تفسير سورة التوبة

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
السورة التي تذكر فيها التوبة
جرّد الله- سبحانه- هذه السورة عن ذكر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ليعلم أنه يخصّ من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء، ليس لصنعه سبب، وليس له فى أفعاله غرض ولا أرب، واتّضح للكافة أن هذه الآية أثبتت فى الكتاب لأنها منزّلة، وبالأمر هنا لك محصّلة.
ومن قال: إنه لم يذكر التسمية فى هذه السورة لأنها مفتتحة بالبراءة عن الكفار فهو- وإن كان وجها فى الإشارة- فضعيف، وفى التحقيق كالبعيد لأنه افتتح سورا من القرآن بذكر الكفار مثل: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» «١» وقوله: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «٢» وقوله: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» «٣» وقوله: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» «٤»...
هذه كلها مفاتح للّسور... وبسم الله الرحمن الرحيم مثبتة فى أوائلها- وإن كانت متضمّنة ذكر الكفار. على أنه يحتمل أن يقال إنها وإن كانت فى ذكر الكفار فليس ذكر البراءة فيها صريحا وإن تضمّنته تلويحا، وهذه السورة أو لها ذكر البراءة منهم قطعا، فلم تصدّر بذكر الرحمة.
ويقال إذا كان تجرّد السورة عن هذه الآية يشير إلى أنها لذكر الفراق فبالحرىّ أن يخشى أنّ تجرد الصلاة عنها يمنع عن كمال الوصلة والاستحقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)
(١) آية ١ سورة البينة.
(٢) آية ١ سورة الهمزة.
(٣) آية ١ سورة المسد
(٤) آية ١ سورة الكافرون
الفراق شديد، وأشدّه ألا يعقبه وصال، وفراق المشركين كذلك لأنه قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» «١» ويقال من منى بفراق أحبائه فبئست صحبته. وقد كان بين الرسول عليه السلام وبين أولئك المشركين عهد، ولا شكّ أنهم كانوا قد وطّنوا نفوسهم عليه، فنزل الخبر من الغيب بغتة، وأتاهم الإعلام بالفرقة فجأة، فقال: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، أي هذه براءة من الله ورسوله، كما قيل:
فبتّ بخير- والدّنى مطمئنة وأصبحت يوما والزمان تقلّبا
وما أشدّ الفرقة- لا سيّما إذا كانت بغتة على غير ترقّب- قال تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ» «٢» وأنشدوا:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبّت به ريح من البين فانطفا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢]
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة، فأمّنهم فى الحال ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل.
والإشارة فيه: أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة انقطع ما بينه وبينهم من العصمة.
ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» والإشارة فيه: إن أصررتم على قبيح آثاركم سعيتم إلى هلاككم بقدمكم. وندمتم فى عاجلكم على سعيكم، وحصلتم فى آجلكم على خسرانكم وما خسرتم إلا فى صفقتكم، وما ضرّ جزمكم سواكم وأنشدوا:
تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا من ابتغى عوضا لليلى فلم يجد
(١) آية ٤٨ سورة النساء
(٢) آية ٣٩ سورة مريم [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)
أي ليكن إعلام من الله ورسوله للناس بنقض عهدهم، وإعلان عنهم بأنهم ما انقطعوا عن مألوفهم من الإهمال «١» ومعهودهم، وقد برح الخفاء من اليوم بأنهم ليس لهم ولاء، ولم يكن منهم بما عقدوا وفاء، فليعلم الكافة أنهم أعداء، وأنشدوا:
أشاعوا لنا فى الحىّ أشنع قصة وكانوا لنا سلما فصاروا لنا حربا
قوله جل ذكره: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.
من رأى من الأغيار- شظية من الآثار، ولم ير حصولها بتصريف الأقدار فقد أشرك- فى التحقيق- واستوجب هذه البراءة.
ومن لاحظ الخلق تصنّعا، أو طالع نفسه إعجابا فقد جعل ما لله لغير الله، وظنّ ما لله لغير الله، فهو على خطر من الشّرك بالله.
قوله جل ذكره: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
إن عادوا إلى الباب لم يقطع رجاءهم، ومدّ إلى حدّ وضوح العذر إرجاءهم. وبيّن أنهم إن أصرّوا على عتوّهم فإلى مالا يطيقون من العذاب منقلبهم، وفى النار مثواهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤]
إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
(١) وردت (الإمهال) والصواب أن تكون (الإهمال) لأن الإمهال لا يكون إلا من الحق، ومألوفهم ومعهودهم (الإهمال).
من وفّى الحقّ فى عقده فزده على حفظ عهده إذ لا يستوى من وفّاه ومن جفاه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
يريد إذا انسلخ الحرم فاقتلوا من لا عهد له من المشركين، فإنّهم- وإن لم يكن لهم عهد وكانوا حرما- جعل لهم الأمان فى مدة هذه المهلة، (....) «١» فكرتم أن يأمر بترك قتال من أبى كيف يرضى بقطع وصال من أتى؟!.
قوله جل ذكره: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
أمرهم بمعالجة جميع أنواع القتال مع الأعداء.
وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك فسبيل العهد فى مباشرة الجهاد الأكبر مع النّفس بالتضييق عليها بالمبالغة فى جميع أنواع الرياضات، واستفراغ الوسع «٢» فى القيام بصدق المعاملات. ومن تلك الجملة ألا ينزل بساحات الرّخص والتأويلات، ويأخذ بالأشقّ فى جميع الحالات قوله جل ذكره: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
حقيقة التوبة الرجوع بالكلية من غير أن تترك بقية. فإذا أسلم الكافر بعد شركه، ولم يقصّر فى واجب عليه من قسمى فعله وتركه، حصل الإذن فى تخلية سبيله وفكّه:
إن وجدنا لما ادّعيت شهودا لم نجد عندنا لحقّ حدودا
وكذلك النّفس إذا انخنست، وآثار البشرية إذا اندرست، فلا حرج- فى التحقيق- فى المعاملات فى أوان مراعاة الخطرات مع الله عند حصول المكاشفات. والجلوس مع الله
(١) مشتبهة
(٢) وردت (الواسع) والصواب أن تكون الوسع.
أولى من القيام بباب الله تعالى، قال تعالى فيما ورد به الخبر: «أنا جليس من ذكرنى» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
إذا استجار المشرك- اليوم- فلا يردّ حتى يسمع كلام الله، فإذا استجار المؤمن طول عمره من الفراق- متى يمنع من سماع كلام الله؟ ومتى يكون فى زمرة من يقال لهم:
«اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «٢» ».
وإذ قال- اليوم- عن أعدائه: «فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» فإن لم يؤمن بعد سماع كلامه نهى عن تعرضه حيث قال: «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» - أترى أنه لا يؤمّن أولياءه- غدا- من فراقه، وقد عاشوا اليوم على إيمانه ووفائه؟! كلا.. إنه يمتحنهم بذلك، قال تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» «٣».
ثم قال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» فإذا كان هذا برّه بمن لا يعلم فكيف برّه بمن يعلم؟
ومتى نضيّع من ينيخ ببابنا والمعرضون لهم نعيم وافر؟!
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧).
(١) جاء فى الرسالة ص ١١١ قال محمد الفراء سمعت الشبلي يقول: (أليس الله تعالى يقول:
أنا جليس من ذكرنى؟ ما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟).
(٢) آية ١٠٨ سورة المؤمنون.
(٣) آية ١٠٣ سورة الأنبياء.
كيف يكون المفلس من عرفانه كالمخلص فى إيمانه؟
وكيف يكون المحجوب عن شهوده كالمستهلك فى وجوده؟
كيف يكون من يقول «أنا» كمن يقول «أنت» ؟ وأنشدوا:
وأحبابنا شتان: واف وناقص... ولا يستوى قطّ محبّ وباغض
قوله: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ»، إن تمسّكوا بحبل «١» وفائنا أحللناهم ولاءنا، وإن زاغوا عن عهدنا أبليناهم بصدّنا، ثم لم يربحوا فى بعدنا.
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» : المتّقى الذي يستحق محبة من يتّقى وذلك حين يتقى محبّة نفسه، وذلك بترك حظه والقيام بحقّ ربّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨]
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)
وصفهم بلؤم الطبع فقال: كيف يكونون محافظين على عهودهم مع ما أضمروه لكم من سوء الرضاء؟ فلو ظفروا بكم واستولوا عليكم لم يراعوا لكم حرمة، ولم يحفظوا لكم قرابة أو ذمّة.
وفى هذا إشارة إلى أنّ الكريم إذا ظفر غفر، وإذا قدر ما غدر، فيما أسرّ وجهر.
قوله «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ» أي لا عجب من طبعهم فإنهم فى حقّنا كذلك يفعلون: يظهرون لباس الإيمان ويضمرون الكفر. وإنهم لذلك يعيشون معكم فى زىّ الوفاق، ويستبطنون عين الشّقاق وسوء النّفاق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩]
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩)
(١) وردت (لجبل) وهى خطأ فى النسخ.
من رضى من الله بغير الله أرخص فى صفقته ثم إنه خسر فى تجارته فلا له- وهو عن الله- أثر استمتاع، ولا له- فى دونه سبحانه- اقتناع بقي عن الله، ولم يستمتع عن الله. وهذا هو الخسران المبين.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠]
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
كيف يراعى حقّ المؤمنين من لا يراعى حقّ الله فى الله؟ أخلاقهم تشابهت فى ترك الحرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
معناه: وإن قبلناهم وصلحوا لولائنا فلحمة النّسب فى الدّين بينكم وبينهم وشيجة «١»، وإلا فليكن الأجانب منا على جانب منكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
إذا جنحوا إلى الغدر، ونكثوا ما قدّموه من ضمان الوفاء بالعهد، وبسطوا ألسنتهم فيكم باللوم فاقصدوا من رحى الفتنة عليه تدور، وغصن الشّرّ من أصله يتشعّب، وهم سادة الكفار وقادتهم.
وحقّ القتال إعداد القوة جهرا، والتبرّى عن الحول والقوة سرّا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٣]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)
(١) أي مشتبكة متصلة.
حرّضهم على القتال- على ملاحظة أمر الله بذلك- لا على مقتضى الانطواء على الحقد لأحد، فإنّ من غضب لنفسه فمذموم الوصف، ومن غضب لله فإن نصر الله قريب.
وقال «أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ» : فالخشية من الله بشير الوصلة، والخشية من غير الله نذير الفرقة. وحقيقة الخشية نفض السّرّ عن ارتكاب الزّجر ومخالفة الأمر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
هوّن عليهم كلفة المخاطرة بالمهجة بما وعدهم من الظفر والنصرة، فإنّ شهود خزى العدوّ مما يهوّن عليهم مقاساة السوء. والظّفر بالأرب يذهب تعب الطّلب.
وشفاء صدور المؤمنين على حسب مراتبهم فى المقام والدرجات فمنهم من شفاء صدره فى قهر عدوّه، ومنهم من شفاء صدره فى نيل مرجوّه. ومنهم من شفاء صدره فى الظّفر بمطلوبه، ومنهم من شفاء صدره فى لقاء محبوبه. ومنهم من شفاء صدره فى درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره فى البقاء بمعبوده.
وكذلك ذهاب غيظ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوّع أبوابه، وفيما ذكرنا تلويح لما تركنا «١».
«وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» حتى يكون استقلاله بمحوّل الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
(١) توضح هذه العبارة ميل القشيري للإقلال خشية الملال- كما ذكر فى مقدمة كتابه.
من ظنّ أنه يقنع منه بالدعوى- دون التحقق بالمعنى- فهو على غلط فى حسبانه.
والذي طالبهم به من حيث الأمر صدق المجاهدة فى الله، وترك الركون إلى غير الله، والتباعد عن مساكنة أعداء الله.. ثقة بالله، واكتفاء بالله، وتبرّيا من غير الله.
وهذا الذي أمرهم به ألا يتخذوا من دون المؤمنين وليجة فالمعنى فيه: ألا يفشوا فى الكفار أسرار المؤمنين.
وأول من يهجره المسلم- لئلا تطّلع على الأسرار- نفسه التي هى أعدى عدوّه، وفى هذا المعنى قال قائلهم:
كتابى إليكم بعد موتى بليلة ولم أدر أنّى بعد موتى أكتب
ويقال: إن أبا يزيد «١» - فيما أخبر عنه- أنه قال للحقّ فى بعض أوقات مكاشفاته:
كيف أطلبك؟ فقال له: فارق نفسك.
ويقال إن ذلك لا يتمّ، بل لا تحصل منه شظيّة إلا بكىّ عروق الأطماع والمطالبات لما فى الدنيا ولما فى العقبى ولما فى رؤية الحال والمقام- ولو بذرّة. والحرية عزيزة «٢»..
قال قائلهم:
أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاى طلعة حرّ
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٧]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
(١) هو أبو يزيد البسطامي كان جده (سروشان) مجوسيا وأسلم، وهو أحد إخوة ثلاثة كانوا جميعا زهادا وأصحاب أحوال، مات سنة ٢٦١، وقيل سنة ٢٣٤ (طبقات السلمى) و (رسالة القشيري).
(٢) (والحرية عزيزة) هنا معناها نادرة الوجود.
