تفسير سورة يوسف

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ هذه السورة مكية كلها وقال ابن عباس وقتادة الا ثلاث آيات من اولها وسبب نزولها ان كفار مكة امرتهم اليهود ان يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي احل بني اسرائيل بمصر ووجه من سنتها لما قبلها. وارتباطها ان في اخر السورة التي قبلها وكلا نقص عليك الآية، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء عليهم السلام من قومهم فاتبع ذلك بقصة يوسف وما لاقاه عليه السلام من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإِشارة بتلك آيات إلى ﴿ الۤر ﴾ وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن. والظاهر أن المراد بالكتاب المبين اما المبين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، واما المبّين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين، قاله ابن عباس. والضمير في ﴿ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه السلام. وانتصب قرآناً على البدل من الضمير. وعربياً صفة له وهو منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي كروم ورومي، لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني واحتوى عليه من البلاغة والإِعجاز فتؤمنون. ولعل ترج فيه معنى التعليل لقوله: ﴿ أنزلنا ﴾.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾ الآية، القصص مصدر قص والمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة وأحسن أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارناً لاقتصاصه في القرآن، وانتصب أحسن على المصدر لإِضافته إلى المصدر.﴿ بِمَآ أَوْحَيْنَآ ﴾ الباء: للسبب. وما مصدرية. ﴿ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ ﴾ تنازعه عاملان أحدهما نقص، والثاني أوحينا. واعمل الثاني جرياً على الأفصح في باب التنازع. والضمير في قبله يعود على الإِيماء. ومعنى من الغافلين لم يكن لك شعور بهذه القصة ولا سبق لك علم فيها. والعامل في إذ قال يا بني كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفاً لما مضى. وللزمخشري وابن عطية أقوال في العامل في إذ ردّت في البحر لضعفها. ويوسف اسم عبراني وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة وتقدمت فيه لغات. وقرىء: ﴿ يا أبت ﴾ بفتح التاء، وجمهور القراء على كسرها وهي عوض من ياء الإِضافة فلا يجتمعان، لا يقال: يا أبتي.﴿ إِنِّي رَأَيْتُ ﴾ معمول للقول فهو في موضع نصب ورأيت هي حُامية لدلالة متعلقها على أنه منام. والظاهر أنه رأى في منامه كواكب والشمس والقمر. ومن حديث جابر بن عبد الله" أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف فسكت عنه ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي، فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ قال: نعم. فقال: جريان والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس ووثاب وعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور. فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها "قال الزمخشري: فإِن قلت: لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما لعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع كما أخبر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليهما لذلك. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع أي أرأيت الكواكب مع الشمس والقمر. " انتهى ". الذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جرياً على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه ولامتناع أن يجتمع الشمس والقمر في أحد عشر كوكباً لأنهم أخوته فليس المكنى عنه بالشمس والقمر داخلاً فيهم. والظاهر أن رأيتم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل. وجاء الضمير ضمير من يعقل لأنه صدر منهم السجود لأنه من صفات من يعقل. " ولي " متعلق بساجدين، وساجدين منصوب على الحال، ولما خاطب يوسف عليه السلام أباه بقوله: يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه: يا بني تصغير التحبيب والتقريب والشفقة.﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ﴾ منصوب بإِضمار انْ على جواب النهي. وعدي فيكيدوا باللام. وهو متعد بنفسه فاحتمل أن يكون من باب التضمين ضمن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد. والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين وللمبالغة أكد بالمصدر ونبه يعقوب عليه السلام على سبب الكيد وهو ما يزينه الشيطان للإِنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما فهو يجتهد دائماً أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويخصه عليها وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليه السلام على أن الله تعالى يبلغه مبلغاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه عن أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف بنهيه عن أن يقص على أخوته مخالفة كيدهم دلالة على تحذير المسلم أخاه ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق ولا يكون ذلك داخلاً في باب الغيبة.
﴿ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ ﴾ أي مثل ذلك الاجتباء وهو ما أراه من تلك الرؤية التي دلت على جليل قدره وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك يجتبيك: يختارك ربك للنبوة والملك وما أحسن لفظة ربك هنا لأنه المالك لأمره الناظر في مصلحته. " ويعلمك " كلام مستأنف ليس داخلاً في النسبة كأنه قال: وهو يعلمك. و ﴿ تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾ عبارة عن مآل الرؤيا وعاقبة أمرها وهي اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة.﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكاً بنعمة الآخرة، بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة. وآل يعقوب هم وأولاده ونسلهم، إذ جعل النبوة فيهم، وإتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام بالخلة والانجاء من النار وإهلاك عدوه نمروذ، وعلى إسحاق بإِخراج يعقوب، والاسباط من صلبه، وسمي الجد وآباء الجد أبوين لأنهما في عمود النسب كما قال:﴿ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ ﴾[البقرة: ١٣٣] ولهذا يقولون ابن فلان، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب.﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ ﴾ بمن يستحق الاجتباء.﴿ حَكِيمٌ ﴾ يضع الأشياء في مواضعها. وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما السلام في قوله: وكذلك يجتبيك ربك.﴿ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ ﴾ الآية، آيات على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بالصحة من غير سماع أحد ولا قراءة كتاب، والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما أظهره الله في قصة يوسف من البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها، حتى قام بحق الإِمامة وحدوث السرور بعد اليأس. والضمير في قوله عائد على أخوه يوسف " وأخوه " بنيامين ولما كانا شقيقين أضافوه ليوسف واللام في ليوسف لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه وأحب أفعل تفضيل، وهو مبني من المفعول شذوذاً ولذلك عُدّي بإِلى لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدي إليه بإِلى وإذا كان مفعولاً عدي إليه بفي تقول: زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى وعمرو هو المحب، وإذا قلت: زيد أحب في عمرو من خالد كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يُثنّ أحب لتعديه بمن وكان بنيامين أصغر من يوسف فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر، وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديماً وحديثاً، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن فيها: وصغيركم عبد العزيز فإِنني   أطوي لفرقته جوى لم يصغرذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا   كفؤا لكم في المنتمى والعنصران البنان الخمس أكفاءٌ معاً   والحلى دون جميعها للخنصروإذا الفتى فقد الشباب سما له   حب البنين ولا كحب الأصغر﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ جملة حالية، أي يفضلهما علينا في المحبة وهما لا كفاية فيهما، ونحن جماعة نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما. وعن ابن عباس: العصبة ما زاد على العشرة. وعنه أيضاً: ما بين العشرة إلى الأربعين. والضلال هنا: هو الهوى، قاله ابن عباس. والظاهر أن: ﴿ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾ من جملة قولهم. والظاهر أن: ﴿ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً ﴾ هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين. وانتصب: ﴿ أَرْضاً ﴾ على إسقاط حرف الجر، أي في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها قريب من أرض يعقوب. قال الزمخشري: أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ولإِبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. قال ابن عطية: وذلك خطأ، يعني كونها منصوبة على الظرف قال: لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهاماً. ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبيين أنهم أرادوا أرضاً بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه. " انتهى ". هذا الرد صحيح لو قلت: جلست داراً بعيدة، أو قعدت مكاناً بعيداً، لم يصح إلا بواسطة في، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أم متعدية. والضمير في بعده عائد على يوسف أو قتله أو طرحه وصلاحهم هو بالتوبة والتنصل من هذا الفعل، والقائل لا تقتلوا يوسف هو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأياً، وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي. وقال لهم: القتل عظيم، وهذا عطف منهم على أخيهم لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقائه على نفسه وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل. قال الهروي: الغيابة في الجب شبه لحف أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون. والسيارة جمع سيار وهو الكثير السير في الأرض. ومفعول فاعلين محذوف أي فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه.
﴿ قَالُواْ يَٰأَبَانَا ﴾ لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه اعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم في انشراح صدره بالارتعاء واللعب، إذ هو مما يشرح الصبيان وذكروا حفظهم له مما يسوؤه. وفي قوله: مالك لا تأمنّا على يوسف دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أن يخرج معهم، وذكروا سبب الأمن وهو النصح، أي لِمَ لمْ تأمنا عليه وحالتنا هذه. والنصح دليل على الأمانة ولهذا قرنا في قوله:﴿ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾[الأعراف: ٦٨]، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب ألا يأمنهم عليه. ولا تأمنا جملة حالية وهذا الاستفهام صحبه معنى التعجب. وقرىء: لا تأمنا باختلاس الحركة والإِدغام. في لفظة أرسله دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائماً. وانتصب غداً على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاماً. وقرىء: ﴿ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ﴾ بالياء وقرىء: بالنون. واللعب هنا هو الاستباق والانتضال يتدربون بذلك لقتال العدو وسموه لعباً لأنه بصورة اللعب ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم: إنا ذهبنا نستبق ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب. ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل، قال مجاهد: هي المراعاة أي يراعي بعضنا بعضاً ويحرسه، ثم اعتذر لهم يعقوب عليه السلام بشيئين أحدهما عاجل في الحال وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه، والثاني خوفه عليه من الذئب إن أغفلوا عنه برعيهم ولعبهم، وعدل أخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه. وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن يذهبوا به فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصُب الأمور وتكفي الخطوب أنهم إذا لخاسرون أي هالكون ضعفاً وخوراً وعجزاً.﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ﴾ بين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف، فلما ذهبوا به وأجمعوا: أي عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب. وان يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال: أجمع الأمر وأزمعه، بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإِلقاء وبمعنى التصيير، وجواب لما هو قولهم قالوا: يا أبانا انا ذهبا نستبق، أي لما كان كيت وكيت قالوا: والظاهر أن الضمير في أوحينا إليه عائد على يوسف وهو وحي إلهام. قال ابن عباس: هو وحي منام، ويدل على أن الضمير عائد على يوسف قوله لهم:﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾[يوسف: ٨٩].
