تفسير سورة يوسف

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(١٢) سورة يوسف مكية وآياتها احدى عشرة ومائة
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
448
اللغة:
(الْقَصَصِ) : على وجهين: أحدهما يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص تقول قصّ الحديث يقصّه قصصا وثانيهما يكون فعلا بمعنى مفعول كالنفض بمعنى المنفوض واشتقاقه من قصّ أثره إذا تبعه لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا.
الإعراب:
(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) الر: تقدم اعرابها والقول فيها وتلك مبتدأ وآيات خبر والكتاب مضاف اليه والمبين صفة للكتاب.
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ان واسمها وجملة أنزلناه خبرها وقرآنا حال من ضمير أنزلناه أي الهاء وقيل انتصب على البدلية من الضمير، وعربيا صفة ولعلكم تعقلون: لعل واسمها وجملة تعقلون خبرها. (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) نحن مبتدأ وجملة نقص خبر والفاعل مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص وأحسن مفعول به إذا كان القصص مصدرا بمعنى المفعول ومفعول مطلق إذا كان القصص مصدرا غير مراد به المفعول والقصص مضاف اليه والباء للسببية وما مصدرية وهي مع ما في حيزها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بنقص أيضا أي بسبب ايحائنا وإليك متعلقان بأوحينا وهذا مفعول به والقرآن بدل من اسم الاشارة. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة وكان واسمها ومن قبله حال واللام الفارقة ومن الغافلين خبر كنت. (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
449
عَشَرَ كَوْكَباً)
يجوز لك أن تعلق إذ الظرفية بفعل مضمر أي اذكر ولك أن تجعله بدل اشتمال من أحسن القصص ويجوز أن يتعلق بنقص ولكن في هذا إخراجا لاذ عن المضي، وجملة قال يوسف مضاف إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت منادى مضاف الى ياء المتكلم التي حذفت وعوضت عنها التاء المكسورة أو المفتوحة وسيرد المزيد عنها في باب الفوائد وكسرت همزة إن بعد القول والياء اسم ان وجملة رأيت خبرها وأحد عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل نصب مفعول به لرأيت وكوكبا تمييز ورأيت من الرؤيا أي المنام وهي تنصب مفعولين. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) الواو حرف عطف والشمس والقمر معطوفان على أحد عشر كوكبا ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وليست تأكيدا لرأيتهم الأولى ولي متعلقان بساجدين وساجدين مفعول به ثان لرأيتهم وأعربها أبو البقاء حالا وقال ان الرؤية عينية وسيأتي تحقيق هذا في باب البلاغة. (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) يا بني تقدم أعربها في هود ولا ناهية وتقصص فعل مضارع مجزوم بلا ورؤياك مفعول به وعلى إخوتك جار ومجرور متعلقان بتقصص. (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الفاء سببية ويكيدوا منصوب بأن مضمرة لأنه وقع جوابا للنهي والواو فاعل ولك متعلقان بيكيدوا وكيدا يحتمل أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا ويحتمل أن يكون مفعولا به أي يصنعوا لك كيدا وإن الشيطان إن واسمها وللانسان حال وعدو خبر إن ومبين صفة.
(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي كما اجتباك واختارك لهذه الرؤيا العظيمة يجتبيك لأمور عظام، والكاف مفعول يجتبيك وربك فاعل ويعلمك ليس عطفا على يجتبيك ولكنه كلام مستأنف كأنه قيل وهو يعلمك ويتم
450
نعمته، ومن تأويل جار ومجرور متعلقان بيعلمك والأحاديث مضاف اليه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) عطف على يعلمك ونعمته مفعول به وعليك جار ومجرور متعلقان بنعمته أو بيتم وعلى آل يعقوب عطف عليه. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كما أنها نعت لمصدر محذوف أي إتماما مثل إتمامها على أبويك وعلى أبويك متعلقان بأتمها ومن قبل حال وابراهيم بدل من أبويك أو عطف بيان واسحق عطف على ابراهيم وان واسمها وخبراها.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «رأيتهم» تكرار يظنّه الناظر أنه تأكيد لأول وهلة وليس هو بالتأكيد وانما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ويجوز أن تكون للتوكيد باعتبار أن طول الفصل بالمفاعيل استدعى ذلك فجيء برأيتهم تطرية وتنويعا للحديث.
٢- في قوله تعالى «ساجدين» أجرى الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر مجرى العقلاء وهو الذي يسميه النحاة تغليبا وهذا الوصف صناعي، أما السر البياني فأمر كامن وراء هذا الوصف ذلك لأنه لما وصف الكواكب والشمس والقمر بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجرى عليها حكمهم كأنها عاقلة وهذا كثير شائع في كلامهم وسيأتي الكثير منه في القرآن.
٣- براعة التخلص:
وهو فن مشهور ذائع في كلام البلغاء، وهو امتزاج ما يقدمه الكاتب أو للشاعر من البسط بأول ما استهل به كلامه كالبيت
451
الاول من القصيدة والفقرة الاولى من المقالة على أن يختلس ذلك اختلاسا رشيقا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني لشدة الممازجة والالتئام كأنهما أفرغا في قالب واحد، أو يوطىء الكاتب فيه بفصل لفصل يريد أن يأتي به بعده وإما بنكتة تشير الى معنى الفصل المستقبل كقوله تعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص» فإنه سبحانه وطأ بهذا الفصل الى ما يأتي بعده من سرد قصة يوسف عليه السلام فتخلص به الى ذكر القصة تخلصا بارعا فإن النكتة التي أشارت الى وصف هذه القصة بنهاية الحسن دون سائر قصص الأنبياء المذكورة في القرآن وهي قوله:
«أحسن القصص» فإن المخاطب إذا قرع سمعه هذا الوصف للقصة تنبه الى تأملها فيجد كل قضية فيها ختمت بخير وكل ضيق انتهى الى سعة، وكل شدة آلت الى رخاء وذلك أمر عجيب يستحيل أن يأتي على القصة الحديثة «العقدة» تختم بالخير أو ما يسمّى في عرف القصة الحديثة بالحل:
١- رمي يوسف في الجب واستحكمت عقدته فنجا.
٢- بيع بالثمن البخس الذي يشير في مدلوله الى الضعة والمهانة واستحكمت العقدة ثانية فإذا الذي اشتراه يستصفيه وينزله منه بمنزلة الولد.
٣- راودته التي هو في بيتها عن نفسه ووثبت الشهوة، وصرخت اللذة، وكاد العقل يقصف والرشد يغزب واستحكمت العقدة ثالثة فإذا هو يكبح جماح نفسه ويستعصم.
٤- ودخل السجن، ورانت عليه ظلمته واقتمت معالمه واستحكمت العقدة رابعة فخرج منه ملكا.
452
٥- وظفر بإخوته بعد أن عرف غدرهم به ومحاولتهم إهلاكه فلم يذهب مع هوى النفس التي تثأر وتنتقم وطأمن من غلوائه.
٦- وسره الله بلقاء شقيقه بعد اليأس فأتنس به.
٧- فارقه أبوه وحزن من أجله حتى عمي واستحكمت العقدة مرة أخرى ثم اجتمع به وسر بلقائه وارتد الوالد بصيرا.
٨- جاء الله به من البدو وأحله بمصر على سرير الملك.
٩- غضب هو وأبوه على بقية الأولاد ثم رضيا عنهم.
١٠- ثم وأخيرا سجد له أبواه واخوته تحقيقا لرؤياه فناسب الختام البدء وكانت براعة التخلص من أجمل ما عرف في الكتابة.
حسن التخلص في الشعر:
على أنه لا يفوتنا أن نورد بعض ما ورد من حسن التخلص في شعرنا العربي ومن المؤسف أن ينتهي غالبا بالمديح ونحن لا نقر هذا المديح ولا نعترف به إلا من حيث انه تقليد بحث أو تسجيل لما جرى على يد الممدوح من نفع عام، قال أبو تمام يمدح أبا دلف وهو بطل عربي اشتهر بجهاده:
ودع فؤادك توديع الفراق فما أراه من سفر التوديع منصرفا
يجاذب الشوق طورا ثم يجذبه جهاده للقوافي في أبي دلفا
ومن ألطف المخالص قول أبي العلاء المعري:
453
ولو أن المطيّ لها عقول وجدك لم تشد لها عقالا
مواصلة لها رحلي كأني من الدنيا أريد بها ان
فصالا سألن فقلت مقصدنا سعيد فكان اسم الأمير لهن فالا
الفوائد:
١- «رأى» من الرؤيا:
اختلف النحاة واللغويون في «رأى» الحلمية، والمحققون على أنها ملحقة برأى العلمية في التعدي لاثنين بجامع ادراك الحس في الباطن كقوله تعالى: «إني أراني أعصر خمرا» فأرى عملت في ضميرين متصلين لمسمى واحد وأحدهما فاعل والثاني مفعول أول وجملة أعصر حمرا المفعول الثاني وكقول عمرو بن أحمر الباهلي يذكر جماعة من قومه لحقوا بالشام فرآهم في منامه:
أراهم رفقتي حتى إذا ما تجافى الليل وانخزل انخزالا
فالهاء مفعول أول ورفقتي بضم الراي وكسرها مفعول ثان والرؤيا هنا حليمة بدليل قوله: حتى إذا ما تجافى الليل وانخزل انخزالا أي انطوى وانقطع، والى هذا أشار في الخلاصة:
ولرأى الرؤيا الم ما لعلما طالب مفعولين من قبل انتمى
وذهب بعضهم الى أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين من قبل انتمى وذهب بعضهم الى أن الحلمية لا تنصب مفعولين وان ثاني المنصوبين حال ورد بوقوعه معرفة هنا كما هنا واعترض بأن الرفقة وهم المخالطون والمرافقون فهو بمعنى اسم الفاعل فالاضافة فيه غير محضة.
454
٢- حديث اليهودي وكواكب يوسف:
ونرى من المفيد التنبيه الى ما يرويه المفسرون من أحاديث عن كواكب يوسف فقد أخرج الحاكم في مستدركه أن يهوديا جاء الى النبي ﷺ فقال أخبرني بأسماء الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام فقال: إن أخبرتك بأسمائها أتسلم؟ قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: الذيال والوثاب والطارق والفيلق والصبح والقابس والضروح والخرثان والكتفان والعمودان وذو الفرع. قال:
صدقت يا محمد ولم يسلم» والوضع ظاهر على هذا الحديث وفي سنده جماعة متكلم فيهم. وقال ابن الجوزي هو موضوع.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧ الى ١٤]
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
455
اللغة:
(غَيابَتِ الْجُبِّ) : الغيابة: سدّ أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما فيه عن العيون وقال الزمخشري: هي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله قال المنخل:
إذا أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب: البئر التي لم تطو وسمي بذلك إما لكونه محفورا في جيوب الأرض أي ما غلظ منها وإما لأنه قطع في الأرض ويجمع على أجباب وجباب وجببة.
(السَّيَّارَةِ) : جمع سيار أي المبالغ في السير وفي المختار والسيارة القافلة، فتسميتهم السيارة المعروفة اليوم صحيح لا غبار عليه لأنه مؤنث سيار.
الإعراب:
(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص وفي يوسف خبر
456
مقدم واخوته عطف على يوسف وآيات اسم كان المؤخر وللسائلين صفة لآيات. (إِذْ قالُوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقيل الظرف متعلق بكان وجملة قالوا مضاف إليها الظرف واللام للابتداء وفيها تأكيد لتحقيق مضمون الجملة وأخوه عطف على يوسف وهو بنيامين شقيقه وأحب خبر والى أبينا جار ومجرور متعلقان بأحب وقد تقدم أن الحب والبغض إذا بني منهما أفعل التفضيل أو فعلا التعجب تعدى الفعل منهما الى الفاعل المعنوي بإلى والى المفعول المعنوي باللام فاذا قلت زيد أحب إلي من بكر كان معناها أنك تحب زيدا أكثر من بكر، ومنا متعلقان بأحب كذلك ولم يطابق أحب في الاثنين لأن أفعل التفضيل يلزم الافراد والتذكير إذا كان معه من ولا بد من الفرق مع ال وإذا أضيف جاز الأمران. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو للحال ونحن مبتدأ عصبة خبر وان واسمها واللام المزحلقة وفي ضلال خبرها ومبين صفة. والعصبة: الجماعة، قيل: هي ما بين الواحد الى العشرة. (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) اقتلوا فعل أمر والواو فاعل ويوسف مفعول به أو اطرحوه عطف على اقتلوا وأرضا نصبت نصب الظروف المبهمة أي أرضا منكرة مجهولة بعيدة عن العمران. قال الزمخشري وقال ابن عطية: «وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك ابهامها ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه» وصحح أبو حيان هذا الرد.
ويجوز أن تنصب بنزع الخافض أي في أرض وهو بمعنى الظرف، وقيل مفعول ثان لاطرحوه المتضمنة معنى أنزلوه ويخل جواب الأمر ولكم متعلقان بيخل ووجه فاعل وأبيكم مضاف اليه وسيأتي معنى يخل
457
لكم وجه أبيكم في باب البلاغة، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) وتكونوا عطف على يخل والواو اسم كان ومن بعده حال وقوما خبر وصالحين صفة. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة ولا ناهية وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ويوسف مفعول به وألقوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي غيابة الجب متعلقان بألقوه. (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) يلتقطه جزم لوقوعه جوابا للأمر وبعض السيارة فاعل وإن شرطية وكنتم فاعلين كان واسمها وخبرها وجواب ان محذوف أي ان كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به الغرض فهذا هو الرأي الصواب (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) قالوا فعل وفاعل ويا أبانا منادى مضاف وما اسم استفهام مبتدأ ولك خبر ما ولا نافية وتأمنا فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وقد أدغمت نون تأمن بنا وقد قرىء على أشكال مختلفة وعلى يوسف متعلقان بتأمنا وجملة لا تأمنا حال وجملة مالك لا تأمنا مقول القول والتقدير أي شيء ثبت لك منا. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) الواو للحال وان واسمها وله متعلقان بناصحون واللام المزحلقة وناصحون خبر إنا والجملة حال من نا فيكون حالا من حال. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أرسله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومعنا ظرف مكان متعلق بأرسله ونا مضاف اليه وغدا ظرف متعلق بأرسله أيضا ويرتع مجزوم لأنه جواب الأمر ويلعب عطف عليه وجملة إنا له لحافظون حالية وقد تقدم إعرابها. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة يحزنني خبر إن والياء مفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يحزنني وبه جار ومجرور متعلقان بتذهبوا.
(وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أن وما في حيزها مفعول أخاف والذئب
458
فاعل يأكله ولا يغرب عنك أنه لقّنهم العلة التي يعتلون بها على حد قول المثل «إن البلاء موكل بالمنطق». (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) الواو للحال وأنتم مبتدأ وغافلون خبره وعنه متعلقان بغافلون (قالُوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وأكله الذئب فعل ومفعول به وفاعل والواو حالية ونحن مبتدأ وعصبة خبر والجملة حالية وان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وخاسرون خبر إنا والجملة جواب القسم وجملة جواب الشرط محذوفة لأن الجواب يعطى للمتقدم كما قررنا سابقا.
البلاغة:
١- المجاز في قوله تعالى «يخل لكم وجه أبيكم» وانما ذكر الوجه لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل عليه بوجهه لأن أول ما يستقبل الإنسان الوجه فعبر به عن إقباله عليهم وعدم الالتفات الى غيرهم وانتفاء المشارك لهم في حب والدهم.
٢- وفي قوله «لخاسرون» مجاز عن الضعف والعجز والعلاقة هي السببية.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
459
اللغة:
(أَجْمَعُوا) : يقال أجمعوا الأمر وأجمعوا عليه يتعدى بنفسه وبالباء أي عزموا عليه عزما مصمما.
(سَوَّلَتْ) : أصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه وقال الزمخشري سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء وفي القاموس: سولت له نفسه كذا: زينته له وسهلته له وهوّنته وقيل هو من السول بفتحتين أي استرخاء العصب ونحوه فكأن المسول بذله فيما حرص عليه.
(دَلْوَهُ) : في المختار الدلو التي يستقى بها ودلا الدلو نزعها وبابه عدا وأدلاها أرسلها في البئر وفي القاموس ودلوت الدلو ودليتها أرسلتها في البئر ودلّاها جذبها ليخرجها والدلو مؤنث وقد يذكر.
460
الإعراب:
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على محذوف يفهم من سياق القصة تقديره فأرسله معهم، ولما حينية أو رابطة وذهبوا فعل وفاعل وبه جار ومجرور متعلقان يذهبوا وأجمعوا عطف على ذهبوا، أو الواو للحال والجملة حالية بتقدير: قد، وان وما في حيزها مفعول أجمعوا أو منصوب بنزع الخافض وفي غيابة الجب متعلقان بيجعلوه وجواب لما محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوه من الأذى. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) اختلف في هذه الواو فقيل عاطفة وان الإيحاء الى يوسف كان في الجب وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه ولم يكن ايحاء نبوة وقيل زائدة وانها جواب لو أي جملة أوحينا وهو قول جيد لو ساعدت اللغة على زيادة الواو واليه متعلقان بأوحينا، اللام موطئة للقسم وتنبئنهم فعل مضارع مبني على الفتح والهاء مفعول به وبأمرهم متعلقان بتنبئنهم وهذا صفة لأمرهم والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وأباهم مفعول به وعشاء ظرف زمان متعلق بجاء وجملة يبكون حال من الواو أي وقت العشاء باكين. قيل: وانما جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة. (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) جملة إنا ذهبنا مقول القول وان واسمها وجملة ذهبنا خبر إن وجملة نستبق حال والاستباق يكون بالعدو والترامي والتناضل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وتركنا يوسف عطف على ذهبنا والظرف متعلق بتركنا فأكله عطف والهاء مفعول به والذئب فاعل. قال ثعلب «والذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت
461
من كل وجه» قال «والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه».
(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر زائد ومؤمن مجرور لفظا خبر ما محلا ولنا متعلقان بمؤمن ولو الواو عاطفة ولو شرطية وهي في هذا الموضع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية ولا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها، وكنا كان واسمها وصادقين خبرها. (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وعلى قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم وهذا الظرف معمول لحال محذوفة من دم والتقدير وجاءوا بدم كذب حال كونه كائنا فوق قميصه وقد منع ذلك الزمخشري وسترى في باب الفوائد بحثا مفيدا ممتعا بهذا الصدد. وبدم متعلقان بجاءوا وكذب صفة وسيرد في باب البلاغة معنى وصف الدم بالكذب. (قالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) بل حرف إضراب وسولت لكم أنفسكم فعل وفاعل وأمرا مفعول به فصبر جميل خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وساغ الابتداء بالنكرة لوصفه. (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) الواو عاطفة والله مبتدأ والمستعان خبر وعلى ما متعلقان بالمستعان وجملة تصفون صلة والعائد محذوف أي تصفونه. (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) الواو استئنافية وجاءت سيارة فعل وفاعل فأرسلوا عطف على جاءت والواو فاعل وواردهم مفعول به وهو رجل يقال له
462
مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء لأن الوارد هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم فأدلى عطف ودلوه مفعول به. (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يا حرف نداء وبشرى منادى نكرة مقصودة نادى البشرى حيث كانت كأنه يقول لها تعالي فهذا وقتك وهذا مبتدأ وغلام خبر قيل عبر بالغلام للجمال الذي بهره لما رآه وانما سمي الغلام غلاما لاشتقاقه من الغلمة لأنه بريد الشهوة يقال اغتلم الشراب اشتدت سورته واغتلمت الأمواج اشتدت والغلامة أنثى الغلام وأبو نواس كان يتظرف ويقول عن الفتاة الجميلة غلامية. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) وأسروه فعل وفاعل ومفعول أي أخفوه والضمير يعود للوارد وأصحابه وقيل لأخوة يوسف الذين عادوا وكانوا يظنون أن يوسف مات فقالوا هذا عبد أبق منا فإن أردتم بعناه لكم فاشتراه مالك بن ذعر الخزاعي.
وبضاعة نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة، والبضاعة ما بضع من المال للتجارة. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) الواو عاطفة وشروه فعل وفاعل ومفعول أي باعوه وبثمن متعلقان بشروه وبخس صفة ودراهم بدل من ثمن ومعدودة صفة ووصفها بامكان عدها كناية عن قلتها لأن الكثيرة يتعذر عدها. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) كان واسمها وفيه متعلقان بمحذوف حال وقال أبو حيان: «متعلقان بأعني مضمرة أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والمجرور والظرف» ومن الزاهدين خبر كانوا. وقال ابن هشام: وقول آخر «وكانوا فيه من الزاهدين» إن في متعلقة بزاهدين المذكور وهذا ممتنع إذا قدرت ال موصولة وهو الظاهر لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول فيجب حينئذ تعلقها بأعني محذوفة أو بزاهدين محذوفا مدلو لا عليه بالمذكور أو بالكون المذكور الذي تعلق به من الزاهدين وأما إن قدرت أل للتعريف فواضح.
463
البلاغة:
وصف الدم بالكذب مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته والفاعل والمفعول يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب والفاعل كقوله «إن أصبح ماؤكم غورا» أي غائرا كما سموا المصدر بهما قالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى «بأيكم المفتون».
الفوائد:
هل تتقدم الحال على الجار والمجرور:
منع النحاة تقديم الحال على صاحبها إذا كان مجرورا كمررت بهند جالسة فجالسة حال من هند ولا يجوز تقديمها عليها. لا تقول مررت جالسة بهند وهذا تقريبا مذهب الجمهور وعللوا ذلك بأن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة لكن منع من ذلك أن الفعل لا يتعدى بحرف واحد الى شيئين فجعلوا عوضا عن الاشتراك في الواسطة التزام التأخير وخالف في هذه الفارسي وابن جني وابن كيسان وابن برهان وغيرهم فأجازوا التقديم مستدلين بقوله تعالى «وجاءوا على قميصه بدم كذب» قالوا في الرد على الزمخشري القائل: إنه ليس بحال لأن حال المجرور لا يتقدم قالوا: فيه ان المعنى لا يساعد على نصبه على الظرف بمعنى لأن العامل فيه إذ ذاك جاءوا وليس الفوق ظرفا بل يستحيل أن يكون ظرفا وبقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور باللام وبنحو
464
قول الشاعر:
تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكراكم حتى كأنكم عندي
فطرا بمعنى جميعا حال من الكاف والميم وقد تقدم على صاحبه المجرور بعن ورد الزمخشري والمانعون بقولهم ان هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وإن كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وان التاء للمبالغة لا للتأنيث، هذا ولا يحتمل هذا الباب ما استفاض فيه هؤلاء العلماء من ردود ومناقشات فحسبنا ما تقدم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)
465
اللغة:
(مَثْواهُ) : مقامه يقال ثوى بالمكان وأثوى أقام وفلان أكرم مثواي وطال بي الثواء وهو أبو مثواي وهي أم مثواي لمن أنت نازل به قال:
أفي كل يوم أم مثوى تسوسني تنفّض أثوابي وتسألني ما اسسي
(أَشُدَّهُ) : في الأشد ثلاثة أقوال أحدها قول سيبويه: انه جمع مفرده شدة نحو نغمة وأنعم، والثاني قول الكسائي: ان مفرده شد بوزن قفل، والثالث انه جمع لا واحد له من لفظه وهو قول أبي عبيدة وهو من الشد وهو الربط على الشيء والعقد عليه. وقال الراغب: وفيه تنبيه على أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوّى خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله، وقيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون وثلاث، وثلاث وأربعون وقيل أقصاه ثنتان وستون.