«١»
عمارة المساجد بإقامة العبادة فيها، والعبادة لا تقبل إلا بالإخلاص، والمشرك فاقد الإخلاص، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر دعواهم حصول بعض الحدثان بتأثير الأسباب، فمن أثبت فى عقده جواز ذرّة فى العالم من غير تقديره- سبحانه- شارك أرباب الشّرك فى المعنى الذي لزمتهم به هذه السّمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٨]
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
لا تكون عمارة المساجد إلا بتخريب أوطان البشرية، فالعابد يعمّرها بتخريب أوطان شهوته، والزاهد يعمرها بتخريب أوطان منيته، والعارف يعمرها بتخريب أوطان علاقته، والموحّد يعمرها بتخريب أوطان ملاحظته ومساكنته. وكلّ واحد منهم واقف فى صفته فلصاحب كلّ موقف منهم وصف مخصوص.
وكذلك رتبتهم فى الإيمان مختلفة فإيمان من حيث البرهان، وإيمان من حيث البيان، وإيمان من حيث العيان، وشتان ما هم! قال قائلهم:
لا تعرضنّ بذكرنا فى ذكرهم ليس الصحيح- إذا مشى- كالمقعد
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٩]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
(١) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (هم فيها خالدون)
ليس من قام بمعاملة ظاهره كمن استقام فى مواصلة سرائره، ولا من اقتبس من سراج علومه كمن استبصر بشموس معارفه، ولا من نصب بالباب من حيث الخدمة كمن مكّن من البساط من حيث القربة «١»، وليس نعت من تكلّف نفاقا كوصف من تحقّق وفاقا، بينهما بون بعيد! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٠]
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
«آمَنُوا» أي شاهدوا بأنوار بصائرهم حتى لم يبق فى سماء يقينهم سحاب ريب، ولا فى هواء «٢» معارفهم ضباب شك.
«وَهاجَرُوا» : فلم يعرّجوا فى أوطان التفرقة فتمحّضت «٣» حركاتهم وسكناتهم بالله لله.
«وَجاهَدُوا» : لا على ملاحظة عوض أو مطالعة عوض فلم يدّخروا لأنفسهم- من ميسورهم- شيئا إلا آثروا الحقّ عليه فظفروا بالنعمة فى قيامهم بالحقّ بعد فنائهم عن الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
(١) يتدرج الدخول عليه- حسبما نعرف من أسلوب القشيري- من الباب إلى البساط إلى العقوة أو الساحة ثم السدة.
(٢) وردت (هؤلاء) وقد صوبناها (هواء) لتلائم (سماء) و (سحاب) و (ضباب) فضلا عن أنها أقرب فى الكتابة إليها. [.....]
(٣) تمحضت أي صارت خالصة لله
15
البشارة من الله تعالى على قسمين: بشارة بواسطة الملك، عند التوفى:
«تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ» «١».
وبشارة بلا واسطة بقول الملك، إذ يبشّرهم ربّهم برحمة منه، وذلك عند الحساب.
يبشرهم بلا واسطة بحسن التولّى فعاجل بشارتهم بنعمة الله، وآجل بشارتهم برحمة الله، وشتان ما هما! ويقال البشارة بالنعمة والجنة لأصحاب الإحسان، والبشارة بالرحمة لأرباب العصيان، فأصحاب الإحسان صلح أمرهم للشهرة فأظهر أمرهم للملك حتى بشّروهم جهرا، وأهل العصيان صلح حالهم للستر فتولّى بشارتهم- من غير واسطة- سرّا.
ويقال إن كانت للمطيع بشارة بالاختصاص فإنّ للعاصى بشارة بالخلاص. وإن كان للمطيع بشارة بالدرجات فإن للعاصى بشارة بالنجاة.
ويقال إنّ القلوب مجبولة على محبة من يبشّر بالخير فأراد الحقّ- سبحانه- أن تكون محبة العبد له- سبحانه- على الخصوص فتولّى بشارته بعزيز خطابه من غير واسطة، فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ» وفى معناه أنشدوا:
لولا تمتّع مقلتى بلقائه لوهبتها بشرى بقرب إيابه
ويقال بشّر العاصي بالرحمة، والمطيع بالرضوان، ثم الكافة بالجنة فقدّم العاصي فى الذكر، وقدّم المطيع بالبرّ، فالذّكر قوله وهو قديم والبرّ طوله وهو عميم. وقوله الذي لم يزل أعزّ من طوله الذي حصل. قدّم العصاة على المطيعين لأنّ ضعف الضعيف أولى بالرّفق من القوى.
ويقال (قدّم أمر العاصي بالرحمة حتى إذا كان يوم العرض وحضور الجمع لا يفتضح العاصي) «٢».
ويقال «يبشرهم ربّهم برحمته» يعرّفهم أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تلك الدرجات
(١) آية ٣٠ سورة فصلت.
(٢) ما بين القوسين موجود فى الهامش أثبتناه فى موضعه من النص حسب العلامات المميزة، ولنتأمل مقدار انفساح صدور الصوفية بالنسبة للعصاة، وذلك نتيجة امتلاء قلوبهم بالأمل في المحبوب.
16
بسعيهم وطاعتهم، ولكن برحمته- سبحانه- وصلوا إلى نعمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد ينجّيه عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدنى الله برحمته» «١».
قوله: «لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ» : قوم نعيمهم عطاء ربّهم على وصف التمام، وقوم نعيمهم لقاء ربهم على نعت الدوام فالعابدون لهم تمام عطائه، والعارفون لهم دوام لقائه.
ثم قال: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» والكناية فى قوله «فِيها» كما ترجع إلى الجنة تصلح أن ترجع إلى الحالة، سيما وقد ذكر الأجر بعدها فكما لا يقطع عطاءه عنهم فى الجنة لا يمنع عنهم لقاءه متى شاءوا فى الجنة، قال تعالى: «لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» «٢» أي لا مقطوعة عنهم نعمته، ولا ممنوعة منهم رؤيته.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
من لم يصلح بطاعته لربه لا تستخلصه لصحبة نفسك.
ويقال من آثر على الله شيئا يبارك له فيه فيبقى بذلك عن الله، ثم لا يبقى ذلك معه، فإن استبقاه بجهده- كيف يستبقى حياته إذا أذن الله فى ذهاب أجله؟ وفى معناه أنشدوا:
من لم تزل نعمته قبله... زال مع النعمة بالموت
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٤]
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
(١) الشيخان عن عائشة مرفوعا: سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله، قالوا... إلخ
(٢) آية ٣٣ سورة الواقعة
ليس هذا تخييرا لهم، ولا إذنا فى إيثار الحظوظ على الحقوق، ولكنه غاية التحذير والزّجر عن إيثار شىء من الحظوظ على الدّين، ومرور الأيام حكم عدل يكشف فى العاقبة عن أسرار التقدير، قال قائلهم:
سوف ترى إذا انجلى الغبار... أفرس تحتك أم حمار؟
ويقال علامة الصدق فى التوحيد قطع العلاقات، ومفارقة العادات، وهجران المعهودات والاكتفاء بالله فى دوام الحالات.
ويقال من كسدت سوق دينه كسدت أسواق حظوظه، وما لم تخل منك منازل الحظوظ لا تعمر بك مشاهد الحقوق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٥]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)
النصرة من الله تعالى فى شهود القدرة، والمنصور من عصمه الله عزّ وجلّ عن التوهّم والحسبان، ولم يكله إلى تدبيره فى الأمور، وأثبته الحقّ- سبحانه- فى مقام الافتقار متبريا عن الحول والمنّة، متحقّقا بشهود تصاريف القدرة، يأخذ الحقّ- سبحانه- بيده فيخرجه عن مهواة تدبيره، ويوقفه على وصف التصبّر لقضاء تقديره.
قوله جل ذكره: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.
يعنى نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب، وخانت القوى أصحابها، ولم تغن عنكم كثرتكم، فاستخلص الله أسراركم- عند صدق الرجوع إليه- بحسن السكينة النازلة عليكم، فقلب الله الأمر على
الأعداء، وخفقت رايات النصرة، ووقعت الدائرة على الكفار، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٦]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
السكينة ثلج القلب عند جريان حكم الربّ بنعت الطمأنينة، وخمود آثار البشرية بالكلية، والرضاء بالبادى من الغيب من غير معارضة اختيار.
ويقال السكينة القرار على بساط الشهود بشواهد الصحو، والتأدب بإقامة صفات العبودية من غير لحوق مشقة، وبلا تحرّك عرق لمعارضة حكم. والسكينة «١» المنزلة على «الْمُؤْمِنِينَ» خمودهم تحت جريان ما ورد من الغيب من غير كراهة بنوازع البشرية، واختطاف الحقّ إياهم عنهم حتى لم تستفزهم رهية من مخلوق فسكنت عنهم كلّ إرادة واختيار.
«وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» من وفور اليقين وزوائد الاستبصار.
«وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بالتطوح «٢» فى متاهات التفرقة، والسقوط فى وهدة «٣» ضيق التدبير، ومحنة الغفلة، والغيبة عن شهود التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٧]
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
ردهم من الجهل إلى حقائق العلم، ثم نقلهم من تلك المنازل إلى مشاهد اليقين، ثم رقّاهم عن تلك الجملة بما لقّاهم به من عين الجمع.
(١) وردت (والسكين) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (والتطوع) بالعين وهى خطأ في النسخ.
(٣) جاءت الواو فوق فاء (فى) واكتملت بعدها خطأ: (هذه)، والصواب ان تأخذ الواو مكانها بعد (في) وتصبح الكلمة (وهدة)
قوله جل ذكره
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
فقدوا طهارة الأسرار بماء التوحيد فبقوا فى قذورات الظنون والأوهام، فمنعوا قربان المساجد التي هى مشاهد القرب. وأمّا المؤمنون فطهرهم عن التدنّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقّ فردا فيما يبيّنه من الأمر ويمضيه من الحكم.
قوله جل ذكره: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ توقّع الأرزاق من الأسباب من قضايا انغلاق باب التوحيد، فمن لم يفرد معبوده بالقسمة بقي فى فقر مسرمد.
ويقال من أناخ بعقوة كرم مولاه، واستمطر سحاب جوده أغناه عن كل سبب، وكفاه كلّ تعب، وقضى له كلّ سؤل وأرب، وأعطاه من غير طلب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
من استوجب الهوان لا ينجيك من شرّه غير ما يستحقه من الإذلال على صغره، ومن داهن عدوّه فبالحرىّ أن يلقى سوءه.
ومن أشدّ النّاس لك عداوة، وأبعدهم عن الإيمان- نفسك المجبولة على الشرّ فلا تقلع إلّا بذبحها بمدية المجاهدات. وهى لا تؤمن بالتقدير، ولا يزول شكها قط، وكذلك تخلد إلى التدبير «١»،
(١) أي تدبير الإنسان المناقض لتقدير الحق
ولا تسكن إلا بوجود المعلوم «١»، ولا تقبل منك إلا كاذب المواعيد، ولذلك قالوا وأكذب النّفس إذا حدّثتها فإنّ صدق القول يذرى بالأمل قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٠]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)
لو كان هذا فى تخاطب المخلوقين لكان عين الشكوى والشكوى إلى الأحباب تشير إلى تحقق الوصلة.
شكا إليهم ما حصل من قبيح أعمالهم، وكم بين من تشكو منه وبين من تشكو إليه!! قوله جل ذكره: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ الكفار قبلهم جحدوا الربوبية، وهؤلاء أقروا بالله، ثم لما أثبتوا له الولد نقضوا ما أقروا به من التوحيد، فصاروا كالكفار قبلهم.
ويحتمل أن تكون مضاهاة قولهم فى وصف المعبود بأنّ عيسى ابنه وعزيرا ابنه كقول الكفار قبلهم إنّ الملائكة بنات الله.
ويقال لمّا وصفوا المعبود بما يتعالى عن قولهم لم ينفعهم صدقهم فى الإقرار بربوبيته مما أضافوا إليه من سوء القالة. وكلّ من أطلق فى وصفه ما يتقدّس- سبحانه- عنه فهو للأعداء مشاكل فى استحقاق الندم والتوبيخ.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣١]
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
(١) ربما كان المقصود بالمعلوم هنا ما يقع فى نطاق الحس وتقدير الحق غيبى لا يقع تحت حس الإنسان وعلم الإنسان.
كما لا تجوز مجاوزة الحد فى وضع القدر لا تجوز مجاوزة الحد فى رفع القدر، وفى الخبر:
«أمرنا أن ننزل الناس منازلهم» فمن رأى من المخلوقين شظية من الإبداع أنزلهم منزلة الأرباب، وذلك- فى التحقيق- شرك، وما أخلص فى التوحيد من لم ير جميع الحادثات بصفاتها (....) «١» من الله.
«وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً: فمن رفع فى عقده مخلوقا فوق قدره فقد أشرك بربّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٢]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)
من رام أن يستر شعاع الشمس بدخان يوجهه من نيرانه، أو عالج أن يمنع حكم السماء بحيلته وتدبيره، أو يسقط نجوم الفلك بسهام قوسه- أظهر رعونته ثم لم يحظ بمراده.
