تفسير سورة إبراهيم

اللباب
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر١. وقال ابن عباس، وقتادة – رضي الله عنهم – وهي مكية إلا اثنتين٢، وقيل : ثلاث من قوله -تعالى- :﴿ ألم إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفرا ﴾ [ الآية : ٢٨ ] إلى قوله -تعالى- :﴿ فإن مصيركم إلى النار ﴾ فإنها مدنية.
وهي اثنتان وخمسون آية، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاث آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.
قال ابن الخطيب٣ : ومتى لم يكن في السورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٩/٢٢٢)..
٢ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٣٠) وعزاه إلى النحاس في "الناسخ والمنسوخ". ذكره القرطبي في "تفسيره" (٩/٢٢٢) عن ابن عباس وقتادة..
٣ ينظر: الفخر الرازي ١٩/٥٧..

قال ابن الخطيب: ومتى لم يكن في السورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ يجوز أن يرتفع «كِتابٌ» على أنَّه خبر ل «الر» : إن قلنا: إنَّها مبتدأ، والجملة بعد صفة، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً، تقديره: كتماب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية.
قالت المعتزلة: النَّازلُ، والمنزلُ لا يكون قديماً.
والجواب: أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ.
328
قوله: ﴿لِتُخْرِجَ الناس﴾ متعلق ب «أنْزَلناهُ». وقرىء (ليَخْرُجَ الناس) بفتح الياءِ وضمِّ الراء، من خَرَجَ يَخْرُجُ. «النَّاسُ» رفعاً على الفاعليَّة.
قالت المعتزلة: اللاَّم في «لِتُخْرِجَ» لام الغرض والحكمة، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح.
وأجيب: بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر.

فصل


قوله تعالى: ﴿مِنَ الظلمات﴾ أي: لتدعوهم من ظلمات [الظَّلال] إلى نُورِ الإيمان.
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات:
أحدها: أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب.
وثانيها: أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه، وكان للكافر أن يقول: إنَّك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟.
فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا: إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج.
وثالثها: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه.
والجواب عن الكل: أن يقال: الفعل الصادر من العبد.
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك.
329
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر.
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألاَّ بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال، وإن لم يكون منه بل من الله، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب.
قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ يجوز أن يتعلق بالإخراج، أي: بتيسيره وتسهيله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال: «يُخْرِجُ» أي: مأذوناً لك.
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى، فإنَّ قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ معناه: أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى.
والمراد بهذا الإذن: إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق، وحمل الإذن على الأمر محالٌ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم، والباطل متيمزٌ عن الحقّ.
وأيضاً: حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج، ولا يمتنع أن يقال: إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن: المشيئة، والتخليق، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله تعالى.
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟.
فالجواب: لفظ الإذن مجمل، ونحن نفصل القول فيه.
فنقول: المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم، أو لا يقتضي ذلك، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة، وامتنع أن يقال: إنه إنَّما حصل بسببه، ولأجله فبقي الأول، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا.

فصل


دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر، والضلالات كثيرة، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ، والكفر بالظلمات، وهي صيغة جمع، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ.
قوله: ﴿إلى صِرَاطِ﴾ فيه وجهان:
330
أحدهما: أنه بدلٌ من قوله «إلى النُّورِ» بإعادة العامل، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه.
والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: «إلى صِرَاطِ»، والمراد بالصِّراط: الدّين والعزيز هو الغالب و «الحَمِيدِ» المستحق للحمد.
وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر «العَزيز» على ذكر «الحَميد».
قوله: ﴿الله الذي﴾ قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين:
أحدهما: أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره: الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني: أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال: «لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا».
قال أبو حيان: «وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله» الإله «ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب».
وقال ابن عصفور: «لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع» وهو قليل، وللعرب فيه وجهان:
أحدهما: أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين:
أحدهما: أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني: أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني: من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب «العَزيزِ الحَميدِ» صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله: [البسيط]
331
وقول الآخر: [الرجز]
٣١٩٠ - وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار... يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال».
قال ابن الخطيب: «اللهُ» اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا: «اللهُ»، ثم وصفناه كقوله: ﴿هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم﴾ [الحشر: ٢٢] الملكل القدُّوسُ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول: هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ «اللهَ» اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن: أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله: ﴿هُوَ الله الخالق البارىء المصور﴾ [الحشر: ٢٤] فأمَّا أن تعكس فتقول: هو الخالق المصور البارىء الله؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله: ﴿العزيز الحميد﴾ مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب:
فقال أبو عمرو بن العلاء: القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [والأرض].
وقيل: لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال: الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهنو بعينه نظير قوله: ﴿صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾.
وتحقيق القول فيه: أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: ﴿العزيز الحميد﴾ فوقعت الشبهة في أن ذلك: ﴿العزيز الحميد﴾ من هو؟ فعطف عليها قوله ﴿الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ إزالة لتلك الشُّبهة.
قوله: «وَويْلٌ» مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك «سَلامٌ عَليكُمْ»، و «لِلْكافِرينَ» خبره، و «مِنْ عذَابٍ» متعلِّق بالويلِ.
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث
332
يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم.
ولذلك جوزوا تعلق «بِمَا صَبرْتُمْ» ب ﴿سَلاَمٌ﴾ [الرعد: ٢٤]، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجه اتِّصالِ قوله: ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد».
قال أبو حيان: فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾.
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.

فصل


والمعنى: أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصه بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون: يا ويلاه نظيره قوله تعالى: ﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان: ١٣] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع:
الأول: قوله: ﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، خبره: «أوْلئِكَ» وما بعده.
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ.
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [المدح] فيهما.
وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم.
ورده أبو حيان: بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله جل ذكره ﴿مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ قال: «ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين» زَيْدٍ «وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول: الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ».
و «يَسْتحِبُّونَ» استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون علتى بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى ب «عَلَى».
وقرأ الحسن: «يُصدُّونَ» بضم الياء من «أصَدَّ»، و «أصَدَّ» منقولٌ من «صَدَّ»
333
اللازم، والمفعول محذوف، أي: غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله: [الطويل]
٣١٩١ - أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ............................
﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ تقدم مثله [آل عمران: ٩٩].
قوله تعالى: ﴿الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة﴾ فيه إضمار تقديره: يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار: قوله عزَّ وجلَّ ﴿وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي: يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾. واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى: أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية: أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله: ﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾.
قال الزمخشريُّ: «الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل».
وقيل: الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه: يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي: بجهة الحرام.
ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم: ﴿أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ:
الأول: أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني: أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث: أن امراد بالضَّشلال: الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد: امتداده وزوال انقطاعه.
334
قوله :﴿ الله الذي ﴾ قرأ نافع١ وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وأما الرفع فعلى وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره : الله الذي له ما في السماوات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم.
والثاني : أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي : هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال :" لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا ".
قال أبو حيان٢ :" وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله " الإله " ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب ".
وقال ابن عصفور :" لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع " وهو قليل، وللعرب فيه وجهان :
أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين :
أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة.
والثاني : أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته.
والثاني : من –الأولين- : أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب " العَزيزِ الحَميدِ - " صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله :[ البسيط ]
والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا *** رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ٣
وقل الآخر :[ الرجز ]
وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار٤ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : الطير العائذات، وبالعمر الطويل.
قال شهابُ الدِّين٥ -رحمه الله- :" وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال ".
قال ابن الخطيب٦ :" اللهُ " : اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا :" اللهُ "، ثم وصفناه كقوله :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمان الرحيم ﴾ [ الحشر : ٢٢ ] الملك القدُّوسُ، ولا يمكنننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمان الرحيم الله، فعلمنا أنَّ " اللهَ " اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات.
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله :﴿ هُوَ الله الخالق البارئ المصور ﴾ [ الحشر : ٢٤ ] فأمَّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارئ الله ؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله :﴿ العزيز الحميد ﴾ مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب :
فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير : صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السماوات [ والأرض ]٧.
وقيل : لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال : الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله :﴿ صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾.
وتحقيق القول فيه : أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله :﴿ العزيز الحميد ﴾ فوقعت الشبهة في أن ذلك :﴿ العزيز الحميد ﴾ من هو ؟ فعطف عليها قوله ﴿ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ إزالة لتلك الشُّبهة.
قوله :" وَويْلٌ " مبتدأ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء ك " سَلامٌ عَليكُمْ "، و " لِلْكافِرينَ " خبره، و " مِنْ عذَابٍ " متعلِّق بالويلِ.
ومنعه أبو حيَّان ؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم.
ولذلك جوزوا تعلق " بِمَا صَبرْتُمْ " ب ﴿ سَلاَمٌ ﴾ [ الرعد : ٢٤ ]، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين.
وقال الزمخشريُّ٨ :" فإن قلت : ما وجه اتِّصالِ قوله :﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ بالويل ؟ قلت : لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد ".
قال أبو حيان٩ : فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾.
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.

فصل


والمعنى : أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسماوات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصه بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون : يا ويلاه نظيره قوله تعالى :﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع :
١ ينظر الحجة ٥/٢٥ وإعراب القراءات السبع ١/٣٣٤ وحجة القراءات ٣٧٦، والإتحاف ٢/١٦٦ والمحرر الوجيز ٣/٣٢٢ والبحر المحيط ٥/٣٩٣، والدر المصون ٤/٢٥٠..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٣٩٣..
٣ البيت للنابغة الذبياني. ينظر: ديوانه (١٥)، شرح المفصل (٣/١١)، المقرب (١/٢٢٧)، البحر المحيط (٥/٣٩٣)، روح المعاني (١٣/١٨٢)، شواهد الكشاف (٣٨٠)، شرح المعلقات العشر (٣٠٠)، الدر المصون (٤/٢٥٠)..
٤ تقدم..
٥ ينظر: الدر المصون ٤/٢٥٠..
٦ ينظر: الفخر الرازي ١٩/٦٠..
٧ سقط من ب..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٥٣٧..
٩ ينظر: البحر المحيط ٥/٣٩٣..
الأول : قوله :﴿ الذين يَسْتَحِبُّونَ ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ، خبره :" أوْلئِكَ " وما بعده.
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ.
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [ المدح ]١ فيهما.
وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ٢، وأبو البقاء٣ والحوفي وغيرهم.
ورده أبو حيان٤ : بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله -جل ذكره- ﴿ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ قال :" ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين " زَيْدٍ " وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول : الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ ".
و " يَسْتحِبُّونَ " استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون على بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى ب " عَلَى ".
وقرأ الحسن٥ :" يُصدُّونَ " بضم الياء من " أصَدَّ "، و " أصَدَّ " منقولٌ من " صَدَّ " اللازم، والمفعول محذوف، أي : غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله :[ الطويل ]
أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٦
﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾ تقدم مثله [ آل عمران : ٩٩ ].
قوله تعالى :﴿ الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة ﴾ فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة ؛ فجمع -تعالى- بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [ وأما ]٧ من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة ؛ فذلك لا يكونُ مذموماً.
والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله -عزَّ وجلَّ- ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ أي : يمنعوا النَّاس من قبول دين الله.
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله :﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾. واعلم أنَّ الإضلال على مرتبتين.
الأولى : أن يسعى في صدّ الغير.
والثانية : أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله :﴿ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾.
قال الزمخشريُّ٨ :" الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً ؛ فحذف الجار وأوصل الفعل ".
وقيل : الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه : يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي : بجهة الحرام.
ولما ذكر الله -تعالى- هذه المراتب قال في وصفهم :﴿ أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ﴾ وإنَّما وصف الله -تعالى- هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ :
الأول : أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض.
الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى.
الثالث : أن المراد بالضَّلال : الهلاك، والتقدير : أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه.
١ في ب: الذم..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٥٣٧..
٣ ينظر الإملاء ٢/٦٥..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٣٩٣ – ٣٩٤..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٥٣٨، والبحر المحيط ٥/٣٩٤، والدر المصون ٤/٢٥١..
٦ تقدم..
٧ في ب: ولذا..
٨ ينظر: الكشاف ٢/٥٣٨..
قوله: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ الآية لما ذكر في أوّل السورة: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد]، وأرشدهم إلى نور الإيمان. ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم.
قوله: ﴿إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ يجوم أن يكون حالاً، أي: إلاَّ [متكلماً] بلغة قومه.
قال القرطبي: «وحَّد اللسان، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ، والكثير».
وقرأ العامة: «بلِسانِ» بزنة كتابِ، أي: بلغةِ قومهِ. وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني: بكسر اللام وسكون السين، وفيه قولان:
أحدهما: أنَّهما بمعنى واحد، كالرِّيشِ والرِّياش.
والثاني: أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة، ذكره ابن عطيَّة، وصاحب اللَّوامح.
وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدريُّ: بضم اللام والسين، وهو جمع
335
لِسَان كَكِتَاب وكُتُب، وقرىء بسكون السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله، نحو «رُسْل في رُسُل»، و «كُتْب» في «كُتُب»، والهاء في «قَوْمِهِ» الظاهر عودها على «رَسُولٍ» المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى: إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ التوراة.

فصل


احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية، فقال: لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح.
ومعنى الآية: وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة».
فالجواب: بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم.
وقيل: المراد من قومه أهل بلدته، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله: ﴿قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ [الأعراف: ١٥٨] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن﴾ [الإسراء: ٨٨].
قال القرطبي: «ولا حجة للعجم، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: ٢٨]، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ «.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ «وخرجه مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ.