(راوَدَتْهُ) المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كأن المعنى خادعته عن نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحيل لمواقعته إياها ومنه الرائد لطالب الماء والكلأ وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المدين ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة
466
عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم «كما تدين تدان» أي كما تجزي تجرى فإن فعل البادي وان لم يكن جزاء لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمها وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وارادة القرآن حيث كانتا سببا للقيام والقراءة عبر عنهما بهما فقيل إذا قمتم الى الصلاة، فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدة مطردة مستمرة. ويجوز أن يراد بصيغة المفاعلة مجرد المبالغة، وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك، ويجوز أن تكون من الرويد وهو الرفق والتجمل وتعديتها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعه عن نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه.
(هَيْتَ لَكَ) : اسم للفعل وفيه ضمير المخاطب كصه ومه ومسماه أسرع يقال هيت إذا دعاه، قال الشاعر:
أبلغ أمير المؤمنين أخا... العراق إذا أتيتا
أن العراق وأهله... سلم عليك فهيت هيتا
يريد أمير المؤمنين على بن أبي طالب وهو لازم لا يتعدى الى مفعول كما أن مسماه كذلك وفيه ثلاث لغات هيت بالفتح وهيت بالضم وهيت بالكسر، و «لك» من قولك هيت لك تبيين للمخاطب جيء به بعد استغناء الكلام عنه كما كان كذلك في سقيا لك، ألا ترى أن سقيا غير محتاجة إلى لك لأن معناه سقاك الله سقيا وإنما جيء بلك تأكيدا وزيادة فهي في هيت لك كذلك. وقيل هيت اسم فعل ماض بمعنى تهيأت، وفي القاموس: وهيت لك مثلثة الآخر وقد يكسر أوله
467
أي هلم، وقال العلامة الغنيمي: يحتمل أن يكون الضمير المستتر في تهيأت تقديره هي وقرىء تهيأت بسكون التاء وهذه حكاية لكلامها كما تقول: قال زيد والله ليفعلن، أي قال والله لأفعلن.
(مَعاذَ اللَّهِ) : هذا أحد مصادر عاذ يعوذ عوذا ومعاذا وعوذة وعياذة وعياذا ومعنى أعوذ بالله أعتصم وأمتنع لله من الشيطان الرجيم وينشد للراجز زيد بن عمرو بن نفيل أو لعبد المطلب:
أنفي لك اللهم عان راغم مهما تجشّمني فإني جاشم
عذت بما عاذ به ابراهم يريد به ابراهيم عليه السلام ومن العرب من يقول: ابراهام وكذلك قرأ ابن عامر وذلك أن ابراهيم اسم أعجمي فإذا عربته العرب فانها تخالف بين ألفاظه ومنهم من يقول إبراهم بغير ألف قال الشاعر:
نحن آل الله في كعبته لم يزل ذاك على عهد إبرهم
وعن الفراء قال: «العرب تقول نعوذ بالله من طئة الذليل أي أعوذ بالله من أن يطأني ذليل» وفي لسان العرب «وطأة الذليل من استعاذته بالله».
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) عطف على محذوف أي دخلوا مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير. وقال فعل ماض والذي فاعل وجملة
468
اشتراه صلة ومن مصر حال ولامرأته جار ومجرور متعلقان بقال وجملة أكرمي مثواه مقول القول وهي فعل وفاعل ومفعول وقد تقدم شرحها (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) عسى من أفعال الرجاء واسمها مستتر وان وما في حيزها خبرها وقد تقدم القول فيها وأو حرف عطف ونتخذه فعل مضارع معطوف على ينفعنا والهاء مفعول به أول وولدا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وكذلك نعت لمصدر أي مثل ذلك التمكين ومكنا فعل ماض وفاعل وليوسف متعلقان به فإن فعل مكن يتعدى بنفسه وباللام كما هنا وفي الأرض حال. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) الواو عاطفة واللام للتعليل ونعلمه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بمحذوف أي ولنعلمه مكناه وقد سبق مثيله في «ولتكملوا العدة» ومن تأويل الأحاديث متعلقان بنعلمه وأعرابها الجلال على زيادة الواو فهي متعلقة بمكنا المذكورة. (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والله مبتدأ وغالب خبر وعلى أمره جار ومجرور متعلقان بغالب والواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لما حينية أو رابطة وبلغ أشده فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما مفعول به ثان وعلما عطف عليه وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) الواو عاطفة وراودته فعل ومفعول به مقدم والتي فاعل وهو مبتدأ وفي بيتها خبر والجملة الاسمية صلة وعن نفسه جار ومجرور متعلقان براودته. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) جمل معطوفة وتقدم اعراب هيت لك في باب اللغة واسم المرأة التي راودته زليخاء بفتح الزاي وكسر اللام. ولم يقل: وراودته زليخا أو امرأة
469
العزيز إما لاستهجان التصريح بالاسم في حكم المراودة والاحتيال في طلب المواقعة وإما للإخفاء عن الآخرين لئلا يتهموها وإما لزيادة تقرير ثبوت المسند للمسند اليه فإن كونه في بيتها وتمكنها من مشاهدة جماله حينا فحينا مما يحقق مراودتها أو لزيادة تقرير المقصود لأن امتناعه منها مع كمال قدرتها عليه يدل على نزاهته وطهارة ذيله، وقيل اختار في الآية إذ يجوز الاشتراك في علمها وإرادة الجنس في امرأة العزيز بخلاف الموصول. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) معاذ الله نصب على المصدر أي أعوذ بالله معاذا وانه ربي ان واسمها وخبرها، والضمير يجوز أن يعود لطقفير الذي اشتراه ومعناه سيدي ومالكي يريد قطفير، وجملة أحسن مثواي حال ويجوز أن يعود الضمير الى الشأن والحديث، وربي مبتدأ وجملة أحسن مثواي خبر والجملة خبر إن ويجوز أن تكون الهاء ضمير الله تعالى وقد استبعد بعضهم الأول وقالوا يبعد جدا أن يطلق نبي كريم على مخلوق انه ربه ولو بمعنى السيد لأنه ليس مملوكا في الحقيقة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إن واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها والضمير يعود للشأن هنا.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وهمت فعل ماض وهي فاعله وبه متعلقان بهمت، وهمّ فعل ماض وهو فاعله وبها متعلقان بهم ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر أي لولا رؤيته برهان ربه ماثل أمامه وجواب لولا محذوف أي لواقعها واختلف في البرهان الذي رآه، وللمفسرين فيه كلام طويل يرجع اليه في المطولات وحسبنا أن ننقل عبارة أبي حيان. قال: «والذي اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله ولا تقول
470
إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها وقد ذهب الى ذلك الكوفيون ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب أنت ظالم إن فعلت فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فكان يوجد الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، وهذا كلام جيد يؤيد ما ذهبنا إليه في الاعراب فتدبره.
هذا ولا خلاف في أن يوسف عليه السلام لم يأت بالفاحشة وإنما الخلاف في وقوع الهم منه فمن المفسرين من ذهب الى أنه همّ وقصد الفاحشة وأتى ببعض مقدماتها ولقد أفرط صاحب الكشاف في التشنيع على هؤلاء فارجع اليه. ومنهم من نزهه عن الهمّ أيضا وهو الصحيح كما تقدم في عبارة أبي حيان وللامام الرازي في تفسيره الكبير نكتة لا بأس بإيرادها قال: «إن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم يوسف عليه السلام والمرأة وزوجها والنسوة والشهود ورب العالمين وإبليس وكلهم قالوا ببراءة يوسف عليه السلام عن الذنب فلم يبق لمسلم توقف في هذا الباب: أما يوسف فلقوله: هي راودتني عن نفسي وقوله رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه، وإما المرأة فلقولها ولقد راودته عن نفسه وأما زوجها فلقوله: انه من كيدكن ان كيدكن عظيم، وأما النسوة فلقولهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، وقولهن حاشا لله ما علمنا عليه من سوء وأما
471
الشهود فلقوله تعالى وشهد شاهد من أهلها الى آخره وأما شهادة الله تعالى فقوله عز من قائل: «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» وأما إقرار إبليس بذلك فلقوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فأقر إبليس بأنه لا يمكن إغواء العباد المخلصين وقد قال تعالى انه من عبادنا المخلصين فقد أقر إبليس أنه لم يغوه وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف عليه السلام الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله بطهارته وان كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا إقرار إبليس لطهارته.
(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه واللام متعلقة بذلك المحذوف ويصح أن تكون في محل رفع والتقدير الأمر مثل ذلك والنصب أجود وقد تقدمت نظائر لذلك والسوء مفعول به والفحشاء عطف على السوء.
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ان واسمها ومن عبادنا خبر والمخلصين صفة لعبادنا.
البلاغة:
من مرجحات كون الاسم المسند إليه اسما موصولا تقرير الغرض المسوق له الكلام وذلك في قوله تعالى: «وراودته التي هي في بيتها عن نفسه» فإن الغرض المسوق له الكلام هو براءة يوسف عليه السلام فلو قيل راودته امرأة العزيز أو زليخا لم يفد ما أفاده الموصول باعتبار صلته فهو أدل على الغرض المسوق له وهو النزاهة لأنه إذا كان في بيتها وتمكن من نيل المراد منها أي مرادها لا مراده ومع ذلك عف عنها ولم يفعل كان ذلك غاية في النزاهة عن الفحشاء فكان في الموصول زيادة تقرير للغرض الذي هو النزاهة.
472
قول آخر:
وقيل: معناه زيادة تقرير المسند أي المراودة لما فيه من فرط الاختلاط والإلفة فلو قال زليخا أو امرأة العزيز لم يفد ما أفاده الموصول من ذكر السبب الذي هو قرينه في تقرير المراودة باعتبار كونه في بيتها.
قول آخر:
وقيل: هو تقرير للمسند اليه لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا ولو ذكر إحداهما ولا يتأتى ذلك في التي هو في بيتها لأنها واحدة معنية مشخصة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩)
473
الإعراب:
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) الواو عاطفة والجملة متصلة بقوله تعالى ولقد همت به وهمّ بها وقوله كذلك لنصرف إلخ اعتراض جيء به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته وبراءته والمعنى ولقد همّت به وأبى هو واستبقا الى الباب الخارجي الذي هو المخلص ولذلك وحده بعد الجمع وحذف حرف الجر وأوصل الفعل الى المجرور نحو وإذا كالوهم، واستبقا فعل ماض والألف فاعل والباب منصوب بنزع الخافض، وقدّت قميصه: قدّ فعل ماض وفاعله هي وقميصه مفعول به ومن دبر حال ويحتمل أن يكون «قدت» معطوفا على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالا أي وقد قدت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه فانخرق الى أسفله، والقد القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا. قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقطّ يستعمل فيما كان عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) وألفيا عطف على ما تقدم والألف فاعل وسيدها أي بعلها كانت تقول المرأة لبعلها يا سيدي لملكة التصرف فيها، وهي مفعول به ولدي ظرف في محل نصب مفعول به ثان. (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ما اسم استفهام مبتدأ ويحتمل أن تكون ما نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم، وجزاء خبر ومن
474
مضاف إليه وجملة أراد صلة وبأهلك جار ومجرور متعلقان بأراد وسوءا مفعول به وإلا أداة حصر وان وما في حيزها بدل من جزاء أي إلا السجن ويجوز أن تكون ما نافية وجزاء مبتدأ وأن يسجن خبره وأو حرف عطف وعذاب عطف على المصدر المؤول وأليم صفة ومن يجوز فيها أن تكون موصولا أو نكرة موصوفة. (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) قال فعل ماض وفاعله هو أي يوسف مدافعه عن نفسه معلنا براءته وهي مبتدأ وجملة راودتني خبر وعن نفسي متعلقان براودتني. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) الواو عاطفة وشهد شاهد فعل وفاعل ومن أهلها صفة شاهد وهو ابن عمها وكان بصحبة زوجها.
(إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الشرط مقول قول محذوف أي فقال، وإن شرطية وكان قميصه كان واسمها وجملة قدّ أي شق بالبناء للمجهول خبر ومن قبل متعلقان بقدّ، فصدقت الفاء رابطة وصدقت فعل ماض والجملة جواب الشرط أي فقد ظهر صدقها، وهو الواو حالية وهو مبتدأ ومن الكاذبين خبر ولا بد من تقدير قد ليصح دخول الفاء الرابطة وإلا فلو لم تقدر لم يصح دخول الفاء لأنه فعل ماض متصرف. (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عطف على الجملة الاولى وهي مماثلة لها في اعرابها.
(فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة ورأى قميصه فعل وفاعل مستتر ومفعول وجملة قدّ من دبر حالية، قال جواب لما وان واسمها وخبرها. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ان واسمها وخبرها. (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأعرض فعل أمر
475
وفاعله أنت وعن هذا متعلقان بأعرض واستغفري فعل أمر والياء فاعله ولذنبك متعلقان باستغفري. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ان واسمها وجملة كنت خبرها ومن الخاطئين خبر كنت والجملة تعليل للاستغفار.
البلاغة:
لقائل أن يقول إن الضمير وهو «هي» ليس غير مضمر باتفاق وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة والجواب ما قاله السراج البلقيني في رسالته المسماة «نشر العبير، لطي الضمير» : الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحضور مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله «هي راودتني عن نفسي» و «يا أبت استأجره» كذا ذكر الشيخ ابن مالك وتعقبه أبو حيان بأن قال ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فالضمير في قال عائد على يوسف والضمير في هي عائد على قوله «بأهلك سوءا» ولما كنت عن نفسها بقولها «بأهلك» ولم تقل بي كنى هو عنها بضمير الغيبة بقوله «هي راودتني» ولم يخاطبها بقوله أنت راودتني ولا أشار إليها بقوله هذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب فأبرز الاسم في ضمير الغائب تأديبا مع الملك وحياء منه وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله أبو حيان وذلك أن الاثنين إذا وقعت منهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم لي على هذا كذا فيقول المدعى عليه هو يعلم أنه لا حق له علي فالضمير في هو انما لحضور مدلوله حسا وسيأتي مزيد من هذا البحث الممتع عند الكلام على قصة ابنه شعيب في سورة القصص.
476
الفوائد:
لدى:
ليست لدى من لفظ لدن وإن كانت من معناها لأن لدى معتلة اللام ولدن صحيح اللام وقالوا فيها لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون كأنهم استثقلوا ضم الدال فسكنوا تخفيفا كما قالوا في عضد عضد ولما سكنت الدال والنون ساكنة كسروا النون لالتقاء الساكنين وقالوا لدن بضم الدال وسكون اللام وكسر النون وقد حذفوا النون من لدن تخفيفا فقالوا من لد الصلاة ولد الحائط وليس حذف النون لالتقاء الساكنين واعلم أن حكم لدن أن يخفض ما بعدها بالإضافة كسائر الظروف لأن نونها من أصل الكلمة بمنزلة الدال من عند كما قال تعالى «من لدن حكيم عليم» غير أن من العرب من ينصب بها غدوة خاصة قال:
لدن غدوة حتى ألاذ بخفها بقية منقوص من الظل قالص
وقال ذو الرمة:
لدن غدوة حتى إذا امتدت الضحى وحثّ القطين الشّحشحان المكلّف
يعني الحادي والقطين جمع قاطن، قال سيبويه في هذا الصدد:
وقد نصبوا غدوة تشبيها بالمميز في نحو عندي راقود خلا وجبة صوفا
477
والمفعول في نحو هذا ضارب زيدا وقاتل بكرا وقال بعضهم تنصب غدوة بعد لدن على أنها خبر لكان المقدرة مع اسمها والتقدير لدن كان الوقت غدوة وجاز رفعها على أنها فاعل لفعل محذوف والتقدير لدن كانت عدوة أي وجدت فكان هنا تامة والغالب في لدن أن تجر بمن نحو «وعلمناه من لدنا علما» وإذا أضيفت الى ياء المتكلم لزمتها نون الوقاية نحو «لدني» وهي تضاف الى المفرد كما رأيت والى الجملة نحو انتظرتك من لدن طلعت الشمس الى أن غربت.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)
478
اللغة:
(نِسْوَةٌ) : جماعة من النساء وكن خمسا والنسوة اسم جمع لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو امرأة وتأنيثها غير حقيقي بل باعتبار الجماعة ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث والمشهور كسر نونها ويجوز ضمها في لغة، وقد قرىء بها وفي القاموس وشرحه ما يفهم منه أن النسوة والنسوة والنساء والنسوان والنّسون والنسنين جموع للمرأة من غير لفظها وقال الزمخشري: «النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث».
(شَغَفَها) : دخل حبها شغاف قلبه وفي المصباح: «شغف الهوى قلبه شغفا من باب نفع والاسم الشغف بفتحتين، بلغ شغافه بالفتح وهو غشاؤه وشغفه المال زين له فأحبه فهو مشغوف به». والشغاف حجاب القلب وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب قال النابغة:
وقد حال هم دون ذلك والحج مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
(أَعْتَدَتْ) : هيأت وأحضرت، واعتده له هيأه وهو عتيد: معد حاضر ومنه العتيدة التي فيها الطيب والأدهان.
(مُتَّكَأً) : ما يتكئن عليه من نمارق يستندن عليها على عادة المتكبرين في أكل الفواكه حيث يتكىء آكلها على الوسائد ويأكلها بالسكاكين وقيل سمي الطعام كالاترج والموز متكأ لحصول الاتكاء على الوسائد عند أكله فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة أو استعارة تصريحية.
479
(أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه وهبن حسنه الرائع وجماله الأخاذ الفاتن واستولى عليهن الدهش وقيل: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها إذا حاضت تخرج من حد الصغر الى حد الكبر وكأن أبا الطيب رمق هذا التفسير فقال متملحا متغزلا:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
في إحدى روايات البيت التي نقلها أبو الفتح بن جني ويقال إن المرأة إذا اشتدت شهوتها سال دم حيضها فمعنى البيت: استر جمالك عنهن وإلا حضن، على أن الرواية التي اختارها أبو البقاء «ذابت».
(حاشَ لِلَّهِ) : أي حاشا وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد.
الإعراب:
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) الواو عاطفة لتتساوق مجريات القصة، وقال نسوة فعل وفاعل وفي المدينة صفة لنسوة. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) امرأة العزيز مبتدأ وجملة تراود خبر وفتاها مفعول به وعن نفسه جار ومجرور متعلقان بتراود وقد حرف تحقيق وشغفها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وحبا تمييز محول عن الفاعل وجملة قد شغفها حال من فاعل تراود أو من مفعوله ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لامرأة. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة نراها خبر إن وفي ضلال متعلقان بنراها ومبين صفة
480
لضلال. (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وسمعت فعل وفاعل مستتر وبمكرهن متعلقان بسمعت وجملة أرسلت لا محل لها وإليهن متعلقان بأرسلت وأعتدت عطف على أرسلت ولهن متعلقان بأعتدت ومتكأ مفعول به وآتت عطف أيضا وكل واحدة مفعول آتت الأول ومنهن صفة لواحدة وسكينا مفعول آتت الثاني والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء وقال الجوهري: والغالب عليها التذكير.
(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) الواو عاطفة وجملة اخرج مقول القول وعليهن متعلقان بمحذوف حال أي مطلا عليهن مستعليا بدلّك الفاتن وجمالك الآخذ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية ورأينه فعل وفاعل ومفعول به وقطعن فعل وفاعل وأيديهن مفعول به، ولا نرى رأي القائلين بأن أكبرنه بمعنى حضن والهاء للسكت إذ هو تظرف مصنوع لا يليق بالقرآن. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) وقلن فعل وفاعل وحاش اسم للتنزيه في محل نصب مفعول مطلق ولله متعلقان بمحذوف حال وسيأتي مزيد بحث عن حاشا في باب الفوائد وما نافية حجازية وهذا اسمها وبشرا خبرها وعبارة أبي حيان: «وقال الزمخشري وقرىء ما هذا بشرى أي حاصل بشرى بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشرى أي بكرا وقال:
واعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن انتهى. وانما قال القدمى لأن الكثير في لغة الحجاز انما هو جر الخبر بالباء فتقول ما زيد بقائم وعليه أكثر ما جاء في القرآن وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر:
481
وأنا النذير بحرة مسودة يصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري:
اللغة القدمى الحجازية فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها».
(إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وملك خبر وكريم صفة. (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فذلك الفاء الفصيحة أي إن شئتم معرفته فذلكن واسم الاشارة مبتدأ ولم تقل فهذا وهو حاضر وسياق الكلام يتطلب ذلك رفعا لمنزلته في الحسن والذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي ولم يجعل الذي خبر لاسم الاشارة لأن لام البعد التي اقترن بها اقتضت بعده عنه لما تقدم من تعظيم رتبته في الحسن والجمال، وفيه متعلقان بلمتنني أي في حبه أو مراودته وسيأتي تحقيق في المحذوف في باب البلاغة. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وراودته فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته، فاستعصم الفاء عاطفة واستعصم فعل ماض زيدت فيه السين للمبالغة في الامتناع. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويفعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط وما مفعول به وجملة آمره صلة أي الذي آمره به ويصح كونها مصدرية أي أمري والضمير في آمره عائد على الموصول أي ما آمر به فحذف الجار كما حذف في أمرتك الخير ومفعول آمر الأول محذوف وكان التقدير ما آمره به وإن جعلت ما مصدرية جاز فيعود الضمير على يوسف أي أمري إياه
482
ومعناه موجب أمري، واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة في اجتماعهما دل عليه جواب القسم المذكور والتقدير ليسجنن وليكونن، وفي يسجنن نون التوكيد الثقيلة وفي يكون نون التوكيد الخفيفة واسم يكون مستتر تقديره هو ومن الصاغرين خبرها. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو ما كان جوابا لمقدر فقد قالت النسوة له بعد أن أسمعن تقرير زليخاء ألا تطيع مولاتك؟ قال إلخ، ورب منادى محذوف منه حرف النداء والسجن مبتدأ وأحب خبر وإلي للتبيين وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل ومما متعلقان بأحب وجملة يدعونني صلة وهو فعل مضارع مبني على سكون الواو والنون الاولى نون النسوة والثانية نون الوقاية فالواو ليست ضميرا بل هي لام الكلمة وليس هو من الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها وأضاف العمل إليهن لأنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن وقيل لأنهن لما قلن له ألا تطيع مولاتك صح إضافة الدعاء إليهن جميعا، واليه متعلقان بيدعونني.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الواو عاطفة وان شرطية ولا نافية وتصرف فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره أنت وعني متعلقان بتصرف وكيدهن مفعول به وأصب جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره أنا وإليهن جار ومجرور متعلقان بأصب وأكن عطف على أصب واسم أكن مستتر تقديره أنا ومن الجاهلين خبر أكن.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم»
فنان متداخلان الأول ظاهر وهو التشبيه البليغ فقد شبهن يوسف بالملك
483
من دون ذكر الأداة وهذا واضح كما قلنا يجري على غرار التشبيهات المألوفة المقصود منه إثبات الحسن لأنه تعالى ركب في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك وقد عاين ذلك قوم لوط في ضيف ابراهيم من الملائكة، كما ركب في الطباع أن لا شيء أقبح من الشيطان، وكذلك قوله تعالى في صفة جهنم «طلعها كأنه رؤوس الشيطان» فكذلك قد تقرر أن لا شيء أحسن من الملك، فلما أرادت النسوة وصف يوسف بالحسن شبهنه بالملك. ولكن الأسلوب القرآني شاء أن يتجاوز المألوف من تشبيهات العرب لكل ما راعهم حسنه من البشر بالجن فأدخل فيه فنا آخر لا يبدو للناظر للوهلة الأولى وهو فن عرفوه بأنه سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو ليدل- كما هنا- على شدة الوله في الحب وقد يقصد به الذم أو التعجب أو التوبيخ أو التقرير ويسمى هذا الفن تجاهل العارف وهو على قسمين: موجب ومنفي.
أ- الموجب:
وهو ما يكون فيه الاستفهام عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع وللمتكلم أن ينطق بأحدهما ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه ومن هذا الباب قوله تعالى «أبشرا منا واحدا نتبعه» وهذا خارج مخرج التعجب وسيأتي بحثه عند الكلام على هذه الآية في سورة «القمر» وقوله تعالى «قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يبعد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» وهذا خارج مخرج التوبيخ وقد مر ذكره في سورة هود وقوله تعالى: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» وهذا خارج مخرج التقرير وجميعه موجب كما رأيت.
484
ب- المنفي:
وأما الآية التي نحن بصددها فهي من القسم المنفي فقد تجاوز التشبيه، كما قلنا، تشبيه العرب كل من راعهم حسنه من البشر بالجن الى تشبيه يوسف حين كان حسنه بادي الروعة متجاوزا في ائتلاقه ووسامته المألوف المعهود من روائع الحسن وله مع روعته البادية نور ورأوة، وطلاقة وتهلل، وعليه مسحة من سكينة تؤمن ناظره من تلك الرعوة وتثبت قلبه بما يسري إليه من سكينة وايماءة بالخير واستهواء لما فيه راحة النفس ولذتها فكان كذلك تشبيهه بالملك الكريم.
التشبيه المصون عن الابتذال:
وما دام الكلام انجر معنا الى هذه النواحي التي تدق فيها الصنعة وتعزب أسرارها إلا عن الملهمين الذين تذوقوا أسرار القوم فلا ندحة لنا عن الاشارة الى أن هذا الفن انما يلجأ اليه في التشبيه بنوع خاص للخروج من التقليد والارتفاع بالتشبيه الى أبعد الآفاق وصيانته من الابتذال فلو لم تعرض الآية تشبيه يوسف بالملك بهذا الأسلوب المسبوق بالنفي الموجب للغرابة لم يكن للتشبيه ذلك الوقع الحسن ومن ذلك قول شاعر الخلود المتنبي:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا إلا بوجه ليس فيه حياء
فقد أراد تشبيه الوجه بالشمس ولكن هذا التشبيه شائع يكاد لشيوعه يسف الى حضيض الابتذال فأراد صيانته بأن قدم له النفي متجاهلا فقال لا حاجة الى الشمس مع ضيائك ونورك ولكنها لوقاحتها تطلع عليك.
485
تجاهل العارف في الشعر:
هذا ولتجاهل العارف وقع في النفوس كأخذة السحر ونشوة الخمر ولهذا قال السكاكي رحمة الله: «لا أحب تسميته بالتجاهل لوروده كثيرا في كلام الله تعالى» ثم أطلق عليه تسمية أخرى وهي «سوق المعلوم مساق غيره لنكتة» وقد طفحت أشعارنا به ولم تقتصر على المديح أو الغزل، كما قلنا، بل تجاوزتهما الى أية مبالغة في أي موضوع من الموضوعات التي تعن للخواطر فاستمع الى قول زهير ابن أبي سلمى تر العجب العجاب: قال يهجو حصن بن حذيفة الفزاري:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
فانظر كيف خطر بباله أن ينفي الدراية بحال الآل، ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف يدري، ثم قبل أن يكمل ذلك قال إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه.
ويطربني قول أبي العباس النامي:
أحقا أن قاتلتي زرود وأن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى تبين موقفي أني الفقيد
وشكك فيّ عذالي فقالوا لرسم الدار أيكما العميد؟
وصيحة ابن الرومي صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء الى جانب الصدع الأدعج:
486
ما حمرة فيكما؟ أمن خجل... أم صبغة الله أم دم المهج
وقد أطرفت ليلى بنت طريف الخارجية في رثاء أخيها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وأراد مهيار أن يشبه المحبوبة بالظبي وبالبدر وبغصن البان فتجاوز المألوف المعتاد وسما الى سماء ما طاولتها سماء إذ قال:
سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها... وإن كان مصقول الترائب أكحلا
أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى... وعلمت غصن البان أن يتميّلا
ونختم هذا الباب المستطاب بقول البهاء زهير:
رعى الله ليلة وصل خلت... وما خالط الصفو فيها الكدر
أتت بغتة ومضت سرعة... وما قصرت بعد ذاك القصر
بغير احتيال ولا كلفة... ولا موعد بيننا ينتظر
فقلت وقد كاد عقلي يطير... سرورا بنيل المنى والوطر
أيا قلب تعرف من قد أتاك... ويا عين تدرين من قد حضر
ويا قمر الأفق عد راجعا... فقد حل في الدار عندي القمر
ويا ليلتي هكذا هكذا... وبالله قف يا سحر
487
فكانت كما أشتهي ليلة... وطاب الحديث وطاب ا
لسهر خلونا وما بيننا ثالث... فأصبح عند النسيم الخبر
ويقول الشريف الرضي وهو غاية الغايات:
بين الاظاعن حاجة خلفتها... أودعتها يوم الفراق مودعي
وأظنها لا بل يقيني انها... قلبي لأني لم أجد قلبي معي
٢- الحذف:
وفي قوله «فذلكن الذي لمتنني فيه» والتقدير في حبه لأن الذوات لا يتعلق بها لوم ودليل تقدير في حبه قوله «قد شغفها حبا» في مراودته، ولعلها أولى بدليل قوله: «تراود فتاها عن نفسه» وإنما قلنا أولى لأنه فعلها بخلاف الحب فإنه أمر قهري لا يلام عليه إلا من حيث تعاطي أسبابه أما المراودة فهي حاصلة باكتسابها فهي قادرة على دفعها فيتأتى اللوم عليها بخلاف الحب فانه ليس فعلا لها ولا تقدر على دفعه لأن الحب المفرط قد يقهر صاحبه ولا يطيق أن يدفعه وحينئذ فلا يلام عليه وعلى كل حال فهو من أسبابه.
٣- وفي قوله «متكأ» تصوير لنوع من الطعام الذي انما يقدم تفكها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتكاء، والكلمة بعد هذا من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها فتعلق بها العرب فيما بعد ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخاتنهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون انظر حينما يصف القرآن دعوة امرأة العزيز
488
للنسوة اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها ليوسف عن نفسه إلى جلسة لطيفة رائعة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك ولقد أوضح القرآن هذا ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر الى «المطبخ» بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه.
الفوائد:
١- (حاشا) تكون على ثلاثة أوجه:
١- فعلا متعديا متصرفا، تقول: حاشيته بمعنى استثنيته وان سبقتها ما تكون نافية.
٢- تنزيهية نحو حاشا لله فتكون اسما مرادفا للتنزيه منصوبا على المفعولية المطلقة وقيل هي فعل وتثبت الألف وتحذف.
٣- أن تكون للاستثناء فتكون حرفا بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى وهناك تفاصيل أخرى يرجع إليها في المطولات.
٢- المخالفة في نوني التوكيد:
جمهور البصريين يرى أن نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة أصلان لتخالفهما في بعض أحكامهما كإبدال الخفيفة ألفا في نحو وليكونا وحذفها في نحو قوله:
يا وجنتيه اللتين من بهج فيّ صدغييه اللذين من دعج
489
وكلاهما ممتنع في الثقيلة، هذا ما قاله سيبويه وعورض بأن الفرع قد يختص بما ليس للأصل أحيانا وقد قال سيبويه نفسه في أن المفتوحة انها فرع المكسورة ولها إذا خففت أحكام تخصها أما الكوفيون فيرون أن الخفيفة فرع الثقيلة.
وذكر الخليل بن أحمد: ان التوكيد بالثقيلة أشد من التوكيد بالخفيفة يدل له «ليسجنن وليكونن» فإن امرأة العزيز كانت أشدّ حرصا على سجنه من كينونته صاغرا.
٣- لا يخلو اسم التفضيل المجرد من أل والاضافة غالبا من مشاركة المفضل عليه في المعنى لفظا أو تقديرا والمراد بقولنا تقديرا مشاركته بوجه ما كقولهم في البغيضين: هذا أحب إلي من هذا وفي الشرين هذا خير من هذا وفي التنزيل: «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه» وتأويل ذلك هذا أقل بغضا وأقل شرا ومن غير الغالب العسل أحلى من الخل والصيف آخر من الشتاء.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)
490
اللغة:
(كَيْدَهُنَّ) : الكيد: يطلق على معان شتى منها المكر والخبث
491
كالمكيدة والحيلة وهو المراد هنا ويطلق على الحرب وإخراج الزند النار والقيء واجتهاد الغراب في صياحه وكاد قاء وبنفسه جاد والمرأة حاضت، وكاد يفعل كذا قارب وهمّ.
الإعراب:
(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) الفاء عاطفة واستجاب فعل ماض وله متعلقان به وربه فاعل، فصرف عطف على فاستجاب وعنه متعلقان بصرف وكيدهن مفعول به. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ ثان والسميع العليم خبر ان لإن أو لهو والجملة خبر ان. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ثم حرف عطف وبدا فعل ماض وفاعله مضمر يفسره ليسجننه أي بدا لهم أن يسجنوه قال سيبويه: «وفاعل بدا لهم هو ليسجننه أي ظهر لهم أن يسجنوه» وقال المبرد: هذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر، قال الشاعر:
ولا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
وحق لمن أبو موسى أبوه يوفقه الذي نصب الجبالا
أي وحق الحق، فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه، وعلى مذهب سيبويه فاعل حق هو يوفقه أي حق التوفيق، ولهم متعلقان ببدا ومن بعد حال وما مصدرية وهي مع ما في حيزها مضافة لبعد ورأوا فعل وفاعل والآيات مفعول به، ليسجننه اللام جواب قسم محذوف على تقدير القول المنصوب على الحال: أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله لنسجننه فجملة القسم وما بعده مقول القول ويسجننه فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو
492
المحذوفة فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ولكنها لم تباشر الفعل فأعرب، والهاء مفعول به منصوب وحتى حرف جر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بيسجننه أي إلى أن ينقطع كلام الناس وتسكن الاشاعات والأراجيف. (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) الواو عاطفة على محذوف ودخل فعل ماض ومعه ظرف مكان متعلق بدخل والسجن مفعول به على السعة وفتيان فاعل أي غلامان للملك أحدهما ساقيه والآخر صاحب طعامه وكانا قد اتهما بأنهما حاولا أن يسما الملك فأمر بهما الى السجن فأدخلا السجن ساعة دخول يوسف. (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) قال فعل وأحدهما فاعل والجملة استئناف بياني وقد تقدم، وان واسمها وجملة أراني خبرها والياء مفعول أراني الأول وجملة أعصر خمرا في محل المفعول الثاني، وعبارة أبي حيان: «ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى الفعل الى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل وكلاهما لمدلول واحد ولا يجوز أن تقول ضربني ولا أكرمني».
(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وقال الآخر فعل وفاعل وان واسمها وجملة أراني خبرها وجملة أحمل مفعول أراني الثاني وفوق رأسي ظرف متعلق بأحمل أو بمحذوف حال من خبزا لأنه كان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالا، وخبزا مفعول به وجملة تأكل الطير منه صفة لخبزا. (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فعل أمر ونا مفعوله والفاعل مستتر تقديره أنت وبتأويله متعلقان بنبئنا وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلقان بنراك. (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) لا نافية ويأتيكما طعام فعل مضارع ومفعول به وفاعل وجملة ترزقانه
493
صفة لطعام وإلا أداة حصر ونبأتكما فعل وفاعل ومفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وقيل ظرف متعلق بنبأتكما وان وما في حيزها مضافة للظرف وجملة إلا نبأتكما نعت لطعام أو حال منه لأنه وصف. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) اسم الاشارة مبتدأ ومما خبر وجملة علمني صلة وعلمني ربي فعل ومفعول به وفاعل. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)
ان واسمها وجملة تركت خبرها، وملة قوم مفعول به وجملة لا يؤمنون صفة لقوم وبالله متعلق بيؤمنون وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بكافرون وهم تأكيد لهم وكافرون خبر هم وجملة إني تركت ابتدائية أو تعليلية وفي كلا الحالين لا محل لها من الإعراب. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) واتبعت عطف على تركت والتاء فاعله وملة آبائي مفعول به وإبراهيم بدل من آبائي واسحق ويعقوب عطف على ابراهيم. (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وان وما في حيزها اسمها المقدم وبالله متعلقان بنشرك ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) ذلك مبتدأ ومن فضل الله خبر وعلينا متعلقان بفضل وعلى الناس معطوف على علينا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يا حرف نداء وصاحبي السجن منادى مضاف وعلامة نصبه الياء والسجن مضاف اليه ويجوز أن تكون هذه الاضافة من باب الاضافة للظرف إذ الأصل يا صاحبي في السجن ويجوز أن تكون من باب الاضافة الى الشبيه بالمفعول به والمعنى يا ساكني السجن وسيأتي مزيد بحث عن معنى الاضافة في باب الفوائد، أأرباب: الهمزة للاستفهام التقريري وأرباب مبتدأ ومتفرقون
494
صفة وخير خبر وأم حرف عطف وهي هنا متصلة والله عطف على أرباب والواحد صفة والقهار صفة ثانية. (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ما نافية وتعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن دونه حال وإلا أداة حصر وأسماء مفعول به وجملة سميتموها صفة والتاء فاعل وأنتم تأكيد للتاء وآباؤكم عطف على التاء قال صاحب الخلاصة:
وإن على ضمير رفع متصل عطفت فافصل بالضمير المنفصل
(ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ما نافية وأنزل الله فعل وفاعل وبها متعلقان بأنزل ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا والجملة نعت أو حال لأن اسماء وصفت. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا أداة حصر ولله خبر الحكم وجملة أمر مستأنفة أو حالية والأول أضبط وأن مصدرية ولا نافية وتعبدوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها منصوب بنزع الخافض وهو متعلق بأمر أي أمركم بأن لا تعبدوا ويجوز أن تكون مفسرة، ولا ناهية وتعبدوا مجزوم بلا وإلا أداة حصر وإياه مفعول تعبدوا. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبر والقيم صفة ولكن الواو استئنافية أو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) يا صاحبي السجن تقدم اعرابها وأما حرف شرط وتفصيل وأحدكما مبتدأ والفاء رابطة وجملة يسقي خبر أحدكما وربه مفعول به أول وخمرا مفعول به ثان وانما أبهم الساقي لكونه مفهوما أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب. (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وأما الآخر عطف على أما الأولى والآخر مبتدأ
495
والفاء رابطة وجملة يصلب خبر، فتأكل الطير: الفاء عاطفة وتأكل عطف على يصلب والطير فاعل وتأكل ومن رأسه متعلقان بتأكل.
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) قضي الأمر فعل ماض مبني للمجهول والأمر نائب فاعل والذي صفة للأمر وفيه متعلقان بتستفتيان.
البلاغة:
في قوله تعالى (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) مجاز مرسل علاقته ما يكون وما يئول اليه فقد سمى العنب خمرا لأنه يئول الى الخمر ويقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجرا وقيل: الخمر هو العنب حقيقة في لغة غسان وأزد وعمان، وعن المعتمر: لقيت أعرابيا حاملا عنبا في وعاء فقلت ما تحمل؟ فقال خمرا وعلى هذا يكون الكلام حقيقيا لا مجازيا والأول أرجح.
الفوائد:
معنى الاضافة:
تكون الاضافة على معنى اللام بأكثرية لأنها الأصل وعلى معنى من بكثرة ومن ذلك اضافة العدد الى المعدودات والمقادير الى المقدورات كثلاثة الأثواب ومائة درهم ومن ذلك اضافة عدد الى آخر نحو ثلاثمائة وعلى معنى «في» بقلّة، وضابط الاضافة التي تكون بمعنى في أن يكون الثاني ظرفا للأول وهو المضاف سواء أكان زمانا أم مكانا فالزمان نحو مكر الليل وتربص أربعة أشهر والمكان نحو «يا صاحبي السجن» فالليل ظرف للمكر والسجن ظرف للصاحبين والتقدير مكر
496
في الليل وصاحبين في السجن وضابط الاضافة التي تكون بمعنى من ان يكون الاول وهو المضاف بعض الثاني وهو المضاف اليه كخاتم فضة ألا ترى أن الخاتم بعض جنس الفضة المضاف إليها وان يصح الاخبار بالمضاف اليه عن المضاف فانه يقال هذا الخاتم فضة. هذا وذهب الجمهور الى أن الاضافة قسمان فقط: بمعنى اللام وبمعنى من ولا ثالث لهما، وما أوهم معنى «في» فهو على معنى اللام مجازا، وجعل الليل ماكرا والسجن صاحبا، لوقوع المكر والصحبة فيهما.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٩]
وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)
497
اللغة:
(بِضْعَ سِنِينَ) : البضع: ما بين الثلاث الى التسع وأكثر الأقاويل على انه لبث فيه سبع سنين قال أحد علماء اللغة: والبضع بالكسر والفتح ما بين واحد الى خمسة في قول أبي عبيدة وقال غيره ما بين واحد الى عشرة والبضع بالفتح الشق والبضع بالضم النكاح قال بعضهم:
شقّ وري وجماع بضع... ما بين واحد وعشر بضع
وفي الأساس: «وعندي بضعة عشر من الرجال وبضع عشرة من النساء، الذكور بالتاء والإناث بطرحها، على سنن حكم العدد.
وأقمت عنده بضع سنين وهو ما بين الثلاث الى العشر»
وفي القاموس والتاج: «البضع والبضع الطائفة من الليل وما بين الثلاث الى التسع يقال بضع سنين وبضع عشرة من النساء وبضع وعشرون امرأة ومع المذكر بضعة عشر من الرجال وبضعة وعشرون رجلا ويجب تقديم بضع فلا يقال عشرون وبضع» وقال الحريري في درة الغواص:
498
«البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث الى العشر وأسند ذلك الى النبي ﷺ في تفسير قوله تعالى: «وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين» وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل الكتاب، والمشركون يميلون الى أهل فارس لأنهم أهل أوثان فلما بشر الله المسلمين بأن الروم سيغلبون سر المسلمون ثم ان أبا بكر رضي الله عنه أخبر مشركي قريش بما نزل عليهم فقال أمية بن خلف خاطراني على ذلك فخاطره على خمس قلائص في مدة ثلاث سنين ثم أتى النبي ﷺ فسأله عن البضع فقال ما بين الثلاثة الى العشرة فأخبره بخطاره مع ابن خلف فقال له: ما حملك على تقريب المدة؟ قال الثقة بالله ورسوله فقال له: عد إليهم فزدهم في الخطر وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وزادوه سنتين فظفرت الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقا لتقدير أبي بكر رضي الله عنه.
(سِمانٍ) : جمع سمينة ويجمع سمين أيضا عليه يقال رجال سمان كما يقال نساء سمان والسمن مصدر سمن يسمن فهو سمين فالمصدر والاسم جاءا على غير قياس إذ قياسهما سمنا بالفتح فهو سمن نحو فرح فرحا فهو فرح وفي المصباح: «سمن يسمن من باب تعب وفي لغة من باب قرب إذا كثر لحمه وشحمه ويتعدى بالهمزة وبالتضعيف» ومن المجاز كلام غثّ وسمين، وقد أسمنت القدر، ودار سمينة: كثيرة الأهل، وسمّنوا لفلان: أعطوه عطاء كثيرا، وسمّنت في الحمد أعطيت فيه الكثير، قال ابن مقبل:
تركت الخنا لست من أهله وسمّنت في الحمد حتى سمن
وسمع أعرابي يقول لآخر: جعلت لك الدار بغير ثمن ليكون
499
أسمن لخطي عندك، وانقلب بلدهم سمنة وعسلة إذا كثرتا فيه وفي مثل «سمنكم هريق في أديمكم» أي ما لكم ينفق عليكم.
(عِجافٌ) : جمع عجفاء على غير قياس والعجف الهزال الذي ليس بعده والسبب في وقوع عجاف جمعا لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال حمله على سمان لأنه نقيضه ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض والقياس عجف نحو حمراء وحمر.