كذلك من توهّم أن سنّة التوحيد يعلوها وهج الشّبه فقد خاب فى ظنّه، وافتضح فى وهمه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٣]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
أزاح العلل بما ألاح من الحجج، وأزال الشّبه بما أفصح من النهج فشموس الحقّ طالعة، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا:
هى الشمس إلا أنّ للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)
(١) مشتبهة.
العالم إذا ارتفق بأموال الناس عوضا عما يعلّمهم زالت بركات علمه، ولم يطب فى طريق الزهد مطعمه.
والعارف إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشىء من أحواله وأعماله زالت آثار همّته، ولم تجد فى حكم التوحيد حالته.
قوله جل ذكره: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
لهم فى الآجل عقوبة. والذين لا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فلهم فى العاجل حجبة. وقليل من عباده من سلم من الحجاب فى محتضره والعقاب فى منتظره «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٥]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
لمّا طلبوا الجاه عند الخلق بمالهم، وبخلوا بإخراج حقّ الله عنه شان وجوههم.
ولمّا أسندوا ظهورهم إلى أموالهم. قال تعالى: «فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ».
ويقال: لمّا (عبسوا) فى وجوه العفاة «٢» وعقدوا حواجبهم وضعت الكيّة على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمّا طووا كشحهم دون الفقراء- إذا جالسوهم- وضع المكواة على جنوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
(١) محتضره أي حاضره وعاجله، ومنتظره أي مستقبله وآجله.
(٢) العفاة هم طالبو العطاء ومستحقوه
23
لمّا علم أنهم لا يداومون على ملازمة القرب أفرد بعض الشهور بالتفضيل، ليخصّوها باستكثار الطاعة فيها. فأمّا الخواص من عباده فجميع الشهور لهم شعبان ورمضان، وكذلك جميع الأيام لهم جمعة، وجميع البقاع «١» لهم مسجد.... وفى معناه أنشد بعضهم.
يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع وكلّ أرض لى ثغر طرسوس قوله جل ذكره: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
قال للعوام: لا تظلموا فى بعض الشهور أنفسكم، يعنى بارتكاب الزّلّة. وأمّا الخواص فمأمورون ألا يظلموا فى جميع الشهور قلوبهم باحتقاب الغفلة «٢».
ويقال: الظلم على النّفس أن يجعل العبد زمامه بيد شهواته، فتورده مواطن الهلاك.
ويقال: الظلم على النّفس بخدمة المخلوقين بدل طاعة الحقّ.
ويقال: من ظلم على قلبه بالمضاجعات امتحن بعدم الصفوة فى مرور الأوقات.
«وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً» : ولا سلاح أمضى على العدوّ من تبرّيك عن حولك وقوّتك.
(١) وردت (البقاء) وهى خطأ فى النسخ [.....]
(٢) وردت (العقد) والصواب أن تكون (الغفلة)، فالغفلة للقلب والزلة للنفس
24
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
«١» الدّين ملاحظة الأمر ومجانبة الوزر وترك التقدم «٢» بين يدى الله سبحانه- في جميع أحكام الشرع، فالآجال فى الطاعات مضروبة، والتوفيق فى عرفانه متّبع، والصلاح فى الأمور بالإقامة على نعت العبودية فالشهر ما سمّاه الله شهرا، والعام والحول ما أعلم الخلق أنه قدر ما بينّه شرعا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨)
عاتبهم على ترك البدار عند توجيه الأمر، وانتهاز فرصة الرّخصة.
وأمرهم بالجد فى العزم، والقصد فى الفعل فالجنوح إلى التكاسل، والاسترواح إلى التثاقل أمارات ضعف الإيمان إذ الايمان غريم ملازم لا يرضى من العبد بغير ممارسة الأشقّ، وملابسة الأحقّ.
قوله «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا» : وهل يجمل بالعابد أن يختار دنياه على عقباه؟
وهل يحسن بالعارف أن يؤثر هواه على رضا مولاه؟ وأنشدوا
(١) النسيء- تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، فقد كانوا إذا هل شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر
(٢) أي عدم استعجال شىء موقوت بامر الله وشرعه.. هذا ما نفهمه من السياق
أيجمل بالأحباب ما قد فعلوا... مضوا وانصرفوا يا ليتهم قفلوا
إنّ غيبة يوم للزاهد عن الباب تعدل شهورا، وغيبة لحظة للعارف عن البساط تعدل دهورا، وأنشدوا:
الإلف لا يصبر عن إلفه... أكثر من طرفة عين
وقد صبرنا عنكم ساعة... ما هكذا فعل محبين
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٩]
إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
العذاب الأليم إذا أعرض العبد عن الطاعة ألا يبعث وراءه من جنود التوفيق ما يردّه إلى الباب.
العذاب الأليم أن يسلبه حلاوة النّجوى إذا آب.
العذاب الأليم الصدود يوم الورود، وقيل:
واعدونى بالوصال- والوصال عذب- ورمونى بالصّدود والصدّ صعب العذاب الأليم الوعيد بالفراق، فأمّا نفس الفراق فهو تمام التّلف، وأنشدوا:
وزعمت أنّ البين منك غدا... هدّد بذلك من يعيش غدا
قوله: «وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ» يصرف ما كان من إقباله عليه إلى غيره من أشكاله، وليس كلّ من حفر بئرا يشرب من معينها، وأنشدوا:
تسقى رياحين الحفاظ مدامعى... وسواى فى روض التواصل يرتع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
26
من عزيز تلك النصرة أنه لم يستأنس بثانيه الذي كان معه بل رد الصّدّيق إلى الله، ونهاه عن مساكنته إياه، فقال: ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟
قال تعالى: «إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا».
ويقال من تلك النصرة إبقاؤه إياه فى كشوفاته فى تلك الحالة، ولولا نصرته لتلاشى تحت سطوات كشفه.
ويقال كان- عليه السلام- أمان أهل الأرض على الحقيقة، قال تعالى:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «١»، وجعله- فى الظاهر- فى أمان العنكبوت حين نسج خيطه على باب الغار فخلّصه من كيدهم.
ويقال لو دخل هذا الغار لا نشقّ نسيج العنكبوت.. فيا عجبا كيف ستر قصة حبيبه- صلوات الله عليه وعلى آله وسلم؟! ويقال صحيح ما قالوا: للبقاع دول، فما خطر ببال أحد أنّ تلك الغار تصير مأوى ذلك السيّد- صلى الله عليه وسلم! ولكنه يختص بقسمته ما يشاء كما يختص برحمته من يشاء.
ويقال ليست الغيران «٢» كلها مأوى الحيّات، فمنها ما هو مأوى الأحباب. ويقال علقت قلوب قوم بالعرش فطلبوا الحق منه، وهو تعالى يقول:
«إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» فهو سبحانه- وإن تقدّس عن كل مكان- ولكن فى هذا الخطاب حياة لأسرار أرباب المواجيد، وأنشدوا:
يا طالب الله فى العرش الرفيع به لا تطلب العرش إن المجد فى الغار
وفى الآية دليل على تحقيق صحبة الصدّيق- رضى الله عنه- حيث سمّاه الله سبحانه صاحبه، وعدّه ثانيه، فى الايمان ثانيه، وفى الغار ثانيه ثم فى القبر ضجيعه، وفى الجنة يكون رفيقه.
(١) آيه ٣٣ سورة الأنفال.
(٢) الغار يجمع على أغوار وغيران
27
قوله جل ذكره: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الكناية فى الهاء من «عَلَيْهِ» تعود إلى الرسول عليه السلام، ويحتمل أن تكون عائدة إلى الصديق رضى الله عنه، فإن حملت على الصديق تكون خصوصية له من بين المؤمنين على الانفراد، فقد قال عز وجلّ لجميع المؤمنين: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» «١».
وقال للصدّيق- على التخصيص- فأنزل الله سكينته عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يتجلّى للناس عامة ويتجلّى لأبى بكر خاصة» «٢».
وإنما كان حزن الصديق ذلك اليوم لأجل الرسول- صلى الله عليه وسلم- إشفاقا عليه.. لا لأجل نفسه. ثم إنه- عليه السلام- نفى حزنه وسلّاه بأن قال: «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا»، وحزن لا يذهب إلا لمعيّة الحقّ لا يكون إلّا «لحقّ الحق» «٣».
قوله جل ذكره: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يريد به النبي صلى الله عليه وسلم. وتلك الجنود وفود زوائد اليقين على أسراره بتجلّى الكشوفات.
«وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» بإظهار حجج دينه، وتمهيد سبل حقّه ويقينه فرايات الحقّ إلى الأبد عالية، وتمويهات الباطل واهية، وحزب الحقّ منصورون، ووفد الباطل مقهورون.
(١) آية ٤ سورة الفتح
(٢) يتأيد كلام القشيري عن خصوصية أبى بكر بنزول السكينة على قلبه بما يروى عن يوم بدر، فحينما قال النبي عليه السلام «اللهم ان تهلك هذه العصابة لم تعبد فى الأرض من بعد ذلك» قال له أبو بكر:
دع عنك مناشدتك ربك فإنه والله منجز لك ما وعدك وهو قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [مسلم والترمذي عن ابن عباس عن عمر]
(٣) لأنه ليس حزنا مرتبطا بحظ من حظوظ النفس ولكنه لحق الحق
28
ويقال لما خلا الصديق بالرسول عليه السلام فى الغار، وأشرقت على سرّه أنوار صحبة الرسول عليه السلام، ووقع عليه شعاع أنواره، واشتاق إلى الله تعالى لفقد قراره- أزال عنه لواعجه بما أخبره من قربه- سبحانه- فاستبدل بالقلق سكونا، وبالشوق أنسا، وأنزل عليه من السكينة ما كاشفه به من شهود الهيبة.
ويقال كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- ثانى اثنين فى الظاهر بشبهه «١» ولكن كان مستهلك الشاهد فى الواحد بسرّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره فى جميع أحوالهم.
«خِفافاً» يعنى فى حال حضور قلوبكم، فلا يمسّكم نصب المجاهدات.
«وَثِقالًا» إذا رددتم إليكم فى مقاساة تعب المكابدات. فإنّ البيعة أخذت عليكم فى (... ) «٢» و (... ) «٣».
ويقال «خِفافاً» إذا تحررتم من رقّ المطالبات والاختيار، «وَثِقالًا» إذا كان على قلوبكم ثقل الحاجات، وأنتم تؤمّلون قضاء الحقّ ماربكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٢]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
(١) (بشبهه) هنا معناها بإنسان مثله، أي كان أنسه- فى الظاهر بصاحبه، وعلى الحقيقة كان أنسه بالله.
(٢)، (٣) لفظتان مشتبهتان، وربما كانتا بمعنى (حضوركم وغيبتكم) أو (قربكم وبعدكم) أو نحو ذلك.. فهكذا نفهم من السياق.
يريد به المتخلفين عنه فى غزوة «تبوك»، بيّن سبحانه أنه لو كانت المسافة قريبة، والأمر هيّنا لما تخلّفوا عنك لأنّ من كان غير متحقّق فى قصده كان غير بالغ فى جهده، يعيش على حرف، ويتصرّف بحرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه. وقال تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» «١».
فإذا رأيت المريد يتّبع الرّخص ويجنح إلى الكسل، ويتعلّل بالتأويلات.. فاعلم أنه منصرف عن الطريق، متخلّف عن السلوك، وأنشدوا:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة... ملّ الوصال وقال: كان وكانا
ومن جدّ فى الطلب لم يعرّج فى أوطان الفشل، ويواصل السير والسّرى، ولا يحتشم من مقاساة الكدّ والعناء، وأنشدوا:
ثم قطعت الليل فى مهمة لا أسدا أخشى ولا ذيبا
يغلبنى شوقى فأطوى السّرى ولم يزل ذو الشوق مغلوبا
قوله: «وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ» : يمين المتعلّل والمتأوّل يمين فاجرة تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٣]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)
لم يكن منه ﷺ خرق حدّ أو تعاطى محظور، وإنما (تذر) «٢» منه ترك ما هو الأولى. قدّم الله ذكر العفو على الخطاب الذي هو فى صورة العتاب بقوله: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ».
أو من جواز الزّلة على الأنبياء- عليهم السلام- إذ لم يكن ذلك فى تبليغ أمر
(١) آية ٢١ سورة محمد.
(٢) هكذا فى (ص) وربما كانت (بدر) فى الأصل أي صدر عنه أما (نذر) فتفيد (قل) منه ترك ما هو الأولى، وكلاهما لا يرفضه السياق.
أو تمهيد شرع (بقول قائله أنشدوا بالعفو قبل أن وقف للعذر) «١» وكذا سنّة الأحباب مع الأحباب، قال قائلهم:
ما حطّك الواشون عن رتبة عندى ولا ضرّك مغتاب
كأنهم أثنوا- ولم يعلموا- عليك عندى بالذي عابوا
ويقال حسنات الأعداء- وإن كانت حسنات- فكالمردودة، وسيئات الأحباب- وإن كانت سيئات- فكالمغفورة:
من ذا يؤاخذ من يحبّ بذنبه وله شفيع فى الفؤاد مشفّع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٤]
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤)
المخلص فى عقده غير مؤثر شيئا على أمره، ولا يدّخر مستطاعا فى استفراغ وسعه، وبذل جهده، ومقاساة كدّه، واستعمال جدّه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٥]
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
من رام عن عهدة الإلزام خروجا انتهز للتأخير والتخلّف فرصة لعدم إيمانه وتصديقه، ولاستمكان الريبة من قلبه وسرّه. أولئك الذين يتقلبون فى ريبهم، ويترددون فى شكّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٦]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)
أي لو صدقوا فى الطاعة لاستجابوا ببذل الوسع والطاقة، ولكن سقمت إرادتهم، فحصلت دون الخروج بلادتهم، وكذلك قيل:
لو صحّ منك الهوى أرشدت للحيل
(١) ما بين القوسين منبت كما فى (ص) وفيه اضطراب ناشىء عن النسخ، وربما كان شاهدا شعريا معناه: (جاد بالعفو قبل الوقوف على العذر).