فصل


زعمت طائفة من اليهود يقال لهم: [العيسوية] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى
336
العرب خاصة، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته.
الثاني: قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب.
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله.
قوله:» فَيُضِلُّ «استنئاق إخبار، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال].
قال الزجاج:»
لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز «.
قوله: ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره.
قالوا: وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله: يقول أبو بكرٍ: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وتبع بعضهم عمر، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه، ثم أقبل على عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فتعرف ما قاله، وعرف السرور في وجهه، فقال صلوات الله وسلامه عليه:»
أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟.
قالت المعتزلة: لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه:
الأول: أنه تبارك وتعالى قال: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ أي: ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين، فلو كان مقصوده الإضلال، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود.
والثاني: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا قال لهم: إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم، فهلم أن يقولوا: فما لنبوتك فائدة، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن
337
نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة، وتفسد بعثة الرسل.
الثالث: إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب، وذلك لا يقوله عاقل.
الرابع: أنَّ مقدمة الآية، وهي قوله جل ذكره ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١] يدلُّ على العدل، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله: ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ دليل على خلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه:
الأول: المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال: فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي: يحكمُ بكونه كافر ضالاً.
والثاني: أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار.
والثالث: أنَّه يقال: إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه.
قال الزمخشري: «والمراد بالإضلال التخلية، ومنع الإلطاف وبالهداية: اللّطف، والتَّوفيق».
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «والجواب قوله عزَّ وجلَّ ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ لا يليق به أن يضلهم.
قلنا قال الفراء: إذا ذكر فعل، وبعده آخر، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه، وإن لم يكن مشاكله، استأنفه ورفعه، نظيره:
﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله﴾ [التوبة: ٣٢] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.
ونظيره أيضاً قوله: ﴿لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام﴾ [الحج: ٥] ومن ذلك قولهم: «أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ»
بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز]
٣١٩٢ - يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ...
338
وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا قال الله تعالى: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ ثمَّ قال: ﴿فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ ذكر: «فَيُضِلُّ» بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عزَّ وجلَّ: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال: ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء، ويهدي من يشاء، والغرضُ منه: التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله تعالى.
وأما قولهم: لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول: ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه.
وأما قولهم ثالثاً: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا: ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره، وعلم كفره، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً، وخبره الصدق كذباً، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا.
وأمَّا قولهم رابعاً: إن مقدمة الآية، وهو قوله تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١] يدلُّ على صحَّة الاعتزال.
فنقول: قد ذكرنا أن قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [إبراهيم: ١] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة.
وأما قولهم خامساً: إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له، فنقول: وصف نفسه بكونه عزيزاً، والعزيزُ: هو الغالب القاهر، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل، وأراد عدم الكفرمنهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره:
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ [البقرة: ٢٦].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى
339
النور} الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ﴾ قال الأصم: آيات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر، وإظلال الجبل، وإنزوال المن والسلوى.
وقال الجبائي آياته: دلائله وكتبه المنزلة عليه، فقال في صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه ﴿أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ٥] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات.
قوله: «أنْ أخْرِجْ» يجوز أن تكون «أنْ» مصدرية، أي: بأن أخرج والباء في «بِآيَاتِنا» للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي، ويكون المعنى: أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له: أخرج قومك كقوله ﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا﴾ [ص: ٦]. وقيل: بل هي زائدة، وهو غلط.
قوله: «وذَكِّرْهُمْ» يجحوز أن يكون منسوقاً على «أخْرِجْ» فيكون من التفسير، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً.
و «أيَّام: عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله: [الوافر]
٣١٨٩ - والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ
٣١٩٣ - وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا
أو نقمه؛ كقوله: [الطويل]
٣١٩٤ - وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا.............................
ووجهه: أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم: نَهارٌ صَائمٌ، ولَيلٌ قَائمٌ، و ﴿مَكْرُ الليل﴾ [سبأ: ٣٣].
قال الواحديُّ:»
أيَّام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها، وكان في الأصل: أيوامٌ، فاجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء «.
340

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وذكرهم بنعم الله. وقال مقاتلٌ: بوقائع الله في الأمم السَّالفة. يقال: فلان عالم بأيَّام العرب، أي: بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد: أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم.
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون. ومنها: ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام.
﴿إِنَّ فِي ذلك﴾ التّذكر «لآياتِ» دلائل ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصّبر ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشُّكر.
فإن قيل: ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟.
فالجواب: أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢].
وقيل: لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور.
ولما أمر موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾.
فقوله: ﴿أَنجَاكُمْ﴾ ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.
341
قوله: ﴿إِذْ أَنجَاكُمْ﴾ يحجوز في ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منصوباً ب «نِعْمَةَ».
الثاني: أن يكون منصوباً ب «عَلْكُمْ»، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال: «إذْ أنْجَاكُمْ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت.
فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب ب «عَليْكُمْ».
قلت: «لا يخلُو إما أن يكون [إنعام] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [أو غير] صلة، إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن، أنَّك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً».
الثالث: أنه بدل من عمة أي: اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في «يسومونكم».
قوله: «ويذبحون» حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون «واو» لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول: أتاني القوم: زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان: ٦٨، ٦٩] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك.
وقرأ بان محيصن «يَذْبَحُونَ» مخففاً، و «يستحيون نساءكم» يتركونهن أحياء، «وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم»، وفي كونه بلاء وجهان:
الأول: أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله.
والثاني: أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى:
﴿وَنَبْلُوكُم
بالشر
والخير فِتْنَةً﴾
[الأنبياء: ٣٥] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله: ﴿اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾، قاله ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ.
قوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ﴾ يجوز أن يكون نسقاً على: ﴿إِذْ أَنجَاكُمْ﴾، وأن يكون منصوباً ب «اذْكُرُوا» مفعولاً لا ظرفاً.
وجوَّز فيه الزمخشري: أن يكون نسقاً على: «نِعْمةَ» فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف.
342
ومعنى: «تَأذَّنَ» آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي: أعلم، يقال: أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل: أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر: [الوافر]
٣١٩٥ - فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
وكان ابن مسعود يقرأ «وإذْ قال ربُّكُمْ» والمعنى واحد.
فيقال: «لَئِنْ شَكرْتُم» نعمتي، وآمنتم، وأطعتم: «لأزيدَنَّكُم» في النعمة.
وقيل: لئن شكرتم بالطَّاعة «لأزيدنكم» في الثواب.
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد: «ولَئِنْ كَفرتُمْ» نعتمي فجحدتموها، ولم تشكروها: «إنَّ عذَابِي لشَديدٌ».
وقيل: المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى.
قوله: ﴿وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي: غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله.
والمعنى: أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر، أو يستضر بالكفران، فلا حرم قال تعالى: ﴿وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
والغرض منه: بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود.
343
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرا للرسول -صلوات الله وسلامه عليه- على أذى قومه فقال :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا ﴾ قال الأصم : آيات موسى -عليه الصلاة والسلام- وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر، وإظلال الجبل، وإنزال المن والسلوى.
وقال الجبائي آياته : دلائله وكتبه المنزلة عليه، فقال في صفة محمد -عليه الصلاة والسلام- :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ وقال في حق موسى -صلوات الله وسلامه عليه- ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] والمقصود من بعثة سائر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- واحد وهو أن يسعوا في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات.
قوله :" أنْ أخْرِجْ " يجوز أن تكون " أنْ " مصدرية، أي : بأن أخرج والباء في " بِآيَاتِنا " للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي، ويكون المعنى : أي : أخرج قومك من الظلمات، أي : قلنا له : أخرج قومك كقوله ﴿ وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا ﴾ [ ص : ٦ ]. وقيل : بل هي زائدة، وهو غلط.
قوله :" وذَكِّرْهُمْ " يجوز أن يكون منسوقاً على :" أخْرِجْ " فيكون من التفسير، ويجوز أن لا يكون منسوقاً ؛ فيكون مستأنفاً.
و " أيَّام " : عبارة عن نعمه -تعالى- ؛ كقوله :[ الوافر ]
وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ *** عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا١
أو نقمه ؛ كقوله :[ الطويل ]
وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
ووجهه : أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم : نَهارٌ صَائمٌ، ولَيلٌ قَائمٌ، و﴿ مَكْرُ الليل ﴾ [ سبأ : ٣٣ ].
قال الواحديُّ :" أيَّام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها، وكان في الأصل : أيوامٌ، فاجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء ".

فصل


قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة -رضي الله عنهم- وذكرهم بنعم الله٣. وقال مقاتلٌ : بوقائع الله في الأمم السَّالفة٤. يقال : فلان عالم بأيَّام العرب، أي : بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم.
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى -عليه الصلاة والسلام- منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون.
ومنها : ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام.
﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ التّذكر " لآياتِ " دلائل ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ كثير الصّبر ﴿ شَكُورٍ ﴾ كثير الشُّكر.
فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر ؟.
فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾.
وقيل : لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور.
١ قدم. .
٢ البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو صدر بيت عجزه: ولها غرر معلومة وحجول. ينظر: البحر المحيط ٥/٣٩٥، حاشية الشهاب ٥/٢٥٢، روح المعاني ١٣/١٨٨، الدر المصون ٤/٢٥٢..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤١٧، ٤١٨) عن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٣٢) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وعبد الرزاق.
وذكره الماوردي في "النكت والعيون" (٣/١٢٢) عن مجاهد وقتادة. وكذا البغوي في "تفسيره" (٣/٢٦).
وقد ورد هذا المعنى مرفوعا من حديث أبي بن كعب:
أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (٥/١٢١) والنسائي في "الكبرى – كتاب التفسير" (٦/٣٧١).
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٣٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان".
قال ابن كثير في "تفسيره" (٢/٥٢٣): ورواه عبد الله أيضا موقوفا وهو أشبه..

٤ كره البغوي في "تفسيره" (٣/٢٦)..
ولما أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى -عليه الصلاة والسلام-، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾.
فقوله :﴿ أَنجَاكُمْ ﴾ ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.
قوله :﴿ إِذْ أَنجَاكُمْ ﴾ يجوز في ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون منصوباً ب " نِعْمَةَ ".
الثاني : أن يكون منصوباً ب " عَليكُمْ "، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال١ :" إذْ أنْجَاكُمْ " ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت.
فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب ب " عَليْكُمْ ".
قلت :" لا يخلُو إما أن يكون [ إنعامه ]٢ صلة للنعمة بمعنى الإنعام [ أو غير ]٣ صلة، إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم عمل فيه، ويتبين الفرق بين الوجهين، أنَّك إذا قلت : نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً ".
الثالث : أنه بدل من نعمة أي : اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في " يسومونكم ".
قوله :" ويذبحون " حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون " واو " لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول : أتاني القوم : زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ ﴾ [ الفرقان : ٦٨، ٦٩ ] لما فسر الآثام بمضاعفة العذاب بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك.
وقرأ بان محيصن " يَذْبَحُونَ " مخففاً، و " يستحيون نساءكم " يتركونهن أحياء، " وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم "، وفي كونه بلاء وجهان :
الأول : أن تمكين الله إياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله.
والثاني : أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله :﴿ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ﴾، قاله ابن الخطيب -رحمه الله-.
١ ينظر: الكشاف ٢/٢٣٠. .
٢ زيادة من أ..
٣ في ب: أو لا يكون..
قوله :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ﴾ يجوز أن يكون نسقاً على :﴿ إِذْ أَنجَاكُمْ ﴾، وأن يكون منصوباً ب " اذْكُرُوا " مفعولاً لا ظرفاً.
وجوَّز فيه الزمخشري : أن يكون نسقاً على :" نِعْمةَ " فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف١.
ومعنى :" تَأذَّنَ " آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي : أعلم، يقال : أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل : أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان ؛ لأنه إعلام قال الشاعر :[ الوافر ]
فَلمْ نَشْعُر بضَوْء الصُّبْحِ حَتَّى سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا٢
وكان ابن مسعود٣ يقرأ " وإذْ قال ربُّكُمْ " والمعنى واحد.
فيقال :" لَئِنْ شَكرْتُم " نعمتي، وآمنتم، وأطعتم :" لأزيدَنَّكُم " في النعمة.
وقيل : لئن شكرتم بالطَّاعة " لأزيدنكم " في الثواب.
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد :" ولَئِنْ كَفرتُمْ " نعتمي فجحدتموها، ولم تشكروها :" إنَّ عذَابِي لشَديدٌ ".
وقيل : المراد الكفر ؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله -تعالى-.
١ آية (١٤١)..
٢ ينظر: القرطبي ٥/٣٧٩..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٤٥١، والبحر المحيط ٥/٣٩٦..
قوله :﴿ وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ أي : غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله.
والمعنى : أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر، أو يستضر بالكفران، فلا جرم قال تعالى :﴿ وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾.
والغرض منه : بيان أنه -تعالى- إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود.
ثم قال: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ الآية النَّبأ: الخبر، والجمع الانباء؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣١٩٦ - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي...........................
قال أبو مسلم: «يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام] لقومه: يذكرهم أمر القرون الأولى؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين.
روي عن عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال:»
كَذبَ النَّسَّابُونَ «.
وعن عبد الله بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: بين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبين عدنان ثلاثون [أباً] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يكره أن يسنب الإنسانت [نفسه أباً أباً] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لايعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى، ونظيره: قوله تعالى ﴿وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً﴾ [الفرقان: ٣٨] وقوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان.
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:»
تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ «.
344
وقيل: المراد بقولهم:» لا يَعْلمُهمْ «أي: عددهم، وأعمارهم، وكيفياتهم.
وقال عروة بن الزبير:»
ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان، وإسماعيل «.
قوله:»
قَوم نُوحٍ «بدل، أو عطف.
قوله: ﴿والذين مِن بَعْدِهِمْ﴾ »
يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول، أو على المبدل منه، وأن يكون مبتدأ خبره: ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾، ﴿جَآءَتْهُمْ﴾ خبر آخر وعلى ما تقدم يكون: ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ حالاً من «الَّذينَ» أو من الضمير في: «مِنْ بعْدِهمْ» لوقوعه صلة «.
وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله: حال من الضمير في:»
مِنْ بَعْدهِمْ «ولا يريد به الضمير المجرور؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف، وإن كان بعضهم جوزه في صورة وجوز أيضاً هو والزمخشري:» والجملة من قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله﴾ اعتراض «.
ورد عليه أبو حيان: بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين، أحدهما يطلب الآخر.
ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ:»
والَّذينَ «مبتدأ، و» لا يَعْلمُهُمْ «خبره، قال:» والجملة من المبتدأ، والخبر اعتراض «، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم.
ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين: بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن:»
جَاءَتْهُم «حال مما تقدَّم، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها، وهو كلامٌ صحيحٌ.
قوله
تعالى
: ﴿فردوا
أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ﴾
يجوز أن تكون الضمائر للكفار، أي: فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ، لقوله: ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ﴾ [آل عمران: ١١٩] قاله أبو عباس، وابن مسعود، والقاضي.
قال القرطبيُّ: وهذا أصح الأقوال، قال الشاعر: [الرجز]
345
٣١٩٧ - لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي
وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ
وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [١١٩] ف «في» على بابها من الظرفية، أي: فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً، واستهزاء، ف «فِي» بمعنى «عَلَى» وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم: إنَّا كَفرنا، ف «عَنْ» بمعنى «إلى» ويوجوز أني كون المرفوع للكفار، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي: النّعم، أي: ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال، ويجوز أن يراد المعنى، والمراد بالأيدي: الجوارح، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار، والأخير للرسل، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ.
وقيل: «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء: «قد وجدنا من العرب من يجعل» في «موضع الباء، يقال: أدخلتُ بالجنَّة، أدخلت في الجنَّة» وأنشد: [الطويل]
٣١٩٨ - وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ
أي: أرغب بها.
وقال أبو عبيد رَحِمَهُ اللَّهُ: هذا ضرب مثل يقوله العربُ: رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به.
ورد عليه: بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ.
وقال أبو مسلم: المراد باليدِ: ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال لفلان عندي، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد، وأيضاً: العهود التي أتوابها مع القوم أيادي. وجمع اليد في القلة: أيْدِي، وفي الكثرة أيَادي.
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه.
346
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم: أنَّ معنى قوله تعالى: ﴿فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ﴾ أي: سكتوا عن الجواب، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب: ردَّ يدهُ في فيه، إذ لم يجبه، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال: إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا: إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا: «إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ»
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ قرأ طلحة: «تَدعُونَّا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية، والمعنى: في شكِّ مريب موقع في الريبة أي: ذي ريبة من أرابه، والريبة: لقلق النفس، وألاّ [تطمئن] إلى الأمر.
فإن قيل: لما ذكروا أنهم قالوا: إنَّا كافرون برسالتكم، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ﴾ الآية لما قالوا للرُّسلِ: وإنا لفي شك، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله، وهو فاطر السموات، والأرض وفاطر أنفسنا، وأرواحنا، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها، فكيف قلتم: وإنَّا لفي شكٍّ؟.
قوله: ﴿أَفِي الله شَكٌّ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، وفي «شكٌّ» وجهان:
أظهرهما: أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجار، والأولى أولى؛ بل كان ينبغي أن يتعين؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة، والموصوف بأجنبيّ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل، فإ، الفاصل ليس أجنبيًّا، إذ هو فاعله، والفاعل كالجزء من رافعه.
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم: «مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ» بنصب «أحْسَنَ» صفة ورفع «الكُحْلُ» فاعلاً ب «أفعل» ولم يضر الفصل به بين «أفْعَلَ» وبين «مِنْ» لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع: أحْسَن «خبراً مقدماً، و» الكُحْلُ «مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين» أفعل «وبين» من «بأجنبي.
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة: أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا.
وقرأ العامة»
فاطِرِ «بالجر وفيه وجهان: النعت والبدلية.
قال أبو البقاء وفيه نظر؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل.
347
قال الزمخشريُّ:» أدخلت همزة الإنكار على الظرف؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة، وشهادته عليه «.
قوله: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ﴾ اللام متعلقة بالدُّعاءِ، أي: لأجل غفران ذنوبكم؛ كقوله: [المتقارب]
٣١٩٩ - دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك: «دعوتك لزيد»
، وقوله: «إذا تدعون إلى الإيمان»، والتقدير: يدعوكم إلى غفران ذنوبكم.
لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: «فاطر السموات والأرض» : أي خالق السماوات والأرض «يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم» أي: ذنوبكم و «من» صلة، وقيل: «من» تبعيضية، وقيل: بمعنى البدل، أي: بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى: ﴿أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة﴾ [التوبة: ٣٨] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه.
﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ إلى حين استيفاء أجلكم، ولا يعالجكم بالعذاب، قال بعض العلماء: إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل، وذلك من وجوه:
الأول: قال بعضش العقلاء: إن من لطم وجه سبي لطمة، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى وجود التكليف، وعلى وجود دار الجزاء، وعلى وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما دلالتهم على وجود الصانع؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى.
وأما دلالتها على وجود التكليف؛ فبأن الصبي يصيح ويقول: ضربني ذلك الضارب، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي، ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى.
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو: أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى.
348
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.
الوجه الثاني: في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي: وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم، وبانٍ حكيمٍ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش، والبناء إلى البَاني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.
الوجه الثالث: أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة، فإنه بأصل فطرته، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر.
الرابع: أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار.
الوجه الخامس: أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً.
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار.
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار [بوجود] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية، وهني منقضية فانينة، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم.
349