(رُءْيايَ) : فرق أرباب العربية بين الرؤيا والرؤية فقالوا: الرؤيا مصدر رأى الحلمية والرؤية مصدر رأى العينية وغلطوا أبا الطيب في قوله:
مضى الليل والفضل الذي لك لم يمض ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وقال أبو البقاء في شرحه لديوان المتنبي: «والرؤيا تستعمل في المنام خاصة ومنه قوله تعالى «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» و «لا تقصص رؤياك على إخوتك» و «إن كنتم للرؤيا تعبرون» و «قد صدقت الرؤيا» وهذا كله في المنام ولو قال «لقياك» لكان أحسن إلا أنه ذهب بالرؤيا الى الرؤية كقوله تعالى «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك» فإنه لم يرد بها رؤيا المنام وانما أريد اليقظة وكان ذلك ليلا في ليلة الاسراء».
وقال أبو الفتح بن جني: «الرؤيا في المنام وأما في العين فلا أعرفها وإن جاءت فهي شاذة».
وقال ابن هشام في أوضح المسالك: «ولا تختص الرؤيا بمصدر
500
الحلمية بل قد تقع مصدرا للبصرية خلافا للحريري وابن مالك بدليل:
«وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» قال ابن عباس: هي رؤيا عين ولكن المشهور استعمالها في الحلمية.
واقتصر صاحب القاموس على أن الرؤيا في الحلم قال: «والرؤيا ما رأيته في منامك» وجمعه رؤى كهدى.
(تَعْبُرُونَ) : من باب نصر ينصر ويستعمل أيضا بالتشديد كعلّم تعليما وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره أو نحوه أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير والمعبر وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الإعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها... وكنت للأحلام عبارا
وفي القاموس: العبار مبالغة العابر ومفسر الأحلام وجمل عبار قوي على السير وشاع العبر اليوم بالفتح والكسر وهو من الوادي شاطئه وناحيته أما العبر بالضم فهو الكثير من كل شيء والعبارة بالكسر مصدر والاسم من عبّر والألفاظ الدالة على معنى ويقال فلان حسن العبارة أي البيان وهذا عبارة عن كذا أي بمعناه ومساوله في الدلالة.
(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات وحزم الواحد ضغث فاستعيرت لذلك والاضافة بمعنى من أي أضغاث
501
من أحلام وفي المثل «ضغث على إبالة» الإبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الحزمة من الحشيش والحطب والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس ومعنى المثل بلية على أخرى ويضرب أيضا مثلا للرجل يحمّل صاحبه المكروه ثم يريده منه.
(ادَّكَرَ) : بالدال وهو الفصيح ويجوز واذّكر بالذال المعجمة وأصلها اذتكر افتعل من الذكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال فأبدلت دالا فاجتمع متقاربان فأبدل الاول من جنس الثاني وادغم.
(أُمَّةٍ) : بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة وهي المدة الطويلة والأمة معروفة والإمة بكسر الهمزة النعمة وقرىء بها أيضا قال عدي:
ثم بعد الفلاح والملك والإمة ووارتهم هناك القبور
الإعراب:
(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وقال عطف على ما قبله وفاعله يوسف وللذي متعلقان به وجملة ظن صلة وفاعل ظن يوسف أيضا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظن وان واسمها وناج خبرها ومنهما حال أي حال كون الناجي من جملة الاثنين وهو الساقي وجملة اذكرني مقول القول وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف حال. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) فأنساه الشيطان الفاء عاطفة وأنساه فعل ومفعول به والضمير يعود الى الساقي والشيطان فاعل والمعنى فأنساه الشيطان أن يذكر يوسف عند الملك وقيل فأنسي يوسف ذكر ربه حين وكل أمره الى غيرة. ذهب كثير من المفسرين الى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا
502
من الغلامين وهو الشرابي وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ونسبته الى الشيطان على طريق المجاز، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال:
«إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فاذا نسيت فذكروني» ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وأجيب بأن النسيان هو الترك وانه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ويؤيد رجوع الضمير الى يوسف ما بعده من قوله: فلبث في السجن بضع سنين ويؤيد رجوعه الى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة. وذكر مفعول به ثان، فلبث الفاء عاطفة ولبث فعل وفاعل مستتر وفي السجن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وبضع سنين نصب على الظرفية متعلق بلبث.
(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) إن واسمها وجملة أرى خبرها وسبع بقرات مفعول به وسمان صفة لبقرات وسيأتي في باب الفوائد لماذا وصفت البقرات دون سبع ويأكلهن سبع فعل مضارع ومفعول به وفاعل وعجاف صفة لسبع وجملة يأكلهن في محل نصب مفعول ثان لأرى، وعبر بالمضارع لاستحضار الصورة. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وسبع عطف على سبع الأولى وسنبلات مضاف اليه وخضر صفة لسنبلات وأخر عطف على سبع وسيأتي القول في منعها من الصرف في باب الفوائد ويابسات صفة لأخر. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء مفعول به وفي رؤياي متعلقان بأفتوني وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهي في
503
محل جزم فعل الشرط وجملة تعبرون خبر كنتم والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فأفتوني في رؤيا وقوله للرؤيا الجار والمجرور فيه أوجه أحدها ان اللام للبيان كقوله وكانوا فيه من الزاهدين فهي ومجرورها في محل نصب حال وإما أن تكون للتقوية لأن العامل إذا تقدم عليه معموله لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل إذا قلت عابر للرؤيا لانحطاطه عن الفعل في القوة فهي في حكم المزيدة فلا تعلق بشيء وانما زيدت لمجرد التقوية ويجوز أن تكون خبر كنتم كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مضطلعا به متمكنا منه وعندئذ تكون جملة تعبرون خبرا ثانيا لكنتم. قال المبرد في الكامل: وهذه اللام تزاد في المفعول على معنى زيادتها في الاضافة، تقول هذا ضارب زيدا وهذا ضارب لزيد، لأنها لا تغير معنى الاضافة إذا قلت هذا ضارب زيد وضارب له، وفي القرآن «وأمرت لأن أكون أول المسلمين» وكذلك «إن كنتم للرؤيا تعبرون» (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قالوا فعل وفاعل وأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أضغاث أحلام وتخاليط أوهام والجملة مقول القول وسيأتي سر جمعها في باب البلاغة وما الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها وبتأويل متعلقان بعالمين والباء حرف جر زائد وعالمين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) الواو عاطفة وقال الذي فعل وفاعل وجملة نجا صلة ومنهما حال وادكر عطف على نجا وبعد أمة متعلقان بادكر ويجوز أن تكون الواو حالية وجملة نجا حالية من الموصول أو من عائده أي فاعل نجا. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أنا مبتدأ وجملة أنبئكم خبر والكاف مفعوله وبتأويله متعلقان بأنبئكم فأرسلون الفاء الفصيحة وأرسلوني فعل أمر وفاعل ومفعول به أي ان
504
شئتم تعبير الرؤيا فأرسلوني. (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) لا بد من تقدير محذوف أي فأرسلوه فأتى يوسف في السجن فقال، ويوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأيها منصوب محلا على الاختصاص لأنه مبني على الضم والصديق بدل منه أو عطف بيان له تابع له على اللفظ وسيأتي بحث الاختصاص في باب الفوائد وأفتنا فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول به وفي سبع جار ومجرور متعلقان بأفتنا وبقرات مضاف اليه وجملة يأكلهن سبع عجاف صفة لبقرات وما بعده عطف عليه. (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) لعل واسمها وجملة أرجح خبرها والى الناس متعلقان بأرجع ولعلهم يعلمون مثلها. (قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) جملة تزرعون مقول القول وسبع سنين ظرف متعلق بتزرعون ودأبا حال من المأمورين أي دائبين أو مصدر لفعل محذوف أي تدأبون دأبا.
(فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وما يجوز أن تكون شرطية أو موصولة وهي في محل نصب مفعول مقدم لحصدتم على الحالين، وحصدتم فعل وفاعل فذروه الفاء واقعه في جواب الشرط أو الموصول لما فيه من رائحة الشرط وذروه فعل وفاعل ومفعول به وفي سنبله متعلقان فذروه وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى واجب النصب ومما صفة لقليلا وجملة تأكلون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ثم حرف عطف وتراخ ويأتي فعل مضارع ومن بعد ذلك حال وسبع فاعل يأتي وشداد صفة لسبع. (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) جملة يأكلن صفة ثانية لسبع والنون فاعل وما مفعول به وجملة قدمتم صلة ما ولهن متعلقان بقدمتم وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى ومما صفة لقليلا وجملة تحصنون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي
505
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)
عطف أيضا وجملة فيه يغاث الناس صفة لعام ويعصرون عطف على يغاث أي يعصرون الأعناب وغيرها.
البلاغة:
١- المبالغة:
فقد جمعوا لفظ الضغث فقالوا أضغاث أحلام وجعلوه خبرا للرؤيا مع ايها واحدة للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان أو لانطوائه على أشياء مباينة ولفظ الجمع كما يدل على كثرة الذوات يدل أيضا على المبالغة في الاتصاف كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا يملك إلا فرسا واحدة وعمامة فردة.
٢- نفي الشيء بايجابه:
وقد تقدمت الاشارة اليه ونزيده هنا بسطا لأنه من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا قال امرؤ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
فقوله لا يهتدى بمناره لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له على الإطلاق فضلا عن الاهتداء به وكذلك قول زهير ابن أبي سلمى:
506
فأثبت لها في اللفظ وصيدا وإنما أراد ليس لها وصيد فيسدّ علي، ويتصل بهذا قول الزبير بن عبد المطلب يذكر عميلة بن السباق بن عبد الدار وكان نديما له وصاحبا:
بأرض خلاء لا يسدّ وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
صبحت بهم طلقا يراح الى الندى إذا ما انتشى لم تحتضره صاقره
ضعيفا يحث الكأس قبض بنانه كليلا على وجه النديم أظافره
فظاهر كلامه أنه يخمش وجه النديم إلا أن أظفاره كليلة وانما أراد في الحقيقة انه لا يظفّر وجه النديم ولا يفعل شيئا من ذلك وكذلك قوله لم تحتضره مفاقره أي ليس له مفاقر فتحتضره وسيأتي ما هو أبلغ من ذلك في حينه وهو قوله تعالى: «لا يسألون الناس إلحافا» أي لا يسألون البتة وفي الآية التي نحن بصددها أراد البارئ تعالى نفي الأحلام الباطلة خاصة كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين ويزداد الحسن اكتمالا بالمواءمة فقد قال الملك لهم أولا «إن كنتم للرؤيا تعبرون» للتدليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة «إن» التي تفيد التشكيك رجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج الاستفهام عن كونهم عالمين بالرؤيا أولا وقول الفتى أنا أنبئكم بتأويله الى قوله لعلي أرجع الى الناس لعلهم يعلمون دليل على ذلك أيضا فسبحان قائل هذا الكلام.
الفوائد:
١- أوقع سبحانه قوله «سمان» صفة للميّز وهو بقرات دون
507
المميّز وهو سبع والفرق بين الأمرين وكلاهما جائز في قواعد النحو أنك لو أوقعتها صفة لبقرات فقد أردت أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن خاصة لا بجنسهن ولو أوقعتها صفة لسبع فقد أردت أن تميز السبع بجنس البقرات لا بنوع خاص منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.
٢- دلت كلمة أخر على أن السنبلات اليابسات كانت سبعا كالخضر دون التصريح بالعدد ذلك لأن الكلام مبني على انصبابه الى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله وأخر يابسات بمعنى وسبعا أخر.
٣- أخر:
صفة معدولة عن وزن آخر ولعدل الصفة موضعان:
آ- الاعداد على وزن «فعال ومفعل» كأحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وهي معدولة عن واحد واحد واثنين اثنين إلخ فإذا قلت جاء القوم مثنى فالمعنى أنهم جاءوا اثنين اثنين وقد قالوا أن العدل في الأعداد مسموع عن العرب إلى الأربعة غير أن النحويين قاسوا ذلك الى العشرة والحق انه مسموع في الواحد والعشرة وما بينهما قال أبو الطيب:
أحاد أم سداس في أحاد لييلتنا المنوطة بالتناد
ب- أخر في قولك مررت بنساء أخر وقال تعالى «فعدة من أيام أخر» وهي جمع أخرى مؤنث آخر، وآخر بفتح الخاء اسم
508
تفضيل على وزن أفعل بمعنى مغاير وكان القياس أن يقال مررت بنساء آخر كما يقال مررت بنساء أفضل لأن اسم التفضيل إذا كان مجردا من من أل والاضافة لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع.
٤- الاختصاص:
هو نصب الاسم بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص أو أعني ولا يكون هذا الاسم إلا بعد ضمير لبيان المراد منه نحو: نحن العرب نكرم الضيف، فنحن مبتدأ وجملة نكرم الضيف خبر والعرب منصوب على الاختصاص بفعل محذوف تقديره أخص وجملة الفعل المحذوف معترضة بين المبتدأ وخبره وليس المراد الاخبار عن نحن بالعرب بل المراد أن إكرام الضيف مختص بالعرب ومقصور عليهم ومنه قول أبي عبادة البحتري:
نحن أبناء يعرب، أعرب النا س لسانا وأنضر الناس عودا
وقد يكون الاختصاص بلفظ أيها وأيتها فيستعملان كما يستعملان في النداء فيبنيان على الضمّ ويكونان في محل نصب بأخص محذوفا وجوبا ويكون ما بعدهما اسما محلى بأل لازم الرفع على أنه صفة أو بدل للفظهما ولا يجوز نصبه على أنه تابع لمحلهما كما في الآية الكريمة.
509

[المجلد الخامس]

[تتمة سورة يوسف]
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
اللغة:
(خَطْبُكُنَّ) : شأنكن وهو في الأصل مصدر خطب يخطب وإنما يخطب في الأمور العظام وفي المختار: «الخطب الأمر تقول:
ما خطبك قال الأزهري أي ما أمرك وتقول هذا خطب جليل وخطب يسير وجمعه خطوب»
وفي القاموس والتاج: الخطب مصدر وهو الشأن يقال: ما خطبك؟ أي ما شأنك وما الذي حملك عليه، وغلب استعماله للأمر المكروه العظيم.
(حَصْحَصَ) : أي ثبت واستقر وقال الخليل: حصحص معناه تبين وظهر بعد خفاء وقال بعضهم هو مأخوذ من الحصة والمعنى بانت
5
حصة الحق من حصة الباطل كما تتميز حصص الأراضي وغيرها، وقال الراغب: حصحص الحق وذلك بانكشاف ما يغمره وحص وحصحص نحو كفّ وكفكف وحصه قطعه إما بالمباشرة وإما بالحكم والحصة القطعة من الجملة وتستعمل استعمال النصيب وفي الصحاح:
هو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للاناخة قال:
فحصحص في صم الصفا ثفناته وناء بسلمى نوءة ثم صمما
والثفنات هي ما يقع على الأرض من أعضاء البعير إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما. وقيل هو من الحص وهو ذهاب الشعر فتبين ما تحته والحاء الثانية مبدلة من صاد ثالثة وإذا اجتمع الأمثال في مثل هذا أبدلت العرب من الحرف الأوسط حرفا من الجنس السابق ومثله حثحثت ورقرقت أصلهما حثثت ورققت هذا قول الكوفيين وقال البصريون هما لغتان تقاربتا إذ لا يبدل الحرف إلا من مثله أو من مقاربه في المخرج وهذه الحروف متباعدة لا يصح إبدالها.
الإعراب:
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) معطوف على محذوف أي لما جاءه الرسول وأخبره بتأويلها فقال الملك، وجملة ائتوني به مقول القول، فلما: الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وجاءه الرسول فعل ومفعول به مقدم وفاعل. (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) مهّد لتأويل الحلم بسؤال النسوة ليظهر براءة ساحته مما قرف به وسجن من أجله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر
6
له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني» وارجع فعل أمر وفاعله أنت والى ربك جار ومجرور متعلقان بارجع، فاسأله معطوف على ارجع والهاء مفعول به وما اسم استفهام مبتدأ وبال خبر والجملة في محل نصب مفعول اسأله المعلقة عن العمل بالاستفهام والنسوة مضاف لبال واللاتي موصول صفة وجملة قطعن أيديهن صلة. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ان واسمها وبكيدهن متعلقان بعليم وعليم خبر ان. (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) ما اسم استفهام مبتدأ وخطبكن خبر وإذ ظرف متعلق بخطبكن لأنه في معنى الفعل والمعنى ما فعلتن وما أردتن به في ذلك الوقت وجملة راودتن في محل جر باضافة الظرف إليها وراودتن فعل وفاعل ويوسف مفعول به وعن نفسه متعلقان براودتن. (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) حاش تقدم القول فيها أي تنزيها له عن أن يتصف بالعجز عن خلق بشر عفيف مثل هذا ولله بيان وما نافية وعلمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بعلمنا ومن حرف جر زائد وسوء مجرور لفظا بمن منصوب محلا على انه مفعول علمنا (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) قالت امرأة العزيز فعل وفاعل والآن ظرف زمان متعلق بحصحص والحق فاعل حصحص. (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أنا مبتدأ وجملة راودته خبر وهي فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته والواو حرف عطف وان واسمها واللام المزحلقة ومن الصادقين خبر انه. (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) اختلف المفسرون في قائل هذا الكلام ومن الصعب البت في الأمر أو الترجيح فلنقل القولين قال بعضهم: من كلام يوسف أي ذلك التشمر والتثبت لظهور البراءة ليعلم
7
العزيز اني لم أخنه، قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام انسان بكلام انسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما الى ما يليق به والاشارة الى الحادثة الواقعة منه وهي تثبته وتأنيه. وقال آخرون هو من كلام زنيخاء والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف اني لم أخنه ومهما يكن من أمر فذلك مبتدأ، وليعلم اللام للتعليل ويعلم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور خبر ويجوز أن يراد هذا الكلام لعموم الأحوال فذلك عندئذ خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر ذلك وان وما بعدها في تأويل مصدر سد مسد مفعولي يعلم وجملة لم أخنه خبر اني وبالغيب في محل نصب حال من الفاعل أو المفعول ويجوز أن يكون ظرفا أي بمكان الغيب فيعلق بأخنه وأن الله عطف على أني وجملة لا يهدي خبر ان وكيد الخائنين مفعول به. (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) الواو حالية وما نافية وأبرىء نفسي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإن النفس ان واسمها واللام المزحلقة وأمارة بالسوء خبرها وإلا أداة استثناء، وما يجوز أن تكون مصدرية وموضعها النصب والتقدير إن النفس لأمارة بالسوء إلا لمن رحم ربي، وانتصابه على الظرف، ويجوز أن تكون ما بمعنى من والتقدير ان النفس لتأمر بالسوء إلا لمن رحم ربي أو إلا نفسا رحمها ربي فانها لا تأمر بالسوء. وعبارة أبي حيان: «والظاهر ان إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله لأمارة بالسوء لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء فيكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير لأمارة بالسوء
8
صاحبها إلا الذي
رحمه ربي فلا تأمره بالسوء وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء وما ظرفية إذ التقدير لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي وجوزوا أن يكون استثناء منقطعا وما مصدرية، وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الاساءة. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ان واسمها وخبراها.
البلاغة:
رجح البلاغيون أن يكون الكلام «ذلك ليعلم... » من قول زليخا، لأنه أقرب الى المقام وأليق بمقام الغزل حيث يفدي المحب من يحب بنفسه، ألا ترى انه عند ما استحكمت المحنة وبلغت النهاية فدته بنفسها فقالت: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» وتقربت الى قلبه بقولها «ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب» وما أحسن قول كثير وقد رمق سماء هذا المعنى في التقرب الى المحبوب وخلب قلبه بهذا التلطف:
يود بأن يمسي عليلا لعلها إذا سمعت شكواه يوما تراسله
ويهتز للمعروف في طلب العلا لتحمد يوما عند ليلى شمائله
ويثبت ذلك أيضا قولها للنسوة اللواتي سمعت بمكرهن:
«فذلكن الذي لمتنني فيه» غير مكترثة لما فضحنها به. وقد رمق هذه السماء العالية أيضا جميل بن معمر الخزاعي فقال:
9
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا... سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق
أجل صدق الواشون أنت حبيبة إليّ وإن لم تصف منك الخلائق
وقد رواهما صاحب الأغاني لمجنون بني عامر.
وقال عمرو بن ضبيعة الرقاشي أحد بني رقاش وهم منسوبون الى أمهم:
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر عليه فقد تجري الأمور على قدر
وقد رمق أبو العتاهية بيتي جميل فقال:
قال لي أحمد ولم يدر ما بي أتحب الغداة عتبة حقا
فتنفست ثم قلت نعم حبا جرى في العروق عرقا فعرقا
ولقد أربى عليه بهذا التنفس الذي تتبعه كل نفس لطيفة.
10
الفوائد:
الآن:
الآن ظرف من ظروف الزمان معناه الزمن الحاضر وهو مبني على الفتح وفي علة بنائه اشكال فذهب قوم الى أنه بني لأنه وقع في أول أحواله معرفة بالألف واللام وحكم الاسماء أن تكون منكورة شائعة في الجنس ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافة وألف ولام فلما خالفت أخواتها من الاسماء بأن وقعت معرفة بأول أحوالها ولزمت موضعا واحدا بنيت لذلك لأن لزومها بهذا الموضع ألحقها بشبه الحروف وهذا رأي أبي العباس المبرد وشايعه الزمخشري وغيره وقال الفراأ أصله آن من آن الشيء يئين إذا أنى وقته يقال آن لك أن تفعل كذا وأنى لك قال عمرو بن حسان:
تمخضت المنون له بيوم أنى ولكل حاملة تمام
وآن فعل ماض فلما أدخل عليه الألف واللام ترك على ما كان عليه من الفتح كما جاء في الحديث أنه ﷺ «نهى عن قيل وقال» وقيل وقال فعلان ماضيان فأدخل الخافض عليهما وتركهما على ما كانا عليه وهناك تعليلات أخرى ضربنا عنها صفحا لأنه لا طائل تحتها.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)
11
الإعراب:
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) عطف على ما تقدم وقال الملك فعل وفاعل وجملة ائتوني به مقول القول واستخلصه فعل مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للأمر والاستخلاص خلوص الشيء من سوائب الشركة وقال ذلك لما كان يوسف نفيسا وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف يمكن تقديره بما تتساوق معه مجريات القصة وحوادثها أي فجاء الرسول يوسف وقال أجب الملك فقام مودعا أهل السجن داعيا لهم لأنه كان مثابتهم وموضع ثقتهم ثم لبس ثيابه ودخل على الملك فلما... إلخ، ولما ظرفية حينية أو رابطة وكلمه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قال جواب لما لا محل لها وان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال ولدينا متعلق بمكين ومكين خبر إن وأمين خبر ثان. (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) اجعلني فعل أمر والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به وعلى خزائن الأرض جار ومجرور متعلقان بالمفعول الثاني أي قيما على خزائن الأرض وان واسمها وحفيظ خبرها
12
وعليم خبرها الثاني. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) وكذلك نعت لمصدر محذوف أي ومثل ذلك التمكين الظاهر مكنا ليوسف ومكنا فعل وفاعل واللام متعلقة بمكنا ومفعول مكنا محذوف أي الأمور وفي الأرض حال وجملة يتبوأ جملة حالية من يوسف ومنها جار ومجرور متعلقان بيتبوأ وحيث ظرف ليتبوأ أو مفعول به له وجملة يشاء في محل جر بإضافة الظرف إليها ولا بد من الاشارة إلى تتمة القصة التي اقتضى سياق الكلام حذفها أي فولاه مكان العزيز ثم هلك قطفير عزيز مصر فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه وكانت مفاجأة تجمع بين المتعة والدهشة حين دخل عليها يوسف وقال لها: أليس هذا خيرا مما تريدين قالت أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة غريرة حسناء بلهاء وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت بالمثابة التي أنت عليها من الوسامة والجمال فغلبتني نفسي وعصمك الله إلى آخر تلك القصة الرائعة التي استوفت جميع عناصر القصة ثم استولى على مقاليد الأمور ودان له القريب والبعيد. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الجملة استئنافية مسوقة إلى التصرف العادل الذي اختص الله تعالى به نفسه ونصيب فعل مضارع مرفوع والفاعل نحن وبرحمتنا متعلقان بنصيب ومن مفعول به وجملة نشاء صلة ولا نضيع عطف على نصيب وأجر المحسنين مفعول به. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) اللام لام الابتداء وأجر مبتدأ والآخرة مضاف إليه وخير خبر أجر وللذين متعلقان بخير وجملة آمنوا صلة وكانوا كان واسمها وجملة يتقون خبرها.