قوله جل ذكره: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ ألزمهم الخروج من حيث التكليف، ولكن ثبّتهم فى بيوتهم بالخذلان فبالإلزام دعاهم، وبأمر التكوين أقصاهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٧]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
أخبر عن سابق علمه بهم، وذكر ما علم أنه لا يكون أن لو كان كيف يكون فقال:
ولو ساعدوكم فى الخروج لكان ما يلحقكم من سوء سيرتهم فى الفتنة بينكم، والنميمة فيكم، والسعى فيما يسوؤكم أكثر مما نالكم بتخلّفهم من نقصان عددكم. ومن ضرره أكثر من نفعه فعدمه خير من وجوده، ومن لا يحصل منه شىء غير شروره فتخلّفه أنفع من حضوره.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٨]
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
إنّهم وإن أظهروا وفاقكم فقد استبطنوا نفاقكم أعلنوا أنهم يؤازرونكم ولكن راموا بكيدهم تشويش أموركم، حتى كشف الله عوراتهم، وفضحهم، حتى تحذّرتم منهم بما تحققتم من أسرارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)
أبرزوا قبيح فعالهم فى معرض التخرج، وراموا أن يلبّسوا على الرسول- صلى الله وسلم وعلى آله- وعلى المسلمين خبث «١» سيرتهم وسريرتهم، فبيّن الله أنّ الذين (... ) »
بزعمهم سقطوا فيه بفعلهم، وكذلك المتجلّة بما يهواه متطوح فى وادي بلواه، وسيلقى فى الآخرة من الهوان ما يغني عن الحاجة إلى البرهان.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٠]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
هكذا صفة الحسود، يتصاعد أنين قلبه عند شهود الحسنى، ولا يسرّ قلبه غير حلول البلوى، ولا دواء، لجروح الحسود فإنه لا يرضى بغير زوال النعمة ولذا قالوا:
كلّ العداوة قد ترجى إماتتها... إلا عداوة من عاداك من حسد
وإن الله تعالى عجّل عقوبة الحاسد، وذلك: حزن قلبه بسلامة محسوده فالنعمة للمحسود نقد والوحشة للحاسد نقد «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥١]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)
المؤمن لا تلحقه شماتة عدوّه لأنه ليس يرى إلا مراد وليّه، فهو يتحقق أنّ ما يناله مراد مولاه فيسقط عن قلبه ما يهواه، ويستقبله بروح رضاه فيعذب عنده ما كان يصعب من بلواه، وفى معناه أنشدوا:
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا... فما لجرح- إذا أرضاكم- ألم
(١) وردت (حيث) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(٢) مشتبهة.
(٣) أي جزاء معجل فى هذه الدنيا فعند القشيري اصطلاحان: نقد (هنا في الدنيا)، ووعد (في الآخرة) والسياق يؤدى إلى أن الجزاءين نقد.
ويقال شهود جريان التقدير يخفف على العبد تعب كلّ عسير.
قوله: «هُوَ مَوْلانا» : تعريف للعبد أن له- سبحانه- أن يفعل ما يريد، لأنه تصرف مالك الأعيان فى ملكه، فهو يبدى ويجرى ما يريد بحقّ حكمه.
ثم قال: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» : وأول التوكل الثقة بوعده، ثم الرضا باختياره، ثم نسيان أمورك بما يغلب على قلبك من أذكاره.
ويقال التوكل سكون السّرّ عند حلول الأمر ونهاية التفويض، وفيها يتساوى الحلوّ والمرّ، والنعمة والمحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٢]
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
بيّن الله فى هذه الآية الفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فقال قل للذين ينتظرون:
أيها الكفار (إن كان «١» ) من شأن المؤمنين وقوع الدائرة عليهم فى القتال، أو أنّ القتل ينالهم فأىّ واحد من الأمرين ينالهم فهو لهم من الله نعمة لأنّا إن ظفرنا بكم فنصر وغنيمة، وعزّ للدّين ورفعة، وإن قتلنا فشهادة ورحمة، ورضوان من الله وزلفى. وإن كان الذي يصيبنا فى الدنيا هزيمة ونكبة، فذلك موجب للأجر والمثوبة، فإذا لن يستقبلنا إلا ما هو حسني ونعمة.
وأمّا أنتم، فإن ظفرنا بكم فتعجيل لذلّكم ومحنة، وإن قتلتم فعقوبة من الله وسخطة، وإن كانت اليد لكم فى الحال فخذلان من الله، وسبب عذاب وزيادة نقمة.
ويقال «هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» إمّا قيام بحقّ الله فى الحال فنكون بوصف الرضاء وهو- فى التحقيق- الجنّة الكبرى، وإمّا وصول إلى الله تعالى فى المآل بوصف الشهادة، ووجدان الزلفى فى العقبى وهى الكرامة العظمى.
(١) سقطت (إن كان) والمعنى يتطلبهما
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٣]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
المردود لا يقبل منه توصّل «١»، ولا يغيّر حكم شقاوته بتكثير التكلّف والتعمل.
ويقال تقرّب العدوّ يوجب زيادة المقت له، وتحبّب الحبيب يقتضى زيادة العطف عليه، قال تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «٢» قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
فقدوا الإخلاص فى أموالهم فعدموا الاختصاص فى أحوالهم، وحرموا الخلاص فى عاجلهم وفى مآلهم.
قوله: «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» : من أطاع من حيث العادة- من غير أن تحمله عليها لوعة الإرادة- لم يجد لطاعته راحة وزيادة.
ويقال من لاحظ الخلق فى الجهر من أعماله، وركن إلى الكسل فى السّرّ من أحواله فقد وسم بالخذلان، وختم بالحرمان، وهذه هى أمارة الفرقة والقطيعة، قال تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥).
(١) لا نستبعد أنها تكون (توسل) بدليل ما بعدها، والمراد يحتمل كليهما.
(٢) آية ٧٠ سورة الفرقان.
(٣) آية ٥٤ سورة آل عمران
بيّن أن ما حسبوه نعمة واعتدّوه من الله منّة فهو- فى التحقيق- محنّة، وسبب شقاء وفرقة، وإنما دسّ التقدير لهم سموم الصّاب، فيما استلذوه من الشراب «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٦]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦)
التّقرّب بالأيمان الفاجرة لا يوجب للقلوب إلا بعدا عن القبول.
ويقال إنّ إظهار التلبيس لا (... ) «٢» الأسرار بردّ السكون، ولا يشفى البصائر بردّ الثقة واليقين.. فما لا يكون فلا يكون بحيلة أبدا، وما هو كائن سيكون.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٧]
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
إن المماذق «٣» فى الخلّة ينسلّ عن سلكها بأضعف خلّة، وإن وجد مهربا آوى إليه، ويأمل أن ينال فرصة ما يتعلّل بها عند ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
أولئك أصحاب الأطماع يتملقون فى الظاهر ما دامت الأرفاق واصلة إليهم، فإن انقطعت انقلبوا كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة.
ويقال من كان رضاؤه يوجدان سبب، وسخطه فى عدم ما يوصّله إلى نصيبه فهو ليس من أهل الولاء، إنما هو قائم بحظّه، غير صالح للصحبة، وأمّا المتحقّق فكما قيل:
فسرت إليك فى طلب المعالي... وسار سواى فى طلب المعاش
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٩]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
(١) آية ٥٦ سورة المؤمنون
(٢) مشتبهة.
(٣) مذق فلان فى الود أي لم يخلص، والمذاق الكذوب الملول. والمقصود أن من لم يخلص فى مودته يتنصل بأضعف صفة ولأقل شىء.
لو وقفوا مع الله بسرّ الرضا لأتتهم فنون العطاء وتحقيقات المنى، ولحفظوا مع الله- عند الوجدان «١» - ما لهم من الأدب، من غير معاناة تعب، ولا مقاساة نصب.. ولكنّهم عرّجوا فى أوطان الطمع فوقعوا فى الذّلّ والحرب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
«٢» تكلّم الفقهاء فى صفة الفقير، والفرق بينه وبين المسكين لما احتاجوا إليه فى قسمة الزكاة المفروضة.. فأبو حنيفة رحمة الله عليه- يقول: المسكين الذي لا شىء له. والفقير الذي له بلغة من العيش.
ويقول الشافعي رحمة الله عليه: الفقير الذي لا شىء له، والمسكين الذي له بلغة من العيش- أي بالعكس.
وأهل المعرفة اختلفوا فيه فمنهم من قال بالأول، ومنهم من قال بالقول الثاني، واختلافهم ليس كاختلاف الفقهاء وذلك لأن كلّ واحد منهم أشار إلى ما هو حاله ووقته ووجوده وشربه ومقامه. فمن أهل المعرفة من رأى أنّ أخذ الزكاة المفروضة أولى، قالوا إن الله تعالى جعل ذلك ملكا للفقير، فهو أحلّ له مما يتطّوع به عليه.
ومنهم من قال: الزكاة المفروضة مستحقة لأقوام، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى من أن يزاحموا أرباب السهمان- مع احتياجهم أخذ الزكاة- وقالوا: نحن آثرنا الفقر اختيارا.
فلم نأخذ الزكاة المفروضة؟
(١) أي عند وجود النعمة
(٢) نلفت النظر إلى أهمية موقف القشيري عند استخراج إشارات من هذه الآية الكريمة، فقد كانت فرصة جيدة لكى يقارن بين نظرة الفقهاء ونظرة الصوفية
37
ثم على مقتضى أصولهم فى الجملة- لا فى أخذ الزكاة- للفقر مراتب:
أوّلها الحاجة ثم الفقر ثم المسكنة فذو الحاجة من يرضى بدنياه وتسدّ الدنيا فقره، والفقير من يكتفى بعقباه وتجبر الجنة فقره، والمسكين من لا يرضى بغير مولاه لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفى قال رسول الله ﷺ «اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا، واحشرنى فى زمرة المساكين» «١» وقال ﷺ «أعوذ بك من الفقر» لأن عليه بقية «٢» فهو ببقيته محجوب عن ربّه.
ويحسن أن يقال إن الفقر الذي استعاذ منه ألا يكون له منه شىء، والمسكنة المطلوبة أن تكون له بلغة ليتفرّغ بوجود تلك البلغة إلى العبادة لأنه إذا لم تكن له بلغة شغله فقره عن أداء حقّه، ولذلك استعاذ منه.
وقوم سمت همهم عن هذا الاعتبار- وهذا أولى بأصولهم- فالفقير الصادق عندهم من لاسماء تظله ولا أرض تقلّه ولا معلوم يشغله، فهو عبد بالله لله، يردّه إلى التمييز فى أوان العبودية، وفى غير هذا الوقت فهو مصطلم عن شواهده، واقف بربّه، منشق عن جملته.
ويقال الفقير من كسرت فقاره- هذا فى العربية.
والفقير- عندهم «٣» - من سقط اختياره، وتعطلت عنه دياره، واندرست- لاستيلاء من اصطلمه- آثاره، فكأنه لم تبق منه إلا أخباره، وأنشدوا:
أمّا الرسوم فخبّرت أنهم رحلوا قريبا ويقال المسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده، لا يبرح عن سدّته، فهو معتكف بقلبه، لا يغفل لحظة عن ربّه.
(١) الترمذي، وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري، والحاكم وقال صحيح الإسناد، ورواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت.
(٢) التفت السهروردي إلى ذلك حين ميز بين الفقير والصوفي فقال إن الفقير يتطلع إلى الأعواض، أما الصوفي فيترك الأشياء لا للأعواض الموعودة بل للأحوال الموجودة فإنه ابن وقته، والفقير له إرادة فى اختيار فقره، أما الصوفي فلا إرادة بنفسه ولكن فيما يوقفه الحق (عوارف المعارف ص ٤٢).
(٣) أي عند أرباب الأحوال. [.....]
38
وأمّا «العاملون عليها» فعلى لسان العلم: من يتولى جمع الزكاة على شرائطها المعلومة.
وعلى لسان الإشارة: أولى الناس بالتصاون عن أخذ الزكاة من صدق فى أعماله لله، فإنهم لا يرجون على أعمالهم عوضا، ولا يتطلبون فى مقابلة أحوالهم عرضا، وأنشدوا:
وما أنا بالباغى على الحب رشوة قبيح هوىّ يرجى عليه ثواب «١»
وأمّا المؤلّفة قلوبهم- على لسان العلم- فمن يستمال قلبه بنوع إرفاق معه، ليتوفّر فى الدين نشاطه فلهم من الزكاة سهم استعطافا لهم، وبيان ذلك مشهور فى مسائل الفقه.
