تفسير سورة يوسف

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

١٢- سورة يوسف
نزولها: نزلت بمكة، فهى مكية- باتفاق.
عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.. بلا خلاف عدد كلماتها: ألف وسبعمائة وست وسبعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٦) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
1228
التفسير:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ»..
بدأت هذه السورة بما بدأت به السورتان- يونس، وهود- قبلها، وكما بدأت به السورتان- إبراهيم والحجر بعدها.. لقد بدأت خمستها بهذه الأحرف الثلاثة: (ألف.. لام.. راء).. هكذا:
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ».. (يونس) «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ».. (هود) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ».. (يوسف) «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ».. (الحجر) ويلاحظ:
أولا: ذكر الكتاب، أو آيات الكتاب بعد هذه الأحرف.. وهذا يشير إلى ما بين هذه الأحرف وهذا الكتاب، وآيات الكتاب، من صلات..
وقد أشرنا إلى هذا فى أول سورة «هود» وقلنا: إن هذه الأحرف تشير إلى متشابه القرآن، وأن أوائل السور التي من هذا القبيل هى الآيات المتشابهات التي أشار إليها قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» وأن غيرها من آيات القرآن محكم ومفصل..
وثانيا: أنه إذا ذكر «الكتاب» لم يشر إليه، وأنه إذا ذكرت «آيات الكتاب» أشير إليها بحرف الإشارة «تلك» :
وهذا يشير إلى أن القرآن الكريم نسج واحد، وأنّه معجزة متحدّية،
1229
سواء باعتباره كلّا لا يتجزأ، بحيث ينظر إليه من المبدأ إلى الختام، نظرة يلتقى فيها متشابهه مع محكمه، ومجمله مع مفصله، وقصصه مع أحكامه وآدابه.. أو باعتباره آيات تعرض أحداثا ومواقف، وتحدث عن أدلة وشواهد، وتكشف عن أسرار ومغيبات..
وثالثا: فى ذكر الكتاب، والتزام هذا الذكر بعد تلك الأحرف، تحريض على العلم، ودعوة إلى التعلم، وأن من شأن من يتعامل مع القرآن الكريم أن يكون من أهل العلم، الذي مارس الكتابة، ودرس الكتب..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (٤٣: العنكبوت).
ولا شك أن هذه اللفتة من القرآن الكريم، إلى قوم أميين، وأمة أمّية، تحمل فى طياتها دعوة إلى هؤلاء الأميين أن يخرجوا من تلك الأمية، وأن ينزعوا عنهم لباس الجهل والجاهلية، وأن يأخذوا بأسباب الحضارة التي لا تقوم إلا على ركائز العلم والمعرفة! ولعلّ فى عرض هذه الأحرف المتقطعة: ألف..
لام.. راء.. وغيرها من الحروف التي بدأت بها بعض السور- لعل فى هذا أول درس عملىّ يقدمه القرآن، ويفتح به الطريق إلى تعليم الكتابة والقراءة، إذ كانت تلك الأحرف هى أول ما عرف العربىّ الأمىّ من أجزاء الكلمة، وعرف منها أن الكلمات التي ينطق بها ليست مركّبات مصمتة، وإنما هى قوالب، يتشكل من كل مجموعة منها بناء، هو الكلمة، كما يتشكل من الكلمات نظام، يتألف منه الكلام، الذي يتعامل به الناس فى لغة التخاطب، وفى نظم القصيد، أو إنشاء الخطبة.. فكما يتعلم المبتدئ القراءة والكتابة بتعلم الحروف الهجائية التي تبنى منها الكلمات، كذلك يتعلم العرب الأميون من هذه الأحرف المقطعة كيف
1230
يشكّلون من هذه الأحرف الكلمات التي ينطقونها، ويصورون منها صورا تكتب وتقرأ.
«الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ»..
فى وصف الكتاب هنا بأنه مبين، توكيد لوصفه بأنه «حكيم» وبأنه «كتاب أحكمت آياته». إذ أن الحكمة لا تكون حكمة، والحكيم لا تتم حكمته، حتى تخرج تلك الحكمة على صورة واضحة مشرقة، يرى الناس على وجهها أضواء المعرفة، وإلا كانت حكمة مضمرة، لا ينتفع بها، أشبه باللئالئ فى أصدافها، أو فى أغوار الماء! فالمبين، مبين وحكيم معا.
«إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ».
ومن بيان القرآن، الذي يكشف عن الحكمة المشتمل عليها، أنه جاء إلى من يخاطبهم باللسان الذي يحسنون التفاهم به، وهو اللسان العربي..
ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما عقلوا منه شيئا، ولما انتفعوا به، ولأفلت من أيديهم كلّ ما اشتمل عليه من حكمة..
وإنه ليس بالحكيم من يخاطب النّاس بالأسلوب الذي لا يفهموته، وباللغة التي لا يحسنون الفهم عنها.. إنه حينئذ لا يجد أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له، ولا عقلا يتجاوب معه.. إنه يكون فى واد والناس فى واد، إذ يحدثهم بأصوات لا مفهوم لها عندهم.
ولهذا، فقد كان من مقتضيات البلاغة، ومن بلاغة البليغ مراعاة مقتضى الحال، فلكل مقام مقال- كما يقولون، فلا يخاطب الجاهل خطاب العالم، ولا العالم خطاب الجاهل، ولا البدوىّ بمفاهيم الحضرىّ، ولا الحضرىّ بمفاهيم البدوىّ.. وإلا فقدت اللغة قيمتها، وضاعت معالمها، وأصبحت أشبه بالنقد الزائف، الذي ينكره الناس، ولا يتعاملون به.
1231
وفى الحديث الشريف كما روى البخاري: «كلّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون.. أتريدون أن يكدّب الله ورسوله؟».
والمراد بمخاطبة الناس يما يعرفون، أي بما تبلغه مدركاتهم، ويقع منها موقع الفهم.. والمراد بتكذيب الله، هو اختلاط الأمر على الناس، حين يتحدث إليهم علماؤهم أحاديث لا يفهمونها على وجهها الصحيح، فيتلقون منهم وجوها من الكلام، فيتصورونها تصورا خاطئا، وإذا كل وجه يبدو لهم منها ينكر وجه صاحبه، فيقع التضارب والاختلاف، وتنشأ من هذا مفاهيم خاطئة، يناقض بعضها بعضها، وكلها تحدث عن الله، فيقع لذلك الشك، والارتياب ثم التكذيب، والكفر!! ومن تمام البيان فى الرسالة الإسلامية أن صرف الله الرسول عن قول الشعر وعن أن يكون شاعرا.. فقال تعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (٦٩: يس) وذلك أن الشعر يحمل فى أسلوبه مضامين كثيرة، لما يعتمد عليه من تصورات وتخيلات، ولما يقوم عليه نظمه من صور الكنايات والرمز، والإيماء، وغير ذلك، مما تتولد من الصورة الواحدة منه.. صور.. الأمر الذي لا يستقيم مع رسالة سماوية، غايتها إقامة الناس على طريق واحد مستقيم لا عوج فيه، ولا خلاف عليه.. وهذا ما يشير إليه ويؤكده قوله تعالى فى التعقيب على قوله سبحانه: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ»..
إذ يقول جل شأنه: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» أي إن هذا القرآن ذكر، ومن شأن الذكر أن يلقى العقل لقاء صريحا واضحا، حتى يأخذ عنه العبرة والموعظة، صريحة واضحة.. وهذا القرآن هو قرآن مبين.. أي واضح البيان لا لبس فيه ولا خفاء.
«نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ».
1232
الضمير «نحن» هو لله سبحانه وتعالى.. وفيه استدعاء للرسول، ومداناة له من ربّه، وتكريم لذاته بهذا الحديث الذي يتلقاه من ربه من غير واسطة.. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ».. وهذا على خلاف لو جاء النظم هكذا:
«الله يقص عليك»..
والقصّ تتبع الأثر، والتعرف على صاحبه. وقصّ الأخبار، تتبعها والكشف عنها..
وأحسن القصص، أصدقه حديثا، وأشرفه غاية، وأكرمه مقصدا، وأقومه طريقا..
ولا نذهب مذهب القائلين بأن التفضيل هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفضل ومفضل عليه، باعتبار أن لا حسن فى قصص غير قصص القرآن، وأن القصص القرآنى هو الحسن، وهو الأحسن.. بل نقول إن التفضيل على حقيقته..
ونقول: إن القصص القرآنى وإن كان الغاية فى الحسن والكمال، فإن ذلك لا يمنع أن يكون فى القصص غير القرآنى، مما ألّفه المؤلفون، وقصّنّه القاصّون، سواء ما كان من نسيج الواقع، أو من شباك الخيال، وسواء ما كان على ألسنة الناس أم على ألسنة البهائم والطير- إن ذلك لا يمنع أن يكون فى هذا القصص ما هو حسن يتأدب به، وتؤخذ منه العبرة والموعظة.. وليس ذلك بالذي ينزل من قدر القصص القرآنى، أو يزحمه فى منزلته العالية التي انفرد بها، بل إن ذلك من شأنه أن يكشف عن جوهر القصص القرآنى، ويبين عن شرفه وعلوّ منزلته، حين يوزن بميزان الحسن، ويوضع فى الكفّة المقابلة للقصص القرآنى، فيرجح القرآن كلّ ما عرف من قصص حسن، والشأن فى هذا، شأن البيان القرآنى كلّه، مع البلاغة العربية وبيانها.. فإن
1233
اللغة العربية ببيانها المبين، وببلاغتها البالغة غاية الحسن والروعة، هى التي كشفت عن إعجاز القرآن، وألقت بيديها مستسلمة بين يدى بيانه وبلاغته!..
إن فضل الشيء، وعظم قدره، إنما يتبيّن بالقياس إلى الشيء الذي فضّل عليه.. فالناس ينظرون إلى قيمة الفاضل من خلال نظرتهم إلى قدر المفضول.
ألم تر أن السيف يزرى بقدره إذا قيل هذا السيف خير من العصا؟
إنه لا يشهد لبطولة البطل إلا من كان يلبس ثوب البطولة، بحيث يرى الناس من مواقفه فى ميادينها أنه بطل مشهود له، فإذا صرعه بطل آخر، كان ذلك شهادة لهذا البطل أنه بطل الميدان، وفارس المعركة..!
- وفى قوله تعالى: «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» - إشارة إلى ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قصص، وأنه مع نزول القرآن الكريم على النبىّ الكريم، نزل هذا القصص، الذي كان بعضا منه، ومعجزة من إعجازه، ودرسا من دروسه.. فالباء فى قوله تعالى: «بما» تفيد التبعيض.
- وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ».. المراد بالغفلة هنا عدم الالتفات إلى الشيء والاهتمام له، إذ لم يكن من النبي قبل نزول القرآن عليه، التفات إلى هذا القصص أو اشتغال به.
قوله تعالى: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».
«إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى «نَقُصُّ عَلَيْكَ» وفى تعلّق الظرف إذ بالفعل «نقص» إشارة إلى أن هذا القصص ليس على شاكلة ما يروى القصّاص من أخبار الماضين، فهم يتبعون آثارها، إذ لم
1234
يكونوا من شهودها.. أما هذا القصص، فهو من شهود علم الله، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.. وإنما سمّى قصصا بالنسبة لمن يتلقونه، بعد أن مضى الزمن به.
- وقوله: «إِنِّي رَأَيْتُ» أي رؤيا فى المنام.. أي أن يوسف- عليه السلام- رأى فى منامه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر.. رآهم جميعا ساجدين له.
ولم يكشف يعقوب ليوسف- عليهما السلام- عن تأويل هذه الرؤيا، بل أراه منها أنها تنبىء عن خير عظيم يناله، ومنزلة عالية يبلغها.. وذلك فى قوله:
«قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ» لقد نهاه عن أن يتحدث بهذه الرؤيا إلى إخوته، فإنها توحى إليهم بأنه سيكون له من إخوته الأحد عشر ما كان من تلك الكواكب فى موقفها منه، ساجدة له، متخاضعة بين يديه.. وذلك من شأنه أن يبعث الحسد والغيرة فى نفوسهم منه، ويفتح للشيطان طريقا للدخول بينه وبينهم، فيغريهم به، ويسلطهم عليه..
أما تأويل هذه الرؤيا، فقد وقع بعد ذلك بزمن بعيد، طويت فى أثنائه أحداث كثيرة، وقعت ليوسف، حتى استقر به المقام فى مصر، وأصبح متصرفا فى شئونها المالية، ثم جاء إليه أبوه، وأمه، وإخوته الأحد عشر، ودخلوا عليه الباب ساجدين.. وفى هذا يقول الله تعالى فى آخر السورة:
«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» (الآية: ١٠٠).
وفى الحديث عن الكواكب والشمس والقمر بضمير العقلاء «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» إشارة إلى إحساسه بها وهو يراها فى منامه، إذ كانت تتصرف
1235
تصرف العقلاء فتسجد له، وتظهر له الولاء والتعظيم، وهذا لا يكون إلا من فعل العقلاء!. إنها تلبس صورة أبويه وإخوته.. فهى بشر فى صورة كواكب! قوله تعالى: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».. هو من تمام كلام يعقوب فى تأويل رؤيا يوسف، أي كما بدأ الله بلطفه بك، وتكريمه إياك صغيرا، فإنه سيتولاك برعايته، ويفيض عليك من نعمه كبيرا، فيجتبيك، أي يختارك ويصطفيك للرسالة والنبوّة، «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» أي يكشف لبصيرتك خفايا الأمور وعواقبها فيما تشتمل عليه الأحاديث المتشابهة، وهى التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون فى العلم، كالرؤى المناميّة ونحوها.. وقد بينا ذلك فى تفسير الآية الكريمة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (٧: آل عمران) وقد جاء فى السورة حدثان، كشف فيهما يوسف عن المضمون الذي اختفى وراء الصورة التي جاءا عليها فى الرؤيا المنامية، كما سنرى ذلك بعد، فى رؤيا صاحبيه فى السجن، وفى رؤيا فرعون.
- وفى قوله تعالى: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إشارة إلى أنه سبحانه سيختاره للنبوة، وهذا هو تمام النعمة، وكما لها لمن أنعم الله عليهم من عباده، وكذلك سيكون إخوته «آل يعقوب» أنبياء، كما كان أبواهم إبراهيم وإسحق نبيّين..!
- «إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي بعلمه سبحانه يعلم أولياءه المستحقين لاصطفائه، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (١٢٤: الأنعام)
1236
وبحكمته، تنفذ مشيئته، فيما قضى به علمه.. فيدبّر الأسباب، الموصلة للمقدور الذي قدّره «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ.. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (١٠٠: يوسف)
الآيات: (٧- ١٤) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧ الى ١٤]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
التفسير:
قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» السائلون: هم الذين سألوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، عما وقع بين يوسف وإخوته من أحداث، وهؤلاء السائلون إما أن يكونوا اليهود، أو أهل مكة، بإيعاز من اليهود.. ويجوز أن يكون السائلون هم الذين يطلبون العلم بأخبار الماضين ويبحثون عنها.. فهم يسألون أبدا من يجدون عنده علما بها..
والمعنى: لقد كان فيما وقع من احداث بين يوسف وإخوته آيات لمن
1237
سألوا عن أخبارهم.. إما سؤال امتحان للنبىّ، وتحدّ له..
وإما سؤل تعلّم واستزادة من معرفة، وها هوذا القرآن قد جاء بالحق لمن يطلب العلم ويرتاد المعرفة.. أما من أراد الامتحان والتحدي فلن تزيده هذه الآيات إلا ضلالا، وإلّا عمى إلى عمى..
والسؤال هنا: كيف يجىء القرآن الكريم بهذا الحكم: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ»، ولم يكن قد ذكر شيئا عن يوسف وإخوته؟ أليس من المنطق أن يكون هذا الحكم فى أعقاب القصّة؟
ونعم إنه المنطق.. ولكنه منطق البشر، الذين لا يحكمون على أفعالهم إلا بعد أن ينكشف لهم وجهها، وتأخذ مكانها فى واقع الحياة بينهم.. أما الله سبحانه وتعالى، فعلمه محيط بكل شىء، فما لم يقع منه فى نظرنا، هو واقع فى علم الله، وما سيقع بعد آلاف السنين وملايينها هو واقع فى هذا العلم الشامل الكامل..
فقصّة يوسف قبل أن يعرضها القرآن الكريم، هى واقعة فى علم الله الأزلىّ على الصورة التي ذكرها القرآن، فكان حكمه عليها حكما على أمر واقع!.
وهذه شهادة من شهادات كثيرة، تشهد بأن منزّلّ القرآن هو عالم الغيب والشهادة، وأنه ما كان لبشر أن يجد الشعور الذي يملى عليه هذا الحكم، الذي يسبق الحدث قبل أن يحدّث به، ويستوفى عرضه، ويضبط آثاره فى الناس!.
قوله تعالى: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
«إذ» ظرف، يتعلق بالفعل «كان» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي
1238
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ»
أي أن هذا الظرف من حياتهم يحوى آيات وعظات.. وهو ظرف يبدأ من قولهم لأبيهم: «يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» ثم يستمر إلى أن تنتهى القصّة..
وتبدأ القصة، بهذا الحديث الذي يديرونه بينهم، ويأخذون فيه على أبيهم أنه يؤثر عليهم «يوسف» ويختصّه بالمزيد من عطفه وحبّه، هو وأخوه الشقيق له.. فقد كان يوسف وأخ له من أمّ، وكان الإخوة العشرة الآخرون من أمّ.!
فكيف يستأثر هذان الأخوان بحبّ أبيهم دونهم، وهم عصبة، أي جماعة كبيرة، لها شأنها واعتبارها؟ وكيف يفضّل الأب الاثنين على العشرة؟ إن ذلك أمر غير مستساغ، وتقدير غير سليم! وبخاصة فى بيئة بدويّة تعتز بكثرة العدد، وتأخذ مكانها فى مجتمعنا، بما لها من رجال أكثر مما لها من أموال..
هكذا بدا لهم الأمر خارجا على غير مألوف الحياة عندهم، فكان منهم هذا الموقف، الذي انتهى بهم إلى أن يقولوا فى أبيهم: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» أي إنّه قد انحرف برأيه فى أبنائه وفى موقفه منهم، عن سواء السبيل، فضلّ ضلالا مبينا..
«اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ».
وقد امتدّ بهم هذا الحديث الذي أداروه بينهم، عن يوسف وأخيه، وإيثار أبيهما لهما بحبّه ورعايته، حتى انتهى بهم ذلك إلى القول بقتل يوسف، أو إلقائه فى أرض بعيدة عنهم، والتطويح به فى مجهل من مجاهلها، حتى يغيب عن وجه أبيه، فلا يراه أبدا، وبهذا يخلو لهم وجه أبيهم، أي يخلص لهم وجهه، فلا يلتفت إلى غيرهم، وهذا كناية عن تعلّق أبيهم بهم، حيث لا يصرفه
1239
صارف عنهم، وقد كان من قبل متجها بكيانه كلّه إلى يوسف وأخيه..
- وفى قولهم: «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» إشارة إلى استقرار أمرهم مع أبيهم، وسكون العواصف التي يثيرها بينهم وبينه هذا الإيثار الذي يختصّ به ولديه الصغيرين هذين.
وبهذا ينصلح شأن تلك الأسرة التي تكاد تقوّض أركانها بهذا الوضع القائم فيها.. هكذا فكّروا وقدّروا!! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ».
وهذا رأى رآه أحدهم فى هذا الأمر الذي دبّروه، وهو ألّا يقتلوا «يوسف» بل يكتفوا بإبعاده عن أبيهم. وأن يلقوه أرضا، ويطوّحوا به بعيدا عنه.. وذلك بأن يلقوه فى غيابة الجبّ، فيلتقطه بعض المسافرين، الذين يمرّون بهذا الجبّ ليستقوا من مائه، ثم يحملونه معهم إلى البلد الذي هم ذاهبون إليه..
والجبّ: البئر الواسعة الفوّهة القليلة الغور.. والسيارة: الجماعة المسافرون، وسمّوا سيّارة لأن دأبهم السير، والانتقال من مكان إلى مكان.
قوله تعالى: «قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» استفهام إنكارى، يدل على أنه قد كانت بينهم وبين أبيهم مواقف من قبل هذا الموقف، طلبوا إليه فيها أن يصحبوا معهم يوسف إلى حيث يسرحون بأغنامهم، فأبى عليهم ذلك، متعلّلا بالخوف عليه من أن يصيبه مكروه..
1240
وفى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» تأكيد لإنكارهم على أبيهم هذا الموقف.. فهو لا يأمنهم عليه، حتى لكأنه يتهمهم بتدبير الشرّ له، والعدوان عليه، إذا هم انفردوا به.. وهم ينكرون عليه هذا، ويدفعون عن أنفسهم تلك التهمة بالإنكار على أبيهم أن يكونوا متهمين عنده فى مشاعرهم نحو أخيهم..
وكيف، وهم له ناصحون؟ أي مرشدون، يرعونه، وينصحون له، إذ كان صغيرا، يحتاج إلى من يرشد وينصح؟
«أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
وهكذا يجىء طلبهم الذي أرادوه من أبيهم، بعد هذا الإنكار الذي واجهوه به، وبعد هذا العتاب الذي عتبوه عليه- يجىء طلبهم هذا مباشرة، دون أن يدعوا لأبيهم فرصة للرد عليهم وتوضيح الأمر لهم، بتقدير أن الأمر واضح، وأن ليس لأبيهم عذر يعتذر به إليهم، وأنه ليس بمقبول عندهم أي عذر منه فى اتهامهم بأخيهم، وعدم النصح له منهم، وإنه لا يردّ إليهم اعتبارهم، ولا يدفع هذه التهمة عنهم إلا بأن يرسله معهم: «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً» أي فى غير تردد أو انتظار.. فذلك هو الذي يقطع الشك عندهم فى اتهام أبيهم لهم!! وإلا فهو الاتهام، والشك المريب!! وهذا ما لا يرضونه من أبيهم، ولا يقبلونه لأنفسهم!! - وفى قولهم: «يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» إغراء لأبيهم على هذا الأمر الذي أرادوه عليه، وجذب له إلى تلك المصيدة التي نصبوها له! فهو بإجابتهم إلى هذا الطلب يحقق أمرين: أولا: ردّ اعتبارهم عنده، بدفع الشكوك التي ساورتهم من جهة اتهامه إياهم فى نصحهم لأخيهم، وسلامة قلوبهم له.. وثانيا: إتاحة الفرصة ليوسف، ليأخذ حظه مما يأخذه الصبيان
1241
أمثاله، من الانطلاق إلى الخلاء، لاهيا، لاعبا.. فى رعاية من يحفظه، ويدفع عنه كل مكروه.
يقال: رتعت الماشية، أي رعت فى مرعى خصيب، والمرتع: المرعى الخصيب..
وقرىء: «يرتعى» من الرّعى.. أي يرعى معنا، ويلعب.
«قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ».
لقد سلّم لهم أبوهم بما طلبوه، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا.. فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم..
إذ كان سلوته، وأنسه.. ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان فى هذه الفلاة التي يرعون فيها!.
وقد أخذ أبناء يعقوب من ردّ أبيهم حجّتهم عليه، فيما فعلوا بيوسف:
فأولا: فى قوله: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ».. كشف لهم أبوهم عن حبّه ليوسف وتعلّقه به، فزاد ذلك من موجدتهم عليه، ومن حسدهم ليوسف، وشدّ عزمهم على ما بيّتوه له من شر! وثانيا: فى قوله: «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه فى تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه.. فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هى من وحي هذه الظنون وتلك المخاوف التي أعلنها أبوهم لهم.
