تفسير سورة الزخرف

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون، نزلت بعد الشورى. وقد افتُتحت بحرفين من حروف الهجاء " حم " وبدأت بإثبات صدق القرآن الكريم، وأن الله تعالى أنزله بهذه اللغة العربية الشريفة. وأنه ثابت في اللوح المحفوظ، رفيع القدر، محكَم النظم في أعلى طبقات البلاغة..
والسورة كباقي السور المكية تعرض جانبا مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات، ومن جدل واعتراضات، وكيف يعالج القرآن الكريم تلك النفوس، ويقرر أثناء علاجها حقائقه وقيَمه بدلا من الخرافات والوثنيان والقيم الجاهلية الزائفة.
وقد سميت السورة الزخرف لما فيها من المثَل الرائع بتشبيه الحياة الدنيا ذات المتاع الزائل، والبريق الخادع، بالزخرف اللامع الذي ينخدع به كثير من الناس ﴿ ولولا أن يكون أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ﴾.
وتعرِض السورة بعض دلائل قدرة الله تعالى ووحدانيته الواضحة في هذا الكون الفسيح وما فيه من عجائب وآثار، وتبيّن بحجج دامغة أن الذين عبدوا غير الله إنما كانوا جاحدين ضالّين. لقد جعلوا له البنات ولهم البنين ! ! ثم جعلوا الملائكة إناثا، ﴿ أشَهدوا خلقهم ؟ ستُكتب شهادتهم ويُسألون ﴾. وإذا تغلبهم الحجة يقولون :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾ وهكذا تمسكون بتقليد آبائهم.
ثم يثبّت الله رسوله الكريم ويحثّه أن يستمسك بالذي أوحيَ إليه لأنه صراط مستقيم، فالقرآن والدين والعقيدة الصافية التي وردت فيه شرف كبير للنبي ولقومه ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ﴾.
ثم عرضت السورة إلى طرف من قصة إبراهيم، ثم قصة موسى وعيسى باختصار. وفي عبرتها تذكّر الناس بقيام الساعة التي تأتي بغتة وهم لا يشعرون. وعند ذلك يكون كما قال تعالى :﴿ الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾. كما وتعرض السورة إلى ما أعد للمؤمنين من نعيم وما يُغذَق عليهم مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم في الجنة خالدون.. وبالمقابل يأتي ما ينتظر المجرمين من العذاب المقيم.
ويخاطب الله تعالى رسوله الكريم بقوله :﴿ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ﴾. وتختم السورة بعموم مُلك الله وبيان عظمته وجلاله، وعجز من أشركوهم معه، وبخطاب رقيق إلى سيد البشر عليه الصلاة والسلام ﴿ فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يَعلمون ﴾.

حم : تقرأ هكذا حاميم. افتتحت هذه السورة بهذين الحرفين من حروف الهجاء وقد تقدم ذِكر أمثالهما.
الكتاب : القرآن الكريم.
المبين : لِطريق الهدى.
وقد أقسم الله تعالى بكتابه المبين لطريقِ الهدى.
لعلّكم تعقلون : لعلكم تفهمونه لأنه بلسانكم.
وإنه جعله بلغةِ العرب، لغة قومك أيّها الرسولُ لِيفهَموا معناه.
أُم الكتاب : اللوح المحفوظ.
وإنه محفوظٌ في علمه تعالى،
أفنضرب عنكم الذِكر : أنُعرض عنكم ونترككم.
صفحا : إعراضا.
مسرفين : متجاوزين الحد في الكفر.
فليس هو من عند محمدٍ كما تدّعون يا مشركي قريش.
إننا لن نترك تذكيركم به بسببٍ من إعراضكم عنه، وانهماككم في الكفر به، وإنما نفعل ذلك رحمةً منّا ولطفاً بكم.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة والكسائي : إن كنتم قوما مسرفين بكسر همزة إن. والباقون : أن كنتم بفتح الهمزة.
ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيراً من الأمم قبلهم كانوا أشدّ منهم قوة،
وكذّبوا رسُلَهم.
