ابتلى الله يعقوب في كبره، ويوسف في صغره لينظر كيف عزمهما.
قوله تعالى :﴿ وجاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم ﴾ وهو الذي يرد أمامهم الماء ليستقي لهم. وذكر أصحاب التواريخ أنه مالك بن ذعر بن حجر بن يكه بن لخم.
﴿ فأدلى دلوه ﴾ أي أرسلها ليملأها، يقال أدلاها إذا أرسل الدلو ليملأها، ودلاّها إذا أخرجها ملأى.
قال قتادة : فتعلق يوسف عليه السلام بالدلو حين أرسلت. والبئر ببيت المقدس معروف مكانها.
﴿ قال يا بشرى هذا غلام ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه ناداهم بالبشرى يبشرهم بغلام، قاله قتادة.
الثاني : أنه نادى أحدهم، كان اسمه بشرى فناداه باسمه يعلمه بالغلام، قاله السدي.
﴿ وأسرُّوه بضاعة ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن إخوة يوسف كانوا بقرب الجب فلما رأوا الوارد قد أخرجه قالوا هذا عبدنا قد أوثقناه فباعوه وأسرّوا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم، قاله ابن عباس.
الثاني : أن الواردين الى الجُب أسرّوا ابتياعه عن باقي أصحابهم ليكون بضاعة لهم كيلا يشركوهم فيه لرخصه وتواصوا أنه بضاعة استبضعوها من أهل الماء، قاله مجاهد.
الثالث : أن الذين شروه أسرُّوا بيعه على الملك حتى لا يعلم به أصحابهم وذكروا أنه بضاعة لهم.
وحكى جويبر عن الضحاك أنه ألقيَ في الجب وهو ابن ست سنين، وبقي فيه إلى أن أخرجته السيارة منه ثلاثة أيام.
وقال الكلبي : ألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة.
قوله عزوجل :﴿ وشروه بثمن بخسٍ ﴾ معنى شروه أي باعوه، ومنه قول ابن مفرغ الحميري.
وشريت برداً ليتني... من بعدِ بُرْدٍ كنت هامه
واسم البيع والشراء يطلق على كل واحد من البائع والمشتري لأن كل واحد منهما بائع لما في يده مشتر لما في يد صاحبه.
وفي بائعه قولان :
أحدهما : أنهم إخوته باعوه على السيارة حين أخرجوه من الجب فادّعوه عبداً، قاله ابن عباس والضحاك ومجاهد.
الثاني : أن السيارة باعوه عن ملك مصر، قاله الحسن وقتادة.
﴿ بثمن بخس ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن البخس ها هنا الحرام، قاله الضحاك، قال ابن عطاء : لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها فكان ثمنه وإن جَلّ بخساً، وما هو وإن باعه أعداؤه بأعجب منك في بيع نفسك بشهوةٍ ساعةٍ من معاصيك.
الثاني : أنه الظلم، قاله قتادة.
الثالث : أنه القليل، قاله مجاهد والشعبي.
﴿ دراهم معدودة ﴾ اختلف في قدرها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه بيع بعشرين درهماً اقتسموها وكانوا عشرة فأخذ كل واحد منهم درهمين، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة وعطية والسدي.
الثاني : باثنين وعشرين درهماً، كانوا أحد عشر فأخذ كل واحد درهمين، قاله مجاهد.
الثالث بأربعين درهما، قاله عكرمة وابن إسحاق. وكان السدي يقول : اشتروا بها خفافاً ونِعالاً.
وفي قوله تعالى ﴿ دراهم معدودة ﴾ وجهان :
247
أحدهما : معدودة غير موزونة لزهدهم فيه.
الثاني : لأنها كانت أقل من أربعين درهماً، وكانوا لا يَزِنُون أقل من أربعين درهماً، لأن أقل الوزن عندهم كان الأوقية، والأوقية أربعون درهماً.
﴿ وكانوا فيه من الزاهدين ﴾ وفي المعنيّ بهم قولان :
أحدهما : أنهم إخوة يوسف كانوا فيه من الزاهدين حين صنعوا به ما صنعوا.
الثاني : أن السيارة كانوا فيه من الزاهدين حين باعوه بما باعوه به.
وفي زهدهم فيه وجهان :
أحدهما : لعلمهم بأنه حرٌّ لا يبتاع.
الثاني : أنه كان عندهم عبداً فخافوا أن يظهر عليه مالكوه فيأخذوه.
وفيه وجه ثالث : أنهم كانوا في ثمنه من الزاهدين لاختبارهم له وعلمهم بفضله، وقال عكرمة أعتق يوسف حين بيع.
248
قوله عزو جل :﴿ وقال الذي اشتراه من مصر ﴾ وهو العزيز ملكها واسمه إظفير بن رويجب.
﴿ لامرأته ﴾ واسمها راعيل بنت رعاييل، على ما ذرك ابن اسحاق.
وقال ابن عباس : اسمه قطفير وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذ الوليد بن الرّيان من العماليق.
قال مقاتل : وكان البائع له للملك مالك بن ذعر بعشرين ديناراً وزاده حُلة ونعلين.
﴿ أكرمي مثواه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أجملي منزلته.
الثاني : أجلي منزلته، قال كثير :
أريد ثواءً عندها وأظُنُّها إذا ما أطَلْنا عندها المكث ملَّت
وإكرام مثواه بطيب طعامه ولين لباسه وتوطئة مبيته.
﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ قيل : في ثمنه إن بعناه. ويحتمل : ينفعنا في الخدمة والنيابة.
﴿ أو نتخذه ولداً ﴾ إن أعتقناه وتبنيناه.
قال عبد الله بن مسعود : أحسن الناس في فراسة ثلاثة : العزيز في يوسف حين قال لامرأته ﴿ أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ﴾ وابنة شعيب في موسى حين قالت لأبيها ﴿ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾ [ القصص : ٢٦ ] وأبو بكر حين استخلف عمر.
﴿ وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بإخراجه من الجب.
الثاني : باستخلاف الملك له.
﴿ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ﴾ قد ذكرنا في تأويله وجهين.
﴿ والله غالبٌ على أمره ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : غالب على أمر يوسف حتى يبلغ فيه ما أراده له، قاله مقاتل.
الثاني : غالب على أمر نفسه فيما يريده، أن يقول له كن فيكون.
قوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشدَّه ﴾ يعني منتهى شدته وقوة شبابه. وأما الأشدُّ ففيه ستة أقاويل :
أحدها : ببلوغ الحلم، قاله الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم.
الثاني : ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير.
الثالث : عشرون سنة، قاله ابن عباس والضحاك.
الرابع : خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة.
الخامس : ثلاثون سنة، قاله السدي.
السادس : ثلاث وثلاثون سنة. قاله الحسن ومجاهد وقتادة.
هذا أول الأشد، وفي آخر الأشد قولان :
أحدهما : أنه أربعون سنة، قاله الحسن. الثاني : أنه ستون سنة، حكاه ابن جرير الطبري، وقال سُحَيْم بن وثيل الرياحي :
أخو خمسين مجتمع أشُدّي وتجذّني مداورة الشئون
وفي المراد ببلوغ الأشد في يوسف قولان :
أحدهما : عشرون سنة، قاله الضحاك.
الثاني : ثلاثون سنة، وهو قول مجاهد.
﴿ آتيناه حكماً وعلماً ﴾ في هذا الحكم الذي آتاه خمسة أوجه :
أحدها : العقل، قاله مجاهد.
الثاني : الحكم على الناس.
الثالث : الحكمة في أفعاله.
الرابع : القرآن، قاله سفيان.
الخامس : النبوة، قاله السدي. وفي هذا العلم الذي آتاه وجهان :
أحدهما : الفقه، قاله مجاهد.
الثاني : النبوة، قاله ابن أبي نجيح.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أنه العلم بتأويل الرؤيا.
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : المطيعين.
الثاني : المهتدين، قاله ابن عباس. والفرق بين الحكيم والعالم أن الحكيم هو العامل بعلمه، والعالم هو المقتصر على العلم دون العمل.
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ﴾ وهي راعيل امرأة العزيز إظفير. قال الضحاك : وكان اسمها زليخا.
قال محمد بن إسحاق : وكان إظفير فيما يحكى لنا رجلاً لا يأتي النساء وكانت امرأته حسناء، وكان يوسف عليه السلام قد أُعطي من الحسن ما لم يعطه أحد قبله ولا بعده كما لم يكن في النساء مثل حواء حسناً. قال ابن عباس : اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين.
فراودته امرأة العزيز عن نفسه استدعاء له إلى نفسها.
﴿ وغلقت الأبواب ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بتكثير الأغلاق.
الثاني : بكثرة الإيثاق. ﴿ وقالت هيت لك ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه تهيأت لك، قاله عكرمة وأبو عبد الرحمن السلمي، وهذا تأويل من قرأ بكسر الهاء وترك الهمز، وقال الشاعر :
قد رابني أن الكرى أسكتا... لو كان معنياً بها لهيتا
الثاني : هلم لك، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة : وأنشد أبو عمرو بن العلاء :
أبلغ أمير المؤمنين أخا... العراق إذا أتيتا
أن العراق وأهله... عنق إليك، فهيت هيتا
وهذا تأويل من قرأ هيت لك بفتح الهاء وهي أصح وأفصح، قال طرفة بن العبد :
ليس قومي بالأبعدين إذا ما... قال داع من العشيرة : هيتا
ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الكلمة فحكى عطية عن ابن عباس أن ﴿ هيت لك ﴾ كلمة بالقبطية معناها هلم لك، وقال مجاهد بل هي كلمة عربية هذا معناها وقال الحسن : هي كلمة سريانية.
﴿ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ﴾ أي أعوذ بالله.
وفي ﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾ وجهان :
أحدهما : إن الله ربي أحسن مثواي فلا أعصيه، قاله الزجاج.
الثاني : أنه أراد العزيز إظفير إنه ربي أي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه. قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.
قوله تعالى :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى بُرهان ربه ﴾ أما همها به ففيه قولان :
أحدهما : أنه كان هَمَّ شهوة.
الثاني : أنها استلقت له وتهيأت لمواقعته.
وأما همّه بها ففيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه همّ بها أن يضربها حين راودته عن نفسه ولم يهم بمواقعتها قاله بعض المتأخرين.
الثاني : أن قوله ولقد همت به كلام تام قد انتهى، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف فقال ﴿ وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ﴾ ومعنى الكلام لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، قاله قطرب.
الثالث : أن همها كان شهوة، وهمه كان عفة.
الرابع : أن همه بها لم يكن عزماً وإرادة وإنما كان تمثيلاً بين الفعل والترك، ولا حرج في حديث النفس إذا لم يقترن به عزم ولا فعل، وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً، ومنه قول جميل :
هممت بهمِّ من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
الخامس : أنه همه كان حركة الطباع التي في قلوب الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له وهو معنى قول الحسن.
السادس : أنه هم بمواقعتها وعزم عليه. قال ابن عباس : وحل الهميان يعني السراويل وجلس بين رجليها مجلس الرجل من المرأة، وهو قول جمهور المفسرين.
فإن قيل : فكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا الفعل وهو نبي الله تعالى؟
قيل : هي منه معصية، وفي معاصي الأنبياء ثلاثة أوجه :
أحدها : أن كل نبي ابتلاه الله بخطيئة إنما ابتلاء ليكون من الله تعالى على وجل إذا ذكرها فيجدّ في طاعته إشفاقاً منها ولا يتكل على سعة عفوه ورحمته.
الثاني : أن الله تعالى ابتلاهم بذلك ليعرفهم موقع نعمته عليهم بصفحه عنهم وترك عقوبتهم في الآخرة على معصيتهم.
الثالث : أنه ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك الإياس في عفوه عنهم إذا تابوا.
وفي قوله تعالى ﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ ستة أقاويل :
أحدها : أن برهان ربه الذي رآه أن نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة، قال ابن عباس : نودي اي ابن يعقوب تزني فيكون مثلك مثل طائر سقط ريشه فذهب يطير فلم يستطع.
الثاني : أنه رأى صورة يعقوب وهو يقول : يا يوسف أتهمُّ بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فخرجت شهوته من أنامله، قاله قتادة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.
قال مجاهد : فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف فلم يولد له إلا غلامان ونقص بتلك الشهوة ولده.
الثالث : أن البرهان الذي رآه ما أوعد الله تعالى على الزنى، قال محمد بن كعب القرظي : رأى كتاباً على الحائط :
251
﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ].
