ﰡ
مكية. وحكى القرطبي الإجماع على ذلك. وعدد آياتها تسع وتسعون، وسميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهي كبقية السور المكية تدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم وأفكارهم وما يتبع ذلك من إثبات البعث وبيان مظاهر قدرة الله أو تذكير الإنسان بنشأته الأولى، وعلاقته بالملائكة والجن، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء، وختام السورة بالحديث مع الرسول صلّى الله عليه وسلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ١٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤)ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
رُبَما وقرأ بعض القراء (ربّما) وهما لغتان فأهل الحجاز يخففون، وتميم وربيعة يثقلون أى: يشددون، والأصل أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير والقرآن الكريم نزل على النبي وقرأه صلّى الله عليه وسلّم بلهجات العرب تخفيفا عليهم وتسهيلا لحفظهم ذَرْهُمْ دعهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الأمل وتغرهم الأمانى الخادعة لوما بمعنى هلا وهي كلمة تفيد التحضيض مُنْظَرِينَ المعنى مؤخرين ومؤجلين شِيَعِ جمع شيعة وهي الفرقة والجماعة المجتمعون على رأى واحد نَسْلُكُهُ يقال سلك الشيء في الشيء أدخله فيه يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ حبست عن الإبصار كما يحبس النهر من الجري وقيل المراد: حارت كما يحار السكران والمراد منعت من النظر السليم.
هذا افتتاح لسورة الحجر- وهي سورة مكية- بذكر حروف من حروف المعجم، وهي كغيرها المبدوء بهذه الحروف، قد جمعت بين الكلام على القرآن الكريم وذكر بعض القصص ونقاش الكفار والمشركين، ومن هنا كانت المناسبة بينها وبين سورة إبراهيم ظاهرة.
المعنى:
تلك الآيات- والإشارة لآيات السورة- آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات قرآن مبين كامل في البنيان، وأنت ترى أنه جمع بين اسمى القرآن الكريم بالعطف لأنهما مقصودان بالذات، وكان تنكير لفظ قرآن للتفخيم، ولا غرابة في ذلك فهو القول الحق الصادر من الحق- سبحانه وتعالى-، ولذا ترى الكفار حينما يجدون ما وعدهم ربهم حقا يوم القيامة يودون لو كانوا مسلمين.
وفي قول القرآن الكريم لهم على لسان الرسول: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا منتهى التهديد والذم لهم، وتصوير بارع لما انطوت عليه نفوسهم وإن من يعرف مقدار ألم الزبرقان بن بدر- رضي الله عنه- حينما هجاه الخطيئة بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها | واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى |
ولله سنة لا تتخلف مع الأمم: وهي أنه لا يهلك قرية من القرى أبدا إلا في حال أن لها كتابا معلوما وأجلا محدودا. لا تسبق أجلها عنه وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [سورة الرعد آية ٣٨].
ولقد قالوا مقالتين جانبوا فيهما الصواب. وافتروا الباطل الصريح ورد القرآن الكريم عليهما:
قالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وفي قولهم للنبي وندائهم له- بالذي نزل عليه الذكر- استهزاء وأى استهزاء؟! ومعنى قولهم هذا: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن الله أنزل عليك الذكر هي المقالة الأولى..
وأما الثانية فهي: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ على معنى تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك في قولك لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية ٧]. وبعضهم يرى أن المعنى: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا إن كنت صادقا في دعواك اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية ٣٢].
وهذا رد على مقالتهم الثانية:
وأما الرد على الأولى فها هو ذا: إنا نحن نزلنا الذكر- فأكد لهم أنه- سبحانه- هو المنزل على سبيل القطع والجزم، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه حفظة ورصدة يحفظون القرآن حتى يبلغه جبريل إلى النبي محفوظا تاما غير منقوص ولا مزيد فيه، نعم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، وتلك خصوصية للقرآن قد تكفل الله وحده بحفظه ورعايته ما دامت السموات والأرض ولذلك لم ير فيه في أى وقت ولا في أى مكان زيادة أو نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف الكتب السابقة حيث وكل الله أمر حفظها للربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا وعدوانا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وعرضا حقيرا فكان التحريف والتبديل الظاهر في كل طبعة من طبعات الكتب السابقة إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ
[سورة المائدة آية ٤٤].