أشدّ منهم بطشا : أقوى منهم وأجلد.
مثَل الأولين : وصفهم وحالهم.
فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.
﴿ ومضى مَثَلُ الأولين ﴾
وقد رأيتم ما حلّ بهم، فاحذَروا أن يحل بكم مثلُه.
وبعد أن ذكر أن المشركين سادِرون في كُفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن بيّن هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم ﴾
ومع اعترافهم هذا بالله يعبُدون الأوثان من دونه ! !.
مهداً : فراشا.
سبلاً : طرقا.
ثم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لكم الأرضَ فِراشاً ممهَّدا، وجعل فيها طُرقاً لتهتدوا بها في سيَركم.
بقدر : بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة.
فأنشَرنا : فأحيينا.
ميتاً : يابسة خالية من النبات.
ونزّل من السماء ماءً بقدْر الحاجة يكفي الزرع ويسقي الحيوان، وأحيا به الأرضَ الميتة. ومثلُ إحياء الأرضِ بعد موتها، يخرجُكم يومَ القيامة للحساب والجزاء.
الأزواج : أصناف المخلوقات.
ولقد خلق أصناف المخلوقات جميعاً من حيوان ونبات، وسخّر لكُم السفنَ والدوابّ لتركبوها.
لتستووا على ظهوره : لتستقروا عليها.
سخّر : ذلل.
مقرنين : مطيقين. يقول الشاعر : ولستم للصعاب بمقرنينا.
وتذكروا نعمة ربكم وتقولوا :
﴿ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾
لولا لطفُ الله بنا ما كنا لذلك مطيقين.
لمنقلبون : لراجعون.
إننا يوم القيامة إلى ربنا لراجعون، فيجازي كلَّ نفس بما كسبت، فاستعدّوا لذلك اليوم، ولا تغفلوا عن ذِكره.
جزءا : ولداً، إذ قالوا الملائكة بنات الله.
مبين : ظاهر واضح.
بعد أن بيّن الله أنهم يعترفون بالألوهية وأن الله هو خالق هذا الكون، ذكر هنا أنهم متناقضون مكابرون، فهم مع اعترافهم لله بخلْق السموات والأرض قد جعلوا بعضَ خلقه ولدا ظنوه جزءا منه. وهذا كفرٌ عظيم.
أصفاكم : خصّكم.
ومن عجيب أمرِهم أنهم خصّوه بالبنات، وجعلوا لهم البنين،
بما ضرب للرحمن مثَلاً : يعني بالبنات.
كظيم : ممتلئ غيظا.
مع أنهم إذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الغيظ، وامتلأ كآبة وحزناً لسوء ما بُشّر به.
يُنشَّأ : يربَّى.
وقد جعلوا لله الأنثى التي تتربّى في الزينة، وإذا خوصِمتْ لا تقْدِر على الجَدل والمخاصمة، واختاروا لأنفسِهم الذكور ! !
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص : أوَمَن يُنَشّأ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين المفتوحة والباقون : أوَمَن يَنْشأ بفتح الياء وسكون النون وفتح الشين من غير تشديد.
ثم نعى عليهم في جَعْلهم الملائكة إناثا، وزاد في الإنكار عليهم بأن مثلَ هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة، فهل شَهدوا ولادتهم ؟
﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ يوم القيامة حيث يُسألون عنها ويجازون بها
قراءات :
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن. والباقون : الذي هم عباد الرحمن.
وقرأ نافع : أأُشْهدوا خلقهم بفتح الهمزة وبضم الألف وإسكان الشين. وقرأ الباقون : أشهِدوا بهمزة واحدة وكسر الشين.
ثم حكى عنهم شُبهةً أخرى، وهي أنهم قالوا : لو شاء الله ما عبدْنا الملائكة،
وردّ عليهم بقوله :﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ﴾ ويعني : هل أعطيناهم كتاباً قبل القرآن يؤيّد افتراءهم هذا فهم متعلقون به !
