بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزابسورة الأحزاب مدنية١.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزابسورة الأحزاب مدنية.
قوله تعالى ذكره: ﴿يا أيها النبي اتق الله﴾ إلى قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾.
النبي عند جميع النحويين نعت لأي، إلا الأخفش فإنه جعله صلة لأي. وهو غلط لأن الصلة لا تكون إلا في جملة.
وأكثر النحويين على منع جواز النصب في ﴿النبي﴾ لأنه نعت لا بد منه، فهو المقصود بالنداء.
والمعنى: يا أيها النبي اثبت على تقوى الله، لأنه كان متقياً.
وقيل: هو مخاطبة للنبي والمراد به أمته.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾.
إن جعلته خطاباً للنبي ﷺ خاصة فمعنه: لا تطعهم في قولهم لك: اصرف عنا أتباعك من فقراء المؤمنين حتى نجالسك، ولا تطع المنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة وهم لا يسألونك وأصحابك خبالاً فلا تقبل لهم رأياً.
ومن جعله خطاباً للنبي ﷺ والمراد به أمته فمعناه: لا تطيعوهم فيما نهيتم عنه فتفعلوه/ ولا فيما أمرتم به فتتركوه.
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ أي: بخلقه وما في نفوسهم واعتقادههم.
﴿حَكِيماً﴾ في تدبيره إياهم.
ثم قال: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ﴾ أي: اعمل بما ينزل إليك من وحي الله.
﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي: ذو خبر وعلم باعمالكم في هذا القرآن وفي غيره،
ثم قال تعالى ذكره ﴿وَتَوَكَّلْ على الله﴾ أي: فوض أمرك إلى الله.
﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ أي: وحسبك بالله في أمرك حفيظاً.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه﴾.
هذا تكذيب لقوم من المنافقين زعموا أن النبي ﷺ ذو قلبين. قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضاً أنه نزلت في رجل من قريش يسمى من حدة ذهنه ذا القلبين فنفى الله ذلك عنه.
وقال مجاهد: قال رجل من بني فهر. إن في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فكذبه الله.
وقال الحسن: كان رجل يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني، فأنزل الله فيه ما
وقال قتادة وعكرمة: كان ارجل يمسى ذا القلبين، فأنزل الله فيه هذه الآية.
وعن قتادة أنه قال: كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه، فقال الناس: ما يعي هذا إلا أن له قلبين، فكان يسمى ذا القلبين فأنزل الله ذلك ونفاه.
وقال الزهري: نزلت في زيد بن حارثة. ضرب الله له مثلاً يقول: ليس ابن رجل هو ابنك يا محمد.
وقيل: المعنى: ما جعل الله لرجل قلباً يحب به، وقلباً يبغض به، وقلباً يكفر به، وقلبً يؤمن به.
ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾.
أي: ولم نجعل أزواجكم بقولكم: هي على كظهر أمي أمهاتكم، بل جعل ذلك قولكم كذباً، فألزمكم الكفارة عليه عقوبة على كذبكم.
أي: ولم يجعل ابن غيرك هو ابنك بدعواك ذلك وقولك.
ونزل هذا على النبي ﷺ لأجل تبنيه لزيد بن حارثة، قاله مجاهد وغيره.
ثم قال: ﴿ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ أي: دعواكم يا بُنَيَّ لمن ليس هو ابن لكم قول منكم لا حقيقة له.
﴿والله يَقُولُ الحق﴾ أي: الصدق.
وقيل: المعنى قولكم لأوزاجكم: هي علي كظهر أمي، قول منكم لا حقيقة له لأنها ليست بأم لكم.
ثم قال: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ أي: يبين لعباده طريق الحق والرشاد.
وقوله تعالى ذكره: ﴿ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله﴾ إلى قوله: ﴿مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾.
أي: انسبوا أدعياءكم إلى آبائهم فهو أعدل عند الله.
﴿فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ﴾ أي: تعرفوا أسماء آبائهم فتنسبوهم إليهم.
﴿فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين﴾ أي: فهم إخوانكم في الدين إذا كانوا أهل ملتكم.
﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾ أي: وهم مواليكم أي: أوليائهم، أي بنو عمكم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ أي: لا إثم عليكم في الخطإ يكون
﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾. أي: ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتم من ذلك فنسبتم الرجل إلى غير أبيه معتمدين ذلك، هذا معنى قول قتادة ومجاهد وغيرهما.
و" ما " في موضع جر عطف على " ما " الأولى.
ويجوز أن تكون في موضع رفع على خبر ابتداءٍ محذوف، والتقدير: ولكن الذي تأثمون فيه ما تعمدت قلوبكم.
وقد أجرى بعض الفقهاء الفتيا في غير التعمد على ظاهرة هذه الآية، فجعلها عامة في كل شيء لم يتعمده فاعله.
قال عطاء: إذا حلف رجل أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأخذ منه ما يرى أنه حقه فوجدها زائدة أو ناقصة، إنه لا شيء عليه لأنه لم يتعمد. وكذا إذا حلف أنه لا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعلم، إنه لا حنث عليه لأنه لم يتعمد ذلك. وأكثر الفقهاء على خلافه، فالآية عندهم مخصوصة في هذا بعينه. إنما كان هذا قبل
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ أي ذا ستر على ذنب من دعا إنساناً بغير اسم أبيه وهو لا يعلم.
ومن قال: إن الآية مخصوصة فيما كان قبل النهي، أو هي مخصوصة في أن يدعو الإنسان الرجل إلى أب وهو عنده أبوه، وليس هو كذلك، لم يقف على " ومواليكم " لأن ما بعده متصل به، ومن جعل ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ عاماً في هذا وغيره جعله مستأنفاً، حسن الوقف على ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾، ثم استأنف ما بعده لأنه عام.
فإذا جعلت (ما) في موضع خفض لم تقف على ﴿فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [لأن ما بعده معطوف عليه.
فإن جعلت (ما) في موضع رفع على ما تقدم وقفت على " أخطأتم به "].
ثم تستأنف: ﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.
أي: أولى بهم من بعضهم لبعض، مثل: ﴿فاقتلوا أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] ﴿تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥]
وقال ابن زيد: المعنى: ما قضى فيهم النبي من أمر جاز، كما كلما قضيت على عبدي جاز.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِه فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤْوا إِنْ شِئْتُمْ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم "، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلَوَرَثَتِهِ وَلِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَو ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ ".
وحكى قتادة والحسن: بأنه كان يقرأ في بعض القراءات: " مِنْ أنفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ "، ولا ينبغي أن يقرأ بذلك الآن لمخالفته المصحف والإجماع.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ أي: في الحرمة كالأم، فلا يحل تزوجهن من بعد وفاة النبي ﷺ كما لا يحل تزويج الابن الأم، وهن في الحق والتعظيم والبِرِّ كالأم.
ثم قال تعالى: ﴿وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله﴾ أي: وأولوا الأرحام الذين ورثت يا محمد بعضهم من بعض أولى بالميراث من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون بالهجرة دون الرحم. هذا قول الطبري.
قال قتادة: لم يزل المؤمنون زماناً يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخلط المسلمون بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملل.
وقيل: التقدير: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين أولى بالميراث من غيرهم ممن لا رحم بينهم من المؤمنين المهاجرين.
وقال ابن زيد: كان النبي ﷺ قد آخى بين المهاجرين والأنصار أول ما كانت الهجرة، فكانوا يتوارثون على ذلك. قال فلما ظهر الفتح انقطعت الهجرة وكثر الإسلام وتوارث الناس على الأرحام، فنسخ التوارث بالهجرة، قال ذلك في كلام طويل تركته إذ الفائدة فيما ذكرت منه.
فمعنى الآية على هذا التأويل: وأولوا الأرحام من المهاجرين والأنصار بعضهم أولى ببعض بالميراث من أن يتوارثوا بالهجرة.
أي: إلا أن توصوا لقرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة.
وقال مجاهد: معناه إلا أن تمسكوا بالمعروف والإحسان بينكم وبين حلفائكم من المهاجرين والأنصار.
وقيل: المعنى: إلا أن توصوا لمن حالفتموه واخيتموه من المهاجرين والأنصار، قاله ابن زيد.
وقوله تعالى: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾.
أي: كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مكتوباً، قاله ابن زيد وغيره.
وقيل: المعنى: كان منع أن يرث المشرك المسلم مكتوباً في الكتاب، قاله قتادة.
المعنى عند الطبري: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً﴾، أي كتبنا ما هو كائن في اللوح المحفوظ، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ﴾، كان ذلك أيضاً، في الكتاب مسطوراً، يعني العهد والميثاق.
فالعامل في " إذ " على هذا: " كان ".
والعامل فيها عند أبي إسحاق/ " اذكر " مضمرة، أي: واذكر إذ أخذنا. قال ابن عباس: أخذ منهم الميثاق على قومهم.
وقال ابن أبي كعب: هو مثل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢] الآية فأخذ ميثاقهم على الأنبياء منهم الذين كانوا السراج، ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة على الرسالة.
روى قتادة أن النبي ﷺ قال: " كُنْتُ أَوَّلَ الأَنْبِياءِ فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ ".
فلذلك وقع ذكره هنا مقدماً قبل نوح وغيره لأنه أولهم في الخلق.
قال مجاهد: ﴿وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾: في ظهر آدم، فالمعنى أخذ الله عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام كالذَّرّ.
قوله تعالى ذكره: ﴿لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿بالله الظنونا﴾.
أي: أخذنا من النبيين ميثاقهم ليسأل الله المؤمنين منهم عما أجابتهم به أمهاتهم.
ومعنى سؤال الله جل ذكره عن ذلك الرسل، وهو عالم به، أنه على التبكيت والوبيخ للذين كفروا كقوله لعيسى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ﴾ [المائدة: ١١٦] الآية.
ثم قال: ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي: أعد للمذكبين الرسل عذاباً مؤلماً، أي موجعاً.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي: اذكروا تفضل الله علكيم فاشكروه على ما فعل بكم.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ كانت الريح التي نُصِِرَ بها النبي ﷺ: الصبا.
قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي تنصري رسول الله ﷺ، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل. قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا.