الرابع : أن البرهان الذي رآه. الملك إظفير سيده، قاله ابن إسحاق.
الخامس : أن البرهان الذي رآه هو ما آتاه الله تعالى من آداب آبائه في العفاف والصيانة وتجنب الفساد والخيانة، قاله ابن بحر.
السادس : أن البرهان الذي رآه أنه لما همت به وهم بها رأى ستراً فقال لها : ما وراء هذه الستر؟ فقالت : صنمي الذي أعبده أستره استحياء منه. فقال : إذا استحيت مما لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه، قاله الضحاك.
﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : أن السوء الشهوة، والفحشاء المباشرة.
الثاني : أن السوء عقوبة الملك العزيز. والفحشاء مواقعة الزنى.
﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المخلصين بكسر اللام، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله تعالى.
وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها الذين أخلصهم الله برسالته، وقد كان يوسف عليه السلام بهاتين الصفتين لأنه كان مخلصاً في طاعة الله تعالى، مستخلصاً لرسالة الله.
252
قوله تعالى :﴿ واستبقا الباب ﴾ أي أسرعا إليه، أما يوسف فأسرع إليه هرباً، وأما امرأة العزيز فأسرعت إليه طلباً.
﴿ وقَدت قميصه من دبر ﴾ لأنها أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته من ورائه فشقت قميصه إلى ساقه، قال ابن عباس : وسقط عنه وتبعته.
﴿ وألفيا سيدها لَدى الباب ﴾ أي وجدا زوجها عند الباب. قال أبو صالح : والسيد هو الزوج بلسان القبط.
﴿ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذابٌ أليمٌ ﴾ هذا قولها لزوجها لتدفع الريبة عن نفسها بإلقائها على يوسف، ولو صدق حبها لم تفعل ذلك به ولآثرته على نفسها، ولكنها شهوة نزعت ومحبة لم تصف. وذلك أنه لما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر بالتكذيب عليه، ولو خلص من الشهوة لطلبت دفع الضرر عنه بالصدق. ﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾ لأنها لما برأت نفسها بالكذب عليه احتاج أن يبرىء نفسه بالصدق عليها، ولو كفت عن الكذب عليه لكف عن الصدق عليها.
﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾ لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد يعلم به صدق الصادق منهما من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها، أي حكم حاكم من أهلها لأنه حكم منه وليس شهادة.
وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه صبي أنطقه الله تعالى في مهده، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وسعيد بن جبير والضحاك.
الثاني : أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن، قاله مجاهد.
الثالث : أنه رجل حكيم من أهلها، قاله قتادة. قال السدي وكان ابن عمها.
الرابع : أنه عنى شهادة القميص المقدود، قاله مجاهد أيضاً.
﴿ إن كان قميصُه قد مِن قُبل فصدقت وهو من الكاذبين ﴾
﴿ وإن كان قميصه قد من دُبر فكذبت وهو من الصادقين ﴾ لأن الرجل إذا طلب المرأة كان مقبلاً عليها فيكون شق قميصه من قبله دليلاً على طلبه. وإذا هرب من المرأة كان مدبراً عنها فيكون شق قميصه من دبره دليلاً على هربه.
وهذه إحدى الآيات الثلاث في قميصه : إن كان قُدَّ من دبر فكان فيه دليل على صدقه، وحين جاءوا على قميصه بدم كذب، وحين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيراً.
﴿ فلما رأى قميصه قُدَّ من دُبُرٍ قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ﴾ علم بذلك صدق يوسف فصدّقه وقال إنه من كيدكن.
وفي الكيد هما وجهان :
أحدهما : يعني به كذبها عليه.
الثاني : أنه أراد السوء الذي دعته إليه.
وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : أنه الزوج، قاله محمد بن إسحاق.
الثاني : أنه الشاهد، حكاه علي بن عيسى.
قوله عزوجل :﴿ يوسف أعرض عن هذا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أعرض عن هذا الأمر، قال قتادة : على وجه التسلية له في ارتفاع الإثم.
253
الثاني : أعرض عن هذا القول، قاله ابن زيد على وجه التصديق له في البراءة من الذنب.
﴿ واستغفري لذنبك ﴾ هذا قول الملك لزوجه وهو القائل ليوسف أعرض عن هذا. وفيه قولان :
أحدهما : أنه لم يكن غيوراً فلذلك كان ساكتاً.
الثاني : أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفى بادرته وحلم عنها فأمرها بالاستغفار من ذنبها توبة منه وإقلاعاً عنه.
﴿ إنك كنت من الخاطئين ﴾ يعني من المذنبين، يقال لمن قصد الذنب خَطِىءَ، ولمن لم يقصده أخطأ، وكذلك في الصوب والصواب، قال الشاعر :
لعمرك إنما خطئي وصوبي عليّ وإنما أهلكت مالي
وقال من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لتغليب المذكر على المؤنث.
254
قوله تعالى :﴿ وقال نسوة في المدينة ﴾ قال جويبر : كن أربعاً : امرأة الحاجب وامرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة القهرمان. قال مقاتل : وامرأة صاحب السجن وفي هذه المدينة قولان :
أحدهما : مصر.
الثاني : عين شمس. ﴿ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾ قلن ذلك ذماً لها وطعناً فيها وتحقيقاً لبراءة يوسف وإنكاراً لذنبه.
والعزيز اسم الملك مأخوذ من عزته، ومنه قول أبى داؤد :
درة غاص عليها تاجر... جلبت عند عزيز يوم طل
﴿ قد شغفها حبّاً ﴾ أي قد دخل حبه من شغاف قلبها. وفي شغاف القلب خمسة أقاويل :
أحدها : أنه حجاب القلب، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه غلاف القلب وهو جلدة رقيقة بيضاء تكون على القلب وربما سميت لباس القلب، قاله السدي وسفيان.
الثالث : أنه باطن القلب، قاله الحسن، وقيل هو حبة القلب.
الرابع : أنه ما يكون في الجوف، قاله الأصمعي.
الخامس : هو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب، قاله إبراهيم.
وقد قرىء في الشواذ عن ابن محيصن : قد شعفها حباً ( بالعين غير معجمة ) واختلف في الفرق بينهما على قولين :
أحدهما : أن الشغف بالغين معجمة هو الجنون وبالعين غير معجمة هو الحب، قاله الشعبي.
والثاني : أن الشغف بالإعجام الحب القاتل، والشعف بغير إعجام دونه، قاله ابن عباس وقال أبو ذؤيب :
فلا وجْدَ إلا دُون وجْدٍ وجَدته... أصاب شغافَ القلب والقلبُ يشغف
﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾ فيه وجهان : أحدهما : في ضلال عن الرشد وعدول عن الحق.
الثاني : معناه في محبة شديدة. ولما اقترن شدة حبها بالشهوة طلبت دفع الضرر عن نفسها بالكذب عليه، ولو خلص من الشهوة طلبت دفع الضرر عنه بالصدق على نفسها.
قوله تعالى :﴿ فلما سمعت بمكرهن ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه ذمهن لها وإنكارهن عليها.
الثاني : أنها أسرت إليهن بحبها له فأشعْن ذلك عنها.
﴿ أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ ﴾ وفي ﴿ أعتدت ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه من الإعداد.
الثاني : أنه من العدوان.
وفي ( المُتْكَأ ) ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المجلس، قاله ابن عباس والحسن.
والثاني : أنه النمارق والوسائد يتكأ عليها، قاله أبو عبيدة والسدي.
الثالث : أنه الطعام مأخوذ من قول العرب اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده، وأصله أن من دعي إلى طعام أُعد له متكأ فسمي الطعام بذلك متكأ على الاستعارة. فعلى هذا أي الطعام هو؟
فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الزُّماورد، قاله الضحاك وابن زيد.
الثاني : أنه الأترج، قاله ابن عباس ومجاهد وهو وتأويل من قرأها مخففة غير مهموزة، والمتْك في كلامهم الأترج، قال الشاعر :
نشرب الإثم بالصُّواع جهارا... وترى المتك بيننا متسعارا
255
والإثم : الخمر، والمتك : الأترج.
الثالث : أنه كل ما يجز بالسكين وهو قول عكرمة لأنه في الغالب يؤكل على متكأ.
الرابع : أنه كل الطعام والشراب على عمومه، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة.
﴿ وآتت كلَّ واحدة منهن سكيناً وقالت اخرج عليهن ﴾ وإنما دفعت ذلك إليهن في الظاهر معونة على الأكل، وفي الباطن ليظهر من دهشتهن ما يكون شاهداً عليهن. قال الزجاج : كان كالعبد لها فلم تمكنه أن يخرج إلا بأمرها.
﴿ فلما رأينه أكبرنه ﴾ وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه أعظمنه، قاله ابن عباس.
الثاني : معناه وجدن شأنه في الحسن والجمال كبيراً، قال ابن بحر.
الثالث : معناه : حضن عند رؤيته، وهو قول رواه عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس.
وقيل : إن المرأة إذا جزعت أو خافت حاضت، وقد يسمى الحيض إكباراً، قال الشاعر :
نأتي النساء على أطهارهن ولا... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً
﴿ وقطعن أيديهن ﴾ دهشاً ليكون شاهداً عليهن على ما أضمرته امرأة العزيز فيهن.
وفي قطع أيديهن وجهان :
أحدهما : أنهن قطعن أيديهن حتى بانت.
الثاني : أنهن جرحن أيديهن حتى دميت، من قولهم قطع فلان يده إذا جرحها.
﴿ وقلن حاش لله ﴾ بالألف في قراءة أبي عمرو ونافع في رواية الأصمعي وقرأ الباقون حاش لله بإسقاط الألف، ومعناهما واحد.
وفي تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : معاذ الله، قاله مجاهد.
الثاني : معناه سبحان الله، قاله ابن شجرة.
وفي أصله وجهان : أحدهما : أنه مأخوذ من قولهم كنت في حشا فلا أي في ناحيته.
والثاني : أنه مأخوذ من قولهم حاش فلاناً أى اعزله في حشا يعني في ناحية. ﴿ ما هذا بشراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما هذا أهلاً للمباشرة.
الثاني : ما هذا من جملة البشر. وفيه وجهان :
أحدهما : لما علمهن من عفته وأنه لو كان من البشر لأطاعها.
الثاني : لما شاهدن من حسنه البارع وجماله البديع ﴿ إن هذا إلا ملك كريم ﴾ وقرىء ما هذا بشراً ( بكسر الباء والشين ) أى ما هذا عبداً مشترى إن هذا إلا ملك كريم، مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة تعظيماً لشأنه.
قوله عزوجل ﴿ قال رب السجن أحب إلىَّ مما يدعونني إليه ﴾ وهذا يدل على أنها دعته إلى نفسها ثانية بعد ظهور حالهما، فقال :﴿ رب السجن أحب إلىَّ ﴾ يعني الحبس في السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه.
ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنه أراد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة وكنى عنها بخطاب الجمع إما تعظيماً لشأنها في الخطاب وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض.
الثاني : أنه أراد بذلك جماعة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حين شاهدنه لاستحسانهن له واستمالتهن لقلبه.
﴿ وإِلاَّ تصرف عني كيدهن ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما دعي إليه من الفاحشة إذا أضيف ذلك إلى امرأة العزيز.
الثاني : استمالة قلبه إذا أضيف ذلك إلى النسوة.
﴿ أصْبُ إِليهن ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أتابعهن، قاله قتادة.
الثاني : أمل إليهن، ومنه قول الشاعر :
إلى هند صبا قلبي... وهند مثلها يصبي
256
قوله تعالى :﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ﴾ في الآيات التي رأوها وجهان :
أحدهما : قدُّ القميص وحز الأيدي.
الثاني : ما ظهر لهم من عفته وجماله حتى قلن ﴿ ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ﴾.
﴿ ليسجننه حتى حين ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الحين ها هنا ستة أشهر، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : أنه سبع سنين، قاله عكرمة.
الثالث : أنه زمان غير محدود، قاله كثير من المفسرين.
وسبب حبسه بعد ظهور صِدْقه ما حكى السدي أن المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني وقال إني راودته عن نفسه، فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه مثل ما حبستني، فحبسه.
