تفسير سورة يوسف

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ ﴾.
لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله :﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ [ يوسف : ٩٩-١٠٠ ] الآية.
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي.
قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأٌحَادِيثِ ﴾.
بين الله جل وعلا أنه علم نبيه يوسف من تأويل الأحاديث، وصرح بذلك أيضاً في قوله :﴿ وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ﴾ [ يوسف : ٢١ ].
وقوله :﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ﴾ [ يوسف : ١٠١ ].
واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك : تعبير الرؤيا، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا، قالوا : لأنها إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا. ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا، كقوله :﴿ يا صَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [ يوسف : ٤١ ] وقوله :
﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ ﴾ [ يوسف : ٤٧ ] إلى قوله :﴿ يَعْصِرُونَ ﴾ [ يوسف : ٤٩ ].
وقال بعض العلماء : المراد بتأويل الأحاديث معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض وما اشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها.
وسميت أحاديث، لأنها يحدث بها عن الله ورسله، فيقال : قال الله كذا، وقال رسوله كذا، ألا ترى إلى
قوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ].
وقوله :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] الآية.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [ يوسف : ٢٢ ] وقوله :﴿ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى ﴾ [ يوسف : ٣٧ ] الآية.
قال مقيده عفا الله عنه :
الظاهر أن الآيات المذكورة تشمل ذلك كله من تأويل الرؤيا، وعلوم كتب الله وسنن الأنبياء والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾.
الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي.
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب. فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم :﴿ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ﴾ وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى ﴾ [ الضحى : ٧ ] أي لست عالماً بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي، فهداك إليها وعلمكم بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني : أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلاً وهو لا يبغي بها بدلاً.
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفاراً، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به، حيث آثر اثنين على عشرة، مع أن العشرة أكثر نفعاً له، وأقدر على القيام بشؤونه وتدبير أموره.
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين :
أحدهما الضلال في الدين، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه. وهذا أشهر معانيه في القرآن. ومنه بهذا المعنى ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ ﴾ [ الفاتحة : ٧ ] وقوله :﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الصافات : ٧١ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ [ يس : ٦٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني إطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة ؛ من قول العرب : ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه وهلك فيه، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالاً ؛ لأنه تغيب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها، لأنها تصير رميماً وتمتزج بالأرض. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا في الأرْضِ ﴾ [ السجدة : ١٠ ] الآية.
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى :﴿ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي غاب واضمحل.
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله : مضلوه، يعني دافنيه. وقوله : بعين جلية، أي بخبر يقين. والجولان : جبل دفن عنده المذكور.
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتى به فضل ضلالا
وقول الآخر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
قوله تعالى :
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه سينبئ إخوته بهذا الأمر الذي فعلوا به في حال كونهم لا يشعرون. ثم صرح في هذه السورة الكريمة بأنه جل وعلا أنجز ذلك الوعد في قوله :﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٩ ].
وصرح بعدم شعورهم بأنه يوسف في قوله :﴿ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ [ يوسف : ٥٨ ].
وهذا الذي ذكرنا أن العامل في الجملة الحالية هو قوله :﴿ لَتُنَبّئَنَّهُمْ ﴾ أي لتخبرنهم ﴿ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ﴾ في حال كونهم ﴿ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ بأنك يوسف هو الظاهر.
وقيل : إن عامل الحال هو قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ ﴾ وعليه فالمعنى : أن ذلك الإيحاء وقع في حال كونهم لا يشعرون بأنه أوحى إليه ذلك.
وقرأ هذه الآية جمهور القراء ﴿ غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾ بالإفراد، وقرأ نافع «غيابات الجب » بصيغة الجمع، وكل شيء غيب عنك شيئاً فهو غيابة، ومنه قيل للقبر غيابة، ومنه قول الشاعر :
وإن أنا يوماً غيبتني غيابتي*** فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجمع في قراءة نافع نظراً إلى تعدد أجزاء قعر الجب التي تغيب الداخل فيها عن العيان.
واختلف العلماء في جواب «لما » من قوله ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ﴾ أمثبت هو أم محذوف ؟
فقيل : هو مثبت، وهو قوله :﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ [ يوسف : ١٧ ] الآية. أي لما كان كذا وكذا ﴿ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا ﴾، واستحسن هذا الوجه أبو حيان.