فصل


لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم، والجود من وجهين:
الأول: قوله: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾.
قال الزمخشريًُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لو قال قائل: ما معنى التعبيض في قوله تعالى: ﴿مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ » ؟.
ثم أجاب: فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار، كقوله تعالى ﴿واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [نوح: ٣، ٤]، و ﴿ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١] وقال في الخطاب للمؤمنين: ﴿هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف: ١٠] إلى أن قال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الصف: ١٢] قال: والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه.
ثم قال: وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد.
وقيل: أريد به: يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم.
وقال الواحدي: قال أبو عبيدة: «مِنْ» زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا: ليست بزائدة، ففيها وجهان:
أحدهما: أنه ذكر البعض هنا، وأراد الجمع توسعاً.
والثاني: أن «مِنْ» ههنا للبدل، أي: لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت «مِنْ» لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ.
وقال القاضي: ذكر الأصم أنَّ كلمة «مِنْ» ههنا تفيد التبعيض، أي: أنكم إذا [تبتم] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر، وأمَّا التي تكون من الصغائر، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة.
قال القاضي: وقد أبعد في هذا التأويل؛ لأنَّ الكفار صغائرهم، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة، فلا يغفر له له شيء، ثم قال: وفيه وجه آخر: وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته، وإيمانه؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه.
350

فصل


قال ابن الخطيب: دجلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن، لأنه قال ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن كلمة «مِنْ صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول: المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ، أو نقول: المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم، أو نقول: المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه، كما قاله القاضي.
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة.
وأما قوله الواحدي: المراد من كلمة»
مِنْ «ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى جل ذكره ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾ أي: يغفر لكم ذنوبكم، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة، وحكى عن سيبويه إنكاره.
وأما قوله: المراد منه إبدال السيئة بالحسنة، فليس في اللغة أنَّ كلمة»
مِنْ «تفيد الإبدال.
وأما قول الزمخشري: المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات، لأن هذا التعبيض إن حصل، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجةاب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً.
وأما قول الأصم، فقد سبق بطلانه.
وأمَّا قول القاضي: فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها، لقوله عليه السلام:»
التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ «.
وقال تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾
[الأنفال: ٣٨] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى.
351
قال تعالى: ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾. قيل: المعنى: إن آمنتم، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال.
وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت.
فِإن قيل: أليس قال: ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٤]. فكيف قال هنا: ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ ؟.
قلنا: تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله: ﴿ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى﴾ [الأنعام: ٢] في الأنعام.
ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه:
الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيتمنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب، مخالطاً لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وهي الحاجة إلى ألاكل، والشرب، والحديث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ : أي في الصورة ولستم ملائكة، وإنَّما تريدنون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا.
وهذه الشبهة الثانية: وهي التمسك بالتقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان.
قالوا: ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين.
الشبهة الثالثة: قالوا: المعجز لا يدلُّ على الصدق؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور متعادة ليست من باب المعجزات الخارجية عن قوَّة البشر؛ فلذلك قالوا: «فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ» أي: بحجة بينة على صحَّة دعواكم.
قوله «تُرِيدُونَ» يجوز أن يكون صفة ثانية ل «بَشرٌ» وحمل على معناه، لأنه بمنزلة القوم والرهط، كقوله: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: ٦] وأن يكون مستأنفاً.
وقوله: «أنْ تَصدُّونَا» العامة على تخفيف النون، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد: «تدعونّا» وفيها تخريجان:
352
أحدهما: ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة، واسمها ضمير الشأن، وشذّ عدم الفصل بينها، وبين الجملة الفعلية.
والثاني: أنَّها ناصبة، ولكن أهلمت حملاً على «مَا» المصدرية كقراء: ﴿أَن يُتِمَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣]. برفع «يُتِمُّ» وقد تقدَّم القول فيه.
قوله تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ الآية لما حكمة عن الكفَّارم طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جابهم فقالوا: ﴿إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ سلموا أنَّ الأمر كذكل لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمننع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم.
وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم: إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا، فجوابه عين الجواب المذكور، وهو أنَّه لا يبعدُ أ، يظهر الرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير؛ لأن التمييز بين الحق، والباطل، والصدق، والكذب عطية من الله وفضل منه؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية، ويحرم الجمع العظيم منها.
وأما الجواب عن الشهبة الثالثة وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة أوقى منها، فأجابوا عنها بقولهم: ﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي: أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام، وأمَّا الأشياء التي تطلبتموها، فأمور زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يظهرها فله العدل، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ﴾ يجوز أن يكون خبر: «كَانَ» «لَنَا»، و: «إنْ نَأيِتَكُمْ» أسمها، أي: وما كان لنا إتيانكم بسورة، و ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ حالٌ، ويجوز أن يكون الخبر ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾، و «لَنا» تبين.
والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن تولكنا على الله: ﴿وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
قوله: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله﴾ كقوله سبحانه: ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله﴾ [البقرة: ٢٤٦].
والمعنى: ما لنا أن لا نتوكل على الله، وقد عرفنا أنه لاينال شيء إلا بقضائه وقدره: ﴿على مَآ آذَيْتُمُونَا﴾ بين لنا الرشد وبصرنا النجاة.
قوله: «ولنَصْبِرنَّ، جواب قسم، وقوله: ﴿وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾ يجوز أن تكون» مَا «مصدرية، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس.
353
والثاني: أنها موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدرج؛ إذ الأصل: آذيتمونا به، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ: بكسر لام الأمر في» فَليتَوكَّل «وهو الأصل.
والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل: الأول لاستحداث التوكل، والثاني طلب دوامه.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ﴾ الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا: ﴿لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ أي لا بد من أحد الأمرين.
قوله: «لنخرنكم»
جواب قسم مقدر، كقوله: «ولنصبرن» وقوله: «أو لتعدن» في «أوْ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين.
والثاني: أنها بمعنى: «حتَّى».
والثالث: أنها بمعنى «إلاَّّ» كقولهم: لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي.
والقولان: الأخيران مردودان، إذ لا يصح تركيب «حتَّى» ولا تركيب «إلاَّ» مع قوله «لتَعُودُن» بخلاف المثال المتقدم، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي: لترجعن و «في ملَّتنا» متعلق به، وأن يكون بمعنى الصيرورة، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها.
فإن قيل: هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم، فلهذا قالوا: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾.
وثانيها: أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين.
وثالثها: قال الزمخشريُّ: «لعَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون:» صَارَ «ولكن عاد: ما عدت أراه، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ».
ورابعها: أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم، فغلبوا في الخطاب الجماعة، ولا بأس أن يقال: إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار.
354
وخامسها: لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل، ثم إنه تعالى نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها، وعلى هذا التقدير، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة.
ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أو حى الله عزَّ وجلَّ أليهم ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظالمين﴾.
قوله: «لنُهْلِكنَّ» جوب قسم مضمر، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان:
أحدهما: أنه على إضمار القول، أي: قال لنهلكن.
والثاني: أنه أجرى الإيحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه.
وقرأ أبو حيوة «ليُهْلِكنَّ» و «ليُسْكِننَّكُمْ» بياء الغيبة مناسبة لقوله: «ربُّهُمْ» والمراد بالأرض: أرض الظالمين، وديارهم، وأموالهم وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ»
وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
قوله: ﴿لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ «ذلِكَ» مبتدأ، وهو مشار به إلى توريث الأرض، ولمَنْ خَافَ «هو الخبر، و» مَقامِي «فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مقحم، وهو بعيد؛ إذ الأسماء لا تقحم.
الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل.
قال الفراء:»
مَقامِي «مصدر مضاف لفاعله أي: مقامي عليه بالحفظ.
الثالث: أنه اسم مكان.
قال الزجاج:»
مكان وقوفه بين يدي الحساب، كقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [الرحمن: ٤٦] فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كقولك: نَدِمْتُ على ضَربِكَ، أي: على ضَرْبِي أيَّاك، و «خَافَ وعِيدِ» أي: عقابي، أثبت الياء هنا، وفي «ق» في موضعين: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: ١٤]، ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: ٤٥] وصلاً، وحذفها وقفاً ورش، والباقون وصلاً ووقفاً «.