قال أبو سعيد الخدري: " قُلْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ، قَال: قُولُوا اللهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَال: فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ باِالرّيحِ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ بِالرّيح ".
قال ابن عمر: كانت معي يوم الخندق تُرْسٌ وكان فيها حديد فضربتها الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد.
قال قتادة: ﴿وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ يعني: الملائكة، قال: نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله ﷺ شهراً، فخندق رسول الله حوله وحول أصحابه خارج المدينة، وأقبل أبو سفيان بقريش من تبعه من الناس حتى نزلوا بِعُصْرَةِ رسول الله.
[وأقبل عيينة بن حصن أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزل بعصرة رسول الله ﷺ]. وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه بذلك، حيث يقول تعالى ذكره: ﴿إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ فبعث الله عليهم الرعب والريح فذكر لنا أنهم
قال ابن إسحاق: كانت الجنود قريشاً وغطفان وبني قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح: الملائكة، وكانت الريح مع قوتها شديدة البد، وكان في ذلك أعظم آية النبي ﷺ.
وكانت سبب الأحزاب: أن النبي ﷺ لما أجلى بني النضير إلى خيبر، وكانوا قد سادوا العرب وعرفوا بكثرة المال، وهم من بني هارون النبي عليه السلام، فلما انتقلوا إلى خيبر، وحول خيبر من العرب أسد وغطفان حزبت اليهود على النبي العَرَبُ من أسد وغطفان وغيرهم.
وخرجوا في ستة آلاف، ثم تدرج كبراء اليهود إلى مكة فحزبوا قريشاً على النبي عليه السلام، وأتبعتهم كنانة واجتمعوا في نحو عشرة آلاف وأتوا المدينة، فنزلوا عليها، فخندق النبي ﷺ على المدينة، وكان إخوة بني/ النضير من قريظة وَادَعُوا النبي عليه السلام فلم يزل بهم بنو النضير حتى نقضوا العهد وعاونوهم على النبي عليه السلام، وفيهم نزل:
قال مالك: كانت وقعة الخندق سنة أربع.
وقال ابن إسحاق: فكانت وقعة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة خمس.
قال ماك: كان الخندق وقريظة في يوم واحد، انصرف النبي ﷺ من وقعة
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت وقعة أحد على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة، وعند منصرف النبي عليه السلام من أحد خرج إلى بني النضير وأجلاهم إلى خيبر وإلى الشام على صلح وقع بينهم قد ذكر في غير هذا الموضع.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ أي: بأعمالكم في ذلك اليوم وغيره، بصير لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: ﴿إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾.
العامل في إذ عند الطبري ﴿تَعْمَلُونَ﴾، أي: وكان الله بصيراً بعملكم إذ جاؤوكم.
وقيل: التقدير: اذكر إذ جاؤوكم.
وقيل: هي بدل من إذ الأولى.
وقيل: إن هذه الألِفَات إنما جيئ بها لبيان حركة ما قبلها كهاء السكت، فهذا مؤكد الوقف عليها لمن أثبتها في الوصل والوقف. ويدل على قوة الوقف عليها لمن أثبتها، قراءة الكسائي وابن كثير وحفص بألف فيهن في الوقف دون الوصل.
ومعنى الآية: واذكروا إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ومن أسفل منكم.
" واستمدت غطفان بحلفائهم من بني أسد، واستمدوا الرجال من بني سليم فخرجوا في جمع عظيم، فهم الذين سمّاهم الله الأحزاب، فلما بلغ النبي ﷺ خروجهم
وكان حفر الخندق في شوال في سنة أربع من الهجرة، فلما تم الحفر أقبل أبو
فلما اشتد البلاء على المسلمين نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى النبي ﷺ ما الناس فيه من البلاء جعل يبشرهم ويقول: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُفَرِّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ، وَإِنِي لأَرْجُوا أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ العَتِيقِ آمِناً، وَأَنْ تُدْفَعَ إِلَيَّ مَفَاتِيحُ الكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ قَيْصَراً وَلَنُنْفِقَنَّ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ". فقال رجل من المنافقين: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب لغائط، ما يعدنا إلا غروراً. وقال آخرون منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال آخرون: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة، فوجه النبي ﷺ إلى بني قريظة ليذكرهم حلفهم ويناشدهم، فسبوا الرسل وعندوا عن الحق وأبو إلا نقض العهد والخلاف عليه فشقَّ ذلك على النبي عليه السلام والمسلمين، فلما اشتدّ الأمر على المسلمين قال النبي عليه السلام: " اللهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ عَهْدكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ تَشَاء لاَ تُعْبَد ".
ثم قسم رسول الله أموالهم بين من حفر من المسلمين المهاجرين خاصة، وكان جميع الخيل التي مع النبي ﷺ ستة وثلاثين فرساً، فقسم لكل فرس سهمين، وأخرج حيي بن أخطب فقال له النبي عليه السلام/: " هَلْ أَخْزَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرْتَ عَلَيَّ، وَمَا لمتُ نَفْسِي فِي جِهَادِكَ والشِّدَّةِ عَلَيْكَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، كُلُّ ذَلِكَ بَعَيْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ".
وروي أن النبي ﷺ كاتبهم، وذلك أنه دس على الأحزاب من قال لهم: إن بني قريظة أرسلوا إلى النبي يدعونه إلى الصلح على أن يرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن الذي عندهم من رجال قريش، وذلك أن بني النضير قالت لقريش: لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين رجلاً منكم رهناً عندنا، فلما بلغ ذللاك قريشاَ عظم عليهم الأمر ووجهونما إلى بني النضير أن يقاتلوا معهم، فقالت بنو النضير: وجهوا إليها الرهن، ونقاتل، فتحقق الأمر عند قريش، فعملوا على الانصراف [عن] النبي عليه السلام مع ما حلَّ بهم من الريح، وما دخل قلوبهم من الرعب، فكان ذلك كله من
وروي أن الرجل الذي مضى بذلك إلى قريش هو نعيم بن مسعود، فلما قضى الله قضاءه في بني قريظة وصرف المشركين عن النبي نزل القرآن يعرف الله المؤمنين نعمته التي أنعم عليهم من الريح والجنود التي أرسل على عدوهم.
وقوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا﴾ هو ما كان المنافقون يخوضون فيه في أمر النبي ﷺ وأصحابه، وقولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً، وقولهم: لا مقام لكم، فأمر بعضهم بعضاً بالانصراف عن نصرة رسول الله ﷺ، ثم ذكر الله تعالى المسلمين وصبرهم على البلاء، وأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يبدلوا ديناً ولا نية على ما كانوا عليه.
وروي أن قوله: ﴿مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ﴾، نزلت في قوم من المؤمنين تخلَّفوا عن بدر لعذر منعهم، فعاهدوا الله لئن جاءهم مثل يوم بدر ليرين مكانهم، فلما كان يوم أحد قاتل بعضهم حتى مات، ووفى بعهده، فهو قوله جل ذكره: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ﴾، وبقي بعضهم سالماً، وهو قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ﴾، ثم أخبر عنهم أنهم ما بدلوا، يعني:
ثم ذكر أنه تعالى رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنه كفى الله المؤمنين قتالهم، ثم ذكر بني قريظة ونصره للمؤمنين عليهم، فقال: ﴿وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ أي: عاونوا قريشاً ومشركي العرب على حرب النبي ﷺ، واصحابه. ﴿مِن صَيَاصِيهِمْ﴾ أي: من حصونهم، يعني بني قريظة، وأنه قذف في قلوبهم الرعب.
﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ أي تقتلون المقاتلة، وتسبون النساء والأطفال، وأنه أورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأنزل الله في ذلك تسعاً وعشرين آية أولها: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾.
ومعنى: ﴿زَاغَتِ الأبصار﴾: شخصت من الخوف.
والبصر الناظر، وجملة العين المقلة وهي شحمة العين: البياض والسواد، وفي المقلة الحدقة، وهي السواد الذي في وسط المقلة، وفي الحدقة الناظر، وهو موضع البصر يسمى الإنسان، والعين كالمرآة يرى فيها الوجه وفيها الناظر، وهما عرقان على حرف الأنف يسيلان من المؤقين إلى الوجه، وفيها أشياء كثيرة قد ذكرت في خلق الإنسان.
وقوله: ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ أي نَبَتْ عن أماكنها من الرعب.
قال قتادة: لولا أن الحلقوم ضاقت عنها لخرجت.
وقيل: المعنى بلغ وجفهَا من شدة الفزع الحلوق، فهي بالغة الحلوق بالوجيف.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا﴾ أي: ظننتم أن رسول الله ﷺ يغلب.
هذا خطاب للمنافقين، ظنوا ظنوناً كاذبة فأخلف الله ظنهم بنصره للمؤمنين.
قوله تعالى ذكره: ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ إلى قوله ﴿وَذَكَرَ الله كَثِيراً﴾.
هنالك ظرف زمان، والعامل فيه " ابتلي ".
والتقدير: وقت ذلك اختبر المؤمنون فعرف المؤمن من المنافق، والابتداء به حسن على هذا.
وقيل: إن العامل فيه " ﴿وَتَظُنُّونَ﴾ " أي: وتظنون بالله الظنون الكاذبة هنالك/، والابتداء به على هذا التقدير.
ثم قال تعالى: ﴿وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ أي: حركوا وأزعجوا بالفتنة إزعاجاً شديداً.
ثم قال: ﴿وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي: شك في الإيمان وضعف في الاعتقاد.
﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ أي: قال طائفة من المنافقين: يا أهل يثرب لا تقيموا مع النبي وارجعوا إلى منازلكم، ويثرب اسم أرض ومدينة النبي ﷺ في ناحية من يثرب.
ثم قال: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي﴾ أي: يستأذن طائفة من المنافقين النبي في الانصراف إلى منزلهم اعتلالاً بالخوف على منزله من السرق، وليس به إلا الفرار والهرب.
قال ابن عباس: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا مخلاة نخاف عليها السرق.
قال قتادة: يقولون بيوتنا مما يلي العدو وإنا نخاف عليها السرق.
ففضحهم الله، وقال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾ أي: ما يريدون إلا الهرب.
