تفسير سورة الرعد

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الرعد
مكية وآياتها ثلاث وأربعون
بسم الله الرحمان الرحيم

﴿ آلمر تلك آيات الكتاب ﴾ الإضافة بمعنى من وأراد بالكتاب السورة أو القرآن وتلك إشارة إلى آياتها، أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة أو القرآن ﴿ والذي أنزل إليك من ربك ﴾ يعني القرآن كله ومحله الجر عطفا على الكتاب عطف العام على الخاص إن كان المراد بالكتاب السورة، أو عطف إحدى الصفتين على الأخرى إن كان المراد به القرآن وقوله :﴿ الحق ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق لا ريب فيه، أو محل الموصول الرفع بالابتداء والحق خبره، والجملة كالحجة على الجملة الأولى، فإن قيل تعريف الخبر يدل على اختصاص المنزل بكونه حقا، مع أن السنة والإجماع والقياس كل منهما حق يفيد الحق، قلنا المراد بما أنزل أعم من المنزل صريحا أو ضمنا مما نطق المنزل بحسن إتباعه ﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ لإخلالهم النظر والتأمل فيه، قال مقاتل نزلت في مشركي مكة حين قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، فرد قولهم وبين دلائل توحيده.
﴿ الله الذي رفع السماوات ﴾ مبتدأ وخبر، أو الموصول صفة والخبر يدبر ﴿ بغير عمد ﴾ جمع عماد كإهاب وأهب أو عمود كأديم وأدم، يعني اساطين حال من السماوات ﴿ ترونها ﴾ صفة لعمد أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات، كذلك وهو دليل على وجود الصانع الحكيم، فإن ارتفاعها على سائر الأجسام المتساوية لها في الحقيقة الجسيمة، واختصاصها بما يقتضي ذلك، لا بد من أن يكون من مخصص ليس بجسم ولا جسماني، رجح بعض الممكنات على بعض بإرادته، وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ وقد مر البحث عنه في سورة يونس ﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾ أي ذللها لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع للحوادث اليومية ﴿ كل ﴾ منهما ﴿ يجري ﴾ في السماء الدنيا ﴿ لأجل مسمى ﴾ لمدة معينة يتم فيها أدواره، أو لغاية معلومة وهو وقت فناء الدنيا ﴿ يدبر الأمر ﴾ أي يقضي أمر ملكوته من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وغير ذلك ﴿ يفصل الآيات ﴾ ينزلها أو يبينها مفصلة، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد ﴿ لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾ لكي تفكروا فيها وتعلموا كمال قدرته، فتعلموا أن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.
﴿ وهو الذي مد الأرض ﴾ بسطها ليثبت عليها الإقدام وينقلب عليها الحيوان ﴿ وجعل فيها رواسي ﴾ جمع راسية أي جبالا ثابتة من رسى الشيء إذا ثبت، والتاء للتأنيث على أنها صفة أجبل أو للمبالغة، قال ابن عباس كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض ﴿ وأنهارا ﴾ ضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث أن الجبال أسباب لتولدها ﴿ ومن كل الثمرات ﴾ متعلق بقوله :﴿ وجعل فيها ﴾ أي جعل في الأرض جميع أنواع الثمرات ﴿ زوجين ﴾ صنفين ﴿ اثنين ﴾ الجيد والرديء قلت : يمكن أن يكون المراد بها تنوعها على أقسام شتى أدناها اثنان ﴿ يغشى الليل والنهار ﴾ أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعدما كان مضيئا ويصير مضيئا بعد ما كان مظلما، قرأ حمزة والكسائي و أبو بكر يغشي بالتشديد ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ فيها فإن تكونها وتخصيصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم د بر أمرها وهيأ أسبابها.
﴿ وفي الأرض قطع متجاورات ﴾ متقاربات بعضها طيبة وبعضها سبخة وبعضها رخوة بعضها صلبة، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس، وبعضها قليلة الريع وبعضها كثيرة، ولولا تخصيص قادر يفعل ما يشاء على ما أراد لم يختلف لاشتراك تلك القطع في طبيعة الأرض وما يلزمها ويعرض لها بتوسط الأسباب السماوية من حيث أنها متضامة متشاركة في النسب والأوضاع ﴿ وجنات ﴾ بساتين ﴿ من أعناب وزرع ﴾ وحدها لكونها مصدرا في الأصل ﴿ ونخيل صنوان ﴾ أي نخلات أصولها واحد جمع صنو كقنوان جمع قنو، ولا فرق بين تثنيتهما وجمعهما إلا بأن النون في التثنية مكسورة بلا تنوين وفي الجمع منونة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في العباس ( إن عم الرجل صنو أبيه )١ ﴿ وغير صنوان ﴾ متفرقات مختلفة الأصول، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ﴿ وزرع ونخيل صنوان وغير ﴾ رفع الأربعة عطفا على جنات والباقون بجرها عطفا على أعناب ﴿ يسقى ﴾ قرأ عاصم وابن عامر ويعقوب بالتاء للتأنيث لأن الضمير راجعة إلى الجمع والباقون بالياء على التذكير على تأويل ما ذكر ﴿ بماء واحد ونفضل ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالياء على الغيبة مطابقا بقوله يدبر والباقون با لنون على التكلم ﴿ بعضها على بعض في الأكل ﴾ في الثمر قدرا وطعما ورائحة ولونا، أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الدقل والفارسي والحلو والحامض )٢وذلك أيضا مما يدل على الصانع الحكيم، فإن اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار، قال مجاهد كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد، وقال الحسن هذا مثل ضرب الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمان فسطحها فصارت قطعا متجاورات، فأنزل عليها الماء من السماء فأخرج من هذه زهرتها وشجرها وثمرها و من هذه سبخها وملحها وخبثها، وكل تسقى بماء واحد، كذلك الناس خلقهم من آدم فأنزل من السماء ذكره فرق قلوب وخشعت وقسى قلوب ولهت، قال الحسن والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا٨٢ ﴾٣ ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾.
﴿ وإن تعجب ﴾ يا محمد من تكذيب المشركين إياك في دعوى الرسالة بعدما رأوا الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة مع أنهم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الحجارة بلا دليل ﴿ فعجب ﴾ أي حقيق بأن يتعجب منه ﴿ قولهم أإذا كنا ترابا ﴾ بعد الموت ﴿ أإنا ﴾ اختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا نحو هذه الآية وقوله تعالى :﴿ قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون٨٢ ﴾٤﴿ وقالو أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد ﴾٥ وشبهه وجملته أحد عشر موضعا في القران، فقرأ نافع والكسائي ويعقوب الأول استفهاما بهمزتين و الثاني خبرا بهمزة واحدة، وأبو جعفر وابن عامر بالعكس، والباقون استفهاما فيهما إلا أن نافعا قرأ في النمل والعنكبوت الأول منهما خبر أو الثاني استفهاما، وكذا ابن كثير وحفص في العنكبوت وأبو جعفر يوافق نافعا في أول الصافات دون الثاني، وابن عامر في النمل والنازعات بعكس هذا وفي الواقعة بالاستفهام فيهما، ثم القراء عند اجتماع الهمزتين على أصولهم، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يقرأون الاستفهام بهمزة وياء بعدها، فابن كثير لا يمد بعد الهمزة وأبو عمرو يمد ويدخل قالون بينهما ألفا وهشام يدخل بين الهمزتين المحققتين ألفا ﴿ لفي خلق جديد ﴾ والجملة الاستفهامية بدل من قولهم، أو مفعول به يعني قولهم هذا المشعر بإنكار البعث حقيق بالتعجب، فإنهم ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله رضي الله عنه، وقد تقرر في القلوب أن الإعادة أهون من الابتداء، والعامل في إذا محذوف دل عليه ﴿ أإنا لفي خلق جديد ﴾ تقديره أنعدنا في خلق جديد كما كنا قبل الموت إذا متنا وكنا ترابا أو المعنى وإن تعجب يا محمد على إنكارهم البعث بعد إقرارهم ببدء الخلق من الله تعالى فقولهم هذا حقيق بأن يتعجب منه، فإن من قدر على إنشاء ما قص عليك كانت إلا عادة أيسر شيء عليه، والآيات المعدودة كما هي دالة على وجود المبدأ دالة على مكان الإعادة من حيث أنها تدل على كمال قدرته وقبول المواد لأنواع تصرفاته ﴿ أولئك ﴾ يعني الذين ينكرون البعث هم ﴿ الذين كفروا بربهم ﴾ لأنهم كفروا بقدرته تعالى على البعث، والعاجز لا يصلح لكونه ربا ﴿ وأولئك الأغلال في أعناقهم ﴾ يعني هم مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم، أو هم يغلون يوم القيامة ﴿ وأولئك أصحا ب النار ﴾ يوم القيامة دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر ﴿ هم فيها خالدون ﴾ لا ينفكون عنها وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار كما هو مذهب أهل الحق خلافا للمعتزلة.
﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ﴾ الاستعجال طلب الشيء عاجلا قبل وقته والمراد بالسيئة ههنا العقوبة وبالحسنة النعمة والعافية وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آئتنا بعذاب أليم ﴾٦ ﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها، ولم يجوز وأحلول مثلها عليهم، والمثلة بفتح التاء وضمها كالصدقة والصدقة العقوبة، لأنها مثل المعاقب عليه ومنه المثال للقصاص وأمثلت الرجل من صاحبه إذا إقتصصته ﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ أي مع ظلمهم على أنفسهم ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة، قلت الظاهر إن الآية في منكري البعث والمراد بالمغفرة الإهمال يعني أن الله حليم يمهل الكفار مع ظلمهم ولذلك لم يعذبهم وهم يستعجلون العقوبة ﴿ وإن ربك لشديد العقاب ﴾ يعني إذا يحل بهم العقوبة من الله تعالى لا يستطيع أحد دفعه، وقال السدي قوله تعالى :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ﴾ في حق المؤمنين خاصة، وهي أرجى آية في كتاب الله حيث وعد المغفرة مع الظلم، ففيه دليل على جواز العفو بلا توبة إذ التائب ليس على الظلم بل ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )٧ رواه ابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعا ﴿ وإن ربك لشديد العقاب ﴾ على الكفار، وقيل هما جميعا في المؤمنين لكنه معلق بالمشية فيهما أي :﴿ يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ﴾٨ أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي والواحدي عن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد بعيش، ولولا وعيده وعذابه لاتَّكل كل أحد ).
﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ﴾ أي على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آية ﴾ أي علامة وحجة على نبوته ﴿ من ربه ﴾ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم، واقترحوا آيات أخر تعنتا وعنادا فقال الله تعالى :﴿ إنما أنت منذر ﴾ يعني ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ، وما عليك إتيان الآيات المقترحة ولا حملهم على الهداية كرها ﴿ ولكل قوم هاد ﴾ قرأ ابن كثير هاد ووال وواق وما عند الله باق بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير، والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء، والمعنى أن لكل قوم هاد أي قادر على هدايتهم وهو الله عز وجل :﴿ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾٩ كذا قال سعيد بن جبير، وقال عكرمة الهادي محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى أنت منذر وهاد أي داع إلى سبيل الحق لكل قوم الهداية حينئذ بمعنى إراءة الطريق، وقيل : معناه ولكل قوم نبي يهديهم أي يدعوهم إلى الله بما يعطيهم من الآيات لا بما اقترحوا، قبح الله الرافضة يقولون كان في التنزيل ولكل قوم هاد علي حذف عثمان عليه السلام حسدا لفظ علي، لعنهم الله أنى يؤفكون ينكرون قوله تعالى :﴿ وقرآن مبين ﴾١٠ وعلى هذا يلزم فضل علي عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فإن معنى الآية على هذا إنما أنت منذر ولست بهاد ولكن علي هاد لكل قوم ولا يخفى ما فيه.
ثم أردف الله تعالى ذلك بما يدل على كلام علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه، وإنما لم ينزل لعلمه أن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، وأنه قادر على هدايتهم وإنما لم يهدهم لسبق قضائه عليهم بالكفر فقال :﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى ﴾ أي حملها أو ما تحملها من ذكر أو أنثى سوي الخلق أو ناقصة وواحدا أو أكثر، وأنه على أي حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة ﴿ وما تغيض الأرحام وما تزداد ﴾ غاض وازداد جاء كل منهما لازما متعديا، في القاموس غاض الماء غيضا ومغاضا قل ونقص كالغاض غاض الماء وثمن السلعة نقص، وغاض الماء وثمن السلعة نقضهما كأغاض، وازداد القوم على عشرة :﴿ ونزداد كيل بعير ﴾١١ فإن جعلتهما لازمين فما حينئذ مصدرية والمعنى الله يعلم انتغاض الأرحام وازديادها، والإسناد إلى الأرحام مجازي فإنهما لما فيهما يعني ينتقص ما في الأرحام في الجثة والمدة والعدد ويزداد، وإن جعلتهما متعديين فما يحتمل أن يكون موصولة وأن يكون مصدرية والمعنى الله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده في الجثة والمدة والعدد. مسألة : أقل مدة الحمل ستة أشهر اتفاقا روي أن رجلا تزوج امرأة فولدت لستة أشهر، فهم عثمان أن يرجمها، فقال ابن عباس لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم، قال الله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾١٢ وقال :﴿ وفصاله في عامين ﴾١٣ فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، فدرأ عثمان عنها الحد، قال ابن همام التمسك بدرء عثمان مع عدم مخالفة أحد فكان إجماعا، وأنه قد يولد بستة أشهر ويعيش، وأكثر مدة الحمل سنتان عند أبي حنيفة، لما روى الدارقطني والبيهقي في سننهما من طريق ابن المبارك ثنا داود بن عبد الرحمان عن ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت ما تزيد المرأة في الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل، وفي لفظ قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين ولو بظل مغزل، وعند الشافعي ومالك أكثر مدة الحمل أربع سنين، وقيل : عند مالك خمس سنين، قال حمادة ابن سلمة إنما سمي هرم بن حبا ن هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وروى البيهقي عن الوليد ابن مسلم قال : قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل مغزل، فقال : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدوق وزوجها رجل صدوق حملت ثلاثة بطون في اثنتي عشرة سنة كل بطن في أربع سنين، قال ابن همام ولا يخفي أن قول عائشة مما لا يعرف إلا سماعا في حكم المرفوع، وهو مقدم على المحكي عن امرأة ابن عجلان، لأنه بعد صحة النسبة إلى الشارع لا يتطرق إليه الخطأ بخلاف الحكاية، فإنها بعد صحة نسبتها إلى مالك والمرأة يحتمل الخطأ بها، فإن عامة الأمران يكون انقطع دمها أربع سنين ثم جاءت بولد وهذا ليس بقاطع في أن الأربعة سنين بتمامها كانت حاملا فيها، لجواز أنها امتدت طهرها سنتين أو أكثر ثم حبلت، ووجود الحركة مثلا في البطن لو وجد ليس قاطعا للحمل لجواز كونه من غير الولد، ولقد أخبرنا عن امرأة أنها وجدت ذلك مدة تسعة أشهر من الحركة وانقطاع الدم وكبر البطن وإدراك الطلق، وحين جلست القابلة تحتها أخذ ت في الطلق وكلما طلقت اعتصرت ماءا، وهكذا شيئا فشيئا إلى أن إنضم بطنها وقامت عن قابلتها من غير ولادة، وفي الجملة مثل هذه الحكايات لا تعارض الروايات وما روي أن عمر أثبت نسب ولد امرأة غاب عنها زوجها سنين ثم قدم فوجدها حاملا فهم برجمها، فقال له معاذ إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فتركها، حتى ولدت ولدا قد نبتت ثنياه يشبه أباه، فلما رآه الرجل قال ولدي ورب الكعبة إنما هو لقيام الفراش ودعوى الرجل نسبه والله أعلم.
مسألة : على عدد الولد في بطن لا حد له، وقيل نهاية ما عرف أربعة وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال الشافعي أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة، قلت واشتهر في ديار الهند أن امرأة القاضي قدوه في بلاد الشرق ولدت مائة من مشيمة واحدة وعاشوا جميعا والله أعلم، قال البغوي قال أهل التفسير غيض الأرحام الحيض على الحمل، فإذا اهراقت الدم ينتقص الغداء فينتقص الولد، وإذا لم تحض يزداد الولد فيتم، فالنقصان نقصان خلقه الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم، وقيل إذا حاضت تنقص الغداء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرا، فإن رأت خمسة أيام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام فالنقصان في الغداء الزيادة في المدة، وقال الحسن غيضها نقصانها من تسعة أشهر والزيادة زيادتها على تسع أشهر، وقيل النقصان السقط والزيادة تمام الخلق ﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ بتقدير إلى حد معين علم الله تعالى لا يجاوز ولا ينقض
﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ قد شرحنا الغيب والشهادة في سورة ﴿ الكبير ﴾ الذي كل شيء دونه ﴿ المتعال ﴾ المستعلي على كل شيء بقدرته أو الذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه، قرأ ابن كثير بإثبات الياء وصلا ووقفا والباقون يحذفونها في الحالين ﴿ سواء منكم ﴾ في علم الله ﴿ من أسر القول ﴾ في نفسه ﴿ ومن جهر به ﴾ لغيره ﴿ ومن هو مستخف ﴾ أي طالب لإخفاء نفسه ﴿ بالليل وسارب ﴾ بارز ﴿ بالنهار ﴾ يراه كل أحد من سرب سروبا إذا أبرز، وقيل : معناه ذاهب في سربه ظاهرا أو السرب الطريق، وقال القتيبي سارب بالنهار متصرف في حوائجه، عطف على من أو على مستخف على من في معنى للاثنين كأنه قال ﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾
﴿ سواء منكم ﴾ اثنان مستخف وسارب، وقال ابن عباس في هذه الآية هو صاحب زنية مستخف بالليل وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم، فعلى هذا عطف على مستخف والمراد بمن واحد متصف بصفتين.
﴿ له ﴾ أي لمن أسر ومن جهر ومن هو مستخف وسارب أو لله تعالى ملائكة ﴿ معقبات ﴾ جمع معقبة من عقب مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه، أو من اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة، وقال البغوي واحده معقب وجمعه معقبة ثم جمع المعقبة على المعقبات كما قيل إنثاوات سعد ورجالات بكر، يعني يتعاقبون فيكم بالليل والنهار إذا صعدت ملائكة الليل جاءت في عقبها ملائكة النهار وإذا صعدت ملائكة النهار جاءت في عقبها ملائكة الليل فيكتبون أعما ل العبا د و يحفظونهم عن الآفات، روى البغوي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون )١٤ ﴿ من بين يديه ﴾ صفة معقبات أي كائنة من قدام المستخفي والسارب ﴿ ومن خلفه ﴾ يعني من جوانبه كلها ﴿ يحفظونه ﴾ الضمير راجع إلى من، أي يحفظون العبد من الآفات ما لم يأت القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه، قال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك مؤكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه يريده إلا قال ورائك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه وقال كعب الأحبار لولا أن الله تعالى وكل بكم الملائكة يدنون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفنكم الجن، أو المعنى يحفظون أعماله إن كان الآية في الملكين القاعد ين عن اليمين والشمال يكتبان الحسنات والسيئات، كما قال الله تعالى :﴿ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد١٧ ﴾١٥ قال ابن جريج أي يحفظون عليه أعماله ﴿ من أمر الله ﴾ قيل هو صفة ثانية لمعقبات يعني معقبات كائنة من أمر الله، أو ظرف متعلق بقوله يحفظونه أي يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أتاهم بالحفظ، أو المعنى يحفظونه من أمر الله أي من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، وقيل : من ههنا بمعنى الباء أي يحفظونه بإذن الله، وقيل المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى، قال البغوي وقيل الضمير في قوله ﴿ له معقبات ﴾ راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لمحمد صلى الله عليه وسلم معقبات أي حراس من الرحمان ﴿ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ﴾ من شر شياطين الجن والإنس وطوارق الليل والنهار.
وقال عبد الرحمان بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وإربد بن ربيعة، وقصتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، أنه أقبل عامر بن الطفيل وإربد بن ربيعة وهما عامريان يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجمل الناس، فقال رجل يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد اقبل نحوك، فقال : دعه فإن يرد الله به خيرا يهده، فأقبل حتى قام عليه، فقال يا محمد مالي إن أسلمت، فقال لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال تجعل لي الأمر بعدك، قال : ليس ذلك إلي أنما إلى الله عز وجل يجعله حيث يشاء، وقال فتجعلني على الوبر وأنت على المدر قال لا قال فماذا تجعل لي قال أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها، قال أوليس ذلك لي إلى اليوم، قم معك أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوصى إلى إربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فذر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار إربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه، فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه ولم يقدر على سله، وجعل عامر يومي إليه فا لتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى إربد وما صنع بسيفه فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله تعالى على إربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته وولى عامر هاربا وقال يا محمد دعوت ربك حتى قتل إربد، والله لأملأنها عليك خيلا جردا أو فتيانا مردا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعك الله من ذلك، وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج فنزل عامر بيت امرأة سلولية، فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير عليه لونه فجعل يركض في الصحراء، ويقول أبرز يا ملك الموت، ويقول الشعر، ويقول واللات والعزى لأن أضحى إلى محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي، فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأداره في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول غذة كغذة البعير وموت في بيت السلولية، ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره فأجاب الله تعالى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بالطعن وإربد بالصاعقة، وأنزل الله تعالى في هذه القصة قوله عز وجل ﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار١٠ له ﴾ يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ﴾ يعني تلك المعقبات من أمر الله وكذا أخرج الثعلبي، وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن إربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عامر يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت، قال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، قال أتجعل لي الأمر من بعدك، قال : ليس ذلك لك ولا لقومك، فقال عامر لإربد إني أشتغل عنك وجه محمد بالحديث فأضربه بالسيف، فرجعا فقال عامر يا محمد قم معي فقام معه ووقف يكلمه وسل إربد السيف فلما وضع يده قائم السيف يبست، والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه فانصرف عنهما، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على إربد صاعقة فقتله، فأنزل الله تعالى :﴿ يعلم ما تحمل كل أنثى ﴾ إلى قوله ﴿ شديد المحال ﴾.
