تفسير سورة المرسلات

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة المرسلات من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ﴿ والمرسلات عُرْفاً ﴾ قال : هي الملائكة، وروي عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل. وقال الثوري، عن أبي العبيدين قال : سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفاً، قال : الريح : وكذا قال في :﴿ العاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً ﴾ إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتوقف ابن جرير في :﴿ المرسلات عُرْفاً ﴾ هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف، أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً، أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً؟ وقطع بأن ﴿ العاصفات عَصْفاً ﴾ الرياح، وتوقف في ﴿ الناشرات نَشْراً ﴾ هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم، وعن أبي صالح أن ﴿ الناشرات نَشْراً ﴾ هي المطر، والأظهر أن ﴿ المرسلات ﴾ هي الرياح، كما قال تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ]، وقال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ]، وهكذا ﴿ العاصفات ﴾ هي الرياح، يُقال : عصفت الرياح إذا هبت بتصويت، وكذا ﴿ الناشرات ﴾ هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عزَّ وجلَّ، وقوله تعالى :﴿ فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ يعني الملائكة فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغي، والحلال والحرام، وتلقى إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره، وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ هذا هو المقسم عليه أي ما وعدتم به من قيام الساعة والنفخ في الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ومجازاة كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إن هذا كله لواقع أي كائن لا محالة، ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ ﴾ أي ذهبت ضوءها كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا النجوم انكدرت ﴾ [ التكوير : ٢ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ ﴾ أي فطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها، ﴿ وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ ﴾ أي ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾ [ طه : ١٠٥ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ ﴾ قال ابن عباس : جمعت، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ] وقال مجاهد :﴿ أُقِّتَتْ ﴾ أجلت، ثم قال تعالى :﴿ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الفصل * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ يقول تعالى : لأي يوم أجلت الرسل وأرجىء أمرها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام ﴾ [ إبراهيم : ٤٧ ] وذلك في يوم الفصل كما قال تعالى :﴿ لِيَوْمِ الفصل ﴾ ثم قال تعالى معظماً لشأه :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل ﴾ ؟ ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي ويل لهم من عذاب الله غداً.
يقول تعالى :﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين ﴾ يعني المكذبين للرسل المخالفين لما جاءهم به، ﴿ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين ﴾ أي ممن أشبههم، ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، ثم قال تعالى ممتناً على خلقه ومحتجاً على الإعادة بالبداءة :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عزَّ وجلَّ، كما تقدم في سورة يس :« ابن آدم أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟ » ﴿ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾ يعني جمعناه في الرحم، وهو حافظ لما أودع فيه من الماء، وقوله تعالى :﴿ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر، ولهذا قال تعالى :﴿ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً ﴾ قال مجاهد : يكفت الميت فلا يرى منه شيء، وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم، ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ﴾ يعني الجبال رسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب، ﴿ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾ أي عذباً زلالاً من السحاب، أو مما أنبعه من عيون الأرض، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات، الدّالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء أنهم يُقال لهم يوم القيامة ﴿ انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ ﴾ يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب، ﴿ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب ﴾ أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل في هو في نفسه ﴿ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب ﴾ يعني ولا يقيم حزّ اللهب، قوله تعالى :﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر ﴾ أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر، قال ابن مسعود : كالحصون، وقال ابن عباس ومجاهد : يعني أُصول الشجر ﴿ كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ ﴾ أي كالإبل السود، قال مجاهد والحسن واختاره ابن جرير، وعن ابن عباس ﴿ جمالت صُفْرٌ ﴾ يعني حبال السفن وعنه ﴿ جمالت صُفْرٌ ﴾ : قطع نحاس، عبد الرحمن بن عباس : قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما :﴿ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر ﴾ قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع، وفوق ذلك فنرفعه للبناء، فنسميه القصر ﴿ كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ ﴾ حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ ثم قال تعالى :﴿ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ﴾ أي لا يتكلمون، ﴿ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ﴾ أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليتعذروا بل قد قامت عليهم الحجة، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون، وعرصات القيامة حالات، والرب تعالى يخبر عن هذه الحارة تارة وعن هذه الحارة تارة، ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذٍ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم :﴿ هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين ﴾ يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وقوله تعالى :﴿ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾، تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي، وتنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى :﴿ يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ [ الرحمن : ٣٣ ]. عن عبادة بن الصامت أنه قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم ويسمعهم الداعي ويقول الله :﴿ هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴾ اليوم لا ينجو مني جبار عنيد، ولا شيطان مريد.
يقول تعالى مخبراً عن عبادة المتقين، إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن، وقوله تعالى :﴿ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ أي ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا، ﴿ كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ أي جزاؤنا لمن أحسن العمل، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمرهم أمر تهديد ووعيد، فقال تعالى :﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً ﴾ أي مدة قليلة قريبة قصيرة. ﴿ إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٧٠ ]. وقوله تعالى :﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ ﴾ أي إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؟ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟ كقوله تعالى :﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الجاثية : ٦ ] روي عن أبي هريرة :« إذا قرأ ﴿ والمرسلات عُرْفاً ﴾ [ المرسلات : ١ ] فقراً ﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ فليقل آمنت بالله وبما أنزل ».
Icon