وحاشا أن يكون فى القوم «٢» من يكون حضوره بسبب طمع أو لنيل ثواب أو لرؤية مقام أو لاطلاع حال.. فذلك فى صفة العوام، فأما الخواص فكما قالوا.
من لم يكن بك فانيا عن حظه وعن الهوى والإنس والأحباب
أو تيمته صبابة جمعت له ما كان مفترقا من الأسباب.
فلأنّه بين المراتب واقف لمنال حظّ أو لحسن مآب «٣»
قوله جل ذكره: وَفِي الرِّقابِ وهم على لسان العلم: المكاتبون، وشرحه فى مسائل الفقه معلوم.
وهؤلاء «٤» لا يتحررون ولهم تعريج على سبب، أو لهم فى الدنيا والعقبى أرب، فهم لا يستفزّهم طلب، فمن كان به بقية من هذه الجملة فهو عبد لم يتحرر، قال رسول الله ﷺ وعلى آله: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنشد بعضهم:
أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاى طلعة حرّ
قوله جل ذكره: وَالْغارِمِينَ وهم على لسان العلم: من عليهم دين فى غير معصية.
(١) البيت للمتنبى من بائيته التي أولها: منى كن لى أن البياض خضاب.
(٢) القوم هنا مقصود بها أرباب الأحوال.
(٣) الأبيات لأبى على الروذبارى (اللمع ص ٤٣٥)
(٤) وهؤلاء هنا مقصود بها أيضا ارباب الأحوال.
39
وهؤلاء القوم لا يقضى عنهم ما لزمهم امتلاك الحق «١»، ولهذا قيل المعرفة غريم لا يقضى دينه.
قوله جل ذكره: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وعلى لسان العلم: من سلك سبيل الله وجب له فى الزكاة سهم على ما جاء بيانه فى مسائل الفقه.
وفى هذه الطريقة: من سلك سبيل الله تتوجّب عليه المطالبات فيبذل أولا ماله ثم جاهه ثم نفسه ثم روحه.. وهذه أول قدم فى الطريق.
قوله جل ذكره: وَابْنِ السَّبِيلِ وهو على لسان العلم: من وقع فى الغربة، وفارق وطنه على أوصاف مخصوصة.
وعند القوم: إذا تغرّب العبد عن مألوفات أوطانه فهو فى قرى «٢» الحقّ فالجوع طعامه، والخلوة مجلسه، والمحبة شرابه، والأنس شهوده، والحقّ- تعالى- مشهوده.
قال تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» «٣» : لقوم وعد فى الجنة، ولآخرين نقد فى الوقت اليوم شراب المحابّ وغدا شراب الثواب، وفى معناه أنشدوا:
ومقعد قوم قد مشى من شرابنا وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا
وأخرس لم ينطق ثلاثين حجّة أدرنا عليه الكأس يوما فأخبرا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
عين العداوة بالمساوئ موكّلة، وعين الرضا عن المعايب كليلة.
بسطوا اللائمة فى رسول الله ﷺ فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله،
(١) أي أن دينهم ليس يقضى أبدا إذ أمرهم بيد مالكهم.
(٢) القرى- الضيافة والإكرام.
(٣) آية ٢١ سورة الإنسان
فقالوا: إنه بحسن خلقه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام: «المؤمن غرّ كريم والمنافق خبّ لئيم» «١» قوله جل ذكره: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وقيل: من العاقل؟ قالوا: الفطن المتغافل. وفى معناه أنشدوا:
وإذا الكريم أتيته بخديعة ولقيته فيما تروم يسارع
فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا إنّ الكريم- بفضله- يتخادع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٢]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
أخبر أنّ من تزيّن للخلق، وتقرّب إليهم وأدام رضاهم، واتّبع فى ذلك هواهم، فإن الله سبحانه يسقط به عن الخلق جاههم، ويشينهم فيما توهموا أنه يزينهم، والذي لا يضيع ما كان لله، فأمّا ما كان لغير الله فوبال لمن أصابه، ومحال ما طلبه.
ويقال إنّ الخلق لا يصدقونك وإن حلفت لهم، والحقّ يقبلك وإن تخلّفت عنه فالاشتغال بالخلق محنة أنت غير مأجور عليها، والإقبال على الحقّ نعمة أنت مشكور عليها.
والمغبون من ترك ما يشكر عليه ويؤثر ما لا يؤجر عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٣]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
(١) فى رواية الترمذي والحاكم عن أبى هريرة «المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم» (والخبّ- الخدع) وفى الحديث: «لا يدخل الجنة خب ولا خائن»
من كفر بالله وأشرك فى توحيده بإثبات موهوم استحق ما هو حقّ لله: تعجّل عقوبته فى الحال بالفرقة، وفى المال بالخلود فى الحرقة.
فليس كلّ من مني «١» بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا:
غدا يتفرّق أهل الهوى... ويكثر باك ومسترجع
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٤]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)
ظنّوا أنّ الحقّ- سبحانه- لا يفضحهم، فدلّوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى «٢» الله- سبحانه- عنان إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم ففضحهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بخمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامن الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
من استهان بالدّين، ولم يحتشم من ترك حرمة الإسلام جعله الله فى الحال نكالا، وسامه فى الآخرة صغرا وإذلالا، والحقّ- سبحانه- لا يرضى دون أن يذيق العتاة بأسه، ويسقى كلا- على ما يستوجبه- كأسه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٦]
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ
(١) وردت (مسنى) وهى خطا فى النسخ وربما كانت (مسته)
(٢) وردت (فأرضى) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) آية ٥٤ سورة آل عمران.
«١»
جرّد العفو والعذاب من علّة الجرم، وسبب الفعل من حجّة العبد حيث أحال الأمر على المشيئة.. إذ لو كان الموجب لعفوه أو تعذيبه صفة العبد لسوّى بينهم عند تساويهم فى الوصف، فلمّا اشتركوا فى الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذّب بعضهم دلّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصّ من يشاء بما يشاء «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٧]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
المؤمن بالمؤمن يتقوّى، والمنافق بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على ألّافها تقع.
فالمنافق لصاحبه أسّ «٣» به قوامه، وأصل به قيامه بعينه على فساده، ويعمّى عليه طريق رشاده.
والمؤمن ينصر المؤمن ويبّصره عيوبه، ويبّغض لديه ويقبّح- فى عينه- ذنوبه، وهو على السداد ينجده، وعن الفساد يبعده.
قوله جل ذكره: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ.
عن طلب الحوائج من الله تعالى قوله جل ذكره: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ.
جازاهم على نسيانهم، فسمّى جزاء النسيان نسيانا.. تركوا طاعته، وآثروا مخالفته، فتركهم وما اختاروه لأنفسهم، قال تعالى: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ».
(١) أخطأ الناسخ إذ أنهى الآية: (بأنهم كانوا مجرمون).
(٢) هذه لفتة هامة تشير إلى المذهب الكلامى عند القشيري فيما يتصل بوجوب الإثابة أو العقوبة على الله وعدم وجوبهما.
(٣) الأس بفتح الألف وضعها وكسرها: أصل البناء. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٨]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨)
وعدهم النار فى الآخرة، ولهم العذاب المقيم فى الحاضرة، فمؤجّل عذابهم الحرقة، ومعجّله الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٩]
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
يقال: سلكتم طريق من قبلكم من الكفار وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق فى كثرة المدّة وقوة العدّة، والاستمتاع فى الدنيا، والاغترار بالانخراط فى سلك الهوى.. ولكن لم تدم فى الراحة مدّتهم، ولم تغن عنهم يوم الشدّة عدّتهم، وعما قريب يلحق بكم ما لحق بالذين هم قبلكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
ألم ينته إليهم خبر القرون الماضية، ونبأ الأمم الخالية كيف دمّرنا عليهم جمعهم، وكيف بدّدنا شملهم؟ قضينا فيهم بالعدل، وحكمنا باستئصال الكلّ، فلم يبق منهم نافخ نار، ولم يحصلوا إلّا على عار وشنار.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧١]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١)
يعين «١» بعضهم بعضا على الطاعات، ويتواصون بينهم بترك المحظورات فتحابّهم فى الله، وقيامهم بحقّ الله، وصحبتهم لله، وعداوتهم لأجل الله تركوا حظوظهم لحقّ الله، وآثروا على هواهم رضاء الله. أولئك الذين عصمهم الله فى الحال، وسيرحمهم فى المال.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٢]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
وعدهم جميعا الجنة، ومساكن طيبة، ولا يطيب المسكن إلا برؤية المحبوب، وكلّ محب يطيب مسكنه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون فى الهمم فمن مربوط بحظّ مردود إلى الخلق، ومن مجذوب بحقّ موصول بالحق، وفى الجملة الأمر كما يقال:
(١) وردت (يعنى) وهى خطأ فى النسخ.
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم إذا غبتم عنها ونحن حضور!
ويقال قوم يطيب مسكنهم بوجود عطائه، وقوم يطيب مسكنهم بشهود لقائه، وأنشدوا:
وإنّى لأهوى الدار لا يستقرّ لى بها الودّ إلا أنّها من دياركا
ثم قال: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» : وأمارة أهل الرضوان وجدان طعمه فهم فى روح الأنس، وروح الأنس لا يتقاصر عن راحة دار القدس بل هو أتمّ وأعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
دعا نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- كافة الخلق إلى حسن الخلق.
قال لموسى عليه السلام: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» «١».
وقال لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم-: «وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» «٢» ويقال إنما قال هذا بعد إظهار الحجج، وبعد ما أزاح عذرهم بأيام المهلة ففى الأول أمره بالرّفق حيث قال: «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ»
«٣»، فلما أصروا واستكبروا أمره بالغلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إن حصل من العدوّ جحد بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إن لم ينجع الكلام ولم ينفع الملام فالقتال والحرب وبذل الوسع فى الجهاد.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
(١) آية ٤٤ سورة طه.
(٢) آية ٩ سورة التحريم.
(٣) آية ٤٦ سورة سبأ.
تستّروا بأيمانهم فهتك الله أستارهم وكشف أسرارهم.
قوله: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» : وهى طعنهم فى نبوّة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. وكلّ من وصف المعبود بصفات الخلق أو أضاف إلى الخلق ما هو من خصائص نعت الحقّ فقد قال كلمة الكفر.
قوله جل ذكره: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أظهروا من شعار الكفر ما دلّ على جحدهم بقلوبهم بعد ما كانوا يظهرون الموافقة والاستسلام وهمّوا بما لم ينالوا من قتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوّلت أنفسهم أنه يخرج الأعزّ منها الأذلّ، وغير ذلك.
يقال تمنوا زوال دولة الإسلام فأبى الله إلا إعلاء أمرها.
ثم قال: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» : أي ما عابوه إلا بما هو أجلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.
قوله جل ذكره: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وأقوى أركان التوبة حلّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقّ الأمر على وجه الاستقصاء.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
منهم من أكّد العقد مع الله، ثم نقضه، فلحقه شؤم ذلك فبقى خالدا فى نفاقه.
ويقال تطلّب إحسان ربّه، وتقرّب إليه بإبرام عهده فلمّا حقّق الله مسئوله واستجاب مأموله، فسخ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البخل، فضنّ بإخراج حقه، فلحقه شؤم نفاقه، بأن بقي إلى الأبد فى أسره.
وحدّ البخل- على لسان العلم- منع الواجب. وبخل كلّ أحد على ما يليق بحاله، وكلّ من آثر شيئا من دون رضاء ربّه فقد اتصف ببخله، فمن يبخل بماله تزل عنه البركة حتى يئول إلى وارث أو يزول بحارث. ومن يبخل بنفسه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحة حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحه عنه يعاقب بالخذلان حتى تكون حياته سببا لشقائه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٧]
فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
أعقبهم ببخلهم نفاقا فى قلوبهم، ويصحّ أعقبهم الله نفاقا فى قلوبهم، وفى الجملة: من نقض عهده فى نفسه رفض الودّ من أصله، وكلّ من أظهر فى الجملة خيرا واستبطن شرا فقد نافق بقسطه. والمنافق فى الصف الأخير فى دنياه، وفى الدّرك الأسفل من النار فى عقباه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٨]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
خوّفهم بعلمه كما خوّفهم بفعله فى أكثر من موضع من كتابه.
و «سِرَّهُمْ» مالا يطلع عليه غير الله.
و «نَجْواهُمْ» ما يتسارّون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكون ما لنفوسهم عليه إشراف من خواطرهم»
(١) يقول القشيري فى رسالته فى معنى «السر» هو محل المشاهدة كما ان الأرواح محل للمحبة والقلوب محل للمعارف. وقالوا السر ما لك عليه إشراف، وسر السر ما لا اطلاع عليه لغير الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٩]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)
عابوا الذين قصرت أيديهم عن الإكثار فى الصدقة وجادوا بما وصلت إليه أيديهم، فشكر الله سعى من أخلص فى صدقته بعد ما علم صدقه فيها. وقليل أهل الإخلاص أفضل من كثير أهل النفاق.