1242
«قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ».
إنهم التقطوا من أبيهم كلمة «الذئب» وجعلوها العدوّ المتربص بهم، وأنهم سيأخذون حذرهم منه، وهم عشرة رجال، وإنه لن يستطيع أن ينال شيئا منهم..
وإنهم فى تلك اللحظة ليتمثل لهم الذئب الذي سيقودونه إلى أبيهم متهما بأكل يوسف: «لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ».. هكذا يقولونها «أَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولا يقولون: اقترب منه، أو جرحه! بل يجعلون «يوسف» طعاما مأكولا للذئب قبل أن ينتزعوه من بين يدى أبيهم!! ومن جهة أخرى فإنهم لم يردّوا على قول أبيهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ».. فذلك مما لا يحبّون سماعه من أبيهم، ولا يريدون أن يجعلوه حديثا معادا، يتأكد به ما ليوسف فى قلب أبيه من حب خاص، فوق حب الوالد لولده!
الآيات: (١٥- ٢٣) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
1243
التفسير:
قوله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ».
جواب لمّا محذوف دلّ عليه المعطوف عليه بعده، وهو قوله تعالى:
«وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».
والمعنى: أنهم حين انطلقوا بيوسف بعد أن أخذوه من أبيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يضعوه فى الجبّ، وأن يتركوه لمصيره، كانت عناية الله معه، فحفظه الله من الشرّ الذي دفعوا به إليه.. ثم صحبته عناية الله وحفّت به ألطافه.. وأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه سيلتقى بإخوته يوما، وأنه سيخبرهم بهذا الذي كان منهم دون أن يعرفوه.. وهذا ما تحقق حين ملك يوسف أمر مصر، وجاءه إخوته يمتارون من خيرات مصر، حين حلّ الجدب بأرضهم، كما سيجيئ ذلك فى ختام هذه القصة.
«وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ».
وهكذا الباطل يفضح نفسه، ويخزى أهله..!
1244
- «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ» وتلك أول أمارة من أمارات الكذب الذي جاءوا به.. إنهم جاءوا ملففين فى ظلام اللّيل، خوفا من أن يفضحهم ضوء النهار، ويمزّق هذا القناع الزائف المموه بتلك الدموع الكاذبة، التي بلّلوا بها خدودهم.
إن العين إذا التقت بالعين كشفت عن كثير من خفايا النفس، وقرأت ما لا يصرّح به اللسان، ولا تبوح به الكلمات.. ولهذا يجرؤ الإنسان على أن يقول فى الظلام، ما لم يكن يقوله فى النور، حين تلتقى العين بالعين!! إنه يخبط خبط عشواء، ويرمى بالكلام فى غير مبالاة! إن العين هى حاسّة الحياء، وموطن الاستحياء.. ولا ينكشف ذلك لها إلا وهى مبصرة.. ولهذا، فإن أصحاب الحياء يضعون أيديهم على أعينهم، حين يرون ما يستحيا منه، أو ينطقون بكلمة تخدش الحياء..
ثم كان البكاء فضيحة أخرى لهم.. إنّه تباك وليس بكاء.. إنه أصوات ليس فيها حرقة الكبد، وزفرة الصدر الكليم! والاذن قادرة على أن تميز التباكي من البكاء، وتفرق بينهما! وفد عرف يعقوب هذه القصّة الملفقة من أول لقاء ببنيه، ولأول كلمة سمعها منهم! - وفى قولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» فضيحة ثالثة، تفضح هذا الباطل، وتكشف عن هذا الزور.. إنهم يتهمون أباهم- مقدّما- بأنه لن يقبل شهادتهم تلك، لأنهم هم- فى الواقع- لا يقبلونها فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولو أنهم كانوا صادقين حقّا لما وقع فى تصوّرهم هذا، ولما توقعوه قبل أن يقع.. إنهم اتهموا أنفسهم بقولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ».. اتهموها قبل أن يتهمهم أبوهم.. وهكذا شأن كل متّهم.. إنه يتهم
1245
نفسه قبل أن يتهمه أحد.. فهو يطوف دائما حول جريمته إن لم يكن بجسده، فبمشاعره، وهمس خواطره.
«وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ».
والدم الذي جاءوا به، هو دليل رابع على أن القصة ملفّقة.. فماذا يحملهم على حمل هذا الدم إلى أبيهم. ؟ أليسوا هم أولياء هذا الدم وأهله؟ وهل يجد ولىّ الدم قدرة من نفسه على حمل إصبع، أو عين، أو رأس، من ابنه أو أخيه المقتول، ثم يطوف بها، ويقلبها بين يديه، ويعرضها على الأنظار؟ ذلك مالا يكون، لو أن الذئب كان حقّا هو الذي عدّا على يوسف وأكله! وإذا كان لا بد من مجىء شاهد من هذا القتيل، فإن الدم لا يقوم شاهدا أبدا، إذ ما أيسر أن يحصل الإنسان على الدم الذي يريد.. من إنسان، أو حيوان بل ومن نفسه أيضا.. فليكن الشاهد إذن، رأسه، أو رجله، أو يده.. إذ من غير المعقول أن يأتى الذئب على كل أجزاء ضحيته.. وخاصة إذا كان غلاما فى سن يوسف، الذي قيل إنه كان فى العاشرة أو أكثر من عمره! ويقرر علم الإجرام، أن المجرم، مهما كان ذكيا حذرا، لا بد من أن يترك أثرا يدل عليه، وأن يقع فى تدبيره خلل ما، يكون مفتاحا للكشف عنه! قيل إن القميص الذي جاءوا به ملطخا بالدم، كان سليما لم يمسّه الذئب المزعوم، بظفر أو ناب!! قالوا: ولهذا عجب يعقوب من هذا، وقال متهكما:
«تا الله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا.. أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!؟
- وفى قوله تعالى: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً»
اتهام صريح من يعقوب لبنيه، وأن ذلك الأمر الذي فعلوه إنما هو مما سوّلته لهم أنفسهم، أي زينته لهم، وأغرتهم به.. ولكنه لا يملك شيئا يفعله إزاء هذه المحنة، إلا الصبر:
1246
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ».. فذلك هو عزاؤه عن مصابه فى ابنه، وفى بنيه أيضا! «وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ».. أي إنه سبحانه وتعالى هو الذي يمدّه بالعون على احتمال ما حملت إليه هذه القصة الملفقة من أنباء تصف هذه الفاجعة، وتصور تلك المأساة.
«وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ».
وتطوى الأحداث على عجل، وينتقل المشهد فى سرعة خاطفة، إلى حيث يوسف فى الجبّ، يعانى ما يعانى من وحشة، وخوف، وجوع..!
وهنا تلوح «سيّارة» أي جماعة من المسافرين، يمرّون بالجبّ ويحطّون رحالهم على مقربة منه، ليستقوا، ولتستقى دوابّهم، ثم ليتزودوا بما يقدرون على حمله من الماء..
- «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ».. هكذا جاءت السيارة كما قدّر أبناء يعقوب..
لأن الجبّ على طريق يصل بين الشام ومصر، ويكثر عليه مرور القوافل المسافرة.. وفى مجيئها تباطؤ وثقل.. إنها على طريق طويل، قد كلّت، وأعياها السير! نجد ذلك فى الفعل «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ».. ففى واو العطف، والتقائه بحرف الجيم الممدودة هذا اللقاء المتثاقل المتمطّى، وفى مدّة الجيم، كما يقتضيها الترتيل القرآنى- فى ذلك كلّه، ما يوحى بأن القافلة فى غفلة تامة عن هذا الإنسان الذي فى الجبّ، يعالج سكرات الموت، وهى التي يسوقها القدر إليه، لتنقذه، ولتمسك عليه حياته.. وهنا يبلغ المشهد حدّا بالغا من التأزّم، تبهر معه الأنفاس، وتضطرب القلوب، وتذهب النفوس عن الحاضر الذي تعيش فيه، لتقف وراء هذه القافلة تستحثّها، وتصرخ فيها، لتدرك هذا الذي احتواه الجبّ، واشتمل عليه الهلاك!!
1247
وحطّت- القافلة- رحالها- بعد لأى- على مقربة من الجب، وجعلت تعالج فى تثاقل أمتعتها، وتسوى رحالها، وتهيىء لها منزلا آمنا تجد فيه الراحة فى ظله..
- «فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» ليرد الماء، وليستقى لهم منه.. والوارد، هو الذي يرد الماء.
- «قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ».. لقد جاء الدلو الذي أدلاه فى الجبّ بما لم يكن يتوقع أبدا.. جاءه بالغلام الذي كان ملقى فيه..
وفى كلمات قليلة موحية معجزة، تطوى الأحداث طيا، فلا تعرض منها إلا تلك الشواهد التي تقوم منها معالم مضيئة، تتحرك بها أحداث القصة إلى نهايتها..
- «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» أي أخفوه فى أمتعتهم، وجعلوه بضاعة من بضاعتهم، يبيعونه فيما يبيعون من بضائع.. هكذا كان حكم من يقع من الآدميين حينئذ، فى يد من يظفرون به فى حرب أو سلم!.
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ».. إشارة إلى أن هذا الذي يعملونه هو ما يقع فى علمه سبحانه وتعالى، وأنه- جل شأنه- غير غافل عما يحدث ليوسف، وفى هذا تطمين لتلك النفوس المشفقة على هذا الغلام، والتي لم تشهد عن بعد ما يكون من صنع الله به..
«وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ»..
شروه: أي باعوه، يقال: شرى الشيء أي باعه، واشتراه: أي أخذه بالثمن الذي ابتاعه به.
والثمن البخس: أي الذي فيه غبن على البائع، حيث باع الذي حقّه أن
1248
يبذل فيه المال الكثير، بمال قليل.. «دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ! ولو عرفوا قدر هذا الجوهر الكريم الذي فى أيديهم لضنّوا به، ولبالغوا فى الثمن الذي يطلبونه فيه، إن كان لا بد لهم من بيعه.. ولكنهم كانوا تجار أمتعة، لا تجار نفوس! ونقدة أموال، لا نقدة رجال!! - وفى قوله تعالى: «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» تشنيع على جهلهم بأقدار الرجال، وعمى بصيرتهم عن الكشف عن معادن النفوس!..
«وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ»..
وها هو ذا يوسف ينتقل من يد إلى يد حتى يقع أخيرا ليد رجل من مصر..
وإذن فيوسف الآن فى مصر.. فهل يستقرّ به المقام فيها، أم تتناقله الأيدى من بلد إلى بلد، ومن مصر إلى مصر؟
تحدّثنا الآية الكريمة من أول الأمر أنه سوف يستقر به المقام فى مصر وأنه سيكون ابنا من أبنائها..
فالرجل الذي اشتراه من مصر، قد ضمّه إليه، واتخذه ابنا له، إذ لم يكن له ولد، ودعا امرأته إلى أن تكرمه، وتتولى تربيته، وتنشئته، على أنه ابنها..
وهكذا يجد يوسف فى مصر أهلا بدل أهله، وأبا وأمّا مكان أبيه وأمه.
وهكذا صنع الله ليوسف.. وليس هذا فحسب، فإنه سيصنع له أكثر وأكثر..
فسيمكن الله له فى الأرض، ويعلمه من تأويل الأحاديث، كما قال له أبوه من
1249
قبل: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ»..
- وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» أي أن ما يقدّره الله سبحانه وتعالى ويقضى به، فإنه لا بد أن ينفذ، إذ هو سبحانه الغالب، لا يغلبه أحد ولا ينازعه مخلوق.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة، ولا يقدرون الله حق قدره..
وفى إضافة الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن الأمر كله لله سبحانه، وليس له شريك ينازعه الأمر فى أي شىء.. فهو سبحانه، الغالب على كلّ أمر، لا ينازعه منازع، ولا يعترض مشيئته معترض، إذ أنه ليس لأحد معه أمر.. كما يقول سبحانه: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ»..
(١٢٣: هود).
والآية الكريمة لم تكشف بعد عن وجه هذا الإنسان الذي ضمّ يوسف إليه، وجعله ابنا له.. إنه من مصر!..
أمّا من هو فى مصر، وما مكانته فى قومه، فستكشف عنه أحداث القصة فيما بعد.. وفى هذا تشويق للنفوس، وإثارة لحب الاستطلاع فيها، حتى تظل شاخصة إلى هذا الرّجل، باحثة عنه، إلى أن يلقاها هذا اللقاء المثير الذي يطلع عليها به فى دست الحكم، وعلى كرسى الوزارة.. إنه عزيز مصر..
«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»..
الحكم: الحكمة. وهى لمن آتاها الله، سلطان مبين، يملك به ما لا يملك أصحاب الملك والسلطان..
وقد استطاع يوسف- عليه السلام- أن يبلغ بتلك الحكمة هذا
1250
السلطان الذي كان له فى مصر.. فكان- وهو فى السجن- بحكمته، سيدا، تسمع كلمته، ويحتكم إليه فى المعضلات.. وبحكمته نفذ إلى خارج السجن، وأملى شروطه على فرعون مصر!! ثم بحكمته، وضع يده على مقاليد الأمور، فى مصر وتصريف مقاديرها..
والحكمة التي آتاها الله يوسف- عليه السلام- حكمة مستندة إلى علم، وليست حكمة مودعة فى صدره ينفق منها، بلا حساب أو تقدير.. وإنما هى حكمة قائمة على دراسة، ونظر، أقرب إلى الاكتساب منها إلى الفطرة.
وبهذا يجد لها صدى فى نفسه، وأثرا فى عقله وقلبه..
- وفى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى أنه- عليه السلام- كان من العاملين الذين أحسنوا العمل، فكان جزاؤه أن أوتى الحكمة، وحصّل العلم..
[يوسف.. والفتنة المتحدّية]
الآيات: (٢٣- ٢٩) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٩]
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
1251
التفسير:
قوله تعالى: «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ».. الواو للعطف، وهو عطف حدث على حدث..
والمراودة: المخادعة، والمخاتلة، والتدسس إلى النفس فى أسلوب من التلطف والاحتيال..
وهيت لك: هو صوت استدعاء لهذا الأمر الذي يكون بين الرجل والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، على هذه الصورة التي لم تعرفها اللغة العربية فى لسانها قبل نزول القرآن.. لأنه يحدث عن حال من شأنه أن يكون سرا بين الرجل والمرأة، ولغة مفهومة لهما، لا يعرفها غيرهما.. وذلك إعجاز من إعجاز القرآن.. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة «هيت» وخذها على أنها حكاية صوت، لا على أنها من لغة التخاطب المتعامل بها فى كل مقام!!.. إنها فى مقامها هذا كلمة استدعاء.. وكفى! - وفى قوله تعالى: «الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» إشارة إلى أنها ذات سلطان
1252
عليه، وأنه ربيب نعمتها، ونزيل بيتها.. وأن لها أن تأمر وعليه أن يطيع..
ولكنها جاءته مترفقة، متلطفة.. إذ كان هذا الأمر الذي تدعوه إليه لا يجاء له بأسلوب الأمر والقهر! - وفى قوله تعالى: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» إشارة إلى أنها هى التي تولت بنفسها الإعداد لهذا الأمر الذي دعته إليه.. فهى التي راودته عن نفسه بما ألقت إليه من كلمات، وإشارات، وتلميحات.. وهى التي غلقت الأبواب، فكانت تلك دعوة صريحة منها إليه.. ثم هى التي- حين رأت أن ذلك كله لم يدعه إليها، ولم يقرّ به منها- دعته إلى نفسها، وقالت:
«هَيْتَ لَكَ» أي هأنذا لك، فأقبل! وهذا ما لا تفعله الحرّة ذات الجاه والسلطان، إلا إذا كانت قد استبدّت بها الرغبة، ثم لم تجد من الجانب الآخر استجابة منه لها.. عندئذ تخلع عذار حيائها، وتتخلّى عن مكانتها كامرأة تطلب ولا تطلب!.. وفى كل هذا ما يحدّث عن تعفّف يوسف عليه السلام، وامتلأ كه لداعى الشهوة أمام هذه المغريات، التي تنحلّ لها عزمات الرجال، وتطيش معها أحلام ذوى الحلوم! «قالَ مَعاذَ اللَّهِ.. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ومع كل هذا الذي ساقته المرأة إلى يوسف- عليه السلام- من جمالها، وسلطانها، ومن تلطّفها به، واستدعائها له، وعرض نفسها عليه، ومع هذا الشباب المتفجّر فيه، والدماء الحارة المتدفقة فى عروقه- فإنه اعتصم بدينه، واستمسك بمروءته، فلم يقبل هذه الدعوة الآثمة، قائلا: «مَعاذَ اللَّهِ» أي عياذا بالله، ولجأ إليه لدفع هذا المكروه عنّى..
- «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» - أي إن هذا الفعل فوق أنه عصيان لله، وتعدّ لحدوده، هو خيانة للمروءة، وإنكار لإحسان هذا السيد الذي رباه،
1253
وأحسن مثواه.. والمثوى: المأوى الذي يأوى إليه الإنسان..
- «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».. الضمير فى «إنه» ضمير الشأن.. أي إنه فى أىّ حال وشأن لا يفلح الظالمون، الذين يعتدون على حقوق الناس، فيخونون الأمانة فيما اؤتمنوا عليه، أو يجحدون نعمة من كان له نعمة وفضل عليهم..!
«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ».
اختلف المفسرون فى معنى الهمّ الذي همّ به يوسف.. أهو همّ عزيمة، أم همّ رغبة؟ وهل هو همّ فعل، أم همّ ترك؟
وصريح اللفظ أنه- عليه السلام- همّ بها، كما همّت به.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» هكذا صريح للفظ القرآنى.. فلا وجه إذا للتفرقة بين أمرين متساويين، لفظا ومعنى.. كذلك اختلف المفسّرون فى قوله تعالى: «لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» - اختلفوا فى البرهان.. أهو ملك جاءه من الله؟ أم شىء وجده فى نفسه؟ أم صورة أبيه يعقوب، وقد ظهر عاضّا على إصبعه، محذرا من هذا الخطر الذي هو مقبل عليه.. إلى غير ذلك من عشرات الصور التي صوّر فيها المفسّرون هذا البرهان.!
وهم فى هذا كلّه إنما يريدون أن يدفعوا عن مقام هذا النبي الكريم أن يطوف به طائف من السوء، أو تنحلّ عزيمته أمام أية فتنة، أو تستجيب طبيعته لأى إغراء.. فمقام النبوة هو القمة التي لا ترقى إليها الشبه، ولا يرتفع إلى سمائها هذا الدخان المتصاعد من شهوات النفوس وأهوائها، حين تشبّ فيها نيران الشهوة، ويتّقد لهيب الفتنة؟ ولكن فات هؤلاء الذين ينظرون إلى النبي هذه النظرة- ونحن ننظر إليه كما ينظرون- فاتهم أن النبي بشر
1254
قبل أن يكون نبيّا.. وأنه حين يلبس ثوب النبوة لا يخلع ثوب البشرية أبدا..
وغاية ما هنالك أنها بشرية فى أعلى مستواها وأشرف منازلها..
وعلى هذا، فإن الذي نطمئن إليه، هو أن هذا البرهان كان شيئا حسيا، أو بمعنى آخر، كان حدثا وقع فى تلك اللحظة الحاسمة، فحال دون وقوع هذا الأمر، وكان صارفا عنه.. والذي لولاه لوقع! وهذا البرهان هو- والله أعلم- إشارة كانت تعلن عن قدوم العزيز إلى أهله.. إذ من المعقول جدا أن يكون للعزيز شارة من الشارات، ينبّه بها زوجه إلى أنه قادم إليها.. وذلك كرسول يتقدمه، أو نفير يعلن عنه.. أو نحو هذا..
شأن أصحاب السلطان، حين يغدون، أو يروحون، بين مجلس الحكم، ومجلسه الخاص فى أهله وولده.
وعلى هذا يكون المراد بربه هنا، هو سيده الذي ربّاه، وهو «العزيز» الذي يقول عنه: «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ».. ويكون بذلك، الضمير فى «ربه» عائدا إلى ربه هذا.. وقد جاء على لسان يوسف أكثر من مرّة، الحديث عن السيد بلفظ الرب.. «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».. «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ»..
وهذا الحدث الذي كان سببا مباشرا فى الحيلولة دون وقوع المعصية، هو بالنسبة ليوسف عليه السلام برهان من ربّه، وآية من آيات فضله عليه، وحراسته له..!
فالأسباب الموصّلة إلى الأعمال الطيبة، أو الحائلة دون السيئة، هى دليل على عناية الله وتوفيقه.. كما أن الأسباب المؤدية إلى الشرّ، أو الصارفة عن الخير، دليل على خذلان الله للعبد، وتخليته وأهواء نفسه ونزغات شيطانه! فللذين التقوا بالأنبياء والرسل، وكانوا من حوارييهم وخلصائهم، إنما
1255
انتصبت لهم الأسباب المسعدة التي وصلتهم بهم، ومكنت لهم من أن يقبسوا من الهدى الذي بين أيديهم! وكذلك الذين التقوا بالرسل والأنبياء، وكانوا حربا عليهم، وظلاما يحجب ضوء الهدى عن الناس- إنما اجتمعت لهم الأسباب التي وقفت بهم هذا الموقف، وساقتهم إلى هذا البلاء! فالأسباب، ألطاف من ألطاف الله، وآيات من آيات رحمته، يدنيها- سبحانه- من أوليائه، وييسرهم لها.. أو هى مزالق وعثرات يهوى إليها أعداء الله، ويتساقطون فيها.. «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (٥- ١٠: الليل) ومجىء العزيز، أو ظهور الشّارة الدالة على مجيئه فى تلك اللحظة الحاسمة، هى آية من آيات الله، ورحمة من رحمته، ولطف من ألطافه، وحراسة قائمة على هذا النبي الكريم أن تزلّ قدمه.. وهكذا تحفّ ألطاف الله بعباده المخلصين، وتتداركهم رحمته، فى أمثال هذه الساعات الحرجة.. يقول الله تعالى فى يونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (١٤٣- ١٤٤: الصافات).. فهذا التسبيح الذي ألهمه الله إيّاه، هو اللطف الذي أمدّه الله به، وهو حبل النجاة الذي أرسله إليه وهو فى بطن الحوت.. ويقول سبحانه فى يونس أيضا: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (٤٨- ٥٠: القلم) وفى هذا يقول تبارك وتعالى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ
1256
الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً»
(٧٤- ٧٥: الإسراء) ويقول سبحانه عن رسله جميعا: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (١١٠: يوسف) فالرسل، والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- مبتلون بما يبتلى به الناس من فتن، تلحّ عليهم بأهوالها، فيتلقونها بعزماتهم، ويصدّونها بإيمانهم، ويستعصمون منها بكل ما فى طاقاتهم من قوّى، حتى إذا استنفدوا كل ما فى كيانهم من صبر وبلاء، وكادوا يهزمون فى هذا الصراع المحتدم، جاءهم نصر الله، وتوافدت عليهم أمداده وألطافه، فربطت على قلوبهم، وثبتت من أقدامهم، وإذا هم فى مقامهم الرفيع الكريم، وإذا الفتن صرعى بين أيديهم، ملففة فى تراب الخزي والاندحار! وأي فضل لأنبياء الله ورسله على غيرهم من الناس، إذا هم لم يبتلوا هذا البلاء، وإذا هم لم يجاهدوا هذا الجهاد فى مواجهة الفتن ومغالبة الأهواء والشهوات؟
وأي فضل لهم إذا كانت الفتن لا تحوم حولهم، وكانت الأهواء والشهوات تتساقط من نفوسهم من غير جهد وعناء؟ وأي فضل لهم يحمدون عليه، ويستأهلون به هذا المقام العظيم الذي هم فيه، إذا لم تتحرك فيهم دواعى الشهوات، ولم تنازعهم الأهواء؟
إن الثواب- كما يقولون- على قدر المشقة..