يقال: أعور المنزل إذا ضاع ولم يكن له ما يستره أو سقط جداره. وقرأ يحيى بن
وقيل: معنى قراءة الإسكان: إن بيوتنا ذات عورة، يقال للمرأة: عورة، فالمعنى ذات نساء نخاف عليهن العدو.
ويجوز أن تكون عورة مسكنة من " عَوِرَة ".
ويجوز أن تكون مصدراً.
ويجوز أن تكون اسم فاعل على السعة، كما يقال: رجل عَدْلٌ أي عَادِلٌ.
﴿ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا﴾] أي: لو سئلوا الشرك لأعطوه من أنفسهم طائعين، ومن قطر لأتوه، فمعناه: لجاؤوا الكفر طوعاً.
وقيل: المعنى: ولو دخلت عليهم البيوت من نواحيها ثم سئلوا الشرك لقبلوه وأتوه طائعين.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تَلَبَّثُواْ﴾ أي بالمدينة. قاله القتبي. وقيل: المعنى: وما تلبثوا بالفتنة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار﴾ أي: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله في الانصراف عنه عاهدوا الله من قبل لا يولون عدوهم الأدبار فما أوفوا بعهدهم.
﴿وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً﴾ أي: يسأل الله ذاك من أعطاه إياه من نفسه. وذكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة، وهو قوله جل ذكره: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ [آل عمران: ١٢٢]، ثم عاهدوا الله لا يولون العدو الأدبار ولا يعودون لمثلها فذكر الله لهم ما قد أعطوا من أنفسهم ولم يفوا به.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل﴾ أي: قل لهم يا محمد لا ينفعكم هروبكم إن هربتم من الموت أو القتل لأن ذلك إن كان كتب عليكم فلا ينفعكم فراركم شيئاً، لا بد لكم مما كتب عليكم.
﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: لا يزيد لكم فراركم في أعماركم شيئاً بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، لا تجاوزوه، هو قليل لأن الدنيا كلها متاع قليل، فما بقي من أعماركم أقل من القليل.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله﴾ أي: يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً في أنفسكم أو عاقبة وسلامة، فليس الأمر إلا ما قدر الله.
ثم قال: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي: لا يجدون لأنفسهم من يليهم بالكفالة مما قدر الله عليهم من سوء، ولا نصيراً ينصرهم مما أراد بهم.
ثم قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ﴾ اي: قد يعلم الله الذين يعوقون الناس فيصدونهم عن رسول الله في حضور الحرب. وهو مُشتق من عاقني عن كذا، أي: صرفني عنه ومنعني، وعوق على التكثير لعاق فهو مُعَوِّقٌ.
﴿وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: الحرب والقتال، لا يشهدون ذلك إلا تعذيراً، ودفعاً للمسلمين عن/ أنفسهم ورياءً، وهذا كله في المنافقين.
قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لأخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أُكْلَةُ رأسٍ ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه دعوا هذا الرجل فإنه هالك.
وقال ابن زيد: نزلت في آخوين أحدهما مؤمن والآخر منافق، جرى بينهما كلام في أمر رسول الله ﷺ، فقال المنافق للمؤمن: هلمَّ إلى الطعام فقد نعق بك وبصاحبك والذي يحلف به، لاستقبلهما محمداً أبداً، فقال له المؤمن: كذبت والذي يحلف به، ثم أخبر النبي ﷺ بذلك، فنزلت: ﴿والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾.
ثم قال تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾.
قال الفراء: هو منصوب على الذم، وأجاز نصبه على الحال، وقدره: يعوقون أشحة.
وقيل: هو حال، والتقدير: والقائلين لأخوانهم أشحة.
وقال الطبري: التقدير هلمَّ إلينا أشحة.
وقال السدي بنصبه على الحال، والتقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً بخلاً عليهم بالظفر والغنيمة.
ومن جعل العامل في أشحة " المُعَوِّقِينَ " أو " القائلين " فقد غلط لأنه تفريق بين الصلة والموصول.
قال قتادة: معنا أشحة عليكم في الغنيمة.
وقال مجاهد: أشحة عليكم في الخير.
وقيل: التقدير: أشحة عليكم بالنفقة على الضعفاء منكم.
والتأويل: جبناء عند الناس أشحاء عند قسم الغنيمة.
وقال يزيد بن رومان: أشحة عليكم للضغن الذي في أنفسهم.
﴿كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي يُغشى عليه من الموت النازل به.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ أي: فإذا زال القتال عفوكم بألسنة ذربة.
يقال للرجل الخطيب: مِسْلَقٌ وَمِسْلاقَ وَسَلاقٌ بالسين والصاد فيهن، أي: بليغ. والمعنى: أنهم عند قسم الغنيمة يتطاولون بألسنتهم لشحهم على ما يأخذ المسلمون، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا شهدنا معكم، وهم عند البأس أجبن قوم، هذا معنى قول قتادة.
ويدل على صحة هذا التأويل قوله بعد ذلك: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الخير﴾ أي: على الغنيمة إذا ظفر المسلمون.
وقيل: بل ذلك أذى المنافقين للمسلمين بألسنتهم عند الأمان. قاله ابن عباس
ثم قال تعالى ذكره: ﴿أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ﴾ أي: هؤلاء المنافقون الذين تقدمت صفتهم لم يصدقوا بالله ورسوله بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم، أي: أذهبا وأبطلها.
ويروى أن الذي وُصِفَ بها كان بدرياً فأحبط الله عمله، قاله ابن زيد.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً﴾ أي: وكان إحباط أعمالهم على الله هيناً حقيراً.
وتقف على " ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ " إذا نصبت " أشحة " على الذم، ولا تقف عليه على غير هذا التقدير.
قال تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ﴾ أي: يحسب هؤلاء المنافقون من جبنهم وخوفهم أن الأحزاب لم ينصرفوا وأنهم باقون قريباً منهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب﴾ أي: وإن يأتكم الأحزاب لحربكم ودّ هؤلاء المنافقون لو أنهم في البادية غيب عنكم يسألون عن أخباركم من بعيد جبناً منهم وهلعاً من القتل، يقولون: هل هلك محمد وأصحابه؟ يتمنون أن يسمعوا هلاكهم.
وقرأ طلحة: " لَو أَنَّهُمْ بُدًّى " فِي الأَعْرَابِ مثل: غُزىًّ.
ثم قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ هذا عتاب من الله للمستخفين عن رسول الله ﷺ بالمدينة من المؤمنين، أي: كان لكم أن تتأسوا به، وتكونوا معه حيث كان ولا تتخلفوا عنه.
ثم قال: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله﴾ / أي: ثواب الله في الآخرة.
﴿واليوم الآخر﴾ أي: ويرجوا عاقبة اليوم الآخر.
﴿وَذَكَرَ الله كَثِيراً﴾ أي: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب﴾ إلى قوله: ﴿غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
أي: ولما عاين المؤمنون جماعة من الكفار، وقالوا تسليماً منهم لأمر الله وتصديقاً بكتابه: ﴿هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾ يعنون قوله تعالى ذكره: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ [البقرة: ٢١٤].
ثم قال: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ أي: ما زادتهم الرؤية لذلك إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره، وإنما ذكِرَ " زادهم " لأن تأنيث الرؤية غير حقيقي. ودل " رأي " على الرؤية، هذا قول الفراء وعلي بن سليمان.
قال الحسن: معناه ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب وتسليماً إلى القضاء.
ثم قال تعالى: ﴿مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ﴾ أي: أوفوا بالصبر على البأساء والضراء إذ قد عاهدوا الله أن يصبروا إذا امتحنوا.
ثم قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ﴾ أي: فرغ من العمل الذي قدره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بَدْر وبعض يوم أُحُد وبعض في غير ذلك من المواطن.
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ﴾ قضاءه والفرغ منه على الوفاء لله بعهده.
وأصل النحب في كلام العرب النذر، ثم يستعمل في الموت والخطر العظيم، وقيل: النحب: العهد.
قال الحسن: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ﴾ موته على الصدق.
وقال قتادة: على الصدق والوفاء.
قال ابن عباس: نحبه هو الموت على ما عاهد الله، ومنهم من ينتظر الموت على
ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدو بدراً، فعاهدوا الله إن لقوا قتالاً للمشركين مع رسول الله أن يبلوا من أنفسهم، فشهدوا ذلك مع رسول الله، فمنهم من وفى فقضى نحبه، ومنهم من بدّل وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ [الأحزاب: ١٥] الآية، ومنهم من وفى ولم يقض نحبه فهو منتظر للموت.
قال أنس: تغيَّب أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: تغيَّبت عن أول مشهد شهده رسول الله ﷺ، لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وهزم الناس لقي سعد بن معاذ فقال: والله إني لأجد ريح الجنة فتقدم فقَاتَل حتى قُتِلَ، فنزلت هذه الآية: ﴿مِّنَ المؤمنين﴾، وقال أنس: فوجدناه بين القتلى به بعضاً وثمانين جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه حتى عرفته أخته.
وقوله: ﴿وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً﴾ أي: ما غيّروا العهد ولا الذين كما غيره المعوقون القائلون لأخوانهم هلم إلينا.
قال قتادة: معناه ما شكوا ولا ترددوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره.
ثم قال تعالى: ﴿لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ﴾ أي: صدقوا ليثبت أهل الصدق منهم بصدقهم الله على ما عاهدوا عليه.
﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ﴾ بكفرهم ونقضهم ما عاهدوا الله عليه، أو يتوب عليهم، أي يخرجهم من النفاق إلى الإيمان به.
ومعنى الاستثناء في هذا أن المعنى: ويعذب المنافقين بأن لا يتوب عليهم، ولا يوفقهم للتوبة، فيموتوا على نفاقهم إن شاء، فيجب عليهم العذاب، فعذاب المنافق لا بد منه لأنه كافر، والاستثناء إنما هو من أجل التوفيق لا من أجل العذاب، ويبين ذلك قوله: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فالمعنى ويعذب المنافقين إن لم يهدهم للتوبة، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي: أن الله لم يزل ذا ستر على ذنوب التائبين، رحيماً بهم أن يعذبهم بعد توبتهم.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾.