وأما أنت يا محمد فلست بدعا من الرسل- والناس هكذا قديما وحديثا- فلا تأس على القوم الكافرين، ولقد أرسلنا من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين في شيع وفرق وأمم سابقة، وما أتاهم من رسول قبلك إلا كانوا به يستهزئون، وعليه غاضبون، وبه كافرون، وتلك سنة الله في الخلق.
مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين ندخله في قلوب المجرمين المعاصرين، أو المعنى: مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن مكذبا به ومستهزئا به في قلوب المجرمين حالة كونهم لا يؤمنون أبدا مهما حاولت وفعلت، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فعرجوا فيه وصعدوا إلى السموات العلا ورأوا من آيات ربك الكبرى، وكان ذلك في وضح النهار وتحت نور الشمس لو حصل هذا لقالوا: إنما سكرت أبصارنا وحبست عن الإبصار ونحن في حيرة وارتباك، وعبارتهم تفيد حصر
بل نحن مسحورون، أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا إلى قولهم بل نحن مسحورون، والمعنى: أن هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه ورأوا عيانا لقالوا هذا شيء خيالي لا حقيقة فيه بل قالوا قد سحرنا محمد، كبرت كلمة تخرج من أفواههم وكذبوا في دعواهم الباطلة.
من مظاهر قدرته وآثار نعمه [سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
المفردات:
بُرُوجاً جمع برج وهي القصور والمنازل وأصل البروج الظهور ومنه قيل:
تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة،
المناسبة:
ما تقدم كان في شأن الكفار وأحوالهم، وما قالوه وتمنوه بعد ظهور الحقائق وعجز الآلهة: وهنا بيان لقدرة الله الباهرة وخلقه البديع المحكم، ونعمه التي لا تحصى ليكون دليلا على وحدانيته، وأنه وحده المعبود بحق.
المعنى:
تالله لقد جعلنا في السماء بروجا وسيرنا فيها منازل الشمس والقمر والنجوم، وزيناها للناظرين المفكرين، والباحثين المعتبرين، إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سورة الفرقان آية ٦١].
روى عن ابن عباس قال: ولقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء فكانوا يدخلونها ويتسمعون من سكانها الأخبار، ويلقون أخبارها على الكهنة فيزيدون عليها ويحدثون بها أهل الأرض، كلمة حق واحدة وتسع باطلة. فإذا رأى الناس شيئا مما قالوه حقّا صدقوهم في كل ما جاءوا به. فلما ولد عيسى ابن مريم منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [سورة الصافات ٦- ١٠]
وهذا يبين لنا معنى قوله تعالى هنا: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) : على معنى حفظنا السماء من الشياطين بمنعهم من الصعود إليها إلا من استرق السمع فحفظناها منهم بأن أعددنا لهم شهابا رصدا ليصيبه، وقيل المعنى: وحفظناها من كل شيطان رجيم ولكن من استرق السمع أعددنا له وهيأنا له شهابا رصدا، وهم يسترقون غير الوحى من الأخبار أما الوحى فهم ممنوعون منه دائما لقوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وإذا استرق الشيطان وتسمع شيئا ليس بوحي قيل: إنه يقذفه بسرعة إلى الكهنة بواسطة أعوانه ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تصيبهم بسوء فقط وهذا رأى بعيد، والصحيح أن الشهاب يقتلهم قبل إلقائهم الخبر فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا عن طريق الأنبياء والوحى، ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلم: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وهذا هو الرأى الذي أميل إليه.
هذه نظرة إلى السماء وما فيها بالإجمال، ثم بعد ذلك تعرض القرآن إلى الأرض التي تقلهم: فقال: والأرض مددناها وفرشناها، وجعلناها ممهدة صالحة للسكنى والمعيشة عليها، وألقى الله فيها رواسى من الجبال شامخات حتى لا تميد بكم ولا تضطرب، وهي دائرة في مدارها حول الشمس وحول نفسها وليس في الآية دليل على أن الأرض ليست كروية بل هو الدليل القوى على كمال قدرة الله وتمام عظمته إذ كل منا يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها.