وهذا يعنى: أن نصيب أنبياء الله، ورسله، وأوليائه من المعاناة والمشقة أكبر نصيب، وأنه يقدر ما واجهوا من بلاء وفتنة بقدر ما كان لهم من منزلة عند ربهم..
وفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى فيما امتحن به، وفيما تعرض له، من فتن وابتلاء، فى مشاعره، وعواطفه، ونوازعه.. فلقد شهد
1257
أهله يتمزّقون بين يديه شيعا، ورأى أتباعه وأحبابه يعذّبون بسياط الظلم بين يديه، ويموتون تحت وطأة هذا العذاب، كما رآهم وهم يخرجون مهاجرين، فارّين من وجه هذا البلاء، مخلّفين وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم.. ثم رآهم فى ميدان القتال يخرون صرعى، يفدّونه بأنفسهم، وبودّه لو فدّاهم بنفسه..
وهكذا كانت حياة النبىّ ساعة بساعة، بل ولحظة لحظة، مسيرة شاقّة على درب طويل من الآلام والمحن.. وبهذا استحقّ تلك المنزلة التي استوى بها على هامة الإنسانية كلها، فكان سيد خلق الله، وخاتم رسل الله، وإمام أنبياء الله!! وعلى هذا، فإنّ لنا أن نفهم قوله تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» على أن امرأة العزيز قد همّت به، وأنه- عليه السلام- همّ بها وكاد الأمر يقع، لولا أن تداركه رحمة من ربّه، فأقام هذا السبب المادىّ حائلا دون وقوع الفاحشة..
وفى هذا تتجلّى رحمة الله بأوليائه، ورعايته لهم! ومن جهة أخرى، فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- ليسوا من عالم الملائكة، وإنما هم بشر، تتحرك فى كيانهم نوازع الإنسان وشهواته، وأنّهم يغالبون هذه النوازع، ويمسكون زمام تلك الشهوات، ولكن إلى مدى، هو غاية ما يبلغه احتمال البشر.. حتى إذا كان النبىّ من أنبياء الله أو الرسول من رسله فى مواجهة تجربة كهذه التجربة، التي استنفد فيها- كإنسان وكنبىّ معا- كلّ مالديه من صبر واحتمال، بشرىّ- جاءت أمداد الله، لتمد النبىّ فى هذه المعركة التي لا بد أن يكسبها، ويكتب له النصر فيها، وذلك لحساب النبوّة والرسالة، ولحساب النبىّ كنبىّ والرسول كرسول.. تماما كما جاءت أمداد السّماء لتشارك فى معركة بدر، ولتقوم إلى جانب الجهد الإنسانىّ، فى كسب أول معركة للإسلام، تلك المعركة التي كان لا بد له أن يكسبها!!
1258
وقد أحسن الإمام البيضاوي، حين قال عن همّ امرأة العزيز بيوسف وهمّه هو بها: «قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها.. والهمّ بالشيء: قصده والعزم عليه.. والمراد بهمّه عليه السلام، ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله، من يكفّ نفسه عند قيام هذا الهمّ ومشارفة الهمّ».
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» أي بمثل هذا البرهان نجىء به إليه، لنصرف عنه «السّوء» أي الأذى، الذي تتعرض له فطرته السليمة «والفحشاء» أي المنكر الممثل فى الزّنا. «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» هو تعليل لما أراد الله بهذا النبىّ الكريم من خير، فصرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباد الله الذي اصطفاهم الله، وجعلهم خالصة له.
«وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
حين رأى يوسف برهان ربّه، وهو الشارة الدلّة على مقدم العزيز إليهما- رأته معه كذلك امرأة العزيز، فأسرعا إلى الباب المغلق دونهما، وأسرع كل منهما طالبا الخروج من المخدع، وقد كان يوسف أسرع منها، فتناولته من خلف بيدها لتسبقه، ولتنجو بنفسها، فعلقت يدها بقميصه فقدّته من دبر، أي قطعته طولا، من الخلف.. وما كاد يفتح الباب حتى كان «العزيز» معهما وجها لوجه.. وكان جوابها حاضرا، إذ كانت تعيش فى هذه المحنة أياما وليالى، وتفكر فيها وتقلّبها على جميع وجوهها واحتمالاتها.. ومن هذه الاحتمالات أن يعلم زوجها بالأمر، أو يضبطها متلبسة به.. فلما وقعت الواقعة، وجدت الجواب الذي أعدته. «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
1259
وهكذا تتّهم، وتحكم فى التهمة، فلا تدع لزوجها فرصة للتفكير فيما ينبغى أن يواجه به هذه الموقف.. فها هوذا الحلّ حاضر بين يديه، لا يحتاج منه إلى تفكير! - وفى قولها: «مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» إشارة إلى أن الأمر لم يجاوز حدّ الرغبة والإرادة.
- وفى قولها «بِأَهْلِكَ» بدلا من قولها «بي» لتضيف نفسها إلى العزيز، فتثير عاطفته نحوها، على حين أنها تغريه بهذا الذي اعتدى على العزيز فى أهله! «قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
وكان ردّ يوسف على هذا الاتهام الجريء له، قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي».. ففى هذه الكلمات القليلة المستغنية بصدقها عن كل قول، دفع يوسف التهمة الظالمة التي رمى بها.. وهكذا شأن أصحاب الحقّ، يجدون فى الكلمة المرسلة على طبيعتها من غير حلف أو توكيد، ما يغنى عن كل قول.. وليس كذلك شأن أصحاب الزور والبهتان.. إنهم يكثرون من الثرثرة واللغو، ويبالغون فى الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليداروا هذا الباطل الذي يجرونه على ألسنتهم، وليبعثوا فيه شيئا من الحرارة والحياة! - قوله تعالى: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها».. هو جملة حاليّة، جاءت مصدقة لقول يوسف: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي».. أي قال هذا القول الذي صدّقه الحال، والذي استدل به العزيز على صدق يوسف وكذبها..
وقد اختلف المفسرون فى هذا الشاهد الذي شهد.. فقالوا إنه طفل،
1260
أنطقه الله، وقالوا إنه رجل من أهل العلم.. وقالوا، وقالوا! والذي نراه- والله أعلم- أن هذا الشاهد هو العزيز نفسه، وأنه إذ نظر إلى يوسف، فرأى قميصه ممزقا، أدار بينه وبين نفسه حديثا عن هذا القميص:
لم مزّق؟ ومن مزّقه؟ ولم كان ممزقا من خلف لا من أمام؟ وهل لذلك من دلالة؟.. ثم أسلم نفسه لتفكير عميق، وفى رأسه تدور الأفكار، وتموج الخواطر.. يقلّب الأمر على جميع وجوهه، ويعرضه على كل احتمالاته.. ثم ينتهى به الرأى إلى تلك الحقيقة التي هى فيصل الأمر، ومقطع الرأى: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ».. هذا ما أمسك به العزيز من الخواطر الكثيرة، والآراء المتدافعة التي كانت تتوارد عليه.. وقد أمسك أولا بالخاطر الذي يبرىء زوجه، ويدين يوسف، فذلك هو الذي كان يرجوه، ويودّ لو أن هذه الفاجعة قد أقامت له الدليل عليه! «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ..»
وإذ استراح العزيز إلى هذا الرأى، تلّفت إلى يوسف، وأخذه بعينيه، ونظر إلى القميص، فرآه قد قدّ من دبر! «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ»..
وهكذا برئت ساحة يوسف- وهو البريء دائما- وأقبل العزيز على المرأة، لا ليدينها فى شخصها، بل ليجعل هذه التهمة قسمة مشاعة فى بنات جنسها جميعا.. «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيتها النساء «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» إنّ فيكنّ المكر والدهاء، وسعة الحيلة فى هذا المجال.. وإذن فلا يستغرب منك هذا، بل ولا ينكر منك، فما أنت إلّا واحدة من بنات جنسك!! فلا عليك! «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ».
- «يوسف» منادى، أي يا يوسف، والمنادى له هو العزيز، يحذّره- وإن
1261
ظهرت براءته عنده- من أن يحوم حول هذا الحمى! ثم يلتفت إلى المرأة يطلب إليها أن تستغفر لهذا الذنب، وأن تطلب الصفح عن هذه الخطيئة التي كادت تقع فيها..!
وليس من الحتم اللازم أن تكون هذه المرأة مؤمنة بالله، حتى تستغفر لذنبها- كما يقول بذلك المفسرون- بل يجوز- وهو الغالب- أن تكون وثنية، تطلب الصفح والمغفرة من وثنها الذي تعبده، أو من الكاهن الذي يقوم على خدمة هذا الوثن! - وفى قوله تعالى: «إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» بدلا من قوله: إنك كنت من الخاطئات، ليخفف على نفسها وقع هذه التهمة التي واجهها بها، فلا يجعل تلك الخطيئة مقصورة على بنات جنسها وحدهن، بل يشاركهن الرجال فيها، وهو منهم.. فلا عليها إذن أن تستغفر لذنبها هذا، الذي كان الناس- من نساء ورجال- معرّضين له.. فإذا كنت قد أخطأت فما أكثر الخاطئين قبل الخاطئات!..
وقد رأينا من قبل كيف أنه لم يواجهها بالتهمة فى شخصها، بل واجهها بها فى بنات جنسها: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ»..
وقد اتهم بعض المفسرين «العزيز» بأنه كان ناقصا فى رجولته، ولم يكن له أرب فى النساء، لأنه استقبل فعلة امرأته بهذا الاستخفاف والبرود!..
وهذا تعليل غير صحيح.. إذ المعروف أن من كان فى رجولتهم شىء من النقص، داروه بتلك الغيرة الزائدة، المجاوزة لكل حدّ!..
ولعل أقرب تعليل لموقف «العزيز» هذا، هو أنه كان ينظر إلى يوسف نظرته إلى ابنه، وأن ما كان من امرأته لم يكن إلا نزوة طائشة، أعمتها عن أن
1262
تنظر إلى يوسف نظرة الأم إلى ولدها، وأنها سرعان ما تعود إلى رشدها وتصحح نظرتها إليه..
والذي جعلنا نميل إلى القول بأن الشاهد الذي شهد بإدانة امرأة العزيز، هو العزيز نفسه- الذي جعلنا نميل إلى هذا القول، هو ما يشهد به واقع الحال، وهو أن «العزيز» وهو صاحب هذا المقام فى قومه، ما كان له أن يفضح نفسه وأهله على الملأ، وأن يستدعى من يحتكم إليه، فى أمر شهده هو بنفسه، واطلع عليه من غير أن يدله عليه أحد! وإنه لمن السفاهة والحمق، بل والعجز، أن يعرّض العزيز مكانته، وشرفه وشرف أهله لهذه الفضيحة على الملأ.. فيصبح، وإذا هو وزوجه على ألسنة الناس، يطلقون فيهما قالة السوء، ويولدون من هذا الحدث أحداثا تنمو وتتضخم على الأيام! فكان من الحكمة إذا أن يتدبر «العزيز» أمره بنفسه، وأن يحصر الأمر فى أضيق حدوده، وأن يحسمه هذا الحسم الرشيد، فى غير صخب وضجيج.. فكان حكمه هكذا:
- «يُوسُفُ: أَعْرِضْ عَنْ هذا»..
- «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ.. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ»..
لفتة إلى يوسف، ولفتة إليها..
ثم انتهى الأمر عند هذا الحد.. ولكن إلى حين..!
فلقد دبّر العزيز فى نفسه أمرا.. ولكن بعد أن تنتهى هذه العاصفة.. فتحيّن ليوسف فرصة يدفع به إلى السجن بها.. ولكن من غير أن يكون لامرأته- فى ظاهر الأمر- شأن يتعلق بها فى أمر يوسف وسجنه.. من قريب أو من بعيد! على ما سنرى فى أحداث القصة.. بعد..
1263
(الآيات: (٣٠- ٣٥) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
التفسير:
العزيز: السيد ذو السلطان والقوة، فهو عزيز بسلطانه وقوته..
شغفها حبّا: أي ملك قلبها، واستبد به.. والشّغاف: وسط القلب.
أعتدت لهن متكأ: أي أعدّت وأحضرت، وشىء عتيد أي حاضر.. والمتكأ:
1264
ما يتكأ عليه، من وساد ونحوه.. أصب إليهن: أي أميل، والصبوة الميل إلى النساء خاصة، وصبا وصبأ أي مال، ومنه الصابئة، وهم الذين مالوا مع هواهم إلى عبادة غير الله.. والصبا: ريح لطيفة، تهب فى أصائل الأيام القائظة، فتميل إليها النفوس..
قوله تعالى: «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
لأول مرة يكشف القرآن الكريم عن شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه. فيحدّث عنها بأنها امرأة العزيز، أي السيد الحاكم فى مصر، ومن هذا نعرف أن البيت الذي ضم يوسف إليه واحتواه، هو بيت حاكم مصر..
ولم يكشف القرآن من قبل عن مركز هذه المرأة الاجتماعى، لأن الأحداث كانت تجرى على المستوي المألوف فى حياة الناس، عامّتهم، وخاصتهم على السواء.. فأى بيت كان يمكن أن يضمّ يوسف إليه، وأي امرأة كان من الممكن أن تراوده عن نفسه، سواء كانت امرأة ملك أو سوقة.. إنها امرأة أيّا كان وضعها الاجتماعى! إذ لم يكن ليوسف خيار فى اختيار السيد الذي يملكه!.
أمّا حين يكون للحدث ذكر يراد به الكشف عن وقعه فى المجتمع وأثره فى الناس، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمن يتعلق به الحدث، من حيث وضعه الاجتماعى ومكانته فى المجتمع..
فالحدث يكبر أو يصغر، وتتسع دائرته أو تضيق تبعا لمن تعلق به الحدث..! إذ يقتل الرجل من عامة الناس، دون أن يشعر الناس بهذا الحدث أو يلتفتوا إليه، على حين يصاب الحاكم أو السيد من سادة القوم، بخدش أو
1265
جرح، فيكون ذلك حديث الناس فى الأندية والمحافل، ليوم أو لبضعة أيام، وربما لشهور أو سنين..
فعيون الناس وآذانهم متعلقة بأصحاب السلطان والسيادة فيهم.. يتسمّعون أخبارهم، ويرقبون أحوالهم، ويشتغلون بالحديث عنهم، فى كل ما يتصل بهم من صغير أمورهم وكبيرها.. هكذا الناس فى كل زمان ومكان..
وعلى الرغم من أن حادثة امرأة العزيز كانت فى دائرة ضيقة، لا تتعدى المرأة، ويوسف وزوجها، فإنه سرعان ما نفذت العيون من خدم القصر إلى هذا السر، ووقعت الآذان عليه، فكان همسا على الشفاه، ثم كان حديثا دائرا على الألسنة، أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة.. وذلك لما كان من العزيز فى معالجة هذا الأمر، بحكمة، ولطف، وحذر.
والنساء هن أكثر الناس بحثا عن أسرار البيوت، وأقدرهن على فتح مغالقها وكشفها..
وها هى ذى امرأة العزيز تصبح هى وفعلتها مع يوسف، حديث الطبقة العالية فى نساء المجتمع، ممن هنّ على مداناة وقرب منها.
«وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ.. قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».. هكذا يتحرك الخبر، وتتحرك معه التعليقات المناسبة له.. «قَدْ شَغَفَها حُبًّا!!» أي ملأ قلبها حبّا، واستولى عليه.. «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! إنها الفضيحة قد أخذت تتحرك بسرعة فى المجتمع، وإنها اليوم حديث نساء الحاشية، وما حولها، وغدا ستكون حديث البلاد كلها.. فلابد إذا من تدبير يمسك هذه الفضيحة، أو يخفف من انطلاقها، وإلّا أفلت الزمام وساءت العاقبة!
1266
وفى سرعة، وحكمة، أخذت امرأة العزيز تعمل وتعمل! كما أخذ العزيز يفكر ويقدّر..
«فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ..» «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» لقد أعدت امرأة العزيز وليمة، ودعت إليها هؤلاء النسوة اللاتي تحدّثن عنها بهذا الحديث الذي عرّضن فيه بها، وجرّحنها بقوارص الكلم، وطعنّها بألسنة الاتهام! وكان من تدبيرها أنها هيأت لكل واحدة منهن متّكأ، لتسلم نفسها إليه، مسترخية، وتمسك فى يديها بسكين حادّ مرهف، تعالج به بعض الفاكهة التي بين يديها..
وهكذا أخذ النسوة مجلسهن هذا عند امرأة العزيز، وهن متكئات على المساند اللّينة، يتناولن الفاكهة بعد أن امتلأن بما قدّم لهن من شهىّ الطعام، على مائدة حفلت بكل ما لذّ وطاب منه.. وما كاد يبدأ الفتور عليهن، وهنّ مستسلمات لتلك الإغفاءة اللذيذة، التي تطوف بالمرء بعد غذاء شهىّ، يتجاذبن الأحاديث فى تكسّر وفتور أشبه بأحلام اليقظة- حتى تضرب المرأة ضربتها فتصيب منهن مقتلا! وإذا يوسف، وقد أخذ زينته، إلى ما حباه الله من جمال الصورة، وجلال النبوة، يطلع عليهنّ، وكأنه ملك نزل من السماء، لا يدرين من أين جاء، فيصحون صحوة السكران من خماره، حين يجد نفسه بين يدى ظاهرة من ظواهر الطبيعة المفاجئة المذهلة.. وإذا كيانهنّ كله يصبح عيونا معلّقة بهذه المعجزة التي طلع عليهن القدر بها! واستبدّ بهنّ الذهول، ولم
1267
يعدن يدرين ماذا يمسكن فى أيديهن.. وفى حركات لا شعوريّة أعملن السكاكين فى أيديهن، فأصابت منهن ما كان من شأنه أن يصيب الفاكهة منها.. فسالت الجروح، ونزفت الدماء!! وعندئذ تنبهن إلى وجودهن..
«وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً..! إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» !! عندئذ استوثقت امرأة العزيز مما وقع فى قلوبهن من يوسف، فصرّحت يمكنون سرّها، ووجدت أن ذلك ليس مما يعيبها، إذ كان الأمر أكثر مما تحتمله هى أو غيرها من النساء، فى مواجهة هذه المعجزة التي لا قبل للنّاس أن يتحدوها.
«قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» وهكذا كان انتقام المرأة لنفسها ممن أظهرن الشماتة بها.. لقد أذاقتهن من نفس الكأس التي شربتها، فسكرن سكرتها، ووقعن أسيرات لهذا الجمال الآسر، وعشن معها بهذا الداء، يعالجنه، ويطلبن الشفاء له.. وهكذا أخرست تلك الألسنة التي كانت تذيع قالة السوء فيها، فشغلت كل واحدة منهن بهمومها، وأشجانها، مع هذا الجمال الملائكى القاهر.
أما يوسف- عليه السلام- فقد تضاعفت محنته، وتكاثرت حوله الفخاخ والشباك المنصوبة لصيده، والكيد له، ولم يكن له إلا ربّه- سبحانه وتعالى- يطلب العون منه، والحماية والصون ممّا يكاد له.
«قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ»..
إنه بين يدى كيد يكاد له، وفتنة ملحّة تتبدّى أمام ناظريه، وتجىء إليه بكل مغرياتها.. وهو- بعد- إنسان.. معه قلبه، وشبابه وشهوته
1268
وإنه- فى دينه ومروءته- ليؤثر السّجن على ما يدعونه إليه من إثم..
ولكن للاحتمال طاقة، وللصبر حدّ، ولن يمسك عليه دينه، ويدفع عنه هذا البلاء الذي لا يحتمل، إلّا عون يعينه الله به، وقوة يضيفها الله إلى قوته.
«وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ».. فصرف هذا الكيد، وإبعاد تلك الفتنة من طريقه، هو الذي يصرفه عن هذا البلاء، ويعافيه من هذا الشرّ، وذلك برعاية الله سبحانه وتعالى له، وصرف السوء عنه.
«فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»..
ولا تسل ما تدبير الله فى هذا، فذلك من قدرة الله، ومن آياته..
«ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ».. أي ثم بدا للعزيز، مع ما شاهد من الآيات الدالة على عفّة يوسف وبراءته مما رمته امرأته به- بدا له أن يأخذه بشىء من العقاب، وأن يلقى به فى السجن، وذلك بعد أن هدأت نار الفتنة، ونسى الناس أمرها، حتى لا يقال: إن العزيز قد ألقى بيوسف فى السجن عقابا للحدث الذي كان بينه وبين امرأته.
وتعالت حكمة الله..!!
لقد كان هذا السجن هو الصّارف الذي صرف به سبحانه وتعالى هذا الكيد الذي يراد بعبد من عباده المخلصين.. فلقد عزله هذا السجن عزلا تامّا عن موطن الفتنة، وباعد بينه وبين آفاقها التي تطلع عليه منها..
ثم كان هذا السّجن الطريق الذي سلك به إلى هذا الملك الذي أراد سبحانه وتعالى أن يضعه بين يديه: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
1269
الآيات: (٣٦- ٤٢) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)
التفسير:
«وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ».. والفتى هو الخادم، أو المملوك الذي فى خدمة سيده.
1270
ويجوز أن يكون هذان الفتيان قد دخلا مع يوسف السّجن فى يوم واحد، إثر حدث وقع فى قصر الملك، إذ كان هذان الغلامان ممن يخدمان الملك، فحامت حولهما شبهة دفعت بهما إلى السّجن، ودفع بيوسف إليه معهما، على حساب أنه ممن علقت به تلك الشبهة، بتدبير من امرأة العزيز، وممن معها من النّسوة اللائي كنّ فى حاشيتها.. أو بتدبير من العزيز نفسه انتقاما لشرفه، الذي لاكته الألسنة زمنا.. وكانت المؤامرة التي وقعت فى قصر الملك فرصة لأخذ يوسف مع من أخذ بها.
«قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ».
إنهما قد رأى كل منهما رؤيا مناميّة، وقد عرفا فى يوسف علما وحكمة، فتحدثا إليه بما رأيا، وطلبا إليه أن يكشف لهما ما تنبىء عنه رؤيا كل منهما.
- وفى قول كل منهما: «إِنِّي أَرانِي» - إشارة إلى أن كلّ واحد منهما رأى نفسه فى المنام على الصورة التي حدّثه بها.. فالرائى شخص والمرئى شخص آخر، وإن كان صورة منه.
«قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ».
لم يلتفت يوسف كثيرا إلى هذه الرؤيا التي رآها صاحبا سجنه، ولم يجعل
1271
بالكشف لهما عن تأويلهما، إذ كانت إحداهما تحمل الموت إلى صاحبها، على حين تحمل الأخرى لصاحبها الحياة والخلاص من السجن.. فآثر أن يتريث قليلا، ولا يكشف لهما عن هذا الجانب المحزن من الرؤيا..
ثم أخذ يحدثهما عما علّمه الله من علم، وأنه إذا كان سيكشف لهما عن تأويل رؤياهما، فذلك مما علّمه الله، الذي يؤمن به، بل إن الله سبحانه قد علّمه أكثر من تأويل الأحاديث، فهو- بما علمه الله- يستطيع أن يخبرهما عن أىّ طعام يحمل إليهما، قبل أن يأتيهما، وذلك على نحو ما كان لعيسى عليه السلام، إذ يقول لبنى إسرائيل: «وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم» (٤٩: آل عمران).