وعندما فقدوا كل حجة ودليل قالوا :
﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ﴾
لقد وجدْنا آباءنا على دينٍ فقلّدناهم، وبذلك ينقطع الجدل بعد عنادهم وعجزهم.
إن حال هؤلاء مثلُ الأمم السابقة، فقد قالت ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾
وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلالٌ قديم.
ثم حكى الكتابُ الكريم ما قاله كل رسول لأمته :
﴿ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ ﴾
أتتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدينٍ هو خيرٌ من دين آبائكم بما فيه من الهداية والرشاد !.
فقالوا مجيبين ومصرّين على كفرهم :﴿ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾
قراءات :
قرأ ابن عامر وحفص : قال أولو جئتكم. وقرأ الباقون : قل أولو جئتكم، بفعل الأمر.
ولم يبق لهم عذرٌ بعد هذا كله ولذلك قال تعالى :﴿ فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾
وفي هذا تسليةٌ كبرى للرسول الكريم، وإرشادٌ له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له، ووعيدٌ وتهديد لهم.
براء : بريء، ولفظ ( براء ) يطلق على المفرد والمثنى والجمع تقول : أنا براء مما تعملون، وأنتم براء وأنتما براء.
يبين الله تعالى للمعاندين لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن أشرفَ آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام تركَ دينَ آبائه، وقال لأبيه وقومه : إنني بريء من عبادة آلهتكم الباطلة.
فطرني : خلقني.
وأنه لا يعبد إلا الله الذي خلَقَه على فِطرة التوحيد، فهو سَيَهديه إلى طريق الحق.
وجعلها كلمة باقية : وجعل كلمة التوحيد باقية.
في عقبه : في ذرّيته.
ويجعلُ كلمة التوحيد باقيةً في ذرّيته ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ فيؤمنون بها.
لقد متّع الله قريشاً بالنعمة والأمن في بلدهم، فاغترّوا بذلك ولم يتّبعوا ملّةَ أبيهم إبراهيم...
﴿ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ﴾
جاءهم الرسولُ الأمين بالقرآن الكريم يهديهم إلى الصراط المستقيم.
فلما جاءهم الرسول بالحقّ كذّبوه وقالوا ساحر.
﴿ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ﴾
من القريتين : من إحدى القريتين وهما مكة والطائف.
وقالوا مستخفّين بهذا النبيّ الكريم لأنه فقير : هلاّ نزل القرآن على أحد رجلين من عظماء مكة أو الطائف وهما : الوليدُ بن المغيرة من سادات مكة، أو عروة بن مسعود الثقفي من سادات الطائف.
رحمة ربك : النبوة.
سخريا : بمعنى التسخير.
وهنا يردّ الله تعالى عليهم ويبين لهم جهلهم بأن العظمةَ ليست بكثرة المال ولا بالجاه، وأن النبوة منصبٌ إلهي وشرفٌ من الله يعطيها من يستحقها، وليست بأيديهم ولا تحت رغبتهم ولذلك قال :
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾
كيف جهِلوا قَدْرَ أنفسِهم حتى يتحكموا في النبوة ويعطوها من يشاؤون ! الله تعالى قَسَم المعيشة بين الناس وفضّل بعضهم على بعض في الرزق والجاه، ليتخذَ بعضُهم من بعض أعواناً يسخّرونهم في قضاء حوائجهم، وليتعاونوا على هذه الحياة.
﴿ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾
والنبوّة وما يتبعها من سعادة الدارَين خيرٌ من كل ما لديهم في هذه الحياة الدنيا. فهذا التفاوت في شئون الدنيا هو الذي يتم به نظام المجتمع، فلولاه لما صرَّف بعضُهم بعضا في حوائجه، ولا تعاونوا في تسهيل وسائل العيش.
معارج : مفرده مَعْرَج ومعراج وهو المَصْعَد والسلّم.
عليها يظهَرون : يصعدون.
ثم بين الله تعالى أنه : لولا أن يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء..
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : سَقفاً بالإفراد، والباقون : سُقُفا بالجمع.
السرر والأسرة : جمع سرير.