ولمّا أوجدوا «١» المسلمين بسخريتهم وصف الله- سبحانه وتعالى- نفسه بما يستحيل فى وصفه- على التحقيق- وهو السخرية بأحد.. تطبيبا لقلوب أوليائه، فقد تقدّس عن ذلك لعزّة ربوبيته.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٠]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
ختم القضايا بأنّه لا يغفر لأهل الشرك والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط.
ويقال من غلبته شقوتنا لم ينفعه (تضرعه) «٢» ودعوته.
ويقال صريع القدرة لا ينعشه الجهد والحيلة.
(١) (أوجدوا) أي سببوا لهم حفيظة وألما.
(٢) وردت (تضر) بعدها عين مغلقة وهاء ساقطة وقد أكملناها (تضرعه) لملاءمتها للسياق، ولانسجامها مع (دعوته) بمعنى دعائه واستغفاره لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨١]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١)
استحوذ عليهم سرورهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورهم فى تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج فى صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحة بما عاقبهم، وسيصلون سعيرا فى الآخرة بما قدّموه من نفاقهم، وسوف يتحسرّون ولات حين تحسّر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٢]
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
بدّل الله مسرّتهم بحسرة، وفرحتهم بترحة، وراحتهم بعبرة، حتى يكثر بكاؤهم فى العقبى كما كثر ضحكهم فى الدنيا، وذلك جزاء من كفر بربه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٣]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
يقول: بعد ما ظهرت خيانتهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تنخذع بتملقهم، ولا تثق بقولهم، ولا تمكّنهم من صحبتك فيما يظهرونه من وفاقك «١». فإذا وهن سلك العهد فلا يحتمل بعده الشّدّ، وإذا اتسع الخرق لا ينفع بعده الرّقع.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٤]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)
(١) سقطت الواو من (وفاقك).
«١»
ليس بعد التّبرّى التولي، ولا بعد الفراق الوفاق، ولا بعد الحجبة قربة. مضى لهم من الزمان ما كان لأملهم فيه فسحة، أو لرجائهم مساغ، أو لظنّهم تحقيق، ولكن سبق لهم القضاء بالشقاوة، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٥]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
يقول لا تحسبنّ تمكين أهل النّفاق من تنفيذ مرادهم، وتكثير أموالهم إسداء معروف منّا إليهم، أو إسباغ إنعام من لدّنا عليهم، إنما ذلك مكر بهم، واستدراج لهم، وإمهال لا إهمال. وسيلقون غبّه «٢» عن قريب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٦]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦)
إذا توجّه عليهم الأمر بالجهاد، واشتدّ عليهم حكم الإلزام، تعلّلوا إلى السّعة «٣»، وركنوا إلى اختيار الدّعة واحتالوا فى موجبات التّخلّف، أولئك الذين خصّهم «٤» بخذلانه، وصرف قلوبهم عن ابتغاء رضوانه.
(١) وقع الناسخ فى خطأ حين نقل الآية إذ كتب بعد (ورسوله) :(ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون).
وقد صوبنا حسب الآية (٨٤).
(٢) وردت (غيه) بالياء وهى خطأ فى النسخ، والصواب (غبه) أي عاقبته.
(٣) أي إلى نقص وسعهم ومكنتهم.
(٤) اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فظن الكلمة (خصتهم) بالتاء وهى غير ملائمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٧]
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧)
بعدوا عن بساط العبادة فاستطابوا الدّعة، ورضوا بالتعريج فى منازل الفرقة، ولو أنهم رجعوا إلى الله تعالى بصدق النّدم لقابلهم بالفضل والكرم، ولكن القضاء غالب، والتكلف ساقط.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٨]
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
ليس من أقبل كمن أعرض وصدّ «١»، ولا من قبل أمره كمن ردّ، ولا من وحّد كمن جحد، ولا من عبد كمن عند، ولا من أتى كمن أبى... فلا جرم ربحت تجارتهم، وجلت رتبتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٨٩]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
تشير الآية إلى أن راحاتهم موعودة، وإن كانت الأتعاب «٢» فى الحال موجودة مشهودة.
ويقال صادق يقينهم بالثواب يهوّن عليهم مقاساة ما يلقونه- فى الوقت- من الأتعاب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
(١) وردت (سد) بالسين والصواب (صد) لتلائم أعرض.
(٢) اشتبهت على الناسخ فظنها (الألقاب) والصواب الأتعاب لتقابل (راحلتهم)، ثم إنها تكررت فيما بعد قليل. [.....]
وهم أصحاب الأعذار- فى قول أهل التفسير- طلبوا الإذن فى التأخر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فسقط عنهم الّلوم.
أما الذين تأخروا بغير عذر فقد توجّه عليهم اللوم، وهو لهم فى المستقبل الوعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩١]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)
قيمة الفقر تظهر عند سقوط الأمر، ولو لم يكن فى القلة خير إلا هذا لكفى لهذا بهذا فضيلة بقوا فى أوطانهم ولم يتوجّه عليهم بالجهاد أمر، ولا بمفارقة المنزل امتحان. واكتفى منهم بنصيحة القلب، واعتقاد أن لو قدروا لخرجوا.
وأصحاب الأموال امتحنوا- اليوم- يجمعها ثم بحفظها، ثم ملكتهم محنتها حتى شقّت عليهم الغيبة عنها، ثم توجّه اللوم عليهم فى ترك إنفاقها، ثم ما يعقبه- غدا- من الحساب والعذاب يربو على الجميع.
وإنّما رفع الحرج عن أولئك «١» بشرط وهو قوله: «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» فإذا لم يوجد هذا الشرط فالحرج غير مرتفع عنهم.
قوله: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» : المحسن الذي لا تكون للشرع منه مطالبة لا فى حقّ الله ولا فى حقّ الخلق «٢».
(١) فى النسخة (هؤلاء) وقد آثرنا أن نضع (أولئك) لينصرف الكلام إلى الطائفة الأولى أي الضعفاء والمرضى وأصحاب العذر.
(٢) لأنه قد استوفى جميع المطالبات ولم يتبق عليه شىء.
ويقال هو الذي يعلم أنّ الحادثات كلّها من الله تعالى.
ويقال هو الذي يقوم بحقوق ما نيط به أمره فلو كان طير فى حكمه وقصّر فى علفه- لم يكن محسنا.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٢]
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
منعهم الفقر عن الحراك فالتمسوا من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم معه ويهبىء أسبابهم، ولم يكن فى الحال للرسول عليه السلام سعة ليوافق سؤلهم، وفى حالة ضيق صدره- صلى الله عليه وسلم- حلف إنه لا يحملهم، ثم رآهم ﷺ يتأهبون للخروج، وقالوا فى ذلك، فقال عليه السلام: إنما يحملكم الله.
فلمّا ردّهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الإجابة فى أن يحملهم رجعوا عنه بوصف الخيبة كما قال تعالى: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ» كما قال قائلهم:
قال لى من أحبّ والبين قد حلّ ودمعى مرافق لشهيقى
ما ترى فى الطريق تصنع بعدي؟ قلت: أبكى عليك طول الطريق قوله: «حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» شقّ عليهم أن يكون على قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم- بسببهم شغل فتمنّوا أن لو أزيح هذا الشغل، لا ميلا إلى الدنيا ولكن لئلا تعود إلى قلبه- عليه السلام- من قبلهم كراهة، ولهذا قيل:
من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه وأخو الحوائج ممجج مملول
ثم إنّ الحقّ- سبحانه- لمّا علم ذلك منهم، وتمحضت قلوبهم للتعلّق بالله، وخلت عقائدهم عن مساكنة مخلوق تدارك الله أحوالهم فأمر الله رسوله عليه السلام أن يحملهم.. بذلك جرت سنّته، فقال: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» «١»
(١) آية ٢٨ سورة الشورى.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٣]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
يريد السبيل بالعقوبة والملامة على الذين يتأخرون عنك فى الخروج إلى الجهاد ولهم الأهبة والمكنة، وتساعدهم على الخروج الاستطاعة والقدرة فإذا استأذنوك للخروج وأظهروا «١» لم يصدقوا، فهم مستوجبون للنكير عليهم، لأنّ من صدق فى الولاء لا يحتشم من مقاساة العناء، والذي هو فى الولاء مماذق وللصدّق مفارق يتعلّل بما لا أصل له، لأنه حرم الخلوص فيما هو أهل له، وكذا قيل:
إنّ الملول إذا أراد قطيعة ملّ الوصال وقال كان وكانا
قوله جل ذكره: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قيل فى التفسير: مع النساء فى البيوت.
والإسلام يثنى على الشجاعة، وفى الخبر: إن الله تعالى يحب الشجاعة، ولو على قتل حية، وفى معناه أنشدوا.
كتب القتل والقتال «٢» علينا وعلى المحصنات جرّ الذّيول ومن استوطن مركب الكسل، واكتسى لباس الفشل، وركن إلى مخاريق الحيل حرم استحقاق القربة. ومن أراد الله- تعالى- هو انه، وأذاقه خذلانه، فليس له عن حكم الله مناص.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٤]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
(١) ربما سقطت هنا «العذر» فهى مطلوبة للسياق.
(٢) وردت (القتل والقتل) والصواب (القتل والقتال).
أراد إذا تقوّلوا بما هم فيه كاذبون، وضللوا عما كانوا فى تخلفهم به يتّصفون- فأخبروهم أنّا عرّفنا الله كذبكم فيما تقولون، واتضحت لنا فضائحكم، وتميّز- بما أظهره الله لنا- سيّئكم وصالحكم، فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه شىء من أحوالكم، وستلقون غبّ أعمالكم فى آجلكم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٥]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥)
يريد أنهم فى حلفهم بالله لكم أن يدفع السوء من قبلكم، وليس قصدهم بذلك خلوصا فى اعتذارهم، ولا ندامة على ما احتقبوه من أوزارهم، إنما ذلك لتعرضوا عنهم...
فأعرضوا عنهم فإنّ ذلك ليس بمنجيهم مما سيلقونه غدا من عقوبة الله لهم، فإنّ الله يمهل العاصي حتى يتوهّم أنه قد تجاوز عنه، وما ذلك إلا مكر عومل به، فإذا أذاقه ما يستوجبه علم أن الأمر بخلاف ما ظنه، وما ينفع ظاهر مغبوط، والحال- فى الحقيقة- يأس من الرحمة وقنوط، وفى معناه قالوا:
وقد حسدونى فى قرب دارى منهم وكم من قريب الدار وهو بعيد!
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٦]
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
من كان مسخوط الحقّ لا ينفعه أن يكون مرضىّ الخلق، وليست العبرة بقول غير الله إنّما المدار على ما سبق من السعادة فى حكم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٧]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧)
(١) وردت (غب أعمالكم فى أعمالكم) والصواب (فى آجلكم) لأن الآية تشير لذلك.
جبلت قلوبهم على القسوة فلم تقرعها هواجم الصفوة، وكانوا عن أشكالهم فى الخلقة مستأخرين بما ( ) «١» من سوء الخلق فهم من استبانة الحقائق أبعد، ومن استيجاب الهوان أقرب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٨]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)
خبثت عقائدهم فانتظروا للمسلمين ما تعلقت به مناهم من حلول المحن بهم، فأبى الله إلا أن يحيق بهم مكرهم، ولهذا قيل فى المثل: إذا حفرت لأخيك فوسّع فربما يكون ذلك مقيلك! ويقال من نظر إلى ورائه يوفّق فى كثير من تدبيره ورأيه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٩]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
تنوّعوا فمنهم من غشّ ولم يربح، ومنهم من نصح فلم ليخسر، فأمّا الذين مذقوا فهم فى مهواة هوانهم، وأما الذين صدقوا ففى روح إحسانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
(١) مشتبهة.
السابقون مختلفون فمن سابق بصدق قدمه، ومن سابق بصدق هممه.
ويقال السابق من ساعدته القسمة بالتوفيق، وأسعدته القضية بالتحقيق، فسبقت له من الله رحمته.
ويقال سبقهم بعنايته ثم سبقوا بطاعتهم له.
ويقال جمع الرّضاء صفّيهم: السابق منهم واللاحق بهم قال تعالى:
«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ».
ويقال ليس اللاحق كالسابق، فالسابق فى روح الطلب، واللاحق فى مقاساة التعب، ومعاناة النّصب، وأنشدوا:
السّباق السّباق قولا وفعلا حذّروا النّفس حسرة المسبوق
ويقال رضاهم عن الله قضية رضاء الله عنهم فلولا أنه رضى عنهم فى آزاله...
فمتى وصلوا إلى رضاهم عنه؟! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
تشاكل المخلص والمنافق فى الصورة فلم يتميّز بالمباني، وإن تنافيا فى الحقائق والمعاني وتقاصر علمهم عن العرفان فهتك الله لنبيّه أستارهم.. فعرفهم، وهم بإشرافه عليهم جاهلون، وعلى الإقامة فى أوطان نفاقهم مصروفون، فلم ينفعهم طول إمهاله لهم.
«سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ» : الأولى فى الدنيا بالفضيحة فيما ينالهم من المحن والفتن والأمراض، ولا يحصل لهم عليها فى الآخرة عوض ولا أجر ولا مسرّة، والثانية عذاب القبر.
وقيل المرة الأولى بقبض أرواحهم، والثانية عذاب القبر ثم يوم القيامة يمتحنون بالعذاب الأكبر.