قوله تعالى :﴿ ودخَلَ معه السجن فتيان ﴾ قال ابن عباس :
كان أحدهما خازن الملك على طعامه، وكان الآخر ساقي الملك على شرابه، وكان الملك وهو الملك الأكبر الوليد بن الرّيان قد اتهمهما بسمّه فحبسهما، فحكى مجاهد أنهما قالا ليوسف لما حُبسا معه : والله لقد أحببناك حين رأيناك، فقال يوسف : أنشدكما بالله أن أحببتماني فما أحبّني أحد إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي العزيز فدخل عليّ من حبها بلاء، لا أريد أن يحبني إلا ربي.
وقال ﴿ فتيان ﴾ لأنهما كان عبدين، والعبد يسمى فتى صغيراً كان أم كبيراً.
﴿ قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحملُ فوق رأسي خُبزاً تأكل الطير منه ﴾ وسبب قولهما ذلك ما حكاه ابن جرير الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا، فسألاه عن رؤياهما وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها قال مجاهد وابن إسحاق : وكذلك صدق تأويلها. روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال « أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً
»
. الثاني : أنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجربة، فلما أجابهما قالا : إنما كنا نلعب فقال ﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ وهذا معنى قول ابن مسعود والسدي.
الثالث : أن المصلوب منهما كان كاذباً، والآخر صادقاً، قاله أبو مجلز.
وقوله ﴿ إني أراني أعصر خمراً ﴾ أي عنباً. وفي تسميته خمراً وجهان :
أحدهما : لأن عصيره يصير خمراً فعبر عنه بما يؤول إليه.
الثاني : أن أهل عُمان يسمون العنب خمراً، قال الضحاك. وقرأ ابن مسعود : إني أراني أعصر عنباً.
﴿ نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ﴾ فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنهم وصفوه بذلك لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم، قاله الضحاك.
الثاني : معناه لأنه كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالثواب والأجر.
الثالث : إنا نراك ممن أحسن العلم. حكاه ابن جرير الطبري.
الرابع : أنه كان لا يرد عذر معتذر.
الخامس : أنه كان يقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه.
السادس : إنا نراك من المحسنين إن أنبأتنا بتأويل رؤيانا هذه، قاله ابن إسحاق.
قوله تعالى ﴿ قَال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة قاله السدي.
الثاني : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يصلكما لأنه كان يخبر بما غاب مثل عيسى، قاله الحسن.
الثالث : أن الملك كان من عادته إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معروفاً وأرسل به إليه، فكره يوسف تعبير رؤيا السوء قبل الإياس من صاحبها لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه، فلما ألحّ عليه عبرها، لئلا يخوفه بها فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه، فلما ألحَّ عليه عبرها، قاله ابن جريج. وكذلك روى ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ « من رأى رؤيا فلا يقصها إلا على حبيب أو لبيب ».
﴿ ذلكما مما علمنى ربي ﴾ يعني تأويل الرؤيا.
﴿ إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ﴾. وإنما عدل عن تأويل ما سألاه عنه لما كان فيها من الكرامة، وأخبر بترك ملة قوم لا يؤمنون تنبيهاً لهم على ثبوته وحثاً لهم على طاعة الله.
قوله تعالى :﴿ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ﴾ قال ابن عباس : من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء، وعلى الناس أن بعثنا إليهم رسلاً.
ويحتمل وجهاً آخر ذلك من فضل الله علينا في أن برأنا من الزنى، وعلى الناس من أن خلصهم من مأثم القذف.
قوله تعالى :﴿ ذلك الدين القيم ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ذلك الدين المستقيم، قاله السدي. الثاني : الحساب البيّن، قاله مقاتل بن حيان.
الثالث : يعني القضاء الحق، قاله ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ يا صاحبي السجين أما أحدكما فيسقي ربه خمراً ﴾ وهو الذي قال : إني أراني أعصر خمراً، بشره بالنجاة وعوده إلى سقي سيده خمراً لأنه كان ساقيه.
﴿ وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ﴾ وهو الذي قال ﴿ إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه ﴾ فأنذره بالهلكة وكان خباز الملك، قال ابن جرير : وكان اسمه مجلثاً، واسم الساقي نبواً. فلما سمع الهالك منهما تأويل رؤياه قال : إنما كنا نلعب.
قال ﴿ قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : قضي السؤال والجواب.
الثاني : سيقضى تأويله ويقع.
فإن قيل : فكيف قطع بتأويل الرؤيا وهو عنده ظن من طريق الاجتهاد الذي لا يقطع فيه؟ ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز أن يكون قاله عن وحي من الله تعالى.
الثاني : لأنه نبي يقطع بتحقيق ما أنطقه الله تعالى وأجراه على لسانه، بخلاف من ليس بنبي.
قوله تعالى :﴿ وقال للذي ظن أنه ناجٍ منهما اذكرني عند ربك ﴾ فيه قولان : أحدهما : يعني للذي علم أنه ناج، فعبر عن العلم بالظن، قاله ابن شجرة. الثاني : أنه ظن ذلك من غير يقين.
وفي ظنه وجهان :
أحدهما : لأن عبارة الرؤيا بالظن فلذلك لم يقطع به، قاله قتادة.
الثاني : أنه لم يتيقن صدقهما في الرؤيا فكان الظن في الجواب لشكه في صدقهما.
﴿ اذكرني عند ربك ﴾ أي عند سيدك يعني الملك الأكبر الوليد بن الريان تأميلاً للخلاص إن ذكره عنده.
﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربِّه ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الذي نجا منهما أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده حتى رأى الملك الرؤيا قاله محمد بن إسحاق.
الثاني : أن يوسف أنساه الشياطن ذكر ربه في الاستغاثة به والتعويل عليه.
روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ « رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال : اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث
»
. ﴿ فلبث في السِّجن بضع سنين ﴾ قال ابن عباس : عوقب يوسف بطول السجن بضع سنين لما قال للذي نجا منهما اذكرني عند ربك، ولو ذكر يوسف ربه لخلصه. وفي « البضع » أربعة أقاويل :
أحدها : من ثلاث إلى سبع، وهذا قول أبي بكر الصديق وقطرب.
الثاني : من ثلاث إلى تسع، قاله مجاهد والأصمعي.
الثالث : من ثلاث إلى عشر، قاله ابن عباس.
الرابع : ما بين الثلاث إلى الخمس، حكاه الزجاج.
قال الفراء : والبِضع لا يذكر إلا مع العشرة والعشرين إلى التسعين، ولا يذكر بعد المائة.
وفي المدة التي لبث فيها يوسف مسجوناً ثلاثة أقاويل :
أحدها : سبع سنين، قاله ابن جريج وقتادة.
الثاني : أنه لبث اثنتي عشرة سنة، قاله ابن عباس.
الثالث : لبث أربعة عشرة سنة، قاله الضحاك، وإنما البضع مدة العقوبة لا مدة الحبس كله.
وقال وهب : حبس يوسف سبع سنين، ومكث أيوب في البلاء سبع سنين.
قال الكلبي : حبس سبع سنين بعد الخمس السنين التي قال فيها ﴿ اذكرني عند ربك ﴾.
قوله تعالى :﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقراتٍ سمان... ﴾ الآية. وهذه الرؤيا رآها الملك الأكبر الوليد بن الريان وفيها لطف من وجهين :
أحدهما : أنها كانت سبباً لخلاص يوسف من سجنه.
الثاني : أنها كانت نذيراً بجدب أخذوا أهبته وأعدوا له عدته.
﴿ يا أيها الملأ افتوني في رؤياي ﴾ وذلك أن الملك لما لم يعلم تأويل رؤياه نادى بها في قومه ليسمع بها من يكون عنده عِلْمٌ بتأويلها فيعبرها له.
قوله تعالى :﴿ قالوا أضغاث أحلام ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني أخلاط أحلام، قاله معمر وقتادة.
الثاني : ألوان أحلام، قاله الحسن.
الثالث : أهاويل أحلام قاله مجاهد.
الرابع : أكاذيب أحلام، قاله الضحاك.
وفيه خامس : شبهة أحلام، قاله ابن عباس.
قال أبو عبيدة : الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا، ومنه قول الشاعر :
كضغث حلم عُزَّ منه حالمُه.... وروى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال « إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب
». وفي تقارب الزمان وجهان :

أحدهما : أنه استواء الليل والنهار لأنه وقت اعتدال تنفتق فيه الأنوار وتطلع فيه الثمار فكان أصدق الزمان في تعبير الرؤيا.
الثاني : أنه آخر الزمان وعند انتهاء أمده.
والأضغاث جمع واحده ضغث والضغث الحزمة من الحشيش المجموع بعضه إلى بعض وقيل هو ملء الكف، ومنه قوله تعالى :﴿ خذ بيدك ضغثاً ﴾ وقال ابن مقبل.
خَوْذٌ كَأَنَّ فِرَاشَهَا وُضِعَتْ بِهِ... أَضْغَاثُ رَيْحَانٍ غَدَاةَ شَمَالِ
والأحلام جمع حُلم، والحُلم الرؤيا في النوم، وأصله الأناة، ومنه الحلم ضد الطيش فقيل لما يرى في النوم حلم لأنها حال أناة وسكون.
﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ فدل ذلك على أنه ليس التأويل الأول مما تؤؤل به الرؤيا هو الحق المحكوم به لأن يوسف عرفهم تأويلها بالحق، وإنما قال يوسف للغلامين ﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ لأنه منه نذير نبوة. ويجوز أن يكون الله تعالى صرف هؤلاء عن تفسير هذه الرؤيا لطفاً بيوسف ليتذكر الذي نجا منهما حاله فتدعوهم الحاجة إليه فتكون سبباً لخلاصه.
قوله تعالى :﴿ وقال الذي نجا منهما وادّكر بَعْدَ أمة ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني بعد حين، قاله ابن عباس.
الثاني : بعد نسيان، قاله عكرمة.
الثالث : بعد أمة من الناس، قاله الحسن.
قال الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة وجمع له شمله فعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة.
وقرىء ﴿ وادّكر بعد أمَةٍ ﴾ بفتح الألف وتخفيف الميم، والأمه : بالتخفيف النسيان.
﴿ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ﴾ أي أخبركم بمن عنده علم بتأويله ثم لم يذكره لهم.
263
قال ابن عباس : لم يكن السجن بالمدينة فانطلق إلى يوسف حين أذن له وذلك بعد أربع سنين بعد فراقه.
قوله تعالى :﴿ يوسف أيها الصديق أفتنا ﴾ احتمل تسميته بالصديق وجهين :
أحدهما : لصدقه في تأويل رؤياهما.
الثاني : لعلمه بنبوته. والفرق بين الصادق والصديق أن الصادق في قوله بلسانه، والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره، فصار كل صدّيق صادقاً وليس كل صادق صدّيقاً.
﴿ أفتنا في سبع بقرات سمان ﴾ قال قتادة : هي السنون المخصبات.
﴿ يأكلهن سبع عجافٌ ﴾ قال قتادة : هي السنون المجدبات.
﴿ وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات ﴾ والخضر الخصب لأن الأرض بنباتها خضراء، واليابسات هي الجدب لأنّ الأرض فيه يابسة، كما أن ماشية الخصب سمان، وماشية الجدب عجاف.
﴿ لعلي أرجع إلى الناس ﴾ أي لكي أرجع إلى الناس وهو الملك وقومه، ويحتمل أن يريد الملك وحده فعبر عنه بالناس تعظيماً له.
﴿ ولعلهم يعلمون ﴾ لأنه طمع أن يعلموا وأشفق أن لا يعلموا، فلذلك قال ﴿ لعلهم يعلمون ﴾ يعني تأويلها. ولم يكن ذلك منه شكاً في علم يوسف. لأنه قد وقر في نفسه علمه وصدقه، ولكن تخوف أحد أمرين إما أن تكون الرؤيا كاذبةً، وإما ألاّ يصدقوا تأويلها لكراهتهم له فيتأخر الأمر إلى وقت العيان.
قوله تعالى :﴿ قال تزرعون سبع سنين دأباً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني تباعاً متوالية.
الثاني : يعني العادة المألوفة في الزراعة.
﴿ فما حصدتم فذروه في سُنْبُلهِ إلا قليلاً مما تأكلون ﴾ يعني فيخرج من سنبله لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل، وهذا القول منه أمر، والأول خبر، ويجوز لكونه نبياً أن يأمر بالمصالح، ويجوز أن يكون القول الأول أيضاً أمراً وإن كان الأظهر منه أنه خبر.
قوله تعالى :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد ﴾ يعني المجدبات لشدتها على أهلها.