يا سبحان الله، لقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الأرض كروية ومع هذا فالذي في القطب الشمالي وأخوه الذي في القطب الجنوبي كل منهما يرى أرضه منبسطة ممهدة وهي تقله وله سماء تظلله والماء حوله ساكن ثابت فسبحانه وتعالى قادر حكيم!!! والأرض فرشناها فنعم الماهدون، وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها كل شيء من النبات موزون بميزان الحكمة والتقدير، ليس في الأرض على سعتها نبات ليس له وزن وفائدة، بل كل شيء لحكمة ومصلحة قد تخفى على الكثير منا، والطب الحديث يكشف لنا
وما من شيء في هذا الكون إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به، وما نعطيه إلا بقدر حسب الحكمة والعلم الشامل فذكر الخزائن من باب التمثيل لا الحقيقة، والله أعلم.
وأرسلنا الرياح لواقح أى: حوامل، نعم الريح تحمل السحب والسفن وتذرو التراب وتحمله حتى تكاد تنقل الجبال من مكانها، وتلقح النبات والأشجار، وتلقيح الشجر أمر أظهره العلم الحديث فقد اكتشف لنا أن كل زهرة أو ثمرة فيها ذكر وأنثى وتحتاج إلى اللقاح، ويحمل لقاحها الريح وبعض الحيوانات، فأنزلنا من السماء بواسطة الرياح ماء لكم منه شراب فأسقيناكموه، ولستم له بخازنين، وهل يمكننا حجز مياه النيل كلها وقت الفيضان؟!! أو حجز مياه الأمطار؟
ثم تعرض القرآن لذكر شيء له الأثر العميق في نفوسنا وهي قصة الموت والحياة فالمولى القدير يحيى وحده ويميت وحده كل المخلوقات كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «١» وتالله لقد علمنا المستقدمين منكم في الحياة والموت والعمل وكل شيء، وتالله لقد علمنا المستأخرين في الحياة والموت والعمل، وكل شيء عند ربك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وأن ربك هو يحشرهم ويحاسبهم إنه هو الحكيم في كل شيء العليم بكل شيء- سبحانه وتعالى-..
قصة آدم وتكوينه، وعلاقته بالملائكة والجن [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
صَلْصالٍ طين يابس يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد مِنْ حَمَإٍ الحمأ الطين الأسود مَسْنُونٍ متغير مأخوذ من قولهم أسن الماء إذا تغير قال القرطبي:
كان أول الأمر ترابا أى: متفرق الأجزاء، ثم بلّ فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أى: متغير الرائحة، ثم يبس فصار صلصالا، وقوله- تعالى- من
وهذا مظهر- أيضا- من مظاهر قدرة الله وعظمته وفيه بيان فضل الله على آدم وبنيه، وتكريمه حيث أمر الملائكة بالسجود له، مع بيان أثر مخالفة الله والتحذير من الشيطان وو وسوسته.
المعنى:
ولقد خلق الإنسان الأول أعنى آدم أبا البشر من طين جاف أصله طين أسود منتن متغير الرائحة.
وإن الإنسان منا ليقف أمام أسرار كلام الله ودقائقه مبهوتا متحيرا، وصدق الله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية ٨٨].
نعم خلقنا الله من طين جاف له صوت إذا نقر، أصله طين أسود منتن متغير وفي هذا إشارة إلى ما فينا من طبع وما نحن عليه من خلق وغريزة!
وفي الحديث «إنّ الله- عزّ وجلّ- خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن والطّيّب والخبيث».
وإذا عرفنا أننا خلقنا من طين أسود منتن الرائحة (حمأ مّسنون) عرفنا السرفى في وقوعنا في الآثام، وارتماء أكثر الناس في أحضان الرذيلة ولو بحثنا لوجدنا لنا رائحة تزكم الأنوف، وتصد النفوس.