﴿ إن الله لا يغير ما بقوم ﴾ من العفاية والنعمة ﴿ حتى يغيروا ﴾ أي القوم ﴿ ما بأنفسهم ﴾ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة ﴿ وإذا أراد الله بقوم ﴾ بعد ما يغيروا ما بأنفسهم ﴿ سوءا ﴾ عذابا وهلاكا ﴿ فلا مرد له ﴾ مصدر بمعنى الفاعل يعني لا راد له، والعامل في إذا ما دل عليه الجواب ﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾ يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء وفيه دليل على أن خلاف مراد الله محال.
﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا ﴾ من الصاعقة ومن ضرر المطر في السفر وللزرع في بعض الأحيان وبعض الأمكنة ﴿ وطمعا ﴾ من الغيث حين ينفع للزرع أو لدفع الحر، وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف أي إرادة خوف أو طمع، أو بتأويل الإضافة والإطماع أو على الحال من البرق، أو من المخاطبين بتقدير ذو، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغة ﴿ وينشئ السحاب ﴾ جمع سحابة وهو الغيم فإنه ينسحب أي ينجر بالهواء في الجو، وهو جمع سحابة كذا في القاموس، وقال البيضاوي اسم فيه معنى الجمع ولذا وصف بقوله ﴿ الثقال ﴾ جمع ثقيلة يعني مملوة بالمطر قال البغوي قال علي السحاب غربال الماء.
﴿ ويسبح الرعد ﴾ متلبسا ﴿ بحمده ﴾يعني يقول سبحان الله والحمد لله، روي الترمذي وصححه النسائي عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال :( ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب )١٦ ﴿ والملائكة من خيفته ﴾ أي من خيفة الله وخشيته، قيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله له أعوانا، فهم خائفون خاضعون طائعون، فالضمير حينئذ جاز أن يعود إلى الرعد يعني يسبح الملائكة من خيفة الرعد، قال ابن عبا س من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلى دينه وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث وقال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول إن هذا الوعيد لأهل الأرض لشديد، قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس الرعد موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندما ينزل القطر، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال ربكم لو أن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولما أسمعتهم صوت الرعد )١٧ رواه أحمد بسند صحيح والحاكم، وقال البيضاوي في تفسير الآية ﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾ أي يسبح سامعوه متلبسين به فيصيحون سبحان الله والحمد لله، أو يدل الرعد على وحدانيته تعالى وكمال قدرته متلبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته، قلت : هذا على تقدير عدم ثبوت كون الرعد ملكا يسبح ﴿ ويرسل الصواعق ﴾ جمع صاعقة وهي العذاب المهلك والمراد ههنا نار ينزل من السماء ينزل من البرق فيحرق من يصيبه ﴿ فيصيب بها من يشاء ﴾ فيهلكه ﴿ وهم يجادلون ﴾ أي يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ في الله ﴾ أي في توحيده والإقرار بكمال علمه وقدرته وإعادة الناس ومجازاتهم. والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو القتل، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال يعني الله يعلم ما تحمل كل أنثى ويفعل كذا وكذا ويرسل الصواعق، وهم ينكرون صفا ت كماله ولا يستدلون بما ذكر على وجوده تعالى وكمال قدرته ويخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وعلى تقدير نزول الآية في قصة إربد بن ربيعة كما ذكرنا، فالظاهر أن الواو للحال والجملة حال من مفعول يشاء يعني يصيب بها من يشاء أصابته وهو إربد بن ربيعة وأمثاله في حال هم يجادلون في الله في تلك الحال، قال البغوي قال محمد بن علي الباقر الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب المسلم الذاكر، وأخرج النسا ئي والبزار عن أنس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تعالى، فقال إيش ربك الذي تدعوني إليه أمن حديد هو أو من نحاس أو من فضة أو ذهب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأعاده الثانية والثالثة فأرسل الله عليه صاعقة فأحرقته ونزلت هذه الآية ﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ﴾ إلى آخرها، وقال البغوي نزلت في شأن إربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم :( مم ربك أمن درأم من ياقوت أم من ذهب ؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته ) وقال سئل الحسن عن قوله تعالى :﴿ ويرسل الصواعق ﴾ الآية فقال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله والى رسوله فقال لهم أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه مم هو من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه فقال ارجعوا إليه، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الأولى وقال أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه، فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله ما زادنا إلا على مقالته وأخبث فقال إرجعوا، فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه وهو يقول هذه المقالة إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم. فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس فجاءوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم احترق صاحبكم، فقالوا من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها ما يشاء وهم يجادلون في الله ﴾ ﴿ وهو شديد المحال ﴾ قال البغوي قال الحسن شديد الحقد، وقال مجاهد شديد القوة، وقال أبو عبيدة شديد العقوبة، وقيل : شديد المكر والمغالبة، قال في القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدل والعذاب والعقاب والعداوة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك وهذه المعاني أكثرها يصح ههنا فهو فعال من المحل، وقيل : هو مفعل من الحول أو الحيلة أو الحيلولة على غير قياس، فعلى هذا ما قال ابن عباس معناه شديد الحول وقال علي شديد الأخذ.
﴿ له دعوة الحق ﴾ أي الدعوة المجابة مختصة به تعالى دون غيره كما يدل عليه ما بعده، أو المعنى له الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلى عبادته ويسئل منه الحوائج دون غيره، أو معناه له الدعاء بالإخلاص، والحق على هذه التأويلات ضد الباطل، والإضافة في الظاهر إضافة الموصوف إلى صفته، فيؤول على طريقة مسجد الجامع، وجانب الغربي ويقال دعوة المدعو الحق فإن المدعو بدعوة الله سبحانه بالإخلاص يتحقق، أو يقال إضافة الدعوة إلى الحق لما بيتهما من الملابسة كما يقال رجل صد ق، وقيل : الحق هو الله سبحانه وكل دعاء الله دعوة الحق، فإن قيل هذا الحمل غير مفيد فإن دعاء الله مختص به تعالى لا محالة كما أن دعاء غيره مختص بغيره قلنا : في ذكر الله تعالى بلفظ الحق إشعار بأن دعاؤه حق لأن دعاء الحق لا يكون إلا حقا ودعاء الباطل لا يكون إلا باطلا، فالمعنى على هذا التأويل يؤل إلى ما سبق فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان، قال البغوي قال على دعوة الحق التوحيد، وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله، قلت : التوحيد والشهادة إن كانا تفسيرين للحق فالإضافة حقيقية والمعنى لله الدعوة إلى التوحيد والشهادة، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في عامر وإربد أن هلاكهما من حيث لم يشعر أنه محال من الله، وإجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودالة على أنه على الحق، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محالة وتهديدهم بإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أو بيان ضلالهم وفساد رأيهم ﴿ والذين يدعون ﴾ أشياء كائنة ﴿ من دونه ﴾ يعني يعبدون الأصنام ويذكرونهم ويسألون منها حوائجهم فحذف المفعول لدلالة قوله من دونه عليه، أو المعنى والذين يدعونهم المشركون كائنة من دون الله فحذف الراجع، والمراد بالموصول حينئذ الأصنام ﴿ لا يستجيبون ﴾ الضمير راجع إلى الموصول على التقدير الثاني أو إلى محذوف موصوف عن دونه على التقدير الأول والمعنى لا يجيبون ﴿ لهم ﴾ أي للكفار ﴿ بشيء ﴾ يريدونه من نفع أو دفع ضر﴿ إلا كباسط كفيه ﴾ يعني إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه ﴿ إلى الماء ﴾ وهو عطشان جالس على شفير البئر يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر ويدعو الماء ﴿ ليبلغ فاه ﴾ متعلق بباسط أي يطلب من الماء أن يبلغ فاه ﴿ وما هو ببالغه ﴾ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه، كذلك آلهتهم لا يشعرون بدعائهم ولا يقدرون على إجابتهم فإضافة الاستجابة إلى الباسط إضافة المصدر إلى المفعول، هذا معنى قرأه مجاهد ومثله عن علي وعطاء، وقال شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغرف الماء ليشربه فبسط كفيه ليقبض على الماء، والقابض على الماء لا يكون في يده شيء ولا يبلغ إلي فيه منه شيء، كذلك الذي يدعو الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع لا يكون بيده شيء وهذا التأويل مروى عن ابن عباس قال كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء ولا يبلغ فاه ما دام باسط كفيه، فهذا مثل ضربه لخيبة الكفار ﴿ وما دعاء الكافرين ﴾ أصنامهم أي عبادتهم لها وطلب حاجتهم منها ﴿ إلا في ضلال ﴾ في ضياع وخسار وبطلان، وقال الضحاك عن ابن عباس وما دعاء الكافرين ربهم جل وعلا إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى بحجب الكفر والمعاصي والله أعلم.
﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا ﴾ يعني الملائكة والمؤمنين ﴿ وكرها ﴾ يعني المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسيف، أو أنهم يسجدون حالة الشدة والضرورة مع كراهيتهم ذلك، وانتصاب طوعا وكرها بالحال أو العلة ﴿ وظلالهم ﴾ يسجد معهم بالعرض، ويحتمل أن يراد بالسجود انقيادهم لما أراده منهم شاءوا أو كرهوا، وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص، ويمكن أن يقال : المراد بمن في السماوات والأرض حقائق من فيها وأرواح الملائكة والمؤمنين وبظلالهم أشخاصهم وقوالبهم كما عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه الظاهر بالسواد والباطن بالخيال، حيث قال في سجوده سجد لك سوادي وخيالي، وهذا التأويل أولي مما سبق لأن الظلال التي يرى في وضح الشمس عبارة عن سواد موضع لم يصل إليه ضوء الشمس لحجاب جثة الشيء، وذلك أمر عدمي لا وجود لها فكيف يسند إليها السجود ﴿ بالغدو والآصال ﴾ ظرف ليسجد والمراد بهما الدوم، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر إلى المغرب.