ثم بين الله تعالى أنه : لولا أن يرغبَ الناسُ في الكفر إذا رأوا الكفار في سَعةٍ من الرزق لمتَّعهم الله بكل وسائل النعيم، فجعل لبيوتهم أبواباً من فضة وسقُفا وسررا ومصاعد من فضة، وزينةً في كل شيء..
الزخرف : الزينة والنقوش.
إنْ كل ذلك لمّا متاع الحياة : إنْ كل ذلك إلا متاع الحياة.
وما هذا كلّه إلا متاع قليلٌ زائل مقصور على الحياة الدنيا الفانية.
﴿ والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
أعدّها الله للذين أحسنوا واتقَوا وأخلصوا في إيمانهم.
روى الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لو كانت الدنيا تَعْدل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ».
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة وهشام : لمّا متاع الحياة بتشديد ميم لما. والباقون : لما بالتخفيف.
ومن يعشُ عن ذكر الرحمن : ومن يعرض عنه، يقال عشا يعشو عشوا : ساء بصره، وعشا إلى النار : رآها ليلا فقصدها. وعشى وعشاوة : أصيب بصره بضعف. ذكر الرحمن : القرآن.
نقيّض له : نهيئ له.
القرين : الرفيق الذي لا يفارق.
بعد أن بين الله أن المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل، وأن نعيم الآخرة هو النعيم الدائم، ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه،
وإن شياطين هؤلاء الفئة من البشر يصدّونهم عن السبيل القويم، ويظنون أنهم مهتدون.
بُعد المشرقين : يعني المشرق والمغرب، بين المشرق والمغرب. والعرب تسمّي أحيانا الشيئين المتقابلين باسم أحدهما. كما نقول العُمَران : أبو بكر وعمر، القمران : الشمس والقمر.
حتى إذا جاء ذلك الرجل يومَ القيامة إلى الله ورأى عاقبة إعراضه وكفرِه قال لقرينه نادماً : يا ليت بيني وبينك بُعدَ المشرق والمغرب، فبئس الصاحبُ كنتَ لي، حتى أوقعتني في الهاوية.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وحفص : حتى إذا جاءنا بالإفراد. والباقون : جاءانا على التثنية.
ثم يقال لهم جميعا : لن يخفَّف العذابُ عنكم اليوم، وكلّكم في العذابِ مشتركون، لا يستطيع أحد منكم أن يساعد الآخر.
ثم بين الله تعالى لرسوله الكريم أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم، فأنت يا محمد،
لا تُسمع الصمَّ عن الحق ولا تهدي العميَ عن الاعتبار.
فإما نذهبنَّ بك : فإن قبضناك وأمتناك.
ثم سلّى رسوله الكريم وبين له أنه لا بدّ أن ينتقم منهم، إما في حياة الرسول
أو بعد مماته.
فإن قبضناك يا محمد قبل أن نُريَك عذابَهم، ونشفي بذلك صدرَك وصدورَ قوم مؤمنين فإنا سننتقم منهم في الدنيا والآخرة. ﴿ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ مسيطرون.
فاعتصِم يا محمد بالقرآن لأنه الحقُّ والنور المبين، واثبُتْ على العمل به، واللهُ معك لأنك على صراطه المستقيم.
وإنه لذِكر لك ولقومك : إن القرآن شرف لك ولقومك تُذْكَرون به إلى الأبد.
إن القرآن الذي أوحيناه إليك شرف لك وللعرب، فلقد رفع من شأنهم ونشَر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها، وكما قال تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ].
وأيّ ذكرٍ أعظم أيها الرسول في شرائع مَنْ أرسلْنا قبلك من رسُلنا، هل جاءت دعوة الناس إلى عبادة غيرِ الله ؟ إن جميع الرسل جاؤوا بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له.
بآياتنا : بمعجزاتنا التي أظهرها على يد موسى.
ملئه : أشراف قومه.
بعد أن ذكَر الله أن كفار قريش طعنوا في نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكونه فقيراً، بيّن هنا أن سيّدنا موسى جاء إلى فرعون وأشراف قومه وقال لهم ﴿ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين ﴾ وأظهر لهم المعجزات.