وتقدم ان جواب لما هو قولهم قالوا، ونختار أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه تقديره سروا بذلك أي بذهابهم به وإجماعهم على ما يريدون أن يفعلوا به، ويكون قوله: وأوحينا إليه ليس داخلاً تحت جواب لما، بل هو استئناف إخبار بإِيحاء الله إلى يوسف عليه السلام، وانتصب عشاء على الظرف، ويبكون حال أي باكين قيل: وإنما جاؤا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذلك قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإِن الحياء بالعينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، وفي الكلام حذف تقديره وجاؤا آباهم دون يوسف عشاء يبكون فقال: أين يوسف؟ فقالوا: إنا ذهبنا نستبق.﴿ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ أي بمصدق الآن.﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ فما أنت بمؤمن لنا على كل حالة ولو في حالة الصدق. روي أنهم أخذوا جدياً أو سخلة فذبحوه ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا ليعقوب: هذا قميص يوسف فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا ارتاب فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه، قيل: كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاث آيات كان دليلاً ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب وألقاه على وجهه فأرتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف حين قدّ من دبر. قال الزمخشري: وسبقه إليه الحوفي فإِن قلت: على قميصه ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤا فوق قميصه بدم، كما يقول: جاء على جماله باحمال. فإِن قلت: هل يجوز أن يكون حالاً متقدمة؟ قلت: لا لأن حال المجرور لا يتقدم عليه. " انتهى ". ولا يساعد المعنى على نصبه على الظرف بمعنى فوق لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤا وليس الفوق ظرفاً لهم بل يستحيل أن يكون ظرفاً لهم. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالاً من الدم، لأن التقدير جاؤا بدم كذب على قميصه. " انتهى ". وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب. وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى يرشد إلى ما قاله أبو البقاء قال: بل سوّلت هنا، محذوف تقديره لم يأكله الذئب بل سولت. وقال قتادة: معنى سولت زينت.﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل.﴿ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ ﴾ أي المطلوب منه العون على احتماله ما تصفون من هلاك يوسف فالصبر على الرزية.
﴿ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ ﴾ قيل: كانوا من مدين قاصدين إلى مصر.﴿ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ﴾ وهو مالك بن دعر الخزاعي الذي يرد لهم الماء.﴿ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ﴾ أي أرسلها ليستقي الماء.﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ ﴾ أي أرسلها ليستقي الماء.﴿ قَالَ يٰبُشْرَىٰ ﴾ في الكلام حذف تقديره فتعلق يوسف بحبل الدلو فلما بصر به المولى قال: يا بشراي، وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ولفظة غلام نرجح ذلك إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد يطلق على الرجل الكامل. وقوله: يا بشراي، هو على سبيل السرور والفرح بيوسف عليه السلام إذ رأى أحسن ما خلق وأضاف البشرى إلى نفسه. وقرىء: يا بشراي بياء الإِضافة، ويا بشرى قيل: ذهب به الوارد إلى أصحابه فبشرهم به.﴿ وَأَسَرُّوهُ ﴾ أي أخفوه وكتموا أمره من وجدانهم له في الجب. وقالوا: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر وقال ابن عباس: الضمير في وأسروه وشروه لأخوة يوسف عليه السلام وأنهم قالوا للرفقة: هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. وانتصب: ﴿ بِضَاعَةً ﴾ على الحال، أي متجراً لهم ومكسباً.﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي لم يخف عليهم اسرارهم، أو هو وعيد لهم حيث استبعضوا ما ليس لهم.﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ الآية، وشروه أي باعوه. والظاهر أن الضمير في شروه عائد على السيارة، أي وباعوا يوسف. ومن قال ان الضمير في وأسروه عائد على اخوة يوسف جعله هنا عائداً عليهم أي وباعوا أخاهم يوسف بثمن بخس، وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس، أي زيف ناقص العيار ودراهم بدل من ثمن فلم يبيعوه بدنانير " ومعدودة " إشارة إلى القلة وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهماً لأن الكثرة يعسر فيها العدد بخلاف القليلة. قال ابن عباس: أربعون درهماً.﴿ وَكَانُواْ فِيهِ ﴾ الضمير عائد على يوسف وفيه الأجود ان يكون متعلقاً بالزاهدين وإن كان في صلة الألف واللام، لأن الظرف والمجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما بخلاف المفعول به. وتقدم الخلاف في ذلك في قوله:﴿ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ ﴾[الأعراف: ٢١].
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ ﴾ لم تتعرّض الآية لاسم من اشتراه، وذكر المفسرون فيه اختلافاً كثيراً. و " مثواه " مكان إقامته وهو كناية عن الإِحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس، ولام لامرأته تتعلق بيقال فهي للتبليغ، نحو قلت لك: لا باشتراه.﴿ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ ﴾ لعله إذا تدرّب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده فينفعنا بكفايته أو نتبناه ونقيمه مقام الولد. وقيل: كان عقيماً لا يولد له فتفرس فيه الرشد فقال ذلك.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه وأمر امرأته بإِكرام مثواه.﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه، أي حكمناه فيها ولام لنعلمه متعلقة بمحذوف اما قبله، أي ونمكنه واما بعده أي ولنعلمه.﴿ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ ﴾ كان ذلك الإِيحاء والتمكين. والأحاديث: الرؤيا. والضمير في على أمره عائد على يوسف، أي يدبره ولا يكله إلى غيره. والأشد عند سيبويه جمع واحده شدّة، وأشد كنعمة وأنعم، وقال الكسائي: شدّ وأشد نحو صل وأصل والأشد بلوغ الحلم والحكم: الحكمة، والعلم: النبوة. وقيل: الحكم بين الناس. والعلم: الفقه في الدين، وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير.﴿ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسناً في عنفوان شبابه، وآتاه الله الحكم والعلم على جزاء إحسانه.﴿ وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ﴾ الآية، المراودة: المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب. وجاء وهي مفاعلة من واحد نحو داويت المريض وكني به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله كان المعنى، وخادعته عن نفسه ولذلك عداه بعن. وقال تعالى: التي هو في بيتها ولم يصرح باسمها ولا بامرأة العزيز ستراً على الحرم والعرب تضيف البيوت إلى النساء، فتقول ربة البيت وصاحبة البيت. قال الشاعر: يا ربة البيت قومي غير صاغرة   ﴿ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ ﴾ هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب، قيل: وكانت ستة أبواب.﴿ هَيْتَ ﴾ اسم فعل بمعنى أسرع. ولك للتبيين أي لك أقول أمرته بأن يسرع إليها. وزعم الكسائي والفراء انها لغة حورانية وقعت لأهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها تعال. وانتصب: ﴿ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾ على المصدر، أي عياذاً بالله من فعل السوء. والضمير في أنه يعود على الله تعالى أي أن الله ربي أحسن مثواي أي نجاني من الجب وأقامني أحسن مقام.﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أي المجازون الإِحسان بالسوء وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء استعاذ أولاً بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شىء، ثم نبه على أن إحسان الله إليه لا يناسب أي يجازي بالسوء، ثم نفي الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالماً أضع الشىء غير موضعه.
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ الذي نقوله ان يوسف عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: قارنت لولا أن عصمك الله. قال ابن عطية: قول من قال ان الكلام قد تم في قوله: ولقد همت به وان جواب لولا في قوله: وهمّ بها، وان المعنى لولا ان رأى البرهان لهمّ بها فلم يهُمَّ يوسف عليه السلام يرده لسان العرب وأقوال السلف. " انتهى ". أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب. قال تعالى:﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاۤ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[القصص: ١٠] فقوله: ان كادت لتبدي به اما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه القائل، واما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً مع كونها قادحة في بعض المسلمين فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي رووا عن السلف لا يساعد عليهم كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفاً. ولا يدل عليه دليل لأنهم لم يقدروا والهمّ بها ولا يدل كلام العرب إلا أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشىء لغير دليل والبرهان الذي رآه هو ما آتاه الله من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله تعالى، ولا يمكن الهم به فضلاً عن الوقوع به.﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ ﴾ التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي براهيننا لنصرف عنه فتجعل الإِشارة إلى الرؤية أو الرأي والناصب للكاف مما دل عليه قوله: لولا أن رأى برهان ربه، ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف.﴿ وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ ﴾ الآية، أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها وهذه لمنعه ومراودته. وأصل استبق أن يتعدى بإِلى فحذف اتساعاً. " وقدت قميصه "، أي قطعته، والقد: القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولاً.﴿ مِن دُبُرٍ ﴾ أي من وراء. ﴿ وَأَلْفَيَا ﴾ أي وجدا وصادفا زوجها والمرأة تقول لبعلها سيدي، ولم يضف إليهما، لأن زوجها ليس سيداً ليوسف على الحقيقة.﴿ مَا جَزَآءُ ﴾ ما: نافية. وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط، وقولها ما جزاء، أي أن الذنب ثابت متقرر في حقه وأتت بلفظة سوء، أي مما يسوؤها وليس نصاً في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها أو ضربه إياها. وقولها إلا أن يسجن أو عذاب أليم يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم ولما أغرت بيوسف عليه السلام وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه. فقال: ﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ ولم يستو أولاً إلى القول ستراً عليها فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي راودتني، وأتى بضمير الغيبة إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعنيها بالإِشارة فيقول: هذه راودتني أو تلك روادتني لأن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة، ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلاً فيه إناءة ونصفة طلب الشاهد من كلٍ منهما فشهد شاهد من أهلها فقيل: كان ابن خالتها طفلاً في المهد أنطقه الله ليكون أدل على الحجة، وجواب الشرط فصدقت وفكذبت وهو على إضمار قد، أي فقد صدقت وفقد كذبت.﴿ فَلَمَّا رَأَى ﴾ أي زوجها.﴿ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ ﴾ أي ان قولك ما جزاء إلى آخره أو ان هذا الأمر وهو طمعها في يوسف. والخطاب في: ﴿ كَيْدِكُنَّ ﴾ لها ولجواريها أو لها وللنساء، ووصف كيد النساء بالعظم وان كان قد يوجد في الرجال لأنهن ألطف كيداً مما جُبلن عليه وبما تفرغن له واكتسب بعضهن من بعض وهنا أنفذ حيلة. وقال تعالى:﴿ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ ﴾[الفلق: ٤].
وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن لكونهن أكثر تفرغاً في غيرهن وأكثر تأنساً بأمثالهن.﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ﴾ أي هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به. وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها فقال:﴿ وَٱسْتَغْفِرِي ﴾ ثم ذكر سبب الاستغفار، وهو قوله:﴿ لِذَنبِكِ ﴾، ثم أكد ذلك بقوله:﴿ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ ﴾ ولم يقل من الخاطئات لأن الخاطئين أعم لأنه ينطلق على الذكور والإِناث بالتغليب خطىء إذ أذنب متعمداً. وقال الزمخشري: وما كان العزيز إلا حليماً، وروي أنه كان قليل الغيرة. " انتهى ". وتربة إقليم مصر اقتضت هذا وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس انس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جاء برأس الجارية مقطوعاً في طشت وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة ذلك الملك.
﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾ الآية، لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ويجوز فيه الوجهان، ونسوة كما ذكرنا جمع قلة وكنّ على ما نقل خمساً امرأة خبازة وامرأة ساقية وامرأة بوابة وامرأة سجانة وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر، ومعني في المدينة أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف وصرحوا بإِضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الأخطار، وما يجري لهم وعبّرْنَ بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها تخادعه دائماً عن نفسه، كما تقول: زيد يعطي ويمنع. ولم يقلن: راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونها قد شغفها حباً أي بلغ حبه شغاف قلبها الشغاف حجاب القلب وقيل سويداؤه. وقال امرؤ القيس: أتقتلني اني شغفت فؤادها   كما شغف المهنوءة الرجل الطاليوانتصب حباً على التمييز المنقول من الفاعل. والفتى: الغلام وعرفه في المملوك في الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ليقل: فتاي وفتاتي. وقد قيل غير المملوك وأصل الفتى في اللغة الشاب ولكنه لما كان جل الخدمة شباناً استعير لهم اسم الفتى، ثم نقمْن ذلك عليها فقلت: ﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي بين واضح للناس.﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بأمرأة العزيز ومكرهن هو اغتيابهن إياها وسوء مقالتهن فيها انها عشقت يوسف وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره.﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ الضمير عائد على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.﴿ وَأَعْتَدَتْ ﴾ أي عدت.﴿ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ﴾ أي يسرت وهيأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخاد والوسائد وغير ذلك.﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ﴾ ومعلوم أن مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين فقيل كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين.﴿ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ هذا الخطاب ليوسف عليه السلام وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه وفي الكلام حذف تقديره فخرج عليهن ومعنى أكبرنه أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع قيل كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.﴿ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ أي جرحنها كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي والتضعيف للتكثير فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف فكأنها غابت عن حسها والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم ولما فعلن هذه الفعل الصعب من جرح أيديهن وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه.﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ ﴾ أي حاشا يوسف أن يقارف ما رمته به ومعنى لله لطاعة الله أو لمكانته من الله أو لترفيع الله أن يرمى بما رمته به أو يذعن إلى مثله لأن تلك أفعال البشر وهو ليس منهم إنما ملك فعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله. قال الزمخشري: حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساء القوم حاشا زيد. قال حاشا أبي ثوبان ان به   ضنا عن الملحاة والشتموهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة فمعنى حاشا الله أي براءة الله وتنزيه الله انتهى ما ذكره من أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين لا فرق بين قولك قام القوم إلا زيد أو قام القوم حاشا زيد ولما مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد ومنهم هو من التمثيل براءة زيد من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع وأما ما أنشده: حاشا أبي ثوبان   البيت فهكذا أنشده أيضاً أبي عطية وأكثر النحاة وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز بيت آخر وهما من بيتين وهما: حاشا أبي ثوبان أن أبا   ثوبان ليس ببكمه قدمعمرو بن عبد الله ان به   ضنا عن الملحاة والشتم﴿ مَا هَـٰذَا بَشَراً ﴾ ولما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإِنسان نفين عنه البشرية وأثبتن له الملكية لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك وان كان لا يرى وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب: فلست لأنسى ولكن لملاك تنزل من جوّ السماء يصوب   وقال بعض المحدثين: قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة   حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتاًوانتصاب بشراً على لغة الحجاز وكذا جاء ما هن أمهاتهم فما منكم من أحد عنه حاجزين ولغة تميم الرفع قال ابن عطية: ولم يقرأ به وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع وهي قراءة ابن مسعود " انتهى ".﴿ قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ ذا اسم إشارة واللام لبعد المشار وكن خطاب لتلك النسوة والمعنى أن هذا الذي صدر منكن من الاكبار وتقطيع الأيدي ونفي البشرية عنه وإثبات الملكية له هو الذي لمتنني فيه أي في محبته ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها.﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ ﴾ وما موصولة والضمير في ما آمره عائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف تقديره ما آمره به أي من الموافقة فيما أريد واللام في لئن مؤذنة بقسم محذوف وجوابه.﴿ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ وجاءت النون المشددة لأنها آكد من المخففة ثم عطف عليه.﴿ وَلَيَكُوناً ﴾ بالنون الخفيفة لأن الصغار أخف من السجن فقالت له النسوة أطع وافعل ما أمرتك به فقال:﴿ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ ﴾ فاسند الفعل إليهن كلهن لما نصحن له وزين له مطاوعتها ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار الذل فالتجأ إلى الله والتقدير دخول السجن أحب إلي وقرأ يعقوب وجماعة السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي حبسهم إياي في السجن أحب إلي وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل لأنه لم يحبب ما يدعونه إليه قط وإنما هذان شران فآثر أحد الشرين على الآخر وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة لكن لما ترتب على تلك اللذة من معصية الله تعالى وسوء العاقبة لم يخطر له ببال ولما في الآخر من احتمال المشقة والصبر على النوائب وانتظار الفرج داعياً له في تخليصه آثره ثم ناط العصمة بالله واستسلم له كعادة الأنبياء والصالحين وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو فقال.﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي أمل إلى ما دعونني إليه وجعل الشرط قوله: إليهن.﴿ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ أي من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: والا تصرف عني فيه معنى طلب الصرف والدعاء وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن.﴿ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ﴾ أي حال بينه وبين المعصية.﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لدعاء الملتجىء إليه.﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بأحواله وما انطوت عليه نياته.﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ ﴾ أي ظهر والفاعل لبدا ضمير ويفسره ما يدل عليه المعنى أي بدا لهم هو أي رأى وبدا كما قال الشاعر: بدا لك من تلك القلوص بداء   هكذا قاله النحاة والمفسرون إلا من أجاز أن يكون الجملة فاعلة فإِنه زعم أن قوله ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي سجنه حتى حين والرد على هذا المذهب مذكور في النحو والذي أذهب إليه الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله ليسجنن أو من قوله السجن على قراءة الجمهور أو السجن على قراءة من قرأ بفتح السين والضمير في لهم للعزيز وأهله والآيات هي الشواهد الدالة على براءة يوسف وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين حتى حين والمعنى إلى زمان والحين يدل على مطلق الوقت ومن عين له هناز زماناً فإِنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف لا أنه موضوع في اللغة لذلك وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وعشقه لها وجعله زمام أمره بيدها هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف عليه السلام وروي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها ان هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره وأنا محبوسة محجوبة فاما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته وإلا حبسته كما أنا محبوسة فحينئذٍ بدا لهم سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر ان يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ ﴾ الآية في الكلام حذف تقديره فسجنوه فدخل معه فتيان روي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان أحدهما خبازه والآخر ساقيه واتهمهما الملك بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي فسجنهما ومع تدل على الصحبة واستحداثها فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله كان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويهديهم إلى الخير فأحبه الفتيان ولزماه وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له كن في أي البيوت شئت وكان يوسف صلى الله عليه وسلم قال لأهل السجن إني أعبر الرؤيا وأجيد ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع الضمير المتصل وكلاهما المدلول واحد ولا يجوز أن يقول اضربني ولا أكرمني واعصر في موضع المفعول الثاني وخمراً ليس المعصور إنما عصر ما يؤول ماؤه إلى الخمر فعبر عنه بما يكون مآله إلى الخمرية نبئنا يدل على أنه كان نبأهم على أنه كان يحسن تعبير الرؤيا.
﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ ﴾ الآية، لما استعبراه ووصفاه بالإِحسان افترض ذلك فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الاخبار بالغيب وأنه ينبئهما بما يجعل لهما من الطعام قبل أن يأتيهما ويصفه لهما وقيل كان ذلك في اليقظة وقيل كان في النوم فقالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فقال لهما:﴿ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ ﴾ وجعل ذلك تخليصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإِيمان ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى وروي أنه نبىء في السجن والظاهر أن قوله:﴿ إِنِّي تَرَكْتُ ﴾ استئناف إخبار بما هو عليه إذ كانا قد أحباه وكلفا به وبحسن أخلاقه ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه وفي الحديث:" لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "وعبر بتركت مع أنه لم ينشأ بتلك الملة قط إجراء للترك مجرى التجنب من أول حاله واستجلاباً لهما لأن يترك تلك الملة التي كانا فيها والذين لا يؤمنون هم أهل مصر ونبه على أصلين عظيمين الإِيمان بالله والإِيمان بدار الجزاء وكرر لفظه هم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل قال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة وان غيرهم مؤمنون بها ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي يرتكبها إلا كافر بدار الجزاء " انتهى ". ليست عندنا هم تدل على الخصوص وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة.﴿ وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ ﴾ لما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي بما ذكره من اخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله:﴿ مَا كَانَ لَنَآ ﴾ ما صح وما استقام لنا معشر الأنبياء.﴿ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ عموم في الملك والجني والأنسي فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر فشىء يراد به المشرك ويجوز أن يراد به المصدر أي شىء من الإِشراك فيعم الإِشراك ويلزم عموم متعلقاته ومن زائدة لأنها في حيز النفي إذا المعنى ما نشرك بالله شيئاً والإِشارة بذلك إلى شرعهم وملتهم.﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾ لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفئتين من عبادة الأصنام فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتمحض فيه النصيحة واحتمل قوله: يا صاحبي السجن ان يكون من باب الاضافة إلى الظرف والمعنى يا صاحبي السجن واحتمل أن يكون من باب إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل يا ساكني السجن كقوله تعالى:﴿ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ ﴾[الحشر: ٢٠] ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها فإِذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ثم كذلك حتى يصل إلى الإِذعان بالحق وقابل نفرق آبائهم بالوحدانية وجاء بصفة القهار تنبيهاً على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة وإعلاماً بعرف أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد والمعنى أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله تعالى فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادة الله تعالى ثم استطرد بعد هذا الاستفهام إلى الاخبار عن حقيقة ما تعبدون والخطاب بقوله:﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ لهما ولقومهما من أهل مصر ومعنى:﴿ إِلاَّ أَسْمَآءً ﴾ الا ألفاظاً أحدثتموها.﴿ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ﴾ فهي فارغة لا مسميات تحتها وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في الاعراف.﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾ أي ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال:﴿ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ ومعنى القيم الثابت الذي دلت عليه البراهين.﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ لجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.﴿ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ﴾ الآية لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهم ناداهما ثانياً لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب فروي أنهما قالا: ما رأينا شيئاً وإنما تحالمنا لنجربك فأخبرهما يوسف صلى الله عليه وسلم عن غيب علمه من قبل الله أن الأمر قد مضى ووافق القدرة وسواء كان ذلك منكما حلماً أم تحالماً وأفرد الأمر وان كان أمر هذا غير أمر هذا لأن المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن وهو اتهام الملك إياهما بسمه فرأيا ما رأيا أو تحالما بذلك.﴿ وَقَالَ ﴾ أي يوسف.﴿ لِلَّذِي ظَنَّ ﴾ أي أيقن هو أي يوسف.﴿ أَنَّهُ نَاجٍ ﴾ هو الساقي والذي يظهر أن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما قال لساقي الملك.﴿ ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ﴾ ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه والضمير في فأنساه عائد على الساقي ومعنى ذكر ربه أي ذكر يوسف لربه والإِضافة تكون بأدنى ملابسة وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن. و ﴿ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ مجمل فقيل سبع وقيل اثنا عشر والظاهر أن قوله: فلبث في السجن اخبار عن مدة مقامه في السجن منذ سجن إلى أن خرج.
﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ ﴾ الآية، لما دنا فرج يوسف صلى الله عليه وسلم رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها أرى يعني في منامه ودل على ذلك أفتوني في رؤياي وأرى حكاية حال فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت وجاء لفظ بقرات وسنبلات مجموعاً جمع سلامة في المؤنث لأنه موضوع في القلة فناسب لفظ سبع وللرؤيا مفعول تعبرون قوي تعدى الفعل باللام لتأخره فتقول زيداً ضربت ولزيد ضربت فلو تأخر المفعول عن الفعل لم يجىء باللام إلا قليلاً كقول الشاعر: فلما ان توافقنا قليلاً   انحنا للكلا كل ما ارتمينايريد انحنا الكلاكل وأضغاث خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي تلك الرؤيا أضغاث أحلام والأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام وهو ما يكون من حديث النفس أو وسوسة الشيطان أو مزاج الإِنسان وأصله أخلاط النبات استعير للأحلام وجمعوا الأحلام وإن كانت رؤياه واحدة اما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ونفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي لسنا من أهل تعبير الرؤيا.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ﴾ أي تذكر ما سبق له مع يوسف.﴿ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ أي مدة طويلة والجملة من قوله: واذكر حالية وأصله إذتكر أبدلت التاء دالاً وأدغمت الدال فيها فصار ادّكر.﴿ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ ﴾ أي أخبركم عمن عنده علمه.﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ أي ابعثوني وفي الكلام حذف تقديره فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقص عليه رؤيا الملك قال: تزرعون إلى آخره تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول أحدهما تعبير بالمعنى لا باللفظ الثاني عرض رأي وأمر به وهو قوله: فذروه في سنبله والثالث الاعلام بالغيب في أمر العام الثاني والظاهر أن قوله: تزرعون سبع سنين دأباً خبر أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون السبع لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد.﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ﴾ إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل فإِذا بقيت منها انحفظت والمعنى اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجمع الطعام ويتركب ويؤكل الاقدم فالاقدم فإِذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي سبع سنين شداد لدلالة قوله: سبع سنين عليه وأسند الأكل إليهن في قوله: يأكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيها كما قال تعالى:﴿ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً ﴾[يونس: ٦٧] ومعنى تحصنون تحرزون وتخبئون مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ وقرىء: دأباً بفتح الهمزة وسكونها وما شرطية وجوابه فذروه قال ابن عباس.﴿ يُغَاثُ ﴾ من الغيث وقيل من الغوث وهو من الفرج ففي الأول يبنى من ثلاثي وفي الثاني من رباعي تقول: غاثنا الله من الغيث وأغاثنا من الغوث وقرىء: تعصرون بالتاء على الخطاب وقرىء: بالياء على الغيبة والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة وفي الكلام حذف تقديره فأتى المستفتي يوسف إلى الملك وأخبره بفتيا يوسف صلى الله عليه وسلم فقال الملك ائتوني به فلما جاء الرسول يوسف قال له ارجع إلى ربك وهو الملك فسأله ما بال النسوة ليعلم الملك براءة يوسف صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه فأحضر الملك النسوة وقال الملك: ما خطبكن ومن كرم يوسف صلى الله عليه وسلم أنه سكت عن زوج العزيز ما صنعت به وسببت فيه من السجن والعذاب واقتصر على ذكر مقطعات الأيدي.﴿ إِنَّ رَبِّي ﴾ أي الله تعالى.﴿ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ أراد كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره واستشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قذف به فالضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب وجاء النسوة بالألف واللام للعهد في قوله: وقال النسوة كما قال تعالى:﴿ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ ﴾﴿ المزمل: ١٥ـ١٦].
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ ﴾
في الكلام حذف تقديره فرجع إليه الرسول فأخبره بما قال يوسف فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز وقال لهنّ ما خطبكنّ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة ونزه جانب يوسف بقوله:﴿ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ﴾ ومراودتهن له قولهن له أطع مولاتك فأجاب النسوة بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة وتنزيه يوسف بقولهن:﴿ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ ﴾ فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن في براءة يوسف أقرت بأعظم ما أقررن به إذ كانت هي من أقوى سبب فيما جرى من المراودة ومن سجن يوسف.﴿ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ ﴾ وقرىء: حصحص مبنياً للمفعول واتبعت ولني خزائن أرضك.﴿ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾.