أي: ورد الله الأحزاب بغيظهم أي بِكَرْبِهِم وعمهم لفوتهم ما أملوا من الظفر لم
﴿وَكَفَى الله المؤمنين القتال﴾ بالريح/ والجنود التي أنزل الله من الملائكة.
روى عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري عن أبيه أنه قال: حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلاةِ فَلَمْ نُصَلِّ الظُّهْرَ وَلاَ العَصْرَ وَلاَ المَغْرِبَ وَلاَ العِشَاءَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ العِشَاءِ بِهَويٍّ فَكَفَيْنَا فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: ﴿وَكَفَى الله المؤمنين القتال﴾ الآية " فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصلَّى الظُّهْرَ فَأَحْسَنَ صَلاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ كَذَلِكَ، لِكُلِّ صَلاَةٍ إِقَامَةٌ.
وقوله: ﴿وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً﴾ أي: قوياً في أمره عزيزاً في نقمته.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ﴾ يعني بني النضير وبني قريظة عاونوا المشركين على النبي وأصحابه، فأنزلهم الله من حصونهم ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ يعني المُقَاتِلَةَ.
﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً﴾ يعني النساء والصبيان كما حكم فيهم سعد، لأنهم حكموه في أنفسهم لحلف كان بينهم وبين قوم سعد فطمعوا أن يميل معهم، فلم تأخذه في الله
وأصل الصَّيْصَّةِ ما تمنتع به، فلذلك قيل للحصن صيصية لأنه يمتنع به، ولذلك يقال لقرون البقر صياصي لأنها يمتنع بها.
وذكر قتادة وغيره: " أن النبي ﷺ بعد ذهاب الأحزاب عنه دخل بيت زينت بنت جحش يغسل رأسه فبينما هو يغسله إذ أتاه جبريل ﷺ، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة فإني قطعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبَلْبَالِ فاسْتَلأَمَ ﷺ، ثم سلك شق بني غنم، فاتَّبَعَهُ الناس، فأتاهم رسول الله فحاصرهم، وناداهم يا أخوة القرود، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشاً، فنزلوا على حكم سعد فحكم بقتل مقاتلهم - وكانوا ست مائة -، وسبي ذراريهم، وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار، فقال
ثم قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ أي: ملككم ذلك بعد مهلكهم.
ثم قال: ﴿وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا﴾.
قال الحسن: هي أرض فارس والروم ونحوهما من البلاد.
وقال قتادة هي مكة.
وقال يزيد بن رومان: هي خيبر. وكذلك قال ابن زيد.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ أي: لا يعتذر عليه ما أراد.
ثم قال: ﴿يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا﴾ الآية أي: إن كنتن تَخْتَرنَ الحياة الدنيا على الآخرة.
﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ بما أوجب الله على الرجال لنسائهم من المتعة عند مفارقتهن بالطلاق.
ثم قال: ﴿وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ﴾ رضي الله ورسوله، ﴿فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي: للعاملات منكن بأمر الله ورسوله أجراً عظيماً.
روي أن هذه الآية نزلت من أجل عائشة سألت رسول الله شيئاً من عرض الدنيا، واعتزل رسول الله لذلك نساءه شهراً، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر والرضى بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن.
وروي أن النبي ﷺ " لم يخرج لصلوات فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأَْعْلَمَنَّ لكم ما شأنه، فأتى النَّبِيَّ فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيَّ شيء أكلم به رسول الله لعله يَنْبَسِطُ؟ قال: فقلت يا رسول الله لو رَأَيْتَ فُلاَنَةَ وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: ذَلِكَ حَبَسَنِي عَنْكُمْ، فأتى عمر حفصة فقال لها: لا تسألي رسول الله ﷺ شيئاً، ما كانت لك من حاجة فإليّ، ثمَّ
قال قتادة والحسن: خيَّرهن بين الدنيا والآخرة والجنة والنار في شيء كُنَّ أَرَدْنَهُ من الدنيا.
وقال عكرمة: في غَيْرَةٍ كانت غارتها عائشة، وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة ابنة أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم
قال الحسن وقتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال: لاَ
وقال ابن زيد: كان سبب ذلك الغيرة.
وقد روي في ذلك أخبار كثيرة يختلف لفظها والمعنى يرجع إلى ما ذكرنا في جميعها.
قال ابن شهاب: امرأة واحدة اختارت نفسها فذهبت وكانت بدوية.
قال ربيعة: فكانت البتمة.
قيل كان اسمها عمرة بنت يزيد الكلابية، اختارت الفراق وذهبت، فابتلاها الله تعالى بالجنون. ويقال: إن أباها تركها ترعى غنماً له فصارت إحداهن، فلم يعلم
ويقال: إنها كِنْدِية، ويقال: إنها لم تختر، وإنما استعاذت من رسول الله ﷺ فردَّها، وقال: " لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمُعَاذٍ ".
ويقال إنه دعاها، فقالت: إنا قوم نُؤتى ولا نأتي.
وإذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها فهي البتة، وإن اختارت واحدة أو اثنتين أو لم تختر شيئاً، أو قالت: أخترت زوجي، فلا شيء في ذلك كله بالمدخول بها، وهي زوجة على حالها.
قوله تعالى: ﴿يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.
قال الطبري: الفاحشة هنا الزنا.
﴿يُضَاعَفْ لَهَا العذاب﴾ أي: على فعلها، وذلك في الآخرة.
﴿ضِعْفَيْنِ﴾ أي: على عذاب أزواج غير النبي عليه السلام إذا أتين بفاحشة. وقيل: إذا أتت الفاحشة المبينة فهي عصيان الزوج ومخالفته، وكذلك معناها في هذه الآية لا الزنى.
فإذا أتت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط.
وإذا أتت نكرة غير منعوتة ببينة فيه تصلح للزنا وغيره من الذنوب.
قال قتادة: يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وقال أبو عبيدة: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ﴾ يجعل ثلاثة أضعاف، أي: ثلاثة أعذبة.
وقال أبو عمرو: ﴿يُضَاعَفْ﴾ للمرار الكثيرة ويَضَعَّفُ مرتين.
ولذلك قرأ " يُضَعَّفُ ".
وأكثر أهل اللغة على خلافها لأن يضاعف ضعفين ويضعف ضعفين واحد، بمعنى مثلين كما تقول: إن دفعت إلي درهماً دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه يعني درهمين، ويدل على صحة هذا قوله: ﴿نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ فلا يكون العذاب أكثر من الأجر، وقد قال تعالى: ﴿[رَبَّنَآ] آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٦٨] أي مثلين.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾ أي في الآخرة، يعني به: في الجنة.
ثم قال تعالى: ﴿يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن﴾ أي: لستن في الفضل والمجازاة كأحد من نساء هذه الأمة، إن اتقيتن الله بالطاعة له ولرسوله.
ووقع أحد في موضع واحدة لأنه أعم إذ يقع على المؤنث والمذكر الواحد والجمع بلفظ واحد.
فقوله: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول﴾ أي: لا تُلِنَّ القول للرجال.
﴿فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أي: شك ونفاق، أي يطمع في الفاحشة استخفافاً بحدود الله.
قال عكرمة ﴿فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ أي شهوة الزنا.
قال قتادة: ﴿مَرَضٌ﴾ نفاق.
ثم قال تعالى: ﴿وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي: قولاً أَذِنَ الله لكن فيه وأباحه لكن.
قال ابن زيد: معناه: قولاً جميلاً معروفاً في الخير.
ثم قال: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ أي: اثبتن في بيوتكن.
وقيل: هو من قَرَّ في المكان إذا ثبت أيضاً، فيكون الأصل: واقْرِرْنَ فحذفت الراء الثانية استثقالاً للتضعيف، وألقيت حركة الأولى الباقية على القاف فاستغني عن ألف الوصل، فصار وَقِرْنَ كما تقول ظِلْتُ أفعل بكسر الظاء.
فأما قراءة من فتح القاف، وهي قراءة نافع وعاصم، فهي لغة لأهل الحجاز، يقولون: قَرَرْتُ بالمكان أَقَرَّ، بمنزلة قَرِرْتُ به عيناً أَقَرُّ، حكاه أبو عبيد في
فيكون التقدير: واقْرِرْنَ [في بيوتكن]، ثم أُعِلَّ في الأولى فيصير: وَقَرْنَ.
ويجوز أن يكون من قرة العين هذا على الحذف، والاعتلال أيضاً، وشاهده قوله: ﴿ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٥١] فيكون التقدير: واقررن عيناً في بيوتكن.
وروي أن عماراً قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرِك أن تَقَرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، زا زلت قَوَّالاً بالحق، فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى﴾ أي: إذا خرجتن من بيوتكن.
قال قتادة: التبرج في هذا الموضع التبختر والتكسر، وكانت الجاهلية الأولى
والجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليه السلام.
وروي أن هذه الفاحشة كانت ظاهرة في هذا الوقت، وكانت ثم بغايا يقصدن للفاحشة.
وقيل: ما بين نوح وآدم عليه السلام كان بينهما ثمان مائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم أحسن ما يكون، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه.
وقال ابن عباس هو ما بين إدريس ونوح عليه السلام، وكان ذلك ألف سنة، وأن بطنين من وُلْدِ آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبال
وقوله: ﴿الجاهلية الأولى﴾ يدل على أن ثم جاهلية أخرى في الإسلام، دل على ذلك/ قول النبي ﷺ " ثَلاثَ مِنْ عَمَلِ أهلِ الجَاهِلِيَّة لا يَدَعْهُنَّ النَّاسُ: الطَّعْنُ بِالأنْسابِ، والاسْتِمْطارُ بالكَواكِبِ وَالنِياحَةُ ".
(وقال ابن عباس لعمر لما سأله عن الآية، فقال له: وهل كانت الجاهلية إلا
" يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ فِيكَ جَاهِليَّةٌ، فَقَالَ أَجَاهِليَّةُ كُفْرٍ أَوْ إِسْلامٍ؟ قَالَ: بَلْ جَاهِليَّةُ كُفْرٍ "، قَالَ أَبُو الدَّردَاء: " فَتَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ ابْتَدَأْتُ إِسْلامِي يَوْمَئِذٍ ".