ويقال المرة الأولى ظنّهم نهم على شىء، والمرة الثانية بخيبة آمالهم وظهور ما لم يحتسبوه لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
إن اتصفوا بعيوبهم فلقد اعترفوا بذنوبهم. والإقرار توكيد الحقوق فيما بين الخلق فى مشاهد الحكم، ولكن الإقرار بحق الله- سبحانه- يوجب إسقاط الجرم فى مقتضى سنّة كرم الحقّ- سبحانه، وفى معناه أنشدوا:
قيل لى: قد أساء فيك فلان... وسكوت الفتى على الضيم عار
قلت: قد جاءنى فأحسن عذرا... دية الذّنب عندنا الاعتذار
«خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً» : ففى قوله «وَآخَرَ سَيِّئاً» بعد قوله «صالِحاً» دليل على أن الزّلّة لا تحبط ثواب الطاعة إذ لو أحبطته لم يكن العمل صالحا.
وكذلك قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» : وعسى تفيد أنه لا يجب على الله شىء فقد يتوب وقد لا يتوب. ولأنّ قوله صدق.. فإذا أخبر أنّه يجيب فإنه يفعل، فيجب منه لا يجب عليه «١».
ويقال قوله: «خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً» : يحتمل معناه أنهم يتوبون فالتوبة عمل صالح.
وقوله: «وَآخَرَ سَيِّئاً» : يحتمل أنه نقضهم التوبة، فتكون الإشارة فى قوله: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» أنهم إن نقضوا توبتهم وعادوا إلى ما تركوه من زلّتهم فواجب منّا أن
(١) واضح حرص القشيري على مقاومة المعتزلة فيما يتصل بنفي اى وجوب على الله فقد جلت الصمدية عن ذلك، وإن كان يرى أنه يجب منه- سبحانه- الفضل.
نتوب عليهم، ولئن بطلت- بنقضهم- توبتهم.. لما اختلّت- بفضلنا- توبتنا عليهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٣]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)
: تطهرهم من طلب الأعواض عليها، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها.
تطهرهم بها عن شحّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم فيروا عظيم منّة الله عليهم بوجدان التجرّد منها.
«وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» : إن تعاشرهم بهمّتك معهم أثمن لهم من استقلالهم بأموالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٤]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
تمدّح- سبحانه- بقبول توبة العاصين إذ بها يظهر كرمه، كما تمدّح بجلال عزّه ونبّههم على أن يعرفوا به جلاله وقدمه.
وكما توحّد باستحقاق كبريائه وعظمته تفرّد بقبول توبة العبد عن جرمه وزلّته.
فكما لا شبيه له فى جماله وجلاله لا شريك له فى أفضاله وإقباله يأخذ الصدقات- قلّت أو كثرت، فقدر الصّدقة وخطرها بأخذه لها لا بكثرتها وقلّتها قلّت فى الصورة صدقتهم ولكن لمّا أخذها وقبلها جلّت بقبوله لها، كما قيل:
يكون أجاجا- دونكم، فإذا انتهى إليكم تلقى طيبكم فيطيب
قوله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
خوّفهم برؤيته- سبحانه- لأعمالهم، فلمّا علم أنّ فيهم من تتقاصر حالته عن الاحتشام لأّطلاع الحقّ قال: «وَرَسُولُهُ»، ثم قال لمن نزلت رتبته: «وَالْمُؤْمِنُونَ».
وقد خسر من لا يمنعه الحياء، ولا يردعه الاحتشام، وسقط من عين الله من هتك جلباب الحياء، كما قيل:
إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ولا خير فى وجه إذا قلّ ماؤه
ومن لم يمنعه الحياء عن تعاطى المكروهات فى العاجل سيلقى غبّ ذلك، وخسرانه عن قريب فى الآجل.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
لم يصرّح بقبول توبتهم، ولم يسمهم باليأس من غفرانه، فوقفوا على قدم الخجل، متميلين بين الرهبة والرغبة، متردّدين بين الخوف والرجاء. أخبر الله- سبحانه- أنّه إن عذّبهم فلا اعتراض يتوجّه عليه، وإن رحمهم فلا سبيل لأحد إليه، قال بعضهم:
ويشبعنى من الآمال وعد ومن علمى بتقصيري وعيد
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٧]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)
من لم يكن مخلصا فى ولائه لم يأنس القلب بكدّه وعنائه، فتودّده فى الظاهر ينادى عليه بالتوائه، وبقوله بالتكلّف شهادة صدق على عدم صفائه:
من لم يكن للوصال أهلا... فكلّ إحسانه ذنوب
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٨]
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)
المقام فى أماكن العصيان، والتعزيج فى أوطان أهل الجحود والطغيان- من علامات الممالأة مع أربابها، وسكّانها وقطّانها.
والتباعد عن مساكنهم، وهجران من جنح إلى مسالكهم علم لمن أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سرّه عداوتهم.
«فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا» : يتطهرون عن المعاصي وهذه سمة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأمانى وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.
قوله «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» : أسرارهم «١» عن المساكنة إلى كل مخلوق، أو ملاحظة كل محدث مسبوق.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٩]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
المريد يجب أن يؤسّس بنيانه على يقين صادق فيما يعتقده، ثم على خلوص فى العزيمة ألا ينصرف قبل الوصول عن الطريق الذي يسلكه، ثم على انسلاخه عن جميع مناه وشهواته، وماربه ومطالبه، ثم يبنى أمره على دوام ذكره بحيث لا يعترضه نسيان، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم... بالإيثار على نفسه. والذي ضيّع الأصول
(١) أسرارهم مفعول به لاسم الفاعل «الْمُطَّهِّرِينَ».
فى ابتدائه حرم الوصول فى انتهائه، والذي لم يحكم الأساس فى بنائه سقط السّقف على جدرانه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٠]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
عروق النّفاق لا تقتلع من عرصات اليقين إلا بمنجل التّحقّق بصحيح البرهان فمن أيّد لإدامة المسير، ووفّق لتأمل البرهان وصل إلى ثلج الصدر وروح العرفان.
ومن أقام على معتاد التقليد لم يسترح قلبه من كدّ التردّد، وظلمة التجويز، وجولان الخواطر المشكلة فى القلب.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
لمّا كان من المؤمنين تسليم أنفسهم وأموالهم لحكم الله، وكان من الله الجزاء والثواب أي هناك عوض ومعوّض، فلما بين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظ الاشتراء، وقد قال تعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ... » «١»، وقال: «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» «٢».
وفى الحقيقة لا يصحّ فى وصف الحق- سبحانه- الاشتراء لأنه مالك سواه، وهو مالك الأعيان كلّها. كما أنّ من لم يستحدث ملكا لا يقال إنه- فى الحقيقة- باع.
(١) آية ١٠ سورة الصف.
(٢) آية ١٦ سورة البقرة.
63
وللمقال فى هذه الآية مجال... فيقال: البائع لا يستحقّ الثمن إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبد الجزاء الموعود إلا بعد تسليم النّفس والمال على موجب أوامر الشرع، فمن قعد أو فرّط فغير مستحق للجزاء.
ويقال لا يجوز فى الشرع أن يبيع الشخص ويشترى شيئا واحدا فيكون بائعا ومشتريا إلا إذا كان أبا وجدا! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة فالحقّ بإذنه كانت رحمته بالعبد أتمّ، ونظره له أبلغ، وكان للمؤمن فيه من الغبطة ما لا يخفى، فصحّ ذلك وإن كان حكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال: «اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» ولم يقل «قلوبهم» لأنّ النّفس محل الآفات فجعل الجنة فى مقابلتها، وجعل ثمن القلب أجلّ من الجنة، وهو ما يخصّ به أولياء فى الجنة من عزيز رؤيته «١».
ويقال النّفس محلّ العيب، والكريم يرغب فى شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال من اشترى شيئا لينتفع به اشترى خير ما يجده، ومن اشترى شيئا لينتفع به غيره يشترى ما ردّ على صاحبه لينفعه بثمنه.
وفى بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء- عليهم السلام-: يا بنى آدم، ما خلقتكم لأربح عليكم ولكن خلقتكم لتربحوا علىّ.
ويقال اشترى منهم نفوسهم فرهبوا على قلوبهم شكرا له حيث اشترى نفوسهم، وأمّا القلب فاستأثره قهرا، والقهر فى سنّة الأحباب أعزّ من الفضل، وفى معناه أنشدوا:
بني الحبّ على القهر فلو عدل المحبوب يوما لسمج
ليس يستحسن فى حكم الهوى عاشق يطلب تأليف الحجج
وكان الشيخ أو على الدقاق «٢» رحمه الله يقول: «لم يقل اشترى قلوبهم لأن القلوب وقف على محبته، والوقف لا يشترى».
(١) أنظر كيف تحتل الجنة المرتبة الثانية بعد رؤية المحبوب- عند هذا الصوفي.
(٢) الدقاق هو شيخ القشيري ورائده وأستاذه وصهره. وقد أشرنا إلى شىء من سيرته فى مدخل هذا الكتاب.
64
ويقال الطير فى الهواء، والسّمك فى الماء لا يصحّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلب... صاحبه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى:
«وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» «١» وفى التوراة: «الجنّة جنتى والمال مالى فاشتروا جنتى بمالى فإن ربحتم فلكم وإن خسرتم فعلىّ» ويقال علم سوء خلقك فاشتراك قبل أن أوجدك، وغالى بثمنك لئلا يكون لك حقّ الاعتراض عند بلوغك.
ويقال ليس للمؤمن أن يتعصّب لنفسه بحال لأنها ليست له، والذي اشتراها أولى بها من صاحبها الذي هو أجنبي عنها.
ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يدّعى العبد فيها فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يعجب بها «٢».
قوله: «فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» سيّان «٣» عندهم أن يقتلوا أو يقتلوا، قال قائلهم:
وإنّ دما أجريته لك شاكر وإنّ فؤادا خرته لك حامد
ويقال قال: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ» ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منّا بيع، وإنما أخبر عن نفسه بقوله «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فجعل بيعه بيعنا، وهذا مثلما قال فى صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم-: «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» وهذا عين الجمع الذي أشار إليه القوم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
مدحهم بعد ما أوقع عليهم سمة الاشتراء بقوله «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ » ومن رضى بما اشتراه فإنّ له حقّ الردّ إذا لم يعلم العيب وقت الشّراء، فأمّا إذا كان عالما به
(١) آية ٢٤ سورة الأنفال. [.....]
(٢) لاحظ مدى التقاء القشيري- فيما يتصل بالنفس- بتعاليم أهل الملامة النيسابورية.
(٣) وردت (شتان) وهى- حسب ما هو واضح- خطأ فى النسخ.
65
فليس له حقّ الردّ قال تعالى: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ» «١».
ويقال من اشترى شيئا فوجد به عيبا ردّه على من منه اشتراه ولكنه- سبحانه- اشترى نفوسنا منه، فإذا أراد الردّ فلا يردّ إلا على نفسه قال تعالى: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» وكما أنّ الردّ إليه فلو ردّنا كان الردّ عليه.
قوله تعالى: «التَّائِبُونَ» أي الراجعون إلى الله، فمن راجع يرجع عن زلّته إلى طاعته، ومن راجع يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومن راجع يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومن راجع يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جنسه إلى الاستغراق فى حقائق حقّه.
ويقال تائب يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله فيجد غدا فنون أفضاله، وصنوف لطفه ونواله، وتائب يرجع عن كل غير وضد إلى ربّه بربّه لربّه بمحو كلّ أرب، وعدم الإحساس بكلّ طلب.
وتائب يرجع لحظّ نفسه من جزيل ثوابه أو حذرا- على نفسه- من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلبا لفرح نفسه حين ينجو من أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لمّا سمع أنه قال: إنّ الله أفرح بتوبة عبده من الأعرابى الذي وجد ضالّته- كما فى الخبر، وشتّان ما هما! وأنشدوا:
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
وأمّا قوله «الْعابِدُونَ» : فهم الخاضعون بكلّ وجه، الذين لا تسترقّهم كرائم الدنيا، ولا تستعبدهم عظائم العقبي. ولا يكون العبد عبد الله- على الحقيقة- إلا بعد تجرّده عن كل شىء حادث. وكلّ أحد فهو له عبد من حيث الخلقة قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «٢». ولكنّ صاحب العبودية خاصّ، وهو عزيز.
(١) آية ٣٢ سورة الدخان.
(٢) آية ٩٣ سورة مريم.
66
قوله جل ذكره: الْحامِدُونَ هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المثنون عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال الحامدون بلا اعتراض على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباض عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى من لا فتوّة «١» له المادحون إذا بكى من لا مروءة له.
ويقال الشاكرون له إن أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جل ذكره: السَّائِحُونَ الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون فى الأرض على جهة الاعتبار طلبا للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم فى مشارق الأرض ومغاربها بالتفكّر فى جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيّرها على منشئها، والتحقق بحكمة خالقها بما يرون من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم فى الملكوت فيجدون روح الوصال، ويعيشون بنسيم الانس بالتحقق بشهود الحق.
قوله جل ذكره: الرَّاكِعُونَ الخاضعون لله فى جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلّى، وفى الخبر. «إن الله ما تجلّى لشىء إلا خشع له».