﴿ ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ ﴾ الآية، الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت والمعنى ذلك الإِقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته وأكذب عليه وأرمه بذنب هو بريء منه ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها:﴿ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ ﴾ والنفوس مائلة إلى الشهوات أمارة بالسوء ومن ذهب إلى أن قوله ذلك ليعلم إلى آخره من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف إذ لم يكن يوسف حاضراً وقت سؤال الملك النسوة وإقرار امرأة العزيز بما أقرت به.﴿ وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ الآية، روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه يوسف عليه السلام بجميعها فتعجب منه ومعنى استخلصه اجعله خالصاً لنفسي وخاصاً لي وفي الكلام حذف تقديره فأتوه به والظاهر أن الفاعل بكلمة ضمير يوسف أي فلما كلم يوسف الملك ورأى الملك حسن منطقة بما صدق به الخير.﴿ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ ﴾ أي ذو مكانة ومنزلة.﴿ أَمِينٌ ﴾ مؤتمن على كل شىء ولما وصفه الملك بالتمكن عنده والأمانة طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين.﴿ قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ ﴾ أي ولني خزائن أرضك.﴿ إِنِّي حَفِيظٌ ﴾ أحفظ ما تستحفظه.﴿ عَلِيمٌ ﴾ بوجوه التصرف وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ولا خلل معهما لعامل وجاء حفيظ بضمة المبالغة وهي مقصودة ولمناسبة قوله عليم وكان الملك لا يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع.﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك التمكين في نفس الملك.﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ مصر.﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ أي يتخذ منها مباءة ومنزلاً كل مكان أراد فاستولى على جميعها ودخلت تحت سلطانه روي أن الملك توجه بتاجه وختمه ورداه بسيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل العزيز قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته زليخا فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء لأن العزيز كان لا يطأها فولدت له ولدين أفراثيم ومنشا وأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبقى معه شىء ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم ثم استرقهم جميعاً فقالو: والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله في وفيما خولني فما ترى؟ قال: الرأي رأيك، قال: فإِني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين.﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا ﴾ أي بنعمتنا من الملك والغنى غيرهما ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن ثم ذكر أن أجر الآخرة خير لأنه الدائم الذي لا يفنى وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ﴾ الآية، أي جاؤا من القريات من أرض فلسطين بغور الشام إلى مصر ليمتاروا منها فتوصلوا إلى يوسف للميرة فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيه إذ ذاك ولأن همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم وكان يتأمل ويتفطن وإنكارهم إياه كان لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ولذهابه عن قلة أفكارهم فيه ولبعد ماله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحاً في البئر مشرياً بدراهم معدودة حتى لو تحيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف.﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه وفي الكلام حذف تقديره وقد كان استوضح منهم أنه لهم أخ قعد عند أبيه روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه أظنكم جواسيس فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا نحن أبناء رجل صديق وكنا اثني عشرة ذهب منا واحد في البرية وبقي أصغرنا عند أبينا ونحن جئنا للميرة وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة بعيراً فقال لهم يوسف ولم تخلف أحدكم قالوا لمحبة أبينا فيه قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ثم ذكر ما يحرضهم به على الإِتيان بأخيهم بقوله:﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّيۤ أُوفِي ٱلْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ ﴾ أي المضيفين يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ثم توعدهم إن لم يأتوا إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل واحتمل قوله:﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ ان يكون نهياً وان يكون نفياً مستقلاً ومعناه النهي وحذفت النون وهو مرفوع كما حذفت في قوله:﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾[الحجر: ٥٤]، وان يكون نفياً داخلاً في الجزاء معطوفاً على محل فلا كيل لكم عندي فيكون مجزوماً، والمعنى: انهم لا يقربون له بلداً ولا طاعة وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي من الله وإلا فإِنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته وليفسر الرؤيا الأولى.﴿ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ﴾ أي سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلوا ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى وقرىء:﴿ لِفِتْيَانِهِ ﴾ ولفتيته فالكثرة على مراعاة المأمورين والقلة على مراعاة المتناولين فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم.﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ ﴾ أي يعرفون حق ردها وحق التكريم بإِعطاء البدلين فيرغبون فيها.﴿ إِذَا ٱنْقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ﴾ وفرغوا ظروفهم ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل. و ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف قيل وكانت بضاعتهم النعال والأدم.﴿ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُواْ يٰأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ ﴾ الآية، أي رجعوا من مصر ممتارين بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإِرسال أخيهم معهم وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم إحسان العزيز إليهم من ردّ بضاعتهم وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر وانه استدعى منهم العزيز أي يأتوا بأخيهم حتى يتبين له صدقهم أنهم ليسوا جواسيس وقولهم: منع منا الكيل إشارة إلى قول يوسف قال: فإِذا لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ويكون منع يراد به في المستأنف وإلا فقد كيل لهم وجاؤا بالميرة لكن لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع وقيل أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ولقولهم فأرسل معنا أخانا نكتل ويقويه قراءة يكتل بالياء أي يكتل أخونا فإِنما منع كيل بعبره لغيبته.﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ هذا تقرير وتوقيف وتألم من فراقه بنيامين ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف قلتم فيه وإنا له لحافظون كما قلتم في هذا فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف واستسلم لله فقال:﴿ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً ﴾ وقرىء: حافظاً اسم فاعل وانتصب حفظاً وحافظاً على التمييز والمنسوب له الخير هو حفظ الله والحافظ الذي من جهة الله وجاز الزمخشري أن يكون حافظاً حالاً وليس بجيد لأن فيه تقييد خير بهذه الحالة.﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾ اعتراف بأن الله تعالى هو ذو الرحمة الواسعة فارجو منه حفظه ولا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.
﴿ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ ﴾ الآية، ما نبغي استفهامية أي شىء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا وكانوا قالوا لأبيهم قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب وما أكرمنا كرامته والجملة من قوله: هذه بضاعتنا ردت إلينا، موضحة لقولهم: ما نبغي والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير فنستظهر بها أو نستعين بها.﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾ في رجوعنا إلى الملك.﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا ﴾ فلا يصيبه شىء مما تخافه وكرر حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله.﴿ وَنَزْدَادُ ﴾ باستصحاب أخينا وسق بعير على أوساق بعيرنا لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه والإِشارة بذلك الظاهر اما إلى كيل بعير أي يسير بمعنى يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه قال الزمخشري: أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني ما يكال لهم فازدادوا إليه ما يكال لأخيهم ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي حمل بعير واحد شىء يسير لا يخاطر لمثله بالولد كقوله: ذلك ليعلم " انتهى ". يعني ظاهر الكلام أنه من كلامهم وهو من كلام يعقوب كما أن قوله: ذلك ليعلم ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز وهو من كلام يوسف وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل ولما كان يعقوب غير مختار لإِرسال ابنه وألحوا عليه في ذلك علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله إذ به تؤكد العهود وتشدّد.﴿ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ جواب للحلف لأن معنى بحتى تؤتون موثقاً حتى تحلفوا إلى لتأتنني به وقوله:﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والمعنى تعمكم الغلبة عن جميع الجهات حتى لا تكون لكم حياة ولا وجه مخلص وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله: لتأتنني وان كان مثبتاً بمعنى النفي لأن المعنى لا تمتنعون من الإِتيان به لشىء من الأشياء إلا أن يحاط بكم ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم: أنشدك الله إلا فعلت أي ما أنشدك إلا الفعل وفي الكلام حذف تقديره فأجابوه إلى ما طلب.﴿ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ ﴾ يعقوب.﴿ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ ﴾ من طلب الموثق وإعطائه.﴿ وَكِيلٌ ﴾ رقيب مطلع ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد وهو خشية العين وكانوا أحد عشر كرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله ابن عباس: والعين حق وفي الحديث" أن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر "وفي التعوذ من كل عين لامة ويظهر أن خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أن محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف ولم يكن فيهم في الكرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف.﴿ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ﴾ أي هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد فعليه وحده توكلت ومن حيث أمرهم أبوهم أي من أبواب متفرقة روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: ان أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا وفي كتاب أبي منصور الهمداني أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف صلى الله عليه وسلم فبكى وجواب لما قوله:﴿ مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان ظرف زمان جاز أن يكون معمولاً لما بعدما النافية لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو فدل ذلك على أن لما حرف يترتب جوابه على ما بعده.﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ ﴾ يعني لقوله: ان الحكم إلا لله وما بعده وعلمه بأن القدر لا يرفعه الحذر وهذا ثناء من الله تعالى على يعقوب عليه السلام.﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾ روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به فقال: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً وهذا إلا ثاني معه فيكون معي وبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال: من يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه، وقال: أنا أخوك يوسف.﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ ﴾ فلا تحزن.﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ بنا فيما مضى فإِن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير فلا تعلمهم بما أعلمتك وعن ابن عباس تعرف إليه أنه أخوه وهو الظاهر قال ابن عطية: ويحتمل أن يشير بقوله: ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك " انتهى ". ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا لأمكن على ما بعده لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف وأما ذكر فتيانه فبعيد جداً لأنه لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: قال لفتيانه وقد حال بينهما قصص واتسق الكلام مع الأخوة اتساقاً لا ينبغي أن يعدل عن أن الضمير عائد إليهم وإن ذلك إشارة إلى ما كان يلقي منهم قديماً من الأذى إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف والظاهر أن الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه لم يباشر ذلك بنفسه بل أمر غيره من فتيانه أو غيرهم أن يجعلها وقال ابن عمر وابن عباس وجماعة السقاية إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس.﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ﴾ أي نادى منادٍ اذن أعلم وأذن أكثر الاعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم: ذلك والظاهر أن العير الإِبل وقال مجاهد: كانت دوابهم حميراً ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: يا خيل الله اركبي ولذلك جاء الخطاب.﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ فروعي المحذوف ولم يراع العير كما روعي في اركبي وفي قوله: والعير التي أقبلنا فيها ويجوز أن يطلق العير على القافلة أو الرفقة فلا يكون من مجاز الحذف.﴿ قَالُواْ ﴾ أي إخوة يوسف.﴿ وَأَقْبَلُواْ ﴾ جملة حالية أي وقد أقبلوا.﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ أي على طالبي السقاية أو على المؤذن إن كان أريد به جمع كأنه جعل مؤذنين ينادون وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة العظيمة وقالوا:﴿ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ﴾ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم واحتمل أن تكون ماذا استفهاماً في موضع نصب بتفقدون واحتمل أن يكون ما وحدها استفهاماً مبتدأ وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما وتفقدون صلة لذا والعائد محذوف أي تفقدونه. و ﴿ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ ﴾ هو المكيال وهو السقاية سماه أولاً بإِحدى جهتيه وآخراً بالثانية.﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِ ﴾ أي لمن دل على سارقه وفضحه وهذا جعل.﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾ من كلام المؤذن أي وأنا بحمل البعير كفيل أودية إلى من جاء به وأراد به وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.﴿ قَالُواْ تَٱللَّهِ ﴾ اقسموا بالتاء من حروف القسم لأنها يكون فيها التعجب غالباً كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر العظيم وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الرمال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح وعفة وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه ابلهم لئلا تنال زرع الناس فأقسموا على إثبات شىء قد علموه منهم وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد ثم استأنفوا الاخبار عن نفي السرقة عنهم وأن ذلك لم يوجد منهم قط. قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل مما وكما أبدلت في تراث وفي التوراة والتخمة ولا تدخل التاء في القسم إلا في الله من بين أسمائه تعالى وغير ذلك لا تقول تا الرحمن وتا الرحيم " انتهى ". أما قوله والتاء في تالله بدل من واو فهو قول أكثر النحويين وقال السهيلي: انها أصل بنفسها وليست بدلاً من واو وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أن الأصل ووراه من ورى الزند ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة وذلك مذكور في النحو وأما قوله: فلا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب وعلى الرحمن وعلى حياتك قالوا: ترب الكعبة وتالرحمن وتحياتك والظاهر اتحاد الضمائر في قوله:﴿ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ﴾ إذ التقدير إذ ذاك قالوا: جزاء الصاع أي سرقته من وجد الصاع في رحله وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته وجزاؤه مبتدأ ومن مبتدأ فإِن كانت شرطية فوجد في رحله الخبر وجواب الشرط فهو جزاؤه وإن كانت موصولة فوجد في رحله صلتها وفهو جزاؤه في موضع خبرها، قال ابن عطية: والضمير في قالوا جزاؤه للسارق وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط وقال الزمخشري: المعنى قالوا: جزاء سرقته ويكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر والأصل جزاؤه من وضع في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو كما تقول لصاحبك من أخو زيد فتقول أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ ثم تقول فهو أخوه مقيماً للمظهر مقام المضمر ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو زيد قام زيد وينزه القرآن عنه وقال الزمخشري أيضاً: جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم افتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم ثم تقول ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله المسؤول عنه جزاؤه وعلى هذا التقدير ليس فيه كبير فائدة إذ قد علم من قوله فما جزاؤه ان الشىء المسؤول عنه جزاء سرقته فأي فائدة في نطقهم بذلك وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي ومعنى فهو جزاؤه أي فاستعباده إذ كانت عادتهم استعباد السارق.﴿ كَذٰلِكَ ﴾ أي مثل ذلك الجزاء وهو الاسترقاق.﴿ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ ﴾ أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنا في أهل السرقة.