وقيل جواب «لما » هو قوله :﴿ أَوْحَيْنَا ﴾ والواو صلة. وهذا مذهب الكوفيين، تزاد عندهم الواو في جواب «لما » وحتى، «وإذا » وعلى ذلك خرجوا قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ونادَيْنَاهُ ﴾ [ الصافات : ١٠٣-١٠٤ ]. وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ [ الزمر : ٧١ ] الآية، وقول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
أي لما أجزنا ساحة الحي انتحى.
وقيل : جواب «لما » محذوف، وهو قول البصريين. واختلف في تقديره. فقيل : إن تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى.
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم.
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها.
واستظهر هذا الأخير أبو حيان ؛ لأن قوله :﴿ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ ﴾ يدل على هذا المقدر. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ ﴾.
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هم بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه ؛ ولكن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم : يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود.
أما حزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله :
﴿ هِي رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] وقوله :﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾.
وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة :﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ وقولها :﴿ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [ يوسف : ٥١ ].
وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله :﴿ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٨-٢٩ ].
وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٦ ] الآية.
وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته ففي قوله :﴿ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٤ ].
قال في الفخر الرازي في تفسيره : قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات :
أولها ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ﴾ واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني قوله :﴿ وَالْفَحْشَآءَ ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] أي وكذلك لنصرف عنه الفحشاء.
والثالث قوله :﴿ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾[ يوسف : ٢٤ ]. مع أنه تعالى قال :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ].
والرابع قوله :﴿ الْمُخْلَصِينَ ﴾ وفيه قراءتان : قراءة باسم الفاعل. وأخرى باسم المفعول.
فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص.
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته.
وعلى كلا الوجهين : فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه. اه من تفسير الرازي.
ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ].
وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ ص : ٨٢-٨٣ ] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح تعالى به في قوله :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٤ ] فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه : وعند هذا نقول : هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته. ولعلهم يقولون : كنا في أول الأمر تلامذة إبليس، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه. كما قال الخوارزمي :
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل : أن يوسف عليه السلام بريء مما يقول هؤلاء الجهال. ا ه كلام الرازي.
ولا يخفى ما فيه من قلة الأدب مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف الصالح ! وعذر الرازي في ذلك هو اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحد من السلف الصالح.
وسترى في آخر هذا المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة. ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى :﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ ؟
فالجواب من وجهين :
الأول إن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى. وقال بعضهم : هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه ؛ لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف ؛ كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول :
«اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك » يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :«ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة » لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، وامتثالاً لأمره، كما قال تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هي الْمَأْوَى ﴾ [ النازعات : ٤٠-٤١ ].
وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد، كهم يوسف هذا، بدليل قوله :﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ [ الأعراف : ١٢٢ ] لأن قوله :﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ يدل على أن ذلك الهم ليس معصية، لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية.
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه : هذا ما يهمني، ويقول فيما يحبه ويشتهيه : هذا أهم الأشياء إلي، بخلاف هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه.
ومثل هذا التصميم على المعصية : معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة :«إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار » قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :«إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار.
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل، كقول العرب : قتلته لو لم أخف الله، أي قاربت أن أقتله، كما قاله الزمخشري.
وتأويل الهم بأنه هم بضربها، أو هم بدفعها عن نفسه، فكل ذلك غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه.
والجواب الثاني وهو اختيار أبي حيان : أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفى عنه لوجود البرهان.
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب : أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله :﴿ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ ﴾[ يونس : ٨٤ ] أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول : دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه كالآية المذكورة. وكقوله :﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ البقرة : ١١١ ] أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول : فمعنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي لولا أن رآه هم بها. فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة.
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ﴾ [ القصص : ١٠ ] فما قبل ﴿ لَوْلاَ ﴾ دليل الجواب. أي لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ وتقديم الجواب في سائر الشروط : وعلى هذا القول يكون جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ في قوله :﴿ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾ هو ما قبله من قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾.
وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين : أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري.
وقال الشيخ أبو حيان في البحر المحيط ما نصه : والذي اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها ألبتة، بل هو منفى لوجود رؤية البرهان ؛ كما تقول : لقد فارقت لولا أن عصمك الله. ولا نقول : إن جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها. وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين : أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد.