لكنهم سخروا منه وضحكوا من المعجزات.
وكانت كل معجزة من المعجزات التي توالت عليهم أكبرَ من أختها. وحيث أصروا على الكفر والطغيان أصبناهم بأنواع البلايا، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن غيهم.
بما عَهِدَ عندك : بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنّا كشف عنا العذاب.
ولكن بالرغم من معاينتهم تلك المعجزات فقد اعتبروها من قبيل السحر فقالوا : يا أيها الساحر، ادعُ لنا ربك متوسّلاً بما عَهد عندك أن يكشف عنا العذاب، فإذا كشفه عنّا اهتدينا وآمنا بما تريد.
ينكثون : ينقضون العهد.
فلما كشف الله عنهم العذاب بدعاء موسى نقضوا العهدَ ولم يؤمنوا. وقد جاءت هذه القصة مفصّلة في سورة الأعراف.
وهذه الأنهار تجري من تحتي : من تحت قصري وبين يديّ في جناتي.
ثم أخبر الله عن تمرد فرعون وطغيانه وعناده فقال :﴿ ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ... ﴾
أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار التي تشاهدونها تجري من تحت قصري، ﴿ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ أيها القوم ! ؟
مهين : حقير، ضعيف.
فأنا خير من هذا الفقير الحقير الذي لا يكاد يُفصح عما يريد.
ولا يكاد يُبين : لا يكاد يُفصِح عما في نفسه، لأنه كان ألثغَ يجعل الراء غينا.
أسورة : جمع سوار وكانوا يُلبسون الرئيس أو العظيم أسورة من ذهب.
مقترنين : ملازمين، ليعينوه ويساعدوه.
ثم ذكر شبهةً مانعة لموسى من الرياسة، وهي أنه لا يلبس لباس الملوك، فهلاّ ألقى ربّه عليه أساورَ من ذهبٍ إن كان صادقا ! ! أو جاء معه الملائكةُ ملازمين له ليساعدوه !
قراءات :
قرأ حفص : أسورة. وقرأ الباقون : أساور، أسورة جمع أسوار، وجمع الجمع أساور وأساورة.
فاستخف قومه : استخف عقولهم.
﴿ فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾.
وبعد ذلك بين الله أن هذه الخِدع قد انطلتْ عليهم، وسحَرت ألبابهم، فأطاعوه واعترفوا بربوبيته وكذّبوا موسى.
آسفونا : أَغضبونا، والأسف هو الحزن أو الغضب.
ثم بين الله مآلهم : فلما أغضبونا بعنادهم انتقمنا منهم بعاجلِ عذابنا، فأغرقناهم أجمعين،
سلفاً : قدوة لمن بعدهم من الكفار. ومثلا : عبرة وموعظة.
وجعلناهم قُدوةً لمن يعمل عملَهم من أهل الضلال، وعبرةً وموعظة لمن يأتي بعدهم من الكافرين.
وفي قصة موسى هنا تسليةٌ للرسول الكريم بها لأن قومه عيّروه بالفقر، وقد سبق لموسى أن عيره فرعونُ بالفقر والضعف.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف : فجعلناهم سُلُفا بضم السين واللام. والباقون : سلفا، بالإفراد.
يصدّون : يصيحون ويضجّون.
لقد جادل مشركو قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم جدلا كثيرا، من ذلك أن الرسول الكريم لما تلا عليهم :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] قال له عبدُ الله بن الزِبِعْرَي - وهو من شعراء قريش وقد أَسلمَ وحسُنَ إسلامه فيما بعد- : أليس النصارى يعبدون المسيح وأنتَ تقول كان عيسى نبياً صالحاً، فإن كان في النار فقد رضينا. فأنزل الله تعالى بعد ذلك :﴿ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠١ ].
وجادلوه بعد ذلك كثيرا، ولذلك يقول الله تعالى :
﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾
لما بين الله وَصْفَ عيسى الحقَّ من أنه عبدٌ مخلوق، وعبادتُه كفرٌ، إذا قومك أيها النبي يُعرِضون عن كل هذا.