ثم قال [تعالى]: ﴿وَأَقِمْنَ الصلاة﴾ أي: المفروضة.
﴿وَآتِينَ الزكاة﴾ يعني الواجبة في الأموال.
﴿وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي: فيما أمركن به ونهاكن عنه.
ثم قال (تعالى): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت﴾ أي: الشر والفحشاء يا أهل بيت محمد.
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ أي من الدنس والمعاصي تطهيراً.
قال ابن زيد: الرجس هنا الشيطان.
وقال عكرمة أن يقرأ عنكن.
وقيل عني بذلك: نساؤه وأهله.
قوله تعالى (ذكره): ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾.
أي: واذكرن نعمة الله عليكن إذ جعلكن في بيوت تتلى فيها (آيات) الله والحكمة، أي: اشكرن الله على ذلك.
قال قتادة: الحمكة السنة امتَنَّ (الله) عليهن بذلك.
وقيل: معناه الحكمة من الآيات.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً﴾ أي (ذا) لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي يتلى فيها القرآن والسنة.
﴿خَبِيراً﴾ بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً.
ثم قال تعالى (ذكره) بعقب (ذِكِرُ) ما أَمَرَ به أزواج نبيه ﷺ.
﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات﴾ الآية، أي: (المتذللين) بالطاعة والمتذللات.
وأصل الإسلام/ التذلل والانقياد والخضوع.
﴿والمؤمنين والمؤمنات﴾ أي: المصدقين الله ورسوله والمصدقات.
وأصل الإيمان التصديق.
﴿والصادقين والصادقات﴾ أي صدقوه فيما عادهوه عليه.
﴿والصابرين والصابرات﴾ أي: صبروا لله في البأساء والضراء على الثبات على دينه.
﴿والخاشعين والخاشعات﴾ أي خشعوا لله وجلاً من عقابه وتعظيماً له.
﴿والمتصدقين والمتصدقات﴾ أي: تصدقوا بما افترض الله عليهم في أموالهم.
﴿والصائمين والصائمات﴾ أي: صاموا شهر رمضان الذي افترضه الله عليهم.
﴿والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات﴾ أي: حفظوها إلا عن الأزواج أو ما ملكت أيمانهم.
﴿والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات﴾ أي: ذكروه بألسنتهم وقلوبهم.
﴿أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ أي: ستراً لذنوبهم وثواباً في الآخرة من أعمالهم وهو الجنة.
قال مجاهد: لا يكون ذاكراً لله حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً.
وقال أبو سعيد الخدري: من ايقظ أهله وصَلَّياً أربع ركعات كُتِباَ من الذاركين الله كثيراً والذاكرات.
قال قتادة: دخل نساء على نساء النبي ﷺ فقلن قد ذكركن الله في القرآن ولم
وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟
فنزلت الآية: " إن المسلمين " الآية.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ أي: أن يتخيروا من (أمرهم غير) الذي قضى الله ورسوله، ويخالفوا (ذلك) فيعصونهما، ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي: فيما أُمِرَ أو نُهِيَّ.
﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً﴾ أي: جار عن قصد السبيل، وسل: غير طريق الهدى.
ويروى أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله على فتاة زيد بن حارثة فامتنعت من إنكاحه (نفسها).
قال ابن عباس: خطبها رسول الله على فتاه زيد بن حارثة فقالت: لسْتُ بِناكِحَتِهِ، فقال رسول الله ﷺ: " بَلَى فانْكَحِيهِ، فقالت يا رسول الله/ أؤامِرُ نفسي؟
قال قتادة: لما خطب رسول الله زينب بنت جحش، وهي بنت عمته، ظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد امتنعت، فأنزل الله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ الآية، فأطاعت وسلمت.
وقيل: ننزلت في [أم كلثوم] بنت عقبة بن أبي معيط وذلك أنها وهبت نفسها للنبي فزوجها زيد بن حارثة، قاله ابن زيد.
قال: وكانت أول من هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي ﷺ، فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده، فنزلت الآية.
وعن عائشة أنها قالت: لو كتم رسول الله ﷺ شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية.
قال أنس: " لما انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ مِنْ زَيْدٍ قال رسول الله ﷺ لزيد: اذكُرْنِي لَهَا، فَأنْطَلَقَ زَيْدَ إِلَى زَيْنَب فقال لها: أَبْشِرِي أَرْسَلَ رسول الله يَذْكُرُكِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ
وروي أنها كانت تقول لرسول الله: لست كأحد من النساء لأن الله زوجنيك.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله﴾، هذا عتاب من الله للنبي ﷺ، أي: واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق - وهو زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ - أمسك عليك زوجك واتق الله في مفارقتها للفرار.
روي أن النبي ﷺ رأى زينب بنت جحش وهي ابنة عمته بعد أن تزوجها زيد فأعجبته، فألقى الله نفس زيد كراهتها لما علم ما وقع في نفس النبي منها، فأراد زيد فراقها فذكر ذلك للنبي ﷺ، فقال له النبي: " ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله﴾ فيما عليك لها " وهو يحب لو قد بانت منه لينكحها، وهو الذي أخفى غي نفسه، فقد أبداه الله كما ذكره.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ أي: وتخاف أن يقول الناس أمَرَ رجلاً
قال الحسن: ما أنزلت عليه آية أشد منها، ولو كان رسول الله ﷺ كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها.
وقال علي بن الحسين: كان الله جل ذكره أَعْلَمَ نبيه عليه السلام أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها، قال: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله﴾، وهو يخفي في نفسه ما قد أعلمه الله من تزويج زينب، والله مبديه، أي مظهره بتمام التزويج، وطلاق زيد لزينب.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً﴾ أي حاجته وأربه.
﴿زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً﴾ أي لِئَلاَّ يكون على المؤمنين ضيق/ وإثم في نكاح أزواج من تبنوا بعد طلاقهم إياهن، إذا قضوا منهن حاجتهم، وهو قوله جل ذكره: ﴿وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم﴾ [النساء: ٢٣]، فدل على أن اللاتي من الأبناء من غير الأصلاب حلال نكاحهن.
ثم قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً﴾ أي: ما قضى الله من قضاء كائناً لا محالة، ذلك ما قضى الله من تزويج النبي ﷺ من زينب بنت عمته.
وقال الشعبي: كانت زينب تقول للنبي عليه السلام: إني لأَدِلُّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تَدِلُّ بهن: إن جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، وإنّي أنْكَحَنِكَ الله مِنَ السَّماءِ، وإنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ ﷺ.
وروى أنس بن مالك أن زيداً كان مسبباً من الشام ابتاعه حيكم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة زوج النبي، فوهبته خديجة للنبي ﷺ فتبناه النبي.
قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ﴾ إلى قوله: ﴿سَرَاحاً جَمِيلاً﴾.
أي ليس على محمد ﷺ إثم في نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه أياها.
قال قتادة: ما فرض الله له، أي ما أحل الله. وفي الكلام معنى المدح كقوله:
قال الطبري في معناه: لم يكن الله لِيُؤُثِمَ نبيه فيما أحل الله له مثالَ فِعْلِه بمن قَبْلَهُ مِنَ الرسل. ثم قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً﴾ أي: قضاء مقضياً. [وقيل: قَدَرُ أحَدٍ قَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قبل خلق الأشياء كلها مقدوراً] أي أنه ستكون الأشياء على ما تقدّم علمه. ولا تقف على: ﴿فَرَضَ الله لَهُ﴾ لأن " سنة " انتصبت على عامل قام ما قبلها مقامه.
ثم قال تعالى: ﴿الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ﴾ أي: سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى من أُرْسِلوا إليه؟ ﴿وَيَخْشَوْنَهُ﴾: أي: يخافون الله.
﴿وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله﴾ أي: لا يخافون غيره، فَمِن هؤلاء فَكُن يا محمد، فإن الله يمنع منك وينصرك كما فعل بمن قبلك من الرسل.
" الذين " بدل من " الدين " في قوله: ﴿سُنَّةَ الله فِي الذين﴾ أو نعت لهم أو عطف
ثم قال: ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ أي: وكفاك يا محمد حافظاً لأعمال خلقه ومحاسباً لهم عليها.
ويجوز أن يكون (حسيب) بمعنى محاسب، كما تقول آكِيلٌ وشَرِيب، معنى مُواكِل وُمَشَارِب. ويجوز أن يكون بمعنى محسب، أي مكف كما قالوا السميع بمعنى المسمع وأليم بمعنى مؤلم. يقال: أحسبني الشيء بمعنى كفاني.
ثم قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ﴾ أي: لم يكن محمد أبا زيد ابن حارثة، ولا أباً لغيره لأنه لم يكن له ابن وقت نزول هذه الآية.
قال قتادة: نزلت في زيد بن حارثة أنه لم يكن بابنه، ولعمري لقد ولد له ذكور وإنه لأبو القاسم وإبراهيم والمطهر. فالمعنى على هذا: لم يكن محمد أباً لِمَنْ تَبَنَّى من رجالكم، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم.
ثم قال تعالى: ﴿ولكن رَّسُولَ الله﴾ أي: ولكن كان رسول الله. ﴿وَخَاتَمَ النبيين﴾ أي: آخرهم. هذا على قراءة من فتح التاء. ومن كسرها فمعناها: أي طبع على النبوة فلا
روى جابر أن النبي ﷺ: " أَنَا خَاتِمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ ". والخاتم الذي يلبس، فيه أربع لغات: خَاتَمٌ وخَاتِمٌ وخَاتَامٌ وخَيْتَامٌ.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾ أي: اذكروه بقلوبكم وجوارحكم ولا تخلوا أنفسكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم.
ثم قال: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي: صلوا له غدوة وعشياً، يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، والأصيل العَشِيُّ وجمعه أصائل. والأصيل بمعنى الأُصُل وجمعه آصال، هذا لفظ المبرد. وقال غيره: أُصُل عنده جمع أَصِيل كرغيف ورغف.