وأما الصلصال وما أدراك ما هو؟ إنه الإناء المتخذ من الطين الجاف الذي لم تنضجه النيران فإذا ضربته سمع له صوت أترى هذا الإناء قويا؟ أرأيته وهو أجوف فارغ ضعيف غير متماسك وهكذا الإنسان أمام مغريات الدنيا وثورة الغرائز.
وأما الجان قد خلقه الله من نار السموم.
الجن خلق من خلق الله منهم الصالحون والطالحون وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [سورة الجن آية ١١] وهم مكلفون مثلنا، ويتكاثرون، ويروننا ولا نراهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف آية ٢٧]. ومنهم من سبقت له الحسنى فهو مؤمن بربه، ومنهم من غلبت عليه الشقوة فكان من العصاة المذنبين كإبليس وقرينه وهم الشياطين.
ولقد ذكر الله أن الجن خلقوا من نار السموم، أما حقيقة النار هذه فشيء الله أعلم به، ولكن في هذا إشارة إلى بعض طبائع الجن. فالنار تعلو وتتعالى، وقد تؤذى غالبا، وفيها معنى العجلة والسرعة وقوة الغضب.
ونحن نرى أن إبليس تكبر وعصى، وتعجل في الحكم وغضب حينما أمر بالسجود لآدم.
إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته وأتممت خلقه، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
ومن هنا يعلم أن الإنسان مكون من مادة أصلها الطين الأسود المنتن، ومن روح هي من روح الله، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء ٨٥].
نعم.. الروح سر من أسرار الله لا يعلم كنهها إلا خالقها، ولكنها قوة في الإنسان لها الأثر الفعال في سلوك الإنسان واتجاهه في الحياة. هي مصدر الخير والهدى والتقوى والفلاح وكل صفة حسنة من صدق وإيمان وإيثار وتعاون وتساند وأخوة في الله، روح
هذا البشر المكون من مادة وروح هو الذي أراد له أن يكون خليفته في الأرض هو الذي يصلح لعمارتها، فهو من الأرض وقد عادلها، وفيه نوازع الشر، ونوازع الخير، وعليهما تسير الحياة ويعمر الكون وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «١» أما من خلق من نور خالص فليس فيه هذا الاستعداد والله أعلم بخلقة ولذا رد الله الملائكة بقوله:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية ٣٠].
هذا الإنسان المخلوق من طين وروح أمر الله ملائكته بالسجود له. سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتقديس، وله- سبحانه- أن يفضل من يشاء على من يشاء إذ بيده الأمر كله.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. وما منعك يا إبليس من السجود وقد أمرك ربك وخالقك؟! إنما منعه من السجود استكباره، وتعاليه وسرعة انفعاله وغضبه.. ألم يخلق من نار فيها خصائص التعالي والارتفاع والسرعة والانفعال؟! قال الله: يا إبليس ما المانع لك في ألا تكون مع الساجدين قال إبليس المغرور المخدوع غير الموفق: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون!! ما كان ينبغي لي السجود لبشر أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ومن إجابة إبليس يمكننا أن نتأكد من أبرز صفاته وهي الكبر والتعجل والغضب.
وقد أجابه الله على موقفه هذا، قائلا: فاخرج من السموات أو من الجنة أو من عداد الملائكة، فإنك مرجوم مطرود، وإن عليك اللعنة من الله إلى يوم الدين.
قال إبليس: رب فأمهلنى إلى يوم يبعثون. أراد بسؤاله هذا ألا يموت. فأجابه الله بقوله: فإنك من المنظرين المؤجلين إلى البعث ثم لا بد من موتك وحسابك كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [سورة الرحمن آية ٢٦].
وما يحسه كل منا من ناحية الشيطان ووسوسته يجعلنا ندرك سر قوله تعالى وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «٣» الذين استخلصتهم وأخلصوا لك في العبادة فلا فساد ولا رياء، ولا يحبون أن يحمدهم الناس بل إلى الله وحده عملوا.