ويثير هذا الحديث تساؤلات كثيرة عن صاحبى السجن، تدور فى رأسيهما، وتظهر على قسمات وجهيهما.. يبحثان عن هذا «الربّ» الذي يعلّم المؤمنين به، والعابدين له، هذا العلم.. إن لهما أربابا كثيرة، فلم لم تمنحهما شيئا من هذا العلم؟ وهل ربّ يوسف هذا على غير شاكلة الأرباب التي يعرفونها ويعبدونها؟
ويراها «يوسف» فرصة سانحة، للدعوة إلى الله، وإلى هداية هذين الضالّين إلى الإيمان، فيكشف لهما عن وجه الحق، ويفتح لهما الطريق إلى ربّه الذي يعبده! - «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ».. إذن فقد كان من يوسف عمل، حتى وصل إلى ما وصل إليه، وهو أنه ترك دين قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. وإذن فإنهما إن أرادا أن يلحقا به، فليتركا ملّة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، كما ترك هو ملّة من لا يؤمن بالله، واليوم الآخر!
1272
ويوسف عليه السلام لم يكن على غير دين التوحيد، فقد ولد مسلما، ابن مسلم، ابن مسلم، ابن مسلم، فهو كما فى الحديث الشريف: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».. ولكنه يعنى بهذا أنه لم يكن مجرّد متابع لدين ورثه عن آبائه، بل إنه نظر إلى الدين الذي يدين به آباؤه، وإلى الأديان التي يدين بها الملحدون، الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدل عن هذه الأديان، وتركها وراءه ظهريّا، وأقبل على دين آبائه، لأنه الدين الحقّ، الذي يدين به العقلاء! «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ».
- وفى قوله: «ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ» - إشارة إلى أنه هو وآباؤه، وقد عرفوا طريق الحق، ما كان يصحّ عندهم أن يعدلا عن هذا الطريق إلى طريق الشك بالله. وذلك من فضل الله علينا، وعلى الناس الذين حمداهم إلى الإيمان، وأقامهم على طريق الحق.. «ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون» الله على ما فضل به عليهم من نعم، فإن عدم التعرف على الإله المنعم كفران بهذه النعم، يقود إلى الكفر بالمنعم ذاته.
ثم يمضى يوسف، فيشرح لهما قضيّة الألوهية بمنطق الحسّ والمشاهدة:
- «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ؟ إن العقل يقضى لأول خاطرة، أن الواحد الذي يجتمع إليه كل ما فى يد الآخرين من سلطان، هو أولى بأن يلجأ إليه، ويلاذ به..
فالله- سبحانه- هو ربّ الأرباب، فكيف يعدل عنه إلى من هم تحت سلطانه؟ وكيف يعبدون من دونه؟ ذلك هو الضلال البعيد!
1273
تلك هى القضية.. وهذا هو فيصل ما بين إله يوسف، والآلهة التي يعبدها القوم..
- «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ».
وذلك ما كشف عنه الواقع من الآلهة التي يعبدها صاحبا السجن وقومهما..
ما يعبدون من دون الله إلا أسماء.. أي مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمّياتها.. هى أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها..!
- وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» أي أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفى وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند الله.. وإنما هى من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده.
- «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ». فالحكم بين الناس، والفصل فيما هم مختلفون فيه، فيما يعبدون- هو لله، وسيجزى كلّ عامل بما عمل.. وهو- سبحانه قد أمر ألّا يعبد غيره، وذلك فيما حمل الرسل إلى الناس من رسالات الله إلى عباده، فذلك هو الدّين الحقّ، المستقيم الذي لا عوج فيه. «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» هذه الحقيقة، فيضلّون، ويكفرون بالله، ويعبدون من دونه تلك الدّمى التي يسمونها آلهة! وإلى هنا يكون يوسف قد نفذ بدعوته إلى قلبى هذين الرجلين الضالّين، فهداهما إلى الله، وفتح لهما الطريق إلى صراطه المستقيم.. وهكذا لم ينس رسالته
1274
إلى الناس وإلى هدايتهم ودعوتهم إلى الله، وهو فى سجنه هذا، يعالج المحنة، ويتجرع مرارة الظلم..
وإذ يستريح إلى أنه أدّى رسالته فى هذه الحدود الضيقة، يعود فيكشف لصاحبيه عن السرّ المحجّب وراء رؤياهما..
«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ..»
وهكذا بعد أن قال يوسف لصاحبى سجنه ما أراد أن يقوله- من الدعوة إلى الإيمان بالله، وهما مشدودان إليه بتلك الرغبة الملحة عليهما فى الاستماع إلى كلمته التي يقولها فى تأويل رؤياهما- أخذ يكشف لهما- مما أراه الله- عن تأويل هذه الرؤيا..!
- «أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ..»
ويلاحظ أنه لم يقل لكل منهما على حدة تأويل رؤياه، حتى لا يواجه الذي سيصلب بهذا الخبر المزعج، بل ألقى إليهما تأويل رؤياهما معا، ليأخذ كل منهما بنفسه ما يراه متفقا مع رؤياه..
- وفى قوله تعالى: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» توكيد لما كشف عنه من تأويل الرؤيا، وأن ذلك الذي كشف له عنهما من رؤياهما، هو أمر واقع، قضى الله به، ولا رادّ لما قضى الله!..
قوله تعالى: «وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ»..
وحين علم يوسف من تأويل الرؤيا أن أحد صاحبى سجنه سيخلى سبيله،
1275
ويعود إلى مكانه من الملك، ساقيا لشرابه- قال له: «اذكرني عند ربك» أي تحدّث بشأنى عند الملك، واكشف له عن الكيد الذي كاد لى به النسوة حتى ألقوا بي فى السجن، فلعلّه يفكّ قيدى، ويطلق سراحى..
- وفى قوله تعالى: «ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ» إشارة إلى أن علمه بتأويل الرؤيا لم يبلغ مرتبة اليقين المطلق الذي يتلقاه وحيا من ربه، ولكنه علم مستمد من بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهو- أيّا كان- علم ذاتىّ، يراه إلى جانب ما يوحى إليه من ربّه، ظنّا غير مستيقن..
وفى غمرة الفرحة بالخلاص، نسى صاحب السجن هذا الذي نجا، ما عهد إليه به يوسف، فلم يذكره عند سيده، وهكذا نسى الناس أمره، فلبث فى السجن بضع سنين!
الآيات: (٤٣- ٤٩) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٩]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
1276
التفسير:
«وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ.. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ»..
العجاف: المهازيل، واحدتها عجفاء، وهى قليلة اللحم لضعفها وهزالها..
أفتونى: من الفتيا، وهى الكشف عن أمر خفىّ، يسأل عنه أهل الخبرة فيه..
تعبرون: عبر الأمر، سبره واختبره.. وتعبير الرؤيا: عبورها إلى ما وراءها من دلالات.. وعبر الوادي: جانبه الآخر..
ورؤيا الملك.. هى رؤيا نائم، حيث وقع له فى نومه هذا الذي رآه، وطلب إلى أهل العلم تأويله..
«قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ»..
الأضغاث: الأخلاط من كل شىء، ويجمع الغث والثمين، واحدها ضغث، ومنه قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ» (٤٤: ص) أي مجموعة من أعواد الحطب، وقيل سباطه نخل..
لقد رأى الملك فى منامه تلك الرؤيا التي دعا لتأويلها أهل العلم والنظر من رجال دولته، فلم ينكشف لهم منها شىء.. وقالوا هى أخلاط من الأحلام، أشبه بالهلوسة، لا تستقيم منها صورة سويّة يمكن أن يتحققها النظر، ويقع منها على
1277
مفهوم، له معقول.. فكيف يجدون تأويلا لهذه الأخلاط من الأحلام، وهم لا يعلمون تأويل الأحلام ذاتها؟ إن تأويل الحلم وحلّ رموزه يحتاج إلى بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهذا أمر غير ميسور، لا يقع إلا لقلة قليلة من الناس، ثم لا يكون لهم مع ذلك القدرة على تأويل كل حلم، فكيف بأضغاث الأحلام؟
والأحلام هى من واردات العقل الباطن للإنسان، كما يقول علم النفس الحديث، أو هى من حديث النفس إلى صاحبها، وللنفوس أحاديث ذات منطق خاص بها، لا يلتقى كثيرا مع منطق الحياة، على مألوف الإنسان منها..
فحديثها فى الغالب إشارات ورموز، لا يستجلى مراميها إلا أهل البصيرة النافذة..
ولعل فى قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ».. لعل فى هذا ما يشير إلى أن المراد بالأحاديث، هو الأحلام، وهى من حديث النفوس إلى أصحابها..
ويشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه أن أبرز ما فى حياة يوسف عليه السلام، كان من منطلق الرؤيا التي رآها فى أول حياته.. والتي ذكرها القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسانه: «إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين».. وقد أولها له أبوه.. ثم أعلمه أن الله سبحانه وتعالى سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث كما يقول سبحانه على لسان يعقوب:
«وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ».. وذلك لما رأى من ابنه يوسف هذه النفس الصافية التي تتحدث إليه هذا الحديث.. فهو بمثل الحديث الذي تحدثه به نفسه، يأخذ، وبه يعطى.! ثم كانت بعد هذا تلك المواقف التي وقفها يوسف فى تأويل الأحلام، لصاحبى سجنه، ثم للملك، وعن
1278
تأويل هذا الحلم خرج من السجن، واعتلى منصب الوزارة..!
هذا، وقد جاء فى الحديث الشريف: «إن فيكم محدّثين وإن منهم عمر» أي إن فى جماعة المسلمين من يتحدث إليهم من وراء مدركاتهم بأحاديث ملهمة..
سواء أكان ذلك فى اليقظة أو فى النوم..
«وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ..»
الذي نجا منهما: هو أحد صاحبى السجن، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا..
ادّكر: أي تذكر، وأصله اذتكر على وزن افتعل، فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، ثم أدغمت الذّال فى الدال، لأنها أخفّ منها، ويجوز أن يقال اذّكر، بإدغام الدال فى الذّال.
والأمّة: الجماعة من كل شىء والمراد بها هنا كتلة من الزّمن، أي زمن طويل.. ومنه قوله تعالى: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» (٢٢: الزخرف) أي على مجموعة متضخمة من العادات والمعتقدات.
- وفى قوله تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» إشارة إلى أنه قد عانى كثيرا من التفكير، حتى تذكر يوسف.. ففى الفعل «ادّكر» معالجة، ومعاناة، وعسر. وكذلك فى كلمة «أمّة» التي تجمع مقاطع متفرقة من الزمن! والسؤال هنا: كيف ينسى الرّجل وجه يوسف، وكيف بغيب عنه شخصه، وهو الذي كشف له عن رؤياه، وأراه منها وجه النجاة، بهذه البشرى المسعدة؟
ونقول- والله أعلم- إنه ربما كان للأيام التي قضاها الرجل فى السجن، والعذاب الذي أخذ به، والرعب الذي استولى عليه من الأهوال التي طلعت
1279
عليه فى سجنه- نقول: ربما كان لذلك آثاره فى تفكير الرجل، وفى ذاكرته على وجه خاص.. فما أكثر ما تضم السجون بين جدرانها من عذاب، يرى المبتلون به شواهد من عذاب القيامة قبل أن تقوم!! «يُوسُفُ.. أَيُّهَا الصِّدِّيقُ.. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» هنا أحداث صغيرة وقعت، قبل أن يلتقى الرجل بيوسف، وقد ضرب القرآن الكريم عن ذكرها صفحا، لأنها مفهومة من السياق أولا، ولأنها لا يتعلق بذكرها فائدة، ثانيا..
فالرجل حين قال: «أنا أنبئكم بتأويله» أثار فى الناس- وخاصة الذين دعوا إلى تأويل رؤيا الملك، تساؤلات كثيرة، فكان من أقوال الناس له:
كيف تفعل أنت هذا الذي لم يستطعه العلماء وأهل الخبرة؟ ومن أين لك هذا العلم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المنكرة عليه ما قال! ثم لا بدّ أن الرجل أوضح لهم الأمر.. فقال إننى لست أنا الذي أنبئكم بتأويله، ولكن هناك فى السجن رجل يعلم ما لا تعلمون من تأويل الأحلام..
وأن هذا الرجل هو يوسف، فأرسلون إليه.. فأرسلوه إليه.
ثم إنه حين دخل على يوسف بدأه بما جاء إليه من أجله.. وقد كان من الطبيعي أن يجرى بينهما حديث وحديث، قبل أن يذكر له ما أراد منه.. ولكن اللهفة إلى إسعاف الملك بما يذهب بحيرته، صرفته عن كل شىء! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» إقرار من الرجل بما عرف من يوسف من صدق، فيما أوّل له ولصاحبه من رؤيا..
1280
- وفى قوله: «لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ» - الرجاء هنا ليس واقعا على عودته إلى النّاس، إذ أن عودته إليهم أمر مقطوع به، غير متعلق على شىء..
وإنما وقع الرجاء هنا على محذوف تقديره: لعلى أرجع إلى الناس بما يكشف لهم عما أصابهم من بلبلة واضطراب، إزاء هذه الرؤيا التي رآها الملك، وحار العلماء والسحرة والمنجمون فى فكّ طلاسمها وحلّ رموزها..
أما الرجاء فى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» فهو واقع على الناس، وعلى العلم الذي يجيئهم به من يوسف عن هذه الرؤيا.. أي لعلهم يعلمون من هذا قدرك وفضلك، وأنك الصّدّيق الذي لا يتّهم، وأنهم قد اتهموك ظلما، وأودعوك السجن بغير جريرة.. أو لعلهم يعلمون ما غاب عنهم علمه من هذه الرؤيا، وأعجزهم الوصول إليه.
«قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» الدأب: المستمر، المتصل، فى جدّ ومثابرة.
شداد: أي فيها شدة، وقسوة، وجدب.
تحصنون: أي تحفظون.. ومنه الحصن، لأنه يحفظ من فيه، والحصان، والمحصنة، لأنها تحفظ نفسها من الإثم.. والحصان «بالكسر» لأنه يحفظ راكبه، ويمنحه قوة على عدوّه..
يغاث الناس: أي ينزل عليهم الغيث، وهو المطر، الذي يحمل إليهم الحياة، ويمدّهم بالخصب والنماء.
يعصرون: أي يصنعون الخمر من الأعناب، التي تزدهر وتثمر فى هذا العام.
1281
بهذا التأويل كشف يوسف عن مضمون رؤيا الملك ومحتواها، وأنها تنبىء عن الأحداث المقبلة التي ستجرى على مصر خلال أربعة عشر عاما آتية! فالأعوام السبعة المقبلة، هى أعوام خصب وزرع وثمر..
والأعوام السبعة التي بعدها، أعوام جدب وقحط، لا تنبت زرعا، ولا تطلع ثمرا..
ولم يكتف يوسف بتأويل الرؤيا، بل أعطى التدبير الحكيم الذي ينبغى أن يقوم إلى جانب مدلولها.. وبهذا كشف للناس عن موهبة سياسية نادرة، وأطلعهم منه على بصيرة نافذة، فى الإمساك بدفّة السفينة فى متلاطم الأمواج، ليبلغ بها مرفأ الأمان والسلامة.
فكان أن نصح لهم بأن يجدّوا الجدّ كله خلال السنوات السبع المقبلة، فى زرع كل ما استطاعوا زرعه من الحبّ، الذي هو عماد الغذاء للناس.. ثم أن يمسكوا هذا الذي يجيئهم مما زرعوا، دون أن يأخذوا شيئا منه، إلا قليلا مما يأكلون.. ثم أن يدعوا هذا الذي احتفظوا به فى سنابله حتى لا يناله السّوس، أو يمسّه العطب! ومن هذا الذي ادخروه فى سنوات الرخاء والخصب، يكون غذاؤهم فى سنوات الشدة والجدب! ذلك هو التدبير أحكم التدبير، لملاقاة هذه السنوات السبع العجاف التي ستطلع على الناس، بعد سبع سنين من الخصب والرخاء..
- وفى قوله: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ» دعوة إلى التزام القصد والاعتدال خلال سنوات الخصب، وأن على الناس فيها أن يأخذوا القليل مما يحتاجون إليه، وأن يعيشوا فى حال أشبه بحال الحرب.. وبذلك يمكن أن يواجهوا هذه
1282
المحنة المقبلة عليهم، وأن يخرجوا منها سالمين، وإلا فإنهم إن نسوا فى خصبهم أيام الجدب المقبلة عليهم، هلكوا جميعا.. إنهم مقدمون على حرب قاسية مع الجدب والقحط، فإذا لم يستعدوا لهذه الحرب هلكوا بيد الجوع والحرمان.
- وفى قوله: «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» إجابة على سؤال يتردد فى خواطر الناس.. وهو: ماذا سيكون عليه الحال بعد هذه السّنوات المجدبة؟ وهل يجىء بعدها الخصب الذي اعتادوه، أم أنها ستكون سنة تجمع بين الخصب والجدب؟ فكان هذا الذي بشّرهم به، وأراهم منه طريق النجاة، فسيحا، رحيبا: «عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون»..
إنه عام فيه خير كثير، يذهب بكل ما عانى الناس من بلاء وشدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة! وفى هذا ما يشدّ عزمات الناس، ويمسك بهم على طريق الصبر والاحتمال، حيث تتوارد عليهم الحياة فى شدتها ولينها، وضرّائها وسرائها..
الآيات: (٥٠- ٥٢) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)
1283
التفسير:
ما خطبكن: أي ما شأنكن.. حاش لله: أي تنزيها لله.. وحاشا:
فعل استثناء يعزل ما بعده عن الحكم الواقع على ما قبله..
حصحص الحق: أي انكشف، وظهر، وتمحّص.
«وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ».. لقد وقع ما تأول به يوسف حلم الملك موقع اليقين من الملك، ورأي ما كان قد رآه مناما أمرا واقعا بين يديه، ورأى فى يوسف الأمل الذي طلع عليه من حيث لا ينتظر، مادّا يده إليه بحبل الخلاص والنجاة، فهتف فيمن حوله: «ائتوني به» !! ولم يقل: ائتوني بيوسف، استعجالا لإحضاره، واختصارا للوقت الذي يضيع فى النطق باسمه، مكتفيا بالإشارة إليه بضميره! - «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» لقد انتهز يوسف الفرصة السانحة له، وقد أصبح مطلوبا من الملك، لا طالبا له، ومرغوبا لا راغبا، فأراد أن يملى شروطه، ولم تنسه فرحة الخلاص من السجن بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها بين جدرانه- لم ينسه ذلك أن يبدأ أولا بمحو هذه التهمة التي علقت به، وأن يقيم الملك على رأى صحيح فيه، وأن يعلم علم اليقين من هو هذا الإنسان الذي رمى بهذا البهتان، وقذف بهذا المنكر؟
فهناك واقعة لا يمكن إنكارها، إذ كانت بمشهد من عدد كثير من النسوة، كما كان أثرها المادي مما لا يخفى، وربما لا يزال بعضه باقيا إلى يومه هذا.. «النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ».. ما بالهن فعلن هذا الفعل؟ وفى
1284
أية مناسبة حدث هذا لهن؟ ففى الإجابة عن هذا السؤال ما يكشف عن الكيد الذي كدن له به! «قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» ؟.
وسأل الملك عن أمر هؤلاء النسوة، فلما أخبر به، دعاهن إليه، وسألهنّ:
«ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ ويوسف لم يقل إنهن راودته عن نفسه، بل اكتفى بذكر الحادثة، ولم يذكر مدلولها، وذلك أدب من أدب النبوة الذي يأبى عليه أن يذكر كلمة السوء، وأن يفضح الحرائر! ولكن الملك قالها لهن صريحة: «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ لقد ملك يوسف عليه مشاعر الحب والإجلال، وساءه أن يلقى هذا الإنسان الكريم ما لقى من هذا الاتهام الشنيع، وهو العفّ الطاهر، التقىّ النقىّ، فأراد أن ينتقم له، وأن يعرض هؤلاء النسوة على الملأ فى مقام الخزي والفضيحة!.
ولم تجد النسوة فى يوسف ما يقلنه فيه، دفاعا عن أنفسهن، ولم تكن غير كلمة الحق كلمة يمكن أن تنطق بها ألسنتهن، إزاء هذه الشمس التي ملأ نورها الآفاق من حولهن، حتى إن الملك نفسه ليستضىء بضوئها، ويستهدى بهديها.. فكان جوابهن إقرارا منهن ليوسف بالعفة والطهارة..
«قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» أي تنزيها لله عن كلّ نقص، وكما ننزّه الله عن كل عيب ونقص، ننزه يوسف عن كل منكر وقبيح! «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ».
ولم تقل النسوة: ما رأينا عليه من سوء وإنما قلن هذا القول: «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» تأكيدا لطهره وعفّته، فإنهنّ لم يرين منه ما يسوء ولم يعلمن من أمره ما يشين.. سواء أكان ذلك معهن، أو مع غيرهن.
1285
وتتلفت الأنظار هنا إلى امرأت العزيز، وتصغى الآذان إلى ما تقول فى هذا المقام، وهى رأس هذا الأمر كله.. فماذا قالت امرأت العزيز؟.
«قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» لقد قهرها الحق، فأقرت على نفسها بمشهد من هذا الملأ:
«أنا راودته عن نفسه».. فقد ظهر الحق، ولم يعد ثمة سبيل إلى إخفائه.
«أنا راودته عن نفسه» : تقولها هكذا صريحة مؤكّدة «أنا راودته عن نفسه» ! ولم تكتف بهذا العرض الذي تعرض فيه نفسها فى معرض الاتهام الصريح المؤكد، بل تستحضر يوسف الذي لا يزال فى سجنه، وتستدعى صورته التي لا تزال تملأ خيالها فنقول: «وإنه لمن الصادقين».. أي إننى لكاذبة فيها تقوّلته عليه، وإنه لصادق فيه نفى هذا الاتهام عنه.. وفى قول يوسف:
«فاسأله ما بال النسوة» دون أن يشير إلى امرأة العزيز- أدب عال لا يصدر إلا ممن تأدب بأدب السماء، من أنبياء الله ورسله.
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» أي إنّى أقرر ذلك، وأشهد به على نفسى فى غير مواجهة، وذلك ليعلم أنّى لم أكذب عليه فى غيبته، حيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ودفع ما أتقوّله عليه.
وفى قولها: «ذلك ليعلم أنّى لم أخنه بالغيب» اعتذار منها ليوسف، وتودّد إليه، وفتح لباب الصفح والمغفرة بينها وبينه.
- وفى قولها: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» تعليق على ما كان منها من كيد وخيانة ليوسف، وأن هذا التدبير السيّء قد فضحه الله، وأخزى أهله.. وهكذا كل باطل لا بد أن تكشف الأيام زيفه، وتفضح وجهه المطلى بالزور والبهتان.. وفى هذا ما يدلّ على حسرتها على ما كان
1286
منها فى حق هذا الإنسان العظيم، الذي لم يكن له من ذنب، إلا أن الله سبحانه صوّره فأحسن صورته، وأكمل خلقه! هذا، ويجوز أن يكون هذا القول من يوسف عليه السلام، وأنه قاله بعد أن علم بإقرار النسوة، وشهادة امرأة العزيز على نفسها، قاله معلّقا ومعلّلا لهذا الطلب الذي طلبه من الملك، وهو أن يسأل النسوة اللّاتى قطعن أيديهنّ.