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِْ ﴾ قيل: قال لهم من وكل بهم لا بد من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم فانطلق بهم إلى يوسف عليه السلام فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة وتمكين الحيلة واتقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإِنه أطيب لنفسك وأنفسنا فاستخرجها منه.﴿ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه وقولهم.﴿ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ﴾ لا يدل على الجزم بأنه سرق بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي إن كان وقع منه سرقة فهو تأسى بمن سرق قبله فقد سرق أخ له من قبل والتعليق على الشرط على أن السرقة في حق بنيامين وأخيه ليست مجزوماً بها كأنهم قالوا: إن كان هذا النهي رمى به بنيامين حقاً فالذي رمى به يوسف من قبل حق لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ولذلك قالوا ان ابنك سرق وقيل حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل لأن أخاه يوسف قد كان قد سرق فعلى هذا القول يكون قولهم: انحاء على يوسف وبنيامين وقولهم: هذا هو بحسب الظاهر والأخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم وتختص بالشقيقين وتنكير أخ في قولهم: فقد سرق أخ له من قبل لأن الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له: لأنه كان شقيقه والجمهور على أن السرقة التي نسبت إلى يوسف صلى الله عليه وسلم هي أن عمته ربته وشب عندها وأراد يعقوب أخذه فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق وكانت متوارثة عندهم فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت: فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف فاسترقته حسبما كان عندهم في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه والضمير في فأسرها يفسره سياق الكلام أي الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم: والظاهر من قوله:﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ خطابهم بهذا القول في الوجه فكأنه أسر كراهية مقالتهم ثم وبخهم بقوله: أنتم شر مكانا، وفيه إشارة إلى تكذيبهم ومعنى:﴿ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ يعني هو أعلم بما تصفون منكم لأنه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه.﴿ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ﴾ الآية استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق ومعنى كبيراً في السن أو القدر وكانوا قد اعلموا يوسف بأنه كان له ابن هلك وهذا شقيقه ليستأنس به وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير وموته على ما سبق ومعنى مكانه أي بدله على جهة الاسترهان والاستبعاد وقوله: من المحسنين بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد ان أسديتها إلينا. و ﴿ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ﴾ تقدم الكلام عليه في معاذ الله إنه ربي.﴿ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ﴾ استفعل هنا بمعنى المجرد يئس واستيأس بمعنى واحد نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب ومعنى خلصوا نجياً انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضاً والنجي فعيل بمعنى فاعل كالخليط والعشير وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل النجوى بمعنى التناجي وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحداً كان أو جماعة مؤنثاً أو مذكراً.﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ في السن وهو روبيل ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم وما زائدة أي ومن قبل هذا فرطتم في يوسف ومن قبل متعلق بفرطتم وقد جوزوا في إعرابه وجوهاً أحدها أن تكون ما مصدرية أي ومن قبل تفريطكم قال الزمخشري: على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه ووقع من قبل تفريطكم في يوسف، وقال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون قوله: من قبل متعلقاً بما فرطتم وإنما يكون ما على هذا مصدرية التقدير من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر وبهذا المقدر يتعلق قوله: من قبل، " انتهى ". وهذا قول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو أن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء ومن قبل في موضع الخبر وذهلاً عن قاعدة عربية وحق لهما أن يذهلا وهو أن هذه الظروف التي هي غايات إذ أبنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرت أو لم تجر. تقول يوم السبت مبارك والسفر بعده لا يجوز والسفر بعد وعمرو جاء وزيد خلفه ولا يجوز أن يقال وزيد خلف على ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ ومن قبل خبر وهو مبني وذلك لا يجوز وهو مقرر في علم العربية ولهذا ذهب أبو علي إلى أن المصدر مرفوع بالابتداء وفي يوسف هو الخبر أي كائن أو مستقر في يوسف والظاهر أن في يوسف معمول لقوله: فرطتم لا انه في موضع خبر وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون ما مصدرية والمصدر المسبوك في موضع نصب والتقدير الم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً ومن قبل تفريطكم في يوسف وقدره الزمخشري وتفريطكم من قبل في يوسف وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد لأن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد وبين المعطوف فصار نظير ضربت زيداً وبسيف عمراً وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر واما تقدير الزمخشري وتفريطكم من قبل في يوسف فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل الحرف مصدري والفعل عليه وهو لا يجوز وأجاز ذلك أيضاً أن تكون موصولة بمعنى الذي قال الزمخشري: ومحله الرفع أو النصب على الوجهين " انتهى ". يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز ومعنى النصب أن يكون عطفاً على المصدر المنسبك من قوله: ان أباكم قد أخذ عليكم وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو وبين المعطوف فأحسن هذه الوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ومنه برح الخفاء أي ظهر وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح معنى فارق وعني بالأرض أرض مصر التي فيها الواقعة ثم غيا ذلك بغايتين إحداهما خاصة وهي قوله: حتى يأذن لي أبي في الإِنصراف إليه والثانية عامة وهي قوله: أو يحكم الله لي لأن أذن أبيه له وهو من حكم الله تعالى في مفارقة أرض مصر وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضاً لحكم الله ورجوعاً إلى من له الحكم حقيقة وقعوده التضييق على نفسه كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه وفي الكلام حذف تقديره فرجعوا إلى أبيهم وأخبروه بالقصة وقول من قال: ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله ابن عباس: وبل للإِضراب فيقتضي كلاماً محذوفاً قبلها حتى يصح الاضراب فيها وتقديره ليس الأمر حقيقة كما أخبر ثم بل سولت وتقدم شرح سولت وإعراب فصبر جميل ثم ترجى من الله تعالى أن يأتيه بهم وهم يوسف وبنيامين وكبيرهم على الخلاف الذي فيه وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف وكان ينتظرها ولحسن ظنه بالله في كل حال ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ووصفه الله تعالى بهاتين الصفتين لائق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه وتسليم لحكم الله فيما جرى عليه والضمير في بهم عائد على يوسف وأخيه وعلى كبيرهم الذي امتنع أن يسير معهم إلى أبيهم وباقي الأخوة كانوا عند يعقوب صلى الله عليه وسلم.﴿ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ ﴾ الآية، وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤا به وأنه ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم: وجعل يتفجع ويتأسف ونادى يعقوب الأسف على سبيل المجاز على معنى هذا زمانك فاحضر والظاهر أنه مضاف إلى ياء المتكلم قلبت الياء ألفاً كما قالوا في يا غلامي يا غلاماً وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين والقائل فلن أبرح الأرض فقد ابنه يوسف فتأسف عليه وحده ولم يتأسف عليهما لأنه هو الذي لا يعلم أحي هو أم ميت بخلاف أخويه ولأنه كان أصل الرزايا عنده أو ترتبت عليه وكان أحب أولاده إليه وكان دائماً يذكره ولا ينساه وابيضاض عينيه من توالي العبرة عليهما فينقلب سواد العين إلى بياض كدر والظاهر أنه كان عمي لقوله تعالى:﴿ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً ﴾[يوسف: ٩٦].