روي أنه لما نزل/: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾ [الأحزاب: ٥٦] أتاه المؤمنون يهنؤنه بذلك، فقال أبو بكر يا رسول الله: هذا لك خاصة فَمَا لَنا؟ فأنزل الله جل ذكره: ﴿هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ﴾، أي: يدعون لكم بالرحمة.
وروى الحسن أن النبي ﷺ قال في حديث طويل: " إِنَّ الله قالَ لمُوسَى: أَخْبِرْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ صَلاَتِي عَلى عِبَادِي لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِي وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَهْلَكْتُهُمْ ".
وقال عطاء بن أبي رباح: " صلاته على عباده: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِ ".
وفي حديث آخر عن النبي ﷺ: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ".
ثم قال: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور﴾ أي: تدعو ملائكة الله ليخرجكم الله من
وقال المبرد: أصل الصلاة الترحم، فالصلاة من الله رحمة لعباده، ومن الملائكة رقة لهم واستدعاء للرحمة من الله لهم، والصلاة من الناس سميت صلاة لطلب الرحمة بها.
قال أبو عبيدة: الأصِيلُ ما بين العصر إلى الليل: وقال: ﴿يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ﴾ أي: يبارك عليكم.
قال ابن عباس: لا يقضي الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غَيرَ الذِّكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله.
ثم قال: ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً﴾ أي: ذا رحمة أن يعذبهم وهم له مطيعون.
﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ﴾ أي: تحية بعد هؤلاء المؤمنين في الجنة سلام، أي أمنة لنا ولكم من عذاب الله.
قال البراء بن عازب: معناه يوم يلقون ملك الموت يسلم عليهم لا يقبض
قال قتادة: تحية أهل الجنة السلام.
وقال البراء بن عازب في معناه: إن (ملك) الموت لا يقبض روح المؤمن/ حتى يسلم عليه.
قال الزجاج: هذا في الجنة، واستشهد عليه بقوله تعالى: وَ ﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ [إبراهيم: ٢٣] ودليله أيضاً قوله جل ذكره: ﴿يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ﴾ [الرعد: ٢٣].
وفرق المبرد بين التحية والسلام، فقال: التحية تكون لكل دعاء، والسلام مخصوص، ومنه ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً﴾ [الفرقان: ٧٥].
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً﴾ أي: أعد لهم الجنة على طاعتهم له في الدنيا.
ثم قال: ﴿وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ﴾ أي: إلى توحيد الله، وطاعته. قال قتادة: " ودَاعياً إلَى الله " إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
﴿بِإِذْنِهِ﴾ أي: بأمره إياك بذلك. ﴿وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ أي: مضيئاً للخلق يبين لهم أمر دينهم ويهتدون به كما يُهْتَدَى بالسرج المضيء.
ثم قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً﴾ أي: من ثواب الله أضعافاً كثيرة. وقيل: المعنى: وذا سراج: أي ذا كتاب بين مضيء.
قال ابن عباس: " لما نزلت هذه الآية: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أرسلناك شاهدا﴾ الآية، دعى النبي ﷺ علياً ومُعاذاً فقال: " انْطلِقَا فَيَسِّرا وَلاَ تُعَسِّرَا فَإِنَّه قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ: ﴿إِنَّآ أرسلناك شاهدا﴾ الآية وقرأ الآية ".
ثم قال: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين﴾ أي: لا تسمع دعاءهما إليك على التقصير في
﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾. قال مجاهد أعرض عنهم. وقال مجاهد: دع الأذى لا تجازهم عليه حتى تؤمر فيه بشيء. وقيل: المعنى لا تؤذيهم، وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالقتال.
قال قتادة: معناه: اصبر على أذاهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ أي: فوِّض إلى الله أمرك وثق به، فإن الله كافيك. ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ أي: وحسبك بالله فيما يأمرك به حافظاً لك وكَالِئاً.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات﴾ الآية، أي إذا تزوجتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن والمجامعة - والنكاح هنا العقد - فلا عدة لكم عليهن/ ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ أي: أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين.
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ أي: خلوا سبيلهن تخلية بمعروف.
قال ابن عباس: إذا طلق التي لم يدخل بها واحدة بانت منه ولا عدة عليها،
وقيل: منسوخة بقوله جل ذكره: ﴿فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، قاله ابن المسيب وقتادة: وهذه الآية خصصت آية البقرة وبينتها وهي قوله تعالى: ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء﴾ [البقرة: ٢٢٨] فظاهر الآية أن ذلك في كل مطلقة.
فبينت آية الأحزاب أن آية البقرة في المدخول بها. وكذلك آية الأحزاب خصصت وبينت آية الطلاق، وهي قوله: ﴿واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: ٤] فبينت آية الآحزاب أن الثلاثة الأشهر لهذين الصنفين، إنما ذلك للمدخل بها، كذلك أيضاً الطلاق خصصت وبينت أن آية البقرة في غير الصنفين المذكورين في سورة الطلاق فصار في آية البقرة تخصيصان وبيانان من سورتين. وصارت آية الأحزاب مخصصة ومبينة لآيتين من سورتين فآية الأحزاب أحكم إذ لا تخصيص فيها.
فالإعتداد للرجال، أي: هم يستوفون من النساء ما عليهن من العدة. فالعدة
قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ إلى قوله: ﴿على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً﴾.
أي: أحل لك يا محمد أزواجك اللاتي أعطيتهن صدقاتهن، وأحل لك ما ملكت يمينك من السبي، وأحل لك بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك من هاجر منهن معك دون من لم يهاجر. هذا معنى قول الضحاك.
قال ابن زيد: كل امرأة أتاها مهرها فقد أحلها الله له.
وروى أبو صالح عن أم هانئ أنها قالت: " خَطَبَنِي رَسُولُ الله ﷺ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثمَّ أَنْزَلَ الله تعَالى: ﴿إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ إِلى قَوله: ﴿هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾، وَلم أَكُنْ هَاجَرْتُ وَإِنَّمَا كُنْتُ منَ الطُّلَقَاءِ، فَكُنْتُ لا أَحِلُّ لَهُ ".
وقوله: ﴿وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ﴾ أي: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بغير صداق. ﴿إِن وَهَبَتْ﴾ شرط، وجوابه محذوف، والتقدير: إن وهبت نفسها حلت له، أي: إن تهب نفسها تحل.
ويجوز أن يكون الجواب هو المحذوف الناصب لامرأة.
وقرأ الحسن: " أنْ وَهَبَتْ " بفتح أن. أي لأن وهبت، أي: من أجل أن وهبت.
وقيل: هي بدل من " امرأة " على بدل الاشتمال.
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا﴾ أي: ينكحها فحلال له نكاحها إذا وهبت له نفسها بغير مهر.
﴿خَالِصَةً لَّكَ﴾ أي: لا يحل ذلك لأحد غيرك.
قال قتادة: ليس لأمرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر إلا للنبي ﷺ كانت له خاصلة دون سائر أمته. وروي أنها نزلت في ميمونة بن الحارث وهبت نفسها للنبي عليه السلام، قاله الزهري وعكرمة ومحمد بن كعب وقتادة. وقيل: لم يكن عند النبي أمرأة وهب له نفسها بغير صداق، وإنما المعنى: إِنْ وقع ذلك فهو حلال لك يا محمد قاله مجاهد وابن عباس. وقال علي بن الحسين وعروة والشعبي: هي أم شريك وقيل: هي زينب بنت
وقوله: ﴿خَالِصَةً لَّكَ﴾ يرجع على المرأة التي وهبت نفسها دون ما قبلها من قوله: ﴿إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ﴾ / وما بعده. وإنما قال تعالى للنبي ولم يقل لك، لئلا يتوهم أنه يجوز ذلك للغير كما جاز ذلك في: ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾.
أي: بنات العم والعمة والخال والخالة يحللن للناس.
وقيل: إنما جاز ذلك لأن العرب تخبر عن الحاضر بأخبار الغائب ثم ترجع فتخاطب.
وروي أن النبي ﷺ كان قبل نزول الآية يتزوج أن النساء شاء فقصره الله على هؤلاء، فلم يعداهن وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع.
ثم قال: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ﴾ يعني المؤمنين لا يحل لأحد نكاح إلا بولي وعقد وصداق وشهود عدول، وأن لا يزوج الرجل أكثر من أربع وما ملكت اليمين، قاله قتادة وغيره (فالمعنى) قد علمنا ما في ذلك من الصلاح.
ثم قال تعالى: ﴿لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ أي: أحللنا لك ما تقدم ذكره لئلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف المسميات لك في هذه الآية.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي: غفوراً لك ولأهل الإيمان بك، رحيماً بك وبهم أن يعاقبهم على ذنوب تابوا منها.
ثم قال تعالى: ﴿تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ﴾ أي: تؤخر يا محمد من تشاء من أزواجك وتضمّ من تشاء.
يقال: أرْجَأْتُ الأمْرَ: أَخَّرْتَهُ. ومن ترك الهمزة في " ترجي " فيحتمل أن يكون أبدل من الهمزة ثم أسكنها استثقالاً للضمة.
وقيل: هي لغة، يقال: أرْجَيْتُ بمعنى أرْجَأْتُ. كما يقال قريْتُ. بمعنى قَرَأتُ.
وقال المبرد: هو من رجا يرجو، يقال: رجاء وأرَجَيْتَهُ إذا جَعَلْتَه يَرْجُو.
قال مجاهد في معنى الآية: تعزل يا محمد بغير طلاق من أزواجك من تشاء
قال قتادة: جعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهم بغير قسم وكان صلى الله عليه يقسم.
وقال أبو رزين: لما أشفق النبي ﷺ أن يطلقهن، قلن يا رسول الله: اجعل لنا في مالك ونفسك ما شئت فكان ممن أرجأ منهم سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان ممن أوى عائشة وأم سلمة وحفصة زينب. فالمعنى على هذا القول أنه صلى الله عليه أخر هؤلاء فلم يقسم لهن ولم يطلقهن، وضم هؤلاء فقسم لهن، وهو قول الضحاك.
وعن ابن عباس أن المعنى من شئت خليت سبيله منهم ومن شئت أمسكت منهن.
وقال الحسن: المعنى أن النبي ﷺ كان إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها
فالمعنى: اترك نكاح من شئت من أمتك، وانكح من شئت.