وبهذا ينكشف له واقع الأمر، وقد انكشف هذا الواقع عن براءة يوسف مما رمى به، وبهذا يعلم العزيز أن يوسف لم يخنه فى غيبته وأنه كان أمينا على حرماته، وأنه لو كان خائنا له أو لغيره ما هداه الله إلى كشف هذه الحقائق التي كشف عنها، لأن هذا لا يكون إلا عن بصيرة استضاءت بنور الله، واهتدت بهذا النور، والله لا يهدى كيد الخائنين، ولا ينجح لهم أمرا، ولا يجعل لهم نورّا: «ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور».
ونحن نميل إلى القول بأن قوله تعالى: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ».. نميل إلى القول بأن هذا هو من حديث يوسف إلى نفسه، تعليقا على ما انكشف للملك من أمر النسوة، وما ظهر من براءته.
وذلك لأنه قد جرى فى هاتين الآيتين، ذكر الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات الكمال، كقوله: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ»..
وقوله: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ».. وهذا لا يصدر إلا من إنسان مؤمن بالله إيمانا مشرقا متمكنا.. وامرأة العزيز، لم تكن- فى غالب الظن- مؤمنة.. وأنه إذا كانت مصر قد عرفت التوحيد فى فترة من
1287
تاريخها الفرعوني، فإنها فى فترات كثيرة كانت تعبد أنواعا من الآلهة تتخذها من عالم الحيوان، أو الكواكب، وغير ذلك..
ثم إن مصر فى هذه الفترة بالذات، التي عاصرت يوسف عليه السلام، كانت على غير دين التوحيد، حيث رأينا يوسف فى سجنه يدعو صاحبيه إلى الإيمان بالله، ويكشف لهما عن زيف الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانه: «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» والله أعلم.
تم بعون الله الجزء الثاني عشر، ويليه الجزء الثالث عشر، إن شاء الله
1288
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة الجزاء الدنيوي.. وجزاء الآخرة ٩٣٧ الإنسان.. وما ينزل من السماء ٩٨٧ السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان ٩٩٩ العلم.. وأسلوب تحصيله ١٠٧٥ الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة ١٢١٤ يوسف.. والفتنة المتحدية ١٢٥١
1289

[الجزء السابع]

[تتمة سورة يوسف]
(الآيات: (٥٣- ٥٧) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
. التفسير:
قوله تعالى: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ». يجوز أن يكون هذا قد جرى على لسان امرأة العزيز، فى موقفها من يوسف، بعد أن أعلنت على الملأ أنها كانت كاذبة فيما تقوّلته عليه، وأنه كان صادقا فيما قاله عنها، وأنها هى التي راودته عن نفسه ولم يراودها هو عن نفسها.. وهى هنا تؤكد القول بأنها متهمة، وأنها لا تجد ما تبرئ به نفسها من هذا الذنب الذي ارتكبته فى حق يوسف.. إنها قد ضعفت أمام نفسها التي سوّلت لها هذا المنكر.. وإنها ليست إلّا بشرا، من شأنها أن تخطىء وتأثم، وأنها ليست فى عصمة من الخطأ.. «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»..
هكذا النفس البشرية، تهفو إلى السوء، وتدعو صاحبها إليه «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» أي إلا ما أراد الله دفعه من السوء، لمن رحمهم من عباده، وحفهم بألطافه..
3
فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» متعلق بالسوء.. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم، فيأتون كل ما تسوّل لهم به، إلّا ما أراد الله دفعه عنهم من سوء، رحمة منه، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ فى كلمة «ما» التي لغير العاقل.
وهذا يعنى أن الناس جميعا- بلا استثناء- واقعون تحت سلطان أنفسهم، وأن هذا السلطان غالب عليهم، وأن رحمة الله هى التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات، واقتراف الآثام، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون.
«إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ففى رحمة الله ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب.. لمن تاب إلى الله، ورجع إليه من قريب.
ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف، على اعتبار أن من قوله كذلك:
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» - كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأن هذا معطوف على ذاك، ليقرر به أنه لا يبرّىء نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر، وأنه قد كان منه رغبة، وهمّ، ولكن الله عصمه وسلّمه.. وهذا الحديث إذا كان من يوسف، فإنه يكون بينه وبين نفسه، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله..
قوله تعالى: «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ»..
أستخلصه لنفسى: أي أجعله خالصا لى، أصطفيه، وأستأثر به.
وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان، فيكون من خاصة الملك، المقربين إليه، المشاركين له فى الحكم والسلطان..!
4
- «فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ».. الهاء فى «كلّمه» يجوز أن يعود إلى الملك.. أي فلما كلم الملك يوسف.
وهنا يكون كلام محذوف، تقديره، فلماء جاء يوسف كلمه الملك قائلا:
«إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» أي موضع الثقة والائتمان..
ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى يوسف، بمعنى فلما جاء يوسف وكلم الملك، ورأى فى حديثه معه عقلا راجحا، ورأيا سديدا، قال له:
«إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ..»
«قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ».
خزائن الأرض: ما تخرجه الأرض من ثمار الفاكهة والحبّ.. وسمّى ذلك خزائن الأرض، لأنها تخزنه فى كيانها إلى أن يظهره الجهد الإنسانى، ويكشف عنه، بالغرس، والسقي، وغير هذا، مما يحتاج إليه الزرع كى ينمو ويثمر..
لقد طلب يوسف أن يتولى بنفسه الوظيفة التي يحسن القيام بها، والتي كشف عن مضمونها فى تأويل رؤيا الملك.. فهو يريد أن يحقق هذا التأويل الذي تأوله، وأن ينفّذه على الصورة التي تأولها عليه.. إنه هو الطبيب الذي كشف عن الداء، وليس أحد أولى منه بمعالجة هذا الداء والطبّ له، والإشراف على المريض، حتى تزول العلة، ويذهب الداء..
- وفى قوله تعالى: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى الصفات التي تؤهله لهذا الأمر الذي ندب نفسه له، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح، ولا يؤمن الزلل والعثار.. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان.. هما: الحفظ، والعلم.. والحفظ
5
هو الضبط، والحزم فى تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. فهو بعلمه قد كشف عن الداء، وعرف الدواء، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة، وما يقدّم إليه من دواء، وإن كان مرّا..
فالمشكلة التي تواجه مصر فى هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه، وإلا كان الهلاك والبلاء!..
إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط.. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها فى سنوات الجدب، كان فى ذلك البلاء الشامل، الذي يأتى على كل حياة فيها..
وأمر كهذا لا بد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس، ويأخذهم بها، وإلا فإن الناس قد ينسون فى يومهم ما هم فى حاجة إليه لغدهم، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه، وفى ذلك ضياع لهم، حين تقع الواقعة بهم، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها.
ومن أجل هذا، قدّم الحفظ على العلم: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ». فالصفتان، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا، إلا أن الحفظ أولى، وأهم من العلم.. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم، ويتحقق للناس بعض الخير، أو كثير منه.. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس، فى هذه الحال، خير أبدا، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة فى كلمات، أو مودعة فى كتاب.. فإذا اجتمع الحفظ والعلم، اجتمع الخير كلّه.
وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف، فيما كان بين «موسى»
6
و «شعيب» عليهما السلام، حين دعت ابنة شعيب أباها إلى أن يستأجر موسى ويستعمله فى تدبير شؤونه.. إذ قالت: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ».. فوصفت «موسى» بالصفتين المطلوبتين فى الأمر الذي هو مطلوب له، وهو القيام على رعى أغنام شعيب، ورعايتها، وتثميرها، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة، ترتاد مواقع العشب، والماء، دون أن يدفعها عنها أحد.. كما أنه يحتاج إلى «الأمين» الذي يرعى هذه الأمانة التي فى يديه، وأن يعطيها من جهده، وإخلاصه، ما يعطيه لما هو فى ملكه وخاصة شئونه..
وهكذا، توضع الأمور فى نصابها، حين يوضع الرجال فى أماكنهم المناسبة لهم.. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه، فإذا قام على العمل من لا يحسنه، أفسده، وأضاع الثمرة المرجوّة منه.
«وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
مكنّا: من التمكين، أي مكّنا له، وثبّتنا مكانه ووثقنا أمره.
يتبوأ: ينزل، ويحلّ.
والمعنى: أنه بهذا التدبير الذي كان من الله، أصبح يوسف ممكّنا فى الأرض، ذا سلطان فيها، يفعل ما يشاء، ويمضى ما يريد، غير واقع تحت سلطان أحد.. وأنه لا خوف من مثل هذا السلطان المطلق، الذي قام عليه حارسان لا يغفلان، هما الحفظ للأمانة، والعلم بمواقع الخير للناس.
- وفى قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» إشارة إلى أن هذا فضل من فضل الله على هذا العبد من عباده، ساقه الله سبحانه وتعالى إليه من غير
7
عمل منه.. هكذا مواقع رحمة الله، تنزل حيث يشاء الله، كما اقتضت حكمته فى خلقه: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ».
- وفى قوله سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».. إشارة إلى أن المحسنين لا يفوتهم جزاء إحسانهم أبدا..
وإذن فالنّاس جميعا فى مواقع رحمة الله.. ولكنهم- مع هذا- صنفان:
صنف محسن، يعمل الصالحات، ويغرس فى مغارس الخير، وهؤلاء قد وقع أجرهم على الله.. يجزون جزاء ما يعملون.. «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا..» (٣٠: الكهف)..
وصنف آخر.. يفضل الله سبحانه وتعالى عليهم، من غير عمل، فيرزقهم ويوسّع لهم فى الرزق، ويكثّر لهم من المال والبنين..
وهذا هو واقع الناس فى الحياة: عاملون لا يفوتهم أبدا ثمرة ما عملوا وأحسنوا.. وغير عاملين، قد يصيبهم الله سبحانه وتعالى برحمته، وقد يحرمهم! وإذن فالعمل، وإحسان هذا العمل، مطلوب من كل إنسان كى يضمن الجزاء الحسن عليه.. فإنه لا يفوته هذا الجزاء أبدا..
أما من لا يعمل، ولا يحسن العمل، فهو بين الإعطاء والحرمان.. فإن أعطى فذلك فضل من فضل الله، ورحمة من رحمته، وإن يحرم فعن غير ظلم، أو بخس..
قوله تعالى: «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ».
أي أنه إذا كان للنّاس أجرهم فى الدنيا، وجزاؤهم بما يعملون فيها، فإن جر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.. فإنهم يوفّون أجرهم مرتين.. فى الدنيا، ثم فى الآخرة.. وأجر الآخرة أكبر وأكرم وأهنأ.. أما غير المؤمنين،
8
فإنهم لا أجر لهم فى الآخرة، إذ قد استوفوا أجرهم كله فى الدنيا، التي عملوا لها، ولم يعملوا للآخرة شيئا، لأنهم لا يؤمنون بها.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥: هود).. وإليه يشير قوله تعالى أيضا: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (١٨- ٢٠: الإسراء).
الآيات: (٥٨- ٦٢) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٢]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
. التفسير:
ومضى الزّمن يطوى الأيام والسنين، ووقعت مجاعة فى أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه.. وكانت مصر قد أخذت لمثل هذه الحال أهبتها، منذ صار أمرها إلى يد يوسف، فبعث يعقوب بنيه إلى مصر ببضاعة يبيعونها فى مصر، ويشترون بثمنها حاجتهم من الطعام..
9
«وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ».
وفى كلمة «جاء» مع حرف الواو قبلها، ما يشعر بطول الزمن وامتداده، بين فراق يوسف لأهله، واتجاههم إليه فى هذه الرحلة، كما يشعر بطول الرحلة التي قطعوها من كنعان إلى مصر..
«فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ».. لقد عرفهم ولم يعرفوه، لأنه كان صغيرا يوم ألقوا به فى غيابة الجبّ.. وقد كبر، فتغيرت ملامحه، كما أنّه كان فى حال من الأبهة والسلطان، وما يحفّ به من خدم وحرس، وما يتزيّا به من حلل، وما يتوّج به رأسه من حلى وجواهر- كل ذلك كان مما يخفى على أقرب المقربين إليه من أهله أمره، حتى لو كان عهده به فى كنعان يوما أو بعض يوم! فكيف وقد مضت سنون؟ وكيف وليس فى تصور إخوته ولا فى خيالهم أن يكون يوسف فى مصر، أو أن يكون له هذا السلطان الذي كان عهد الناس به يومذاك، إنه ميراث، ينتقل من الآباء إلى الأبناء..!
«وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
ولمّا جهزهم بجهازهم: أي حين أعطاهم الكيل الذي يكال لهم ببضاعتهم التي معهم.
خير المنزلين: أي خير من يكرم النازلين به، ويحفظهم فى أنفسهم وأموالهم، بما يوفر لهم من أسباب الأمن والراحة.
وليس هذا المطلب الذي طلبه يوسف من إخوته قد وقع ابتداء، بل لا بد أن يكون قد جرت بينه وبينهم أحاديث، أراهم منها أنه يجهلهم، كى يتمّ التدبير الذي دبره، وهو أن يحضروا أخاهم من أبيهم، وقد عرف من هذه الأحاديث
10
أنهم إخوة لأب، وأنهم كانوا اثنى عشر أخا، تخلّف أحدهم، وهو أخوهم من أبيهم، وفقد الأخ الآخر صغيرا.. فهم الآن أحد عشر أخا.. عشرة عنده، وواحد عند أبيه! ولأمر ما طلب يوسف أن يأتوه فى المرّة الثانية بهذا الأخ الذي خلّفوه وراءهم، ليأخذ حظه من الكيل مثلهم، وقد أغراهم بهذا، بقوله: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟» أي ألا ترون أنى أعطى كل ذى حق حقّه، ولا أبخس الناس أشياءهم، وأنى أنزلهم منازلهم، وأوفر لهم أسباب الأمن والراحة؟.. ثم تهدّدهم بعد هذا بقوله:
«فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ»..
أي إن لم تأتونى بأخيكم هذا، فلا كيل لكم عندى، أي لا أكيل لكم شيئا بعد هذا، إذا جئتم تطلبون كيلا جديدا..
«قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ»..
سنراود عنه أباه: أي سنحتال عليه فى طلبه، ونترفق به فى هذا الطلب، والمراودة استدعاء للإرادة، واسترضاء لها بقبول ما يراد.. ولقد فهم «يوسف» من هذا أنّهم على خوف وإشفاق أن يطلبوا من أبيهم هذا الطلب الذي يبدو غريبا، لا مسوّغ له، كما أدركوا هم أن يوسف يشكّ فى قولهم هذا: «سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ» وأنهم إنما قالوا هذا القول عن يأس من تحققه، فأكّدوا له ذلك بقولهم «وَإِنَّا لَفاعِلُونَ».. أي لقادرون على أن نحمل أبانا، بحسن حيلتنا، على أن يجيبنا إلى هذا الطلب «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».
11
فتيانه: خدمه.. وبضاعتهم: ما كانوا قد حملوه معهم من أرضهم إلى مصر، ليبتاعوا به طعاما..
لقد صنع يوسف مع إخوته صنيعا آخر، يغريهم بالعودة إليه، ومعهم أخوهم لأبيهم الذي طلبه منهم.. فأمر غلمانه أن يدسّوا البضاعة التي كانوا قد جاءوا بها بين أمتعتهم، فى الكيل الذي كاله لهم، فإنهم إذا عادوا إلى أهلهم ورأوا البضاعة التي ظنوا أنهم باعوها لا تزال بين أيديهم- وجدوا فى ذلك داعية لهم إلى أن يعودوا إلى «يوسف» ليردّوا له هذه البضاعة التي أصبحت وليست من حقّهم، بل هى للعزيز الذي أعطاهم بها هذا المتاع الذي عادوا به.
- وفى قوله «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها» أي لعلهم يتحققون من أنها هى بضاعتهم وليست بضاعة قوم آخرين غيرهم، ممن كان قد اختلط بهم من الوافدين على مصر، يمتارون كما امتاروا هم.. وإذن فهى من حق العزيز، ومن واجبهم أن يعودوا بها إليه.. لأنها ثمن ما اشتروه منه، وهذا ما يشير إليه قوله: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».. أي لعلهم بهذا الإحساس يجدون الدافع الذي يدفعهم إلى المجيء إلى مصر مرة أخرى، ليردّوا الأمانة إلى أهلها، فإن لم يكن بهم حاجة إلى الميرة والطعام، دفعهم دينهم الذي يعرفه فيهم، أن يعودوا بهذه البضاعة التي ليست لهم!
الآيات: (٦٣- ٦٧) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
12
التفسير:
«فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ».
هكذا دخلوا على أبيهم بهذا الحديث: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ» ! أفبعد هذا الانتظار الطويل، ومعاناة الصبر على الجوع والحرمان، انتظارا لهذا الخير الذي يجىء من مصر- أبعد هذا يطلعون على أبيهم بهذا الخبر المزعج: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ!!» ثم ما العلاقة بين أن يمنع منهم الكيل وبين طلبهم أن يرسل معهم أخاهم كى يكتالوا؟ ما شأن الأخ بهذا؟
وهل هو بضاعة يشترى بها من مصر ما يكال؟ ذلك شىء عجيب! ثم كيف يقولون: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ؟ وكيف يحفظونه، وهم يركبون هذه الطرق التي لا يأتى منها خير؟ لقد ذهبوا إلى مصر، واحتملوا هذا العناء الشديد..
ثم عادوا من غير أن يحصلوا على شىء.. فكيف كان هذا؟ وما لأحوال هذه الدنيا قد تبدّلت وتحولت، حتى لا يكون بيع أو شراء إلا بهذه التحكمات التي لا مفهوم لها؟
لا شك أن يعقوب قد لقى هذا الطلب الذي طلبه أبناؤه منه- لقيه
13
بتساؤلات كثيرة، أطلعته منهم على ما كان بينهم وبين العزيز حتى لقد عادوا دون أن يكال لهم كما يكال للناس! وهنا ينكشف ليعقوب ما أخفاه عنه أبناؤه لأمر ما.. لقد كال لهم العزيز، وعاد كل منهم ومعه حمل بعير..!
وإذن فماذا أرادوا بقولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ؟
إنهم أرادوا أن يحققوا بذلك أمورا.. منها:
أولا: الاستيلاء على عواطف أبيهم، وذلك بمواجهته بهذا الخبر الذي يبعث فيه الهمّ والقلق.. ثم لقائه فجأة بهذا الخبر الهنيء المسعد.. إنهم قد اكتالوا، وجاء كل منهم بحمل بعير.. ولكنهم منعوا مستقبلا من أن يكال لهم، حتى يكون معهم أخوهم من أبيهم!! وثانيا: فى الحديث عن منع الكيل فى المستقبل إلا بتحقيق هذا الشرط، إغراء لأبيهم بالمبادرة إلى إجابة طلبهم حتى يسرعوا بالعودة إلى مصر، ليأخذوا دورهم من الميرة قبل أن تنفد! وها هو ذا يعقوب لا يزال واقعا تحت تأثير الصدمة التي صدم بها حين سمع قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ».. وإنه الآن لحريص على ألا تفوته الفرصة المواتية لجلب الميرة، مهما كان الثمن غاليا!! وهكذا أصاب قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» - أصاب من أبيهم ما أرادوا من تخويفه بالمستقبل، إن لم يبادر ببعثهم إلى مصر مرة أخرى ليكتالوا، وأن يذلل كل صعب لإنفاذ هذا الأمر.. فهم صادقون فى قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» لأنه منع منهم مستقبلا إن لم يجيئوا معهم بأخيهم من أبيهم، كما قال لهم يوسف: «ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ».. وكما قال: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ».. ولكن هذا الخبر حين ألقوه إلى أبيهم
14
لم يحمله على المستقبل، بل حمله على الحال التي كان يعيش فيها. ويتوقع الخير الذي يحمله أبناؤه العائدون من مصر.. عندئذ يلقى يعقوب أبناءه بقوله، الذي حكاه القرآن الكريم عنه:
«قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ.. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
لقد تمثّل له فى هذا الموقف ما كان منهم من إلحاح عليه فى طلب يوسف، ليرتع ويلعب معهم، كما يقولون، ثم جاءوا إليه عشاء يبكون، قائلين:
«يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ! لقد تمثل له هذا الموقف، فرأى فيما يطلبه أبناؤه منه الآن صورة مشابهة تماما له، وأن الذي دبّروه ليوسف ليس ببعيد أن يدبّر مثله لأخيه! - ففى قوله: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟» - اتهام لهم بالكيد ليوسف أولا، ثم السير فى طريق الكيد لأخيه.. ثانيا.. ثم هو- مع هذا الاتهام- ينكر عليهم أن يعودوا فيكرروا فعلهم المنكر الذي فعلوه بيوسف فيفعلوه بأخيه.!
- وفى قوله: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».. هو عزاء له، يعزّى به نفسه فى حزنه على يوسف، وذلك بتسليم الأمر لله سبحانه، والاستسلام لقدره، والرضا بمقدوره. وأنه سبحانه لو أراد حفظ يوسف لحفظه، فهو خير الحافظين، لا يقع شىء فى هذا الوجود إلا بأمره.. «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».. فما ينزل بالناس من مكروه، هو واقع بهم من ربّ رحيم، فهو رحمة بالنسبة لما هو أقسى منه وأوجع! قوله تعالى: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا
15
يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ».
لقد كان الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم أول شىء استقبلوه به، وذلك لأن العيون كانت متطلعة إلى ما يحملون معهم من زاد وميرة.. فكان جوابهم لهذه العيون المتطلعة قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ! ثم كان جوابهم عن التساؤلات الكثيرة حول أسباب هذا المنع، قولهم: «فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ».. ثم كان قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» تزكية لهذا الطلب.
ثم بعد هذا نظروا فى أمتعتهم التي معهم، فوجدوا أن البضاعة التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر، والتي اعتقدوا أنها قد أصبحت فى يد العزيز، مقابل الكيل الذي كاله لهم- وجدوا أن هذه البضاعة قد ردّت إليهم: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» - فعجبوا لهذا، وحسبوا أن فى الأمر خطأ، أو أن العزيز ربّما بدا له ألا يأخذ منهم ثمنا لهذا الكيل الذي كاله لهم، انتظارا لعودتهم إليه فى المرة الثانية..
- «قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي» أي ماذا نريد؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فماذا نفعل بها؟ وكيف نصبر على ما نحن عليه من حاجة إلى الطعام؟ إنها بضاعة قد أعددناها لنشترى بها طعاما، وها هى ذى لا تزال فى أيدينا، وإنه لا سبيل إلى الانتفاع بها إلا إذا عدنا بها إلى مصر مرة أخرى، وجلبنا بها الطعام الذي نريد.!
وفى قولهم: «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» الواو هنا للعطف على محذوف تقديره.. إذ كان ذلك كذلك، نعود إلى مصر ونمير أهلنا، أي نتزوّد لهم بالميرة، وهى الطعام، ونحفظ أخانا الذي سنأخذه معنا، والذي بغيره لا يكال لنا، ونزداد به كيل بعير، إذ سيكون
16
لكل منّا حمل بعير.. «ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» أي أن العزيز لا يعطى طالب الميرة إلا فى حدود مقدّرة لكل فرد مهما كانت قيمة البضاعة التي يحملها معه! إنه لا يأخذ أكثر من حمل بعير! وانظر كيف استدعوا أخاهم من أبيهم بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم:
«وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ».. لقد جعلوه طلبا ثانيا بعد الطلب الأول، وهو الميرة، وشدّوه إليه، بحيث لا تكون الميرة إلّا به..