الفوائد:
نسج أرباب السير حوادث حول هذه القصة الرائعة من نسج
13
للخيال ولفّقوا روايات يبدو عليها البطلان لتفاهتها وركاكتها أو لا حالتها ومنافاتها للعقل فعلى المرء أن يمحص تلك الروايات البادية التلفيق ويشجب الأخذ بها والتوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت وذلك شأن المبطلة من كل طائفة.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٢]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)
الإعراب:
(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) الكلام معطوف على كلام سابق يفهم من سياق القصة أي أصابت يعقوب وأولاده ضائقة وهم في فلسطين فقال لهم يعقوب بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا ما نحن بحاجة إليه من الطعام فخرجوا حتى قدموا مصر... إلى آخر القصة. وجاء إخوة يوسف فعل وفاعل ولم ينصرف يوسف للعلمية والعجمة، فدخلوا عليه عطف على جاء أخوة
14
يوسف. (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الفاء عاطفة وعرفهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والواو للحال وهم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبر أي لم يعرفوه لطول العهد. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) الواو عاطفة والكلام معطوف على مقدر يفهم من سياق الحوار أي لما وصلوا إليه قال لهم لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا معاذ الله نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فاستوضح منهم عن أمرهم فقال نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي اسمه يعقوب وكنا اثني عشر فهلك منا واحد قال أنتم الآن عشرة فأين الأخ الحادي عشر قالوا هو عند أبيه يتسلى به من الهالك لأنه شقيقه قال فأتوني به أي بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين واتركوا أحدكم عندي رهينة حتى تأتوني به... الى آخره، ولما حينية أو رابطة وجهزهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبجهازهم متعلقان بجهزهم وقال جملة لا محل لها لأنها جواب لما وجملة ائتوني مقول القول وهو فعل أمر وفاعل ومفعول به وبأخ جار ومجرور متعلقان به ولكم صفة لأخ ومن أبيكم صفة ثانية.
(أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) الهمزة للاستفهام ولا نافية وترون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي ترون وجملة أو في الكيل خبر ان والواو عاطفة وأنا مبتدأ وخير المنزلين خبر أي وأنا للضيف خير المضيفين.
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) الفاء عاطفة وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتأتوني مجزوم بلم وهو فعل الشرط والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكيل اسمها ولكم خبرها وعندي طرف متعلق بمحذوف حال والواو عاطفة ولا ناهية وتقربون فعل
15
مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وهذه النون نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفا ويحتمل أن تكون لا نافية وتقربون مجزوم نسقا على محل قوله فلا كيل لكم وهو الجزم لأنه جواب الشرط كأنه قيل فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا. (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) جملة سنراود مقول القول وعنه متعلقان بنراود وقد تقدمت معاني المراودة قريبا فجدد به عهدا وأباه مفعول به وإنا من عطف الجمل وان واسمها واللام المزحلقة وفاعلون خبر إنا. (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) لفتيانه متعلقان بقال وجملة اجعلوا مقول القول وبضاعتهم مفعول به وفي رحالهم في موضع المفعول الثاني وقد اختلف في معنى جعل البضاعة في الرحال وأقرب الأقوال انه أراد حملهم على الرجوع اليه أن يعرفوها إذا رجعوا الى أهلهم فتحملهم على الرجوع وهو يعلم أن ديانتهم لا تحل لهم إمساكها فيرجعون لأجلها. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل واسمها وجملة يعرفونها خبر لعل وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة انقلبوا مضافة للظرف والجواب محذوف أي فلعلهم يرجعون والى أهلهم جار ومجرور متعلقان بانقلبوا ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
16
الإعراب:
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) الفاء حرف عطف ولما حينية أو رابطة ورجعوا فعل وفاعل وإلى أبيهم متعلقان برجعوا وجملة قالوا لا محل لها ويا حرف نداء وأبانا منادى مضاف ومنع فعل ماض مبني للمجهول ومنا متعلقان بمنع والكيل نائب فاعل وهم يشيرون إلى قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي. (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الفاء الفصيحة وأرسل فعل أمر ومعنا متعلقان بأرسل وأخانا مفعول به ونكتل مضارع مجزوم في جواب الطلب، وإنا: إن واسمها وله متعلقان بحافظون واللام المزحلقة وحافظون خبر إن. (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كما تقدم نظائر ذلك في مواضع كثيرة. هل حرف استفهام وآمنكم فعل مضارع وفاعل مستتر
17
ومفعول وعليه متعلقان بآمنكم وإلا أداة حصر، كما أمنتكم الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية يريد: انكم قلتم في يوسف «وإنا له لحافظون» كما تقولونه في أخيه بنيامين ثم خنتم بضمانكم فكيف آمنكم. وعلى أخيه جار ومجرور متعلقان بأمنتكم ومن قبل حال أي من قبل هذا الزمان. (فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) الفاء الفصيحة والله مبتدأ وخير خبر وحافظا تمييز أو حال وهو مبتدأ وأرحم الراحمين خبر والمعنى فتوكل على الله ودفع إليهم بنيامين. (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) لما حينية أو رابطة وفتحوا متاعهم فعل وفاعل ومفعول به ووجدوا بضاعتهم فعل وفاعل ومفعول به وجملة ردت إليهم في محل نصب مفعول وجدوا الثاني. (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) قالوا فعل وفاعل ويا أبانا منادى مضاف وما اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لنبغي أي أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا، وقال الزجاج: يحتمل أن تكون نافية أي ما بقي لنا ما نطلب ويحتمل أيضا أن تكون نبغي من البغي أي ما افترينا فكذبنا على هذا الملك. (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) هذه مبتدأ وبضاعتنا خبر وجملة ردت إلينا حالية ويجوز إعراب بضاعتنا بدل من هذه وجملة ردت إلينا خبر والجملة مستأنفة مسوقة لإيضاح قولهم ما نبغي. (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) الواو عاطفة على محذوف أي نستظهر بها ونستعين ونمير أهلنا، وأهلنا مفعول به ونحفظ أخانا جملة منسوقة على ما قبلها ونزداد جملة منسوقة أيضا وكيل بعير مفعول به لنزداد.
(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ذلك مبتدأ وكيل خبر ويسير صفة أي ان كيل البعير الذي نزداده هين على الملك لأنه قد أحسن إلينا وإكرامنا أكثر من ذلك.
(قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) لن حرف نفي ونصب واستقبال وأرسله مضارع منصوب بلن ومعكم ظرف متعلق بأرسله
18
وحتى حرف غاية وجر وتؤتوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به أول وموثقا مفعول به ثان ومن الله صفة وجعل الحلف بالله موثقا لأن الحلف به مما تؤكد به العهود.
(لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) اللام واقعة في جواب القسم المدلول عليه بقوله موثقا وتأتنني مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والياء مفعول به والنون المشددة للتوكيد والنون الثالثة نون الوقاية وقد تقدمت لهذا الإعراب نظائر وإلا أداة استثناء وأن وما في حيزها استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لتأتنني على كل حال إلا حال الإحاطة بكم فهو حال أو استثناء مفرغ من أعم العلل أي لا تمتنعون من الإتيان لعلة من العلل إلا علة الإحاطة بكم، وتقول العرب أحيط بفلان إذا هلك أو أشفى على الهلاك. وعبارة أبي حيان: «وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله لتأتنني وإن كان مثبتا معنى النفي لأن المعنى لا تستنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم أنشدك الله إلا فعلت أي ما أنشدك إلا الفعل ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدرا بالمصدر الواقع حالا وإن كان صريح المصدر قد يقع حالا فيكون التقدير لتأتنني به على كل حال إلا إحاطة بكم أي محاطا بكم لأنهم نصّوا على أن «أن» الناصبة للفعل لا تقع حالا وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالا فإن جعلت أن والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان ويكون التقدير لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي وقت إحاطة، قلت منع ذلك ابن الانباري فقال ما معناه: يجوز خروجنا صياح الديك أي وقت صياح الديك ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك ولا ما يصيح الديك وإن كانت أن وما مصدريتين وإنما يقع ظرفا
19
المصدر المصرح بلفظه وأجاز ابن جني أن تقع ظرفا كما يقع صريح المصدر فأجاز في قول تأبط شرا:
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه لأول نصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وتالله ما إن شهلة أمّ واحد بأوجد مني أن يهان صغيرها
أن يكون أن يلاقى تقديره وقت لقائه الجمع وان يكون ان يهان تقديره وقت إهانة صغيرها فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية وتبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ولا يقدر فيه معنى النفي.
(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) الفاء عاطفة ولما تقدمت وآتوه فعل وفاعل ومفعول به أول وموثقهم مفعول به ثان والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) يا حرف نداء وبني منادى مضاف وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا ومن باب جار ومجرور متعلقان بتدخلوا وواحد صفة خشي عليهم أن يلفتوا الأنظار بدخولهم جملة واحدة فيعانوا أو يصيبهم سوء.
(وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن أبواب متعلقان بادخلوا ومتفرقة صفة وما أغني: ما نافية وأغني فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وعنكم متعلقان بأغنى ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا
20
أداة حصر ولله خبر وعليه جار ومجرور متعلقان بتوكلت وعليه عطف جملة على جملة وفليتوكل اللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمتوكلون فاعل.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٨ الى ٧٣]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
اللغة:
(الحاجة) الأرب واللبانة وهي ترجع في اشتقاقها الى فكرة واحدة هي الاقامة على الشيء والتشبث به ذلك أن صاحب الحاجة كلف بها
21
ملازم للفكر فيها مقيم على تنجزها والأصل في (الْحاجِّ) أنه شجر له شوك وما كانت هذه سبيله فهو متشبث بالأشياء كما يقول ابن جني في الخصائص، فأي شيء مر عليه اعتقله وتشبث به فسميت الحاجة به تشبيها بالشجرة ذات الشوك أي أنا مقيم عليها متمسّك بقضائها كهذه الشجرة في اجتذابها ما مرّ بها وقرب منها والحوجاء منها ومنها تصرف الفعل احتاج يحتاج احتياجا وأحوج يحوج وحاج يحوج فهو حائج.
والأرب من الأربة وهي العقدة وعقد مؤرّب: مشدد والحاجة معقودة بنفس الإنسان متردّدة على فكره، واللبانة من قولهم تلبّن بالمكان إذا أقام به ولزمه وهذا هو المعنى عينه.
وهذا بحث جليل يؤدي إذا تعورف الى معرفة معاني الكلمات وتصور مدلولاتها وقد ذكر الزجاج في أماليه عن ابن الاعرابي ان العشقة شجرة يقال لها اللبلابة تخضر ثم تدق ثم تصفر ومن ذلك اشتقاق العاشق. وفي اللغة: عشق به كفرح لصق به والعشق عشق المحب بمحبوبه أو هو افراط الحب وشدة التعلق به فأصل المعنى المادي ظاهر انقلب الى معنوي عريق الصلة بينه وبين المشتقات. وأورد الزجاج أيضا أن أصل المغازلة من الإدارة والفتل لأنه إدارة عن أمر ومنه سمي المغزل لاستدارته وسرعته في دورانه وسمي الغزال غزالا لسرعته وسميت الشمس غزالة لاستدارتها وسرعتها وأورد التعليل في الإدارة عن الأمر بقوله «ويقال غازل الكلب الظبي إذا عدا في أثره فلحقه وظفر به ثم عدل عنه، ومنه مغازلة النساء قال: كأنها يلاعبها الرجل فتطمعه في نفسها فإذا رام تقبيلها انصرفت» ثم ان الغزالة قد تكون مؤنث الغزال أيضا، وقد ورد في كلام العرب نظما ونثرا قديما وحديثا وأنكره الصفدي في شرح لامية العجم وقال: لم يسمع إلا بمعنى الشمس وقد
22
ردّه الدماميني وأورد له شواهد كثيرة ولولا صحته لم تقع التورية في مثل قول الشاعر في العقاب:
ترى الطير والوحش في كفها ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها إذا طلعت ما تسمت غزاله
والموغل في تتبع العلاقات القائمة بين المفردات يقع منها على مذهب طريف وسر عميق في نشأة اللغة وتشقق الكلام فيها، وفي هذا الكتاب يبدو لك العجب العجيب من هذه الأسرار.
(السِّقايَةَ) : مشربة يسقى بها وهي الصواع الآتي ذكره وكان يشرب فيه الملك فيسمى سقاية باعتبار أول حالة ثم صاعا باعتبار آخر أمره لأن الصاع آلة الكيل وقيل كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك وقيل هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر.
(رَحْلِ) الرحل بفتح الراء المشدّدة ما يجعل على ظهر البعير كالسرج والمراد به هنا مكان ركوبه.
(الْعِيرُ) بكسر العين: الإبل التي يحمل عليها لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وقيل: قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير والمراد أصحاب العير كما سيأتي في باب البلاغة.
(صُواعَ) : الصواع بضم الصاد المشددة والصّاع لغتان معنا هما واحد وهو المكيال وقد تقدم انه هو السقاية وانما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت.
23
(السَّارِقُ) : هو من يسرق المتاع من الأحراز وللعرب في لغتهم تفصيل حول السارقين فإذا كان يقطع الطريق على القوافل فهو لص وفرضوب فإذا كان يسرق الإبل فهو خارب أو الغنم فهو أحمص والحميصة الشاة المسروقة فإذا كان يسرق الدراهم بين أصابعه فهو قفاف فإذا كان يشق عنها الجيوب فهو طرّار فاذا كان تخصص بالتلصص والخبث والفسق فهو طمل فإذا كان يسرق ويزني ويؤذي الناس فهو داعر فاذا كان خبيثا منكرا فهو عفر وعفرية نفرية فاذا كان أخبث اللصوص فهو عمروط فاذا كان يدل اللصوص ويندس لهم فهو شص فإذا كان يأكل ويشرب معهم ويحفظ متاعهم ولا يسرق معهم فهو لفيف.
هذا واللص بتثليت اللام وفرق بعض اللغويين بينها فقال:
إغلاق باب ستر فعل لصّ... وسارق بالحركات لصّ
جمع الألصّ من رجال لصّ... منضم أضراس فكن ذا خبر
الإعراب:
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) لما ظرفية حينية أو رابطة ومن حرف جر وحيث ظرف مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بدخلوا والمعنى متفرقين وجملة أمرهم أبوهم مضافة للظرف. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الجملة جواب لما وقيل الجواب هو آوى اليه أخاه قال أبو البقاء وهو جواب لما الأولى والثانية، وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير التفرق المدلول عليه بالكلام السابق وعنهم متعلقان بيغني ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به. (إِلَّا حاجَةً فِي
24
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها)
استثناء منقطع على معنى ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهي حدبه عليهم وفي نفس صفة ويعقوب مضاف اليه وجملة قضاها صفة لحاجة. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو للحال وان واسمها واللام المزحلقة وذو علم خبر إن وجملة علمناه صلة ولكن الواو حالية أيضا ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبر. (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) تقدم اعرابها وأخاه مفعول آوى والجملة جواب لما الاولى والثانية. (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وأنا مبتدأ وأخوك خبر والجملة خبر ان والجملة مستأنفة وهكذا كل ما اقتضى جوابا وذكر جوابه ثم جاءت بعده قال فهي مستأنفة، وإلقاء الفصيحة ولا ناهية وتبتئس مضارع مجزوم بلا وبما متعلقان بتبتئس وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة للدلالة على رغبتهم الحثيثة بالسفر ولما ظرفية أو رابطة وجهزهم فعل وفاعل ومفعول به وبجهازهم جار ومجرور متعلقان بجهزهم وجملة جعل السقاية في رحل أخيه لا محل لها وفي رحل متعلقان بجعل. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وأذن مؤذن فعل وفاعل أي نادى مناد، وعطف بثم للاشارة إلى إمهال يوسف إياهم حتى انطلقوا وأيتها منادى محذوف منه حرف النداء وهو نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والعير بدل من أيتها وان واسمها واللام المزحلقة وسارقون خبرها.
(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ) الواو للحال بتقدير قد وعليهم متعلقان بأقبلوا وماذا اسم استفهام مفعول مقدم لتفقدون أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة تفقدون صلة وقد تقدم القول في ماذا. (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) جملة نفقد صواع الملك مقول
25
القول. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة جاء به صلة وحمل بعير مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وأنا مبتدأ وبه متعلقان بزعيم وزعيم أي كفيل خبر. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) التاء حرف جر وقسم ولله لفظ الجلالة مجرورة بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام واقعة في جواب القسم أو هو تأكيد للقسم الاول وقد حرف تحقيق وعلمتم فعل وفاعل وما نافية وجئنا فعل وفاعل ولنفسد اللام للتعليل والفاعل مستتر تقديره نحن وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بنفسد، وما كنا: ما نافية وكان واسمها وسارقين حبرها. وأقسموا بالتاء من حروف القسم لما فيها من معنى التعجب غالبا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر ولا تدخل التاء في القسم إلا على لفظ الله من بين أسمائه تعالى، لا تقول تالرحمن ولا تالرحيم ولكن حكي عن العرب دخولها على الرب وعلى الرحمن وعلى حياتك قالوا ترب الكعبة وتالرحمن وتحياتك.
البلاغة:
في قوله تعالى «أيتها العير انكم لسارقون» مجاز مرسل علاقته المجاورة والمراد أصحاب العير كما ورد في الحديث «يا خيل الله اركبي» وفي العير سؤال جرى في مجلس سيف الدولة بن حمدان وكان السائل ابن خالوية والمسئول المتنبي قال ابن خالوية: والبعير أيضا الحمار وهو صرف نادر ألقيته على المتنبي بين يدي سيف الدولة وكانت فيه خنزوانة وعنجهية فاضطرب فقلت المراد بالبعير في قوله تعالى «ولمن جاء به حمل بعير» الحمار وذلك أن يعقوب وأخوه يوسف عليهم السلام كانوا
26
بأرض كنعان وليس هناك إبل وانما كانوا يمتارون على الحمير وكذلك ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٧٤ الى ٨٠]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠)
27
اللغة:
(كِدْنا) : الكيد في الأصل الحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال وقد تقدم أن أمثال هذه الألفاظ الموهمة في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض لا على بداياتها فلكيد السعي في أمر الحيلة والخديعة ونهايته إيقاع الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له الى دفعه فالكيد بالنسبة لله تعالى محمول على هذا المعنى، وقال ابن الاعرابي: الكيد التدبير بالباطل وبالحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف. وعبارة ابن الخشاب: «ولكاد: استعمال آخر تكون فيه بمعنى أراد وعلى ذلك أنشد أبو الحسن «الأخفش» وغيره:
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من عصر الشبيبة ما مضى
وحسلوا عليه قوله سبحانه: «كذلك كدنا ليوسف» أي أردنا.
(اسْتَيْأَسُوا) : يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة نحو عجب واستعجب وسخر واستسخر.
(خَلَصُوا) : اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم أحد.
(نَجِيًّا) : النجي فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله تعالى: «وقربناه نجيا» أي مناجيا وهذا الاستعمال يفرد مطلقا يقال: هم خليطك وعشيرك أي مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه على صفة فعيل بمنزلة صديق وبابه فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والذميل وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل النجوى بمعناه.