وقال ابن زيد في ذلك كلاماً معناه: إن الله جل ذكره أمر نبيه أن يخير نساءه بين الدنيا والآخرة في قوله:
﴿قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا﴾ إلى قوله: ﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ [الأحزاب: ٢٨ - ٢٩] فلما اخترن الآخرة واخترنه أبيح له أن يعزل من شاء منهم فلا يقسم لها، ويضم من شاء فيقسم لها، ومن ابتغى ممن عزل عن نفسه، فله أن يرجع ويقسم لها، فخيرهن أيضاً في الرضى بهذا أو يفارقهن فرضين بذلك إلاَّ امرأة بدوية ذهبت.
فقال الله جل ذكره: ﴿ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ أي: أن يسكن ولا يغرن ويرضين كلهن بما فعلت من ضم أو عزل، إذ ذلك كله من حكم الله لك فيهن، وذلك إشارة إلى ما تقدم مما أباحه الله لرسوله عليه السلام فيهن.
قال قتادة: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ " أي: لك أن تأتي من شئت منهم لا إثم عليك في ذلك، وهو قول الحسن.
وقال ابن عباس: معناه من مات من نسائك اللواي عندك، أو خليت سبيله فلا إثم عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، ولا يحل أن تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك شيئاً.
ثم قال تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ﴾ أي: من ميلكم إلى بعض من عندكم من النساء دون بعض بالهوى والمحبة فلذلك وضع عن رسول الله ﷺ الحرج في ذلك لأن القلب لا يملك، والهوى سلطان غائب عن الإنسان.
ثم قال: ﴿وَكَانَ/ الله عَلِيماً﴾ أي: ذا علم بأعمالكم وغيرها. ﴿حَلِيماً﴾ أي: ذا حلم عن عباده أن يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة.
ثم قال تعالى: ﴿لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ﴾ أي: من بعد من عندك من النساء.
قال قتادة: لما اخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن تسع.
وقيل: المعنى: لا يحل لك النساء بعد اللواتي أحللنا، يعني في قوله: ﴿إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ إلى قوله: ﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ قاله أُبي بن كعب والضحاك.
وقال مجاهد: المعنى: من بعد المسلمين، فحرم عليه نكاح اليهوديات والنصرانيات. وهو قول ابن جبير وعكرمة.
وقد روي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك. وقيل: الآية محكمة، ولا يحل له النساء بعد نزول هذه الآية، وهو قول أُبي بن كعب، اختيار الطبري.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ أي: ولا يحل لك أن تستبدل من عندك غيرهن من المسلمات، قاله الضحاك.
وقال مجاهد: لا تستبدل بمن عندك من المسلمات كتابية.
وقال ابن زيد: لا تبدل زوجتك بزوجة رجل آخر، وهو فعل كان في الجاهلية وقوله: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ أي: فذلك حلال.
وقال ابن زيد: إلا ما ملكت يمينك، فلك أن تبادل غيرهن ولا تفعل ذلك في
قوله تعالى ذكره: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي﴾ إلى قوله: ﴿وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾.
المعنى: أن الله جل ذكره أمر أصحاب النبي عليه السلام ألا يدخلوا عليه إلا أن يأذن لهم إلى طعام لم يكونوا منتظرين وقته وإدراكه.
وإنّاه مصدر أنَّى يَأْتِي إِنّاً وَإِنْياً وَأَنًّا ممدود، وفيه لغة أخرى، يقال: أن يَئين أنْياً، ويقال في معناه: نَالَ لَك وأنَالَ لكَ. ومعنى آن: حان. " وغير " منصوب على الحال من الكاف والميم في " لكم "، ولا يحسن خفضه على النعت لطعام لأنه لا يلزم منه إظهار الضمير، فتقول: غير ناظرين أنتم إناه، لأن اسم الفاعل إذا جرى صفة على غ ير من هو له، أو خبراً لم يكن بد من إظهار الضمير الذي فيه. والمعنى غير منتظرين حينه ونضجه.
ثم قال: ﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا﴾ أي: إذا دعاكم رسول الله ﷺ إلى بيته لطعام فادخلوا.
﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا﴾ أي: فتفرقوا إذا أكلتم من بيته.
﴿وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أي: لا متحدثين بعد فراغكم من أكلكم.
وكان نزول هذه الآية في قول أكلوا عند رسول الله ﷺ في وليمة زينب بنت
روى معنى ذلك أنس بن مالك، قال أنس: وكان قد أَوْلَمَ رسول الله بتمر وسَوِيقٍ.
وكان أنس ذلك اليوم ابن عشر سنين.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ أمر نساء النبي ﷺ بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله جل ذكره: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾.
وهذا أدب لأصحاب النبي عليه السلام ولمن بعدهم.
وقال قتادة: كان هذا في بيت أم سلمة أكلوا وأطالوا الحديث، فجعل النبي ﷺ يدخل ويخرج، ويستحي منهم والله لا يستحي من الحق.
ثم قال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ﴾ أي: وإذا سألتم أزواج النبي ﷺ طعاماً أو غيره فخاطبوهن من وراء حجاب، أي: من وراء ستر/ ولا تدخلوا عليهن بيوتهن.
ثم قال جل ذكره: ﴿ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ أي: مخاطبتكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم، وقلوبهن من عوارض الفتن.
وذكر مجاهد أن النبي ﷺ كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره ذلك النبي، فنزلت آية الحجاب.
وروى أنس أن عمر قال: " قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ أنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، قال فنزلت آية الحجاب " وروي: " أنَّ سُودَة خرجَت ليلاً لِلبِرازِ عشاءً، وكانت طويلة فناداها عُمَر بِصَوْتِهِ الأَعلى: " قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ أي: ما ينبغي ولا يصلح لكم أذى نبيكم ولا نكاح أزواجه من بعده لأنهن أمهاتكم، فلهن حرمة الأمهات.
روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الحجاب قال رجل من أصحاب رسول الله: أينهانا رسول الله ﷺ أن ندخل على بنات عمنا، أما والله لئن مات رسول الله وأنا حَيٌّ لأتزوجن عائشة، فأنزل الله تعالى وجل ذكره: ﴿وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ إلى: ﴿عَلِيماً﴾. فأعلمهم أنه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يبدون.
قال قتادة: قال رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام: إن مات رسول الله تزوجت فلانة، امرأة من أزواج النبي.
قال معمر: الذي قال هذا طلحة لعائشة.
ثم قال: ﴿إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً﴾ أي: إن أذاكم نبيكم ونكاحكم أزواجه من
ثم قال تعالى: ﴿إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ أي: إن تظهروا شيئاً بألسنتكم من جميع الأمور أو تخفوه في قلوبكم فلا تظهروه، فإن الله كان بكل شيء ذا علم لا يخفى عليه شيء.
ثم قال تعالى: ﴿لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ﴾ أي: لا إثم على أزواج النبي في الظهور إلى آبائهم ولا إلى من ذكر بعد ذلك من ذوي المحارم. قال مجاهد: معناه: لا إثم عليهن في أن تضع الجلباب ومعها من ذكر. وقال قتادة: رخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم.
وهذا القول أليق بسياق الآية. والآية عامة في أزواج النبي عليه السلام وأزواج المؤمنين ألا يحتجب من الآباء ولا من الأبناء ولا من الإخوة ولا من أبناء الإخوة.
قال الشعبي: ولم يذكر في ذلك العم حذاراً من أن يصفهن لأبنائه.
وكره الشعبي وعكرمة أن تضع خمارها عند عمها وخالها، لأنهما يصفانها إلى ابنيهما، ونكاحها إلى كل واحد من ابنيهما يحل. وقيل: إنما لم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقوله: ﴿وَلاَ نِسَآئِهِنَّ﴾ أي: ولا يحتجبن من نساء المؤمنين.
وقال ابن زيد: هذا كله في الزينة، وقوله: ﴿وَلاَ نِسَآئِهِنَّ﴾ يعني المؤمنات الحرائر،
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ يعني المماليك.
قال ابن زيد: كان أزواج النبي ﷺ لا يحتجبن من المماليك.
قيل: إن ذلك في النساء من المماليك خاصة.
وقيل: في النساء والرجال من المماليك.
ثم قال تعالى: ﴿واتقين الله﴾ أي: وخفنَ الله أن تتحدَّيْنَ في ما حدّ الله لكن في الحجاب.
﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ هو شاهد على ما تفعلنه من حجابكن وغير ذلك من أموركن.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي﴾. أجاز الكسائي رفع الملائكة. وأجاز: إن زيداً وعمرو متطلقان. ومنعه جميع النحويين في البسملة.
وأجازه بعضهم في الآية على حذف، والتقدير: إن الله يصلي على النبي وملائكته
وقيل: إن الله يرحم على النبي وملائكته يدعون له، فهذا التقدير أيضاً مما يقوي تقدير الحذف من الأول، ويكون يصلون للملائكة خاصاً لأن الصلاة من غير الله دعاء، وقد علمنا النبي ﷺ كيف نصلي عليه، فقال: " قُولُوا اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمد وعلَى آلِ مُحَمَدٍ كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ، وبَارك عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمدٍ كَمَا بَارَكتَ عَلَى إبْراهيم في العَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجيدٌ، والسَّلاَمُ كَمَا قَد عَلمتُم ".
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ إلى آخر السورة.
أي: إن الذين يؤذون أولياء الله، قاله الشعبي.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " قال الله تعالى: " شَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
وقيل: إنهم يعصون الله ويركبون ما حرم عليهم فذلك أذاهم.
ثم قال تعالى: ﴿والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا﴾.
قال مجاهد: يَقْفُونَ فيهم بغير ما عملوا.
وقيل: إنها نزلت في الذين طعنوا على النبي ﷺ حين نكح صفية بنت حُيي.
ثم قال: ﴿لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة﴾ أي: أبعدهم من رحمته.
ثم قال: ﴿فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي: وزر كذب وفرية شنعية، ﴿وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي: بَيِّنٌ لسامعه أنه إثم وزور. والبهتان أفحش الكذب.
قال ابن عباس في معناها: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، وبيدين عيناً واحدة.