قراءات :
قرأ الكسائي ونافع وابن عامر : يصُدون بضم الصاد. والباقون : بكسرها.
جدلا : خصومة بالباطل.
خَصِمون : شديدون في الخصومة، ومجبولون على اللجاج وسوء الخلق.
فقال الكافرون : أآلهتنا خيرٌ أم عيسى ؟ فإذا كان عيسى في النار فلنكنْ نحنُ وآلهتنا معه.. وما ضرب الكفار لك هذا المثَلَ إلا للجدل والغلبة في القول
لا لإظهار الحق.
﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾
إنهم قوم شديدون في الخصومة، مجبولون على العَنَتِ والعناد.
وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل : آية وأمراً عجيبا.
ثم بين الله تعالى أن عيسى عبدٌ من عبيده الذين أنعم عليهم فقال :
﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ ﴾
وما عيسى بن مريم إلا عبدٌ أنعمنا عليه بالنبوّة، وقد جعلناه آيةً بأن خلقناه من غير أبٍ كَمَثَلِ آدم خَلَقَه الله من تراب.
ولو نشاء لجعلْنا في الأرض عجائب كأمرِ عيسى كأن نجعل لبعضكم أولاداً ملائكة يخلفونهم، كما خلقنا عيسى من غير أب.
لعلمٌ للساعة : علامة من أشراطها.
فلا تمترنّ : فلا تشكّن.
والحق أن عيسى بحدوثه من غير أب لدليلٌ على قيام الساعة، ﴿ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا ﴾ واتبعوا هداي وهُدى رسولي، فما أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم. ويقول بعض المفسّرين، وإن القرآن الكريم ليعلِمُكم بقيام الساعة فاتَّبعوا تعاليمه،
ولا تتبعوا زيغ الشيطان إنه لكم عدوٌّ ظاهر.
البينات : المعجزات.
الحكمة : الشرائع المحكمة.
ولما جاء عيسى رسولاً إلى بني إسرائيل ومعه الآيات الدالة على رسالته، قال لقومه : قد جئتكم بشريعةٍ حكيمة تدعوكم إلى التوحيد، وجئتكم لأبيّن لكم بعضَ الذي تختلفون فيه من أمر الدين، فاتقوا الله في مخالفتي، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه.
إن الله هو خالقي وخالقكم فاعبدوه وحده، وحافِظوا على شريعته، فهي الطريق الموصل إلى النجاة.
ولكنهم خالفوا ما دعاهم إليه، واخلتفوا، وصاروا شِيعا وفرقاً لا حصر لها. ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ هو يوم القيامة، حين يحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة.
هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في شأن عيسى إلا أن تقوم الساعةُ بغتةً وهم غافلون عنها ! ؟
الأخلاء : جمع خليل الأصدقاء.
في هذه الآية مشهدٌ من مشاهد يوم القيامة يبيّن حال فريقين متقابلَين، وهو يبدأُ في رسم صورةٍ عن الأصدقاء في ذلك اليوم فيقول :
إن الأصدقاء بعضُهم لبعض عدوٌّ إلا الذين كانت صداقتهم خالصةً لوجه الله واجتمعوا على التقوى.
فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
مسْلمين : مخلصين منقادين لربهم.
ويومئذ يقال للذين آمنوا بالله وصدّقوا رسوله الكريم :
تحبرون : تسرون.
ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم تُسرّون فيها سروراً عظيما. وهناك يلقَون من النعيم ما لا مثيل له في الدنيا.
بصحاف : جمع صحفة وهي آنية الطعام، يؤكل بها.
أكواب : جمع كوب، وهو ما يشرب به.
ويطاف عليهم بأوانٍ من ذهب ويشربون بأكواب من ذهب، ويجدون كل ما تشتهيه أنفسهم وما تلذ به أعينهم، ويقال لهم إكمالاً للسرور :﴿ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
قراءات : قرأ حفص ونافع وابن عامر : ما تشتهيه الأنفس. والباقون : ما تشتهي الأنفس.