فهم لم يقولوا: ونأخذ أخانا، بل قالوا: «وَنَحْفَظُ أَخانا».. كأن أخذه أمر مفروغ منه، لا مراجعة لأبيهم فيه.. فقد سلم به لهم حكما إن لم يكن قد سلم به واقعا.. ثم جاء قولهم «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» إغراء لأبيهم بالتسليم لهذا الأمر الذي لا بد منه، ففيه جلب الخير لهم، وهم فى وجه هذا العسر والضيق!.
وانظر إلى روعة النظم القرآنى فى تصويره لهذا الإغراء العجيب الذي جاء محمولا إلى يعقوب فى قولهم «هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ».
فهذه الواوات المتتابعة التي تجمع تلك المتعاطفات، وتقرن بعضها إلى بعض- تمثّل أروع ما يمكن أن يبلغه فنّ العرض لمجموعة من فريد اللآلئ وكريم الجواهر، تحركها يد صناع، فتجىء بها واحدة إثر أخرى، حتى لكأنها أنغام موسيقية، تؤلف لحنا! وفى اختيار حرف «الواو» من بين حروف العطف، وفى تكراره، دون مغايرة- فى هذا ما يزاوج بين هذه المتعاطفات، ويؤاخى بينها، بحيث تبدو متجمعة، وهى متفرقة- لما فى حرف «الواو» من رخاوة، ولين، حيث تصبح هذه المتعاطفات على هذا النسق، كيانا واحدا لا يمكن الفصل بين
17
أجزائه.. «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ».. إنها أمر واحد وطلب واحد! «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ.. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ».
لم يجد يعقوب بدّا من التسليم بالأمر الواقع، بعد أن أخذ عليه أبناؤه كل سبيل، للتخلص من هذا الطلب الذي طلبوه..
وإنه لكى يقيم لنفسه عذرا بين يدى تلك المخاوف التي يتخوفها على ابنه هذا، دفعهم عنه بقوله: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ» ! هكذا بدأهم بهذا الحكم القاطع. كما بدءوه هم بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ»..!
ثم جاءهم مستثنيا هذا الحكم بقوله: «حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ».. أي إننى لن أرسله معكم حتى توثقوا معى عهدا وميثاقا تشهدون الله عليه، أن تعيدوه إلىّ، إلا إذا أحاط بكم مكروه، فغلبكم عليه..
فذلك مما لا حيلة لكم فيه..
وفى قوله: «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» ما يكشف عن شعور يعقوب، وأنه يتوقع مكروها يقع لابنه هذا.. تماما، كما كان ذلك شعوره حين طلب إليه أبناؤه أن يرسل يوسف معهم، فقال: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ».. وقد صدق شعوره فى كلا الحالين.. فكان للذئب قصة مع يوسف، وكان للأحداث قصة مع أخيه! - «فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ».
لقد تم الأمر إذن، وأعطى الأبناء موثقهم لأبيهم، ورضى الأب، بعد
18
أن جعل الله وكيلا وشهيدا على ما كان بينه وبينهم..
«وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ».
وحين تحركت القافلة للسير إلى مصر، بأبناء يعقوب، ومعهم أخوهم المطلوب لعزيز مصر، نصح لهم أبوهم فيما نصح بقوله: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ! والسؤال هنا:
ما حكمة هذا النصح الذي نصح لهم به؟ وماذا يكون لو دخلوا مصر من باب واحد؟..
لعل أظهر ما فى هذه النصيحة من حكمة هى ألا يلفتوا الأنظار إليهم، بهذا الموكب الذي ينتظم أحد عشر أخا.. فى سمت واحد، من الجمال والجلال..
فذلك من شأنه أن يدير الرءوس إليهم، وأن تدور الأحاديث عنهم، وتختلف الآراء فيهم، وليس ببعيد أن يكاد لهم من أكثر من جهة: من النساء والرجال، أو من تجار مثلهم، أو من حاشية العزيز نفسه، وقد رأت الحاشية ما كان من العزيز من تلطفه بهم، ومن كيله لهم دون أن يأخذ منهم شيئا.. فما أكثر دوافع الحسد والغيرة فى قلوب الناس، وما أكثر ما فى قلوب الناس من حسد وغيرة حول السلطان وحاشية السلطان! وأيا كان الأمر، فإنه شعور الأب الذي يتخوف على أبنائه نسمات الريح حين تهب عليهم، فكيف وهم على سفر طويل، وفى يد غربة موحشة قاسية؟
ثم كيف وقد كانت فجيعته فى يوسف لا تزال تفرى كبده!؟
19
- وفى قوله تعالى: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى أن هذا النصح الذي نصح لهم به، لا يردّ عنهم قضاء الله، ولا يدفع القدر المقدور لهم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»، فهو سبحانه الذي يحكم فى عباده كما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» أي فوضت أمرى إليه، وأسلمت مقودى له «وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي عليه وحده ينبغى أن يكون معتمد كل معتمد، ومستند كل مستند.. أما ما سواه فلا معوّل عليه، ولا رجاء عنده، ولا عون منه.
الآيات: (٦٨- ٧٦) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٨ الى ٧٦]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
20
التفسير:
قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها».
فاعل الفعل «يغنى» ضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل دخلوا والتقدير: فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى هذا الدخول عنهم من الله من شىء، فقضاؤه نافذ لا محالة، لا يدفعه عنهم هذا التدبير الذي دبّر لهم من أبيهم!. وفى تقييد الجملة الخبرية: «ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - فى تقييدها بظرف الدخول. فى قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا» إشارة إلى أن قضاء الله كان يترصدهم على تلك الأبواب المتفرقة التي دخلوا منها، كما أمرهم أبوهم، وأن ما كان يحذره أبوهم عليهم، وصرفهم عنه إلى حيث قدر لهم الأمن السلامة- هو الذي دفع بهم إلى حيث جرى القدر المقدور لهم، كما ستكشف عنه الأيام بعد.. فسبحان عالم الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.
لمحة من القضاء والقدر
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» إشارة إلى أن يعقوب، يعلم هذا حقّ العلم، وأن نصحه لأبنائه، وتحذيره إياهم أن يدخلوا من باب واحد، وأمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة- ما كان يغنى عنهم من أمر الله
21
وقضائه شيئا، وهذا ما أشار إليه يعقوب بقوله: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ».. ولكنّها حاجة فى نفس يعقوب قضاها، وكان واجبا عليه أن يقضى هذه الحاجة، كما كشف عنها تقديره، وتدبيره.. ذلك أن واجبا على الإنسان أن يدبّر نفسه، وأن ينظر فى شئونه وأحواله، وأن يزنها بالميزان الذي ترجح فيه كفة خيرها على شرها، حسب تقديره وتدبيره، ثم يمضى أمره ذلك على الوجه الذي قدره.. أما ما قدّره الله سبحانه وتعالى فهو محجوب عنه، لا ينكشف له حتى يقع. وهو واقع لا شكّ على ما قدّره الله سبحانه وقضى به.. سواء اتفق مع تقديره هو أم اختلف..
فالإنسان مطالب بأن يعمل، غير ناظر إلى قدر الله وقضائه، لأنه لا يعلم ولا يرى، ما قدّره الله وقضاه، ولو أنّه انتظر حتى ينكشف له القضاء، ما عمل شيئا أبدا حتى يقع القضاء، وينفذ القدر، حيث لا يكون له فى هذا سعى واجتهاد، ولكان بهذا كائنا مسلوب الإرادة، فاقد الإدراك! وهذا ما لا ينبغى أن يكون عليه الإنسان، وقد وهبه الله عقلا، وأودع فيه إرادة..!
وسنعرض لموضوع القضاء والقدر، عند تفسير قوله تعالى: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (٧٩: الكهف) - فى هذا اللقاء المثير الذي كان بين موسى وبين العبد الصالح..
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ» - إشارة إلى أن يعقوب يعلم هذه الحقيقة، وهى أن قضاء الله نافذ لا مردّ له، ولكنه مطالب بأن يعطى وجوده حقّه، من حيث هو إنسان عاقل مريد..
فهو ذو علم لما علّمه الله سبحانه وتعالى، وهو بهذا العلم يعمل ما يمليه عليه عقله، ويدلّه عليه نظره، متوكلا على الله، مفوضا أمره إليه، راضيا بما يأتى به قضاء الله فيه! «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة.. فهم بين
22
إنسان يعمل غير ناظر أبدا إلى ما لله من سلطان فيما يعمل.. وبين إنسان لا يعمل شيئا، مستسلما لما يأتى به القدر.. وكلا الطرفين جائر، بعيد عن الطريق السّوىّ المستقيم! قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ، قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».
آوى إليه أخاه. ضمّه إليه، وخلا به، وكان له أشبه بالمأوى الذي يأوى إليه الإنسان، فلا يراه أحد..
لا تبتئس: أي لا تحزن، ولا تضق ذرعا بما سيكون منهم لك، من اتهام وقذف.. وهكذا بدأ يوسف تنفيذ الخطة التي اختطها من قبل، والتي بها حمل إخوته على أن يأتوه بأخيهم من أبيهم هذا، فخلا به يوسف وأنبأه أنّه هو أخوه يوسف، وأنه لن يكشف عن نفسه لإخوته الآن، حتى يضعهم أمام التجربة التي أعدّها لهم، وأن على أخيه ألّا يجزع ولا يقع فى نفسه ما يسوؤه منهم، خلال تلك التجربة! «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ».
السّقاية: القدح الذي يستخدمه الملك لشرابه، ويستقى به..
والعير: الدوابّ التي تستخدم للحمل والركوب.
وتبدأ التجربة بأن يأمر يوسف غلمانه بأن يدسّوا القدح الذي يستخدمه لشرابه فى رحل أخيه، ثم ينادى مناديه وراء القوم وقد تحركوا للمسير نحو العودة إلى ديارهم..
وفى المناداة عليهم بقوله: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» بتوجيه النداء إلى عيرهم، دون
23
المناداة عليهم بقوله: أيها الركب، مثلا- فى هذا دعوة لهم إلى أن يتوقفوا عن السير.. ولما كانت العير هى المنظور إليها عند هذا النداء، لأنها هى المتحركة، فقد حسن مخاطبتها، لأنها هى المطلوبة أولا.. فإذا وقفت كان للمنادين شأنهم مع راكبيها.. ولهذا فإنه ما إن صدر النداء: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» حتى توقفت، وما إن توقفت حتى كان الحديث إلى راكبيها: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! «قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ.. ماذا تَفْقِدُونَ؟»..
لقد لوى الركب زمام عيرهم عن السير إلى وجهتهم، واستداروا بها نحو من يهتفون بهم، ويلقون إليهم بهذه التهمة الشنعاء: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! فقالوا لهم، وقد أقبلوا عليهم: «ماذا تفقدون» ؟
«قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ».
لقد كان الرد بلسان الجميع: «نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ» هذا هو ما سرق وذلك ما نتهمكم بسرقته.!
أما رئيس هذا الجمع المنطلق وراء القوم، فإنه يتحدث إليهم بما يملك من سلطان، لا يملكه غيره من جماعته.. فيقول بلسانه هو: «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ».. فهو يريد أن يأخذ الأمر بالحسنى، وأن يستردّ الصّواع من آخذه، فى مقابل جعل جعله له، وهو حمل بعير من الطعام، وأنه كفيل وضامن لتحقيق هذا الوعد! «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ»..
أي لقد علمتم من أمرنا أننا ما جئنا لنحدث فى أرضكم فسادا، وإنّما جئنا تجارا لا سراقا.. «وَما كُنَّا سارِقِينَ» لهذا الصّواع الذي تدّعونه علينا..
24
«قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ».
إذن فلقد خرج الأمر عن المياسرة والمسالمة، إلى هذا التحدّى..
- «فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ» ؟ أي ما جزاء السّارق إذا كنتم كاذبين فى قولكم «وَما كُنَّا سارِقِينَ» ؟.
- «قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ» أي جزاء السارق أن يؤخذ بجرم ما سرق..
- «كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» أي هذا هو الحكم الذي ندين به من يعتدى، وهو أن نأخذه بعدوانه.. لا نقبل فيه شفاعة، ولا نعفيه من تحمّل تبعة ما جنى! «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ.. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ».
لقد جىء بالقوم إلى العزيز نفسه، حتى يكشف عن أمرهم بين يديه، ليظهر إن كانوا سارقين، أم غير سارقين.. فبدأ بالبحث عن الصّواع فى أوعيتهم، أولا، ثم بالبحث عنها فى وعاء أخيه، وذلك مبالغة فى إخفاء، التدبير الذي دبّره لهم.. «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» ! والسؤال هنا: لم كان الحديث عن «الصّواع» بضمير المذكر، ثم كان الحديث عنه هنا بضمير المؤنث» ؟
والجواب: أن الضمير المذكر يعود إلى «الصّواع» على اعتبار أنه «شىء» أو متاع ضائع من الملك.. أما الضمير المؤنث فإنه يعود إلى السّقاية، وهى «الصواع» أيضا، ولكن العزيز ذكره باسم السقاية، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ثم تدور تلك
25
السقاية دورتها وتعود إلى العزيز مرة أخرى «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ»..
فهو الذي جعلها فى وعاء أخيه، ثم هو الذي استخرجها من وعاء أخيه.
قوله تعالى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ».
الكيد التدبير المحكم، وفى نسبة الكيد والتدبير إلى الله سبحانه وتعالى إشارة إلى ألطافه بيوسف، ورعايته وتولّيه له، وأنه سبحانه هو الذي يدبّر هذا التدبير المحكم، وأنه بمثل هذا التدبير الذي دبّره له، بلغ ما بلغ من منازل العزة والسيادة.. وتسمية تدبير الله كيدا، تقريب لمفهومه المتعارف بين الناس، وذلك أنه إذا كان التدبير محكما، تتشعب مسالكه، وتتباعد أسبابه- ثم تلتقى جميعها آخر الأمر، فتقع على الهدف المراد- كان هذا التدبير كيدا، وإلى هذا يشير قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً» (١٥- ١٦: الطارق).
قوله تعالى: «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أي أنه ما كان يقع فى تقديره أبدا أن يدخل أخاه فى سلطان الملك، فيصبح رجلا من رجال دولته.. ولكن بمشيئة الله وتقديره، كان هذا الذي لم يكن متصوّرا، ووقع ذلك الذي لم يكن متوقعا.
قوله تعالى: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» أي بيدنا الملك، فنهب ما نشاء لعبادنا المخلصين من برّ وإحسان، ومن علم ومعرفة!.
قوله تعالى: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن ما بلغه يوسف من علم، هو علم قليل، لا يوازن ذرة من علمنا.. وأن هذا العلم الذي معه، والذي بلغ به هذه المكانة فى الناس- هذا العلم فوقه درجات كثيرة من العلم.. وفوق هذه الدرجات درجات.. وهكذا حتى تصبّ جميعها فى محيط العلم الإلهى الذي لا حدود له..
26
الآيات: (٧٧- ٨٣) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١)
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
التفسير:
قوله تعالى: «قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ».
لقد سقط فى أيديهم، وأمسكت التهمة بهم، ووقع أخوهم لأبيهم فى شباكها.. ولم يكن لهم ما يقولونه إزاء هذا الواقع الصريح، إلا أن يلقوا باللأئمة على أخيهم هذا، وأن ينسبوه إلى السوء، وأن ما وقع منه لم يكن
27
بالمستبعد عنه.. إنه يسلك فى هذا مسلكا كان لأخ له من قبل.. هو يوسف! فهما ينتسبان إلى أم غير أمهم أو أمهاتهم.. ومن هنا كان منهما هذا المنكر الذي لم يعرفه آل يعقوب! وماذا سرق يوسف؟.
إنهم لا يزالون يذكرون إيثار أبيهم إياه بحبه وعطفه.. «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا».
فهل يرون فى هذا سرقة من يوسف لحب أبيهم؟ وهل يرون أن يوسف قد أخذ منهم ما ليس له!؟
إذن.. فهو سارق؟ ربما كان ذلك هو الذي عدوّه سرقة! «فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ».. أي تلقى يوسف منهم هذه التهمة، فأسرّها فى نفسه، ولم يسألهم عنها، ولم يكشف لهم عن وجه يوسف الذي ألقوا إليه بهذه التهمة.
«قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» قال ذلك بينه وبين نفسه. أي أنهم كانوا معتدين عليه، ظالمين له.. والله أعلم بهذا الوصف الذي وصفوه به، حين رموه بالسرقة.
قوله تعالى: «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ..»
هنا يجيئون إلى يوسف عن طريق الرجاء والاستعطاف، بعد أن جاءوا إليه منكرين متحدّين.. فقد ظهر أنهم سارقون، وهذا المسروق قد وجد فى أمتعتهم!..
- «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً» فهم لا يستشفعون له، وإنما
28
يستشفعون لأبيه الذي بلغ من الكبر عتيّا، فلا يحتمل هذه الصدمة التي تصدمه بفقد ابنه هذا..
- «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ.. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فخذ بجريرته أحدنا، ليلقى العقاب الذي ستعاقبه به.. وهذا منك إحسان بأبيه، وإكرام لشيخوخته، وأنت- كما رأينا من أفعالك- محسن، تفيض يداك بالخير والمعروف لكل من يرد عليك.
«قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ.. إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» أي عياذا بالله أن نبرىء مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء..
إن ذلك ظلم، لا يلتقى أبدا مع الإحسان الذي تدعوننى باسمه.
«فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ.. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ».
استيئسوا: وجدوا اليأس، وانتهى أمرهم إليه.
خلصوا نجيّا: أي خلصوا إلى بعضهم، وانعزلوا عن أعين الناس، يديرون الحديث بينهم فى سرّ.. وأصل النجوة: المكان المرتفع، حيث يعتصم به، ويلجأ إليه.. بعيدا عن الناس.
أي وحين يئس القوم من أن يستردوا أخاهم، وأن يقيموا أحدهم مقامه فى التهمة التي أخذ بها- أخذوا مكانا منعزلا، بعيدا عن الناس، وجعلوا يتدبرون فيه أمرهم، والأسلوب الذي يواجهون به هذا الموقف المتأزم.
- «قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ»..
والموثق الذي أخذه أبوهم عليهم هو ما جاء فى قوله تعالى: «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ
29
مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ»
..
فكيف تلقون أباكم الآن؟ وكيف تواجهونه بهذا الخبر؟ وهل نسيتم ما كان منكم من يوسف من قبل؟ إنكم إن تكونوا قد نسيتم فإن أباكم لم ينس.. ولقد اتهمكم اتهاما صريحا به، إذ قال: «لقد سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! - «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ».. فهذا هو الموقف الذي سيتخذه كبيرهم.. إنه لن يبرح هذه الأرض- أرض مصر- ولن يغادرها، لأنه لا يستطيع أن يلقى أباه، وأن يجد العذر الذي يعتذر به إليه!.. وإنه لمقيم هنا إلى أن يعلم أن أباه قد علم الأمر وتحققه، فغفر له، وأذن له بالعودة.. أو ينتظر حكم الله فيه، وتبرئة ساحته مما حدث..
«ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ».
أي أما أنتم، فعودوا إلى أبيكم، وأخبروه الخبر، كما وقع على مرأى منكم ومسمع.. فذلك أمر قضى الله به، وليس لنا بما قضى الله به حيلة، وقد أعطينا الموثق، ولم نكن ندرى ماوراء الغيب «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ولو كنا ندرى ما وقع لما أعطينا أبانا ما أعطينا من ميثاق.
«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ»..
ثم قولوا لأبيكم: إن كنت لا تصدق ما نقول، فاسأل أهل القرية التي كنا فيها، أي مصر، فإن عزّ عليك ذلك، ولم تجد فى نفسك القدرة على السّفر لترى بعينك ما حدّثناك به، فهناك الركب الذي كان معنا من أبناء كنعان، الذين أقبلوا معنا من مصر بعد أن أخذوا حاجتهم منها كما أخذنا.. هؤلاء هم
30
قريبون منك فاسألهم.. ثم إننا- قبل هذا، أو بعد هذا- لصادقون، فيما حدثناك به..
وانظر إلى موقفهم هنا، وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله! إنهم هنا يجدون لكلمة الحقّ مساغا فى أفواههم، وقوة على ألسنتهم..
فيقيمون عليها الأدلة البعيدة والقريبة.. ثم لا يكتفون بهذا، بل يجزمون بصدقهم، ويؤكدونه، وإنهم لهذا فى غنى عن أن يشهد لهم أحد بصدقهم، «وَإِنَّا لَصادِقُونَ».
أما هم هناك، فإنهم قد حملوا شاهد الزور بين أيديهم.. قميصا ملطخا بالدّم الكذب، ودموعا متلصّصة، تتخذ من الليل ستارا تستر به زيفها.. ثم كلمات مستخزية متخاذلة، تمشى على استحياء، فى رعشة واضطراب: «يا أَبانا.. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ.. وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا.. فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ.. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» !! إن هذا القول كان أولى بهم أن يقولوه فى المرة الثانية، وهم صادقون..
إذ كانت منهم فعلة أولى، افتضح فيها أمرهم، ووقع منهم أبوهم على ما فعلوه بيوسف، حين ألقوه فى الجب وادعوا أن الذئب أكله.. فإذا جاءوا اليوم يقولون عن ابنه الآخر، إنه سرق، وإن العزيز قد أخذه رهينة عنده- كان اتهامه لهم بالكذب أقرب شىء يقع فى نفسه.. وكان ظاهر الحال يقضى بأن يقولوا: «ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» ولكنهم إذ كانوا صادقين حقّا، فإنهم لم يلتفتوا إلى ظاهر الحال، ولم ينظروا إلى وراء، بل واجهوا أباهم بالحق الصّراح الذي بين أيديهم..! فقالوا: «إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما
31
عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ
.. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ»..
«قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! هى نفس المواجهة التي واجههم بها، حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع فى «يوسف».. إنهم متهمون عنده فى الحالين.. لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه فى يوسف، وفى أخيه.. ففى يوسف يقول لهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ»..
وعن ابنه الآخر يقول لهم: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟».
وهكذا يأخذهم بحدسه فيهم، وظنّه بهم، وقد صدقه حدسه فى الأولى، وتحقق ظنه فى الثانية، فوقع المكروه فى كلا الحالين.
«فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» أي فصبر جميل على هذا المكروه، هو الدواء الذي لا دواء غيره.
«عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».. لقد وقع فى نفس يعقوب أن محنته فى بنيه- يوسف، وأخيه، وكبير أبنائه- قاربت أن تزول، وأن بوارق الأمل أخذت تلوح له فى الأفق، وأن إيمانه بربّه، ورجاءه فى رحمته لن يخذلاه أبدا، ولن يسلماه إلا إلى السلامة والعافية..
ولهذا فهو على رجاء بأن الله- سبحانه- سيلطف به، وسيجمع شمله المبدّد، ويعيد إليه أبناءه الذين لعبت بهم يد الأحداث.. «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
32
الآيات: (٨٤- ٨٧) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧)
التفسير:
«وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ».