قال الله تعالى: هذا صراط على مستقيم، وقضاء قضيته على نفسي محتوم، إنك يا إبليس ليس لك سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانك على الذين لم يخلصوا الإيمان، ولم يعمر قلوبهم نور الروح ولم يتصل بهم سر الله اتصالا وثيقا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «٤».
فالناس صنفان خاضع لشهواته ونزواته وماديته وطبيعته وغرائزه وهم شعب إبليس المتسلط عليهم، وصنف مؤمن تقى روحه طيبة ونفسه كريمة واتصاله بالله قوى وهؤلاء ليس لإبليس عليهم سلطان وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «٥».
وهذا هو الحكم العام: إن جهنم لموعد من اتبعك وسار خلفك، لها سبعة أبواب مفتحة ومهيأة لكل داخل، واسعة تسع العصاة والمذنبين، لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم.
(٢) سورة الأعراف الآيتان ١٦ و ١٧.
(٣) سورة ص الآيتان ٨٢ و ٨٣.
(٤) سورة الحجر الآية ٤٢.
(٥) سورة الأعراف الآية ٢٠٠.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
المفردات:
وَعُيُونٍ جمع عين قيل المراد: أنهار الجنة التي ذكرت في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى الآية ١٥ من سورة محمد وقيل هي عيون خاصة لكل فرد أو عامة ينتفع بها الكل غِلٍّ الغل: الحقد والحسد الدفين نَصَبٌ تعب ومشقة.
هذا الكلام على الصنف الثاني وهم الذين لا سلطان لإبليس عليهم وهم المتقون.
المعنى:
إن المتقين الذين اتقوا الله وامتثلوا أمره، وتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن في جنات وبساتين، أكلها دائم وظلها، وتلك عقبى المتقين، ولهم عيون ماء وخمر ولبن وعسل مصفى، عيون خاصة بهم أو عامة ولا نزاع عليها ولا عراك، لأن الله نزع منهم الغل والحسد والحقد الدفين.
وهم لا يمسهم فيها نصب ولا مشقة. لا تعب ولا ألم
وفي الصحيحين «إنّ الله أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»
وما هم من الجنة بمخرجين وفي الحديث: يقال. يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [سورة الكهف آية ١٠٨].
وهذا تقرير لما ذكر من أهل الجنة والنار،
وفي الحديث «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرّحمة ما قنط من رحمته أحد».
نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم أغفر لمن تاب وأناب، وعمل عملا صالحا وأن عذابي هو العذاب الأليم الشديد الموجع لمن كفر أو عصى ولم يتب ولم يرجع عن غيه وسوء صنعه.
قصة ضيف إبراهيم مع لوط وقومه [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥١ الى ٧٧]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وَجِلُونَ فزعون خائفون الْقانِطِينَ القانطون الآيسون من الولد في الكبر الضَّالُّونَ البعيدون عن طريق الحق فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب الأمر الخطير لَمُنَجُّوهُمْ لمخلصوهم مما هم فيه قَدَّرْنا قضينا الْغابِرِينَ الباقين في العذاب مُنْكَرُونَ أى: لا أعرفكم يَمْتَرُونَ يشكون أنه نازل بهم وهو العذاب فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ تقدم تفسيره في سورة هود- لا قصة لوط وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط دابِرَ هؤُلاءِ أى: آخرهم وسيستأصلون- عن آخرهم فلا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ عند طلوع الصبح وَلا تُخْزُونِ هو من الخزي والذل والهوان وقيل هو الخزاية أى الحياء والخجل لَعَمْرُكَ قسم من الله سبحانه وتعالى بحياة النبي صلّى الله عليه وسلم. وأصله بضم العين، وفتحت لكثرة الاستعمال الصَّيْحَةُ المراد الصوت القاصف عند الشروق مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها سِجِّيلٍ أى من طين لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتفكرين الناظرين المعتبرين لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك يا محمد إلى الشام.