وحكى زيد بن أسلم عن أبيه أن يوسف كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفه، حتى إذا كان يوماً قربه له فأكله كله، فقال يوسف : هذا أول يوم السبع الشداد.
﴿ يأكلن ما قدمتم لهن ﴾ يعني تأكلون فيهن ما ادخرتموه لهن.
﴿ إلا قليلاً مما تحصنون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مما تدخرون، قاله قتادة.
الثاني : مما تخزنون في الحصون.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : إلا قليلاً مما تبذرون لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.
قوله تعالى :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يغاثون بنزول الغيث، قاله ابن عباس.
الثاني : يغاثون بالخصب، حكاه ابن عيسى.
﴿ وفيه يعصرون ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعصرون العنب والزيتون من خصب الثمار، قاله مجاهد وقتادة.
الثاني : أي فيه يجلبون المواشي من خصب المراعي، قاله ابن عباس.
الثالث : يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر، من قوله تعالى ﴿ وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجَّاجاً ﴾ [ النبأ : ١٤ ]. قاله عيسى بن عمر الثقفي.
الرابع : تنجون، مأخوذ من العُصْرة وهي المنجاة، قاله أبو عبيدة والزجاج، ومنه قول الشاعر :
صادياً يستغيث غير مغاث ولقد كان عُصْرَة المنجود
الخامس : تحسنون وتفضلون، ومنه قول الشاعر :
لو كان في أملاكنا ملك يعصر فينا مثل ما تعصر
أي يحسن : وهذا القول من يوسف غير متعلق بتأويل الرؤيا وإنما هو استئناف خبر أطلقه الله تعالى عليه من آيات نبوته.
264
قوله تعالى :﴿ وقال الملك ائتوني به ﴾ يعني يوسف عليه السلام.
﴿ فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك ﴾ يعني الملك.
﴿ فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ وإنما توقف عن الخروج مع طول حبسه ليظهر للملك عذره قبل حضوره فلا يراه مذنباً ولا خائناً.
فروى أبو الزناد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ « يرحم الله يوسف إنه كان ذا أناةٍ لو كنت أنا المحبوس ثم أُرسل لخرجت سريعاً
»
. وفي سؤاله عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز ثلاثة أوجه :
أحدها : أن في سؤاله عنها ظنَّةً ربما صار بها متهماً.
والثاني : صيانة لها لأنها زوج الملك فلم يتبذلها بالذكر.
الثالث : أنه أرادهن دونها لأنهن الشاهدات له عليها.
﴿ إن ربي بكيدهن عليم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : معناه إن الله بكيدهن عليم. الثاني : أن سيدي الذي هو العزيز بكيدهن عليم. قوله تعالى :﴿ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ﴾ فهذا سؤال الملك قد تضمن تنزيه يوسف لما تخيله من صدقه لطفاً من الله تعالى به حتى لا تسرع واحدة منهن إلى التكذب عليه.
وفي قوله :﴿ راودتن ﴾ وإن كانت المراودة من إحداهن وجهان :
أحدهما : أن المراودة كانت من امرأة العزيز وحدها فجمعهن في الخطاب وإن توجه إليها دونهن احتشاماً لها.
الثاني : أن المراودة كانت من كل واحدة منهن. ﴿ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوءٍ ﴾ فشهدن له بالبراءة من السوء على علمهن لأنها شهادة على نفي، ولو كانت شهادتهن على إثبات لشهدن قطعاً، وهكذا حكم الله تعالى في الشهادات أن تكون على العلم في النفي، وعلى القطع في الإثبات.
﴿ قالت امرأة العزيز الآنَ حصحص الحق ﴾ معناه الآن تبين الحق ووضح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وأصله مأخوذ من قولهم حَصّ شعره إذا استأصل قطعه فظهرت مواضعه ومنه الحصة من الأرض إذا قطعت منها. فمعنى حصحص الحق أي انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه. وفيه زيادة تضعيف دل عليها الاشتقاق مثل قوله :( كبوا، وكبكبوا ) قاله الزجاج. وقال الشاعر :
ألا مبلغ عني خداشاً فإنه كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم
﴿ أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين ﴾ وهذا القول منها وإن لم تسأل عنه إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف ونزاهته لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فجمع الله تعالى ليوسف في إظهار صدقه الشهادة والإقرار حتى لا يخامر نفساً ظن ولا يخالجها شك.
قوله تعالى :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم، ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين، حكاه ابن عيسى.
الثاني : أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه، وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي.
﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ معناه وأن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم.
قوله تعالى :﴿ وما أبرىء نفسي ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قول العزيز أي وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف.
﴿ إنَّ النفس لأمارة بالسوء ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : الأمارة بسوء الظن.
الثاني : بالاتهام عند الارتياب.
﴿ إلا ما رحم ربي ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إلاَّ ما رحم ربي إن كفاه سوء الظن.
الثاني : أن يثنيه حتى لا يعمل. فهذا تأويل من زعم أنه قول العزيز.
الوجه الثاني : أنه قول امرأة العزيز وما أبرىء نفسي إن كنت راودت يوسف عن نفسه لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة عليها.
﴿ إلا ما رحم ربي ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إلا ما رحم ربي من نزع شهوته منه.
الثاني : إلا ما رحم ربي في قهره لشهوة نفسه، فهذا تأويل من زعم أنه من قول امرأة العزيز.
الوجه الثاني : أنه من قول يوسف، واختلف قائلو هذا في سببه على أربعة أقاويل :
أحدها : أن يوسف لما قال ﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ قالت امرأة العزيز : ولا حين حللت السراويل؟ فقال : وما أبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء، قاله السدي.
الثاني : أن يوسف لما قال ذلك غمزه جبريل عليه السلام فقال : ولا حين هممت؟ فقال ﴿ وما أُبريء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء ﴾ قاله ابن عباس.
الثالث : أن الملك الذي مع يوسف قال له : اذكر ما هممت به، فقال :﴿ وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء ﴾ قاله قتادة.
الرابع : أن يوسف لما قال ﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ كره نبي الله أن يكون قد زكى نفسه فقال ﴿ وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ﴾ قاله الحسن.
ويحتمل قوله ﴿ لأمارة بالسوء ﴾ وجهين :
أحدهما : يعني أنها مائلة إلى الهوى بالأمر بالسوء.
الثاني : أنها تستثقل من عزائم الأمور ما إن لم يصادف حزماً أفضت إلى السوء.
قوله تعالى :﴿ وقال الملك ائتوني به اسْتخلصه لنفسي ﴾ وهذا قول الملك الأكبر لما علم أمانة يوسف اختاره ليستخلصه لنفسه في خاص خدمته.
﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ لأنه استدل بكلامه على عقله، وبعصمته على أمانته فقال :﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ وهذه منزلة العاقل العفيف.
وفي قوله ﴿ مكين ﴾ وجهان : أحدهما : وجيه، قاله مقاتل.
الثاني : متمكن في المنزلة الرفيعة. وفي قوله ﴿ أمين ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بمعنى آمن لا تخاف العواقب، قاله ابن شجرة.
الثاني : أنه بمعنى مأمون ثقة، قاله ابن عيسى.
الثالث : حافظ، قاله مقاتل. قوله تعالى :﴿ قال اجعلني على خزائن الأرض ﴾ أي على خزائن أرضك، وفيها قولان :
أحدهما : هو قول بعض المتعمقة أن الخزائن ها هنا الرجال، لأن الأفعال والأقوال مخزونة فيهم فصاروا خزائن لها.
الثاني : وهو قول أصحاب الظاهر أنها خزائن الأموال، وفيها قولان : أحدهما : أنه سأله جميع الخزائن، قاله ابن زيد.
266
الثاني : أنه سأله خزائن الطعام، قاله شيبة بن نعامة الضبي.
وفي هذا دليل على جواز أن يخطب الإنسان عملاً يكون له أهلاً وهو بحقوقه وشروطه قائم.
فيما حكى ابن سيرين عن أبي هريرة قال : نزعني عمر بن الخطاب عن عمل البحرين ثم دعاني إليها فأبيت، فقال : لم؟ وقد سأل يوسف العمل.
فإن كان المولي ظالماً فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين :
أحدهما : جوازها إن عمل بالحق فيما تقلده، لأن يوسف عليه السلام ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره.
الثاني : لا يجوز ذلك له لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم وتزكيتهم بتنفيذ أعمالهم.
وأجاب من ذهب إلى هذا القول عن ولايته من قبل فرعون بجوابين :
أحدهما : أن فرعون يوسف كان صالحاً، وإنما الطاغي فرعون موسى.
الثاني : أنه نظر له في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه.
والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات فيجوز توليته من جهة الظالمين لأن النص على متسحقيه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التنفيذ.
والقسم الثاني : ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الإجتهاد في مصرفه كأموال الفيء فلا يجوز توليته من جهة الظالم لأنه يتصرف بغير حقٍ ويجتهد فيما لا يستحق.
والقسم الثالث : ما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد فيه محلول، فإن كان النظر تننفيذاً لحكم بين متراضيين أو توسطاً بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني، قاله ابن زيد.
الثاني : حفيظ بالكتاب، عليم بالحساب، حكاه ابن سراقة، وأنه أول من كتب في القراطيس.
الثالث : حفيظ بالحساب، عليم بالألسن، قاله الأشجع عن سفيان.
الرابع : حفيظ لما وليتني، قاله قتادة، عليم بسني المجاعة، قاله شيبة الضبي. وفي هذا دليل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل، وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات ولكن مخصوص فيما اقترن بوصلة أو تعلق بظاهر من مكسب وممنوع منه فيما سواه لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو تنزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله، فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله ولما يرجوه من الظفر بأهله.
267
قوله تعالى :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ قال ابن جرير الطبري : استخلصه الملك الأكبر الوليد بن الريان على عمل إظفير وعزله. قال مجاهد : وأسلم على يده. قال ابن عباس : ملك بعد سنة ونصف. فروى مقاتل أن النبي ﷺ قال :« لو أن يوسف قال : إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته ذلك
»
. ثم مات إظفير فزوّجه الملك بامرأة إظفير راعيل، فدخل بها يوسف فوجدها عذراء وولدت له ولدين أفرائيم ومنشا ابني يوسف.
ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت، ثم قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً بالمعصية، وجعل العبيد بالطاعة ملوكاً، فضمها إليه فكانت في عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. ﴿ يتبوَّأ منها حيث يشاء ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث يشاء، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه، قاله عبد الرحمن بن زيد.
﴿ نصيب برحمتنا من نشاء ﴾ يعني في الدنيا بالرحمة والنعمة.
﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ يعني في الآخرة بالجزاء. ومنهم من حملها على الدنيا، ومنهم من حملها على الآخرة، والأصح ما قدمناه.
واختلف فيما أوتيه من هذا الحال على قولين :
أحدهما : ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه.
الثاني : أنه أنعم بذلك عليه تفضلاً منه، وثوابه باقٍ على حاله في الآخرة.
قوله تعالى ﴿ ولأجر الآخرة خيرٌ للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا من أجر الدنيا، لأن أجر الآخرة دائم، وأجر الدنيا منقطع.
الثاني : ولأجر الآخرة خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا ونعيمها لما فيه من التبعة.
قوله تعالى :﴿ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه ﴾ الآية. قال ابن إسحاق والسدي : وإنما جاءُوا ليمتاروا من مصر في سني القحط التي ذكرها يوسف في تفسير الرؤيا، ودخلوا على يوسف لأنه كان هو الذي يتولى بيع الطعام لعزته.
﴿ فعرفهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه عرفهم حين دخلوا عليه من غير تعريف، قاله ابن عباس.
الثاني : ما عرفهم حتى تعرفوا إليه فعرفهم، قاله الحسن.
وقيل بل عرفهم بلسانهم العبراني حين تكلموا به.
قال ابن عباس : إنما سميت عبرانية لأن إبراهيم عليه السلام عبر بهم فلسطين فنزل من وراء نهر الأردن فسمّوا العبرانية.
﴿ وهم له منكرون ﴾ لأنه فارقوه صغيراً فكبر، وفقيراً فاستغنى، وباعوه عبداً فصار ملكاً، فلذلك أنكروه، ولم يتعرف إليهم ليعرفوه. قوله تعالى :
﴿ ولمّا جهزهم بجهازهم ﴾ وذلك أنه كال لهم الطعام، قال ابن إسحاق : وحمل لكل رجل منهم بعيراً بعدَّتهم.
﴿ قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم ﴾ قال قتادة : يعني بنيامين وكان أخا يوسف لأبيه وأمه.