فصل


في تفسير المقام وجوه:
الأول: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة، كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾ [النازعات: ١٠].
الثاني: أن المقام مصدر كالقيام، يقال: قَامَ قِيَاماً، ومقَاماً، أي: لمن خاف مقامي،
355
أي: مقام العباد عندي، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
الثالث: لمن خاف مقامي، أي: لمن خافني، وذكر المقام هنا، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني، والمراد: السَّلام على فلان.
قوله: ﴿وَخَافَ وَعِيدِ﴾ قال الواحدي: الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد.
قال ابن عباس: خاف ما أوعدت من العذاب.
وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من عيده؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.
قوله
: {واستفتحوا
356
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ ﴾ الآية لما قالوا للرُّسلِ : وإنا لفي شك، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله، وهو فاطر السماوات، والأرض وفاطر أنفسنا، وأرواحنا، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها، فكيف قلتم : وإنَّا لفي شكٍّ ؟.
قوله :﴿ أَفِي الله شَكٌّ ﴾ استفهام بمعنى الإنكار، وفي " شكٌّ " وجهان :
أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.
والثاني : أنه مبتدأ، وخبره الجار، والأولى أولى ؛ بل كان ينبغي أن يتعين ؛ لأنه يلزم من الثاني الفصل لبين الصفة، والموصوف بأجنبيّ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل، فإن الفاصل ليس أجنبيًّا، إذ هو فاعله، والفاعل كالجزء من رافعه.
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم :" مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ " بنصب " أحْسَنَ " صفة ورفع " الكُحْلُ " فاعلاً ب " أفعل " ولم يضر الفصل به بين " أفْعَلَ " وبين " مِنْ " لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع :" أحْسَن " خبراً مقدماً، و " الكُحْلُ " مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين " أفعل " وبين " من " بأجنبي.
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا.
وقرأ العامة " فاطِرِ " بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية.
قال أبو البقاء وفيه نظر ؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل.
قال الزمخشريُّ١ :" أدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة، وشهادته عليه ".
قوله :﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ ﴾ اللام متعلقة بالدُّعاءِ، أي : لأجل غفران ذنوبكم ؛ كقوله :[ المتقارب ]
دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ٢
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك :" دعوتك لزيد "، وقوله :" إذا تدعون إلى الإيمان "، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم.
لما استفهم بمعنى نفي ما اعتقدوه، أردفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال :" فاطر السماوات والأرض " : أي خالق السماوات والأرض " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " أي : ذنوبكم و " من " صلة، وقيل :" من " تبعيضية، وقيل : بمعنى البدل، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى :﴿ أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة ﴾ [ التوبة : ٣٨ ] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه.
﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ إلى حين استيفاء أجلكم، ولا يعالجكم بالعذاب، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل، وذلك من وجوه :
الأول : قال بعض العقلاء : إن من لطم وجه صبي لطمة، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى وجود التكليف، وعلى وجود دار الجزاء، وعلى وجود النبي صلى الله عليه وسلم.
أما دلالتهم على وجود الصانع ؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني ؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى.
وأما دلالتها على وجود التكليف ؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي، ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى.
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى.
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية، كم هي ؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام ؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.
الوجه الثاني : في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي : وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة، وتركيبات لطيفة موافقة للحكمة، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم، وبانٍ حكيمٍ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة في العالم العلوي، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش، والبناء إلى البَاني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.
الوجه الثالث : أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة، فإنه بأصل فطرته، وخلقته يتضرَّع إلى من يخلصه منها، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادر المدبر.
الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار.
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً.
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار.
وأما كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.
وأمَّا كون الإقرار [ بوجود ]٣ المعاد أحوط ؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد ؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية، وهني منقضية فانية، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم.

فصل


لما استدلْ بكونه فاطر السماوات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم، والجود من وجهين :
الأول : قوله :﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾.
قال الزمخشريًُّ٤ -رحمه الله- :" لو قال قائل : ما معنى التبعيض في قوله تعالى :﴿ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ " ؟.
ثم أجاب : فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار، كقوله تعالى :﴿ واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ نوح : ٣، ٤ ]، و﴿ يا قومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٣١ ] وقال في الخطاب للمؤمنين :﴿ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الصف : ١٠ ] إلى أن قال :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [ الصف : ١٢ ] قال : والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه.
ثم قال : وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد.
وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم.
وقال الواحدي : قال أبو عبيدة :" مِنْ " زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة، ففيها وجهان :
أحدهما : أنه ذكر البعض هنا، وأراد الجمع توسعاً.
والثاني : أن " مِنْ " ههنا للبدل، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت " مِنْ " لتضمن المغفرة معنى إبدالها من الذُّنوبِ.
وقال القاضي٥ : ذكر الأصم أنَّ كلمة " مِنْ " ههنا تفيد التبعيض، أي : أنكم إذا [ تبتم ]٦ يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر، وأمَّا التي تكون من الصغائر، فلا حاجة إلى غفرانها ؛ لأنها في أنفسها مغفورة.
قال القاضي٧ : وقد أبعد في هذا التأويل ؛ لأنَّ الكفار صغائرهم، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة، فلا يغفر له شيء، ثم قال : وفيه وجه آخر : وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته، وإيمانه ؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه.

فصل


قال ابن الخطيب٨ : دلت الآية على أنه -تعالى- يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن، لأنه قال ﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة ؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه -تعالى- لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة " مِنْ " صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم، أو نقول : المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه، كما قاله القاضي.
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله -عزَّ وجلَّ- بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة.
وأما قول الواحدي : المراد من كلمة " مِنْ " ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة ؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى -جل ذكره- ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ أي : يغفر لكم ذنوبكم، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة، وحكى عن سيبويه إنكاره.
وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة، فليس في اللغة أنَّ كلمة " مِنْ " تفيد الإبدال.
وأما قول الزمخشري٩ : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات، لأن هذا التبعيض إن حصل، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً.
وأما قول الأصم، فقد سبق بطلانه.
وأمَّا قول القاضي١٠ : فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم ؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها، لقوله -عليه السلام- :" التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ " ١١.
وقال تعالى :﴿ قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى.
قال تعالى :﴿ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾. قيل : المعنى : إن آمنتم، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال.
وقال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- : يمنعكم في ال
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٤٢..
٢ تقدم..
٣ في ب: بدار..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٥٤٣..
٥ ينظر: الفخر الرازي ١٩/٧٤..
٦ في ب: آمنتم..
٧ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٩/٧٤..
٨ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٩/٧٤..
٩ ينظر: الكشاف ٢/٥٤٣..
١٠ ينظر: تفسير الفخر الرازي ١٩/٧٥..
١١ آية: (٢)..
قوله تعالى :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ الآية لما حكمة عن الكفَّار طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- جوابهم فقالوا :﴿ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾ سلموا أنَّ الأمر كذلك لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة ؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم.
وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم : إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا، فجوابه عين الجواب المذكور، وهو أنَّه لا يبعدُ أن يظهر الرَّجل الواحد ما لم يظهر للخلق الكثير ؛ لأن التمييز بين الحق، والباطل، والصدق، والكذب عطية من الله وفضل منه ؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية، ويحرم الجمع العظيم منها.
وأما الجواب عن الشبهة الثالثة وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة أقوى منها، فأجابوا عنها بقولهم :﴿ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ أي : أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام، وأمَّا الأشياء التي طلبتموها، فأمور زائدة والحكم فيه لله -تعالى- فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يظهرها فله العدل، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية.
قوله :﴿ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ ﴾ يجوز أن يكون خبر :" كَانَ " " لَنَا "، و :" إنْ نَأتيَكُمْ " اسمها، أي : وما كان لنا إتيانكم بسورة، و﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ حالٌ، ويجوز أن يكون الخبر ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾، و " لَنا " تبين.
والظاهر أنَّ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- لا نخاف من تخويفكم بعد أن توكلنا على الله :﴿ وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾.
قوله :﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ﴾ كقوله سبحانه :﴿ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ].
والمعنى : ما لنا أن لا نتوكل على الله، وقد عرفنا أنه لا ينال شيء إلا بقضائه وقدره :﴿ وقد هدانا سُبلنا ﴾ بين لنا الرشد وبصرنا النجاة.
قوله :" ولنَصْبِرنَّ "، جواب قسم، وقوله :﴿ على ما آذيتمونا ﴾ يجوز أن تكون " مَا " مصدرية، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس.
والثاني : أنها موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدرج ؛ إذ الأصل : آذيتمونا به، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن١ -رحمه الله- : بكسر لام الأمر في " فَليتَوكَّل " وهو الأصل.
والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل : الأول لاستحداث التوكل، والثاني طلب دوامه.
١ ينظر: المحرر الوجيز٣/٣٢٩ والبحر المحيط ٥/٤٠٠ والدر المصون ٤/٢٥٥..
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ ﴾ الآية لما حكى عن الأنبياء -صلوات لله وسلامه عليهم- توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا :﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ أي لا بد من أحد الأمرين.
قوله :" لنخرنكم " جواب قسم مقدر، كقوله :" ولنصبرن " وقوله :" أو لتعودن " في " أوْ " ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين.
والثاني : أنها بمعنى :" حتَّى ".
والثالث : أنها بمعنى " إلاَّّ " كقولهم : لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي.
والقولان : الأخيران مردودان، إذ لا يصح تركيب " حتَّى " ولا تركيب " إلاَّ " مع قوله " لتَعُودُن " بخلاف المثال المتقدم، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي : لترجعن و " في ملَّتنا " متعلق به، وأن يكون بمعنى الصيرورة، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها.
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها.
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- إنَّما نشئوا في تلك البلاد ؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم، فلهذا قالوا :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾.
وثانيها : أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين.
وثالثها : قال الزمخشريُّ :" العَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون :" صَارَ " ولكن عاد : ما عدت أراه، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ ".
ورابعها : أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم، فغلبوا في الخطاب الجماعة، ولا بأس أن يقال : إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار.
وخامسها : لعل أولئك الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل، ثم إنه -تعالى- نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها، وعلى هذا التقدير، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة.
ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أوحى الله -عزَّ وجلَّ- أليهم ﴿ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين ﴾.
قوله :" لنُهْلِكنَّ " جوب قسم مضمر، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان :
أحدهما : أنه على إضمار القول، أي : قال لنهلكن.
والثاني : أنه أجرى الإيحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه.
وقرأ أبو حيوة " ليُهْلِكنَّ " و " ليُسْكِننَّكُمْ " بياء الغيبة مناسبة لقوله :" ربُّهُمْ " والمراد بالأرض : أرض الظالمين، وديارهم، وأموالهم وقال -عليه الصلاة والسلام- :" مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ " وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.
قوله :﴿ ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ " ذلِكَ " مبتدأ، وهو مشار به إلى توريث الأرض، و " لمَنْ خَافَ " هو الخبر، و " مَقامِي " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مقحم، وهو بعيد ؛ إذ الأسماء لا تقحم.
الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل.
قال الفراء :" مَقامِي " مصدر مضاف لفاعله أي : مقامي عليه بالحفظ.
الثالث : أنه اسم مكان.
قال الزجاج :" مكان وقوفه بين يدي الحساب، كقوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ [ الرحمان : ٤٦ ] فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كقولك : نَدِمْتُ على ضَربِكَ، أي : على ضَرْبِي إيَّاك، و " خَافَ وعِيدِ " أي : عقابي، أثبت الياء هنا، وفي " ق " في موضعين :﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾، ﴿ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ٤٥ ] وصلاً، وحذفها وقفاً١ ورش، والباقون وصلاً ووقفاً ".