28
الإعراب:
(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) الفاء الفصيحة وما اسم استفهام مبتدأ وجزاؤه خبر والضمير للصواع أي فما جزاء سرقته أو الضمير للسارق وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكاذبين خبر كان وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي فما جزاء سرقة الصواع أو السارق. (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) جزاؤه مبتدأ ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ووجد صلة أو فعل الشرط وفي رحله متعلقان بوجد والفاء رابطة على الوجهين وهو مبتدأ وجزاؤه خبر وجملة فهو جزاؤه خبر من، ومن وما في حيزها خبر المبتدأ الأول والضمير على هذا الإعراب يعود على السارق ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والهاء تعود على المسروق ومن وجد في رحله خبره ومن بمعنى الذي والتقدير وجزاء الصواع الذي وجد في رحله، ويجوز أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه أي استرقاقه جزاؤه وكانت تلك شريعة آل يعقوب. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي نجزي الظالمين جزاء كذلك الجزاء والظالمين مفعول به أي فهو كذلك في شريعتنا المقررة بيننا. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة وبدأ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبأوعيتهم جار ومجرور متعلقان ببدأ وقبل ظرف زمان متعلق بمحذوف حال ووعاء أخيه مضافان وثم حرف عطف واستخرجها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والهاء تعود على الصواع لأن فيه التذكير والتأنيث أو على السقاية لأن الصواع يحمل معناها ومن وعاء أخيه متعلقان باستخرجها. (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف فالكاف نعت لمصدر محذوف كما تقدم وليوسف متعلقان
29
بكدنا. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر واللام للجحود ويأخذ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود واللام ومجرورها في موضع الخبر وأخاه مفعول به وفي دين الملك حال. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الاستثناء منقطع إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد بقوله إلا أن يشاء الله لأنه أخذه بشريعة يعقوب أو الاستثناء متصل من أعم الأحوال أي إلا حال مشيئته واذنه بذلك وإرادته له وجملة ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له وعلى كل لا محل لها. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) درجات منصوب على الظرفية ومن مفعول به وجملة نشاء صلة وفوق الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكل ذي علم مضافان وعليم مبتدأ مؤخر. (قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) إن شرطية ويسرق فعل الشرط والفاء رابطة لاقتران الجواب بقد وسرق أخ فعل وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط وله صفة ومن قبل حال، قالوا ذلك متنصلين من التهمة التي ثبتت عليهم مبرئين لساحتهم يعنون ان هذه الفعلة ليست ببعيدة من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا ونحن لسنا على طريقتهما لأنهما من أم أخرى ويروي المؤرخون أن يوسف كان قد سرق لأبي أمه صنما مما استفاض ذكره في المطولات والأولى ما حكاه الزجاج أنه قال: «كذبوا عليه فيما نسبوه اليه» ونقول ما هذه الكذبة بأول كذباتهم. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) الفاء عاطفة وأسرها فعل ومفعول به والهاء تعود للكلمة الآتية وهي أنتم شر مكانا فهو إضمار على شريطة التفسير ويوسف فاعل وفي نفسه متعلقان بأسرها ولم يبدها عطف على أسرها ولهم متعلقان بيبدها. (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أنتم مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وجملة أنتم شر مكانا بدل من الهاء
30
ويجوز أن يعود الضمير أي الهاء على الحجة فيكون المعنى فأسر يوسف في نفسه الحجة عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم وقال أنتم شر مكانا، والله مبتدأ وأعلم خبره وبما متعلقان بأعلم وجملة تصفون صلة. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والعزيز بدل وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وشيخا اسمها المؤخر وكبيرا صفة. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الفاء
الفصيحة وخذ فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وأحدنا مفعول به ومكانه ظرف مكان متعلق بخذ وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلق بنراك على أنه مفعول ثان. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) معاذ الله نصب على المصدر بفعل محذوف أي نعوذ بالله معاذا وأن نأخذ أن وما في حيزه منصوب بنزع الخافض متعلق بنعوذ وإلا أداة حصر ومن مفعول نأخذ وجملة وجدنا صلة ومتاعنا مفعول وجدنا وعنده متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لوجدنا أي كائنا عنده. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) ان واسمها واذن جواب وجزاء واللام المزحلقة وظالمون خبر إنا. (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واستيئسوا فعل وفاعل ومنه متعلقان باستيأسوا وخلصوا فعل وفاعل ونجيا حال من فاعل خلصوا أي اعتزلوا هذه الحالة متناجين وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع لأن النجي يفرد مطلقا كما تقدم في باب اللغة. (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تعلموا وان واسمها وجملة قد أخذ خبر وعليكم متعلقان بأخذ وموثقا مفعول به ومن الله صفة لموثقا.
(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) في اعراب هذا الكلام وجوه أظهرها
31
أن من قبل خبر مقدم وبني قبل على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى أي ومن قبل هذا، وما مصدرية وهي مع مدخولها مبتدأ مؤخر ومعناه ووقع من قبل هذا تفريطكم وفي يوسف متعلقان بفرطتم.
ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى ومن قبل هذا الذي فرطتموه في يوسف من الجناية العظيمة ومحل الموصول الرفع على الابتداء أيضا ويجوز أن تكون ما صلة أي زائدة لتحسين اللفظ فمن متعلقة بالفعل وهو فرطتم وقد رجح أبو حيان هذا الوجه. قال ابن هشام: «وقوله تعالى: ومن قبل ما فرطتم في يوسف ما إما زائدة فمن متعلقة بفرطتم وإما مصدرية فقيل هي وصلتها رفع بالابتداء وخبره من قبل وردّ بأن الغايات لا تقع أخبارا ولا صلات ولا صفات ولا أحوالا نصّ على ذلك سيبويه وجماعة من المحققين ويشكل عليهم: كيف كان عاقبة الذين من قبل وقيل نصب عطفا على ان وصلتها أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق وتفريطكم ويلزم على هذا الإعراب الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وهو ممتع».
هذا ما قاله ابن هشام وهو جميل غير أنّا لا نسلم به بأن الفصل ممنوع كما ذكر بل هو جائز كما ذكره ابن مالك وتمسك بعضهم لجوازه بقوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» وأجاب ابن هشام عن هذا الاعتراض في حواشي التسهيل بأن التقدير ويأمركم إذا حكمتم فهو عطف جمل.
والواو في قوله ومن قبل للحال على كل حال فالمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله والحال انكم فرطتم في يوسف من قبل.
32
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) الفاء عاطفة على مقدر أي سأبقى في مصر ولن أبرحها، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأبرح فعل مضارع منصوب بلن ومعناه أفارق فهي تامة وفاعل أبرح مستتر تقديره أنا والأرض مفعول به وحتى يأذن حرف غاية وجر ويأذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولي متعلقان بيأذن وأبي فاعل.
(أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أو حرف عطف ويحكم معطوف على يأذن ويجوز أن ينصب بأن مضمرة في جواب النفي والله فاعل ولي متعلقان بيحكم وهو مبتدأ وخير الحاكمين خبر.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨١ الى ٨٦]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥)
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦)
33
اللغة:
(كَظِيمٌ) : أي مكظوم ممتلىء من الحزن ممسك عليه لا يبثّه قال قتادة: هو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا وفي المصباح:
«كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ» وقال الزمخشري: «فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله: وهو مكظوم من كظم السقاء إذا شده على ملئه والكظم بفتح الظاء مخرج النفس يقال: أخذ بأكظامه» وأصل هذه المادة كما تقول معاجم اللغة من كظم البعير جرّته از دردها وكفّ عن الاجترار وباتت الإبل كظوما وكواظم وحفروا كظامة وكظيمة وكظائم وفي الحديث:
«أتى كظامة قوم فتوضأ» وهي الفقير يحفر من بئر الى بئر والسقاية والحوض قال طرفة:
يشربن من فضلة العقار كما استوجر ماء الكظيمة الشرب جمع شروب ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ وهو كاظم وكظمه الغيظ والغمّ: أخذ بنفسه فهو كظيم ومكظوم.
(حَرَضاً) : في المصباح: «حرض حرضا من باب تعب أشرف على الهلاك فهو حرض» ويستوي فيه الواحد وغيره أي المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث.
الإعراب:
(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ارجعوا فعل أمر وفاعل والى أبيكم متعلقان بارجعوا، فقولوا عطف على ارجعوا
34
ويا أبانا منادى مضاف وان واسمها وجملة سرق خبرها. (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) الواو حرف عطف وما نافية وشهدنا فعل وفاعل وإلا أداة حصر وبما متعلقان بشهدنا وجملة علمنا صلة وما عطف أيضا وما نافية وكان واسمها وللغيب متعلقان بحافظين وحافظين خبر كنا. (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والقرية مفعول به وسؤال القرية يعني سؤال أهلها كما يأتي في باب البلاغة والتي صفة وجملة كنا صلة وكان واسمها وفيها خبرها. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) والعير عطف على القرية والتي صفة وجملة أقبلنا صلة وفيها متعلقان بأقبلنا وإنا عطف وان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبرها.
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) قال مرتب على محذوف أي فرجعوا فقال، وبل حرف إضراب وسولت فعل ماض والتاء للتأنيث ولكم جار ومجرور متعلقان بسولت وأنفسكم فاعل وأمرا مفعول به. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وصبر خبر لمبتدأ محذوف أي صبري وجميل نعت وعسى من أفعال الرجاء والله اسمها وان وما في حيزها خبرها وبهم متعلقان بيأتيني وجمع لأن المفقودين صاروا ثلاثة وهم يوسف وبنيامين وكبير الأخوة الذي آثر الاقامة بمصر وجميعا حال وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبر لأن أو للضمير والجملة خبر إن. (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وتولى الواو عاطفة وتولى فعل ماض أي أعرض عنهم وعنهم متعلقان بتولي وقال عطف على تولى ويا حرف نداء وأسفا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا والأصل يا أسفي وقد تقدم بحث المنادى المضاف لياء المتكلم وعلى يوسف متعلقان بالأسف وخص يوسف بالذكر للدلالة على تمادي الأسف عليه وان الرزء به كان
35
ولا يزال غضا طريا وان رزأه بأخويه جدد حزنه عليه لأنه قاعدة أحزانه ومصائبه على حد قول ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط:
أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزند
ولعل ابن الرومي رمق هذه البلاغة العالية.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وابيضت عيناه فعل وفاعل وإذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته الى بياض ومن الحزن جار ومجرور متعلقان بابيضت، فهو الفاء عاطفة وهو مبتدأ وكظيم خبره. (قالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) قالوا فعل وفاعل والتاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وتفتأ أي لا تفتأ من أخوات كان واسمها مستتر تقديره أنت وجملة تذكر خبرها ويوسف مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتكون منصوب بأن مضمرة بعد حتى وحرضا خبر تكون واسم تكون مستتر تقديره أنت وأو حرف عطف وتكون فعل مضارع ناقص واسمها أنت ومن الهالكين خبرها.
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
إنما كافة ومكفوفة وأشكو بثي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، وحزني عطف على بثي والى الله متعلقان بأشكو، والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على اخفائها كذا قال أهل اللغة وهو مأخوذ من بثثته أي فرقته فسميت المصيبة بثا مجازا قال ذو الرمة:
36
َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
وأعلم عطف على أشكو، ومن الله متعلقان بأعلم، أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به، وما مفعول به وجملة لا تعلمون صلة.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «واسأل القرية» مجاز مرسل إذ المراد أهلها والعلاقة المحلية وقد تقدمت نظائر كثيرة لهذا المجاز وأراد بالقرية مصر أي أرسل الى أهلها فاسألهم عن تفاصيل هذه القصة وكذلك قوله «والعير التي أقبلنا فيها» أي أصحاب العير.
٢- في قوله «تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا» فن أصيل في البلاغة وهو ما يسمّى «ائتلاف اللفظ مع المعنى» وهو نسمة الحياة في الفن، وعموده الذي يقوم عليه ويتلخص بأن تكون ألفاظ المعنى المراد متلائمة بعضها مع بعض ليس فيها لفظة نابية أو قلقة عن أخواتها بحيث يمكن استبدالها ولا بد من ملاحظة أشياء ثلاثة في هذا الصدد وهي:
آ- اختيار الألفاظ المفردة وحكم ذلك حكم اللآلئ المبدّدة فانها تتخير وتنتقى قبل النظم.
ب- نظم كل كلمة مع أختها المشكلة لها.
ج- الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه وهذا الموضع جم الشعاب دقيق المسلك يضل عنه الكثيرون إلا من أشرقت نفوسهم بضياء المعرفة واليقين وسنورد أمثلة منه قبل أن تتناول الآية
37
فمن ذلك قوله تعالى: «وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقوله تعالى «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى واستعمل البطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا ولو استعمل هذه موضع تلك لكان الكلام نافرا قلقا وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة:
وقفت على ربع لميّة ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكمني أحجاره وملاعبه
نحن بنو الموت إذا الموت نزل لا عار بالموت إذا حم الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل وقال أبو الطيب المتنبي:
إذا شئت حفت بي على كل سابح رجال كأن الموت في فمها شهد
فهاتان لفظتان هما العسل والشهد وكلاهما حسن مستعمل لا يشك في حسنه واستعماله وقد وردت لفظة العسل في القرآن دون لفظة الشهد لأنها أحسن منها ومع هذا فإن لفظة الشهد وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج.
ويجمل بنا لإيضاح هذا الفن واظهار خصائصه الرفيعة اقتباس فصل ممتع لابن الأثير في كتابه «المثل السائر» قال: «وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال: كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب ولا يجاب بجواب بل
38
يترك وشأنه كما قيل: اتركوا الجاهل ولو ألقي الجعر في رحله وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بن صورة زنجية سوداء مظلمة السواد، سوهاء الخلق، ذات عين محمرة، وشفة غليظة كأنها كلوة، وشعر قطط كأنه زبيبة وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خدّ أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرّة كأنها ليل على صباح، فإذا كان انسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام».
أقسام الألفاظ: والواقع أن الألفاظ تنقسم في الاستعمال الى جزلة ورقيقة ولكل منها مواضع يحسن استعمالها فيه فالجزل يستعمل في مواقف الشدة وقوارع التهديد والتخويف، والرقيق يستعمل في وصف نباريح الأشواق، ولوعة الفراق، والآية التي نحن بصددها من أروع الأمثلة على ذلك فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة الى أخواتها وهي التاء لأن الواو والباء أكثر دورانا على الألسنة منها أتى سبحانه بأغرب صيغ الأفعال الناقصة التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة الى أخواتها وهي تفتأ وحذف منها حرف النفي زيادة في الاغراب ولأن المقام لا يلتبث بالاثبات على حد قول امرئ القيس:
فقلت:
يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وكذلك لفظ «حرضا» أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن النظم وحسن الوضع فيه أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة والاستعمال توخيا لحسن الجوار ورغبة في
39
ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم وسيأتي المزيد من هذه الملاءمة فيما يأتي.
٣- الجناس: وهو اشتراك اللفظتين في الاشتقاق وقد وقع جميلا جدا في قوله: «يا أسفا على يوسف».
الفوائد:
١- اشترط النحاة في اعمال زال ماضي يزال لا يزول، وفتئ، وبرح، وانفك،
أن يتقدمها نفي أو نهي أو دعاء ب «لا» خاصة في الماضي أو بلن في المضارع، وانما اشترطوا فيها ذلك لأنها بمعنى النفي فإذا دخل عليها النفي انقلبت اثباتا فمعنى ما زال زيد قائما هو قائم فيما مضى وقد يحذف حرف النفي كما تقدم في الاعراب وكالآية الكريمة «تالله تفتأ تذكر يوسف» على أن حذف النافي لا ينقاس إلا بثلاثة شروط وهي كونه مضارعا وكونه جواب قسم وكون النافي «لا» ومن أمثلة النفي بعد الاسم قوله:
غير منفك أسير هوى... كل وان ليس يعتبر
ومن أمثلة النفي بالفعل الموضوع للنفي قوله:
ليس ينفك ذا غنى واعتزاز... كل ذي عفة مقل قنوع
ومن أمثلة النفي بالفعل العارض للنفي قوله:
قلما يبرح اللبيب الى ما... يورث الحمد داعيا أو مجيبا
40
فإن قلما خلع منه معنى التقليل وصير بمعنى ما النافية.
ومن أمثلة النفي بالفعل المستلزم للنفي قولهم: أبيت أزال استغفر الله أي لا أزال ووجهه أن من أبى شيئا لم يفعله والإباء مستلزم للنفي.
ومثال النهي قوله:
صاح شمر ولا تزل ذاكر المو ت فنسيانه ضلال مبين
ومثال الدعاء قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلّا بجرعائك القطر
٢- لمحة عن فعل الأمر:
الأمر ينقسم الى قسمين: لغوي وهو طلب إيجاد الفاعل من الفعل في الخارج على سبيل الاستعلاء وقيل اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء والمراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأنه الأمر في الحقيقة وتسمية الصيغة به مجاز وقيل غير كف ليقع الاحتراز من النهي على جهة الاستعلاء ليقع الاحتراز من الدعاء وأورد على طرده كف لأنه اقتضاء فعل غير كف فلا يكون هذا أمرا لكنه أمر فلا يكون مطردا وعلى عكسه لا تكف لأنه اقتضاء فعل غير كف فيكون أمرا لكنه ليس بأمر فلا يكون منعكسا. وصناعي وهو ما حصل به ذلك أي طلب إيجاد الفعل والذي حصل به ذلك هو الصيغة التي يطلب بها الفعل من الفاعل وفعل الأمر بني على السكون لأنه. الأصل في البناء وصيغته
41
مأخوذة من المضارع فإذا أردت أن تصوغ فعل أمر حذفت حرف المضارعة ونظرت الى ما يليه فإن كان متحركا صغت مثال الأمر على صيغته وحركته فتقول مثلا من يشمر شمر ومن يدحرج دحرج ومن يثب ثب ومن يصل صل وإن كان الذي يلي حرف المضارعة ساكنا اجتلبت له همزة وصل ليتوصل الى النطق بأول الفعل ساكنا فتقول مثلا من يضرب اضرب ومن مثل ينطلق انطلق ومن مثل يستخرج استخرج لأن الابتداء بالساكن في النطق مستحيل. وما أحسن قول السراج الوراق:
يا ساكنا قلبي ذكرتك قبله أرأيت قبلي من بدا بالساكن
وجعلته وقفا عليك وقد غدا متحركا بخلاف قلب الآمن
وبذا جرى الاعراب في نحو الهوى فإليك معذرتي فلست بلاحن
وسواء كان الفعل ثلاثيا أو خماسيا أو سداسيا، وشذ من هذه القاعدة فعلان فلا تدخل عليهما همزة وهما خذ وكل وجوز في فعلين إلحاق الهمزة وحذفها وهما مر وسل وقد نطق القرآن بهما فقال تعالى:
«سل بني إسرائيل» «واسأل القرية» وتقول: مره بكذا وأمره بكذا، فأما حركة الهمزة المجتلبة فإن كان الماضي رباعيا فانها مفتوحة في الأمر، تقول من أكرم: أكرم، وإذا كان ثالث المضارع مضموما فانها مضمومة في الأمر، تقول في الأمر من قتل: اقتل، وما عدا ذلك فهي مكسورة.
42
٣- الكلام على «بل» :
بل: حرف عطف للاضراب عن الأول واثبات الحكم للثاني سواء كان ذلك الحكم إيجابا أو سلبا واعلم أن للاضراب معنيين أحدهما ابطال الأول والرجوع عنه إما لغلط أو نسيان تقول في الإيجاب: قام زيد بل عمرو وتقول في النفي: ما قام زيد بل عمرو كأنك أردت الإخبار عن عمرو فغلطت وسبق لسانك الى ذكر زيد فأتيت ببل مضربا عن زيد ومثبتا ذلك الحكم لعمرو والآخر ابطاله لانتهاء مدة ذلك الحكم وعلى ذلك يأتي في الكتاب العزيز نحو قوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل» كأنه انتهت القصة الأولى فأخذ في قصة أخرى وكذلك قوله: «أتأتون الذكران من العالمين» ثم قال: «بل أنتم قوم عادون» ولم يرد أن الأول لم يكن، ومما ورد في ذلك شعرا قول رؤبة ابن العجاج:
قلت لزير لم تصله مريمه هل تعرف الربع المحيل ارسمه
عفت عوافيه وطال قدمه بل بلد ملء الفجاج قتمه
والزير بكسر الزاي الرجل الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر أو به ومريم أي سميرته وفي القاموس: المريم التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر قال الشاعر: فقلت لها: أهلا وسهلا أمريم؟... فقالت: نعم من أنت؟ قلت لها: زير
43

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٧ الى ٩٢]

يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١)
قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)
اللغة:
(فَتَحَسَّسُوا) : التحسّس: طلب الخير بالحاسة وهو قريب من التجسّس الذي بالجيم وقيل: ان التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس ولهذه المادة خواص عجيبة فهي تتناول جميع خوالج الناس وهواجس نفوسهم، وتشير إلى احداث التأثير في الأشياء يقال:
44
حسه يحسه من باب نصر قتله واستأصله، وحسّ الدابة نفض التراب عنها بالمحسة، وحسّ البرد الزرع أحرقه، وحسّ اللحم جعله على الجمر، وحسن النار ردّها على خبز الملة والشواء من نواحيه لينضج، وحس يحس حسا من باب تعب الشيء وبالشيء علمه وشعر به وأدركه، وحس يحس من بابي تعب وجلس بالخير أيقن به، وحس لفلان رق له، وتحسّس تسمع وتبصّر، وتحسّس الخبر سعى في إدراكه، وتحسّس الشيء تعرّفه وتطلّبه بالحاسة، وتحسّس منه تخبر خبره، والحاسة مؤنث الحاس والقوة النفسانية المدركة، والحواس الخمس هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وحواسّ الأرض خمس وهي البرد والبرد والريح والجراد والمواشي أخذت من حسّ الزرع يقال مرت بالقوم حواسّ أي سنون شداد، والحسيس الصوت الخفي والحركة والقتيل، وحساس الحمى بالكسر مسها وأول ما يبدأ منها، والحسي ما يدرك بالحس الظاهر وضده العقلي، أما مادة جس فتشابهها مشابهة غريبة يقال جسّه يجسه من باب نصر، واجتسّه مسه بيده ليتعرفه، وجسّ الأرض وطئها، وجسه بعينه أحدّ النظر اليه ليتبينه، وجسّ وتجسّس واجتسّ الأخبار والأمور بحث عنها، والجاس وجمعه جواسيس، والجسّاس الذي يأتي بالأخبار، وجواسّ الإنسان هي حواسه الخمس والواحدة جاسة، والمجسّ والمجسّة موضع اللمس قال دوقلة:
ولها هن بض ملاذهن... رابي المجسّة حشوه وقد
وفلان ضيق المجسّ والمجسّة أي غير رحب الصدر والمجسة أيضا هي الموضع الذي يجسه الطبيب.
45
(مُزْجاةٍ) : أي بضاعة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب. وفي المصباح: زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب تسوقه سوقا رفيقا. يقال أزجاه بوزن أرضاه وزجاه بالتثقيل كزكاه، وفي القاموس: زجاه ساقه ودفعه.
(تَثْرِيبَ) : عتب، وفي المصباح: ثرب عليه يثرب من باب ضرب عتب ولام، وبالمضارع بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة النبي ﷺ فسميت المدينة باسمه، وقاله السهيلي وثرّب بالتشديد مبالغة وتكثير ومنه قوله تعالى «لا تثريب عليكم اليوم» والثرب وزان فلس شحم رقيق على الكرش والأمعاء.
وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم. وقال الزمخشري:
«وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه».