﴿ قل من رب السماوات والأرض ﴾ خالقهما ومدبرهما ومتولي أمرهما استفهام تقرير، فإنهم كانوا يقولون بأن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ﴿ قل الله ﴾ يعني إن لم يقولوه فاجب أنت عنهم، إذ لا جواب لهم سواه وهم يقولون بذلك، ولأنه هو البين الذي لا يحتمل الاختلاف أو لقنهم الجواب به، قال البغوي روي أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين من رب السماوات والأرض، قالوا : أجب أنت ! فقال الله تعالى قل الله، ثم قال فألزمهم بذلك " ﴿ قل أفأتخذتم ﴾ عطف على محذوف والاستفهام للإنكار تقديره أأقررتم بربوبيته تعالى للعالمين فاتخذتم أشياء كائنة ﴿ من دونه أولياء ﴾ واتخذتموه ظهريا وهذا أمر منكر بعيد عن مقتضى العقل، ثم أجرى على الأولياء وصفا بقوله ﴿ لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾ يعني لا يقدرون أن يجلبوا إلى أنفسهم نفعا أو يدفعوا عنها ضرا فكيف يتولون أموركم وكيف يستطيعون إيصال الخير إليكم أو دفع الضر عنكم، وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم ﴿ قل هل يستوي الأعمى ﴾ يعني الذي لا عقل له ولا بصيرة أو لا يستعملها ﴿ والبصير ﴾ أي ذو بصيرة يدرك بها حقيقة العباد والموجب لها، ويميز من يستحق العبادة والولاية ممن لا يستحق ذلك، وقيل المراد بالأعمى المعبود الغافل منكم، وبالبصير المعبود المطلع على أحوالكم ﴿ { أم هل تستوي ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالياء التحتانية، والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقي ﴿ الظلمات والنور ﴾ يعني الكفر والإيمان ﴿ أم ﴾ يعني بل ﴿ جعلوا لله شركاء ﴾ والاستفهام للإنكار وقوله ﴿ خلقوا كخلقه ﴾ صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار﴿ فتشابه الخلق عليهم ﴾ خلق الله وخلق الشركاء، والمعنى اتخذوا شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق ﴿ قل الله خالق كل شيء ﴾ يعني كل ما يشاء من الأجسام والأعراض والأرواح المجردة لا خالق غير الله، ولا يتصور ممن لا يقتضي ذاته وجوده أن يوجد غيره فلا يجوز العبادة لغيره، ومن قال أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد بل هم خلقوها فهو ممن تشابه الخلق عليهم ﴿ وهو الواحد ﴾ المتوحد بالربوبية واستحقاق العبادة، بل المتوحد بالوجود المتأصل لا موجود غيره إلا بوجود هو ظل وجوده ﴿ القهار ﴾ الغالب على كل شيء لا يقاومه شيء، إذ لا يتصور من المعدوم في نفسه الموجود بغيره مقاومة ذلك الغير الذي هو الموجود المتأصل بوجوده.
﴿ أنزل ﴾ الله الواحد القهار ﴿ من السماء ماء فسالت أودية ﴾ جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه كقولك سال الميزاب، وتنكيرها لأن المطر إنما يأتي على طريق المتأدبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الماء دون بعض ﴿ بقدرها ﴾ أي بقدر الأودية في الصغر والكبر ﴿ فاحتمل السيل ﴾ أي الماء السائل في الأودية ﴿ زبدا ﴾ أي خبثا يظهر على وجه الماء ﴿ رابيا ﴾ عاليا مرتفعا فوق الماء الصافي ﴿ ومما يوقدون ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به والباقون بالتاء على الخطاب، والإيقاد جعل النار تحت شيء ليذوب، ومن لابتداء الغاية أي منه ينشأ زبد مثل زبد الماء، أو للتبعيض أي وبعض ما توقدون ﴿ عليه في النار ﴾ يعم الفلذات كالذهب والفضة والحديد والنحاس والصفر، والظرف حال من الضمير في عليه ﴿ ابتغاء حيلة ﴾ منصوب على الحال من فاعل يوقدون أو على العلة، يعني يوقدون مبتغين حيلة أو لابتغاء حلية أي زينة مثل الذهب، والفضة ﴿ أو متاع ﴾ أي ما يتمتع وينتفع به كالأواني من النحاس والصفر وغيرها وآلات الحرب والحرث من الحديد، والمقصود من ذلك بيان منافعها ﴿ زبد مثله ﴾ أي مثل زبد الماء وذلك خبثه الذي ينفيه الكير، وزبد فاعل لقوله ومما يوقدون أو مبتدأ وهو خبره المقدم عليه ﴿ كذلك يضرب الله ﴾ مثل ﴿ الحق والباطل ﴾ فإن الحق يعني العلم المنزل من السماء مثله في إفادته وانتفاع الناس به أنواع المنافع الدنيوية والأخروية، واتساع القلوب إياه بقدرها وسعتها، وثباته إلى يوم القيامة بل إلى أبد الآبدين كمثل الماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة وعلى قدر صغر الوادي وكبرها وينتفع به الناس أنواع المنافع ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار، وكمثل الفلذ الذي ينتفع به الناس في صوغ الحلي واتخاذ الأمتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة، والباطل يعني خرافات الكفار وهواجس النفس وخطوات الشيطان مثلها في انتشارها وشهرتها وعدم الانتفاع بها وعدم استقرارها كمثل الزبد المستعلي على الماء والفلز ﴿ فأما الزبد فيذهب جفاءا ﴾ يجفى به أي ما يرمي به السيل أو الفلز المذاب، يقال جفا الوادي وأجفا إذا ألقي غثاءه، وقيل : جفاء أي متفرقا يقال جفات الريح القسم أي فرقته وانتصابه على الحال فالباطل يرميه الحق ويفرقه ﴿ وأما ما ينفع الناس ﴾ من الماء والفلز وكذلك العلم النافع ﴿ فيمكث في الأرض ﴾ أي يبقى ولا يذهب وينتفع به الناس ﴿ كذلك ﴾ أي كما ضرب الله المثل للحق والباطل ﴿ يضرب الله الأمثال ﴾ لإيضاح المشتبهات، قيل هذه تسلية للمؤمنين بزوال ظلمة الكفر وإن كان في الصورة عاليا مستعليا وبقاء نور الإسلام واستقراره إلى يوم القيامة.
﴿ للذين استجابوا ﴾ أي أجابوا ﴿ لربهم ﴾ دعوته إلى الإسلام وأطاعوه فيما أمرهم به ﴿ الحسنى ﴾ صفة لمصدر يعني الاستجابة الحسنى أو مفعول به يعني استجابوا لربهم الدعوة الحسنى ﴿ والذين لم يستجيبوا له ﴾ يعني الكفار واللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما، وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهي التوبة الحسنى أو الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره ﴿ لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لاقتدوا به ﴾ يوم القيامة لفكاك أنفسهم من النار وعلى التأويل الثاني هذا كلام مبتدأ لمال غير المستجيبين ﴿ أولئك لهم سوء الحساب ﴾ وهو أن يناقش فيه ولا يغفر من ذنبه شيء كذا قال إبراهيم النخعي ﴿ ومأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾ مهادهم وهو جهنم قال الله تعالى :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾١٨.
﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك ﴾ هو ﴿ الحق ﴾ فيؤمن ويعمل بمقتضاه ﴿ كمن هو أعمى ﴾ القلب لا يستبصر ولا يدرك الحق من الباطل، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيشتبه أمر الفريقين بعدما ضرب من المثل فمن يعلم يكون عند المخاطب كمن هو أعمى، لا، قيل نزلت الآية في حمزة أو عمار وأبي جهل فالأول حمزة أو عمار والثاني أبو جهل ﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾ أي ذو العقول السليمة المنزهة عن شائبة الأنف ومعارضة الوهم.
﴿ الذين يوفون بعهد الله ﴾ أي ما عوهدوا على أنفسهم يوم الميثاق من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى، وما عاهد الله عليهم في كتبه من امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي ﴿ ولا ينقضون الميثاق ﴾ ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبينهم وبين العباد فهو تعميم بعد تخصيص.