فصل


في تفسير المقام وجوه :
الأول : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة، كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ﴾ [ النازعات : ١٠ ].
الثاني : أن المقام مصدر كالقيام، يقال : قَامَ قِيَاماً، ومقَاماً، أي : لمن خاف مقامي، أي : مقام العباد عندي، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
الثالث : لمن خاف مقامي، أي : لمن خافني، وذكر المقام هنا، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني، والمراد : السَّلام على فلان.
قوله :﴿ وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ قال الواحدي : الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد.
قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب٢.
وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله -تعالى- غير الخوف من وعيده ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة.
١ ينظر: إعراب القراءات السبع ١/٣٣٨ والإتحاف ٢/١٦٧ والدر المصون ٤/٢٥٦..
٢ ذكره الرازي في تفسيره ١٩/٨٠..
} العامة على «اسْتفْتَحُوا» فعلاً ماضياً، وفي ضميره أقوال:
أحدها: أنه عائد على الرًّسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاح: الاستنصار كقوله: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾ [الأنفال: ١٩].
وقيل: طلب الحكم من الفتاحة، وهي الحكومة، كقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ [الأعراف: ٨٩].
الثاني: أن يعود على الكفار، أي أستفتح أمم الرسل عليهم؛ كقوله تعالى: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء﴾ [الأنفال: ٣٢] وقيل: عائد على القولين؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه.
وقيل: يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله: «فاوحى إليهم».
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «واستفتحوا» على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل، والتقدير: قال لهم: لنهلكن، وقال لهم: استفتحوا.
قوله: «وخاب» هو في قراءة العامة عطف على محذوف، وتقيدره: استفتحوا، فنصروا، وخاب، ويجوز أن يكون عطفاً على «استفتحوا» على أن الضمير فيه للكفار، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس.
إن قلنا: المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنصورا وظفروا، وهو قول مجاهد
356
وقتادة، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله، ودعوا على قومهم بالعذاب، كما قال نوح صلوات الله عليه: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦].
وإن قلنا: المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل، وذلك أنههم قالوا: «اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا» نظيره: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]. «وخَابَ» ما أفلح. وقيل: خر. وقيل: هلك كل جبّار عنيد. والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه، وهذا الوصف لا يكون إلا الله عزَّ وجلَّ.
وقيل: الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده، والجبَّار هنا: المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً﴾ [مريم: ١٤].
قال أبو عبيدة: «الأجْبَر يقال فيه جبريّة، وجَبرُوَّة، وجَبرُوت».
وحكى الزجاج: «الجِبْرُ، والجِبْرِية، والجِبَّارة، الجِبْرِيَاءُ».
قال الواحديُّ: «فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار، ومنه الحديث:» أن امرأة حضرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ»
أي: مستكبرة «، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه:
قال البصريون: أصل العُنُود: الخلاف، والتباعد، والترك.
وقال غيرهم: أصله من العَنْد وهو النَّاحية، يقال: هو يمشي عنداً، أي: ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه، قاله مجاهد.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هوالمعرض عن الحق. وقال مقاتلٌ: هو المتكبّر وقال قتادة: العَنِيدُ الذي أبى أن يقال: لا إلهَ إلاَّ الله.
ثم ذكر كيفية عذابهن فقال:»
مِنْ وَرائِهِ «جملة في محلّ جر صفة ل» جبَّارٍ «ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و» جهنم: فاعل به.
357
وقوله: «ويسقى» صفة معطوفة على الصفة قبلها. عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية.
وقيل: عطف على محذوف، أي: يلقى فيها، ويُسْقَى.
و «وَرَاءِ» هنا على بابها، وقيل بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: «مِنْ بَيْنِ يَديْهِ» وأنشد: [الوافر]
٣٢٠٠ - عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب
وهو قول أبي عبيدة وابن السِّكيت، وقطرب، وابن جريرٍ؛ وقال الشاعر في ذلك: [الطويل]
٣٢٠١ - أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَئِيَا
أي: قُدَّامي؛ وقال الآخر: [الطويل]
٣٢٠٢ - أليْسَ وَرائِي إنَّ تَراخَتْ مَنيَّتِي لزومٌ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ
وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام، ويقال: المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ، وقال تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ [الكهف: ٧٩] أي: أمامهم.
وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد، قال الشاعر: [الطويل]
٣٢٠٣ -...................... وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ
ومعنى الآية: أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم.
قوله: ﴿مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ﴾ في «صديد» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه نعت ل «مَاءٍ». وفي تأويلان:
أحدهما: أنه على حذف أداة التشبيه، أي: ماء مثل صديد، وعلى هذا فليس الماء
358
الذي تشربونه صديداً، بل مثله في النَّتنِ، والغلظ، والقذارة، كقوله تعالى: ﴿وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل﴾ [الكهف: ٢٩].
والثاني: أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء، وهو قول ابن عطية، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظرٌ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود، أخذه من الصَّدِّ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه، أي: يمتنع عليه كل أحد.
الثاني: أنه عطف بيان ل «مَاءٍ»، وإليه ذهب الزمخشري، وليس مذهب البصريين [جريانه] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً.
الثالث: أن يكون بدلاً، وأعرب الفارسي «زَيْتُونةٍ» من قوله تعالى ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾
[النور: ٣٥] عطف بيان أيضاً.
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.
والصَّديد: ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل: ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ.
قوله: «يتَجرَّعهُ» يجوز أن تكون الجملة صفة ل «مَاءٍ» وأن تكمون حالاً من الضمير في «يُسْقَى»، وأن تكمون مستأنفة، وتجرَّع: «تَفعَّل» وفيه احتمالات:
أحدها: أنه مطاو ل «جَرَّعْته» نحو «علَّمتهُ فتعلَّمَ».
والثاني: أنه يكون للتكلف، نحو «تحَلَّم»، أي: يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثالث: أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي: يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم.
الرابع: أنه بمعنى جرع المجرد، نحو: عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه.
والمعنى: يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ.
قوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ في «يَكادُ» قولان:
أحدهما: أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله: ﴿وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ﴾ أي: يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقومُ أي: قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [البقرة: ٧١] أي: فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ [الحج: ٢٠] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة. وقوله: «يَتجرَّعهُ» يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.
359
والقول الثاني: أنَّ «كَادَ» للمقاربة، فقوله «وَلا يَكادُ» لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل إلا ساغة؟.
كقوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠]، أي: لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها؟.
فإن قيل: فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنَّ المعنى: ولا يسيغ جميعه.
والثاني: أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة: إجراء الشرب في [الحلق] بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل: «لا يَكَادُ» على نفي المقاربة.
قوله: ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ أي: أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة.
فمنهنا: ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: ﴿يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: ١٧].
ومنها: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: ١٢٢] ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى﴾ [النمل: ٨٠].
ومنها: الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: ١٧].
ومنهنا: النوم، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ ﴿والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
وقد قيل: النوم: الموتُ الخفيف، والموتُ: النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل، والسؤال، والهرم، والمعصية، وغير ذلك، ومنه الحديث «أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى».
وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه: « [أمَا] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ».
ولنرجع إلى التفسير، فنقول: قيل: بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه.
360
وقيل: يأتيه الموت من الجهات السّت ﴿وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ فيستريح.
قال ابن جريج: تعلق روحه عند حنجرته، ولا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة، نظيره: ﴿لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى﴾ [طه: ٧٤].
قوله: ﴿وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ في الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه عائد على «كُلِّ جبَّارٍ».
والثاني: أنه عائد على العذاب المتقدم.
قيل: العذاب الغليظ: الخلود في النار.
وقيل: إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله، وتقدم الكلام على معنى «مِن وَرائهِ».
361
ثم ذكر كيفية عذابهن فقال :" مِنْ وَرائِهِ " جملة في محلّ جر صفة ل " جبَّارٍ " ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و " جهنم " فاعل به.
وقوله :" ويسقى " صفة معطوفة على الصفة قبلها. عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية.
وقيل : عطف على محذوف، أي : يلقى فيها، ويُسْقَى.
و " وَرَاءِ " هنا على بابها، وقيل بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله :" مِنْ بَيْنِ يَديْهِ " وأنشد :[ الوافر ]
عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب١
وهو قول أبي عبيدة و ابن السِّكيت، وقطرب، وابن جريرٍ ؛ وقال الشاعر في ذلك :[ الطويل ]
أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَائِيَا٢
أي : قُدَّامي ؛ وقال الآخر :[ الطويل ]
أليْسَ وَرائِي إنْ تَراخَتْ مَنيَّتِي لزومُ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ٣
وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام، ويقال : المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ، وقال تعالى :﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] أي : أمامهم.
وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد، قال الشاعر :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ٤
ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم.
قوله :﴿ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ ﴾ في " صديد " ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه نعت ل " مَاءٍ ". وفي تأويلان :
أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه، أي : ماء مثل صديد، وعلى هذا فليس الماء الذي تشربونه صديداً، بل مثله في النَّتنِ، والغلظ، والقذارة، كقوله تعالى :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كالمهل ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
والثاني : أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء، وهو قول ابن عطية، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظرٌ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديد بمعنى مصدود، أخذه من الصَّدِّ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه، أي : يمتنع عليه كل أحد.
الثاني : أنه عطف بيان ل " مَاءٍ "، وإليه ذهب الزمخشري، وليس مذهب البصريين [ جريانه ]٥ في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً.
الثالث : أن يكون بدلاً، وأعرب الفارسي " زَيْتُونةٍ " من قوله تعالى ﴿ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ [ النور : ٣٥ ] عطف بيان أيضاً.
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.
والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ.
١ تقدم..
٢ البيت لسوار بن المضرب. ينظر: الكامل ٢/١٠٢، مجاز القرآن ١/٢٢٧، البحر المحيط ٥/٤٠٢، الجمهرة ١/١٧٧، ٣/٤٩٥، اللسان (ورى)، تفسير القرطبي ١٠/٣٥٠، ١١/٣٥، روح المعاني ١٣/٢٠١، الطبري ١٦/٢، الأضداد (٢٠)، فتح القدير ٣/١٠٠، الدر المصون ٤/٣٥٧..
٣ البيت للبيد. ينظر: ديوانه ١٧٠، اللسان (ورى)، البحر المحيط ٥/٤٠٢، القرطبي ٩/٢٣٠، روح المعاني ١٣/٢٠١، تهذيب اللغة ١٥/٣٠٤، الدر المصون ٤/٢٥٧..
٤ عجز وصدره:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة .......................
وهو للنابغة. ينظر: ديوانه (٢٧)، معاهد التنصيص ٣/٤٨، الألوسي ١٣/٢٠١، الرازي ١٩/١٠٤، القرطبي ٥/٣٨٦، البحر المحيط ٥/٤٠١، فتح القدير ٣/١٠٠..

٥ في ب: بأنه..
قوله :" يتَجرَّعهُ " يجوز أن تكون الجملة صفة ل " مَاءٍ " وأن تكون حالاً من الضمير في " يُسْقَى "، وأن تكون مستأنفة، وتجرَّع :" تَفعَّل " وفيه احتمالات :
أحدها : أنه مطاو ل " جَرَّعْته " نحو " علَّمتهُ فتعلَّمَ ".
والثاني : أنه يكون للتكلف، نحو " تحَلَّم "، أي : يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثالث : أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي : يتناوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم.
الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه.
والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ.
قوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ في " يَكادُ " قولان :
أحدهما : أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله :﴿ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ﴾ أي : يسيغه بعد إبطاء ؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى :﴿ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] أي : فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله :﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ﴾ [ الحج : ٢٠ ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة.
وقوله :" يَتجرَّعهُ " يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.
والقول الثاني : أنَّ " كَادَ " للمقاربة، فقوله " وَلا يَكادُ " لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل الإساغة ؟.
كقوله تعالى :﴿ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾ [ النور : ٤٠ ]، أي : لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها ؟.
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين ؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه.
والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة ؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ]١ بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل :" لا يَكَادُ " على نفي المقاربة.
قوله :﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة :
فمنها : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى :﴿ يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ الحديد : ١٧ ].
ومنها : زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ [ النمل : ٨٠ ].
ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى :﴿ وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٧ ].
ومنها : النوم، كقوله تعالى -عزَّ وجلَّ- ﴿ والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ].
وقد قيل : النوم : الموتُ الخفيف، والموتُ : النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل، والسؤال، والهرم، والمعصية، وغير ذلك، ومنه الحديث " أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى ".
وحديث موسى -صلوات الله سلامه عليه- حين قال له ربه :" [ أمَا ]٢ تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ ".
ولنرجع إلى التفسير، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعضائه.
وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت ﴿ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ﴾ فيستريح.
قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته، ولا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة، نظيره :﴿ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى ﴾ [ طه : ٧٤ ].
قوله :﴿ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه عائد على " كُلِّ جبَّارٍ ".
والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم.
قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار.
وقيل : إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله، وتقدم الكلام على معنى " مِن وَرائهِ ".
١ ي ب: الأصل..
٢ في أ: ألم..
قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة، وذلك هو الخسران الشديد.
وفي ارتفاع: «مَثَلُ» أوجه:
أحدها: وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم، وتكون الجملة من قوله: ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: كَيْتَ وكَيْتَ «والمثل: مستعار للصفة التي فيه غرابة، كقوله: صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ، مالهُ مَبْذولٍ».
الثاني: أن يكون «مثل» مبتدأ، و «أعمالهم» مبتدأ ثان، و «كَرمَادٍ» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل.
قال ابن عطيَّة: «وهذا عندي أرجحُ الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة» وإليه نحا الحوفي.
قال أبو حيان: «وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى ع رابط».
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «بل الجملة نفس المبتدأ، فإن نفس مثلهم هو» أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ «في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً، ولا يبقى له أثر، فهو نظير قولك:»
361
هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ «وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال:» أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك: «صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول» فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد «.
الثالث: أنَّ»
مَثَلُ «زائدة، قاله الكسائي والفراء، أي: الذين كفروا أعمالهم كرماد، ف» الَّذينَ «مبتدأ، و» أعْمالهُمْ «مبتدأ ثاني، و» كَرَمادٍ «خبره، وزيادة الأسماء ممنوعمة.
الرابع: أن يكون»
مثلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «بدل منه على تقدير: مثل أعمالهم و» كَرمَادٍ «الخبر، قاله الزمخشري. وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم.
الخامس: أنه يكون»
مثل «مبتدأ، و» أعمالهم «بدلٌ منه بدل اشتمال و» كرماد «الخبر. كقول الزباءِ: [الرجز]
362
السادس: أن يكون التقدير: مثل أعمال الذين كفروا، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ، قال الزمخشريُّ.
السابع: أن يكون» مَثَلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «خبره، أي: مثل أعمالهم فحذف المضاف، و» كَرمَادٍ «على هذا خبر مبتدأ محذوف.
وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل:»
ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال «أعْمالهُمْ» من: «الَّذينَ»، وهو بدل اشتمال «.
يعنى أنَّه كان يقرأ «أعْمَالهُمْ»
مجرورة لكنَّه لم يقرأ به
«والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ».
والرَّمادُ: الشبه المحكم، يقال: أرْمدَ الماءُ، أي: صار بلونِ الرَّمادِ.
والأرْمَدُ: مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ، وقيل للبعوض: رمدٌ لذلك، ويقال: رمادٌ رَمْدٌ، أي: صار هباء.
قوله تعالى: ﴿اشتدت بِهِ الريح﴾ في محل جر صفة ل «رَمَادٍ»، و «فِي يَوْمٍ» متعلق ب «اشْتَدَّتْ: وفي» عَاصِفٍ «أوجه:
أحدها: أنه على تقرير: عاصف ريحه، أو عاصف الريح، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل»
يَوْم «مجازاً، كقولهم: يَومٌ ماطرٌ، وليْلٌ قَائمٌ.
قال الهرويُّ: فحذفت لقتدم ذكرها، كما قال: [الطويل]
٣٢٠٥ - إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ.......................
363
أي: كاسف الشمس.
الثاني: أنه عائد على النِّسب، أي: ذي عصوف، كلابن وتامر.
الثالث: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب، فيقال: اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه، كقولهم:» جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ «.
وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كمثال المذكور، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً، وتنكيراً في هذا [التركيب] الخاص.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: [»
يَوْمٍ عَاصفٍ «] وهني على حذف الموصوف، اي: في يوم ريح عاصف، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك.
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو:»
البَقْلةُ الحَمْقَاء «. ويقال: ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ، وأصله من العصف، وهو ما يكبر من الزرع، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف، أي: تسكر ما تمرُّ به
قوله:»
لاَ يَقدِرُونَ «مستأنف، ويضعف أن يكون صفة ب» يَوْمٍ: على حذف العائدِ أي: لا يقدرون فيه، و «ممَّا كَسبُوا» متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من «شَيءٍ» إذ لو تأخر لكان صفة، والتقدير: على شيء مما كسبوا.