الإعراب:
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) يا بني تقدم اعرابها واذهبوا فعل أمر وفاعل والفاء عاطفة وتحسسوا فعل أمر وفاعل ومن يوسف متعلقان بتحسسوا وأخيه عطف على يوسف. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتيئسوا مجزوم بلا والواو فاعل ومن روح الله جار ومجرور متعلقان به وسيأتي بحث هذه الاستعارة في باب البلاغة. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)
46
ان واسمها وجملة لا ييئس خبرها ومن روح الله متعلقان بييئس وإلا أداة حصر والقوم فاعل والكافرون صفة. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما.. إلخ، والفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ودخلوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بدخلوا. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) جملة قالوا لا محل لها ويا أيها العزيز نداء تقدم إعرابه والعزيز بدل من أي، ومسنا فعل ومفعول به وأهلنا عطف على نا أو مفعول معه والضر فاعل. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وببضاعة متعلقان بجئنا ومزجاة صفة، فأوف الفاء عاطفة وأوف فعل أمر ولنا متعلقان بأوف والكيل مفعول به. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) وتصدق عطف على فأوف وعلينا متعلقان بتصدق وان واسمها وجملة يجزي خبرها والمتصدقين مفعول به. (قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) هل حرف استفهام وعلمتم فعل وفاعل وما اسم موصول مفعول به ويجوز أن تكون مصدرية أي فعلكم بيوسف والجار والمجرور متعلقان بفعلتم وأخيه عطف على يوسف وإذ ظرف متعلق بفعلتم أي فعلتم ذلك وقت جهلكم وأنتم مبتدأ وجاهلون خبر والجملة الاسمية مضاف إليها الظرف، والاستفهام يفيد التعظيم والتهويل أي ان الأمر الذي ارتكبتموه كان بمثابة لا يقدم عليه فيها أحد ولكنكم أقدمتم غير آبهين للعواقب ولا عارفين بما يئول اليه أمر يوسف من الخلاص من الجب ثم ولاية الملك وسيأتي نص كتاب يعقوب الذي قدموه إليه في باب الفوائد. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قالوا فعل وفاعل، أإنك الهمزة للاستفهام التقريري وان واسمها واللام المزحلقة وأنت مبتدأ ويوسف خبر والجملة خبر ان ويجوز أن يكون الضمير وهو أنت فصلا وقد تقدم. (قالَ: أَنَا
47
يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا)
أنا مبتدأ ويوسف خبر وأظهر الاسم فقال أنا يوسف تعظيما لما وقع به من ظلم أخوته كأنه قال:
انا المظلوم المستحلّ منه المحرّم المراد قتله، وهذا مبتدأ وأخي خبر وقد حرف تحقيق ومنّ فعل ماض والله فاعل وعلينا متعلقان بمنّ والجملة حالية (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ان واسمها وهو ضمير الشأن والحال ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة ويصبر عطف عليه، فإنه: الفاء رابطة للجواب وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به وجملة الشرط وجوابه خبر ان.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) التاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بها والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام جواب القسم وقد حرف تحقيق وآثرك الله فعل ومفعول به وفاعل وعلينا متعلقان بآثرك. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) الواو عاطفة وان مخففة من لثقيلة مهملة وكان واسمها واللام الفارقة وخاطئين خبر كنا. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) جملة لا تثريب مقول القول ولا نافية للجنس وتثريب اسمها وعليكم خبرها واليوم ظرف متعلق بمحذوف خبر ثان أو بمتعلق الخبر وهو عليكم وعلى كل فالوقف عليه ولا يجوز تعليق الظرف بالمصدر وهو التثريب لأنه يصير شبيها بالمضاف ومتى كان كذلك أعرب ونون نحو لا خيرا من زيد عندك، والعجب من الزمخشري إذ أجاز تعليق الظرف بالتثريب وهي زلة لا أدري كيف وقع فهيا؟ ومن جهة ثانية فصل بينه وبين معموله على حد قوله بقوله «عليكم» ويجوز تعليق الظرف بالفعل الذي بعده. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) جملة دعائية بمثابة التعليل ويغفر الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيغفر وهو مبتدأ وأرحم الراحمين خبر.
48
البلاغة:
استعارة الروح للرحمة وإيضاحه ان الروح مصدر بمعنى الرحمة وأصله استراحة القلب من غمه، والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله.
الفوائد:
روى التاريخ أن اخوة يوسف لما قالوا ليوسف «مسنا وأهلنا الضر» وتضرعوا اليه ارفضت عيناه وقيل أدوا اليه كتاب يعقوب اليه وهذا نصه نثبته لما فيه من عاطفة مضطرمة واحساس فياض:
من يعقوب إسرائيل الله بن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله الى عزيز مصر، أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي الى النار ليحرق فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأما أبي فوضعت المدية في قفاه ليذبح ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إلي فذهب به اخوته الى البرية ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا فقالوا انه سرق وانك حبسته وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تبلغ السابع من ولدك والسلام.
فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتماسك وعيل صبره، وعلى افتراض عدم صحة هذا الكتاب فنفحة العاطفة تدعو لاثباته.
49

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٩٣ الى ١٠١]

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
50
اللغة:
(فَصَلَتِ الْعِيرُ) : خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وفي المختار: وفصل من الناحية خرج وبابه جلس، وللفاء والصاد فاء وعينا للكلمة سر غريب: إنهما تدلان على الخروج والمزايلة يقال: فصّ من كذا فصّا وافتصّ كذا من كذا انتزعه وافترزه وبابه ضرب وفصّ الجرح يفص من باب ضرب أيضا سال بما فيه وفصّ العرق رشح وفصّ الولد بكى وفصصت الشيء من الشيء فانفصّ أي فصلته فانفصل وفصح يفصح من باب فتح الصبح فلانا بان له وغلبه ضوءه وفصح يفصح فصاحة من باب ظرف جادت لغته وحسن منطقه فهو فصيح والفصاحة مصدر والبيان وخلوص الكلام من التعقيد ويوصف بها المتكلم والكلام والكلمة وفضح يفضح من باب فتح فضحا عن الأمر تغابى عنه وهو يعلمه فكأنه خرج عن عهدته وألقى عنه تبعاته، وفصد يفصد من باب ضرب فصدا المريض شق عرقه وفصد له عطاء قطعه له وافتصد العرق شقه وفي المثل «لم يحرم من فصد له» أي لم يخب من نال بعض حاجته وفصع التمرة يفصعها من باب فتح عصرها بإصبعيه حتى تنقشر وفصع عمامته عن رأسه حسرها وفصع الشيء دلكه بإصبعيه ليلين فينفتح عما فيه وفصم يفصم فصما من باب ضرب الدملج ونحوه كسره من غير أن تنفرق كسره وفصم الشيء قطعه وفصم البيت بالبناء للمجهول انهدم وكانت عروة قد فصمت وفصى يفصي من باب ضرب الشيء فصيا نزعه وأزاله وفصّى اللحم من أو عن العظم تفصية خلصه منه وأبانه عنه وتفصى الرجل من الديون خرج منها. وهذا من الأسرار التي تميزت بها لغتنا الشريفة.
51
(تُفَنِّدُونِ) : التفنيد النسبة الى الفند وهو الخرف وانكار العقل من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها، وفي المختار الفند بفتحتين الكذب وهو أيضا ضعف الرأي من الهرم والفعل منه أفند والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وفي القاموس: الفند بالتحريك الخرق وانكار العقل لهرم أو مرض والخطأ في القول والرأي والكذب كالافناد ولا تقل عجوز مفندة لانها لم تكن ذات رأي أبدا وقال دعبل:
وزائرة ليلا كما لاح بارق تضوّع منها للكباء عبير
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم اني لم أقل فندا
إني لأغمض عيني ثم أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا
(الْبَدْوِ) : البادية والبدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر، والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية، وفي القاموس والتاج: البدو والبادية والبداوة الصحراء والجمع باديات وبواد والبدو أيضا سكان البادية من القبائل العربية الرحّل وهم ينقسمون الى عدة قبائل والنسبة الى البدو بدوي بسكون الدال وبدوي بفتحها والأنثى بدوية والجمع بداويّ وفي الأساس: «لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا، وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري، ويقال:
أين الناس؟ فتقول قد بدوا أي خرجوا الى البدو، وكانت لهم غنيمات يبدون إليها. وقال الأصمعي: الحضارة والبداوة بالفتح وقال أبو زيد: بالكسر والحضارة الإقامة في الحضر والبداوة الإقامة في البدو وللمتنبي مقايسة بين الحضارة والبداوة جميلة نثبتها فيما يلي:
52
كم زورة لك في الاعراب خافية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها وخالقوها بتقويض وتطنيب
يقول في هذا البيت واصفا حياة البدو: انهم يسكنون البدو فهم يجرون مجرى الوحوش في حلولها المراتع إلا أنهم لهم خيام يحطونها وينصبونها في الرحيل وفي الاقامة والوحش لا خيام لها فقد خالفوها في هذا ثم استرسل في وصفه:
53
ما أوجه الحضر المستحسنات به كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة أوراكهنّ صقيلات العراقيب
يريد بظباء الفلاة نساء العرب وانهن فصيحات لا يمضغن الكلام ولا يصبغن حواجبهن كعادة نساء الحضر وهو يريد أن حسنهن بغير تطرية ولا تصنع ولا دخول حمام بل هو خلقة فيهن.
(نَزَغَ) : أفسد بيننا وأغرى وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه وفي المختار: نزغ الشيطان بينهم أفسد وبابه قطع.
الإعراب:
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) لا بد من تقدير محذوف يمهد لقوله وذلك انه سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال اذهبوا بقميصي، واذهبوا فعل أمر وفاعل وبقميصي يجوز أن يتعلق باذهبوا فتكون الباء للتعدية ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف حال أي اذهبوا معكم قميصي وهذا نعت أو بدل أو عطف بيان، فألقوه الفاء عاطفة وألقوه فعل وفاعل ومفعول به وعلى وجه أبي متعلقان بألقوه ويأت فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره هو وبصيرا حال واختار الزمخشري أن يكون خبرا ليأت على تضمينه معنى يصر بصيرا ويشهد له: فارتد بصيرا. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) وائتوني عطف على اذهبوا وبأهلكم متعلقان بائتوني وأجمعين تأكيد للأهل أي بنسائكم وأولادكم. (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما ظرفية أو رابطة وفصلت العير فعل وفاعل وان
54
واسمها واللام المزحلقة وجملة أجد خبر إن وريح يوسف مفعول به ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف وحذفت ياء المتكلم من تفندون للتخفيف ولمراعاة الفواصل أما تقدير الخبر لولا تفنيدكم موجود وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني. (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) التاء تاء القسم والله ومجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وفي ضلالك خبر ان والقديم صفة. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) لما ظرفية حينية أو رابطة وان زائدة وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد وجاء البشير فعل وفاعل وجملة ألقاه لا محل لها والهاء مفعول به وعلى وجهه متعلقان بألقاه، فارتد الفاء عاطفة وارتد فعل ماض فاعله هو وبصيرا حال، أو ارتد فعل ماض ناقص يعمل عمل صار وبصيرا خبرها. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأقل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنا ولكم متعلقان بأقل وان واسمها وجملة أعلم خبرها ومن الله جار ومجرور متعلقان بأعلم وما موصول مفعول به وجملة لا تعلمون صلة. (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) يا أبانا منادى مضاف واستغفر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولنا متعلقان باستغفر وذنوبنا مفعول به وإن واسمها وجملة كنا خاطئين خبر إنا وكان واسمها وخاطئين خبرها. (قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة سوف أستغفر مقول القول ولكم متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والغفور الرحيم خبران لإن أو لهم والجملة الاسمية خبر ان. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) عطف على محذوف تقديره ثم توجهوا إلى مصر وخرج يوسف وحاشيته لاستقبالهم، ودخلوا فعل وفاعل وعلى
55
يوسف متعلقان بدخلوا وجملة آوى لا محل لها واليه متعلقان بآوى وأبويه مفعول به والظاهر أن دخولهم عليه كان في مضرب له في ضاحية البلد ولذلك عطف. (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وادخلوا مصر فعل وفاعل ومفعول به وإن شرطية وشاء فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة الكلام عليه وجملة الشرط اعتراضية بين الحال وصاحبها فآمنين حال من الواو. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ورفع أبويه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعلى العرش متعلقان برفع وخروا فعل وفاعل وله متعلقان بخروا وسجدا حال. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يا أبت تقدم اعرابها وهذا مبتدأ وتأويل خبر ورؤياي مضاف اليه ومن قبل حال. (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) قد حرف تحقيق وجعلها ربي فعل وفاعل وحقا مفعول ثان والجملة حال مقدرة أو مقارنة. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وأحسن فعل ماض وبي متعلقان بأحسن وأحسن أصله أن يتعدى بإلى وقد يتعدى بالباء كما يقال أساء اليه وبه قال
كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لعزة من أعراضنا ما استحلت
قال ابن هشام معناها الغاية أي إليّ وقيل ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء كما تقول: لطف الله بك فالباء حينئذ للالصاق لأن اللطف ملتصق وقائم بالمتكلم والتضمين شائع وهو إشراب الكلمة معنى آخر، وإذ متعلق بأحسن أيضا وجملة أخرجني مضافة والفاعل مستتر والياء مفعول به ومن السجن جار ومجرور متعلقان بأخرجني.
(وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) بكم متعلقان بجاء ومن البدو متعلق به أيضا ومن بعد حال وان وما في حيزها مضافة للظرف والشيطان فاعل نزغ وبيني ظرف متعلق بنزغ وبين عطف
56
على الظرف الأول واخوتي مضاف الى بين. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ان واسمها وخبرها ولما متعلقان بلطيف أي لطيف التدبير لأجله رفيق، وجملة يشاء صلة وانه ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبران لإن أو لهو وقد تقدمت له نظائر. (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وقد حرف تحقيق وآتيتني فعل وفاعل ومفعول به ومن الملك: من تبعيضية وهي ومجرورها صفة لمفعول به محذوف أي آتيتني شيئا عظيما من الملك وقيل تبيينية فتتعلق بآتيتني، وعلمتني عطف على آتيتني ومن تأويل الأحاديث متعلقان بعلمتني. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون نعتا لرب أو بدلا منه ويجوز أن يكون منادى وحرف النداء محذوف ولعله أولى والسموات مضاف اليه. (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أنت مبتدأ ووليي خبر وفي الدنيا حال والآخرة عطف على الدنيا. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فعل دعاء والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلما حال وألحقني عطف على توفني وبالصالحين متعلقان بألحقني.
الفوائد:
(أَنْ) حرف مصدري ينصب المضارع ويؤول مع ما في حيزه بمصدر يعرب حسب موقعه، وتكون مخففة من أن فتقع بعد فعل اليقين والظن وما شابهه، ومفسرة وهي التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه نحو «فأوحينا إليه أن اصنع الفلك» وزائدة للتوكيد كالآية «فلما أن جاء البشير» قال ابن هشام: «ولا معنى
57
لأن الزائدة غير التوكيد كسائر الزوائد» وقال ابن الأثير في المثل السائر: «وأما قوله تعالى «فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه» فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته منذ ألقوه في الجب والى أن جاء البشير الى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم إبطاء بعيد وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لما وقبل الفعل بل كانت تكون الآية: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه، وهذه دقئق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من شأنهم.
هذا وقد رد الصلاح الصفدي على ابن الأثير فقال: «قلت: هذا من جناية إعجاب المرء بعقله ألا تراه كيف يتصور الخطأ صوابا ثم أخذ يتبجح أنه ظفر بما لم يكن عند النحاة ولو أنه نظر الى هذه الفاء عقيب ماذا وردت؟ هل هي عقيب قوله تعالى: «فلما ذهبوا به وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجب» والآيات المتعلقة بواقعة إلقائه الجب، أو وردت عقيب قوله تعالى «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وائتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، قالوا تالله انك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا» لعلم ابن الأثير أنه لا تراخي بين هذين البعدين ولا مدة مديدة لأن المدة إنما كانت بقدر المسافة التي توجه فيها البشير من مصر الى أن وصل الى أرض كنعان وهي مقام يعقوب عليه السلام وقدر مسافة ما بين ذلك اثنا عشر يوما وما حولها ولهذا قال النحاة: إنها هنا زائدة، ولابن الأثير من هذه الشناعات على النحاة وغيرهم أشياء أجبت عنها في كتابي».
58

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٧]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧)
اللغة:
(حَرَصْتَ) : في المصباح: حرص عليه حرصا من باب ضرب إذا اجتهد والاسم الحرص بالكسر وحرص على الدنيا من باب ضرب وحرص حرصا من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة. وقال علماء اللغة: وحرص على الشيء وهو حريص من قوم حراص وما أحرصك على الدنيا والحرص شؤم ولا حرس الله من حرص، وحرص القصار الثوب شقه وبثوبك حرصة وأصابته حارصة وهي من الشجاج التي شقت الجلد، وحما محرّص: مكدّح، وانهلّت الحارصة والحريصة وهي السحابة الشديدة وقع المطر وتحرّص وجه الأرض،
قال الحويدرة:
59
ظلم البطاح بها انهلال حريصة فصفا النّطاف بها بعيد المقلع
ورأيت العرب حريصة، على وقع الحريصة.
(غاشِيَةٌ) : نقمة تغشاهم وقيل ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وفي القاموس والتاج الغاشية مؤنث الغاشي والغطاء والجمع غواش والداهية والقيامة وداء في الجوف وغاشية فلان خدمه وزواره.
الإعراب:
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ذلك اسم اشارة في محل رفع مبتدأ ومن أنباء الغيب خبره وجملة نوحيه إليك حال ويجوز أن تكون في محل رفع خبرا ثانيا وفي هذه الآية الكريمة دليل لا يقبل الريب على نبوة محمد ﷺ لأنه كان أميا لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر الى غير بلده الذي نشأ فيه ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة مستجمعة شرائط القصة وخصائصها التي ابتدعت ذكرها العصور الحديثة. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة وكنت كان واسمها ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت وإذ ظرف متعلق بما تعلق به الظرف أي بالاستقرار المحذوف وجملة أجمعوا مضافة للظرف والواو للحال وهم مبتدأ وجملة يمكرون خبر والجملة حالية. (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية بذلك زيادة الباء في خبرها وأكثر الناس اسمها والواو اعتراضية ولو شرطية وحرصت فعل وفاعل والجملة معترضة بين ما الحجازية وخبرها وسيأتي في باب الفوائد بحث مسهب عن الجملة الاعتراضية والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور بالباء لفظا
60
في محل نصب خبر لما وجواب لو محذوف أي لم يؤمنوا.
(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به وعليه حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر والضمير يعود على القرآن ومن حرف زائد وأجر مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين صفة لذكر. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم القول مسهبا في كأين وكم الخبريتين، وهي في محل رفع مبتدأ ومن آية تمييز مجرور بمن وفي السموات والأرض صفة لآية. (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) جملة يمرون خبرا لمبتدأ وهو كأين وعليها متعلقان بيمرون، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وعنها متعلقان بمعرضون ومعرضون خبرهم والجملة الاسمية حالية ويجوز أن يكون في السموات والأرض خبرا لكأين وجملة يمرون صفة لآية (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) الواو عاطفة وما نافية ويؤمن أكثرهم فعل مضارع وفاعل وبالله متعلقان بيؤمن وإلا أداة حصر والواو حالية وهم مبتدأ ومشركون خبر والجملة نصب على الحال (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري وفيه معنى التوبيخ والتهديد والفاء عاطفة وأمنوا فعل وفاعل، وأن تأتيهم المصدر المؤول مفعول أمنوا والهاء مفعول تأتي وغاشية فاعل تأتي ومن عذاب الله صفة لغاشية (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أو تأتيهم عطف على تأتيهم السابقة والساعة فاعل تأتيهم وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة نصب على الحال.
البلاغة:
١- في قوله «وما كنت لديهم» الآية فن يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم
61
الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وقد تقدم بحثه وفيه تهكم مرير بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمدا ﷺ ما كان معهم فإذا أخبر به وقصه هذا القصص البديع لم تقع شبهة في أنه ليس منه.
٢- في قوله تعالى «وما أكثر الناس، ولو حرصت، بمؤمنين» فن الاعتراض وقد تقدم ذكره وتحديده ونزيد هنا ما يتعلق ببحث بلاغي طريف وهو أن الاعتراض ينقسم الى قسمين أحدهما لا يأتي في الكلام إلا لفائدة وهو جار مجرى التوكيد والآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدة فإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه وإما أن يؤثر في تأليفه نقصا وفي معناه فسادا فالقسم الأول كهذه الآية، وفائدة الاعتراض من وجهين أولهما تصوير حرصه ﷺ على ايمان قومه وهدايتهم وتهالكه على ردعهم عن غيهم وحرفهم عن مظان الخطأ ومواطن الضلال واستهدافه للأذى في سبيل هذا الحرص مع علمه بعدم جدوى ذلك واستحالة إقلاعهم عما هم فيه، وثاني الوجهين تصوير لجاجتهم، وجحود عقليتهم وإصرارهم على الغي الذي هم فيه شارعون وبه آخذون وعنادهم ومكابرتهم فيما لا تجدي معه الحجج والبراهين الثابتة المنيرة والقرآن الكريم حافل بهذا القسم وسيرد عليك في مواضعه إن شاء الله، وقد أوردنا طائفة من الشعر الجيد الذي زاده الاعتراض رقة وحلاوة وما أجمل قول ابن المعذب السعدي:
فلو سألت سراة الحي سلمى على أن قد تلوّن بي زماني
لخبرها ذو وأحساب قومي وأعدائي فكلّ قد بلاني
وهذا اعتراض بين لو وجوابها وهو من فائق الاعتراض ونادره وتقديره فلو سألت سراة الحي سلمى لخبرها ذو وأحساب قومي وأعدائي وفائدة قوله: «على أن قد تلوّن بي زماني» أي أنهم يخبرون عني على تلون الزمان بي يريد تنقل حالاته من خير وشر وليس
62
من عجمه على الزمان وأبان عن جوهره كغيره ممن لم يعجمه ولم يبن عنه.
أما القسم الثاني وهو الذي يأتي في الكلام لغير فائدة فهو ضربان:
الأول: يكون دخوله في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا فمن ذلك قول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن المنذر:
يقول رجال يجهلون خليقتي... لعل زيادا- لا أبا لك- غافل
فقوله: لا أبا لك من الاعتراض الذي لا فائدة فيه إلا إقامة الوزن وليس مؤثرا فيه حسنا ولا قبحا، ومثله قول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش... ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
والثاني: وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فادا وسنورد أمثلة منه ليتفاداها العاقل فمن ذلك قول بعضهم:
فقد، والشك: بيّن لي، عناء... بوشك فراقهم صرد يصيح
فإنه قدم «بوشك فراقهم» وهو معمول «يصيح» ويصيح صفة لصرد وذلك قبيح، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم وانما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها وفيه بعد ذلك من رديء الاعتراض الفصل بين «قد» والفعل الذي هو بيّن وذلك قبيح جدا لقوة اتصال
63
«قد» بما تدخل عليه من الأفعال حتى انهم يعدونها بمثابة الجزء من الفعل ولذلك أدخلت عليه لام القسم المراد بها توكيد الفعل كقوله تعالى:
«ولقد علموا لمن اشتراه» هذا وفي البيت عيب ثالث وهو الفصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله «بين لي» وعيب رابع وهو الفصل بين الفعل الذي هو بيّن وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء فجاء معنى البيت، كما تراه، كأنه صورة مشوهة قد نقلت أعضاؤها بعضها الى مكان بعض.