وفي هذا القصص بيان عملي لعذاب الله الأليم الذي يحل بالعصاة والمذنبين، ولرحمته الواسعة التي تشمل الطائعين، وقد أمر رسول الله بإخبار المشركين بذلك علهم يعتبرون بما حل بقوم لوط من عذاب، وإن عذابهم هو العذاب الأليم، وبما حل بلوط ومن تبعه من الرحمة وأنه هو الغفور الرحيم.
المعنى:
ونبئهم يا محمد أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم، ونبئهم وأخبرهم عن ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما.. قال إبراهيم:
إنا منكم وجلون وخائفون، قال لهم ذلك بعد أن رد عليهم بأحسن منها، وقدم لهم عجلا سمينا مشويا، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم، وتوجس منهم خيفة.
قالوا: يا إبراهيم، لا تخف، إنا رسل ربك نبشرك بغلام عليم، قال: أبشرتمونى
ولما علموا أنهم ملائكة وليسوا بشرا حيث أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد قال لهم: ما خطبكم أيها المرسلون! قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ضالين مشركين، قوم يأتون في ناديهم المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء!! إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
أرسلنا إلى هؤلاء لنهلكهم بالعذاب إلا آل لوط وأتباعه وأهل دينه، إنا لمنجوهم أجمعين، ومخلصوهم من ذلك العذاب إلا امرأة لوط كانت من الغابرين قد قضى الله عليها أن تكون من المهلكين، لأنها كانت تفعل فعلهم، وتعينهم على قصدهم.
فلما جاء آل لوط المرسلون، وهم الملائكة ضيف إبراهيم جاءوهم في بلدهم (سدوم) قال لوط: إنكم أيها القادمون قوم منكرون لا أعرفكم وقيل: أنكر حالتهم وخاف عليهم من قومه لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه، قالوا: يا لوط، بل جئناك بعذاب قومك وهلاكهم، وقد كانوا يشكون في مجيئه، ولا يصدقونك في خبرك، ونحن قد آتيناك بالحق والأمر الصدق فإنا رسل الحق- سبحانه وتعالى- وإنا لصادقون في كل ما ادعيناه.
ثم جاءت مرحلة التنفيذ فقالوا له: أسر مع أهلك المؤمنين ببقية من الليل أى:
أسر بطائفة من الليل تكفى لتجاوز حدود القرية والبعد عنها واتبع أدبارهم، وكن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد. ولا تشغل قلبك بأحد من الكفار المتخلفين منهم، بل كن ذاكرا لله شاكرا له أن نجاك وأهلك من العذاب، ولا يلتفت منكم أحد لئلا تروا العذاب وهو نازل بهم فترق قلوبكم لهم ولكن جدوا في المسير وأسرعوا في الهجرة غير ملتفتين إلى من وراءكم، وامضوا حيث تؤمرون.
وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر: أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين: وأوحينا إليه ذلك
وفي هذه السورة ذكر عذابهم وهلاكهم قبل فعلهم، (والواو لا تقتضي ترتيبا) وجاء أهل المدينة (سادوم) يستبشرون بالأضياف طامعين فيهم، مؤملين أن يفعلوا معهم الفاحشة.
ولما رأى لوط ذلك فيهم قال لهم: إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله، ولا تحزون. أليس فيكم رجل رشيد يدافع عن الفضيلة!! قالوا: يا لوط أو لم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين، لأنا لا يمكننا أن نمنع أنفسنا عن ارتكاب الفاحشة معهم، وقيل المعنى: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس قصدناه بالفاحشة.
قال: يا قوم هؤلاء بناتي تزوجوهن فهن أطهر لكم، إن كنتم فاعلين.
أقسم الله- سبحانه وتعالى- بعمر النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبحياته أن هؤلاء لفي سكرتهم وضلالهم يعمهون ويتيهون، وما علموا أن العذاب ينتظرهم وأنهم في طريق الفناء والهلاك فاعتبروا يا أهل مكة.
عقب هذا مباشرة أخذتهم الصيحة، وحلت بهم الصاخة، وقت شروق الشمس إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فجعلنا عالى ديارهم سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد.