فصل


وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم: هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ. واختلفوا ف يالمراد بتلك الأعمال، فقيل: ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الواليدن، وإطعام الجائع، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
وقيل: المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها، فصارت وبالاً عليهم.
وقيل: المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خبرات قد بطلت، والأعمال التي اعتقدوها خيراً، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً، وصارت في
364
أعظم الموجبات لعذابهم، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال: ﴿هُوَ الضلال البعيد﴾.
قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب؟
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ قرأ أبو عبد الرحمن رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: بسكون الراء، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
والثاني: أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا: «ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان» فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره «لَمْ أبَلْ» فإن أصله: أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية ف «أنَّ» في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقرأ الأخوان هنا: « (خالق السماوات والأرض) » خَالِقُ «اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو» الأرض «، وفي» النور «:» خالقُ كُلِّ دابّةٍ « [أية: ٤٥] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون:» خَلَقَ «فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا:» الأرْضَ «و ﴿كُلَّ دَآبَّةٍ﴾ [النور: ٤٥] وكسر» السَّمواتِ «في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل: في قراءة الأخوين: يجوز نصب» الأرْضَ «على أحد وجهين، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون» السَّموات «منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.
و»
بِالحقِّ «متعلق به» خَلَقَ «على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي: محقَّا، أو من المفعول، أي: متلبسة بالحق.
قوله»
بالحَقِّ «تقدم نظيره في يونس ﴿مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق﴾ [يونس: ٥] أي: لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
قم قال عزَّ وجلَّ ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ والمعنى: من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [إفناء] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين
365
أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم.
﴿وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي: ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.
366
قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق ﴾ الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله -تعالى- لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالحكمة أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب ؟
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ قرأ أبو عبد الرحمان رحمه الله تعالى١ : بسكون الراء، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف.
والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا :" ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان " فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره " لَمْ أبَلْ " فإن أصله : أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية ف " أنَّ " في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف.
وقرأ الأخوان٢ هنا :( خالق السماوات والأرض ) " خَالِقُ " اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو " الأرض "، وفي " النور " :" خالقُ كُلِّ دابّةٍ " [ آية : ٤٥ ] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون :" خَلَقَ " فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا :" الأرْضَ " و﴿ كُلَّ دَآبَّةٍ ﴾ [ النور : ٤٥ ] وكسر " السماوات " في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب " الأرْضَ " على أحد وجهين، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون " السماوات " منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.
و " بِالحقِّ " متعلق به " خَلَقَ " على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي : محقَّا، أو من المفعول، أي : متلبسة بالحق.
قوله " بالحَقِّ " تقدم نظيره في يونس ﴿ مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق ﴾ [ يونس : ٥ ] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح.
قم قال -عزَّ وجلَّ- ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ والمعنى : من كان قادراً على خلق السماوات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [ إفناء ]٣ قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين أولى ؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم ؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم٤.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٣٢ والبحر المحيط ٥/٤٠٦ والدر المصون ٤/٢٥٩..
٢ ينظر: السبعة ٣٦٢ والحجة ٥/٢٨ وإعراب القراءات السبع ١/٣٣٤، ٣٣٥ وحجة القراءات ٣٧٦، ٣٧٧ والإتحاف ٢/١٦٧، والمحرر الوجيز ٣/٣٣٢ والبحر المحيط ٥/٤٠٦ والدر المصون ٤/٢٥٩..
٣ في أ: قيام..
٤ ذكره الرازي في"تفسيره" (١٩/٨٤)..
﴿ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ ﴾ أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.
قوله: ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً﴾ الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم، وكيفية افتضحاهم عندهم.
و «بَرَزَ» معناه في اللغة: ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره.
وقيل: في قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾ [الكهف: ٤٧] أي: ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ: إذا كانت تعظهر للنَّاس، ويقال: فلانٌ برز على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل: بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها.
وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق، فصار كأنه قد حصل، ودخل في الوجود، كقوله تعالى: ﴿ونادى أَصْحَابُ النار﴾ [الأعراف: ٥٠].

فصل


البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ، فلا بد من التأويل، وهو من وجوه:
الأول: أ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله تعالى وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية.
والثاني: أنَّهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى قالت الحكماءُ:
366
إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى.
ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء «إنّا كنا لكم تعباً» أي: إنما اتبعناكم لهاذ اليوم «فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ» دافعون: ﴿عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ﴾.
و «تَبَعاً» يجوز أن يكون جمع تابع، كخَادِم وخَدَم، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر، وحَارِس وحَرَس، ورَاصِد ورَصَد.
ويجوز أن يكون مصدراً، نحو: قَوْمٌ عَدْلٌ، ففيه التأويلات المشهورة.
قوله: ﴿مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ﴾ في «مِنْ» و «مِنْ» [أربعة] أوجه:
أحدها: أنَّ «مِنْ» الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، تقديره: مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله، قاله الزمشخريُّ.
قال أبو حيان: هذا يقتضي التقديم في قوله: «مِنْ شيءٍ» علتى قوله: «من عذاب الله؛ لأنه جعل» من شيء «هو المبين بقوله:» من عذاب الله «و» من «التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر.
قال شهاب الدِّين: كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى؛ فإن»
من عذاب الله «لو تأخر عن» شيء «كان صفة له، ومبيناً، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير.
الثاني: أن يكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله؛ أي: بعض بعض عذاب الله، قاله الزمخشري.
قال أبو حيان: وهذا يقتضى أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص، وهذا لا يقال؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض.
قال شهاب الدين: لا نزاع أنه يقال: بعض البعض، وهي عبارة متداولة، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله، وهذا كالجنس المتوسط، هو نوع لما فوقه، جنس لما تحته.
الثالث: أن «مِنْ» في «مِنْ شَيءٍ» مزيدة، و «مِنْ» في «مِنْ عذابِ» فيها وجهان:
أحدهما: أن تتعلق بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفة ل «شيء» فلما تقدمت نصبت على الحال.
والثاني: أنها تتعلق بنفس «مغنون» على أن يكون «من شيء» واقعاً موقع المصدر، أي: غناء، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: و «من» زائدة أي شيئاً
367
كائناً من عذاب الله سبحانه وتعالى، ويكون محمولاً على المعنى، تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون «شيء» واقعاً موقع المصدر، أي غناء، فيكون «من عذاب الله» متعلقاً ب «مغنون»، و «من» في «من شيء» لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد.

فصل


هذه التعبية يحتمل أن يكون المراد منها التعبية في الكفر، ويحتمل أن يكون المراد منها التعبية في أحوال الدنيا، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء: «لو هدانا الله لهديناكم» قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى.
قال الزمخشري: لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ﴾ [المجادلة: ١٨].
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخة، فلا يقبل.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان.
وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى.
وقيل: لو خلصنا الله من العذاب، وهدانا إلى طريق النجنة، لهديناكم؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه.
قوله: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْنَآ﴾ إلى آخره فيه قولان:
أحدهما: أنه من كلام المستكبرين.
والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة.
والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشدَّة، قال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٢٠٤ - مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا
368
وقال الراغب: «أصل الجَزْعِ: نقطعُ الحَبْلِ، يقال: جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه: جِزْعُ الوادي لمنقطعة، ولانقطاع اللون بتغيره.
وقيل للخرز المتلون: جِزْع، واللحم المُجَزَّعُ: ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة: أن تبلغ الأرطاب نصفها، والجَاذِعُ: خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت»
.
والجَزَع أخص من الحزن، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده.
والمَحِيصُ: يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب، ويكون اسم مكان، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال: حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد، ويقال: خاض بالضاد المعجمة، وجصنا بها بالجيم.
والمعنى: مالنا من ملجأ ولا مهرب. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق﴾.
قوله: ﴿وَعْدَ الحق﴾ يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف الصفته، كقوله تعالى: ﴿وَحَبَّ الحصيد﴾ [ق: ٩] ومسجد الجامع، أي: الوعد الحق، وأن يراد ب «الحقِّ» صفة الباري تعالى، أي: وعدكم الله وعده الحق، وأن يراد ب «الحَقِّ» البعث، والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة.
وقيل: وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين:
الأول: التقدير: أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد؛ يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف للعلم به تقديره: ووعدتكم أن لا جنّة، ولا نار، ولا حشر، ولا حساب.

فصل


لما [ذكر] الله سبحانه وتعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال: ﴿وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾ قال المفسرون: إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم فيما بينهم خطيباً، فيقول: «إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ».
وقيل: المراد من قوله تعالى: ﴿لَمَّا قُضِيَ الأمر﴾ أي: لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان: إبليس لعنه الله!.
369
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي: قدرة وتسلط، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ﴾ فيه وجهان:
أظهرهما: أنه استثناء منطقع؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان، وهو الحجة البينة فهو كقولكم: ما تَحِيَّتُم إلاَّ الضرب.
والثاني: أنه متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه، فهو نوع من التسلُّط.
وقرىء «فَلا يَلُومُونِي» بالياء من تحت الالتفات، كقوله تعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾
[يونس: ٢٢].
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام.
ومعنى الآية: ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي، ولا تلتفتوا إليَّ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ.
قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أشياء:
أحدها: أنه لو كان الكفر والمعصية من الله تعالى لوجب أن يقال: فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله تعالى قضى عليكم بالكفر، وأجبركم عليه.
والثاني: أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله.
والثالث: يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه، وذمه، وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه: بأن هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه: بأنه لو كان هذا الوقل منه باطلاً لبينه الله تعالى وأظهر إنكاره، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل، والقول الفاسد.
ألا ترى أن قوله: ﴿إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ كلام حق، وقوله ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ قول حق بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين﴾ [الحجر: ٤٢].
370
قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [الأصلي] هو النفس؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة، والغضب، والوهم، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قيل: لِمَ قال الشيطان: «فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ» وهو ملوم بسبب وسوسته؟.
فالجواب: أراد لا تلوموني على فعلكم: «ولوموا أنفسكم» عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم.
قوله تعالى: ﴿مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ العامَّة على فتح الياءِ؛ لأ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً، لاسيما وقبلها كسرتان.
وقرأ حمزة بكسرها، وهي لغة بني يربوع، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً، فمن مجترىء عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال: إنَّها لغة بني يربوع، والأصل: بمُصرخينَ لي [فحذفت] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، ومن مجوِّز لها بضعف.
قال حسين الجعفيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سألت أبا عمرو عن كسر الياء؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم.
ومنها: سألت أبا عمرو، قلت: إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال: هي جائزة عن القرآن، فوجته به عالماً، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش، [واستقرأ] به: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾ بالجر، فقلا: هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن، واللغة، والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني: [البسيط]
371
٣٢٠٦ - جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِبش مُولعَا
٣٢٠٧ - وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات:
منها: أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون، فلما التقيا كسرت؛ لالتقاء الساكنين.
الثاني: أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و «هاء» الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة؛ فتكسر كما تكسر الهاء في: «عَليْهِ»، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو «
عليهي»
بياء، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها.
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع.
قال: يزيدون على ياء الإضافة ياء؛ وأنشد: [الرجز]
٣٢٠٨ - مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ... قَال لهَا: هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ
وأنشده الفراء وقال: فإن يك ذلك صحيحاً، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها.
وقال أبو علي: قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له: زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب، وكان ثقة بصيراً.
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال: هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال أبو جعفر: «صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله عزَّ وجلَّ على الشذوذ».
وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: [الرجز]
٣٢٠٩ - قَال لهَا: هَلْ لكِ يَا تَافيِّ... قالتْ لهُ: مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عَصَاي، فما بالها وقبلها ياء؟.
372
فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسنٌ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات.
قال أبو حياان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «أما قولهن: واستشهدوا لها ببيت مجهول، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم، يقولون: ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء».
قال شهابُ الدِّين: الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه، وأول هذا الرجز:
٣٢١٠ - أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ
ثم قال أبوة حيان: «وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله: في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف، فلا أعلم» حيث «يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف، نحو:» قعد زيد حيث أمام عمرو بكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع «.
قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ:»
إطلاق النحاة قولهم: إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية «.
ثم قال: وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روي بسكون الياء بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراء، نحو: ﴿وَمَحْيَايَ﴾ [الأنعام: ١٦٢].
قال شهاب الدين: مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنهن محل البحث، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح، وهو قوله: [الطويل]
٣٢١١ - عَليَّ لِعمْرٍو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب»
المَعانِي «له:» وقد خفض الياء من «مصرخي» الأعمش
373
ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش، ولعلها من وهنم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنَّ الياء في ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾ خافضة للفظ كله، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك؟ قال: ومما [نرى] أنهم وهموا فيه قوله ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ [النساء: ١١٥] بالجزم في الهاء «، ثمَّ ذكر غير ذلك.
وقال أبوعبيدٍ: أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها، وقد كان في القراء من يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها.
وقال الأخفش:»
ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين «.
قال النحسا: فصار هذا إجماعاً، ولا يجوز، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب.
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال في حجَّته:»
وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في «أكْرَمْتُكَ» وهذا لك، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في «هذال لهو، وضربهو»، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من ق ل: «أعْطَاكهُ» و «أعْطَيْتكَهُ» فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء، ولحقت الياء الزيادةم في قول الشاعر: [الهزج]
٣٢١٢ -، رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ومَا أخْطَأتِ [في] الرَّميَه
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد، فقالوا: فيِّ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: [الطويل]
٣٢١٣ -................................................. لَهْ أرِقَانِ
وزعم أبو الحسن: أنَّها لغة «. ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله:» له أرِقَانِ «حذف الصلة، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركمة ولو مثل بنحو» عَليْهِ «و» فِيهِ «لكان أولى.
ثمَّ قال الفارسي: كما حذفت الزيادة من الكاف فقيلك أعطيتكه، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها، وأقرت الكسرة التي كانت تلي
374
الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ.
قال: فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ، وإن كان من غيرها أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز.
لقائل أن يقول: إنَّ القراءة بذلك لحن، [لاستقامة] ذلك في السَّماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحناً، وهذا [التوجيه] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً.
قال الزجاج:» أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء السكانين الكسر «.
قال الفراء:»
ألا ترى أنهم يقولون: مذُ اليوم، ومُذِ اليوم، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة «مُذْ» والخفض جائز، فكذلك الياء من «مُصرخِيِّ» خفضت ولها أصل في النصب «.
قال شهاب الدين: تشبيه الفراء المسألة ب»
مُذُ اليَوْم «فيه نظر؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر، بخلاف ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم: فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [نقل] بعضهم عنه، التخطئة مرة [والتصويب] أخرى، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال، وهني مختلفة التوجيه.
الثالث: أن الكسر للإتباع لما بعدها، وهو كسر الهمزة من»
إنِّي «كقراءة» الحَمْدِ للهِ «وكقولهم: بِعِير وشِعِير، وشِهِيد، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا.
التوجيه الرابع: أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت، وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح.
والمُصْرِخ: المُغِيثُ: يقال: استصرختُه فأصرخني، أي: فأغَاثِني فكأن همزة للسكت، أي: أزَالَ صُراخِي. والصَّارخُ: هو المُسْتَغِيثُ، قال: [الطويل]
٣٢١٤ - فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر
ويقال: صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة؛ قال: [البسيط]
375
٣٢١٥ - كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ
يريد: كان [الصراخ]، فحذف المضاف، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي، نحو ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً﴾ [نوح: ١٧].
والصَّريخُ: القومُ المُسْتَرخُونَ، قال: [الكامل]
٣٢١٦ - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ
والصَّريخُ: أيضاً: المعينون، فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أن يكون [وصفاً] على «فَعِيل» كالخليطِ، وأن يكو مصدراً في الأصل، قال «فَلا صَريخَ لَهُمْ»، فهذا يحتمل، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ.
قوله: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ يجوز في «ما» وجهان:
[أحدهما: أن يكون بمعنى الذي، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان:]
أحدهما: أنه الأصنام، تقديره: بالصَّنم الذي أشركتموني به، أي: بالصنم الذي «اطعتموني كما أطعتموه، كذا قال أبو البقاء، والعائد محذوف، فقدره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حذف يعني بعد حذف الجار، ووصول العفل إليه، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد، نحو: شركتُ زيداً، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً، هو العائد، تقول: أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً، أي جعلتهُ شريكاً له.
الثاني: أنه الباري تعالى، أي: بما أشركتموني به، أي: بالله تعالى.
قال القرطبي: المعنى: أن إبليس قال: إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم، أي: أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه، وتكون»
مَا «بمعنى» مَنْ «والكلام في العائد كما تقدَّم، إلا أن فيه إيقاع» مَا «على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل.
قال الزمخشري:»
ونحو «مَا» هذه «مَا» في قوله: «سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا» ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان «.
قال أبو حيان:»
ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح، كما
376
جعل «برَّة» علماً للمبرة، و «ما» مصدرية ظرفية «، أي: فيكون على حذف مضاف أي: سبحان صاحب تسخيركن؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله عزَّ وجلَّ..
الوجه الثاني: أن»
ما «مصدرية، اي: بإشراككم إياي مع الله، لي الطاعة.
قوله»
مِنْ قَبْلُ «متعهلق ب» كَفرْتُ «على القول الأوَّل؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله سبحانه وتعالى، وب» أشْرَكْتُ «على الثاني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر: ١٤]، هذا قول الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ.
وجوَّز أبو البقاء متعلقه ب»
كَفرْتُ «وب» أشْرَكْتمُونِي «من غير ترتيب على كون:» مَا «مصدرية أوموصولة.
فقال: و «مِنْ قَبْلُ»
متعلق ب «أشْرَكْتمُونِي»، أي: كفرت الآن بما أشركتموني من قبل.
وقيل: هي متعلقة ب «كَفرْتُ» أي: كفرت من قبل إشراككم، فلا أنفعكم شيئاً.
وقرأ ابو عمرو بإثبات الياء في «أشْرَكْتمُونِي» وصلاً، وحذفها وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهنا تم كلام الشيطان.
وقوله ﴿إِنَّ الظالمين﴾ من كلام الله تعالى، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان.
و «عَذابٌ» يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر، وعلى الابتداء وخبره الجار.
قوله تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال، عزَّ وجلَّ ﴿وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ﴾ قرأ العامة «أدْخِلَ» ماضياً مبنياً للمفعول، والفاعل الله أو الملائكة.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: «أدخلُ» مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله تعالى فمحل الموصول على الأولى رفع، وعلى الثانية نصبٌ.
قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ في قراءة العامة يتعلق ب «أدْخِلَ» أي: أدخلوا بأمره، وتيسيره.
ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال، أي: ملتبسين بأمر ربهم.
وجوز أبو البقاء ِأن يكون من تمام: «خَالِدينَ» يعني: أنه متعلق به، وليس بممتنع، وكذا على قراءة الشَّيخين.
377
فقال الزمخشريُّ: فإن قلت: «فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى، وقولك: وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟.
قلت: الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم»
.
ورد عليه أبو حيَّان هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه.
وقد علقه غير الزمخشريِّ ب «أدْخِلَ»، ولا تنافر في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله: «وأدْخِلَ» أنه هو الله تعالى.
وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلامٌ بإن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره.
و «تَحِيَّتُهُمْ» مصدر مضاف لمفعوله، أي: يحييهم الله تعالى، أو ملائكته، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله، أي: يحيى بعضهم بعضاً.
ويعضد الأول ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤] و ﴿فِيهَا﴾ متعلق به.