وعنه أيضاً أنه قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع به وتشده على جبينها.
وقال أبو مالك والحسن: كان النسء يخرجن بالليل في حاجاتهن فيؤذيهن المنافقون ويتوهمون أنهن إماء فأنزل الله الآية. وكان عمر رضي الله إذا رأى أمة قد تقنعت علاَهَا بالدِّرَة.
وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ﴾ فقال: تغطي
وقال مجاهد: يتجلببن حتى يعرفن فلا يؤذين بالقول.
وقال الحسن: ﴿ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾ أي: يعرفن حرائر فلا يؤذين.
قال ابن عباس وابن مسعود: الجلباب الرداء.
وقال المبرد: الجلباب كل ملحفة تستر من ثوب أو ملحفة.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ لما سلف منهم من ترك إدنائهن جلابيبهن عليهن، ﴿رَّحِيماً﴾ بهن أن يعاقبهن بعد موتهن.
ثم قال تعالى: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ أي: لئن لم ينته الذين يسرون الكفر.
﴿والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ أي: شهوة من الزنى من المنافقين.
﴿والمرجفون فِي المدينة﴾ أي: أهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل يشيعون
قال قتادة: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فتوعدهم الله بهذه الآية فكتموا نفاقهم وستروه.
ثم قال تعالى: ﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ أي لنسلطنك عليهم، وقد أغراه بهم بقوله جل ذكره: ﴿وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ﴾ [التوبة: ٨٤] وأمره بلعنهم.
وقال المبرد: قد أغراه بهم في قوله: ﴿أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً﴾ قال: وهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي: هذا حكمهم إذ قاما على النفاق والإرجاف في المدينة. وهو مثل قول النبي ﷺ: " خَمسٌ يُقتَلْنَ فِي الحَرَمِ " ففيه معنى الأمر ولفظه خبر.
وقيل: إنه لقوم بأعيانهم.
قال ابن عباس: " لنغرينك " لنسلطنك.
وقال قتادة: لنحرشنك.
وقد استشهد من قال بجوار ترك إنفاذ الوعيد بهذه الآية، وقال: قد تواعدهم الله بأن يغري نبيه عليهم ولم يفعل.
وقال من يخالفه: قد أغراه بهم، وأنفذ وعيده فيهم. وبقاء المنافقين مع النبي ﷺ في المدينة إلى أن توفي يدل على أن الله لم ينفذ الوعيد فيهم لأن من تمام وعيده فيهم: قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ وهو مذهب أهل السنة. إذ المعروف من عادات الكرماء وأهل الفضل والشرف إتمام وعدهم وتأخير إنفاذ وعيدهم بالعفو والمعروف بالإحسان، ولا أحد أكرم من الله ولا أبين فضلاً وشرفاً منه فهو أولى بالعفو والإحسان وترك إنفاذ وعيده في المؤمنين.
ثم قال: ﴿ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي: إن لم ينتهوا عن الإرجاف سلطتك عليهم
وأجاز بعض النحويين أن يكون حالاً من المضمر في ﴿أُخِذُواْ﴾، وذلك لا يجوز لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله. ولا يحسن الوقف على " تقتيلاً "، لأن " سُنَّةَ " انتصبت على فعل دل عليه ما قبله، فما قبله يقوم له مقام العامل.
ومعنى ﴿مَّلْعُونِينَ﴾ أي: مطرودين ومبعدين.
﴿أَيْنَمَا ثقفوا﴾ أي: وجدوا، ﴿أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ﴾ لكفرهم بالله.
ثم قال تعالى: ﴿سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ﴾ أي: سن الله ذلك سنة في الذين ينافقون على الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقَتَّلوا حيث ما وجدوا.
ثم قال: ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي: ولا تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييراً.
﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ أي: علم وقت قيامها عند الله لا يعملها إلا هو.
ثم قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً﴾ أي: وما يشعرك يا محمد، لعل قيام الساعة يكون منك قريباً قد دنا وحان. وذكر قريباً على معنى الوقت والقيام.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾ أي: أبعدهم من كل خير وأعدَّ لهم في الآخرة ناراً ماكثين فيها أبداً، لا يجدون ولياً يمنعهم منها، ولا نصيراً ينصرهم فيخرجهم من عذابها.
ثم قال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار﴾ أي: لا يجدون ولياً ولا نصيراً في هذا اليوم الذي تقلب فيه وجوههم في النار. قائلين: ﴿ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ أي: في الدنيا ندامة وحسرة ما فات.
ثم قال: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا﴾ أي: وقال هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في النار: يا ربنا إنا أطعنا في الكفر سادتنا، أي أئمتنا وكبراءنا.
﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ أي: أزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى.
﴿رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب﴾ أي: عذّبهم مثلي عذابنا.
﴿والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ أي: أخزهم خزياً كبيراً.
ففي هذه الآية زجر عن التقليد لأنهم لو نظروا لظهر لهم أنهم على ضلال، ولكنهم قلدوا ضلالاً فضلوا.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى﴾ أي: لا تؤذوا رسول الله ﷺ
﴿وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً﴾ أي: ذا منزلة ودرجة رفيعة كلمه تكليماً.
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: " كانَ مُوسَى رَجُلاً حَيِيّاً فَكَانَ لا يُرَى مُتَجَرِّداً، فقالَ بَنُو إِسْرائيلَ: إنَّهُ آدرُ، فذَهَبَ مُوسَى يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَمَرَّ الحَجَرُ يَسْعَى بِثِيَابِهِ فَتَبِعَهُ مُوسَى فقالَ: ثِيابِي حَجرٌ! ومرَّ بمجلسِ بني إسرائيل فَرَأَوْهُ فبرَّأه الله مما قالوا " وكذلك ذكر ابن عباس وابن زيد وغيرهما.
وعن أبي هريرة أنه رموه بالبرص فبرأه الله من ذلك.
وروي عن البي عليه السلام أنه قال: " إنَّ موسى كانَ رجلاً حَيِياً سِتِّيراً لا يكاد يُرى من جِلدِهِ شَيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل/، وقالوا: ما استَتَرَ هذا إلاَّ من عَيبٍ بِجلدِهِ، إِمَّا أَدْرَة وإِمَّا بَرَصٌ، وإمَّا آفة، فبرَّأه الله مما قالوا بِالحَجَرِ ".
ثم قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله﴾ أي: لا تعصوه.
﴿وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ أي: قولوا في رسول الله قولاً عدلاً حقاً. قال مجاهد.
وقال عكرمة: " قولاً سديداً " لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق.
ثم قال: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي: يوفقكم لصالح الأعمال.
﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي: فيما أمر به ونهى عنه.
﴿فَقَدْ فَازَ﴾ أي: نجا وظفر بالكرامة.
﴿فَوْزاً عَظِيماً﴾ أي: نجا نجاة عظيمة.
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض﴾ الآية.
قال ابن جبير والحسن الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على عباده، فلم تقدر على حملها، وعرضت على آدم فحملها. ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً﴾ أي لنفسه، ﴿جَهُولاً﴾. أي جاهلاً بالذي له فيه الحظ. قال جويبر: فلما عرضت على آدم، قال: أي رب [وما الأمانة]؟ فقيل له: إن أدّيتَها جُزِيتَ وإن أضَعتَها عُوقِبْتَ، قال أي رب، حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية فأُخْرِجَ منها.
وروي هذ القول عن ابن عباس، قال ابن عباس: عرضت الفرائض على السماوات والأرض والجبال فكرهن ذلك وأشفقن من غير معصية، ولكن تعظيماً
وقيل: الأمانة ها هنا أمانات الناس والصلاة والصوم والوضوء. وهذا القول كالأول لأنه كله فروض وأداء أمانات الناس فرض فهو القول الأول بعينه.
وقيل: هو ائتمان آدم ولده قاببيل على أخيه هابيل فقتله، رواه السدي عن ابن عباس في حديث مرسل.
وقيل: المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة والجن والإنس، فأبين أن يحملنها، أي يحملن وزورها، وحملها الإنسان، يعني الكافر والمنافق.
وذكر القتبي: أن الله جل ذكره عهد إلى آدم وأمره حرم عليه وأحل له فعمل بذلك، فلما حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من سيخلفه بعده ويقلده من الأمانة ما قلد، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال بالشرط الذي شرطه الله عليه من الثواب إن وفى والعقاب إن عصى، فأبين أن يقبلن ذلك شفقاً من عقاب
فقال أبو إسحاق في الأمانة: إن الله جل ذكره ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأما السماوات والأرض والجبال فأعلمتا بطاعتهن له، قال تعالى:
﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ الآية،
﴿قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]. وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم (والملائكة) يسبحون لله، فأعلمنا أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وتأديتها، - وأداؤها طاعة الله فيما أمر به وترك المعصية - وحملها الإنسان.
قال الحسن: الكافر والمنافق حملا الأمانة، أي: خاناها ولم يطيقاها. وتصديق
وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره عرض على السماوات أن ينزل قطرها في إبَّانِه بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الأرض أن يخرج نباتها وأنهارها وما يكون/ منها في آجاله بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الجبال أن تفجر أنهارها وتخرج ثمارها وأشجارها على أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت وأشفقت الجميع من العقاب، وعَرض على آدم أداء الفرائض على أنه له الثواب وعليه العقاب، قال: بين أذني وعاتقي فولك معه ملائكة يسددونه ويوفقونه.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾.
قال الضحاك: ظلوماً لنفسه، جاهلاً فيما احتمل بينه وبين ربه.
وقال قتادة: ظلوماً لها - يعني الأمانة - جهولاً عن حقها.
ثم قال: ﴿لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات﴾ إلى آخر السورة، أي: حملها الإنسان كي يعذب الله هؤلاء، ويتوب على هؤلاء. وقرأ الحسن: " وَيَتُوبُ " بالرفع.
ثم قال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ أي: ساتراً لذنوب المؤمنين والمؤمنات.
قال قتادة: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ": هما اللذان خاناها اللذان ظلماها - يعني الأمانة - هما المنافق والكافر " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " هما اللذان أدياها. وكذلك كان الحسن يقول.