إن في ذلك لآيات للمتوسمين المفكرين الناظرين بعين الاعتبار وأن ديارهم بطريق قومك إلى الشام فهم يرونها. فهل من مدكر؟! إن في ذلك لآية للمؤمنين الصادقين!!
أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٨ الى ٨٦]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب، والأيكة: الغيضة والشجر الملتف لَبِإِمامٍ مُبِينٍ بطريق واضح أَصْحابُ الْحِجْرِ الحجر ديار ثمود فَاصْفَحِ اعف عنهم وتجاوز عن مسيئهم، والصفح الإعراض.
المعنى:
ولقد كان أهل مدين أصحاب أيكة وغيضة ظالمين بشركهم، وقطعهم الطريق ونقصهم الكيل والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة، وعذاب يوم الظلمة وقد كانوا قريبا من قوم لوط في المكان ولذا قال الله: وإنهما لبطريق واضح يسلكه الناس لم يندرس بعد، والناس تبصر تلك الآثار الشاهدة عليهم، وهذا تنبيه لقريش وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
«١» ولقد كذب أصحاب الحجر وهم قبيلة ثمود المرسلين إذ كذبوا نبيهم صالحا. ومن كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل لأنهم متفقون في الأصول، وآتيناهم آياتنا الدالة على صدق رسولنا صالحا وهي الناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء وكانت تسرح في بلادهم، ولها شرب ولهم شرب فهي ضخمة، ولبنها كثير كان يكفى القبيلة، وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبل، وأصبحوا فيها آمنين من العدو، ومن سقوطها عليهم. فلما عتوا وبغوا، واعتدوا على الناقة أخذتهم الصيحة في وقت الصبح فما أغنى عنهم ما كانوا يكتسبون من أموال وديار.
توجيهات إلهيّة إلى الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا منهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ المراد ألن جانبك وتواضع لهم، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه إذا غطاه به وضمه إليه الْمُقْتَسِمِينَ جماعة من قريش اقتسموا الطريق ليصدوا عن سبيل الله، وقيل: اقتسموا للقرآن فقال بعضهم هو سحر، وبعضهم. هو شعر، وبعضهم هو كهانة، وقيل هم أهل الكتاب عِضِينَ جمع عضة والمراد فرقوه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقيل فرقوا أقوالهم فيه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ المراد بلغ الرسالة للجميع، وأظهر دينك ولا تخش أحدا، وأصل الصدع الشق ومنه تصدع البناء وتصدع القوم تفرقوا يَضِيقُ صَدْرُكَ المراد تتألم وتتحرج الْيَقِينُ الموت لأنه متيقن الوقوع.
هكذا السور المكية المبدوءة بأحرف هجائية تبدأ غالبا بالكلام على القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلم، وتختتم بالحديث عنهما ألا ترى إلى سورة هود ويوسف وإبراهيم وها هي ذي سورة الحجر.
المعنى:
وتالله لقد آتيناك يا أيها الرسول سبع آيات هي المثاني، والقرآن العظيم، ولقد اختلف العلماء في
المراد بالسبع المثاني فقال البعض: هي الفاتحة وقد روى الشيخان ذلك التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلم.
والفاتحة تثنى في كل صلاة بقراءتها في كل ركعة، وقيل سميت بذلك لأن فيها الثناء على الله- سبحانه وتعالى-، وقال البعض السبع المثاني هي السبع الطوال: البقرة. وآل عمران. والنساء. والمائدة. والأنعام. والأعراف. والأنفال.
والتوبة: بناء على أنهما سورة واحدة، وسميت مثاني لأن القصص والأحكام والحدود ثنيت فيها وكررت، وقيل المراد بالسبع المثاني جميع القرآن. ويكون عطف والقرآن العظيم من باب الترادف أو عطف الصفات والموصوف واحد اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر ٢٣].
وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم «ليس منّا من لّم يتغنّ بالقرآن»
أى: يستغنى به.