فصل


أعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فأشار بقوله تعالى: ﴿وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ إلى المنفعة الخالصة واشار بقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ إلى دوامها، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ أي: بإذن الله وأمره، وبقوله عزَّ وجلَّ ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ [يونس: ١٠] أي: أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة، أو الملائكة يحيونهم بها، كما قال تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [بهذه الكلمة] ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] والسلام مشتقش من السلامة، أي: أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمرضها وأسقامها.
378
فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال ﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق ﴾.
قوله :﴿ وَعْدَ الحق ﴾ يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته، كقوله تعالى :﴿ وَحَبَّ الحصيد ﴾ [ ق : ٩ ] ومسجد الجامع، أي : الوعد الحق، وأن يراد ب " الحقِّ " صفة الباري -تعالى-، أي : وعدكم الله وعده الحق، وأن يراد ب " الحَقِّ " البعث، والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة.
وقيل : وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين :
الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد ؛ لأنهم شاهدوه.
والثاني : قوله : ووعدتكم فأخلفتكم الوعد، يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف للعلم به تقديره : ووعدتكم أن لا جنّة، ولا نار، ولا حشر، ولا حساب.

فصل


لما [ ذكر ]١ الله -سبحانه وتعالى- المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال :﴿ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر ﴾ قال المفسرون : إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم فيما بينهم خطيباً، فيقول :" إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ ".
وقيل : المراد من قوله تعالى :﴿ لَمَّا قُضِيَ الأمر ﴾ أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله !.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ أي : قدرة وتسلط، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ ﴾ فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تَحِيَّتُهم إلاَّ الضرب.
والثاني : أنه متصل ؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه، فهو نوع من التسلُّط.
وقرئ٢ " فَلا يَلُومُونِي " بالياء من تحت الالتفات، كقوله تعالى :﴿ حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام.
ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله ؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي، ولا تلتفتوا إليَّ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ.
قالت المعتزلة٣ : هذه الآية تدل على أشياء :
أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله -تعالى- لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله -تعالى- قضى عليكم بالكفر، وأجبركم عليه.
والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله.
والثالث : يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه، وذمه، وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسك به.
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبينه الله -تعالى- وأظهر إنكاره، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل، والقول الفاسد.
ألا ترى أن قوله :﴿ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ كلام حق، وقوله ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ قول حق بدليل قوله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين ﴾ [ الحجر : ٤٢ ].
قال ابن الخطيب -رحمه الله- : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [ الأصلي ] ٤ هو النفس ؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة، والغضب، والوهم، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس.
فإن قيل : لِمَ قال الشيطان :" فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ " وهو ملوم بسبب وسوسته ؟.
فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم :" ولوموا أنفسكم " عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله -تعالى- لكم.
قوله تعالى :﴿ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ العامَّة على فتح الياءِ ؛ لأن، الياء المدغم فيها تفتح أبداً، لاسيما وقبلها كسرتان.
وقرأ حمزة بكسرها٥، وهي لغة بني يربوع، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضطراباً شديداً، فمن مجترئ عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع، والأصل : بمُصرخينَ لي [ فحذفت ]٦ النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، ومن مجوِّز لها بضعف.
قال حسين الجعفيُّ -رحمه الله- : سألت أبا عمرو عن كسر الياء ؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم.
ومنها : سألت أبا عمرو، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال : هي جائزة أيضا، إنما أراد تحريك الياء، فلست تبالي إذا حركتها إلى أسفل أم إلى فوق. وعنه : من شاء فتح، ومن شاء كسر.
ومنها : أنه قال : إنها بالخفض حسنة، وعنه قال : قدم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألته هن القرآن، فوجدته به عالما، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش، [ واستقر ]٧ به :﴿ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ بالجر، فقال : هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها.
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه ؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن، واللغة، والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني :[ البسيط ]
وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ لمْ يَسْتطِعْ صَوْلةَ البُزْلِ القَناعِيسِ٨
ثم ذكر العلماء في ذلك التوجيهات :
منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون، فلما التقيا كسرت ؛ لالتقاء الساكنين.
الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و " هاء " الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة ؛ فتكسر كما تكسر الهاء في :" عَليْهِ "، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو " عليهي " بياء، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها.
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع.
قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء ؛ وأنشد :[ الرجز ]
مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ *** قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَافِيِّ٩
وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً، فهو مما يلتقي من السكانين فنخفض الآخر منها.
وقال أبو علي١٠ : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب، وكان ثقة بصيراً.
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.
وقال أبو جعفر :" صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله -عزَّ وجلَّ- على الشذوذ ".
وقال الزمخشري١١ : هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول :[ الرجز ]
قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ *** قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ١٢
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح ؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي، فما بالها وقبلها ياء ؟.
فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل.
قلت : هذا قياس حسنٌ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات.
قال أبو حيان١٣ -رحمه الله تعالى- :" أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء ".
قال شهابُ الدِّين١٤ : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه، وأول هذا الرجز :
أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ١٥
ثم قال أبوة حيان١٦ :" وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف، فلا أعلم " حيث " يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف، نحو :" قعد زيد حيث أمام عمرو بكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع ".
قال شهابُ الدين١٧ -رحمه الله- :" إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية ".
ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روي بسكون الياء بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراء، نحو :﴿ وَمَحْيَايَ ﴾ [ الأنعام : ١٦٢ ].
قال شهاب الدين١٨ : مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنه محل البحث، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح، وهو قوله :[ الطويل ]
عَليَّ لِعمْرو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ١٩
وقال الفراء٢٠ في كتاب " المَعانِي " له :" وقد خفض الياء من " مصرخي " الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش، ولعلها من وهم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنَّ الياء في ﴿ بِمُصْرِخِيَّ ﴾ خافضة للفظ كله، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك ؟ قال : ومما [ نرى ]٢١ أنهم وهموا فيه قوله ﴿ نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ﴾ [ النساء : ١١٥ ] بالجزم في الهاء "، ثمَّ ذكر غير ذلك.
وقال أبو عبيدٍ : أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً ؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها، وقد كان في القراء من يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها.
وقال الأخفش٢٢ :" ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين ".
قال النحاس٢٣ : فصار هذا إجماعاً، ولا يجوز، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب.
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال٢٤ في حجَّته :" وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في " أكْرَمْتُكَ " وهذا لك، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في " هذا لهو، وضربهو "، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من قال :" أعْطَاكهُ " و " أعْطَيْتكَهُ " فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء، ولحقت الياء الزيادة في قول الشاعر :[ الهزج ]
رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ومَا أخْطَأتِ [ في ] الرَّميَه٢٥
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد، فقالوا : فيِّ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***. . . . . . . . . . . . . . . . لَهْ أرِ
١ في ب: طلب..
٢ ينظر البحر المحيط ٥/٤٠٨ والدر المصون ٤/٢٦١..
٣ ينظر: الفخر الرازي ١٩/٨٨..
٤ في أ: الأعلى..
٥ ينظر: السبعة ٣٦٢ والحجة ٥/٢٨ وإعراب القراءات السبع ١/٣٣٥ وحجة القراءات ٣٧٧ والإتحاف ٢/١٦٧، ١٦٨ وقرأ بها أيضا الأعمش وابن وثاب ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٣٤ والبحر المحيط ٥/٤٠٨ والدر المصون ٤/٢٦١..
٦ في ب: فذهبت..
٧ في أ: واستشعر..
٨ تقدم..
٩ البيت للأغلب العجلي. ينظر: إبراز المعاني (٥٥٠)، معاني الفراء ٢/٧٦، الألوسي ١٣/٢١٠ حاشية يس ٢/٦٠، معاني الزجاج ٣/١٥٩، الخزانة ٢/٢٥٧، ٢٥٨، مشكل إعراب القرآن ١/٤٠٤، المحتسب ٢/٤٩، رسالة الغفران ٤٥٦، إعراب النحاس ٢/٣٦٩، الكشاف ٢/٣٧٤، الدر اللقيط ٥/٤١٩، الكشف ٢/٢٦، الدر المصون ٤/٢٦٢..
١٠ ينظر: الحجة ٥/٢٩..
١١ ينظر: الكشاف ٢/٥٥١..
١٢ تقدم..
١٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٠٩..
١٤ ينظر: الدر المصون ٤/٢٦٢..
١٥ البيت للأغلب العجلي. ينظر: الخزانة ٤/٤٣١، حاشية يس ٢/٦٠، إبراز المعاني /٥٥١، الدر المصون ٤/٢٦٣..
١٦ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٠٩..
١٧ ينظر: الدر المصون ٤/٢٦٣..
١٨ ينظر: الدر المصون ٤/٢٦٣..
١٩ ينظر: ديوانه (٩)، المحتسب ٢/٤٩، أمالي ابن الشجري ٢/١٨٠، الهمع ٢/٥٣، الدرر ٢/٦٨، الألوسي ١٣/٢١٠، الخزانة ٢/٣٦٠، شرح الكافية الشافية (١٠٠٨)..
٢٠ ينظر: معاني القرآن للفراء ٢/٧٥..
٢١ في ب: يؤكد..
٢٢ ينظر: معاني القرآن للأخفش ٢/٣٧٥..
٢٣ ينظر: إعراب القرآن ٢/١٨٣..
٢٤ ينظر: الحجة ٥/٢٩..
٢٥ ينظر: الخزانة ٥/٢٦٨، إبراز المعاني (٥٥١)، القوافي للمبرد ص ٧، القوافي للتنوخي ص ٨٠، مشكل إعراب القرآن ١/٤٠٣، شرح الحور العين ص ٩٥، تفسير القرطبي ٣/٣١١، شرح الكافية للرضي ٢/٢٢، الدر المصون ٤/٢٦٣..
قوله تعالى :﴿ وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال -عزَّ وجلَّ- ﴿ وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ ﴾ قرأ العامة " أدْخِلَ " ماضياً مبنياً للمفعول، والفاعل الله أو الملائكة.
وقرأ الحسن١ وعمرو بن عبيد :" أدخلُ " مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله -تعالى- فمحل الموصول على الأولى رفع، وعلى الثانية نصبٌ.
قوله :﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ في قراءة العامة يتعلق ب " أدْخِلَ " أي : أدخلوا بأمره، وتيسيره.
ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال، أي : ملتبسين بأمر ربهم.
وجوز أبو البقاء٢ ِأن يكون من تمام :" خَالِدينَ " يعني : أنه متعلق به، وليس بممتنع، وكذا على قراءة الشَّيخين.
فقال الزمخشريُّ : فإن قلت :" فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى، وقولك : وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم ؟.
قلت : الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده، أي : تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم ".
ورد عليه أبو حيَّان٣ هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه.
وقد علقه غير الزمخشريِّ ب " أدْخِلَ "، ولا تنافر في ذلك ؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله :" وأدْخِلَ " أنه هو الله -تعالى-.
وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده، أي : تحيتهم فيها سلامٌ بإذن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره.
و " تَحِيَّتُهُمْ " مصدر مضاف لمفعوله، أي : يحييهم الله تعالى، أو ملائكته، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أي : يحيى بعضهم بعضاً.
ويعضد الأول ﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ و﴿ فِيهَا ﴾ [ الرعد : ٢٣، ٢٤ ] متعلق به.