قال السدي : أدخلهم الدار وقال : قد استربت بكم تنكر عليهم فأخبروني من أنتم فإني أخاف أن تكونوا عيوناً، فذكروا حال أبيهم وحالهم وحال يوسف وحال أخيه وتخلفه مع أبيه، فقال : إن كنتم صادقين فائتوني بهذا الأخ الذي لكم من أبيكم، وأظهر لهم أنه يريد أن يستبرىء به أحوالهم. وقيل : بل وصفوا له أنه أحَبُّ إلى أبيهم منهم، فأظهر لهم محبة رؤيته.
﴿ ألا تروْن أني أوفي الكيلَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه أرخص لهم في السعر فصار زيادة في الكيل.
الثاني : أنه كال لهم بمكيال واف.
﴿ وأنا خير المنزلين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني خير المضيفين، قاله مجاهد.
الثاني : وهو محتمل، خير من نزلتم عليه من المأمونين. فهو على التأويل الأول مأخوذ من النزل وهو الطعام، وعلى التأويل الثاني مأخوذ من المنزل وهو الدار.
قوله تعالى :﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيْل لكم عندي ﴾ يعني فيما بعد لأنه قد وفاهم كيلهم في هذه الحال.
﴿ ولا تقربون ﴾ أي لا أنزلكم عندي منزلة القريب. ولم يُرد أن يبعدوا منه ولا يعودوا إليه لأنه على العود حثهم.
قال السدي : وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا، فارتهن شمعون عنده. قال الكلبي : إنما اختار شمعون منهم لأنه يوم الجُبّ كان أجملهم قولاً وأحسنهم رأياً.
قوله تعالى :﴿ قالوا سَنُرَاوِدُ عنه أباه ﴾ والمراودة الاجتهاد في الطلب، مأخوذ من الإرادة. ﴿ وَإِنَّا لَفَاعِلُون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وإنا لفاعلون مراودة أبيه وطلبه منه.
الثاني : وإنا لفاعلون للعود إليه بأخيهم، قاله ابن إسحاق.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف إدخال الحزن على أبيه بطلب أخيه؟
قيل عن هذا أربعة أجوبة :
أحدها : يجوز أن يكون الله تعالى أمره بذلك ابتلاء ليعقوب ليُعظم له الثواب فاتّبع أمره فيه.
269
الثاني : يجوز أن يكون أراد بذلك أن ينبه يعقوب على حال يوسف.
الثالث : لتضاعف المسرة ليعقوب برجوع ولديه عليه.
والرابع : ليقدم سرور أخيه بالاجتماع معه قبل إخوته لميله إليه.
قوله تعالى :﴿ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص ﴿ لفتيانه ﴾ وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم غلمانه، قاله قتادة.
الثاني : أنهم الذين كالوا لهم الطعام، قاله السدي.
وفي بضاعتهم قولان :
أحدهما : أنها وَرِقهم التي ابتاعوا الطعام بها.
الثاني : أنها كانت ثمانية جُرُب فيها سويق المقل، قاله الضحاك.
وقال بعض العلماء : نبه الله تعالى برد بضاعتهم إليهم على أن أعمال العباد تعود إليهم فيما يثابون إليه من الطاعات ويعاقبون عليه من المعاصي.
﴿ لعلهم يعرفونها ﴾ أي ليعرفوها.
﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم ﴾ يعني رجعوا إلى أهلهم، ومنه قوله تعالى ﴿ فانقلبوا بنعمة من الله ﴾ [ آل عمران : ١٧٤ ].
﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي ليرجعوا.
فإن قيل : فلم فعل ذلك يوسف؟
قيل : يحتمل أوجهاً خمسة :
أحدها : ترغيباً لهم ليرجعوا، على ما صرّح به.
الثاني : أنه علم منهم لا يستحلّون إمساكها، وأنهم يرجعون لتعريفها.
الثالث : ليعلموا أنه لم يكن طلبه لعودهم طمعاً في أموالهم.
الرابع : أنه خشي أن لا يكون عند أبيه غيرها للقحط الذي نزل به.
الخامس : أنه تحرج أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن قوتهم مع شدة حاجتهم.
270
قوله تعالى :﴿ فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكيل ﴾ واختلفوا في نزلهم الذي رجعوا إليه إلى أبيهم على قولين :
أحدهما : بالعربات من أرض فلسطين.
الثاني : بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من حمس، وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل.
﴿ قالوا يا أبانا منع منا الكيل ﴾ أي سيمنع منا الكيل إن عدنا بغير أخينا لأن ملك مصر ألزمنا به وطلبه منا إما ليراه أو ليعرف صدقنا منه.
﴿ فأرسل معنا أخانا نكتَل ﴾ أي إن أرسلته معنا أمكننا أن نعود إليه ونكتال منه.
﴿ وإنا له لحافظون ﴾ ترغيباً له في إرساله معهم. فلم يثق بذلك منهم لما كان منهم في يوسف.
﴿ قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ﴾ لأنهم ضمنوا له حفظ يوسف فأضاعوه، فلم يثق بهم فيما ضمنوه.
﴿ فالله خير حافظاً ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص ﴿ حافظاً ﴾ يعني منكم لأخيكم.
﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أرحم الراحمين في حفظ ما استودع.
والثاني : أرحم الراحمين فيما يرى من حزني.
قوله تعالى :﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم رُدَّتْ إليهم ﴾ أي وجدوا التي كانت بضاعتهم وهو ما دفعوه في ثمن الطعام الذي امتاروه.
﴿ قالوا يا أبانا ما نبغي ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه على وجه الاستفهام بمعنى ما نبغي بعد هذا الذي قد عاملنا به، قاله قتادة.
الثاني : معناه ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك، حكاه ابن عيسى.
﴿ هذه بضاعتنا ردت إلينا ﴾ احتمل أن يكون قولهم ذلك له تعريفاً واحتمل أن يكون ترغيباً، وهو أظهر الاحتمالين.
﴿ ونمير أهلنا ﴾ أي نأتيهم بالميرة، وهي الطعام المقتات، ومنه قول الشاعر :
بعثتك مائراً فمكثت حولاً متى يأتي غياثك من تغيث.
﴿ ونمير أهلنا ﴾ هذا ترغيب محض ليعقوب.
﴿ ونحفظ أخانا ﴾ وهذا استنزال.
﴿ ونزداد كيل بعير ﴾ وهو ترغيب وفيه وجهان :
أحدهما : كيل البعير نحمل عليه أخانا.
والثاني : كيل بعير هو نصيب أخينا لأن يوسف قسّط الطعام بين الناس فلا يعطى الواحد أكثر من حمل بعير.
﴿ ذلك كَيْلٌ يسير ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الذي جئناك به كيل يسير لا ينفعنا.
والثاني : أن ما نريده يسير على من يكيل لنا، قاله الحسن. فيكون على الوجه الأول استعطافاً، وعلى الثاني تسهيلاً.
وفي هذا القول منهم وفاءٌ، ليوسف فيما بذلوه من مراودة في اجتذاب أخيهم لأنهم قد راودوه من سائر جهات المراودة ترغيباً واستنزالاً واستعطافاً وتسهيلاً.
قوله تعالى :﴿ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله ﴾ في هذا الموثق ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه إشهادهم الله على أنفسهم.
الثاني : أنه حلفهم بالله، قاله السدي.
الثالث : أنه كفيل يتكفل بهم
﴿ لتأتنني به إلاَّ أن يحاط بكم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني إلا أن يهلك جميعكم، قاله مجاهد.
الثاني : إلا أن تُغلَبوا على أمركم، قاله قتادة.
قوله تعالى :﴿ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد... ﴾ يعني لا تدخلوا مصر من باب واحد، وفيه وجهان :
أحدها : يعني من باب واحد من أبوابها.
﴿ وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾، قاله الجمهور.
الثاني : من طريق واحد من طرقها ﴿ وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾ أي طرق، قاله السدي.
وفيما خاف عليهم أن يدخلوا من باب واحد قولان :
أحدهما : أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي صور وجمال، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني : أنه خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً أو حذراً، قاله بعض المتأخرين.
﴿ وما أغني عنكم من الله من شيءٍ ﴾ أي من أي شيء أحذره عليكم فأشار عليهم في الأول، وفوض إلى الله في الآخر.
قوله تعالى :﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيءٍ ﴾ أي لا يرد حذر المخلوق قضاءَ الخالق.
﴿ إلاَّ حاجة في نفس يعقوب قضاها ﴾ وهو حذر المشفق وسكون نفس بالوصية أن يتفرقوا خشية العين.
﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ فيه ثلاثة أوجه.
أحدها : إنه لعامل بما علم، قاله قتادة.
الثاني : لمتيقن بوعدنا، وهو معنى قول الضحاك.
الثالث : إنه لحافظ لوصيتنا، وهو معنى قول الكلبي.
قوله تعالى :﴿ ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه ﴾ قال قتادة : ضمّهُ إليه وأنزله معه.
﴿ قال إني أنا أخوك ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أخبره أنه يوسف أخوه، قاله ابن إسحاق.
الثاني : أنه قال له : أنا أخوك مكان أخيك الهالك، قاله وهب.
﴿ فلا تبتئس بما كانوا يعملون ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فلا تأسف، قاله ابن بحر.
الثاني : فلا تحزن بما كانوا يعملون.
وفيه وجهان :
أحدهما : بما فعلوه في الماضي بك وبأخيك.
الثاني : باستبدادهم دونك بمال أبيك.
قوله تعالى :﴿ فلما جهزهم بجهازهم ﴾ وهو كيل الطعام لهم بعد إكرامهم وإعطائه بعيراً لأخيهم مثل ما أعطاهم.
﴿ جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ والسقاية والصواع واحد. قال ابن عباس. وكل شيء يشرب فيه فهو صواع، قال الشاعر :
نشرب الخمر بالصواع جهاراً وترى المتك بيننا مستعارا
قال قتادة : وكان إناء المتك الذي يشرب فيه.
واختلف في جنسه، فقال عكرمة كان من فضة، وقال عبد الرحمن بن زيد : كان من ذهب، وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم.
وقال السدي : هو المكوك العادي الذي يلتقي طرفاه.
﴿ ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ﴾ أي نادى مناد فسمى النداء أذاناً لأنه إعلام كالأذان.
وفي ﴿ العير ﴾ وجهان :
أحدهما : أنها الرفقة.
الثاني : أنها الإبل المرحولة المركوبة، قاله أبو عبيدة.
فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يجعل السقاية في رحل أخيه لسرقهم وهم برآء، وهذه معصية؟
قيل عن هذه أربعة أجوبة :
أحدها : أنها معصية فعلها الكيال ولم يأمر بها يوسف.
الثاني : أن المنادي الذي كال حين فقد السقاية ظن أنهم سرقوها ولم يعلم بما فعله يوسف، فلم يكن عاصياً.
الثالث : أن النداء كان بأمر يوسف، وعنى بذلك سرقتهم ليوسف من أبيه، وذلك صدق.
الرابع : أنها كانت خطيئة من قبل يوسف فعاقبه الله عليها بأن قال القوم ﴿ إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل ﴾ يعنون يوسف. وذهب بعض من يقول بغوامض المعاني إلى أن معنى قوله ﴿ إنكم لسارقون ﴾ أي لعاقون لأبيكم في أمر أخيكم حيث أخذتموه منه وخنتموه فيه.
قوله تعالى :﴿ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ﴾ لأنهم استنكروا ما قذفوا به مع ثقتهم بأنفسهم فاستفهموا استفهام المبهوت.
﴿ قالوا نفقد صواع الملك ﴾ والصواع واحد وحكى غالب الليثي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ صوغ الملك بالغين معجمة، مأخوذ من الصياغة لأنه مصوغ من فضة أو ذهب وقيل من نحاس.
﴿ ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ﴾ وهذه جعالة بذلت للواجد.
وفي حمل البعير وجهان :
أحدهما : حمل جمل، وهو قول الجمهور.
الثاني : حمل حمار، وهو لغة، قاله مجاهد.
واختلف في هذا البذل على قولين :
أحدهما : أن المنادي بذله عن نفسه لأنه قال ﴿ وأنا به زعيم ﴾ أي كفيل ضامن.
فإن قيل : فكيف ضمن حمل بعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح؟ قيل عنه جوابان :
أحدهما : أن حمل البعير قد كان عندهم معلوماً كالسوق فصح ضمانه.