﴿ والذين يصلون ما آمر الله به أن يوصل ﴾ هذا لفظ عام مندرج فيه الإيمان بجميع الكتب والرسل بحيث لا يفرق بين أحد منهم، وموالاة المؤمنين وصلة الرحم، وقال البغوي الأكثرون على أن المراد صلة الرحم، عن عبد الرحمان بن عوف قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله رضي الله عنه :( أنا الله وأنا الرحمان خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته )١٩ رواه أبو داود، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوى الرحمان فقال : مه، هذا مقام العائد بك من القطيعة، قال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت : بلى يا رب قال : فذاك لك )٢٠ متفق عليه، وعن عبد الرحمان بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة تحت العرش يوم القيامة القرآن يحاج العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله ) رواه البغوي والحكيم ومحمد بن نصر، وعن أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أحب أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه )٢١ متفق عليه، وعن أبي أيوب الأنصاري قال : عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله فقال : أخبرني ما يقربني من الجنة و يباعدني عن النار ؟ فقال عليه السلام ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ) رواه البغوي، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :( ليس الواصل المكافئ ولكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها )٢٢ رواه البخاري، وعن أبي هريرة قال : قال رجل يا رسول الله من أحق بحسن صحابتي ؟ قال : أمك أمك : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال : أمك، قال : ثم من ؟ قال أبوك ) وفي رواية ( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك وأدناك )٢٣ متفق عليه، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي )٢٤ رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم في صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر )٢٥ رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب ﴿ ويخشون ربهم ﴾ أي وعيده عموما ﴿ ويخافون سوء الحساب ﴾ خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
﴿ والذين صبروا ﴾ قال ابن عباس على ما أمروا به، وقال عطاء على المصائب والنوائب، وقيل : عن الشهوات، وقيل عن المعاصي، والأولى أن يقدر على مخالفة الهوى فيعم جميع الأقوال ﴿ ابتغاء وجه ربهم ﴾ أي طلبا لمرضاته لا لغرض من أغراض الدنيا أو رياء أو سمعة ﴿ وأقاموا الصلاة ﴾ المفروضة وما شاءوا من السنن والنوافل
﴿ وأنفقوا مما رزقناهم ﴾ أي بعضه في الزكاة المفروضة والنفقات الواجبة والصدقات النافلة ﴿ سرا وعلانية ﴾ السر أفضل في النافلة، والعلانية في المفروضة نفيا للتهمة، وقدم السر على العلانية لأن الغالب من حال المسلم الصدقة النافلة، وقل ما يجب على المسلم الزكاة ﴿ ويدرءون الحسنة بالسيئة ﴾ قال ابن عباس أي يدفعون بالصالح من العمل السيئ نظيره قوله تعالى :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾٢٦ عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها )٢٧ رواه أحمد بسند صحيح، وروى ابن عساكر عن عمر ابن الأسود مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا عملت عشر سيئات فاعمل حسنة تحدرهن بها ) وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنا ت كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة فانفكت أخرى حتى طرح إلى الأرض ) رواه الطبراني، وقال ابن كيسان معنى الآية يدفعون الذنب بالتوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا عملت سيئة فأحدث عندها توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية ) رواه أحمد في الزهد عن عطاء مرسلا، وقيل : معناه لا يكافؤ الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير، وقال السدي معناه إذا سفه عليهم حلموا، فالسفه السيئة والحلم الحسنة، وقال : قتادة ردوا عليه معروفا، نظيره قوله تعالى :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾٢٨ قال : الحسن إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا، عن أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي ؟ قال :( لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال منك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك )٢٩ رواه مسلم، قال عبد الله بن المبارك هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة ﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾ العقبى جزاء الأمر وأعقبه جازاه كذا في القاموس، سمي جزاء الفعل عقبى لأنه يعقبه لكن العقبة والعقبى والعاقبة مختصة بالثواب وخير الجزاء على الحسنة، كما أن العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء على السيئة، قال الله تعالى في الثواب :﴿ خير ثوابا وخير عقبا ﴾٣٠ وقال :﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾٣١ و ﴿ فنعم عقبى الدار ﴾٣٢ وقال :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾٣٣ وقال في العذاب :﴿ فحق عقاب ﴾٣٤ ﴿ شديد العقاب ﴾٣٥ وقال :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴾٣٦ وقال :﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ﴾٣٧ لكن بالإضافة يستعمل العاقبة في العقوبة أيضا قال الله تعالى :﴿ ثم كان عاقبة الذين أساءوا ﴾٣٨ ﴿ فكان عاقبتهما أنهما في النار ﴾٣٩ فهو ما مستعمل بالاشتراك أو يكون استعارة من ضده كقوله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾٤٠ والمراد بالدار النشأة الآخرة فإنها المستقر بخلاف الدنيا فإنها معبر، وإضافة العقبى إلى الدار بمعنى في كمصارع مصر، والمعنى أولئك لهم جزاء حسن في الدار الآخرة، والجملة خبر للموصولات إن رفعت بالابتداء وإن جعلت صفات لأولي الألباب فاستيناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
﴿ جنات عدن ﴾ أي إقامة عطف بيان لعقبى الدار أو مبتدأ خبره ﴿ يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم ﴾ عطف على الضمير المرفوع في يدخلون وساغ عند البصريين للفصل بالضمير المنصوب وقال الزجاج هو مفعول معه، والمراد بالصلاح نفس الإيمان فحسب لإكمال الصلاح المراد بقوله :﴿ وألحقني بالصالحين ﴾٤١ بدليل العطف، فإن العطف يقتضي المغايرة ولو كان المراد بالصلاح كماله لدخل المعطوف في المعطوف عليه، فهذه الآية تدل على أن الله تعالى يعطي درجات الكاملين من لم يبلغ درجتهم ولم يعمل مثل أعمالهم من آبائهم وأزواجهم وذريتهم تطييبا لقلوبهم وتعظيما لشأنهم بشرط إيمانهم، فإن التقييد بالصلاح يفيد أن مجرد الأنساب لا تنفع بدون الإيمان و الأمهات تدخل في حكم الآباء بدلالة النص، ويشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم :( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس وعن المسور بن مخرمة، وروى ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح بلفظ ( كل نسب وصهر ينقطع إلا نسبي وصهري ) فإن هذا الحديث يدل على أن قرابة غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد يوم القيامة، وحل هذا الإشكال عندي أن المؤمنين كلهم أبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه وأمهاتهم ﴾٤٢ وزاد أبي في قراءته ( وهو أب لهم ) وقال الله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾٤٣ وقد ذكرنا في تفسير سورة الكوثر أن العاص بن وائل حين قال في النبي صلى الله عليه وسلم دعوة فإنه رجل أبتر لا عقب له، فأنزل الله تعالى فيه :﴿ إن شانئك هو الأبتر٣ ﴾ مع أنه كان لعاص بن وائل عقب وهو عمر وهشام، وإن تأويله أن عمرا وهشاما أسلما فقد انقطعت بينه وبينهما حتى لا يرثانه فهما من أبناء النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا معنى الحديث ( كل نسب وسبب منقطع إلا سببي ونسبي ) ولو بواسطة يعني نسبي ونسب أبنائي وإن سفلوا وسببي ومن له مني سبب، فكأن المراد أن قرابات الكفار وموالاتهم تنقطع دون قرابات المؤمنين وموالاتهم نظيره قوله تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين٦٧ ﴾٤٤ ﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴾ من أبواب الجنة أو من أبواب قصورهم أو من أبواب الفتوح والتحف، قال مقاتل يدخلون عليهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف قائلين ﴿ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾.
﴿ سلام عليكم ﴾ في موضع الحال بتقدير القول كما ذكرنا يعني سلمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونها ولا زوال لما أنعم الله عليكم ﴿ بما صبرتم ﴾ متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذا الثواب بما صبرتم عن المعاصي على الطاعات على خلاف الأهواء وعلى المصائب، وليس متعلقا بسلام فإن الخبر فاصل والباء للسببية ﴿ فنعم عقبى الدار ﴾ عقباهم عن أبي أمامة قال :( إن المؤمن ليكون على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سلطا ن من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك من ملائكة الله تعالى يستأذن فيقوم أدنى الخدم إلى الباب فإذا هو بالملك يستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن ويقول للذي يليه ائذنوا له كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف ) رواه البغوي، وعن ابن عمر عن رسول الله صلى عليه وسلم قال :( أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله لمن يشاء من ملائكته أئتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم، قال الله تعالى إنهم كانوا عبادا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك ﴿ يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار ﴾٤٥.
﴿ والذين ينقضون عهد الله ﴾ يعني مقابلي الأولين ﴿ من بعد ميثاقه ﴾ أي بعدما أوثقوه به من الإقرار والقبول ﴿ ويقطعون ما آمر الله به أن يوصل ﴾ يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويفرقون بين الله ورسوله ويقطعون الأرحام ﴿ ويفسدون في الأرض ﴾ يعملون بالمعاصي ويهلكون الحرث والنسل ويقطعون السبيل ويبغون بغير الحق، عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم )٤٦ رواه أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان، وعن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة قاطع رحم )٤٧ متفق عليه، وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا ينزل الرحمة على قوم فيه قاطع رحم ) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر )٤٨ رواه النسائي والدرامي ﴿ أولئك لهم النعمة ﴾ البعد من رحمة الله ﴿ ولهم سوء الدار ﴾ يعني الجزاء السوء في الدار الآخرة وهو نار جهنم.
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء ﴿ وفرحوا ﴾ يعني أهل مكة أشروا وبطروا ﴿ بالحياة الدنيا ﴾ أي بما بسط لهم من الرزق وغيره في الدار الدنيا ولم يشكروا ﴿ وما الحياة الدنيا في ﴾ جنب الحياة ﴿ الآخرة إلا متاع ﴾ أي متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي، لا يصلح نعيمها لأن يقنع عليها ويهمل السعي للآخرة، ويفرح بها ويبطر بل ينبغي أن تصرف فيما يستوجبون به نعيم الآخرة.
﴿ ويقول الذين كفروا ﴾ بعدما رأوا المعجزات الباهرة والآيات القاطعة ﴿ لولا أنزل عليه ﴾ أي على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آية من ربه ﴾ يشهد له يعني اقتراحوا الآيات عنادا وتعنتا ﴿ قل إن الله يضل من يشاء ﴾ يعني لا قصور في نزول الآيات وقيام الشواهد لكن الآيات لا توجب الهداية، إنما الهداية والضلال بيد الله تعالى يضل من يشاء ممن كان على صفتكم فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية ﴿ ويهدي إليه ﴾ أي إلى الإيمان به وطاعته والترقي إلى مدارج قربه والى جنته ﴿ من أناب ﴾ يعني من يشاء الله إنابته فأناب يعني أقبل إليه بقلبه ورجع عن العناد، فالله يهديه بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.
﴿ الذين آمنوا ﴾ بدل من قوله ﴿ من أناب ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف ﴿ وتطمئن قلوبهم بذكر الله ﴾ يعني يستقر فيها الإيمان واليقين ويزول عنه الريب والشك بذكر الله تعالى يعني القرآن، فإن الإيمان طمأنينة والنفاق شك وريبة، أو المعنى يزول وسواس الشيطان عن قلوب المؤمنين بذكر الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من آدمي إلا ولقلبه بيتان : في أحدهما الملك وفي الآخر الشيطان فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه فوسوس له ) رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد الله بن شقيق ورواه البخاري تعليقا عن ابن عباس مرفوعا بلفظ ( الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس ) أو المعنى أن القلوب الصافية للمؤمنين إنما قوتهم ذكر الله تعالى فإذا ذكروا الله تطمئن قلوبهم أنسا به تعالى كاطمئنان السمك في الماء، وحيوان البر في الهواء، والوحش في الصحراء، وإذا غشيهم غاشية توجب الغفلة أو ابتلوا بصحبة أهل الغفلة لحق قلوبهم اضطراب وقلق، كما يلحق الاضطراب للسمك خارج الماء ولحيوان البر في الماء وللوحش في القفص، وهذه الحالة بديهية من الوجدانيات لخدام الصوفية العلية، فالمراد بقوله :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ﴾ هم الصوفية ﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾ أي القلوب المزكية قال البغوي فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾٤٩ فكيف يكون الطمأنينة والوجل في حالة واحدة ؟ قيل : الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب، فالقلب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه، وهذا الكلام يقتضي المنافاة بين الطمأنينة والوجل، وعندي لا منافاة بينهما فإن الطمأنينة المبنية على الأنس يجتمع مع الوجل، وأيضا الخوف والرجاء يجتمعان في حالة واحدة، عن أنس قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت، فقال كيف تجدك قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف )٥٠ رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حديث غريب.
﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم ﴾ فعلى من الطيب مصدر طاب يطيب كبشرى وزلفى قلبت ياؤه واو الضمة ما قبلها، ومحله الرفع أو النصب كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما عليك وسلام عليك، واللام في لهم للبيان نحو سقيا لك، ومعناه على قول ابن عباس فرح لهم وقرة عين، وقال عكرمة نعم مالهم، وقال قتادة حسنى لهم، وقال معمر عن قتادة يقول الرجل طوبى لك إذا أصبت خيرا، وقال إبراهيم خير لهم وكرامة، وقال سعيد بن جبير طوبى اسم الجنة بالحبشية، وقال البغوي روي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء رضي الله عنهم قالوا :( طوبى شجرة في الجنة يظل الجنان كلها ) وقال عبيد بن عمير هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة غصن منها، لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلا وفيها منها إلا السواد، ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها، ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل، وقال مقاتل كل ورقة منها يظل أمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح، أخرج أحمد وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن عتبة ابن عبد الله السلمي قال : قال أعرابي يا رسول الله في الجنة فاكهة ؟ قال : نعم فيها شجرة طوبى يطابق الفردوس، قال : أي شجرة أرضنا يشبه، قال : ليس يشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام ؟ قال : لا، قال : فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينشر أعلاها قال : ما عظم أصلها ؟ قال : لو ارتحلت برمة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر هرما، قال : فهل فيها عنب، قال : نعم قال : ما عظم العنقود منها ؟ قال : مسيرة شهر للغراب الأبقع قال : ما عظم الجثة منها ؟ قال : هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما قط ؟ قال : نعم قال : فاسلخ إهابة فأعطى أمك فقال إدبغي هذا ثم أفرى لنا منه دلوا نروي فيه ماشينا، قال : فإن تلك الحبة يشبعني وأهل بيتي قال : نعم وعامة عشيرتك. وروي عن أبي سعيد الخدري قال : إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما طوبى ؟ قال :( شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ) رواه ابن حبان وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه :( طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها ليرى من وراء سور الجنة ) وروى البغوي بسند عن أبي هريرة قال :( إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرأوا إن شئتم ﴿ وظل ممدود٣٠ ﴾٥١ متفق عليه وأخرجه أحمد وزاد في آخره ( وإن ورقها ليخمر الجنة ) وأخرج البغوي وهناد بن سري في الزهد وزاد في آخره فبلغ ذلك كعبا فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم أدار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما، إن الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة، ما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وعن أبي هريرة قال في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول لها الله تعالى تفتقي لعبدي عما يشاء فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما يشاء، وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمانها وهيئتها كما يشاء، وعن الثياب، رواه ابن أبي الدنيا والبغوي. وأخرج ابن المبارك وابن جرير عن شهر بن حوشب قال طوبى شجرة في الجنة كل شجرة الجنة من أغصانها من وراء سرر الجنة ﴿ وحسن مئاب ﴾ أي حسن المنقلب.
﴿ كذلك ﴾ يعني مثل إرسالنا الرسل قبلك ﴿ أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ في أمة قد خلت ﴾ مضت ﴿ من قبلها أمم ﴾ أرسلوا إليهم فليس إرسالك أمر مبدعا ﴿ لتتلوا ﴾ لتقرأ ﴿ عليهم ﴾ القرآن ﴿ الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ﴾ وحالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسع كل شيء رحمته، فلم يشكروا نعمته خصوصا لم يشكروا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية والدنيوية عليهم، قال البغوي قال قتادة ومقاتل وابن جريج نزلت الآية في صلح الحديبية، وكذا أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح كما ذكرنا القصة في سورة الفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ( أكتب باسم الله الرحمان الرحيم، قالوا : لا نعرف الرحمان إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم، فهذا معنى قوله وهم يكفرون بالرحمان ) قال البغوي والمعروف أن الآية مكية وسبب نزولها أن أبا جهل سمع محمدا صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يالله يا رحمان فرجع إلى المشركين فقال إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو الرحمان ولا نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة، فنزلت هذه الآية ونزلت :﴿ قل إدعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾٥٢ وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان ﴾٥٣ ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هو ربي ﴾ أي الرحمان الذي أنكرتم معرفته هو خالقي ومتولي أمري ﴿ لا إله ﴾ لا يستحق العبادة ﴿ إلا هو عليه توكلت ﴾ اعتمدت في نصرتي عليكم ﴿ وإليه متاب ﴾ توبتي أو إليه مرجعي فيثيبني، قرأ يعقوب مثابي وعقابي ومآبي بالياء في الحالين والباقون يحذفونها.
أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول نكلمهم من الموتى وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة فنزلت. ﴿ ولو أن قرآنا سيرت به ﴾ الآية وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطية العوفي قال قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لو سيرت جبال مكة حتى يتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح وأحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي لنا الموتى لقومه فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر البغوي مبسوطا أن الآية نزلت في نفر من مشركي مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية : جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الله بن أمية إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن حتى ينفسح فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس فيها الأشجار ونزرع ونتخذ البساتين، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود سخرت له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا، فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ولست بأهون على ربك من سليمان، وأحيي لنا جدك قصيا أو من شئت من موتانا لنسئله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل، فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخرج أبو يعلى في مسنده من حديث الزبير بن العوام بمعناه يعني لو ثبت أن قرآنا يعني كتابا من الكتب السماوية سيرت به ﴿ الجبال ﴾ أي أزيلت عن مقارها ﴿ أو قطعت به الأرض ﴾ في السير بأن يسخر الله الريح فيركبونها ويقطعون الأرض أو شققت الأرض فجعلت أنهارا وعيونا ﴿ أو كلم به الموتى ﴾ أي أحيا به الموتى حتى تكلموا، تذكير كلم خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي، بل المراد قصتي وأمثاله، وجواب الشرط محذوف يعني لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز لكن الله سبحانه لم يقدر كذلك، أو لما آمنوا نظيرة قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ﴾٥٤ وقيل الجواب مقدم وهو قوله ﴿ وهم يكفرون بالرحمن ﴾ وما بينهما اعترض، كأنه قال لو سيرت به الجبال لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا، لما كتبناه عليهم من الشقاء ولأن مبادي تعيناتهم ظلال الاسم المضل فأنى لهم الهداية ﴿ بل الله الأمر جميعا ﴾ إضراب عن كلام مقدر يدل عليه معنى لو من نفي تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى، تقديره ليس ذلك النفي لكون الأمور المذكورة غير مقدورة لله تعالى ﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾ فهو قادر على ما اقترحوا من الآيات وكل شيء سواه إلا أن إرادته لم يتعلق بذلك لعلمه بأنهم لا يؤمنون ﴿ ولو جآءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾٥٥ أو لأن الله تعالى لم يرد هدايتهم، قال البغوي إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا حتى يؤمنوا فأنزل الله تعالى أفلم ييئس قرأ البزي بفتح الياء من غير همز ﴿ الذين آمنوا ﴾ عن إيمانهم حتى طمعوا ذلك مع ما رأوا من أحوالهم أنهم رأوا من الآيات ما هو أعظم من ذلك فلم يؤمنوا ألا ترى أن انشقاق القمر بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أشد إعجازا من تسيير الجبال وتقطيع الأرض، وتكليم الحصى أشد إعجازا من تكليم الموتى وغير ذلك ما لا يحصى ﴿ أن ﴾ مخففة من الثقيلة أي أنه ﴿ لو يشاء الله ﴾ متعلق بمحذوف تقديره أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمانهم علما منهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أو متعلق بآمنوا وإن مصدرية يعني الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقال أكثر المفسرين معنى أفلم ييئس أفلم يعلم، قال الكلبي هي لغة النخع وقيل لغة هوازن وأنكر الفرآء أن يكون بمعنى العلم وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول يئست بمعنى علمت ويمكن أن يقال أنه استعمل الإياس بمعنى العلم مجازا لأنه مسبب عن العلم فإن الميؤوس عنه لا يكون إلا معلوما ولذلك علقه بقوله أن لو يشاء الله أي أنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا والسبب لهذا القول ما أخرج ابن جرير عن علي وأبو عبيدة وسعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنهما قرأ أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا فكأنه تفسير لقوله أفلم ييئسوا والله أعلم.
﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا ﴾ من الكفر والأعمال الخبيثة ﴿ قارعة ﴾ أي داهية تقرعهم من أنواع البلاء أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل والأسر، قال ابن عباس أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم ﴿ أو تحل ﴾ يعني القارعة من السرايا وغير ذلك ﴿ قريبا من دراهم ﴾ فيقرعون منها ويتطاير إليهم شررها، وقيل معناه أو تحل أنت يا محمد بنفسك الكريمة قريبا من دارهم وقد حل بالحديبية والآية على هذا أو على ما قال ابن عباس في كفار مكة ﴿ حتى يأتي وعد الله ﴾ أي الموت أو القيامة إن كانت الآية عامة أو فتح مكة إن كانت في كفار مكة ﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾ لامتناع الكذب والخلف في كلامه.
ولما كان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء أنزل ابن عباس تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك ﴾
كما يستهزؤون بك ﴿ فأمليت للذين كفروا ﴾ الملوة المدة الطويلة من الدهر ومنه الملوان الليل والنهار باعتبار امتدادهما، وليست حقيقة الليل والنهار بدليل قول الشاعر نهار وليل دائم ملوهما على كل حال المرء يختلفان، فلو كانا الليل والنهار لما أضيف إلى ضميرهما فمعنى أمليت للذين كفروا تركتم في مدة من الدهر من غير تعذيب وأمهلتهم ﴿ ثم أخذتهم ﴾ بالعقوبة ﴿ فكيف كان عقاب ﴾ عقابي إياهم أي هو واقع موقعة فكذلك أفعل بمن استهزأ بك.
﴿ أفمن هو قائم على كل نفس ﴾ رقيب عليه ﴿ بما كسبت ﴾ من خير وشر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم و لا يفوت عنده شيء من جزائهم والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك، والاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أتشركون بالله أصناما فتجعلون من هو قائم على كل نفس لمن ليس كذلك وهو جماد عاجز عن نفسه يعني ليس كذلك فلا تشركوا به ﴿ وجعلوا لله شركاء ﴾ استئناف أو لطف على كسبت إن جعل ما مصدرية، أو على مقدر تقديره لم يوحدوه وجعلوا لله شركاء، ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على أنه المستحق للعبادة ﴿ قل سموهم ﴾ يعني صفوهم فانظروا هل هم يستحقون العبادة ويستأهلون الشركة ﴿ أم تنبئونه ﴾ أي بل أتخبرون الله ﴿ بما لا يعلم في الأرض ﴾ أي بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم الله، أو بصفات للأصنام يستحقون العبادة لأجلها لا يعلمها الله، وهو العالم بكل ما هو كائن ﴿ أم بظاهر من القول ﴾ أم تسمونها شركاء بظاهر من القول مسموع ليس لها مصدق أصلا، كتسمية الزنجي كافورا، وقيل معناه بباطل من القول قال الشاعر.
وعيرني الواشون إلى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عاريها
أي باطل ﴿ بل زين للذين كفروا ﴾ يعني زين لهم الشيطان ﴿ مكرهم ﴾ أي كيدهم وتمويههم فتخيلوا أباطيل أو كيدهم للإسلام بشركهم ﴿ وصدوا عن السبيل ﴾ قرأ الكوفيون بضم الصاد ههنا وفي حم المؤمن أي صرفوا عن الدين صرفهم الله تعالى وأضلهم الشيطان، وقرأ الباقون بالفتح أي صدوا الناس عن الإيمان وطريق الهدى ﴿ ومن يضلل الله ﴾ بخذلانه إياه ﴿ فما له من هاد ﴾ يوفقه للهدى.