وقال:﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ ﴾[فاطر: ١٩] فقابل البصير بالأعمى وعلل الابيضاض بالحزن وإنما هو من البكاء وهو ثمرة الحزن فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن والكظيم اما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي شديد الكظم كما قال:﴿ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ ﴾[آل عمران: ١٣٤]، ولم يشك يعقوب إلى أحد وإنما كان يكتمه في نفسه ويمسك همه في صدره فكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر واما أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول وهو لا ينقاس وقاله قوم كما قال تعالى:﴿ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾[القلم: ٤٨] وجواب القسم تفتؤ حذفت منه لا وحذفها جائز والمعنى لا تزال واسمها ضمير الخطاب وتذكر خبر تفتؤ وحتى للغاية بمعنى إلى أن فكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى أن تهلك فقال هو:﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾ أي لا أشكو إلى أحد منكم ولا غيركم. قال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله فيبثه أي ينشره.﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أعلم من صفة الله ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب.﴿ ٱذْهَبُواْ ﴾ أمر بالذهاب إلى أرض مصر التي جاؤا منها وتركوا بها اخويهم بنيامين والمقيم بها وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء والطلب بالحواس ويستعمل في الخير والشر وقرىء: بالجيم والمعنى فتجسسوا شيئاً من أمر يوسف وأخيه وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال: فلن أبرح الأرض إنما أقام مختاراً وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه.﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ ﴾ الآية في الكلام حذف تقديره فذهبوا من الشام إلى مصر فلما دخلوا عليه والضمير في عليه عائد على يوسف وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسيس نبأ يوسف وأخيه والضر الهزال من الشدة والجوع والبضاعة كانت زيوفاً قاله ابن عباس. ثم التمسوا منه إيفاء الكيل وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه.﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ﴾ أي بالمسامحة والإِغماض عن رداءة البضاعة أو زدنا على حقنا فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة.﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم ﴾ الآية، نسبهم اما إلى جهل المعصية واما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة وقيل أتاهم من جهة الدين وكان عليه السلام حليماً موفقاً فكلمهم مستفهماً عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال: هل علمتم أي قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه فلذلك أقدمتم عليه يعني هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه لأن علم القبيح يدعو إلى الاستقباح والاستقباح يجر التوبة فكان كلامه شفقة عليهم ونصحاً لهم في الدين وإيثار حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور.﴿ قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ ﴾ الآية، لما خاطبهم بقوله: هل علمتم، أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم منهم بحالهم فيقال انه كان يكلمهم من وراء حجاب فرفعه ووضع التاج وتبسم وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه ورأوا لمعة بياض كالشامة في فرقة حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة فتوسموا أنه يوسف واستفهموه استفهام استخبار وقيل: استفهام تقرير لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها ولما استفهموه أجابهم فقال: أنا يوسف كاشفاً لهم أمره وزادهم في الجواب قوله: وهذا أخي لأنه سبق قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه وإن كان معلوماً عندهم وتوطئة لما ذكر بعد من قوله:﴿ قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ ﴾ أي بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة ثم ذكر أن سبب من الله تعالى هو بالتقوى والصبر والأحسن أن لا يخص التقوى بحالة وإلا الصبر وقرأ قنبل ويتقي فقيل هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وقيل جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول لم يرمِ زيد وقد حكوا ذلك لغة وقيل هو مرفوع ومن موصولة بمعنى الذي وعطف عليه مجزوم وهو يصبر وذلك على التوهم كأنه توهم أن من شرطية ويتقي مجزوم والمحسنين عام يندرج فيه من تقدم أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين فكأنه قيل لا يضيع أجرك وآثرك الله فضلك بالملك أو بالصبر والعلم قالهما ابن عباس.﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ الآية، التثريب التأنيب والعتب وعبر بعضهم عنه بالتعبير ومنه إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب عليها أي لا يعيرها وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة لجلد فضرب مثلاً للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب بهاء الوجه وتثريب اسم لا وعليكم الخبر واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم قال الزمخشري: فإِن قلت بم تعلق اليوم قلت بالتثريب أو المقدر عليكم من معنى الاستقرار أو بيغفر والمعنى لا أثربكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام ثم ابتدأ فقال:﴿ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم يقال: غفر الله لك ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعاً ومنه قول المشمت: يغفر الله لكم ويصلح بالكم أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران لما تجدد يومئذٍ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم " انتهى ". أما قوله: ان اليوم متعلق بالتثريب فهذا لا يجوز لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بقوله: عليكم وعليكم اما أن يكون خبراً أو صفة لتثريب ولا يجوز الفصل بينهما لأن معمول المصدر من تمامه وأيضاً لو كان اليوم متعلقاً بتثريب لم يجز بناؤه وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى الممطول ويسمى المطول وكان يكون معرباً منوناً واما تقديره الثاني فتقدير حسن ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء وابتدؤا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. واما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقاً بيغفر فقول وقد وقف بعض القراء على عليكم وابتدأ اليوم يغفر الله لكم ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله تعالى بالصفة التي هي سبب الغفران وهو أنه تعالى أرحم الراحمين فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة والباء في بقميص الظاهر أنها للحال أي مصحوبين أو ملتبسين به والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف عليه السلام بمنزلة قميص كل أحد، قال ابن عطية: وهكذا نبين الغرابة في أن وجد يعقوب ريحه من بعد ولو كان من قمص الجنة كما قيل ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد وقوله: فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً، يدل على أنه علم أنه عمي من الحزن اما باعلامهم واما بوحي من الله تعالى، وقوله: يأت بصيراً يظهر أنه بوحي من الله تعالى وأهلوه الذين أمر أن يؤتى بهم سبعون وقيل غير ذلك وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى ستمائة ألف مع قرب المدة عجب عظيم ومعنى يأت يأتيني وانتصب بصيراً على الحال ثم أمرهم بأمرين أحدهما الذهاب بقميصه إذ كان أسر إليه ارتداد بصر أبيه بإِلقاء قميصه على وجهه. والأمر الثاني إتيانهم بأهلهم جميعاً لتكمل مسرته بذلك.﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ الآية، يقال فصل من البلد يفصل فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشىء فصلاً فرق وهو متعد ومعنى فصلت العير انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريباً. من بيت المقدس وهو الصحيح لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن وقرأ ابن عباس ولما انفصلت قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام هاجت ريح فحملت عرقه وقيل غير ذلك ومعنى لأجد لأشم فهو وجود حاسة الشم وقال الشاعر: واني لأستشفي بكل غمامة   يهب بها من نحو أرضك ريحومعنى: ﴿ تُفَنِّدُونِ ﴾ قال ابن عباس تسفهون وتجهلون وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شيخ مفند أي: قد فسد رأيه ولا يقال عجوز مفندة لأن المرأة لم يكن لها قط رأي أصيل فيدخله التفنيد ولولا هنا حرف امتناع لوجود وأن تفندون في موضع المبتدأ تقديره لولا تفنيدكم وجوبها محذوف قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني " انتهى ". وقد يقال تقديره لولا أن تفندون لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت لأن وجدان ريحه دال على حياته والمخاطب بقوله: تفندون الظاهر أنه من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غيره الذين راحوا يمتارون إذ كان أولاده جماعة وقيل المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرشاد قال ابن عباس: المعنى إنك لفي خطاك وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين.
﴿ فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ ﴾ ان زائدة للتأكيد وزيادتها بعد لما قياس مطرد قال ابن عباس: البشير كان يهوذاً لأنه كان جاء بقميص الدم والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير وقوله:﴿ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ من حياة يوسف وإن الله تعالى يجمع بيننا ولما رجع إليه بصره وقرت عينيه بالمسير إلى ابنه يوسف وقررهم على قوله:﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ ﴾ طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم واعترفوا بالخطأ السابق منهم وسوف أستغفر لكم عدة لهم بالاستغفار بسوف وهي ابلغ في التنفيس من السين فعن ابن مسعود أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر وعن ابن عباس إلى ليلة الجمعة وعنه إلى سحرها ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله: انه هو الغفور الرحيم وفي الكلام حذف تقديره فامتثلوا ما أمرهم به يوسف من الذهاب والإِتيان بأهلهم.﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ الآية، ذكروا أن يوسف جهز إلى أبيه جهاز أو مائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام قيل والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعون مصر، قال: لا، ولكن هذا ولدك فلما لقيه يعقوب قال: السلام عليك يا مذهب الأحزان آوى إليه إبويه أي ضمهما إليه وعانقهما والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل فقال الحسن وابن إسحاق: كانت أمه بالحياة وظاهر قوله: ادخلوا مصر إنه أمر بإِنشاء دخول مصر، قال السدي: قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم " انتهى ". فيبقى قوله: فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب لهم مضرب أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه ومعنى ادخلوا أي تمكنوا واستقروا فيها والظاهر تعليق الدخول على مشيئة الله تعالى لما أمرهم بالدخول علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئته تعالى وما لم يشأ لم يكن.﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ ﴾ والعرش سرير الملك ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخصهما بذلك تكريماً لهما دون إخوته والضمير في:﴿ وَخَرُّواْ ﴾ عائد على أبويه واخوته وظاهر قوله: وخروا له سجداً انه السجود المعهود وان الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله:﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾[يوسف: ٤] الآية، وكان السجود إذ ذاك جائزاً من باب التكريم بالمصافحة وتقبيل اليد والقيام مما شهر بين الناس من باب التعظيم والتوقير.﴿ وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ أي سجودكم هذا تأويل أي عاقبة رؤياي ان تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ومن متعلق برؤياي والمحذوف في من قبل تقديره من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي ثم ابتدأ يوسف بتعديد نعم الله تعالى عليه فقال:﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ﴾ أي صادقة رأيت ما وقع لي في منام يقظة حقيقة لا باطل فيها ولا لغو وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض وأحسن أصله أن يتعدى بإِلى قال تعالى:﴿ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾[القصص: ٧٧] وقد يتعدى بالباء قال تعالى:﴿ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾[البقرة: ٨٣] وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً عن ذكر ما يتعلق بفعل إخوته وتناسياً لما جرى منهم إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وتنبيهاً على طهارة نفسه براءتها مما نسب إليه من المراودة وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب إلى أن بيع العبيد.﴿ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ ﴾ أي من البادية وكان منزل يعقوب بأطراف الشام بالبادية بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية وقابل يوسف نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو والإِشارة بذلك إلى الاجتماع بأبيه وأخوته وزوال حزن أبيه. وفي الحديث: من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة.﴿ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ ﴾ أي أفسد وتقدم الكلام على نزغ وأشد النزوغ إلى الشيطان لأنه هو الموسوس كما قال تعالى:﴿ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾[البقرة: ٣٦].