وكما يكون- فى الظاهر- راكعا يكون فى الباطن خاشعا، ففى الظاهر بإحسان الحقّ إليه يحسن تولّيه، وفى الباطن كالعيان للعيان للحقّ بأنوار تجلّيه.
قوله جل ذكره السَّاجِدُونَ فى الظاهر بنفوسهم على بساط العبودية، وفى الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية.
(١) سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: وما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا آثرنا، وإن منعفا شكرنا (الرسالة ص ١١٥).
67
والسجود على أقسام: سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجود عند الشهود إذا تجلّى الحقّ لقلبه سجد بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجود فى حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جل ذكره: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ هم الذين يدعون الخلق إلى الله، ويحذّرونهم عن غير الله. يتواصون بالإقبال على الله وترك الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسهم بالتزام الطاعات بحملهم إياها على سنن الاستقامة، وينهون أنفسهم عن اتّباع المنى والشهوات بترك التعريج فى أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم «١» الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حرّكهم ولا يسكنون إلا إذا سكنهم، ويحفطون مع الله أنفاسهم «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٣]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)
أصل الدين التبرّى من الأعداء، والتولّى للأولياء، والولىّ لا قريب له ولا حميم، ولا نسيب له ولا صديق إن والى فبأمر، وإن عادى فلزجر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٤]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
(١) يكون الفعل (وقف) متعديا مثل: وقف فلانا على الأمر أي أطلعه عليه (الوسيط)
(٢) مراعاة الأنفاس من الأمور التي شغل بها الصوفية دائما، يقول الجنيد:
لما أمر المسلمين بالتبرّى عن المشركين والإعراض عنهم والانقباض عن الاستغفار لهم بيّن أنّ هذا سبيل الأولياء، وطريق الأنبياء عليهم السلام، وأنّ ابراهيم- عليه السلام- وإن استغفر لأبيه فإنما كان من قبل تحقّقه بأنه لا يؤمن، فلمّا علم أنه عدوّ لله أظهر البراءة منه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٥]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)
إنّ الله لا يحكم بضلالكم وذهابكم عن طريق الحقّ باستغفاركم للمشركين إلا بعد ما تبيّن لكم أنكم منهيّون عنه، فإذا علمتم أنكم نهيتم عن استغفاركم لهم فإن أقدمتم على ذلك فحينئذ ضللتم عن الحقّ بفعلكم بعد ما نهيتم عنه... هذا بيان التفسير للآية، والإشارة فيها أنه لا سلب لعطائه إلا بترك أدب منكم.
ويقال من أحلّه بساط الوصلة ما منى بعده بعذاب الفرقة، إلا لمن سلف منه ترك حرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
الحقّ لا يتجمّل بوجود مملوكاته، ولا يلحقه نقص بعدم «١» مخلوقاته، فقبل أن أوجد شيئا من الحادثات كان ملكا- والملك أكثر مبالغة من المالك- وملكه قدرته
(١) سقطت الميم من (بعدم) فأثبتناها إذ بدونها يضطرب السياق فالمراد (وجود المملوكات وعدمها).
على الإبداع والمعدوم مقدوره ومملوكه، فإذا أوجده فهو فى حال حدوثه مقدوره ومملوكه، فإذا أعدمه خرج عن الوجود ولم يخرج عن كونه مقدورا له.
«يُحْيِي وَيُمِيتُ» يحيى من يشاء بعرفانه وتوحيده، ويميت من يشاء بكفرانه وجحوده.
ويقال يحيى قلوب العارفين بأنوار المواصلات، ويميت نفوس العابدين بآثار المنازلات.
ويقال يحيى من أقبل عليه بتفضّله، ويميت من أعرض عنه بتكبّره.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٧]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)
قبل توبتهم، وتاب على نبيّه- صلى الله عليه وسلم- فى إذنه للمنافقين فى التخلف عنه فى غزوة تبوك، وأمّا على المهاجرين والأنصار الذين قد خرجوا معه حين همّوا بالانصراف «١» لما أصابهم من العسرة من الجوع والعطش والإعياء «٢» فى غزوة تبوك، كما قال: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» : وتوبته عليهم أنه تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وكذا سنّة الحقّ- سبحانه- مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب، وقاربوا من التّلف، واستمكن اليأس فى قلوبهم من النصر، ووطّنوا أنفسهم على أن يذوقوا البأس- يمطر عليهم سحائب الجود، فيعود عود الحياة بعد يبسه طريّا، ويردّ ورد الأنس عقب ذبوله غضا جنيّا، وتصير أحوالهم كما قال بعضهم:
وما تنفست إلا كنت مع نفسى تجرى بك الروح منى في مجاريها
كنّا كمن ألبس أكفانه وقرّب النّعش من اللّحد
فجال ماء الرّوح فى وحشة وردّه الوصل إلى الورد
(١) وردت (الإنصاف) وليس لها معنى فصوبناها (الانصراف) فهو المقصود.
(٢) وردت (الأعياد) وهى خطأ فى النسخ إذ التبست الهمزة على الناسخ.
تبارك الله سبحانه ما (... ) «١» هو بالسرمد قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٨]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
لمّا صدق منهم اللجاء تداركهم بالشّفاء وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقّ يكوّر نهار اليسر على ليالى العسر، ويطلع شموس المحنة على نحوس الفتنة، ويدير فلك السعادة «٢» فيمحق تأثير طوارق النكاية سنّة منه- تعالى- لا يبدّلها، وعادة منه فى الكرم يجريها ولا يحوّلها.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
يا أيها الذين آمنوا برسل الله، يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب... كونوا مع الصادقين المسلمين، يا أيها الذين آمنوا فى الحال كونوا فى آخر أحوالكم مع الصادقين أي استديموا الإيمان. استديموا فى الدنيا الصدق تكونوا غدا مع الصادقين فى الجنة.
ويقال الصادقون هم السابقون الأولون وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم وغيرهم.
ويقال الصدق نهاية الأحوال، وهو استواء السّرّ والعلانية، وذلك عزيز. وفى الزّبور:
«كذب من ادّعى محبتى وإذا حبّه الليل نام عنّي».
(١) مشتبهة، والشطر الثاني من البيت الأخير مضطرب الوزن
(٢) ربما كانت (العناية) لتنسجم مع (الشكاية) لأننا نلحظ اهتمام القشيري بالموسيقى الداخلية فى تركيب فقرات هذه الإشارة، وإن كانت «السعادة» مقبولة فى السياق.
والصدق- كما يكون فى الأقوال يكون فى الأحوال، وهو أتمّ أقسامه.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٠]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)
لا يجوز لهم أن يؤثروا على النبىّ- صلى الله عليه وسلم- شيئا من نفس وروح، ومال وولد وأهل، وليسوا يخسرون على الله وأنّى ذلك.. ؟ وإنهم لا يرفعون لأجله خطوة إلّا قابلهم بألف خطوة، ولا ينقلون إليه قدما إلا لقّاهم لطفا وكرما، ولا يقاسون فيه عطشا إلا سقاهم من شراب محابّه كاسا، ولا يتحملون لأجله مشقة إلا لقّاهم لطفا وإيناسا، ولا ينالون من الأعداء أذىّ إلا شكر الله سعيهم بما يوجب لهم سعادة الدارين! قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
لو اشتغل الكلّ بالتّفقّه فى الدّين لتعطّل عليهم المعاش، ولبقى الكافة عن درك ذلك المطلوب، فجعل ذلك فرضا على الكفاية.
ويقال جعل المسلمين على مراتب:
فعوامّهم كالرعية للملك «١»، وكتبة الحديث كخزّان الملك، وأهل القرآن كحفّاظ الدفاتر ونفائس الأموال، والفقهاء بمنزلة الوكلاء للملك إذ الفقيه ( ) «٢» عن الله، وعلماء الأصول كالقوّاد وأمراء الجيوش، والأولياء كأركان الباب، وأرباب القلوب وأصحاب الصفاء كخواص الملك وجلسائه.
فيشتغل قوم يحفظ أركان الشرع، وآخرون بإمضاء الأحكام، وآخرون بالرّد على المخالفين، وآخرون بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقوم مفردون بحضور القلب وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شغل، يراعون مع الله أنفاسهم وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزّهم طلب ولا يهزّهم أرب، فهم بالله لله، وهم محو عما سوى الله «٣».
وأمّا الذين يتفقهون فى الدّين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله من كان يفهم عن الله.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
اقرب الأعداء إلى المسلم من الكفار، الذي يجب عليه منازعته هو أعدى عدوّه
(١) فى الهامش (فالناس كلهم خدم للملك). ولا توجد علامة توضح أنها من المتن، فربما كانت منه وسقطت العلامة، وربما كانت توضيحا من أحد القراء.
(٢) مشتبهة أقرب ما تكون إلى (يرفع) أو (يوقع) ونرجح الثانية فقد وردت كذلك فى سياق مماثل. [.....]
(٣) من هذا التصور ندرك شيئا هاما عند القشيري وعند الصوفية الخلص بعامة، فهم لا يتصورون التصوف مذهبا يسود المجتمع بعامة فيكون الناس جميعا متصوفة، بل إن دوره العضوى الهام فى كيان المجتمع محصور في طائفة مخصوصة يمتد اثرها إلى خارج نطاقها، والمقصود (بالشغل) و (الفراغ) أن يكونوا خالصين لله، وليس المقصود البطالة من العمل وعدم السعى للرزق.
أي نفسه. فيجب أن يبدأ بمقاتلة «١» نفسه ثم بمجاهدة الكفار، قال عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «٢».
قوله: «وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» من حابى عدوّه قهره، وكذلك المريد الذي ينزل عن مطالبات الحقيقة إلى ما يتطلبه من التأويلات فيفسخ عهده، وينقض عقده، وذلك كالرّدّة «٣» لأهل الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٥]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)
«٤» جعل الله- سبحانه- إنزال القرآن لقوم شفاء. ولقوم شقاء فإذا أنزلت سورة جديدة زاد شكّهم وتحيّرهم، فاستعلم بعضهم حال بعض، ثم لم يزدادوا إلا تحسّرا قال تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» «٥» وأمّا المؤمنون فزادتهم السورة إيمانا فارتقوا من حدّ تأمل البرهان إلى روح البيان، ثم من روح البيان إلى العيان، فالتجويز والتردد و (....) «٦» والتحيّر منتفى بأجمعه عن قلوبهم، وشموس العرفان طالعة على أسرارهم، وأنوار التحقيق مالكة أسرارهم، فلا لهم تعب الطلب، ولا لهم حاجة إلى التدبير،
(١) وردت (مقابلة) والملائم بالنسبة للسياق (مقاتلة) هذا العدو.
(٢) رواه الخطيب فى التاريخ عن جابر (ص ٣٢٥ ح ٢ منتخب كنز العمال بهامش مسند الإمام احمد) هكذا: (قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. مجاهدة العبد هواه).
(٣) وردت (الرد) والصواب أن تكون (الردة)، وقد أوضح القشيري ذلك فى موضع آخر من الكتاب إذ يقول وكما ان المرتد أشد على المسلمين عداوة فكذلك من رجع عن الإرادة الى الدنيا والعادة، فهو أشد الناس إنكارا لهذه الطريقة وابعد عن أهلها) المجلد الأول: ص ٧٥.
(٤) ينبغى أن نلحق بهذه الآية الآية التي بعدها «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» لم ترد فى المتن مع أن المصنف يشير إليها فى شرحه.
(٥) آية ٤٤ سورة فصلت.
(٦) مشتبهة، ومصححة فى الهامش بطريقة مبهمة وهى فى الكتابة هكذا: (النجث)، ولا نعرف ضمن آفات العقل كلمة للقشيرى قريبة فى الخط منها، وربما كانت (التعب).
ولا عليهم سلطان الفكر. وأشعة شموس العرفان مستغرقة لأنوار نجوم العلم، يقول قائلهم:
ولما استبان الصبح أدرك ضوءه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٦]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
لم يخل الحقّ- سبحانه- أرباب التكليف من دلائل التعريف، التعريف لهم فى كل وقت بنوع من البيان، والتكليف فى كل أوان بضرب من الامتحان فما لم يزد لهم فى إيضاح البرهان لم يتجدد لهم من الله إلا زيادة الخذلان والحجبة عن البيان.
وأمّا أصحاب الحقائق فما للأغيار فى كل عام مرة أو مرتين فلهم فى كل نفس مرة، لا يخليهم الحقّ- سبحانه- من زواجر توجب بصائر، وخواطر تتضمن تكليفات وأوامر «٢» قال قائلهم:
كأنّ رقيبا منك حلّ بمهجتي إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
تقنّعوا بخمار التلبيس ظانّين أنهم يبقون فى سرّ بتكلفهم والحقّ أبى إلا أن فضحهم، وكما وسمهم برقم النّكرة «١» أطلع أسرار الموحّدين على أحوالهم فعرفوهم على ما هم عليه من أوصافهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٨]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)
(١) النكرة اسم من الإنكار يقال: كان لى أشد نكرة (الوسيط).
(٢) ذلك لأنهم بقيامهم بالحق فلما تبدر منهم أشياء تستدعى الزجر أو الأمر لأنهم دائما يختارون الأشق.
Icon