﴿ لهم عذاب في الحياة الدنيا ﴾ بالقتل والأسر وضرب الجزية ﴿ ولعذاب الآخرة أشق ﴾ أشد وادوم منه ﴿ وما لهم من الله ﴾ أي من عذابه، أو من رحمته ﴿ من واق ﴾ حافظ.
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون ﴾ أي صفتها التي هي مثل في الحسن والغرابة، مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه، أي فيما يقص عليكم وما بعده حال من العائد المحذوف من الصلة، وقيل خبره ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ على طريقة قولك صفة زيد اسمه، أو على حذف الموصوف أي مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، أو يقال لفظ المثل زائد والمعنى الجنة التي وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار ﴿ أكلها ﴾ أي ثمرها ﴿ دائم ﴾ لا ينقطع، أخرج البزار والطبراني عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلى عليه وسلم يقول " لا ينزع رجل من أهل الجنة ثمرها إلا أعيد في مكانها مثلها " وفي هذه الآية، والحديث رد على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفنى ﴿ وظلها ﴾ أي وظلها أي كذلك لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس، أخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال خرجت أنا وأبو العالية الرياحي قبل طلوع الشمس فقال نبئت أن الجنة هكذا ثم تلا ﴿ وظل ممدود ٣٠ ﴾
﴿ تلك ﴾ أي الجنة الموصوفة بما ذكرنا ﴿ عقبى الذين اتقوا ﴾ أي جزاؤهم أو مالهم ومنتهى أمرهم ﴿ وعقبى الكافرين النار ﴾ إن كان العقبى بمعنى الجزاء فاستعماله ههنا على سبيل الاستعارة، كما في قوله تعالى :﴿ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ٣٦ ﴾﴿ فبشرهم بعذاب اليم ﴾.
﴿ والذين آتيناهم الكتاب ﴾ يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ومن آمن من النصارى من أهل الحبشة وغيرهم ﴿ يفرحون بما أنزل إليك ﴾ من قرآن لموافقته ما عندهم ﴿ ومن الأحزاب ﴾ يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الذين كفروا من اليهود والنصارى ككعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب وأمثالهما ﴿ من ينكر بعضه ﴾ وهو يخالف أهواءهم أو ما يخالف شرائعهم من شريعتنا ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال البغوي قال جماعة كان ذكر الرحمن قليلا في كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به، فأنزل الله هذه الآية.
وقيل المراد بقوله ﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعني مسيلمة الكذاب فأنزل الله ﴿ وهم بذكر الرحمن هم كافرون٣٦ ﴾٥٦ وهم يكفرون بالرحمن وإنما قال بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما أمرت أن ﴾ أي بأن ﴿ أعبد الله ولا أشرك به ﴾ الآية إن كان في جواب منكري أهل الكتاب فالمعنى قل لهم إني أمرت فيما أنزل إلي أن أعبد الله وأوحده، وهو العمدة في الدين ولا سبيل لكم إلى إنكاره، وأما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم من الأحكام فليس ببدع، فإن الشرائع والكتب السماوية ينسخ بعضها بعضا في جزئيات الأحكام، وإن كان في عامة الكفار فالمعنى إني أمرت أن أعبد الله وحده، وذكره بأسماء كثيرة من الله والرحمن والرحيم لا ينافي التوحيد فإنكاركم على اسم الرحمن لا معنى له، ولعل إنكارهم ذكر الرحمن مبني على أن استعدادهم يأبي عن رحمة الله تعالى ﴿ إليه أدعوا ﴾ الناس لا إلى غيره ﴿ وإليه ﴾ لا إلى غيره ﴿ مئاب ﴾ مرجعي ولا سبيل إلى إنكار ذلك
﴿ وكذلك ﴾ أي مثل أنزلنا الكتب السابقة بلغات من أرسل إليهم ﴿ أنزلناه ﴾ أي القرآن عليك ﴿ حكما ﴾ في القضايا والوقائع والحل والحرمة وغيرها على ما يقتضيه الحكمة ﴿ عربيا ﴾ مترجما بلسان قومك العرب ليسهل لك ولقومك فهمه ﴿ ولئن اتبعت أهوائهم ﴾ فيما أنكروا عليك فرضا ﴿ بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ﴾ يعني ناصر وحافظ يقيك ويمنع العقاب عنك.
روي أن اليهود قالوا أن هذا الرجل ليس له همة إلا في النساء فأنزل الله تعالى ﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ﴾ بشرا مثلك لا ملائكة ﴿ وجعلنا لهم أزواجا وذرية ﴾ أي نساء وأولادا كما هي لك ﴿ وما كان لرسول ﴾ أي ما صح له يكون في وسع أحد منهم ﴿ أن يأتي بآية ﴾ يقترح عليه وحكم يلتمس منه ﴿ إلا بإذن الله ﴾ لأنهم عبيد مربوبون ﴿ لكل أجل كتاب ﴾ أي لكل أمد، ولوقت كل شيء كتاب كتب الله في الأزل بدايته ونهايته، يعني كتب الله في الأزل أن زيدا يولد في وقت كذا أو يبقى منذ كذا كافرا ويسلم في وقت كذا ونحو ذلك، وكذا النزول آية من القرآن أو معجزة قضي وجوده وقت مكتوب عند الله لا يتقدمه ولا يتأخر وإن استعجل الناس، وجاز أن يكون هذا متعلقا بقوله تعالى ﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾ على أن يكون تلك الآية في إنكار أهل الكتاب على أحكام يخالف أحكام التوراة يقول الله لكل أمد ووقت حكم يكتب على العباد على ما يقتضي استصلاحهم.
﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعاصم يثبت بالتخفيف من الأفعال، والباقون بالتشديد من التفعيل. واختلفوا في معنى الآية ؟ قال سعيد بن جبير وقتادة يمحو الله ما يشاء من الفرائض والشرائع فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه، وهذا يناسب التأويل الثاني للآية المتقدمة عليها، وقال ابن عباس يمحو الله ما يشاء ويثبت يعني مما كان في اللوح، فما كان مكتوبا قابلا للمحو يسمي بالقضاء المعلق، يمحوه الله تعالى بإيجاد ما علق محوه به، سواء كان ذلك التعليق مكتوبا في اللوح أو مضمرا في علم الله تعالى، وما ليس قابلا للمحو يسمى بالقضاء المبرم، وذلك القضاء لا يرد قال ابن عباس يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة يعني أنها لا تمحى، قال البغوي روينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول يا رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان، فيقول أي رب أذكر أم أنثى ؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص ).
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم تكون علقة مثل ذلك، ثم تكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح )٥٧ الحديث وقال البغوي وعن عمرو ابن مسعود أنهما قالا يمحو السعادة والشقاوة أيضا ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء، وروي عن عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت علي الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار أن الرجل قد يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد يكون قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة، ثم روى البغوي بسنده إلى أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت ) أخرج ابن مردويه عن علي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال :( لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي من بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبر الوالدين وإصناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ).
قلت : ويوافق مذهب عمرو ابن مسعود عليهما السلام ما ذكر في المقامات المجددية أن المجدد ببصيرة الكشف مكتوبا في ناصية ملا طاهر الآهوري شقي، وكان ملا طاهر معلما لابنيه الكريمين محمد سعيد ومحمد معصوم ث، فذكر المجدد ما أبصر لولديه الشريفين، فالتمسا منه رضي الله عنهم أن يدعو الله سبحانه أن يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة، فقال المجدد نظرت في اللوح المحفوظ فإذا فيه أنه قضاء مبرم لا يمكن رده، فألجأ ولداه الكريمان في الدعاء لما التمسا منه، تذكرت ما قال غوث الثقلين السيد السند محي الدين عبد القادر الجيلاني أن القضاء المبرم أيضا يرد بدعوتي، فدعوت الله سبحانه وقلت اللهم رحمتك واسعة وفضلك غير معتصر على أحد، أرجوك واسئلك من فضلك العميم أن تجيب دعوتي في محو كتاب الشقاء من ناصية ملا طاهر، وإثبات السعادة مكانه، كما أجبت دعوة سيد السند، قال : فكأني أنظر إلى ناصية ملا طاهر أنه محيي منها كلمة شقي وكتب مكانه سعيد ﴿ وما ذلك على الله بعزيز٢٠ ﴾ ثم أشكل علي هذا الأمر وقلت ما معنى رد القضاء المبرم بدعاء أخذ فإنه لا مرد لقضائه المبرم بوجه من الوجوه، وإلا لا يكون المبرم مبرما، وهذا خلف أو يلزم المحال، فألهمني الله تعالى حل ذلك الإشكال أن القضاء المعلق نوعان : أحدهما ما كتب في اللوح المحفوظ تعليقه وكتب أن رد هذا القضاء معلق بأمر كذا، وثانيهما ما لم يكتب تعليقه في اللوح، فهو في اللوح على صورة المبرم ومعلق محوه وإثباته في علم الله تعالى، فما قال السيد السند إن القضاء المبرم يرد بدعوتي، فذلك القضاء هو الذي في اللوح في صورة المبرم وليس مبرما في علم الله تعالى، وكان شقاوة ملا طاهر من هذا القبيل مبرما في اللوح معلقا محوه بدعاء المجدد في علم الله تعالى والله أعلم.
وقال الضحاك والكلبي معنى الآية أن الحفظة يكتبون جميع أعمال ابن آدم وأقواله فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قوله أكلت وشربت دخلت وخرجت ونحوها من كلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب أو عقاب، قال الكلبي يكتب القول كله حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيها ثواب ولا عقاب، وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود يعصيه فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، ورجل يعمل بطاعة الله فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك )٥٨ وقال الحسن يمحو ما يشاء أي من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يحيي أجله إلى أجله، وعن سعيد بن جبير قال يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها، وقال عكرمة يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال :﴿ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ﴾٥٩ روى مسلم عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها وتخبأ عنه كبائرها، فيقال عملت يوم كذا كذا وكذا وهو يقر وليس ينكر وهو مشفق من الكبائر أن تخبى، فقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة، فيقول : إن لي ذنوبا لا أراها ههنا ) فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ٦٠، قلت : ولعل هذا في من إنغمص في بحار المحبوبية الصرفة من الصوفية العلية، وقال السدي يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس بيانه قوله تعالى :﴿ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾٦١ وقال الربيع هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته محاه فأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، بيانه قوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾٦٢ الآية، وقيل : معناه يمحو من كتاب الحفظة من أعمال العباد ما عمل رياء وسمعة ويثبت ما عمل لوجه الله خالصا، وقيل يمحو قوما ويثبت قوما ﴿ وعنده أم الكتاب ﴾ أي أصل الكتاب وهو علم الله، كذا قال كعب حين سأله ابن عباس عن أم الكتاب، وقال عكرمة عن ابن عباس هنا كتابان كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء، قال البغوي اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير، وعن عطاء عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وثلاثون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت.
