تفسير سورة سورة المزمل من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
سورة المزمل
روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه :(... فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس بين السماء والأرض فجئثت [ فزعت ] منه رعبا فرجعت فقلت زملوني زملوني فدثروني – وفي رواية - فزملوني ) فأنزل الله تعالى " يأيها المدثر " إلى " والرجز فاهجر ". وقال المفسرون : وعلى أثرها نزلت ﴿ يأيها المزمل ﴾
ﰡ
﴿ يأيها المزمل ﴾ أي المتزمل في ثيابه، المتلفف فيها ؛
نودي بذلك تأنيسا له وملاطفة ؛ على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من حالته التي هو عليها. يقال : زملته بثوبه تزميلا ؛ مثل لففته فتلفف.
﴿ قم الليل ﴾ للصلاة والعبادة. ﴿ إلا قليلا ﴾ منه
﴿ نصفه ﴾ بدل من " قليلا " ؛ أي فلا تقم هذا النصف للصلاة واتخذه للنوم والراحة. ووصف بالقلة للإشارة إلى أن النصف الآخر العامر بالقيام للصلاة بمنزلة الأكثر في الثواب والفضيلة بالنسبة لهذا النصف الخالي منه. ﴿ أو انقص منه ﴾ أن من هذا النصف الخالي من القيام﴿ قليلا ﴾ حتى يصير ثلثا، وتكون مدة القيام الثلثين
﴿ أو زد عليه ﴾ أي على هذا النصف قليلا حتى يصير ثلثين ؛ فتكون مدة القيام ثلثا. فأوجب الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته قيام الليل، وخيّره بين قيام النصف تاما، وبين قيام الثلثين، وقيام الثلث ؛ فصار هو وأصحابه يقومون كل الليل خشية الإخلال بشيء من المقدار المعين لعدم التمكن من ضبطه. واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم ؛ فرحمهم الله تعالى بالتخفيف عنهم، فنسخ وجوب قيام هذا المقدار المعين في حقه وحق أمته بقوله في آخر السورة : " فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن " أي فصلوا بالليل ما تيّسر لكم دون تحديد بالمقادير المعيّنة. ثم نسخ وجوب القيام في حقه صلى الله عيه وسلم وحق الأمة بفرض الصلوات الخمس مع ضميمة قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله عن الصلوات الخمس بقوله هل عليّ غيرها يا رسول الله ؟ - :( لا إلا أن تطوع ). وقيل : في حق الأمة فقط، وبقي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : " ومن الليل فتجهد به نافلة لك " أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس خاصة بك. وكان بين الناسخ والمنسوخ نحو سنة – كما روى في الصحيح – بناء على أن السورة كلها مكية، وهو الراجح. وقيل : نحو عشر سنين ؛ بناء على أن آخرها مدني وقيل : كان القيام فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ؛ لتوجه الخطاب له. وهو قول قوي.
﴿ ورتل القرآن ترتيلا ﴾ أي بينه تبيينا، وفصله تفصيلا أثناء ما ذكر من القيام ؛ لأن ذلك أعون على تأمله، وأثبت لمعانيه في القلب ؛ من قولهم : ثغر رتل، أي مفلّح الأسنان لم يتصل بعضها ببعض.
﴿ إنا سنلقي عليك... ﴾ أي لا تبال مشقة الذي أوجبناه عليك ؛ لأنه مهما بلغ، أسهل مما سيرد عليك في الوحي المنزل من التكاليف الكثيرة، فانهض به، ومرن به نفسك على تحمل المشاق. والمراد من القول : وحي القرآن. و " ثقيلا " أي على المكلفين ما فيه من الفرائض والحدود ومنها الجهاد. أو شديدا عليك تحمله ؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدة عظيمة.
﴿ إن ناشئة الليل ﴾ أي إن العبادة التي تحدث في الليل﴿ هي أشد وطأ ﴾ ثباتا في القلب ورسوخا فيه. ﴿ وأقوم قيلا ﴾ أبين قولا، وأشد مقالا، وأصوب قراءة من عبادة النهار ؛ لحضور القلب، وهدوء الأصوات والحركة بالليل ؛ وذلك أجمع للفكرة، وأبعث على التأمل والاستفادة. وقيل الناشئة : النفس المتهجّدة التي تنشأ من مضجعها – أي تنهض – إلى العبادة ؛ من نشأ من مكانه ونشر : إذا نهض. أو هي ساعات الليل وأوقاته ؛ لأنها تنشأ واحدة بعد واحدة، أي متعاقبة. والمراد : الحث على الاستدامة على هذه العبادة الليلية، والترغيب فيها بذكر مزاياها وآثارها في ترويض النفوس وشحذ القوى ؛ استعدادا للقيام بما سيشرع من التكاليف.
﴿ سبحا طويلا ﴾ تقلبا وتصرفا في مهماتك، واشتغالا بأعباء الرسالة ؛ فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة تفرعا تاما إلا في الليل، فعليك بها فيه – من السبح، وأصله المرّ السريع في الماء، واستعير لما ذكر.