الثاني : أنها جعالة وقد أجاز بعض الفقهاء فيها في الجهالة، ما لم يُجزْه في غيرها كما أجاز فيها ضمان ما لم يلزم، وإن منع منه في غيرها.
قوله تعالى :﴿ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ﴾ أي لنسرق، لأن السرقة من الفساد في الأرض. وإنما قالوا ذلك لهم لأنهم قد كانوا عرفوهم بالصلاح والعفاف. وقيل لأنهم ردّوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، ومن يؤد الأمانة في غائب لا يقدم على سرقة مال حاضر.
﴿ وما كنا سارقين ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما كنا سارقين من غيركم فنسرق منكم.
والثاني : ما كنا سارقين لأمانتكم فنسرق غير أمانتكم. وهذا أشبه لأنهم أضافوا بذلك إلى عملهم.
قوله تعالى :﴿ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ﴾ أي ما عقوبة من سرق منكم إن كنتم كاذبين في أنكم لم تسرقوا منا.
﴿ قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رحلِه فهو جزاؤه ﴾ أي جزاء من سرق إن يُسْترق.
﴿ كذلك نِجزي الظالمين ﴾ أي كذلك نفعل بالظالمين إذا سرقوا وكان هذا من دين يعقوب.
﴿ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه ﴾ لتزول الريبة من قلوبهم لو بدىء بوعاء أخيه.
﴿ ثم استخرجها من وعاء أخيه ﴾ قيل عنى السقاية فلذلك أنّث، وقيل عنى الصاع، وهو يذكر ويؤنث في قول الزجاج. ﴿ كذلك كدنا ليوسُف ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : صنعنا ليوسف قاله الضحاك.
والثاني : دبّرنا ليوسف، قاله ابن عيسى.
﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في سلطان الملك، قاله ابن عباس.
والثاني : في قضاء الملك، قاله قتادة.
والثالث : في عادة الملك، قال ابن عيسى : ولم يكن في دين الملك استرقاق من سرق. قال الضحاك : وإنما كان يضاعف عليه الغرم.
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : إلا أن يشاء الله أن يُسْتَرق من سرق.
والثاني : إلا أن يشاء الله أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل.
قوله تعالى :﴿ قالوا إن يسرق فقد سَرَق أخ له من قبلُ ﴾ يعنون يوسف. وفي هذا القول منهم وجهان :
أحدهما : أنه عقوبة ليوسف أجراها الله تعالى على ألسنتهم، قاله عكرمة.
والثاني : ليتبرأوا بذلك من فعله لأنه ليس من أمهم وأنه إن سرق فقد جذبه عِرق أخيه السارق لأن في الاشتراك في الأنساب تشاكلاً في الأخلاق.
وفي السرقة التي نسبوا يوسف إليها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه سرق صنماً كان لجده إلى أمه من فضة وذهب، وكسره وألقاه في الطريق فعيّروه بذلك، قاله سعيد بن جبير وقتادة.
الثاني : كان مع إخوته على طعام فنظر إلى عرق فخبأه، فعيّروه بذلك، قاله عطية العوفي.
الثالث : أنه كان يسرق من طعام المائدة للمساكين، حكاه ابن عيسى.
الرابع : أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق وإليها صارت منطقة إسحاق لأنها كانت في الكبير من ولده، وكانت تكفل يوسف، فلما أراد يعقوب أخذه منها جعلت المنطقة، واتهمته فأخذتها منه، فصارت في حكمهم أحق به، فكان ذلك منها لشدة ميلها وحبها له، قاله مجاهد.
الخامس : أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قاله الحسن.
﴿ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أسر في نفسه قولهم ﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾ قاله ابن شجرة وعلي بن عيسى.
الثاني : أسر في نفسه ﴿ أنتُمْ شَرٌّ مكاناً... ﴾ الآية، قاله ابن عباس وابن إسحاق. وفي قوله :﴿ قال أنتم شر مكاناً ﴾ وجهان :
أحدهما : أنتم شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة.
الثاني : أنتم شر صنعاً لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم.
وفي قوله تعالى :﴿ والله أعلم بما تصفون ﴾ تأويلان :
أحدهما : بما تقولون، قاله مجاهد.
الثاني : بما تكذبون، قاله قتادة.
وحكى بعض المفسرين أنهم لما دخلوا عليه دعا بالصواع فنقره ثم أدناه من أذنه ثم قال : إن صواعي هذا ليخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم انطلقتم بأخٍ لكم فبِعْتموه، فلما سمعها بنيامين قام وسجد ليوسف وقال أيها الملك سلْ صواعك هذا عن أخي أحيّ هو أم هالك؟ فنقره، ثم قال : هو حي وسوف تراه. قال : فاصنع بي ما شئت، فإنه إن علم بي سينقذني. قال : فدخل يوسف فبكى ثم توضأ وخرج، فقال بنيامين : افقر صواعك ليخبرك بالذي سرقه فجعله في رحلي، فنقره، فقال : صواعي هذا غضبان وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت.
قوله تعالى :﴿... يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً ﴾ لكن قالوا ذلك ترقيقاً واستعطافاً وفي قولهم ﴿ كبيراً ﴾ وجهان :
أحدهما : كبير السن.
الثاني : كبير القدر لأن كبر السن معروف من حال الشيخ.
﴿ فخذ أحدنا مكانه ﴾ أي عبْداً بدله.
﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : نراك من المحسنين في هذا إن فعلت، قاله ابن إسحاق.
الثاني : نراك من المحسنين فيما كنت تفعله بنا من إكرامنا وتوفية كيلنا وبضاعتنا.
ويحتمل ثالثاً : إنا نراك من العادلين، لأن العادل محسن.
فأجابهم يوسف عن هذا ﴿ قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجَدْنا متاعنا عنده إنَّا إذًا لظالمون ﴾ إن أخذنا بريئاً بسقيم، وفيه وجه ثان : إنا إذاً لظالمون عندكم إذا حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم أن من سرق استُرِقّ.
قوله تعالى :﴿ فلما استيأسوا منه ﴾ أي يئسوا من رد أخيهم عليهم.
الثاني : استيقنوا أنه لا يرد عليهم، قاله أبو عبيدة وأنشد قول الشاعر :
أقول لها بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
﴿ خلصوا نجيّاً ﴾ أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم.
﴿ قال كبيرهم ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى كبيرهم في العقل والعلم وهو شمعون الذي كان قد ارتهن يوسف عنده حين رجع إخوته إلى أبيهم، قاله مجاهد.
الثاني : أنه عنى كبيرهم في السن وهو روبيل ابن خالة يوسف، قاله قتادة.
الثالث : أنه عنى كبيرهم في الرأي والتمييز وهو يهوذا، قاله مجاهد.
﴿ ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ﴾ يعني عند إيفاد ابنه هذا معكم.
﴿ ومن قبل ما فرَّطتم في يوسف ﴾ أي ضيعتموه.
﴿ فلن أبرح الأرض ﴾ يعني أرض مصر.
﴿ حتى يأذن لي أبي ﴾ يعني بالرجوع. ﴿ أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني أو يقضي الله لي بالخروج منها، وهو قول الجمهور.
الثاني : أو يحكم الله لي بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك، قاله أبو صالح.
قوله تعالى :﴿ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ﴾ وقرأ ابن عباس ﴿ سُرِق ﴾ بضم السين وكسر الراء وتشديدها.
﴿ وما شهدنا إلا بما علمنا ﴾ فيها وجهان :
أحدهما : وما شهدنا عندك بأن ابنك سرق إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله، قاله ابن إسحاق.
الثاني : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يُسترقّ إلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد.
﴿ وما كنا للغيب حافظين ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، قاله قتادة.
الثاني : ما كنا نعلم أن ابنك يسترقّ، وهو قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها ﴾ وهي مصر، والمعنى واسأل أهل القرية فحذف ذكر الأهل إيجازاً، لأن الحال تشهد به.
﴿ والعير التي أقبلنا فيها ﴾ وفي ﴿ العير ﴾ وجهان :
أحدهما : أنها القافلة، وقافلة الإبل تسمى عيراً على التشبيه.
الثاني : الحمير، قاله مجاهد، والمعنى أهل العير.
وقيل فيه وجه ثالث : أنهم أرادوا من أبيهم يعقوب أن يسأل القرية وإن كانت جماداً، أو نفس العير وإن كانت حيواناً بهيماً لأنه نبي، والأنبياء قد سخر لهم الجماد والحيوان بما يحدث فيهم من المعرفة إعجازاً لأنبيائه، فأحالوه على سؤال القرية والعير ليكون أوضح برهاناً.
﴿ وإنا لصادقون ﴾ أي يستشهدون بصدْقنا أن ابنك سرق.
قوله تعالى :﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بل سهلت.
الثاني : بل زينت لكم أنفسكم أمراً في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق، وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى.
﴿ فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ﴾ يعني يوسف وأخيه المأخوذ في السرقة وأخيه المتخلف معه فهم ثلاثة.
﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾ يعني العليم بأمركم، الحكيم في قضائه بما ذكرتم.
قوله تعالى :﴿ وتولَّى عنهم وقال يا أسفَى على يوسف ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : معناه واجزعاه قاله مجاهد، ومنه قول كثير :
فيا أسفا للقلب كيف انصرافُه وللنفس لما سليت فتسلّتِ
الثاني : معناه يا جزعاه، قاله ابن عباس. قال حسان بن ثابت يرثي رسول الله ﷺ :
فيا أسفا ما وارت الأرض واستوت عليه وما تحت السلام المنضد
وفي هذا القول وجهان :
أحدهما : أنه أراد به الشكوى إلى الله تعالى ولم يرد به الشكوى منه رغباً إلى الله تعالى في كشف بلائه.
الثاني : أنه أراد به الدعاء، وفيه قولان :
أحدهما : مضمر وتقديره يا رب ارحم أسفي على يوسف.
﴿ وابيضت عَيْنَاه من الحزن ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه.
الثاني : أنه ذهب بصره، قاله مجاهد.
﴿ فهو كظيم ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه الكمد، قاله الضحاك.
الثاني : أنه الذي لا يتكلم، قاله ابن زيد.
الثالث : أنه المقهور، قاله ابن عباس، قال الشاعر :
فإن أك كاظماً لمصاب شاسٍ فإني اليوم منطلق لساني
والرابع : أنه المخفي لحزنه، قاله مجاهد وقتادة، مأخوذ من كظم الغيظ وهو إخفاؤه، قال الشاعر :
فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من خوفِ المنايا كظم
قوله تعالى :﴿ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ﴾ قال ابن عباس والحسن وقتادة معناه لا تزال تذكر يوسف، قال أوس بن حجر :
فما فتئت خيل تثوبُ وتدّعي ويلحق منها لاحق وتقطّعُ
أي فما زالت. وقال مجاهد : تفتأ بمعنى تفتر.
﴿ حتى تكون حرضاً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات.
أحدها : يعني هرماً، قاله الحسن.
والثاني : دنفاً من المرض، وهو ما دون الموت، قاله ابن عباس ومجاهد.
والثالث : أنه الفاسد العقل، قاله محمد بن إسحاق. وأصل الحرض فساد الجسم والعقل من مرض أو عشق، قال العرجي.
إني امرؤلجّ بي حُبٌّ فأحرضني حتى بَليتُ وحتى شفّني السقم
﴿ أو تكون من الهالكين ﴾ يعني ميتاً من الميتين، قاله الجميع.
فإن قيل : فكيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكاً متمكناً بمصر، وأبوه بحرّان من أرض الجزيرة؟ وهلاّ عجّل استدعاءه ولم يتعلل بشيء بعد شيء؟
قيل يحتمل أربعة أوجه :
280
أحدها : أن يكون فعل ذلك عن أمر الله تعالى، ابتلاء له لمصلحة علمها فيه لأنه نبيّ مأمور.
الثاني : أنه بلي بالسجن، فأحب بعد فراقه أن يبلو نفسه بالصبر.
الثالث : أن في مفاجأة السرور خطراً وأحب أن يروض نفسه بالتدريج.
الرابع : لئلا يتصور الملك الأكبر فاقة أهله بتعجيل استدعائهم حين ملك.
قوله تعالى :﴿ قال إنما أشكو بَثِّي وحزني إلى الله ﴾ في بثي وجهان :
أحدهما : همّي، قاله ابن عباس.
الثاني : حاجتي، حكاه ابن جرير. والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس. وإنما شكا ما في نفسه فجعله بثاً وهو مبثوث.
﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني ساجد له، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه أحست نفسه حين أخبروه فدعا الملك وقال : لعله يوسف، وقال لا يكون في الأرض صدّيق إلا نبي، قاله السدّي.
وسبب قول يعقوب ﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ ما حكي أن رجلاً دخل عليه فقال : ما بلغ بك ما أرى؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني؟ فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وكان بعد ذلك يقول ﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾.
281
قوله تعالى :﴿... اذهبوا فتحسَّسُوا مِن يوسُفَ وأخيه ﴾ أي استعملوا وتعرّفوا، ومنه قول عديّ بن زيد :
فإنْ حَييتَ فلا أحسسك في بلدي وإن مرضت فلا تحسِسْك عُوّادِي
وأصله طلب الشيء بالحس.
﴿ ولا تيأسوا من روح الله ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : من فرج الله، قاله محمد بن إسحاق.
والثاني : من رحمة الله، قاله قتادة. وهو مأخوذ من الريح التي بالنفع. وإنما قال يعقوب ذلك لأنه تنّبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ولما حكي أن يعقوب سأل ملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ فقال : لا.
قوله تعالى :﴿ فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مَسّنا وأهلنا الضر ﴾ وهذا مِن ألطف ترفيق وأبلغ استعطاف. وفي قصدهم بذلك قولان :
أحدهما : بأن يرد أخاهم عليهم، قاله ابن جرير.
والثاني : توفية كيلهم والمحاباة لهم، قاله علي بن عيسى.
﴿ وجئنا ببضاعةٍ مزجاةٍ ﴾ وأصل الإزجاء السَوْق بالدفع، وفيه قول الشاعر عدي بن الرقاع.
تزجي أغَنّ كأن إبرَة روقِهِ قلمٌ أصاب من الدواة مدادها
وفي بضاعتهم هذه خمسة أقاويل :
أحدها : أنها كانت دراهم، قاله ابن عباس.
الثاني : متاع الأعراب، صوف وسمن، قاله عبدالله بن الحارث.
الثالث : الحبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح.
الرابع : سويق المقل. قاله الضحاك.
الخامس : خلق الحبْل والغرارة، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً.
وفي المزجاة ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الرديئة، قاله ابن عباس.
والثاني : الكاسدة، قاله الضحاك.
الثالث : القليلة، قاله مجاهد. قال ابن إسحاق : وهي التي لا تبلغ قدر الحاجة ومنه قول الراعي :
ومرسل برسول غير متّهم وحاجة غير مزجاة من الحاج
وقال الكلبي : هي كلمة من لغة العجم، وقال الهيثمي : من لغة القبط.
﴿ فأوف لنا الكيل ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الكيل الذي كان قد كاله لأخيهم، وهو قول ابن جريج.
الثاني : مثل كيلهم الأول لأن بضاعتهم الثانية أقل، قاله السدي.
﴿ وتصدق علينا ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدهما : معناه تفضل علينا بما بين الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير والسدي والحسن، وذلك لأن الصدقة تحرم على جميع الأنبياء.
الثاني : تصدق علينا بالزيادة على حقنا، قاله سفيان بن عيينة. قال مجاهد : ولم تحرم الصدقة إلا على محمد ﷺ وحده.
الثالث : تصدق علينا برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج، وكره للرجل أن يقول في دعائه : اللهم تصدّق عَليّ، لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب.
الرابع : معناه تجوّز عنا، قاله ابن شجرة وابن زيد واستشهد بقول الشاعر :
قوله تعالى :﴿ قال هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ﴾ معنى قوله ﴿ هل علمتم ما فعلتم ﴾ أي قد علمتم، كقوله تعالى ﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ﴾ أي قد أتى.
قال ابن إسحاق : ذكر لنا أنهم لما قالوا ﴿ مسّنا وأهلنا الضر ﴾ رحمهم ورقَّ لهم، فقال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وعَدَّدَ عليهم ما صنعوا بهما.
﴿ إذ أنتم جاهلون ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني جهل الصغر.
الثاني : جهل المعاصي.
الثالث : الجهل بعواقب أفعالهم. فحينئذ عرفوه.
﴿ قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي ﴾ وحكى الضحاك في قراءة عبدالله : وهذا أخي وبيني وبينه قربى
﴿ قد مَنّ الله علينا ﴾ يعني بالسلامة ثم بالكرامة، ويحتمل بالإجتماع بعد طول الفرقة.
﴿ إنه مَنْ يتّق ويصبرْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يتقي الزنى ويصبر على العزوبة، قاله إبراهيم.
الثاني : يتقي الله تعالى ويصبر على بلواه. وهو محتمل.
﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ فيه قولان :
أحدهما : في الدنيا.
الثاني : في الآخرة.
قوله تعالى :﴿ قالوا تالله آثرك اللهُ علينا ﴾ مأخوذ من الإيثار، وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر، قال الشاعر :
تصدّق علينا يا ابن عفان واحتسب وأمر علينا الأشعري لياليا
والله أسماك سُمًّا مباركاً آثرك الله به إيثارَكاً
﴿ وإن كنا لخاطئين ﴾ أي فيما صنعوا بيوسف، وفيه قولان :
أحدهما : آثمين.
الثاني : مخطئين. والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ آثم.
فإن قيل : فقد كانوا عند فعلهم ذلك به صغاراً ترفع عنهم الخطايا.
قيل لما كبروا واستداموا إخفاء ما صنعوا صاروا حينئذ خاطئين.
قوله تعالى :﴿ قال لا تثريب عليكم ﴾ فيه قولان أربعة تأويلات :
أحدها : لا تغيير عليكم، وهو قول سفيان ابن عيينة.
الثاني : لا تأنيب فيما صنعتم، قاله ابن إسحاق.
الثالث : لا إباء عليكم في قولكم، قاله مجاهد.
الرابع : لا عقاب عليكم وقال الشاعر :
فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد
﴿ اليوم يغفر الله لكم ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لتوبتهم بالاعتراف والندم.
الثاني : لإحلاله لهم بالعفو عنهم.
﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : في صنعه بي حين جعلني ملكاً.
الثاني : في عفوه عنكم عما تقدم من ذنبكم.
قوله تعالى :﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ﴾ وفيه وجهان :
أحدهما : مستبصراً بأمري لأنه إذا شم ريح القميص عرفني.
الثاني : بصيراً من العمى فذاك من أحد الآيات الثلاث في قميص يوسف بعد الدم الكذب وقدّه من دُبُره. وفيه وجه آخر لأنه قميص إبراهيم أنزل عليه من الجنة لما أُلقي في النار، فصار لإسحاق ثم ليعقوب، ثم ليوسف فخلص به من الجب وحازه حتى ألقاه أخوه على وجه أبيه فارتد بصيراً، ولم يعلم بما سبق من سلامة إبراهيم من النار ويوسف من الجب أن يعقوب يرجع به بصيراً.
قال الحسن : لولا أن الله تعالى أعلم يوسف بذلك لم يعلم أنه يرجع إليه بصره... وكان الذي حمل قميصه يهوذا بن يعقوب، قال ليوسف : أنا الذي حملت إليه قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا الآن أحمل قميصك لأسرّه وليعود إليه بصره فحمله، حكاه السدي.
﴿ وأتوني بأهلكم أجمعين ﴾ لتتخذوا مِصرَ داراً. قال مسروق فكانوا ثلاثة وتسعين بين رجل وامرأة.
قوله تعالى :﴿ ولمّا فصلت العير ﴾ أي خرجت من مصر منطلقة إلى الشام.
﴿ قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها أمارات شاهدة وعلامات قوي ظنه بها، فكانت هي الريح التي وجدها ليوسف، مأخوذ من قولهم تنسمت رائحة كذا وكذا إذا قرب منك ما ظننت أنه سيكون.
والقول الثاني : وهو قول الجمهور أنه شم ريح يوسف التي عرفها.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنه : وهي ريح الصبا. ثم اعتذر فقال :
﴿ لولا أن تفندّون ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : لولا أن تسفهون، قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه قول النابغة الذبياني :
إلا سليمان إذ قال المليكُ له قم في البرية فا جددها عن الفنَد
أي عن السفة.
الثاني : معناه لولا أن تكذبون، قاله سعيد بن جبير والضحاك، ومنه قول الشاعر :
هل في افتخار الكريم من أود أم هل لقول الصديق من فند
أي من كذب.
الثالث : لولا أن تضعّفون، قاله ابن إسحاق. والتفنيد : تضعيف الرأي، ومنه قول الشاعر :
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمري بمردود
وكان قول هذا لأولاد بنيه، لغيبة بنيه عنه، فدل هذا على أن الجدَّ أبٌ.
الرابع : لولا أن تلوموني، قاله ابن بحر.
ومنه قول جرير :
يا عاذليَّ دعا الملامة واقصِرا طال الهوى وأطلْتُما التفنيدا
واختلفوا في المسافة التي وجد ريح قميصه منها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وجدها من مسافة عشرة أيام. قاله أبو الهذيل.
الثاني : من مسيرة ثمانية أيام، قاله ابن عباس.
الثالث : من مسيرة ستة أيام، قاله مجاهد. وكان يعقوب بأرض كنعان ويوسف بمصر وبينهما ثمانون فرسخاً، قاله قتادة.
قوله تعالى :﴿ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أي في خطئك القديم، قاله ابن عباس وابن زيد.
الثاني : في جنونك القديم، قاله سعيد بن جبير. قال الحسن : وهذا عقوق.
الثالث : في محبتك القديمة، قاله قتادة وسفيان.
الرابع : في شقائك القديم، قاله مقاتل، ومنه قول لبيد :
تمنى أن تلاقي آل سلمى بحطمة والمنى طرف الضِّلال
وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : بنوه، ولم يقصدوا بذلك ذماً فيأثموا.
والثاني : بنو نبيه وكانوا صغاراً.
قوله تعالى :﴿ فلما أن جاء البشير ﴾ وفي قولان :
أحدهما : شمعون، قاله الضحاك.
الثاني : يهوذا. سمي بذلك لأنه أتاه ببشارة.
﴿ ألقاه على وجهه ﴾ يعني ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب.
﴿ فارتدَّ بصيراً ﴾ أي رجع بصيراً، وفيه وجهان :
أحدهما : بصيراً بخبر يوسف.
الثاني : بصيراً من العمى.
﴿ قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إني أعلم من صحة رؤيا يوسف ما لا تعلمون.
الثاني : إني أعلم من قول ملك الموت أنه لم يقبض روح يوسف ما لا تعلمون.
الثالث : إني أعلم من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول العراج ونيل الثواب ما لا تعلمون.
قوله تعالى :﴿ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا ﴾ وإنما سألوه ذلك لأمرين :
أحدهما : أنهم أدخلوا عليه من آلام الحزن ما لا يسقط المأثم عنه إلا بإجلاله.
الثاني : أنه نبيُّ تجاب دعوته ويعطى مسألته، فروى ابن وهب عن الليث بن سعد أن يعقوب وإخوة يوسف قاموا عشرين سنة يطلبون التوبة فيما فعل إخوة يوسف بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل يعقوب فعلمه هذا الدعاء : يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي، ويا غوث المؤمنين أغثني، ويا عَوْن المؤمنين أعني، ويا مجيب التّوابين تُبْ عليَّ فاستجيب لهم.
فإن قيل قد تقدمت المغفرة لهم بقول يوسف من قبل ﴿ لا تثريب عليكم ﴾ الآية، فلمَ سألوا أباهم أن يستغفر لهم؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : لأن لفظ يوسف عن مستقبل صار وعداً، ولم يكن عن ماض فيكون خبراً.
الثاني : أن ما تقدم من يوسف كان مغفرة في حقه، ثم سألوا أباهم أن يستغفر لهم في حق نفسه.
الثالث : أنهم علموا نبوة أبيهم فوثقوا بإجابته، ولم يعلموا نبوة أخيهم فلم يثقوا بإجابته.
قوله تعالى :﴿ قال سوف أستغفر لكم ربي ﴾ وفي تأخيره الاستغفار لهم وجهان :
أحدهما : أنه أخره دفعاً عن العجيل ووعداً من بعد، فلذلك قال عطاء : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف :﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ وإلى قول يعقوب :﴿ سوف أستغفر لكم ربي ﴾.
الثاني : أنه أخّره انتظاراً لوقت الإجابة وتوقعاً لزمان الطلب.
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : عند صلاة الليل، قاله عمرو بن قيس.