بل نقول : إن جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت ؛ فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم. ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم ؛ بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان وجود الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، ولا التفات إلى قول الزجاج. ولو كان الكلام : ولهم بها كان بعيداً، فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله :﴿ همََّّ بِهَا ﴾ هو جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة، لجواز أن يأتي جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ إذا كان بصيغة الماضي باللام. وبغير لام تقول : لولا زيد لأكرمتك. ولولا زيد أكرمتك. فمن ذهب إلى أن قوله :﴿ همَّ بِهَا ﴾ نفس الجواب لم يبعد. ولا التفات لقول ابن عطية : إن قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ وإن جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ في قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ وإن المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلم يهم يوسف عليه السلام.
قال : وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف اه.
أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر. وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب، قال الله تعالى :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ القصص : ١٠ ] فقوله :﴿ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ ﴾[ القصص : ١٠ ] : إما أن يتخرج على أن الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
وأما أقوال السلف : فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضاً، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة.
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب. لأنهم قدروا جواب ﴿ لَوْلاَ ﴾ محذوفاً ولا يدل عليه دليل ؛ لأنهم لم يقدروا لهم بها ولا يدل كلام العرب إلا على أن ي
قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ ٢٦-٢٨ ].
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر ؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب ؛ لأن كون القميص مشقوقاً من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ ] يوسف : ١٨ ] ؛ لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة ؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب.
ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق القميص، فقال : سبحان الله ! متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف ولا يشق قميصه. ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [ يوسف : ١٨ ].
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن.
ومن أمثلة الحكم بالقرينة : الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقاً ؛ فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد. فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها ؛ اعتماداً على قرينة النكاح.
وكالرجل ينزل ضيفاً عند قوم، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام ؛ فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل، اعتماداً على القرينة.
وكقول مالك، ومن وافقه : إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب، اعتماداً على القرينة، لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها، وكمسائل اللوث وغير ذلك.
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن، وأوضحنا بالأدلة القرآنية. أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح والعلم عند الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ]. استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه، كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص.
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اه كلام القرطبي.
واختلف العلماء في الشاهد في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا ﴾.
فقال بعض العلماء : هو صبي في المهد، وممن قال ذلك ابن عباس، والضحاك، وسعيد بن جبير.
وعن ابن عباس أيضاً أنه رجل ذو لحية، ونحوه عن الحسين.
وعن زيد بن أسلم أنه ابن عم لها كان حكيماً، ونحوه عن قتادة وعكرمة.
وعن مجاهد أنه ليس بإنسي ولا جان، هو خلق من خلق الله.
قال مقيده عفا الله عنه :
قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى :﴿ مّنْ أَهْلِهَا ﴾، لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة. وأظهر الأقوال : أنه صبي، لما رواه أحمد، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم » اه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:قوله تعالى :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ ٢٦-٢٨ ].
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين، وكذب الآخر ؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب ؛ لأن كون القميص مشقوقاً من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها، وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ ] يوسف : ١٨ ] ؛ لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب، جعلوا على قميصه دم سخلة ؛ ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب.
ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها، وهي عدم شق القميص، فقال : سبحان الله ! متى كان الذئب حليماً كيساً يقتل يوسف ولا يشق قميصه. ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله :﴿ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [ يوسف : ١٨ ].
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن.
ومن أمثلة الحكم بالقرينة : الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقاً ؛ فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد. فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها ؛ اعتماداً على قرينة النكاح.
وكالرجل ينزل ضيفاً عند قوم، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام ؛ فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل، اعتماداً على القرينة.
وكقول مالك، ومن وافقه : إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب، اعتماداً على القرينة، لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها، وكمسائل اللوث وغير ذلك.
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن، وأوضحنا بالأدلة القرآنية. أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح والعلم عند الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى :﴿ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ [ يوسف : ١٨ ]. استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه، كالقسامة وغيرها.
وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص.
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اه كلام القرطبي.
واختلف العلماء في الشاهد في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا ﴾.
فقال بعض العلماء : هو صبي في المهد، وممن قال ذلك ابن عباس، والضحاك، وسعيد بن جبير.
وعن ابن عباس أيضاً أنه رجل ذو لحية، ونحوه عن الحسين.