لقد انصرف يعقوب عن الحديث مع أبنائه فى شأن أخيهم الذي قالوا عنه إنه سرق، وإنه فى يد العزيز بمصر.. وأسلم نفسه إلى ما يعتمل فى كيانه من حسرة وأسى على مصيبته فى يوسف.. إنه قد عرف- على سبيل الظنّ أو اليقين- أن أخا يوسف فى مصر، أما يوسف، فإنه لا يعلم المصير الذي صار إليه.. أحىّ هو أو ميت؟ وإذا كان حيّا فكيف يحيا؟ وأىّ بلاد الله احتوته؟
ذلك هو الذي يزعجه، ويؤرقه! فلو أن يوسف قد مات لكان لحزنه عليه نهاية.. ولكنه يعلم يقينا أن القصّة التي جاء بها إليه أبناؤه فى شأنه، كانت مكذوبة ملفقة، وأن ذئبا لم يأكله.. فهو حىّ ميت.. يطلع عليه فى كل لحظة بهذه الصورة العجيبة، فتهيج لذلك أحزانه، ويشتد كربه، وتسرح به الظنون
33
فى كل أفق، باحثا عن يوسف.. ثم يعود آخر المطاف ولا شىء معه، إلّا هذه الزّفرات التي تنطلق من صدره، فترسم على لسانه هذا النغم الحزين: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» !! وهكذا تهجم لوعات الأسى والحسرة على هذا الشيخ الكبير، حتى لقد ابيضّت عيناه من الحزن الدفين، الذي أبى على عينيه أن تبللهما قطرات الدموع، وأن تطفئ النار المشتعلة فيهما، حتى أتت على فحمة سوادهما، وأحالته رمادا! «فهو كظيم» أي يكظم حزنه، ويحبسه فى صدره.. وذلك هو الحزن أفدح الحزن، وأشدّه قسوة.. يقول الشاعر «البارودى» :
فزعت إلى الدموع فلم تجبنى وفقد الدّمع عند الحزن داء
وما قصّرت فى جزع ولكن إذا غلب الأسى ذهب البكاء
«قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ».
ومع هذه الهموم وتلك الأحزان، التي يعالجها الشيخ الضعيف فى نفسه، ويمسكها فى كيانه، فإنه لم يسلم من اللّوم، الذي يزيد من آلامه، ويضاعف من أحزانه.. فإذا غفل عن نفسه لحظة وجرت على لسانه كلمة يهتف فيها بيوسف، تحركت الغيرة فى صدر أبنائه، وسلقوه بألسنة حداد.. إنه لم ينس يوسف، ولن ينساه، وإنه لا يزال يعيش مع ذكراه، منصرفا إليه بوجوده كلّه، غير ملتفت إلى أحد سواه! ومن كلمات العتب واللوم التي يسمعها يعقوب من أبنائه كلما جرى ذكر يوسف على لسانه- قولهم هذا، الذي حكاه القرآن عنهم: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ»..
والحرض: الشيء الذي استحالت طبيعته وتغيرت معالمه.
34
والمعنى: أنك لا تزال هكذا فى هذا الوسواس المزعج حتى تفسد وتختلّ، أو تهلك وتموت.. وهو خبر يراد به اللوم والتقريع..
والفعل «تَفْتَؤُا» من أفعال الاستمرار، ولا يستعمل إلا مصحوبا بالنفي، وقد حذف هنا حرف النفي «لا» لدلالة المقام عليه.. أو أن الفعل «تفتأ» ضمّن معنى الفعل «تستمرّ» الذي لا يصحبه النفي، وقد جاء فى قول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
- جاء الفعل أبرح متضمنا معنى فعل الاستمرار، فلم يصحبه نفى.
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».
البثّ: الهمّ، والكرب، الذي يغلب صاحبه، فلا يتسع له صدره، فيصرّح به، ويلقيه خارج صدره.. وأصل البثّ الانتشار، يقال: بث الحديث:
أي أذاعه ونشره، ومنه قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» أي المنتشر فى الفضاء.
- وفى قوله تعالى: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
إشارة إلى أنه إذ يشكو إلى الله ما به فإنما يشكو إلى رب رحيم، يضرع إليه فى الكروب، وتبسط له الأيدى فى الملمات، وتتجه الوجوه إليه فى الشدائد!! ولمن إذا يشكو الموجوعون؟ وإلى من يستصرخ المستصرخون؟ إذا لم يكن بدّ من الشكوى والاستصراخ؟
أهناك غير الله من يرجى لدفع الضر وكشف البلاء؟
إن اللّجأ إلى الله والهتاف به، والشكوى إليه، والتوجع له، هو من دلائل الإيمان به، والثقة فيه، وإظهار العبودية له والافتقار إليه..
35
وإنها لعبادة أىّ عبادة، تلك الأكفّ الضارعة إلى الله، وهذه الألسنة الشاكية له، وتلك العيون المتطلعة إليه، ترقب العافية منه، وتنتظر مواطر الخير من غيوث رحمته..
ولهذا، فلقد كان مما أمر الله به عباده أن يدعوه دائما.. فى السراء وفى الضرّاء، وأن يكشفوا بين يديه أحوالهم، وهو الذي يعلم سرهم ونجواهم، وأن يجتهدوا فى الطلب، وهو الذي قدّر كل شىء، وكتب لهم ما هو لهم.. ولكن هذا منهم هو عبادة له، وتسبيح بحمده.. وفى هذا يقول سبحانه.. «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» (٥٥: الأعراف).. ويقول سبحانه: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» (٩٠: الأنبياء).
ويقول سبحانه: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (٦٠:
غافر)..
ذلك ما يعلمه يعقوب من موقفه من ربه، ومن تضرعه إليه، وشكاته له، إنه يعلم من الله، أي مما لله من صفات الكمال والجلال ما لا يعلمه أبناؤه..
ولو علموا من الله ما علم لما كان منهم هذا اللوم له.
«يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ».
ولعلم يعقوب بربّه، وما عنده من رحمة واسعة، وفضل عظيم، فإنه يدعو أبناءه إلى أن يؤمنوا بالله إيمانه به، ويعرفوه معرفته له، ويطمعوا فى فضله ورحمته طمعه فيهما، وأن ينطلقوا هنا وهناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه أي ليبحثوا عنهما، ويتنسموا ريحهما، وألا يدخل عليهم شىء من اليأس من روح الله «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» الذين لا يعرفون الله،
36
ولا يقدرونه قدره.. أما المؤمنون فهم أبدا على رجاء من رحمة الله، وعلى ترقب لفضله، وتوقّع لغوثه.. ويوم ينقطع رجاء العبد من ربه، فذلك شاهد على انقطاع الصلة بينه وبينه، وعلى فراغ القلب من أية ذرّة من ذرات الإيمان به! روى أن بعض الصالحين كان يقول: «إن لى إلى الله حاجة أدعوه لها منذ أربعين عاما، ما استجابها لى، ولا يئست من دعائه..»
- وفى قوله «فتحسسوا» إشارة إلى البحث المعتمد على التحسس بالمشاعر والحدس، لا على النظر المادىّ، إذ كان الأمر خفيّا، لا يرى الرائي منه شيئا..
إنه فى البحث عنه أشبه بمن يتحسس طريقه فى الظلام الدامس، حيث يبطل عمل العينين، ويكون الاعتماد على الحدس والتظنّي..
وفى تعدية الفعل بحرف الجر من، وهو فعل متعدّ بنفسه، إشارة إلى أنهم يتبعون آثار يوسف وأخيه أثرا أثرا، ويتحسسونها خطوة خطوة.. فحرف الجر «من» دال على التبعيض فى هذا التركيب.
وروح الله: نفحات رحمته، وأنسام لطفه، التي بها تستروح النفوس، وتنتعش الأرواح..
الآيات: (٨٨- ٩٢) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٨ الى ٩٢]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
37
التفسير:
كان لا بد لأبناء يعقوب أن يعودوا إلى مصر مرة أخرى، لا للميرة وحدها- إن كانوا يريدون الميرة- ولكن استجابة لدعوة أبيهم لهم، أن يذهبوا فى وجوه الأرض، ليتحسسوا من يوسف وأخيه.. وإذا كانت مصر هى الوجه البارز، الذي عرفوه وخبروه، ثم هى البلد الذي فيه أحد أخويهم المطلوب البحث عنهما، هذا إلى الأخ الأكبر، الذي لا يزال ينتظر فى مصر- إذ كانت مصر كذلك، فقد جعلوا وجهتهم إليها..
وهناك دخلوا على العزيز يستعطفونه، ويعاودون الحديث معه فى شأن أخيهم الذي اتّهم بالسرقة، وأخذه العزيز كسارق.!
«قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» بما أصابنا فى أخينا الذي حبسته عندك، وحرمت والده الشيخ الكبير النظر إليه..
«وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» أي بضاعتنا التي جئنا بها هى بضاعة متحركة بين أيدينا من الأنعام: من إبل، وغنم وحمير، ونحوها..
يقال: أزجى الشيء يزجيه، أي دفعه وحرّكه.. كما فى قوله تعالى:
«رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ» (٦٦: الإسراء) وقوله سبحانه:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ».. ويجوز أن تكون البضاعة المزجاة، بمعنى الرديئة، التي يدفعها الناس ولا يقبلون عليها، زهدا فيها.
- «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» أي اجعل الكيل وافيا على ما عودتنا من قبل.
38
والسؤال هنا:
كيف يدعونه إلى أن يوفى لهم الكيل، وهم يعلمون أنه لم ينقص الكيل أبدا، كما شاهدوا ذلك بأعينهم، وكما قال هو لهم: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ؟» فكيف يدعونه إلى هذا؟ أفلا يكون ذلك اتهاما منهم لعدالته؟
ثم ألا يكون ذلك استثارة لمشاعر النفور منهم والبغضة لهم، وهم فى مقام يطلبون فيه عطفه، ويستميحون معروفه ونائله؟.. فكيف يتفق هذا وذاك؟
والجواب: أنهم لم يريدوا بقولهم هذا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» دعوة له أن يعطيهم حقّهم، وألا يبخسهم منه شيئا.. وإنما هم بهذا يطلبون أكثر مما لهم، إذ كانت البضاعة التي بين أيديهم ليست من الأشياء التي يعزّ وجودها فى مصر، وتشتد الرغبة فيها، مما يجلب إليها من مصنوعات البلاد الأخرى.. وإنما كان الذي معهم أشتات من الأنعام، ساقوها بين أيديهم، وهم فى الطريق إلى مصر..
ولخوفهم من أن يردّها العزيز، ولا يقبلها بضاعة يكيل لهم بها، قدّموا لذلك الضرّ الذي مسهم، «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم قدموا إليه البضاعة التي معهم، وكأنهم يعتذرون إليه من تقديمها، إذ لم يكن عندهم غيرها «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ».. فإذا جاء بعد هذا قولهم: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» كان معناه فاقبلها منا، واجعلها بضاعة غير مبخوسة عندك، واجعل لكل منا حمل بعير، كما عودتنا، فإن لم يكن ذلك فى مقابل هذه البضاعة، فاجعله فضلا منك وإحسانا..
«فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..»
«وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا..»
«إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ..»
39
لقد ألف القوم يوسف، وألفهم، وأخذ منهم وأعطى.. حتى لقد كادوا يسألونه: من أنت؟ وما لك تؤثرنا بقربك، وتختصنا بالحديث إليك؟ وما اهتمامك بأهلنا، وبمن خلّفنا وراءنا حتّى تحملنا على أن نحضر لك أخانا الذي تخلف عنا، ثم ها هو ذا يصبح رهينة بين يديك؟
هذه الأسئلة، وكثير غيرها، كانت تدور بين القوم، ويتناجون بها أفرادا وجماعات.. ثم لا يجدون عليها الجواب الذي يستريحون إليه، حتى جاءهم الخبر اليقين! «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» وما كاد يوسف يقول هذا لهم حتى أطلّ عليهم الجواب الذي كان تائها فى رءوسهم:
«قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟» - «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
لقد جلس لهم يوسف مجلس الإمارة، وأجلس أخاه إلى جانبه.. ثم استدعاهم إليه، على تلك الحال التي جاءوا بها.. وهم لم يعتادوا من قبل أن يروا أحدا يشاركه مجلسه.. فلما أخبروه بخبرهم، وبالضرّ الذي مسهم ومس أهلهم، وبالبضاعة المزجاة التي قدموها ليكتالوا بها، وطلبوا إليه أن يقبلها منهم، وأن يحسن الكيل لهم بها- لمّا فعلوا ذلك، لم يجبهم إلى شىء من هذا، بل فاجأهم بقوله:
«هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟».
إنه سؤال العارف المتجاهل.. يريد بسؤاله هذا عتابا لا لوما، واستئناسا لا استيحاشا، واعتذارا لهم قبل أن يعتذروا، إذ أضاف ما فعلوه بيوسف وأخيه
40
إلى ما كان منهم من جهل، ولو علموا، ما وقعوا فيما فعلوا، فهم معذورون إذ كانوا جاهلين! وهكذا بسط لهم جناح الصفح والمغفرة.. حتى لقد رأوا فى تلك المداعبة والملاطفة وجه الأخوة الحانية. يطلّ عليهم، طاويا تلك السنين التي غبرت!! وتحول الشك عندهم إلى يقين.. فقالوا بصوت واحد: «أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» ؟ ونعم إنه ليوسف.. يقولونها هكذا بصيغة التوكيد!! «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : ثم أراهم يوسف أن هذا الذي يرونه ولا يكادون يصدّقونه، هو من فضل الله عليه، وأنه سبحانه قد أحسن جزاءه، إذ كان ممن ابتلاهم فصبروا، وممن مكّن لهم فاتّقوا وأحسنوا: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».
«قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ».
وماذا يقولون غير هذا؟ وقد فعلوا بيوسف ما فعلوا به صغيرا، ثم ما رموه به بعد سنين طويلة من انقطاع أخباره عنهم.. حين قالوا للعزيز «يوسف» :
«إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ؟
لقد أدانوا أنفسهم، وأقروا بالخطيئة. فقالوا: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» مؤكدين هذا الإقرار. ومستشهدين له، بهذا الفضل الذي فضله به الله عليهم، واختصه به دونهم: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا».
وإنهم لم يرتضوا الحكم الذي حكمه عليهم يوسف بقوله: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» إذ رأوا أن هذا صفح كريم منه، وتسامح أخوىّ لقيهم به..
أما واقع أمرهم فإنهم كانوا خاطئين، بل وغارقين إلى آذانهم فى الخطيئة!! «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
وهكذا يأبى عليه فضله وإحسانه، وبرّه بأهله، إلا أن يؤكد الصفح والمغفرة
41
بل ويطلب لهم من الله الرحمة والغفران «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» أي لا لوم عليكم، ولا مذمّة منذ اليوم، فقد بلغ الأمر بي وبكم غايته، وانتهى إلى تلك النهاية المسعدة، التي تستوجب منا جميعا حمد الله وشكره. «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ! لقد غفر هو لهم ما كان منهم معه سابقا ولا حقا..
وإن رحمة الله لأوسع وأرحب، فلن يحرمهم الله سبحانه مغفرته ورحمته..
وكيف! «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ؟
الآيات: (٩٣- ٩٨) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٣ الى ٩٨]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
التفسير:
وما أن كشف يوسف لأخوته عن وجهه، وأراهم منه الصفح والمغفرة، حتى التفت بوجوده كلّه إلى أبيه الذي أضرّ به الحزن عليه، وعلاه الكبر، ومسّه الوهن والضعف!
42
«اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» !
[قميص يوسف.. ما هو؟]
وأي قميص هذا الذي أعطاه يوسف إخوته، ودعاهم إلى أن يلقوه على وجه أبيه، فيعيد إليه بصره الذي ذهب؟
تكثر الروايات، حول هذا القميص، حتى لتنسبه إحدى هذه الروايات إلى إبراهيم عليه السلام، وتحدّث بأنه كان قميصا جاء به جبريل من الجنة وألبسه إبراهيم حين ألقى به فى النار، فلم تمسّه بسوء، وكانت بردا وسلاما عليه.. فجعل إبراهيم هذا القميص ميراثا فى ذريته.. أعطاه إسحق، ثم أعطاه إسحق يعقوب، ثم ألبسه يعقوب يوسف، ثم ها هو ذا يدفع به يوسف إلى إخوته ليلقوه على وجه أبيه، فتتشكل منه معجزة تعيد إليه البصر المفقود! ويمكن أن يكون هذا، إذا كان مستنده كتاب الله، أو حديث رسول الله.
وأما وليس فى القرآن الكريم، ولا حديث رسول الله الأمين، شاهد لهذا، فإنه من الخير أن يتخفف العقل من هذه الغيبيات القائمة على الرجم بالغيب، وأن يأخذ الأمور على ظاهرها المكشوفة له..
ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم يحدّث عن القميص الذي كان يلبسه يوسف، حين خرج به إخوته ثم ألقوه فى غيابة الجبّ- هذا القميص قد انتزعه منه إخوته، وجاءوا به إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد لطخوه بالدم مدّعين أن الذئب قد أكله، فكيف يكون مع يوسف القميص الذي يردّ فى أصله إلى إبراهيم عليه السلام؟
43
فليكن القميص إذن واحدا من الأقمصة التي كان يلبسها يوسف، والتي علق بها بعض عرقه، فكان فيها ريحه..
أمّا كيف يجد يعقوب ريح يوسف فى هذا القميص، على هذا المدى البعيد، الذي أحد طرفيه مصر، والطرف الآخر فى الشام؟. فهذا السؤال يرد على أي قميص.. سواء أكان القميص الذي يقال إنه قميص إبراهيم أم أي قميص آخر غيره!.
والذي علينا أن نصدّقه هو أن يعقوب وجد ريح يوسف، وهو فى مصر، ويعقوب فى الشام!.
أما هذه الريح التي وجدها يعقوب، فهى إما أن تكون ريحا شمّها بأنفه على الحقيقة، كما تشمّ أرواح الأشياء، ذات الريح.. وإما أن تكون الريح هذه مشاعر وخواطر، مثّلت له يوسف قريبا منه، مقبلا إليه، أشبه بالطيف الزائر فى المنام، أو الخاطر المسعد فى أحلام اليقظة.. وذلك كلّه من ألطاف الله بيعقوب، ومن إشراقات النفس الصافية، وانطلاقات الروح من كثافة المادة، وقيود الجسد!.
ونحن فى حياتنا اليومية كثيرا ما يقع لنا فى أحلام اليقظة شىء مثل هذا أو قريب منه، فنتمثل شخصا لم نره منذ زمن بعيد، فإذا بنا بعد قليل نلتقى به! أو يرد على خاطرنا فيقع كما ورد!.. فكيف بنبىّ كريم من أنبياء الله فى إشراق روحه، وصفاء نفسه؟
وأما كيف كان لهذا القميص أن يعيد إلى يعقوب بصره بمجرد أن ألقى عليه.. فلهذا أكثر من قول يقال هنا..
فلك أن تقول إنه آية من آيات الله، أجراها الله سبحانه وتعالى بين يدى نبيّين كريمين.. يعقوب ويوسف! أو قل هى معجزة جعلها الله سبحانه
44
ليوسف- عليه السلام- وآذنه بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً».. فهو يعلم من الله، ما يحمل هذا القميص فى طياته من أسرار أودعها الله فيه! ولك أن تقول: إن ذلك لم يكن أمرا معجزا، وإنه جاء جاريا على سنن الطبيعة ومألوف الحياة.. وأن الذي ذهب ببصر يعقوب هو شدة الحزن، وأن الذي أعاد إليه بصره الذاهب هو شدة الفرح..! وأن قول يوسف الذي أنبأ به عن ارتداد بصر أبيه إليه بعد أن يلقى القميص على وجهه- هذا القول هو لمحة كاشفة من لمحاته المشرقة، عرف بها تأويل هذا الأمر.. تماما كموقفه من تأويل الأحاديث والأحلام! «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فصلت العير: أي بدأت رحلتها، بعد أن شدّت رحالها، وأصل الفعل يدل على الانفصال عن الشيء.. ومنه الفصيل، وهو ابن الناقة، يفصل عنها بعد أن يستغنى عن لبنها.. ومن ذلك قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي حمله وفطامه.. والعير: الحمير.. وهى جمع، واحدها عير، مثل:
سقف وسقف، وأصل العير، عير على وزن فعل، مثل: سقف.. استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وسبقها ضمة، فقلبت الضمة كسرة، لتناسب الياء، فصارت العير، على وزن فعل، مثل حلم.
تفنّدون. أي تهزءون وتسخرون بي، وتنسبوننى إلى الخرف، والأفن وضعف الرأى.
«قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» لقد وقع ما كان يحذره، ولم يسلم من تفنيد المفنّدين، ولوم اللائمين، ممن
45
سمعوا منه هذا القول، من أهله وجيرانه.. ولم يكن فيهم بنوه، الذين كانوا يومئذ ما زالوا فى طريقهم إليه من مصر..
والمراد بالضلال القديم هنا، ما عرف منه من حبّ شديد ليوسف، وتعلق بالغ به، حتى لقد حسب هذا ضلالا عن طريق القصد والاعتدال فى الحبّ.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان أبناء يعقوب: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ».. فإلى هذا الضلال يشير أولئك الذين قالوا له: «إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ولقد صدّق الله- سبحانه- ظنون يعقوب، فوقع ما توقعه، وجاء البشير بريح يوسف محمّلة فى قميصه، فلما ألقى القميص على وجهه ارتدّ بصيرا، كما تنبأ بذلك يوسف.
وفى غمرة هذا الفرح الكبير، لم ينس يعقوب أن يردّ اعتباره عند هؤلاء الذين فنّدوه ورموه بالضلال.. فقال لائما مؤنبا: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ! أي إنّى كنت على رجاء من رحمة ربّى، وعلى طمع فى فضله.. ولهذا لم أيأس من روحه، ولم ينقطع رجائى فى فضله، وأن ألتقى بيوسف الذي حجبته الأقدار عنّى خلال هذا الزمن الطويل؟
- وفى قوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قاله لهم حين قالوا له: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» فكان ردّه عليهم: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ»
..
46
«قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» هو نفس الموقف الذي وقفوه بين يدى يوسف، حين قالوا له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ».. إنه الاعتراف بالذنب، وطلب الصفح والمغفرة..
ولقد لقيهم يوسف بالصفح والمغفرة، من غير مهل ولا إبطاء، فقال:
«لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» أما أبوهم يعقوب، فإنه لم يلقهم بهذا الصفح وتلك المغفرة من فوره، بل جعل ذلك وعدا مستقبلا، يجىء على تراخ من الزمن.. «قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي».. ولم يقل سأستغفر لكم ربى! وقد أخذ بعض العلماء من هذا الاختلاف بين موقف يوسف من إخوته، وموقف أبيه يعقوب منهم- أخذ من هذا شاهدا على أن الشباب أسمح نفسا بما فى أيديهم، من الشيوخ الذين يغلب عليهم الحرص على كل ما عندهم، ليكون لهم من ذلك قوة تمسك عليهم البقية الباقية من قواهم الواهية..
والذي نذهب إليه لتعليل هذا الاختلاف فى الموقفين، أن يعقوب، فى هذا الموقف أب، وهو بهذا يملك من أبنائه ما لا يملكه الأخ من إخوته..
إنه يملك التأنيب، والتأديب.. أما الأخ فلا يملك من إخوته هذا الذي يملكه منهم أبوهم..
ومن أجل هذا فقد استعمل يعقوب حقّه فى تأنيب بنيه وتأديبهم، فأمسك عنهم صفحه ومغفرته، إلى حين، ولم ير من الحكمة أن يجيبهم إلى طلبهم فى الحال. وأن يخلى مشاعرهم من القلق والهمّ. بل رأى أن يريهم أن
47
هذا الطلب موضع نظره، وأنه سوف يحققه لهم فى الوقت المناسب! وفى هذا ما فيه من درس بالغ فى التربية والتأديب.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
أما يوسف، فهو فى مواجهة إخوة له، وهم أكبر منه سنّا.. فلم يكن بدّ من أن يبادرهم بالصفح والمغفرة، بعد أن أخذ بحقّه منهم، وأجراهم هذا الشوط الطويل، حتى كادت تنقطع منهم الأنفاس، فى غدوهم ورواحهم إلى مصر، وإتيانهم بأخيهم من أبيهم، ثم فى هذا التدبير الذي جعل منه يوسف مدخلا لاتهام أخيه بالسرقة، وأخذه بما سرق، ووضع إخوته فى هذا الموقف الحرج!