﴿ واذكر اسم ربك ﴾ أي دم على ذكره تعالى ليلا ونهارا بالتسبيح والتحميد والصلاة وتلاوة القرآن وغير ذلك ؛ فهو تعميم بعد التخصيص. ﴿ وتبتل إليه تبتيلا ﴾ انقطع إليه تعالى في العبادة والدعاء انقطاعا، وجرد نفسك من كل ما سواه ؛ من التبتل، وهو الانقطاع إلى عبادة الله عز وجل. ومنه بتلت الحبل : أي قطعته.
﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ أي لا جزع فيه. قيل : هو منسوخ بآية القتال.
﴿ أولى النعمة ﴾ أهل التنعم والترفه وغضارة العيش في الدنيا. ﴿ ومهلهم قليلا ﴾ أي زمانا قليلا هو مدة الدنيا. أو المدة الباقية إلى يوم بدر، ثم يعذبون أشد العذاب.
﴿ إن لدينا أنكالا ﴾ قيودا شديدة. واحدها نكل – بكسر أوله – وهو القيد الشديد يوضع في الرجل لمنع الحركة وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها أي يمنع.
﴿ وطعاما ذا غصة ﴾ ينشب في الحلوق، لا هو نازل ولا هو خارج، وهو الزقوم [ آية ٦٢ الصافات ص ٢٢٩ وآية ٤٣ الدخان ص ٣١٠ ] والغسلين [ آية ٣٦ الحاقة ] والضريع [ آية ٦ الغاشية ] وسيأتي بيانه. والغصة : ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره وجمعها غصص.
﴿ يوم ترجف ﴾ أي استقر ذلك العذاب لدينا يوم تضطرب الأرض والجبال وتزلزل بما عليها وهو يوم القيامة ؛ من الرجف وهو الاضطراب الشديد. ومنه الرجفة، والإرجاف، وبحر رجاف.
﴿ وكانت الجبال كثيبا ﴾ أي وتكون رملا مجتمعا ؛ بعد أن كانت أحجارا صلبة عظيمة ؛ من كثب الشيء يكثبه ويكثبه : جمعه من قرب وصبه. وجمعه كثب وأكثبة وكثبان ؛ وهي تلال الرمل. ﴿ مهيلا ﴾ سائلا متناثرا بعد اجتماعه. والمهيل : الذي يحرك أسفله فينهال عليه من أعلاه ويتتابع.
﴿ فأخذناه أخذا وبيلا ﴾ ثقيلا شديدا، ردئ العقبى. يقال : ضرب وبيل، أي شديد. وكلأ وبيل : أي وخم لا يستمرأ لثقله. واستوبل فلان كذا : لم يحمد عاقبته.
﴿ السماء منفطر به ﴾ أي السماء مع عظمها شيء منشق في ذلك اليوم ؛ لشدته وهوله. وقيل : التذكير لتأويل السماء بالسقف. أو لأن السماء اسم جنس واحده سماوة ؛ فيجوز فيه التذكير والتأنيث. والباء في " به " بمعنى في، والضمير عائد على اليوم.
﴿ إن ربك يعلم ﴾ شروع في بيان الناسخ للقيام المأمور به في أول السورة وحكمة نسخه. ﴿ أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ﴾ أي زمنا أقل منهما بيسير. أفعل تفضيل ؛ من دنا : إذا قرب. واستعمل في القلة مجازا للزومها للقرب ؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز.
﴿ ونصفه وثلثه أي وتقوم نصفه وتقوم ثلثه ؛ فهو عطف على " أدنى ". وقرئ بالجر عطفا على " ثلثي " أي أقل من نصفه وأقل من ثلثه{ وطائفة من الذين معك ﴾ أي وتقوم معك طائفة من أصحابك. والباقون يقومون في منازلهم. ﴿ والله يقدر الليل والنهار ﴾ فلا يعلم ساعاتهما كما هي إلا هو سبحانه. ﴿ علم أن لن تحصوه ﴾ تأكيد لما قبله ؛ أي علم أن لن تستطيعوا ضبط الساعات التي يستغرقها القيام المأمور به. إلا أن تأخذوا بالأوسع والأحوط ؛ وذلك شاق عليكم. ﴿ فتاب عليكم ﴾ أي بالترخيص لكم في ترك القيام المقدر بتلك المقادير الثلاثة، ورفع التبعة عنكم في تركه. ﴿ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ﴾ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل دون تقدير بجزء معين منه. وسميت الصلاة قرآنا كما في قوله تعالى : " وقرآن الفجر " أي صلاته ؛ تسمية لها باسم ركنها، كما سميت قياما وركوعا وسجودا. وقدمنا أول السورة ما يتعلق بنسخ هذا الناسخ.
﴿ علم أن سيكون منكم مرضى... ﴾ بيان للأسباب الداعية إلى النسخ، بعد أن امتحنهم الله بالقيام وقاموا به لوجهه تعالى كما أمرهم ؛ بقدر طاقتهم مدة من الزمن ليست بالقصيرة. ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ قيل : هي المفروضة ؛ فتكون الآية مدنية، ويكون الناسخ قد تأخر نزوله نحو عشر سنين، وهو بعيد من الرءوف الرحيم. ولذا كان الراجح أم الآية مكية، والمراد بالزكاة الصدقات التي بها طهرة النفوس. أو الزكاة المفروضة من غير تعيين ؛ فقد قيل : إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء، والذي فرض بالمدينة.
والله أعلم.