الثاني : إلى السحَر، قاله ابن مسعود وابن عمر. روى أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قال :« أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجار
»
. الثالث : إلى ليلة الجمعة قاله ابن عباس ورواه عن النبي ﷺ مرفوعاً.
وإنما سألوه عن الاستغفار لهم وإن كان المستحق في ذنوبهم التوبة منها دون الاستغفار لهم ثلاثة أمور :
أحدها : للتبرك بدعائه واستغفاره. الثاني : طلباً لاستعطافه ورضاه. الثالث : لحذرهم من البلوى والامتحان في الدنيا
قوله تعالى :﴿ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ﴾ اختلف في إجتماع يوسف مع أبويه وأهله، فحكى الكلبي والسدي أن يوسف خرج عن مصر وركب معه أهلها، وقيل خرج الملك الأكبر معه واستقبل يعقوب، قال الكلبي على يوم من مصر، وكان القصر على ضحوة من مصر، فلما دنا يعقوب متوكئاً على ابنه يهوذا يمشي، فلما نظر إلى الخيل والناس قال : يا يهوذا أهذا فرعون؟ قال : لا، هذا ابنك يوسف، فقال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان عني، فأجابه يوسف :
﴿ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ﴾ فيه وجهان : أحدهما : آمنين من فرعون، قاله أبو العالية.
الثاني : آمنين من القحط والجدب، قاله السدي.
وقال ابن جريج : كان اجتماعهم بمصر بعد دخولهم عليه فيها على ظاهر اللفظ، فعلى هذا يكون معنى قوله ﴿ ادخلوا مصر ﴾ استوطنوا مصر.
وفي قوله :﴿ إن شاء الله ﴾ وجهان :
أحدهما : أن يعود إلى استيطان مصر، وتقديره استوطنوا مصر إن شاء الله.
الثاني : أنه راجع إلى قول يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله آمنين إنه هو الغفور الرحيم، ويكون اللفظ مؤخراً، وهو قول ابن جريج.
فحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنساناً من رجل وامرأة، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفاً.
قوله تعالى :﴿ ورفع أبويه على العرش ﴾ قال مجاهد وقتادة :
وفي أبويه قولان :
أحدهما : أنهما أبوه وخالته راحيل، وكان أبوه قد تزوجها بعد أمه فسميت أُماً، وكانت أمه قد ماتت في نفاس أخيه بنيامين، قاله وهب والسدي.
الثاني : أنهما أبوه وأمه وكانت باقيه إلى دخول مصر، قاله الحسن وابن إسحاق.
﴿ وخرّوا له سجداً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم سجدوا ليوسف تعظيماً له، قال قتادة : وكان السجود تحية من قبلكم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة.
وقال الحسن : بل أمرهم الله تعالى بالسجود له لتأويل الرؤيا.
وقال محمد بن إسحاق : سجد له أبواه وإخوته الأحد عشر.
والقول الثاني : أنهم سجدوا لله تعالى، قاله ابن عباس، وكان يوسف في جهة القبلة فاستقبلوه بسجود، وكان سجودهم شكراً، ويكون معنى قوله ﴿ وخروا ﴾ أي سقطوا، كما قال تعالى ﴿ فخرّ عليهم السقف مِنْ فوقهم ﴾ أي سقط.
والقول الثالث : أن السجود ها هنا الخضوع والتذلل، ويكون معنى قوله تعالى ﴿ خروا ﴾ أي بدروا.
﴿ وقال يا أبَتِ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً ﴾ واختلف العلماء فيما بين رؤياه وتأويلها على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه كان بيهما ثمانون سنة، قاله الحسن وقتادة.
الثاني : كان بينهما أربعون سنة، قاله سليمان.
الثالث : ست وثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير.
286
الرابع : اثنتان وعشرون سنة.
والخامس : أنه كان بينهما ثماني عشرة سنة، قاله ابن إسحاق.
فإن قيل : فإن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة فهلاّ وثق بها يعقوب وتسلى؟ ولم ﴿ قال يا بُني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً ﴾ وما يضر الكيد مع سابق القضاء؟
قيل عن هذا جوابان :
أحدهما : أنه رآها وهو صبي فجاز أن تخالف رؤيا الأنبياء المرسلين. الثاني : أنه حزن لطول المدة في معاناة البلوى وخاف كيد الإخوة في تعجيل الأذى.
﴿ وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ﴾ فإن قيل فلم اقتصر من ذكر ما بُلي به على شكر إخراجه من السجن دون الجب وكانت حاله في الجب أخطر؟
قيل عنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه كان في السجن مع الخوف من المعرة ما لم يكن في الجب فكان ما في نفسه من بلواه أعظم فلذلك خصه بالذكر والشكر.
الثاني : أنه قال ذلك شكراً لله تعالى على نقله من البلوى إلى النعماء، وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب، فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً، وبخروجه من الجب عبداً.
الثالث : أنه لما عفا عن إخوته بقوله ﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ أعرض عن ذكر الجب لما فيه من التعريض بالتوبيخ
وتأول بعض أصحاب الخواطر قوله :﴿ وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ﴾ أي من سجن السخط إلى فضاء الرضا.
وفي قوله :﴿ وجاء بكم من البدو ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا في بادية بأرض كنعان أهل مواشٍ وخيام، وهذا قول قتادة.
الثاني : أنه كان قد نزل « بدا » وبنى تحت جبلها مسجداً ومنها قصد، حكاه الضحاك عن ابن عباس. قال جميل :
وأنتِ التي حَبَبْتِ شغباً إلى بَدَا إليّ وأوطاني بلادٌ سِواهما
يقال بدا يبدو إذا نزل « بدا » فلذلك قال : وجاء بكم من البدو وإن كانوا سكان المدن.
الثالث : لأنهم جاءُوا في البادية وكانوا سكان مدن، ويكون بمعنى في.
واختلف من قال بهذا في البلد الذي كانوا يسكنونه على ثلاثة أقاويل.
أحدها : أنهم كانوا من أهل فلسطين، قاله علي بن أبي طلحة.
الثاني : من ناحية حران من أرض الجزيرة، ولعله قول الحسن.
الثالث : من الأولاج من ناحية الشعب، حكاه ابن إسحاق.
﴿ من بَعْدِ أن نَزَغَ الشيطانُ بيني وبين إخوتي ﴾ وفي نزغه وجهان :
أحدهما : أنه إيقاع الحسد، قاله ابن عباس.
الثاني : معناه حرّش وأفسد، قاله ابن قتيبة.
﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾ قال قتادة : لطيف بيوسف بإخراجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع عن يوسف نزغ الشيطان.
287
قوله تعالى :﴿ رب قد آتيتني من الملك ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الملك هو احتياج حساده إليه، قاله ابن عطاء.
الثاني : أراد تصديق الرؤيا التي رآها.
الثالث : أنه الرضا بالقضاء والقناعة بالعطاء.
الرابع : أنه أراد مُلْك الأرض وهو الأشهر. وإنما قال من الملك لأنه كان على مصر من قبل فرعون.
﴿ وعلمتني من تأويل الأحاديث ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : عبارة الرؤيا. قاله مجاهد.
الثاني : الإخبار عن حوادث الزمان، حكاه ابن عيسى.
﴿ فاطر السموات والأرض ﴾ أي خالقهما.
﴿ أنت وليّي في الدنيا والآخرة ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : مولاي.
الثاني : ناصري. ﴿ توفني مسلماً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني مخلصاً للطاعة، قاله الضحاك.
الثاني : على ملة الإسلام. حكى الحسن أن البشير لما أتى يعقوب قال له يعقوب عليه السلام : على أي دين خلفت يوسف؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة.
﴿ وألحقني بالصالحين ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بأهل الجنة، قاله عكرمة.
الثاني : بآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، قاله الضحاك.
قال قتادة والسدي : فكان يوسف أول نبي تمنى الموت.
وقال محمد بن إسحاق : مكث يعقوب بأرض مصر سبع عشرة سنة. وقال ابن عباس مات يعقوب بأرض مصر وحمل إلى أرض كنعان فدفن هناك. ودفن يوسف بأرض مصر ولم يزل بها حتى استخرج موسى عظامه وحملها فدفنها إلى جنب يعقوب عليهم السلام.
﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ يعني هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب.
﴿ نوحيه إليك ﴾ أي نعلمك بوحي منا إليك.
﴿ وما كنت لديهم ﴾ أي إخوة يوسف.
﴿ إذ أجمعوا أمرهم ﴾ في إلقاء يوسف في الجب.
﴿ وهم يمكرون ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بيوسف في إلقائه في غيابة الجب.
الثاني : يعقوب حين جاؤوا على قميصه بدم كذب.
قوله تعالى :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه قول المشركين الله ربنا وآلهتنا ترزقنا، قاله مجاهد.
الثاني : أنه في المنافقين يؤمنون في الظاهر رياء وهم في الباطن كافرون بالله تعالى، قاله الحسن.
الثالث : هو أن يشبه الله تعالى بخلقه، قاله السدي.
الرابع : أنه يشرك في طاعته كقول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان، وهذا قول أبي جعفر.
الخامس : أنهم كانوا يؤمنون بالله تعالى ويكفرون بمحمد ﷺ، فلا يصح إيمانهم حكاه ابن الأنباري.
قوله تعالى :﴿ قل هذه سبيلي ﴾ فيها تأويلان :
أحدهما : هذه دعوتي، قاله ابن عباس.
الثاني : هذه سنتي، قاله عبد الرحمن بن زيد. والمراد بها تأويلان :
أحدهما : الإخلاص لله تعالى بالتوحيد.
الثاني : التسليم لأمره فيما قضاه.
﴿ أدْعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبَعَني ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : على هدى، قاله قتادة.
الثاني : على حق، وهو قول عبد الرحمن بن زيد. وذكر بعض أصحاب الخواطر تأويلاً ( ثالثاً ) أي أبلغ الرسالة ولا أملك الهداية.
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى ﴾ قال قتادة : من أهل الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحلم. وقال الحسن : لم يبعث الله تعالى نبياً من أهل البادية قط، ولا من النساء، ولا من الجن.
﴿ ولدار الآخرة خير ﴾ يعني بالدار الجنة، وبالآخرة القيامة، فسمى الجنة داراً وإن كانت النار داراً لأن الجنة وطن اختيار، والنار مسكن اضطرار.
قوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من قولهم أن يصدقوهم، قاله ابن عباس.
الثاني : أن يعذب قومهم، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً : استيأسوا من النصر.
﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ في ﴿ كذبوا ﴾ قراءتان :
أحدهما : بضم الكاف وكسر الذال وتشديدها، قرأ بها الحرميّان وأبو عمرو وابن عامر، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : يعني أن قومهم ظنوا أن الرسل قد كذّبوهم، حكاه ابن عيسى.
والقراءة الثانية ﴿ كُذِبوا ﴾ بضم الكاف وتخفيف الذال، قرأ بها الكوفيون، وفي تأويلها وجهان :
أحدهما : فظن اتباع الرسل أنهم قد كذبوا فيما ذكروه لهم.
الثاني : فظن الرسل أن ابتاعهم قد كذبوا فيما أظهروه من الإيمان بهم.
﴿ جاءهم نصرنا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : جاء الرسل نصر الله تعالى، قاله مجاهد.
الثاني : جاء قومهم عذاب الله تعالى، وهو قول ابن عباس.
﴿ فنجي من نشاءُ ﴾ قيل الأنبياء ومَن آمن معهم.
﴿ ولا يُرَدُّ بأسُنا عن القومِ المجرمين ﴾ يعني عذابنا إذا نزل بهم.
قوله تعالى :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ يعني في قصص يوسف وإخوته اعتبار لذوي العقول بأن من نقل يوسف من الجب والسجن وعن الذل والرق إلى أن جعله مَلِكاً مطاعاً ونبياً مبعوثاً، فهو على نصر رسوله وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه قادر، وإنما الإمهال إنذار وإعذار.
﴿ ما كان حديثاً يفترى ﴾ أن يختلف ويتخرّص، وفيه وجهان :
أحدهما : يعني القرآن، قاله قتادة.
الثاني : ما تقدم من القصص، قاله ابن إسحاق.
﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدِّق لما قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى، وهذا تأويل من زعم أنه القرآن.
الثاني : يعني ولكن يصدّقه ما قبله من كتب الله تعالى، وهذا قول من زعم أنه القصص.
﴿ وهُدًى ورحمة لقومٍ يؤمنون ﴾ والله أعلم.
Icon