﴿ وإن ما ﴾ فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة ﴿ نرينك ﴾ قبل موتك ﴿ بعض الذي نعدهم ﴾ ومن تعذيبهم ومغلوبيتهم في الدنيا واستيلاء أهل الإسلام كما أراه صلى الله عليه وسلم هزيمتهم وقتلهم وأسرهم يوم بدر الموعود بقوله تعالى ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾٦٣ وجواب الشرط محذوف أي فذاك ﴿ أو نتوفينك ﴾ قبل حلول ما نعدهم ثم نعذبهم فلا تغتم بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾ لا غير وقد أتيت به ﴿ وعلينا الحساب ﴾ والجزاء يوم القيامة فنجازيهم إذا صاروا إلينا ليس ذلك عليك
﴿ أولم يروا ﴾ يعني كفار مكة ﴿ أن نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ﴾ قال البغوي أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك، وتقدير الكلام على هذا ينكرون ما نعدهم بأنهم سينفقون أموالهم ﴿ ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾٦٤، ولم يروا أنا نأتي الأرض أي نقصد أرض الكفرة ننقصها من أطرافها بما نفتحه على المسلمين منها أرضا بعد أرض حوالي أرضهم فلا يعتبرون، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يهتم ولا يعلم أن الله يتم ما وعده من الظفر وقال قوم هو خراب الأرض ومعناه ألا يخافون أن نهلكهم ونخرب ديارهم ولم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ونهلك أهلها، ومثل ذلك قال مجاهد والشعبي ﴿ والله يحكم ﴾ في خلقه ما يشاء ﴿ لا معقب لحكمه ﴾ يعني لا راد لقضائه ولا ناقص لحكمه، والمعقب الذي يعقب الشيء ويكر عليه بالإبطال، والمعنى أنه تعالى حكم الإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار وذلك كائن لا مرد له، ومحل لا مع المنفي النصب على الحال أي يحكم نافذا حكمه ﴿ وهو سريع الحساب ﴾ فيحاسبهم في الآخرة بعدما يعذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا
﴿ وقد مكر الذين من قبلهم ﴾ أي قبل مشركي مكة مكر كفار الأمم السابقة بأنبيائهم والمؤمنين منهم كما مكر هؤلاء لك، والمكر إيصال المكروه إلى أحد من حيث لا يشعر ﴿ فلله المكر جميعا ﴾ أي عند الله جزاء مكرهم وقيل معناه إن الله خالق مكرهم جميعا بيده الخير والشر ومن عنده النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحدا إلا بإذنه فمكرهم كلا مكر ﴿ يعلم ما تكسب كل نفس ﴾ فيجازيه على حسب عمله فهذا هو المكر كله لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون، ﴿ وسيعلم الكفار ﴾ قرأ ابن عامر والكوفيون بصيغة الجمع وأهل الحجاز وأبو عمرو الكافر على التوحيد بإرادة الجنس، ﴿ لمن عقبى الدار ﴾ أي لمن جزاء الحسنات في الدار الآخرة من الفئتين، حين يأتيهم العذاب المعهود وهم في غفلة منه والمؤمنون يدخلون الجنة، وهذا كالتفسير لمكر الله بهم.
﴿ ويقول الذين كفروا ﴾ يعني كفار مكة وقيل : رؤساء اليهود ﴿ لست مرسلا قل ﴾ يا محمد ﴿ كفى بالله شهيدا ﴾ الباء زائدة دخلت على الفاعل وشهيدا تمييز من النسبة والمعنى كفى شهادة الله تعالى ﴿ بيني وبينكم ﴾ على صدقي فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها، وأنه تعالى هو الحاكم يوم الجزاء فلا يكون لهم عند الله عذر يومئذ ﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾ عطف على الله والمراد مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله، يعني ويشهد أيضا المؤمنون من أحبار اليهود ولا يضر إنكار الكافرين منهم، لأن إقرار من أقر منهم لا تهمة فيه أصلا، وأما إنكار الكفار منهم فمبني على الحسد والعناد لأجل المال والجاه، ولأجل هذا التأويل قيل هذه الآية من هذه السورة مدنية وإن كانت سائرها مكية وأنكر الشعبي وأبو بشر هذا التأويل، قالا السورة مكية وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، قلت : لو سلمنا كون الآية مكية فلا مانع أن يكون المراد بالموصول أهل الكتاب، كأنه إرشاد لكفار أهل مكة بأنه إن لم يستيقنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فاسئلوا أهل الكتاب سيشهد لكم ثقات منهم، وقال الحسن ومجاهد ﴿ ومن عند علم الكتاب ﴾ هو الله تعالى والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والمعنى كفى شهيدا الذي يستحق العبادة، ومن لا يعلم ما في اللوح إلا هو فنجزي الكاذب منا، ويؤيده قراءة الحسن وسعيد بن جبير من عنده بكسر الميم والدال على أن من جارة وعلم الكتاب على صيغة الفعل الماضي المجهول والله أعلم.
تمت تفسير سورة الرعد عاشر ربيع الثاني سنة ألف ومائتين واثنين سنة١٢٠٢وسيتلوها سورة إبراهيم عليه السلام إن شاء الله تعالى.
١ أخرجه مسلم في كتاب : الزكاة، باب : في تقديم الزكاة ومنعها ( ٩٨٣ ).
٢ أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الرعد ( ٣١١٨ ).
٣ سورة الإسراء، الآية : ٨٢.
٤ سورة الواقعة، الآية : ٤٧.
٥ سورة السجدة، الآية : ١٠.
٦ سورة الأنفال، الآية : ٣٢.
٧ أخرجه ابن ماجة في كتاب : الزهد، باب : ذكر التوبة ( ٤٢٥٠ ).
٨ سورة آل عمران، الآية : ١٢٩.
٩ سورة البقرة، الآية : ١٤٢.
١٠ سورة الحجر، الآية : ٦٣.
١١ سورة يوسف، الآية : ٦٥.
١٢ سورة الأحقاف، الآية : ١٥.
١٣ سورة لقمان، الآية : ١٤.
١٤ أخرجه البخاري في كتاب : مواقيت الصلاة، باب : فضل صلاة العصر ( ٥٥٥ ) وأخرجه مسلم في كتاب : المساجد ومواضع الصلاة، باب : فضل صلاتي الصبح والعصر ( ٦٣٢ ).
١٥ سورة ق، الآية : ١٧.
١٦ أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الرعد ( ٣١١٧ ).
١٧ رواه أحمد والبزار وفيه صدقة بن موسى الدقيقي ضعفه ابن معين وغيره. انظر مجمع الزوائد في كتاب : الصلاة، باب : صلاة الاستسقاء ( ٣٢٧٨ ).
١٨ سورة الأعراف، الآية : ٤١.
١٩ أخرجه أبو داود في كتاب : الزكاة، باب : في صلة الرحم ( ١٦٩٣ ) وأخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة، باب : ما جاء في قطعية الرحم ( ١٩١٣ ).
٢٠ أخرجه البخاري في كتاب : الأدب، باب : من وصل وصله الله ( ٥٩٨٧ ) وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : صلة الرحم وتحريم قطعها ( ٢٥٥٤ ).
٢١ أخرجه البخاري في كتاب : البيوع، باب : من أحب البسط في الرزق ( ٢٠٦٧ ) وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : صلة الرحم وتحريم قطعها ( ٢٥٥٧ ).
٢٢ أخرجه البخاري في كتاب : الأدب، باب : ليس الواصل المكافئ ( ٥٩٩١ ).
٢٣ أخرجه البخاري في كتاب : الأدب، باب : من أحق الناس بحسن الصحبة ( ٥٩٧١ ) وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : بر الوالدين وهما أحق به ( ٢٥٤٨ ).
٢٤ أخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما ( ٢٥٥٢ ).
٢٥ أخرجه الترمذي في كتاب : البر والصلة، باب : ما جاء في تعليم النسب ( ١٩٨٥ ).
٢٦ سورة هود، الآية : ١١٤.
٢٧ رواه أحمد ورجاله ثقات.
٢٨ سورة الفرقان، الآية : ٦٣.
٢٩ أخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : صلة الرحم وتحريم قطيعتها ( ٢٥٥٨ ).
٣٠ سورة الكهف، الآية : ٤٤.
٣١ سورة الرعد، الآية : ٢٢.
٣٢ سورة الرعد، الآية : ٢٤.
٣٣ سورة الأعراف، الآية : ١٢٨.
٣٤ سورة ص، الآية : ١٤.
٣٥ سورة البقرة، الآية : ١٩٦.
٣٦ سورة النحل، الآية : ١٢٦.
٣٧ سورة الحج، الآية : ٦٠.
٣٨ سورة الروم، الآية : ١٠.
٣٩ سورة الحشر، الآية : ١٧.
٤٠ سورة آل عمران، الآية : ٢١.
٤١ سورة يوسف، الآية : ١٠١.
٤٢ سورة الأحزاب، الآية : ٦.
٤٣ سورة الحجرات، الآية : ١٠.
٤٤ سورة الزخرف، الآية : ٦٧.
٤٥ رواه أحمد والبزار والطبراني ورجالهم ثقات.
انظر مجمع الزوائد في كتاب : الزهد، باب : فضل الفقراء ( ١٧٨٨٦ ).
٤٦ أخرجه الترمذي في كتاب : صفة القيامة والرقائق والورع ( ٢٥١١ ).
٤٧ أخرجه البخاري في كتاب : الأدب، باب : إثم القاطع( ٢٥١١ ) وأخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : صلة الرحم وتحريم قطيعتها ( ٢٥٥٦ ).
٤٨ أخرجه النسائي في كتاب : الأشربة، باب : الرواية في المدمنين في الخمر ( ٦٧١ ).
٤٩ سورة الأنفال، الآية : ٢.
٥٠ أخرجه الترمذي في كتاب : الجنائز ( ٩٧٧ ).
٥١ أخرجه البخاري في كتاب : بدء الخلق، باب : ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة ( ٣٢٥٢ ) وأخرجه مسلم في كتاب : الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ( ٢٢ ).
٥٢ سورة الإسراء، الآية :
٥٣ سورة الفرقان، الآية :
٥٤ سورة الأنعام، الآية : ١١١.
٥٥ الآية :﴿ ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾ في سورة يونس، الآية : ٩٧.
٥٦ سورة الأنبياء، الآية : ٣٦.
٥٧ أخرجه البخاري في كتاب : بدء الخلق، باب : ذكر الملائكة ( )، أخرجه مسلم في كتاب : القدر، باب : كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ( ).
٥٨ أخرجه مسلم في كتاب : البر والصلة والآداب، باب : تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء ( ).
٥٩ سورة الفرقان، الآية :
٦٠ أخرجه مسلم في كتاب : الإيمان، باب : أدنى أهل الجنة منزلة فيها ( ).
٦١ سورة الإسراء، الآية :
٦٢ سورة الزمر، الآية :
٦٣ سورة القمر، الآية :
٦٤ سورة الأنفال، الآي :
Icon