وذكر هذا القدر من أمر أخوته لأن النعمة إذا جاءت أثر بلاء وشدة كانت أحسن موقعاً.﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ﴾ أي لطيف التدبير.﴿ لِّمَا يَشَآءُ ﴾ من الأمور رفيق ومن في قوله من الملك وفي من تأويل للتبعيض لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ولا علم إلا بعض التأويل وانتصب فاطر على الصفة أو على النداء.﴿ أَنتَ وَلِيِّي ﴾ تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي وذكر كثير من المفسرين أنه لما عدد نعم الله عليه تشوف إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت وإنما عدد نعمه تعالى عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي توفني إذا حان أجلي على الإِسلام وأجعل لحاقي بالصالحين وإنما تمنى الوفاة على الإِسلام لا الموت والصالحين أهل الجنة وقيل غير ذلك وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام وله من الولد أفراثيم ومنشأ ورحمة زوجة أيوب قال الزهري: وولد لافراثيم نون ولنون يوشع وهو فتى موسى وولد لمنشأ موسى وهو قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر وكان ابن عباس ينكر ذلك وثبت في الحديث الصحيح أن صاحب الخضر موسى بن عمران وتوارثت الفراعنة ملك مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام وأبيه إلى أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم.﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً شافياً وأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون سبباً لإِسلامهم فخالفوا تأميله فعزاه الله بقوله: وما أكثر الناس الآيات والإِشارة بذلك إلى ما قصه الله تعالى من قصة يوسف وإخوته.﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ولا حين ألقوه فيه ولا حين التقطته السيارة ولا حين بيع.﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ أي يبغون الغوائل اليوسف ويتشاورون فيما يفعلون به أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النوع في علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وتقدم نظير ذلك في آل عمران وفي هود وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من جملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقي فيه أحداً يعلمه بشىء من ذلك ولم يسمع منه ولم يكن من علم قومه فإِذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهه من أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي فإِذا أنكروه تهكم بهم وقيل لهم قد علمتم أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية ونحوه﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ ﴾[القصص: ٤٤] فقوله: وما كنت هناك على جهة التهكم بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم وأجمعوا أمرهم أي عزموا على إلقاء يوسف في الجب وهم يمكرون جملة حالية والمكر أن يدبر على الإِنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والناس الظاهر العموم لقوله تعالى:﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾[هود: ١٧] وعن ابن عباس أنهم أهل مكة.﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر وجواب لو محذوف أي ولو حرصت لم يؤمنوا إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه والضمير في عليه عائد على ما يحدثهم به ويذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى كما يعطي حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا عظة وذكر من الله تعالى للعالمين عامة وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سبباً للإِيمان فيعرضون عنها ولا تفيد عندهم شيئاً ولا تؤثر فيهم وان تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي ومعنى يمرون عليها أي يمشون عليها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.﴿ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ جملة حالية أي إيمانهم ملتبس بالشرك قال ابن عباس: هم أهل الكتاب أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَفَأَمِنُوۤاْ ﴾ استفهام إنكار في معنى التوبيخ والتهديد.﴿ غَاشِيَةٌ ﴾ نقمة تغشاهم أي تغطيهم كقوله تعالى:﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾[العنكبوت: ٥٥] وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع " انتهى " وإتيان الغاشية يعني من الدنيا وذلك لمقابلته بقوله:﴿ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ ﴾ أي يوم القيامة.﴿ بَغْتَةً ﴾ فجأة في الزمان ومن حيث لا يتوقع.﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ تأكيد لقوله بغتة، قال الكرماني: لا يشعرون بإِتيانها، أي وهم غير مستعدين لها قال ابن عباس: تأخذهم الصيحة وهم على أسواقهم ومواصفهم.﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو ﴾ الآية لما تقدم من قول يوسف صلى الله عليه وسلم توفني مسلماً وكان قوله وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين دالاً على أنه حارص على إيمانهم مجتهد في ذلك داع إليه مثابر عليه وذكر وما تسألهم عليه من أجر إشارة إلى ما فهم من ذلك وهو شريعة الإِسلام والإِيمان وتوحيد الله تعالى فقال: قل يا محمد هذه الطريقة والدعوة طريقتي التي سلكتها وأنا عليها ثم فسر تلك السبيل، فقال: ادعوا إلى الله تعالى يعني لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم إنما دعاتي إلى الله وحده قال الجمهور: سبيلي ديني ومفعول أدعوا هو محذوف تقديره أدعو الناس والظاهر تعلق على بصيرة بأدعوا وأنا توكيد للضمير المستكن في أدعو ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى أدعو أنا إليها أو يدعو إليها من اتبعني ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدماً وأنا مبتدأ ومن معطوف عليه ويجوز أن يكون على بصيرة حالاً من ضمير أدعو فيتعلق بمحذوف ويكون انا فاعلاً بالجار والمجرور النائب على ذلك المحذوف.﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي ﴾ معطوف على أنا وأجاز أبو البقاء أن يكون ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي داع إلى الله على بصيرة ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله:﴿ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ ﴾[الأنعام: ١٠٤].
﴿ وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾ داخل تحت قوله: قل أي قل وتنزيه الله من الشركاء أي براءة الله من أن يكون له شريك ولما أمر بأن يخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو وهو ومن اتبعه إلى الله وأمر أن يخبر أنه تنزه الله تعالى عن الشركاء أمر أيضاً أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك وأنه ليس ممن أشرك وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منه ولا في وقت من الأوقات.﴿ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ حصر في المرسل دعاة إلى الله فلا يكون ملكاً قال ابن عباس: رجالاً يعني لا نساء فلا رسول إمرأة والقرى المدن.﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ ﴾ الضمير في أفلم يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ومن عاند الرسول وأنكر رسالته وكفر أي هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر اخبار الرسل السابقة ويرون مصارع الأمم المكذبة فيعتبرون بذلك.﴿ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ هذه حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتقاء المهلكات ومن هذه الاضافة تخريجان أحدهما أنها من إضافة الموصوف إلى صفته وأصله وللدار الآخرة خير وهو تخريج كوفي والثاني أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وأصله ولدار المدة الأخيرة أو النشأة الأخيرة خير وهو تخريج بصري وحتى غاية لما قبلها وليس في اللفظ ما يكون له غاية فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا عن النصر، وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا، إلى من قبلهم أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم الثلاث فصاروا من حيز من يعتبر بعاقبته فلهذا المضمر حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل، " انتهى ". ولم يتلخص لنا من كلامه شىء يكون ما بعد حتى غاية له لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية، وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل وهو نوع من كلام الزمخشري، وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل وقرىء: كذبوا بالتشديد مبنياً للمفعول والضمير في وظنوا أو في أنهم عائد على الرسل والظن بمعنى اليقين والمعنى وأيقنت الرسل أنهم قد كذبهم قومهم وقرىء: كذبوا بالتخفيف في الذال مبنياً للمفعول أيضاً والضمائر في ظنوا وفي أنهم عائدة على المرسل إليهم والمعنى وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من جاءهم بالوحي، وقرىء: فنحن بنونين مضارع أنجى، وقرىء: فنجى بنون واحدة وشد الجيم وفتح الباء مبنياً للمفعول وقرأت فرقة فننجي بنونين مضارع أنجى وفتح الباء قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم وهي غلط من هبيرة انتهى وليست غلطاً ولها وجه في العربية وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوباً بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ ﴾[البقرة: ٢٨٤] بإِضمار أن بعد الفاء ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة ومفعول نشاء محذوف تقديره ننجيه.﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ والبأس هنا الهلاك وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم.﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ ﴾ الآية، الضمير في قصصهم عائد على الرسل والمرسل إليهم واندرجت فيه قصة يوسف وغيره وقرأ في قصصهم بكسر القاف أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي والقصي عن عبد الوارث عن أبي عمرو جمع قصة والعبرة الدلالة التي يعبر بها إلى العلم والعبرة الاتعاظ والظاهر أن اسم كان مضمر يعود على القصص أي ما كان القصص حديثاً مختلقاً بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ولا تتلمذ لأحد ولا خالط العلماء وانتصب تصديق على أنه خبر كان المحذوفة تقديره ولكن كان أي الحديث المشتمل على قصص الأنبياء تصديق الذي بين يديه أي بين يدي الحديث ومعنى بين يديه أي الكتب المنزلة الإِلهية وتفصيل كل شىء مما يحتاج إليه في الشريعة وقرأ حمدان بن أعين وعيسى الكوفي تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي ولكن هو تصديق والجمهور بنصب الأربعة وقال ذو الرمة: وما كان لي من تراث ورثته   ولا دية كانت ولا كسب مأثمولكن عطاء الله من كل رحلة   إلى كل محجوب السرادق خضرمبرفع إعطاء على إضمار هو ونصبه على إضمار كان وهدى ورحمة أي سبب هداية في الدنيا وسبب حصول الرحمة في الآخرة وحض المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى:﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾[البقرة: ٢] وتقدم أول السورة قوله تعالى:﴿ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾[يوسف: ٢] وقوله:﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ ﴾[يوسف: ٣] وفي آخرها ما كان حديثاً يفترى فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.
Icon