وعن زيد بن أسلم أنه ابن عم لها كان حكيماً، ونحوه عن قتادة وعكرمة.
وعن مجاهد أنه ليس بإنسي ولا جان، هو خلق من خلق الله.

قال مقيده عفا الله عنه :

قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى :﴿ مّنْ أَهْلِهَا ﴾، لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة. وأظهر الأقوال : أنه صبي، لما رواه أحمد، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم » اه.

قوله تعالى :﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
هذه الآية الكريمة إذا ضمت، لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، والآية المذكورة هي قوله :﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ [ النساء : ٧٦ ] لأن قوله في النساء ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ ] يوسف : ٢٨ ]، وقوله في الشيطان ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾[ النساء : ٧٦ ] يدل على أن كيدهن أعظم من كيده.
قال القرطبي : قال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان ؛ لأن الله تعالى يقول :﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾. وقال :﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ ا ه.
وقال الأديب الحسن بن أيه الحسني الشنقيطي :
ما استعظم الإله كيدهنه *** إلا لأنهن هن هنه
قوله تعالى :﴿ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ﴾ [ ٣١-٣٢ ] الآية.
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة ثناء هؤلاء النسوة على يوسف بهذه الصفات الحميدة فيما بينهن، ثم بين اعترافهن بذلك عند سؤال الملك لهن أمام الناس في قوله :﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ [ يوسف : ٥١ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾.
لم يبين هنا هذا الذي أجمعوا أمرهم عليه، ولم يبين هنا أيضاً المراد بمكرهم ؛ ولكنه بين في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب، وأن مكرهم هو ما فعلوه بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف ؛ وذلك في قوله :﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾ [ يوسف : ١٥ ] إلى قوله ﴿ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾[ يوسف : ١٨ ].
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أنزل عليه هذا القرآن، وفصل له هذه القصة. مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً لدى أولاد يعقوب حين أجمعوا أمرهم على المكر به، وجعله في غيابة الجب. فلولا أن الله أوحى إليه ذلك ما عرفه من تلقاء نفسه.
والآيات المشيرة لإثبات رسالته، بدليل إخباره بالقصص الماضية التي لا يمكنه على حقائقها إلا عن طريق الوحي كثيرة ؛ كقوله :﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾ [ آل عمرن : ٤٤ ] الآية.
وقوله :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأمْرَ ﴾ [ القصص : ٤٤ ] الآية.
وقوله :﴿ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [ القصص : ٤٤ ].
وقوله :﴿ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾[ القصص : ٤٦ ].
وقوله :﴿ مَا كَانَ لي مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾[ ص : ٦٩-٧٠ ].
وقوله :﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ﴾. [ هود : ٤٩ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات من أوضح الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم، رسول كريم، وإن كانت المعجزات الباهرة الدالة على ذلك أكثر من الحصر.
قوله تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾.
قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعامر الشعبي، وأكثر المفسرين : إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس، وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته إلا وهم مشركون به غيره في عبادته.
فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم ومدبر شؤونهم، والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جداً، كقوله :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ]، وكقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ]، وقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾[ الزخرف : ٩ ]، وقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦١ ]، وقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾[ العنكبوت : ٦٣ ]، وقوله :﴿ قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُون قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨٤-٨٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومع هذا فإنهم قالوا :﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امشوُا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يُراد ﴾ [ ص : ٥-٦ ].
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة، أي عبادة الله وحده لا شريك له، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾.
وفي هذه الآية الكريمة إشكال : وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها وعليه ؛ فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو يؤمن مقيد بها، فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين، وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة.
قال مقيده عفا الله عنه :
لم أر من شفي الغليل في هذا الإشكال، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي ؛ لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان ألبتة شرعاً ؛ أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً.
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به، وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى :﴿ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ في قُلُوبِكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] فهو الإسلام اللغوي ؛ لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه، والعلم عند الله تعالى.
وقال بعض العلماء :«نزلت آية ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ في قول الكفار في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك » وهو راجع إلى ما ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [ ١١١ ].
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية أن في أخبار المرسلين مع أممهم، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين عبرة لأولي الألباب، أي عظة لأهل العقول.
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله في قوم لوط :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٨ ]، كما تقدمت الإشارة إليه مراراً، والعلم عند الله تعالى.
Icon