الآيات: (٩٩- ١٠١) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠١]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
التفسير:
آوى إليه أبويه: ضمهما إليه، وكان مأوى لهما..
48
نزغ الشيطان: أي أفسد الشيطان، والنزغ، والزيغ، بمعنى..
«فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ».. هناك أحداث كثيرة طويت، ولم يجر لها ذكر هنا، إذ لم يكن لها أثر ظاهر فى مضمون القصة..
وها نحن أولاء نرى يعقوب وبنيه فى مصر، بعد أن كانوا منذ لحظة فى أرض كنعان، نراهم فى موقف استغفار واسترضاء من جهة، وموقف تأنيب وتأديب من جهة أخرى..
وها هو ذا يوسف يلقى أبويه وإخوته، ويضمهم إليه، ويفتح لهم الطريق إلى مصر وينزلهم فيها منزل الأمن والسلامة.. «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ».. ثم يرفع أبويه على العرش، ويدعوهم جميعا إلى مشاركته مجلس السلطان والحكم، فيدخلون عليه، ويؤدون له تحية الملك والسلطان، وينزلون على حكم العرف السائد فى مصر، عند لقاء الملوك، فيخرّون له ساجدين..
وإذ يشهد يوسف هذا الموقف، تتمثل له فى الحال رؤياه التي رآها فى صغره، والتي عرضها على أبيه قائلا: «يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ».. وهنا يقول يوسف لأبيه: «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ.. قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» أي قد تحققت كما رأيتها فى المنام..
أمي، وأبى، وإخوتى الأحد عشر.. «أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ»..
«وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ».. فمن إحسان الله إلى يوسف أن حقق له هذه الرؤيا، وأن أخرجه من السجن، وأن جمع بينه وبين أهله، فجاء بهم من البدو، وأنزلهم الحضر.
- وفى قوله: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدر العباد، ثم أراهم من عواقبها غير ما يتوقعون..
49
فمن كان يقع فى تقديره أن تلك الأحداث التي بدأت بها قصة يوسف من إلقائه فى الجب، إلى وقوعه فى يد جماعة من التجار، إلى بيعه لرجل من مصر، إلى كيد امرأة العزيز له، وتآمرها مع جماعة النسوة عليه، إلى إلقائه فى السجن بضع سنين- من كان يقع فى تقديره أن هذه الأحداث ينسج من خيوطها عرش، ويصاغ من حصاها تاج، ويولد من تصارعها ملك يجلس على هذا العرش، ويتوّج بهذا التاج؟ إن ذلك لا يكون إلا من تدبير حكيم خبير، يمسك الأسباب بلطفه، فإذا هى طوع مشيئته، ورهن إرادته، فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويجعل من المكروه محبوبا، ومن المحبوب مكروها: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (٢١٦: البقرة) :«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (١٩: النساء) - وفى قوله: «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أن لطف الله سبحانه وتعالى، وتدبيره المحكم لما يريد، إنما هو عن علم العليم، وحكمة الحكيم، لا يشاركه أحد فى علمه وحكمته، فبعلمه المحيط بكل شىء، تتولد الأسباب والمسببات، وبحكمته البالغة، تقدّر الأمور، وتحكم فى أسبابها.. وذلك هو اللطف فى كماله وتمامه، فلا يقع شىء فى ملك الله إلا كان اللطف سداه ولحمته!.
«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»..
بهذه الابتهالات وتلك التسابيح، يستقبل يوسف هذه النعم التي أنعم الله
50
بها عليه.. فيحدّث بنعمة ربّه، ويسبّحه بها، ويحمده عليها، ويستزيده من فضله، بأن يتم تلك النعمة عليه، وأن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.. فذلك هو الذي يجعل لتلك النعم مساغا فى فمه، وطعما هنيئا فى حياته!.
وإلى هنا تنتهى قصة «يوسف» التي كانت السورة كلها تقريبا معرضا لها، وحديثا عنها..
ويلاحظ أنّ قصّة «يوسف» - على خلاف القصص القرآنى كلّه- جاءت فى معرض واحد، لم يذكر معها غيرها من قصص الأنبياء، ولم تذكر هى فى معرض آخر، ولم يجر عن يوسف حديث فى غير هذه السورة، اللهم إلا أن يذكر اسمه مع جماعة الأنبياء، ذكرا لا يراد منه إلا تعداد أسمائهم، أو مجرد الإشارة إلى قصته، للعبرة والعظة!.
ولعلّ الحكمة فى هذا هى أن هذه القصة تعتبر حدثا واحدا، هو رحلة عبر الزمن، للإنسان من مولده إلى مماته، وعلى طريق هذه الرحلة تقوم سدود، وتهبّ أعاصير، ولكن يد اللطف والقدرة تبلغ بهذا الإنسان مأمنه، وتخرجه من تلك التجربة التي عانى فيها الشدائد والأهوال- جوهرا صافيا، وإنسانا عظيما يمسك بكلتا يديه خير الدنيا والآخرة جميعا..
ولو أن هذه القصّة صنع بها ما فى القصص القرآنى، فعرضت فى أكثر من معرض لتمزقت وحدة الشخصية التي هى العمود الفقرى للقصة.
ومن جهة أخرى، فإن القصة وقد اصطبغت من أولها بلون الدم ثم كان ختامها الأمن والسلامة- فقد كان مما يتفق وتطلعات النفوس أن تجىء القصّة هكذا كيانا واحدا، يجمع بين بدئها وختامها.
ومع هذا، فلو جاء بها القرآن على نسق القصص القرآنية الأخرى،
51
فعرضها فى أكثر من معرض لما أخلّ ذلك بشىء من مقوماتها.. ولكن هكذا جاء بها القرآن، فكان ذلك شاهدا من شهوده الكثيرة على امتلاكه ناصية البيان، وتمكنه غاية التمكن من فنون القول! فيجىء بالقصة فى معارض مختلفة، فإذا هى كيان واحد، وخلق سوىّ، ينبض بالحياة، ويفيض بالجمال والجلال.. ثم يجىء بالقصة فى معرض واحد، فإذا هى مائدة تجمع شهى الطعام، وتؤلف بين مختلف الطعوم، فإذا الوارد عليها، والطاعم منها آخذ بحظه من كل طعام، متذوق من كل لون.. حتى إذا قارب حدّ الشبع وجد على لسانه حلاوة هذا الختام الذي انتهت به أحداث القصة..
فسبحان من هذا كلامه، و «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً..»
الآيات: (١٠٢- ١٠٧) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٧]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
52
التفسير:
بدأت السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. بقوله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ».. ثم ما كاد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يفتح قلبه لتلقّى ما يوحى إليه من ربّه من قصص، حتى وجد نفسه مع قصة يوسف عليه السلام، فصغا بقلبه، وروحه إليها..
وفى نغم علوىّ، وبيان ربانىّ، جرت أحداث القصة، وترددت أصداؤها فى كيان الرسول الكريم، وانسكب نميرها فى وجدانه، قطرة قطرة، حتى إذا بلغت نهايتها، كان قد ارتوى، وانتعش، ووجد برد الراحة فى هذه الواحة الظليلة التي يستروح فيها أرواح العافية، بعد أن أضناه السير، وأضرت به لفحات السّموم، التي تهب عليه من المشركين، من سفهاء قريش وحمقاها! ففى أفياء هذه الواحة الظليلة، وعلى خطوات هذه الرحلة الطويلة يستعرض الرسول الكريم ما يجرى بينه وبين قومه وأهله، وما يكيدون له من كيد، وما يرمونه من ضرّ، لا لشىء إلّا لأنه يدعوهم إلى الخير، ويمدّ إليهم يده بالهدى- فيرى أن أخا له من أنبياء الله، قد كيد له هذا الكيد العظيم، من إخوته، وطرح به فى مطارح الهلاك، بيد أبناء أبيه، فلطف الله به ونجّاه من تلك الكروب، ثم مكّن له فى الأرض، وبسط يده وسلطانه على هؤلاء الذين مكروا به، وكادوا له! وتلك هى عاقبة الصّابرين المتقين! فليهنأ النبىّ الكريم إذن ولينظر ما يفتح الله له من رحمة، وما يسوق إليه من فضل.. فإن العاقبة له، والخزي والخذلان على الكافرين! وإنه ما يكاد الرسول الكريم يمسك بأطراف هذه القصة، ويردّد النظر فيها، حتى يجد الرفيق الذي يصحبه، ويقيم نظره على تلك القصّة، ويشير له إلى مواقع العبرة والعظة منها.. وإذا كلمات الله تلقاه بهذا الخطاب الذي يلفته إلى
53
ذاته، ويذكّره بأن ذلك الحديث كلّه إنما هو حديث إليه، ومناجاة له من ربّه، يجد فيها ريح العافية، وبرد العزاء.
«ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ».. فهذا الذي سمعته أيها النبىّ من قصة يوسف، هو من أنباء الغيب، التي أوحى الله بها إليك، ليثبّت بها فؤادك، ويربط بها على قلبك! - «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ».. أي أن النبىّ الكريم لم يكن بمشهد من هذه الأحداث، حتى يعلمها، ولم يكن يتلو كتابا من قبل، حتى يقع عليها: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (٤٩: هود).
والذين أجمعوا أمرهم، وهم يمكرون، هم إخوة يوسف، الذين قالوا:
«لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ».. فهذا ما أجمعوا أمرهم عليه، وهذا هو مكرهم الذي مكروه.. ولم يكن النبىّ بمشهد من هذا.
«وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» - هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له لما يلقى من قومه من كيد ومكر.. فهكذا النّاس، يغلب شرّهم خيرهم، ويطغى سفهاؤهم وجهالهم على العقلاء والراشدين فيهم.. وإنه مهما حرص النبىّ على هداية الناس، ومهما اجتهد فى طلبهم إليه، وشدّهم نحوه فإن أكثرهم على خلاف وإباء!..
فإذا كان فى بيت النبوة وفى سلالات الأنبياء، ينبت مثل هذا الشرّ، ويقع مثل هذا الذي وقع بين يوسف وإخوته- فليس بالمستغرب، ولا من غير المتوقع أن يرى النبىّ فى أهله، وقومه، من يكيدون له، ويبغون الشرّ به!
54
«وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» - هو تقريع، وتسفيه، لهؤلاء الحمقى السّفهاء الذين يتنكرون لحملة الهدى إليهم، ودعاة الخير فيهم، وهم لم يطلبوا منهم على ذلك أجرا، ولا يريدون جزاء ولا شكورا..
فلو أن النبىّ الكريم، كان يطلب من قومه أجرا على هذا الذي يقدّمه لهم من خير، لكان لهم وجه فى ردّه والتأبى عليه، وإن كان الذي بين يديه لا يستكثر عليه أي أجر وإن غلا، وأي ثمن وإن عظم.. ولكنه، إذ كان ولا شىء من متاع هذه الدنيا يوفّى ثمنه، أو يؤدى أجره، فقد جعله الله سبحانه- فضلا منه وكرما- رحمة مهداة إلى عباده.. وهل يقدّر لضوء الشمس ثمن؟ أو للروح التي تلبس الأجساد قيمة؟ ذاك من هذا سواء بسواء! «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ».
وليست هذه الآيات البينات التي يطلع بها الرسول على قومه، ويؤذّن بها فيهم- ليست إلا بعض آيات الله الكثيرة المبثوثة فى هذا الوجود.. فما أكثر تلك الآيات التي بين يدى النّاس، وتحت أبصارهم، لو أنهم نظروا فى هذا الوجود، وفتحوا عقولهم وقلوبهم له..
وإن العاقل ليهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، من غير أن يدلّه على ذلك دليل، أو يرشده مرشد، لو أنه أحسن توجيه أجهزته التي أودعها الله فيه، على هذا الوجود الذي حوله، بل على نفسه ذاتها.. «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (٢١: الذاريات).. «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» (٥- ٧: الطارق).
ولكن- مع هذا ومع ما يعلم الله سبحانه وتعالى من غفلة النّاس عن تلك الآيات الكونية- فإنه- سبحانه- قد بعث فيهم من أنفسهم هداة يهدونهم إلى الحق، ويكشفون لهم معالم الطريق إلى الله، من غير أجر..
55
فمكروا بآيات الله، وكذبوا رسله.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (٣٤: إبراهيم)..
«وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ..»
وهذا صنف آخر من الناس.. فإنه إذا كان أكثر الناس لا يؤمنون بالله، ولا يستجيبون لدعوة الداعي الذي يدعوهم إليه، فإن كثيرا منهم كذلك يؤمنون بالله، ولكنهم لا يخلصون إيمانهم له، ولا يقيمون هذا الإيمان على وجهه الصحيح.. فهم مؤمنون، وغير مؤمنين.. يؤمنون بالله، وبغير الله، فيجعلون مع الله آلهة أخرى، أو شفعاء يتقربون بهم إليه، مثل مشركى قريش، الذين يقولون عن أصنامهم التي يعبدونها: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر).. فهذا شرك بالله، لا يصح معه إيمان مؤمن.
«أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».
الغاشية: هى التي تهجم على الناس، وتشتمل عليهم، ولا تستعمل إلا فى مقام الضرّ والأذى..
البغتة: المباغتة والمفاجئة..
والمعنى، أفيأمن هؤلاء المشركون من قريش، الذين كذبوا رسول الله، وآذوه- أفيأمنون أن يأخذهم الله ببأسه، وأن تغشاهم سحابة من عذابه، فتهلكهم كما أهلكت الظالمين قبلهم؟ وإذا أمنوا هذا، أفيأمنون أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم غافلون عنها، لم يعملوا حسابا لها؟.
ماذا يكون موقفهم يومئذ؟ وهل يلقون إلا الخزي والهوان، والعذاب الأليم؟..
56
والاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على هؤلاء المشركين، موقفهم هذا، الذين بعدوا به عن طريق الهدى، وركبوا فيه طريق الضلال، فهم- وهذه حالهم- فى معرض الهلاك فى الدنيا، بنقمة من نقم الله تأخذهم بغتة، فإن لم يعجل لهم الله البلاء فى الدنيا ضاعف لهم العذاب فى الآخرة، «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ».
الآيات: (١٠٨- ١١١) [سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٨ الى ١١١]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
. التفسير:
بهذه الآيات تختم سورة يوسف.. فيؤذّن النبىّ الكريم فى قومه بقوله تعالى:
57
«قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
فالسبيل التي استقام عليها النبىّ بأمر ربه، ودعا الناس إلى أن يأخذوا خطوهم عليها وراءه- هذه السبيل، هى سبيله، لا يحيد عنها، ولا يلتفت إلى غيرها..
وإنه ليدعو إلى الله على هدى ونور من ربه، فقد أبصر الحق، واستيقنه، وعرف الخير وطعم منه.. فهو يدعو الناس إليه، ليأخذوا حظهم من فضل ربهم، ولينزلوا منازل رحمته ورضوانه.. فمن اتبع الرسول، فقد عرف هذا الحق، وطعم من ذلك الخير، فكان على هدى وبصيرة..
- قوله «وَسُبْحانَ اللَّهِ» معطوف على مقول القول: «هذِهِ سَبِيلِي» أي قل هذه سبيلى، وقل سبحان الله، أي تنزيها لله عن الأنداد والشركاء..
وقل «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى..
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى»..
وهذا ردّ على المشركين الذين ينكرون على النبىّ أن يؤذّن فيهم بكلمات الله، وأن يدعوهم إلى الله بما أوحى إليه من ربه.. فقد صورت لهم أوهامهم المضلّة، أن الرسول الذي يبعثه الله، ينبغى أن يكون على غير شاكلة الناس، كأن يكون ملكا من السماء، أو نحو هذا..
ولو أنهم نظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، والتفتوا إلى ما حولهم، لرأوا أن رسل الله جميعا كانوا من البشر، وكانوا من أقوامهم، وبلسانهم.. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (٤: إبراهيم).
- وفى قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْقُرى» إشارة إلى تلك القرى، التي يرى المشركون من قريش مخلّفات من عمروها قبلهم من عاد وثمود.. وإلى هذه
58
القرى يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (٢٧: الأحقاف)..
قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».. هو إلفات لمشركى قريش، إلى تلك القرى التي يمرون عليها فى طريقهم إلى الشام مع رحلة الصيف.. فليقفوا قليلا على أطلالها، وليروا كيف كانت عاقبة الذين كذبوا برسل الله.. ولقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فما عصمتهم قوتهم، من بأس الله إذ جاءهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله من شىء! قوله تعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا».. إنها العبرة التي يستخلصها العقلاء من الوقوف على أطلال هذه القرى الظالم أهلها.. وإنها لتنطق بأن الحياة الدنيا متاع زائل، وزخرف حائل، وأن الدار الآخرة خير وأبقى، للذين اتقوا ربهم، وتزودوا لتلك الدار بالعمل الصالح والتقوى..
وفى قوله: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضّالين، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! فلقد عطلوا عقولهم، فلم يهتدوا بها إلى خير، ولم يتعرفوا بها على حق.. فخسروا الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسران المبين.
«حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ»..
استيئس: واجه اليأس، ووقع فى تصوره أن لا ملجأ، ولا نجاة، وذلك فى لقاء الأحداث، ومصادمة الشدائد..
كذبوا: أي كذب عليهم، إذ لم يتحقق لهم ما وعدوا به إلى أن بلغ بهم الحال إلى هذا اليأس..
59
- وقوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا»..
حتّى حرف غاية لما قبله..
وهنا كلام محذوف هو الغاية التي يشير إليها هذا الحرف.. والتقدير:
أن مهمة الرسل هى الوقوف فى وجه هذا الظلام الزاحف، والتصدّى لتلك القوى العاتية من قوى الشرّ والعدوان، وأنهم مطالبون بأن يثبتوا، ويصبروا، ويصابروا. فإن نصر الله آت لا ريب فيه.. وهكذا يظل الرسل فى متلاطم الشدائد والمحن، حتى لقد يدخل اليأس عليهم، وتغيم الحياة فى أعينهم، ويغمّ عليهم طريق النجاة، ويخيل إليهم أن النصر أبعد ما يكون منهم- عندئذ تهب ريح النصر، وتطلع عليهم تباشير الصباح، فتطوى جحافل الظلام، وتطارد فلوله..
وإذا دولة الباطل قد ذهبت، وذهبت آثارها، وإذا راية الحق قد علت، وخفقت أعلامها..
وفى هذا تسلية للنبىّ الكريم، وشحد لعزيمته، وتثبيت لقدمه، وتطمين لقلبه، وتأكيد للوعد الذي وعد به من ربّه فى قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (٢١: المجادلة) هذا، وليس فى استيئاس الرسل، وفى إطافة الظنون بهم، وبأنهم قد كذبوا- ليس فى هذا ما ينقص من قدر الرّسل، أو يشكك فى كمال إيمانهم بربهم، واستيقانهم من صدق وعده.. فهم على يقين راسخ بما وعدهم الله به، ولكن هناك مواقف حادّة من الضيق، وأحوال بالغة من الشدّة، تأخذ على الإنسان تقديره وتدبيره، وتمثّل له الحقائق المحسوسة التي عايشها، ونزلت من عقله منزل اليقين، وقد قلبت أوضاعها، وتبدّلت حقائقها- عندئذ وللحظة
60
عابرة عبور الطيف، يخون الإنسان يقينه، ويفلت منه زمام أمره.. ثم يعود إلى موقفه، أشدّ تثبتا، وأقوى يقينا، وأرسخ قدما.. إنها سحابة صيف، تغشى وجه الشمس، ثم لا تلبث حتى تزول، وتسفر الشمس عن وجه أبهى بهاء، وأضوأ ضوءا، وأصفى صفاء مما كانت عليه قبل أن تمر بها تلك السحابة العابرة..
فتلك الحال التي تمثل الرسل فى هذا الموقف، هى القمة التي تنتهى عندها طاقة الاحتمال البشرى، فى مصادمة الأحداث، ومدافعة الأهوال والشدائد..
وهى قمة لا يبلغها إلا أولو العزم من رسل الله.. حيث تون الخطوة التالية بعدها انخلاعا من عالم البشر، إلى العالم العلوىّ، وعندها تهبّ ريح النصر، وتجىء أمداد السماء.! وفى هذا ابتلاء للرسل، واستخلاص لكل ما عندهم من مذخور.. من قوى الصبر والعزم والإيمان..
- قوله تعالى: «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» - إشارة إلى أن نصر الله الذي يحقق به لرسله ما وعدهم به، يحمل معه من الهلاك والبلاء للقوم المجرمين.. فإن هذا النصر إنما يمشى على جثث أعداء الرسل، الذين حاربوهم هذه الحرب القاسية، ودفعوا بهم إلى تلك المآزق الحرجة، حتى لكادوا يفتنونهم فى دينهم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (٣٢: التوبة) «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» الضمير فى «قصصهم» يعود إلى الرسل المذكورين فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» ففى قصص الرسل، وفى الصراع الذي يدور بينهم وبين السفهاء والضالين من أقوامهم- فى هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وذوى الفطنة والرأى.. حيث ينجلى الموقف دائما عن إظهار دين الله، وإعلاء كلمته، وانتصار
61
رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، على حين يقع البلاء والخزي والخذلان بالذين كذبوا رسل الله وآذوهم، وصدّوا الناس عن سبيل الله..
- قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» أي هذا القصص الذي يقصه الله تعالى على نبيّه الكريم، من أنباء الرسل، لم يكن حديثا ملفقا، أو مفترى ولكنه كلام ربّ العالمين، قد تلقاه النبىّ وحيا من ربّه، فجاء مصدّقا لما سبقه من الكتب السماوية، مفصّلا كلّ ما كان مجملا فيها، حاملا الهدى والرحمة لمن يؤمنون به، ويهتدون بهديه، ويستقون من موارده.
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» معطوف على قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» وهو عطف يفيد الاستدراك، ويجعل ما بعد «لكن» مخالفا لما قبلها فى الحكم الواقع على المعطوف عليه.
- وفى قوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» - فى التعبير بالفعل المستقبل «يُؤْمِنُونَ» بدل الفعل الماضي «آمنوا»، مع أن الهدى والرحمة لا يقعان إلا بعد الإيمان- فى هذا إشارة إلى أن الهدى والرحمة أمران ذاتيان، ثابتان فى هذا الكتاب، يجدهما كل من اتصل به وأخذ عنه، وتعامل معه، على امتداد الزمان، فلا يقطع الماضي ما له من آثار فى المستقبل، ولا ينضب معين الهدي والرحمة، على كثرة الواردين.. فهو أبدا مصدر هدى ورحمة للذين يؤمنون به، لا لمن آمنوا به وحدهم، وسبقوا إلى الإيمان.. فللّاحقين حظهم من هداه ورحمته، مثل ما للسابقين، سواء بسواء.. وإنما تختلف حظوظ الناس بحسب استعدادهم لتقبل الهدى، واستئهال الرحمة.. فكتاب الله. هو هو، وآياته.. هى هى، والهدى المشّع منه.. هو هو، والرحمة المحملة معه.. هى هى..
لا اختلاف مع الزمن فى شىء من هذا، ولا تحوّل أو تبدّل فى كلمات الله وآياته.. وإنما الذي يختلف ويتبدل ويتحول، هم الناس، وعقول الناس، وقلوب الناس!
62
Icon