--
وفي هذه الجنة أيضاً فاكهة كثيرة الأنواع ﴿ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾.
ثم بيّن حال الفريق المقابل من أهل النار،
وما يكون فيه الكفار من العذاب الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا، وهم في حُزنٍ لا ينقطع.
والله تعالى لم يظلمهم بهذا العذاب ﴿ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ﴾ باختيارِهم الضلالة على الهدى.
ثم بين كيف يقول أهل النار لخَزَنتها ويطلبون منهم أن يموتوا حتى يستريحوا من العذاب، ويردّ عليهم مالكٌ، خازن النار قائلاً :
﴿ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾
لقد جاءكم رسولنا بالدّين الحق فآمن به قليل، وأعرض عنه أكثركم وهم كارهون، وستبقون في جهنم هذه جزاء كفركم.
أم أبرموا أمرا : أحكموا تدبيره.
ثم بين الله ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق، وإعلاء شأن الباطل، وقال لهم :
﴿ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾
إنا محكِمون أمراً في مجازاتكم وإظهار الرسول عليكم.
نجواهم : ما يتناجون به بينهم.
لقد وهِموا فيما ظنّوا أننا لا نسمع سرّهم وما يتناجون به بينهم، ﴿ بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ كلَّ ما صدر عنهم من قول أو فعل.
قل أيها الرسول للمشركين : إن صحّ الدليل القاطع أن للرحمن ولداً فأنا أولُ من يعبدُ هذا الولد، لكنه لم يصحّ ذلك ولن يصحّ.
سبحان ربّ السموات : تنزيهاً له عن كل نقص.
يصِفون : يقولون كذباً بأن له ولدا.
ثم نزّه الله نفسه بقوله :
﴿ سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ ﴾
تنزه خالقُ هذا الكون العجيب وربُّ العرش المحيط بذلك كله، عما يصفه المشركون.
فذرْهم : فاتركهم.
يخوضوا : يتكلموا بالباطل.
حتى يلاقوا يومهم : يوم القيامة.
ثم أمر الرسولَ الكريم أن يتركهم في خوضهم بباطلهم وشركهم حتى يلاقوا يومهم، يوم القيامة، وهناك يدركون خطأهم ويندمون.
ثم أكد هذا التنزيه ببيان أن الله هو الذي يُعبد في السماء بحقّ، ويُعبد في الأرض بحق.
﴿ وَهُوَ الحكيم العليم ﴾ الحكيم في تدبير خلقه، العليم بمصالحهم.
إن عنده وحده عِلم يوم القيامة، وإليه وحده ترجعون في الآخرة للحساب
يدعون : يعبدون.
أما هذه الأوثان التي تعبدونها فلن تستطيع الشفاعة لكم. أما من نطق بالحق وكان على بصيرة من عند ربه فإن شفاعته تنفع عند الله بإذنه، ولمن يستحقها.
يؤفكون : يصرفون.
ثم بين أن هؤلاء المشركين يتناقضون في أقوالهم وأفعالهم فقال :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ ﴾
ولئن سألتَ أيها الرسول هؤلاء المشركين من الذي خلقهم ليقولُنّ : خَلَقنا الله، فكيف إذن يُصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره ! ؟.
وقيله : وقَوله، يقال قلت قولاً، وقالاً، وقيلاً.
والله عنده علمُ الساعة وعلمُ قول الرسول يا رب إن هؤلاء الذين أمرتّني بإنذارهم قومٌ لا يؤمنون. وقيلهِ بالجر معطوف على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيلِه.
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة : وقيلِهِ بالجر، والباقون : وقيلَهُ بالنصب.
فاصفح عنهم : فاعف عنهم.
ولذلك قال له تعالى :
﴿ فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾
فأعرِض عنهم أيها الرسول، وقل لهم سلام، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم، وأنك ستنتصر عليهم.
وقد أنجز الله وعده، ونصر دينه، والحمد لله رب العالمين.
Icon