وهذا توجيه سام وأدب عال من الله- سبحانه- لعباده المؤمنين، وتربية لنفوسهم بعيدة الأثر، فليس أضر على الإنسان من طموحه إلى من هو فوقه في الدنيا وعرضها بل انظر إلى من دونك تسترح فإذا أعطيت مع هذا القرآن فكفى به شرفا، وليست الآية تدعو إلى عدم العمل. كلا فليس في ديننا رهبانية ولا كسل بل هو دين العمل والقصد الحسن، وفي الآية إشارة إلى ما في القرآن من الخير والفلاح، وأنه لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد بل هو متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المصير.
ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا، ويقول القرطبي: ولا تحزن على ما تمتعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه.
واخفض جناحك للمؤمنين، نعم وألن جانبك لهم، وتواضع معهم، فلو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر يا سبحان الله هذه تعاليم إلهية تلقى للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي شهد له القرآن بأنه على خلق عظيم ليعمل بها كل رئيس أراد أن تلتف حوله قلوب جماعته، فلينظر حكامنا وقادتنا إلى تعاليم القرآن.
وقل لهم: إنى أنا النذير المبين فقط، فليس لي من الأمر شيء وإنما علىّ البلاغ والتبشير والإنذار، وعلى الله كل شيء بعد هذا.
ولقد آتيناك ونزلنا عليك القرآن مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، نعم أهل الكتاب اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه حقا لأنه موافق لهواهم، وبعضه باطلا لأنه مخالف لهواهم! وقال بعضهم هذه السورة لي، وقال الآخر وهذه السورة لي، ترى أنهم اقتسموا القرآن وجعلوه فرقا، ويجوز أن يراد بالقرآن
وبعضهم يقول: المقتسمون هم القرشيون الذين اقتسموا الطريق ووقف كل منهم على باب يحذر الناس من اتباع النبي ويقولون عن القرآن إنه سحر وصاحبه ساحر، وهو كذب، وصاحبه كذاب، وهو شعر وصاحبه شاعر، ولعل المعنى إنى أنا النذير المبين إنذارا بعذاب ينزل بكم كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن فرقا وأنواعا.
فاقسم بربك لنسألنهم جميعا يوم لا ينفع مال ولا بنون، عما كانوا يعملون وسنجازيهم عليه الجزاء الوافي حتى يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.
وإذا كان الأمر كذلك، وقد نفذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كل هذه التوجيهات وعمل بها فاصدع أيها النبي بما تؤمر.
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتبليغ الرسالة للجميع، والجهر بها فقد مضت مرحلة الإسرار في الدعوة.
فاصدع بالذي تؤمر به وفرق به جمعهم، واجهر بدعوتك فسينشق بها حائطهم وسيصدع جدارهم، وأعرض عن المشركين، ولا تبال بهم فالله عاصمك منهم، ومؤيدك بروح من عنده، وكافيك شر المستهزئين بك المجاهرين لك في العداوة والبغضاء، وقد صدق الله وعده ونصر عبده، ونال كل من زعماء الشرك وقادة الباطل حتفهم على أسوأ صورة في غزوة بدر وما بعدها.
هؤلاء المستهزئون بك يستحقون أكثر من ذلك فهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر، ويشركون به من لا يملك ضرا ولا نفعا فسوف يعلمون عاقبة عملهم ونتيجة شركهم.
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، وتتحرج نفسك بما يعملون ولكن الدواء الناجح الذي به تطمئن القلوب وتهدأ النفوس، حتى تستعذب في سبيل الله كل عذاب، وتعده من أكبر النعم وتمام التطهير لها.
هذا الدواء هو التسبيح والتقديس والركوع والسجود، والإكثار من العبادة والاتصال بالله إذ هذه مطهرات للنفس مقويات للروح ومتى قويت الروح ضعفت النفس المادية التي تشعر بالألم والتعب والنصب إذا عملت في سبيل الله.
ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما عالج ألم ابنته وتعبها من الرحى بعلاج التسبيح والتحميد والتكبير.
واعبد ربك أيها الرسول حتى يأتيك الأمر اليقين، وتلقى ربك، وإذا كان هذا هو توجيه الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين نحن؟! أين نحن؟! اللهم وفقنا واهدنا إلى سواء السبيل.