ومن هذا الضرب قول الآخر:
نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل
أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله الى الغروب حتى عقل الشمس أي حاذاها وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة وهو قوله «ظله الى الغرب» وأغلظ من ذلك وأسمج أنه فصل بين الفعل وفاعله بأجبني وهذا مما يبدو السكوت خيرا منه.
وحيث تكلمنا على الاعتراض من الناحية البلاغة الفنية فلا ندحة لنا عن أن نتناوله من ناحيته النحوية فقد قرر النحاة أنه يقع في مواضع:
١- بين الفاعل ومرفوعه كقول بعضهم:
شجاك أظن ربع الظاعنينا ولم تعبأ بعذل العاذلينا
فشجاك فعل ماض وفاعله ربع الظاعنينا وفصل بينهما بجملة أظن وقد أفادت هذه الجملة المعترضة التقوية لأنه حين يقال شجاك ربع
64
الظاعنين يحتمل أن ذلك مظنون أو متوهم فأخبر أنه مظنون على أنه يحتمل في هذا البيت نصب ربع على أنه مفعول أول لأظن وجملة شجاك مفعوله الثاني وتقديره أظن ربع الظاعنينا شجاك.
٢- بين الفعل ومفعوله المنصوب كقول الشاعر:
وبدلت، والدهر ذو تبدل، هيفا دبورا بالصبا والشمأل
فبدلت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل يعود على الريح والدهر ذو تبدل معترضة وهيفا مفعول بدلت أي ريحا هيفا ومعناها حارة وبالصبا داخلة على المتروك كما هي القاعدة في الباء التي تقع بعد بدل والصبا الريح التي تهب من المشرق. عند استواء الليل والنهار والشمأل هي الريح التي تأتي من ناحية القطب.
٣- بين المبتدأ وخبره كقوله:
وفيهن، والأيام يعثرن بالفتى نوادب لا يمللنه ونوائح
فقد فصل بين فيهن وهو خبر مقدم ونوادب وهو مبتدأ مؤخر بجملة والأيام يعثرن بالفتى.
٤- وبين ما أصله المبتدأ والخبر كقول عوف بن محلم:
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي الى ترجمان
فقوله وبلغتها جملة دعائية اعترضت بين اسم ان وخبرها وأصلهما مبتدأ وخبر.
65
٥- بين الشرط وجوابه كقوله تعالى «فإن لم تفعلوا. ولن تفعلوا، فاتقوا النار» وقد تقدم اعرابها.
٦- بين القسم وجوابه كقول النابغة:
لعمري وما عمري عليّ بهين لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
فقد اعترض بجملة وما عمري علي بهين بين القسم وجوابه.
٧- بين الموصوف وصفته كقوله تعالى «وانه لقسم لو تعلمون عظيم» فقد اعترض بجملة لو تعلمون بين الموصوف وهو قسم وصفته وهو عظيم.
٨- بين الموصول وصلته كقول الشاعر:
واني لرام نظرة قبل التي لعلي وإن شطت نواها أزورها
فاعترض بين التي وصلتها وهي أزورها بلعلي وخبر لعل محذوف أي لعلي أفعل ذلك.
٩- بين حرف التنفيس والفعل كقول زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وهذا الاعتراض في أثناء اعتراض آخر فإن سوف وما بعدها اعتراض بين أدري وجملة الاستفهام.
١٠- بين حرف النفي ومنفيه كقوله:
66
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة على قومها ما دام للزند قادح
وهناك مواضع أخرى ضربنا عنها صفحا لندرة وقوعها ويمكن الرجوع إليها في المطولات.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٨ الى ١١١]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
اللغة:
(سَبِيلِي) : السبيل الطريق أو ما وضح منها يذكر ويؤنث والجمع سبل وسبل وأسبل وأسبلة وسبول، وابن السبيل: المسافر،
67
وسبيل الله الجهاد وطلب العلم والحج وكل ما أمر الله به من الخير ويقال: ليس لك عليّ سبيل أي حجة تعتلّ بها وليس عليّ في كذا سبيل أي حرج ويقول المولّدون: ما على المحسن سبيل أي معارضة وسبيلنا أن نفعل كذا أي نحن جديرون بفعله.
الإعراب:
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) هذه مبتدأ وسبيلي خبر وجملة أدعو الله تفسير للسبيل والى الله متعلقان بأدعو ويجوز أن تكون الجملة حالية من الياء والأول أولى وعلى بصيرة متعلقان بأدعو أو بمحذوف حال من فاعل أدعو وأنا تأكيد لفاعل أدعو المستتر ومن اتبعني عطف على فاعل أدعو المستتر ويجوز أن يكون من مبتدأ وخبره محذوف أي ومن اتبعني يدعو أيضا ويجوز أن يكون أنا مبتدأ مؤخرا وعلى بصيرة خبرا مقدما ومن اتبعني عطفا على أنا. (وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف أي وأسبح سبحان الله وما الواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنا اسمها ومن المشركين خبرها. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ما نافية أرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول به وجملة نوحي إليهم صفة ومن أهل القرى صفة ثانية لرجالا. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقريره ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيسيروا. (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الفاء عاطفة أو سببية وينظروا فعل مضارع إما مجزوم نسقا على يسيروا أو منصوب
68
بأن مضمرة في جواب النفي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان مقدما وعاقبة اسم كان والذين مضاف لعاقبة ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية واللام لام الابتداء ودار مبتدأ والآخرة مضاف إليه من إضافة الشيء الى نفسه لأن المراد بالدار الجنة وهي نفس الآخرة واختار الزمخشري والبيضاوي ان يكون التقدير ولدار الساعة الآخرة أو الحال الآخرة فليس في الكلام على ذلك اضافة الشيء الى نفسه.
وخير خبر دار وللذين متعلقان بخير وجملة اتقوا صلة، أفلا تعقلون تقدم إعرابه.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) حتى حرف غاية وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا من النصر ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن اخبار ووحي وهذا خير ما قيل في هذه الآية التي اضطربت فيها أقوال العلماء والمفسرين والمعربين فيها اضطرابا شديدا وسياق الآية يرشد اليه وظنوا عطف على استيئسوا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظنوا وكذبوا بالبناء للمجهول أي ظنت الأمم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به من النصر وجملة كذبوا خبر أنهم. (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) جملة جاءهم لا محل لها لأنهم جواب إذا وجاءهم نصرنا فعل ومفعول به وفاعل والفاء عاطفة ونجي بالبناء للمجهول عطف على جاءهم ومن نائب فاعل ونشاء صلة. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرد بالبناء للمجهول وبأسنا نائب فاعل وعن القوم متعلقان بيرد والمجرمين صفة. (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وفي قصصهم خبر مقدم وعبرة مبتدأ مؤخر ولأولي صفة لعبرة والألباب مضاف اليه
69
وسيرد في باب البلاغة مغزى هذه العبرة. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على القرآن وحديثا خبرها وجملة يفترى صفة لحديثا. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الواو حرف عطف ولكن مخففة مهملة وتصديق عطف على حديثا وهو أولى من تقدير كان، وقد تقدم مثل هذا في سورة يونس، والذي مضاف اليه والظرف صلة وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة معطوفان على تصديق ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم.
البلاغة:
في سورة يوسف نفحة من القصص الرائع الذي استوفي شرائط القصة كما انتهت اليه أبحاث النقاد في العصر الحديث مما يؤخذ من مظانه الكثيرة وقد امتازت هذه القصة على تسلسل حوادثها وكثرة فنونها، وتنوع فصولها بالايجاز وقد ألمعنا اليه فيما تقدم ونزيده بسطا هنا فنقول:
١- تقسيم الإيجاز:
يأتي الإيجاز على قسمين:
١- قسم طويل، ٢- وقسم قصير.
والطويل: طوله بالنسبة للقصير منه لا لغيره من الكلام كما جاءت قصص القرآن كلها وأحسن ما جاء منها في هذا الباب قصة يوسف فإنها جاءت على الطريقتين في سورة واحدة من قوله: «نحن نقض
70
عليك أحسن القصص» إلى قوله: «وخروا له سجدا» وجاءت على الطريقة المختصرة في قوله على لسان يوسف: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي» فذكر تعالى القصة أولا على طريق البسط مفصلة لمن لم يشارك في طريق علمها وذكرها تعالى أخيرا مختصرة ليعلمها مفصلة من لم يكن يعلمها حتى إذا جاءت مجملة علم الإشارات فيها وابتدأها بقوله «نحن نقص عليك أحسن القصص» ثم أنهاها بقوله «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب» ووجه الاعتبار بقصصهم هو أن هذه القصص انما سجلت لحصول العبرة منها ومعرفة الحكمة والمغزى.
٢- اختلاف صيغة اللفظة:
وفي قوله تعالى «لأولي الألباب» فن يطلق عليه القدامى الاسم الآنف الذكر وهو من البيان بمثابة القلب من الإنسان وهو يدق إلا على من صفت قرائحهم واستغزرت ملكة الفصاحة فيهم ونعني باختلاف صيغة اللفظة نقلها من هيئة الى هيئة كنقلها من وزن الى وزن آخر أو نقلها من صيغة الاسم الى صيغة الفعل أو بالعكس أو كنقلها من الماضي الى المستقبل أو بالعكس أو من الواحد الى التثنية أو الجمع أو إلى النسب إلى غير ذلك انتقل قبحها فصار حسنا وحسنها فصار قبحا وسنورد أمثلة مترتبة على نسق الترتيب الذي أوردناه فمن نقل اللفظة من صيغة الى أخرى لفظة «خود» عبارة عن المرأة الناعمة وإذا نقلت الى صيغة الفعل قيل خوّد على وزن فعّل ومعناها أسرع يقال: خوّد البعير إذا أسرع فهي على صيغة الاسم حسنة رائعة وإذا جاءت على صيغة الفعل
71
لم تكن مستحسنة كقول أبي تمام من قصيدة له يمدح فيها أحمد ابن عبد الكريم:
وإلى بني عبد الكريم تواهقت رتك النعام رأى الظلام فخودا
فهي ثقيلة سمجة كما ترى على أن ثقلها وسماجتها يخفان عند ما تنقل من الحقيقة الى المجاز كقول رجل من بني أسد:
أقول لنفسي حين خود رألها رويدك لما تشفقي حين مشفق
رويدك حتى تنظري عمّ ينجلي غيابة هذا البارق المتألق
والرأل النعام والمراد به هاهنا أن نفسه فرت وفزعت وشبه ذلك باسراع النعام في فراره وفزعه ولما أورده على حكم المجاز خف عنه بعض القبح الذي على لفظة خوّد وهذا يدرك بالذوق السليم ولا ضابط له ولا يخفى ما بين هذه اللفظة في إيرادها هاهنا وإيرادها في بيت أبي تمام فانها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سجة ووردت هنا متوسطة أما نقل الفعل من صيغة الى صيغة فمثاله لفظة «ودع» وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها وليست حروفها متنافرة ومع ذلك أحجم العرب عن استعمالها بصيغة الماضي لسماجتها فاذا نقلت الى المستقبل أو الأمر كانت حسنة فصيحة، أما الأمر فكقوله تعالى «فذرهم يخوضوا ويلعبوا» ولم تأت في القرآن إلا كذلك وأما نقلها الى صيغة المستقبل فكقول أبي الطيب المتنبي:
تشقّكم بقناها كل سلهبة والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
فهي هنا غاية في الفصاحة ولهذا أمات العرب ماضي يدع ويذر وقد استسمجوا قول أبي العتاهية مع حسن معناه:
72
أثروا فلم يدخلوا قبورهم شيئا من الثروة التي جمعوا
وكان ما قدموا لأنفسهم أعظم نفعا من الذي ودعوا
أما النقل من الإفراد الى التثنية والجمع فمثاله الآية التي نحن بصددها وذلك ان لفظة «اللب» الذي هو العقل لا لفظة اللب الذي تحت القشر فانها لا تحسن في الاستعمال الا مجموعة وكذلك وردت هنا وفي أكثر من موضع من القرآن الكريم وقد تستعمل مفردة ولكن شريطة أن تكون مضافة أو مضافا إليها فأما كونها مضافة فكقول النبي ﷺ في ذكر النساء: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الحازم من إحداكن يا معشر النساء» واما كونها مضافا إليها فكقول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
وهذا أمر يكاد يذهل المبين، اسمع الى كلمة الصوف وهي مفردة تجدها سمجة في الاستعمال وقد استعملها أبو تمام فجاءت غثة وزاد في غثاثتها انها جاءت مجازية في نسبتها الى الزمان حيث يقول:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا فكأنما لبس الزمان الصوفا
ولكنها وردت في القرآن. الكريم مجموعة فاذا هي مرقصة مطربة قال تعالى «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم
73
ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين».
ولم يمنع العرب جمع المصادر إلا لهذا السبب والمدار في ذلك على الذوق السليم والجرس الموسيقي الذي لا يكتنه حسنه ولا يوصف وقد استعمل عنترة المصدر مجموعا فجاء سمجا مرذولا قال:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه وإن يفقد فحق له الفقود
فقوله الفقود جمع مصدر من قولك فقد يفقد فقدا، واستعمال مثل هذه اللفظة غير سائغ وهذا كله مرده الذوق السليم ويرحم الله فولتير القائل «ذوقك أستاذك».
وما دمنا قد وصلنا الى هذه المرحلة من التحليل الأدبي فلا بد لنا من أن نشير الى كتاب رائع هو «معاني القرآن للفراء» ومنهج الكتاب يقوم على الأمور التالية:
ينهج الكتاب نهجا مبتكرا فهو يتعرض لآيات كل سورة بالترتيب فلا يقتصر على الغريب بل يتجاوزه الى إيضاح الجانب النحوي والاعراب في الآية وينتهي الى النظرية العامة فيبين قواعدها وأصولها وأدلتها وأسبابها ومسبباتها ثم يتكلم عن التشبيه والمثل والكناية والمجاز بصورة عامة ثم يتناول الاستعارة أحد قسمي المجاز والالتفات، على أن الجديد كل الجدة في كتاب الفراء انه لا حظ النسق الصوتي، والترابط بين الكلمات وانسجام النغم وتوافق الفواصل في آخر الآيات فيجيز حذف أواخر الكلمات موافقة لرؤوس الآيات مع موافقة ذلك لكلام العرب مثل قوله عز وجل: «والليل إذا يسر» وقد قرأ القراء يسري بإثبات
74
الياء ويسر بحذفها وحذفها أحب إليّ لمشاكلتها لرؤوس الآيات والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها أنشدني:
كفاك كف ما تليق درهما جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وأنشدني الآخر:
ليس يخفي يسارتي قدر يوم ولقد يخف شيمتي إعساري
وقوله «بطغواها» أراد بطغيانها إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك، ألا ترى أنه قال: «وآخر دعواهم أن الحمد لله» ومعناه آخر دعائهم وكذلك «دعواهم فيها سبحانك اللهم» دعواهم فيها هذا، «وما قلى» يريد ما قلاك فألقيت الكاف كما تقول: قد أعطيتك وأحسنت، معناه وأحسنت إليك فيكتفى بالياء الاولى من إعادة الأخرى ولأن رؤوس الآيات بالياء فاجتمع ذلك فيه» الى أن يقول الفراء: لله وقوله عز وجل فأغنى فآوى يريد به فأغناك وآواك جرى على طرح الياء لمشاكلة رؤوس الآيات».
ويجيز الفراء في كتابه الممتع «معاني القرآن» إضافة المصدر الى صاحبه مثل ما في قوله تعالى «إذا زلزلت الأرض زلزالها» قال:
«فأضيف المصدر الى صاحبه وأنت قائل في الكلام: لأعطينك عطيتك وأنت تريد عطية وكان قربه من الجواز موافقة رءوس الآيات التي جاء بعدها».
75
وعلى هذا النحو وضع الفراء أمامنا قواعد عامة للتغييرات التي يمكن أن تطرا على الكلمات والتي قد يعمد إليها القرآن أحيانا للتوافق الموسيقي في نظمه، وصلة تلك التغييرات بما يطرأ على القافية في الشعر لإقامة الوزن ولا يفتأ الفراء يشير الى أن القرآن في عدوله عن لفظ الى آخر أو تعديله الألفاظ لا يخرج عن أساليب العرب وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن، هذا وسيرد من كتاب الفراء في مواضع متفرقة من هذا الكتاب ما تميز به هذا السفر الجليل في مواضع متعددة من البيان.
ويرى الجاحظ في كتابه «نظم القرآن» الذي ألفه للفتح بن خاقان وزير المتوكل على الله الذي لم يطبع- مع الأسف- بل فقد مع ما فقد من الكتب في محنة بغداد التي أوقعها بها هولاكو ولم تقع إلا نبذ منه مبثوثة في كتب الجاحظ المطبوعة الأخرى، يرى أن التنزيل قد أولى اللفظ عناية خاصة فاختاره بدقة ليدل على المعاني بدقة وقد يشترك لفظان في المعنى لكن أحدهما أدق من الآخر في الدلالة عليه، ولنظم القرآن براعته في تنزيل اللفظ منزلته في الموضع الذي أريد له ويمتاز بروعته أيضا في الاختيار ومراعاة الفروق بين الألفاظ فلا يأتي بالألفاظ المترادفة دالا على معنى واحد إنما للدلالة على معان مختلفة وبقدر الدقة في إصابة المعنى يكون الفرق بين ألفاظ الناس في كلامهم وألفاظ القرآن ويقول في هذا الصدد: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله تعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة وكذلك
76
ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في مواضع الانتقام والأمة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث ولفظ القرآن الذي عليه نزل انه إذا ذكر الابصار لم يقل الاسماع وإذا ذكر سبع سموات لم يقل أرضين ألا ترى أنه لا تجمع الأرض على أرضين ولا السمع اسماعا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ إلا ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعض القراء انه لم يرد ذكر النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج».
وتعرض الجاحظ لما جرى عليه نظم القرآن من نغم وموسيقى ووزن خاص رتيب مكون من وحدات مترابطة منسجمة، وكم كنا نتمنى لو بقي هذا الكتاب لنستمتع بما فيه من أبحاث ولكننا سنحاول جمع ما تفرق منه في هذا الكتاب فقد تصدى لوزن القرآن وتكلم كثيرا لينفي عنه وزن الشعر يقول في هذا الصدد «ويدخل على من طعن في قوله تعالى «تبت يدا أبي لهب وتب» وزعم انه شعر لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن فيقال له: اعلم انك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل مستفعلن مستفعلن كثيرا ومستفعلن فاعلن وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعرا ولو أن رجلا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات وكيف يكون هذا شعرا وصاحبه لم يقصد الى الشعر؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام وإذا جاء المقدار الذي يعلم انه من نتاج الشعر والمعرفة بالاوزان والقصد إليها كان ذلك شعرا وهذا قريب والجواب فيه سهل والحمد لله».
ويرى ابن قتيبة في كتابه «مشكل القرآن» ان النغم الموسيقي والنظم والتوقيع الداخلي في الآيات هي احدى الخصائص التي يقوم
77
عليها إعجاز القرآن فهو حلو النغم، رتيب الوقع، حبيب الجرس الى النفوس لا تمله الآذان لما ينساب في عباراته وخلال لفظه من الموسيقى الخافتة ولا تتعثر فيه الألسنة لسلاستها وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة:
«وجعله متلوا على طول التلاوة ومسموعا لا تمجه الآذان، وغضا لا يخلق على كثرة الرد».
ونختم هذا المبحث، على أن نعود اليه في مكان آخر بكلمة وردت في القرآن جميلة جدا ووردت في الشعر فكانت باردة وهي كلمة يؤذي فقد قال أبو الطيب:
تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت جميل شريف المعنى إلا أن لفظة يؤذي قد جاءت فيه غثة باردة بينما وردت في القرآن بالغة الروعة بادية الكمال وذلك في قوله تعالى: «فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق» ويبدو لنا أنها وردت في بيت أبي الطيب منقطعة، ألا ترى أنه قال: «تلذ له المروءة وهي تؤذي» ثم قال: «ومن يعشق يلذ له الغرام» فجاء بكلام مستأنف وهذا باب طويل المدار في سبر غوره واكتناه حسنه على الذوق السليم والطبع الرهيف.
هذا ولا مندوحة عن الاشارة الى أن أكثر القصص التي وردت في القرآن الكريم من قصص الأنبياء في جهادهم لتبليغ رسالتهم ونشر دعوتهم ومقاومة خصومهم من ذوي السلطان الذين أنكروهم وحالوا بينهم وبين هداية أقوامهم.
78
وإذا روجعت قصص القرآن الكريم مراجعة دقيقة تبيّن للناظر في مضامينها ان عبرتها الأولى دروس ينتفع بها الهداة ودعاة الإصلاح إذ كان من فرائض الإسلام الاجتماعية أن يندب من الأمة طائفة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
من تلك الدروس أن الجهلاء ينقادون للأمر والسطوة ولا ينقادون للحجة والدليل ويريدون من صاحب الدعوة كما جاء في قصة نوح أن يكون ملكا أو تكون عنده خزائن الله ويقولون له: «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين».
ومن تلك الدروس أن أصحاب السادة في الأمة يكرهون التغيير ويتشبثون بالقديم، ويأخذون على النبي أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة والجاه «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كذبين».
ومن تلك الدروس أن الجمود على التقاليد الموروثة أكبر آفات العقل البشري لأنها تعطل تفكيره وتتركه في حكم الآلة التي تسير على نهج واحد في آثار الآباء والأجداد مع اختلاف الزمن وتبدل الأحوال.
على أن في القرآن الكريم قصصا شتى من غير قصص الدعوة أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة ولكنها تراد كذلك لعبرتها ولا تراد لأخبارها التاريخية، ومنها قصة يوسف التي نحن بصددها فهي قصة إنسان قد تمرس من طفولته بآفات الطبائع البشرية من حسد الأخوة إلى غواية المرأة الى ظلم السجن الى تكاليف الولاية وتدبير المصالح في إبان الشدة والمجاعة.
79
Icon