فصل


اعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فأشار بقوله تعالى :﴿ وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ إلى المنفعة الخالصة وأشار بقوله :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ إلى دوامها، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ﴾ أي : بإذن الله وأمره، وبقوله -عزَّ وجلَّ- ﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ [ يونس : ١٠ ] أي : أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة، أو الملائكة يحيونهم بها، كما قال تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾ [ الرعد : ٢٣، ٢٤ ] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [ بهذه الكلمة ]٤ ﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ [ يس : ٥٨ ] والسلام مشتق من السلامة، أي : أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمراضها وأسقامها.
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٥٢، والمحرر الوجيز ٣/٣٣٤ والبحر المحيط ٥/٤١٠ والدر المصون ٤/٢٦٦..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٦٨..
٣ ينظر: البحر المحيط ٥/٤١٠..
٤ في ب: بهذا الكلام..
قوله تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ﴾ لما شرح
378
أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وف «ضَرَبَ» أوجه:
أحدها: أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه، و «كَلِمةً» على منصوبة بمضمر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طييبة، وهو تفسير لقوله: «ضَربَ اللهُ مَثلاً» كقولك: شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً، وحلمه على ضربين، وبه بدأ الزمخشريُّ.
قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفيهن تكلف إضمار، ولا ضرورة تدعو إليه».
قال شهاب الدين: «بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص».
الثاني: أنَّ «ضَرَبَ» متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى «صَيَّرَ» لكن مع لفظ المثل خاصة، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب، فيكون «كَلمَةٌ» مفعولاً أولا، و «مَثلاً» هوالثاني مقدم.
الثالث: أنَّه متعدٍّ لواحد، وهو «مَثَلاً»، و «كَلمَةً» بدل منه، و «كَشجَرةٍ» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون «كَشجَرةٍ» نعتاً ل: «كَلِمَةً».
وقرىء «كَلِمةٌ» بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المثل كلمة طيبة، ويكون «كَشجَرة» على هذا نعتاً ل «كَلِمَةٍ».
والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، و «كَشجَرةٍ» خبر.
وقرأ أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ثَابِتٌ أصْلُهَتا».
قال الزمخشريُّ: فِإن قلت: أي فربق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة، ولو قلت: مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ، فهو أقوى من «رَجُل قَائِم أبوهُ» ؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب، لا «رجل». والجملة من قوله: «أصْلُهَا ثَابتٌ» في محلِّ جرٍّ نعتاً ل «شَجَرةٍ».
وكذلك «تُؤتِي أكلها» ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين، وجواز أبو البقاء في «تُوتِي» أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مؤتية أكلها، وتقدم الخلاف في «أكُلَهَا».

فصل


المعنى: ألم تعلم، والمثل: قول سائر كتشبيه شيء بشيء: «كَلِمة طَيِّبةً» هي قول: لا إله إلا الله «كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ» وهي النَّخلةُ يريد: كشجرة طيبة الثمر.
379
وقال أبو ظيبان عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض، وفرعها أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة، والتصديق، فإذا تكلَّم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ قال تعالى:
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: ١٠]. ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر، والطعم، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت، اي: راسخٌ آمن من الانقطاع، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل، وأنَّها متى ارتفعت كانت عبدية عن عفونات الأرض، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ، ووصفها أيضاً بأنها: «تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها» والحين في اللغة هو الوقت، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض.
وقال مجاهد وعكرمة: والحين: سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.
وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام.
وقال الربيع بن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كل حين، أي: كل غدوة، وعشية، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره، وبركة إيمانه لا تنطقع أبداً، بل تتصل في كلِّ وقت.
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء:
380
عِرقٌ رَاسخٌ، وأصلٌ قَائِمٌ، وفَرعٌ عالٍ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
ثم قال تعالى جل ذكره ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني.
وقوله: ﴿وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ﴾ قرىء بنصب «مثَل» عطفاً على: «مَثلَ» الأوَّلِ.
و «اجْتُثَّتْ» «صفة ل» شَجَرَةٍ «، ومعنى:» اجْتُثَّتْ «قلعت جثتها، أي: شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال: اجتث الشيء أي اقتلعه، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجَثَثْتُ الشيء: قلعتهُ.
قال لقيط الإيادي: [البسيط]
٣٢١٧ - هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا
وقال الراغب:»
جُثَّةٌ الشيء: شخصه النَّاتىء، والمُجَيَّةُ: ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ، والجَثْجَاثُ: نَبْتٌ «.
و»
مِنْ قرارٍ «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي، وأن يكون مبتدأ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل» شَجَرةٍ «وإمَّا حال من ضمير:» اجْتُثَّتْ «.

فصل في المراد بالشجرة الخبيثة


الكلمة الخبيثة هي الشرك:»
كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ «وهي الحنظلُ وقيل: هي الثوم.
وقيل: هي الكشوث وهل العسَّة، وهي شجرةٌ لا ورق لها، ولا عروق في الأرض.
[قال الشاعر:] [البسيط]
٣٢١٨ -............................. وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر
وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض.
«اجْتُثَّت»
اقتلعت من فوق الأرض «مَا لهَا من قرارٍ» ثابت، أي: ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا صعد له قولٌ طيب، ولا عمل صالح.
381

فصل


قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت﴾ كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ يعني قبل الموت، ﴿وَفِي الآخرة﴾ يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين.
وقيل: ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ في القبر عند السؤال ﴿وَفِي الآخرة﴾ عند البعث، والأول أصح، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ ﴿يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة﴾ قال حين يُقالُ لَهُ: مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول: الله ربِّي، ودينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ» واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، فيلقّن الله المؤمن لكمة الحق في القبر عند السؤال، ويثبته على الحق.
ومعنى «الثَّابِتِ» هو أنَّ الله تعالى إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول.
قوله: «بالقَوْلِ» فيه وجهان:
أحدهما: تعلقه ب «يُثَبِّتُ».
والثاني: أنه متعلق ب «آمنُوا».
وقوله تعالى: ﴿فِي الحياة﴾ متعلق ب «يُثَبِّتُ» ويجوز أن يتعلق ب «الثَّابتِ».
ثمَّ قال تعالى: ﴿وَيُضِلُّ الله الظالمين﴾ أي: لايهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر ﴿وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ﴾ من التوفيق والخذلان والتثبيت، وترك التثبيت.
382
والحين في اللغة هو الوقت، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض.
وقال مجاهد وعكرمة : والحين : سنة كاملة ؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ١. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه-٢.
وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.
وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام٣.
وقال الربيع بن أنس -رضي الله عنه- : كل حين، أي : كل غدوة، وعشية، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره، وبركة إيمانه لا تنقطع أبداً، بل تتصل في كلِّ وقت٤.
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء :
عِرقٌ رَاسخٌ، وأصلٌ قَائِمٌ، وفَرعٌ عالٍ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأبدان.
ثم قال تعالى -جل ذكره- ﴿ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٤٣) عن مجاهد وابن زيد وذكره الماوردي في "تفسيره" (٣/١٣٢)، عن مجاهد والبغوي (٣/٣٢) عن مجاهد وعكرمة..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٤٢) عن عكرمة وسعيد بن جبير وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٤٤) عن عكرمة وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره عن ابن عباس وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
وذكره الماوردي (٣/١٣٢) عن مجاهد..

٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٤٣) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٤٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٤٠ – ٤٤١) عن ابن عباس والربيع بن أنس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٤٥) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى البيهقي..
وقوله :﴿ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ قرئ١ بنصب " مثَل " عطفاً على :" مَثلَ " الأوَّلِ.
و " اجْتُثَّتْ " " صفة ل " شَجَرَةٍ "، ومعنى :" اجْتُثَّتْ " قلعت جثتها، أي : شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال : اجتث الشيء أي اقتلعه، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجَثَثْتُ الشيء : قلعتهُ.
قال لقيط الأيادي :[ البسيط ]
هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ *** فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا٢
وقال الراغب٣ :" جُثَّةُ الشيء : شخصه النَّاتئ، والمُجَثّةُ : ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ، والجَثْجَاثُ : نَبْتٌ ".
و " مِنْ قرارٍ " يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي، وأن يكون مبتدأ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل " شَجَرةٍ " وإمَّا حال من ضمير :" اجْتُثَّتْ ".

فصل في المراد بالشجرة الخبيثة


الكلمة الخبيثة هي الشرك :" كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ " وهي الحنظلُ وقيل : هي الثوم.
وقيل : هي الكشوث وهل العسَّة، وهي شجرةٌ لا ورق لها، ولا عروق في الأرض.
[ قال الشاعر :]٤ [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر٥
وعن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنه- أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض٦.
" اجْتُثَّت " اقتلعت من فوق الأرض " مَا لهَا من قرارٍ " ثابت، أي : ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا صعد له قولٌ طيب، ولا عمل صالح.
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٥٣ والبحر المحيط ٥/٤١١ والدر المصون ٤/٢٦٧..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/ القرطبي ٥/٣٩٦، الأغاني ١٢/٣٥٦، الدر المصون ٤/٢٦٧..
٣ ينظر: المفردات: ٨٨..
٤ سقط في ب..
٥ ينظر: اللسان (كشت)، والقرطبي ٩/٢٣٧، وروح المعاني ١٣/٢١٥، والبحر المحيط ٥/٤١١ ورواية اللسان: هو الكشوت فلا أصل ولا رق..
٦ ذكره القرطبي ٩(٢٣٧) وأخرجه الطبري (٧/٤٤٥) عن ابن عباس بمعناه..

فصل


قوله تعالى :﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت ﴾ كلمة التوحيد، وهي قوله : لا إله إلا الله ﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾ يعني قبل الموت، ﴿ وَفِي الآخرة ﴾ يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين.
وقيل :﴿ فِي الحياة الدنيا ﴾ في القبر عند السؤال ﴿ وَفِي الآخرة ﴾ عند البعث، والأول أصح، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ ﴿ يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة ﴾ قال حين يُقالُ لَهُ : مَن ربُّكَ ؟ ومَا دِينُكَ ؟ ومَنْ نَبيُّكَ ؟ فيقول : الله ربِّي، ودينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ " ١. والمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، فيلقّن الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال، ويثبته على الحق.
ومعنى " الثَّابِتِ " هو أنَّ الله -تعالى- إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول.
قوله :" بالقَوْلِ " فيه وجهان :
أحدهما : تعلقه ب " يُثَبِّتُ ".
والثاني : أنه متعلق ب " آمنُوا ".
وقوله تعالى :﴿ فِي الحياة ﴾ متعلق ب " يُثَبِّتُ " ويجوز أن يتعلق ب " الثَّابتِ ".
ثمَّ قال تعالى :﴿ وَيُضِلُّ الله الظالمين ﴾ أي : لا يهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر ﴿ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ ﴾ من التوفيق والخذلان والتثبيت، وترك التثبيت.
١ أخرجه البخاري ٣/٢٣١ – ٢٣٢، في الجنائز: باب ما جاء في عذاب القبر (١٣٦٩)، (٤٦٩٩)، ومسلم ٤/٢٢٠١ - ٢٢٠٢ في الجنة وصفة نعيمها باب عرض مقعد الميت في الجنة أو النار عليه (٧٣/٢٨٧١)، (٧٣/٢٨٧١)..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ الآية اعلم أنَّه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال عَزَّ وَجَلَّ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ﴾.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ﴿الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ هم والله كفار قريش «بدَّلُوا» أي: غيروا «نعِْمةَ اللهِ» عليم في محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث ابتعثه الله
382
منهم كفروا به: «أحَلُّوا» أنزلوا: «قَوْمهُمْ» من على كفرهم: «دَارَ البَوارِ» الهلاك.
ثم بيَّن دار البوار فقال: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار﴾ المستقر، وقال عليٌّ: هم كفار قريش نُحروا يوم بدرٍ.
وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [مخزوم]، فأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين، وأما بنو مخزوم، [فأهلكوا] يوم بدر قاله على ابن أبي طالب، وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما.
وعن ابن عباس وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في منتصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.
وقال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي عامَّة في جميع المشركين.
قوله تعالى: ﴿بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ فيه أوجه:
أحدها: أن الأصل: بدلوا شكر نعمة الله كفراً، كقوله تعالى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: ٨٣] أي شكر رزقكم؛ وجب عليهم الشكر؛ فوضعوا موضعه الكفر.
والثاني: أنَّهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنَّهم لما كفروها سلبوها، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلاً لهم، قالهما الزمخشريُّ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف، وقد تقدَّم أن «بدَّل» يعتدى لاثنين:
أولهما: من غير حرف.
والثاني: بالباء، وأن الجمهور هو المتروكم والمنصوب هو الحاصل، ويجوز حذف الحروف فيكون المجرور بالباء هنا هو «نِعْمَةٌ» ؛ لأنها المتروكة.
وإذاً عرف أنَّ قول الحوفي، وأبي البقاءِ: أن «كُفْراً» هو المفعولُ الثاني ليس بجيد؛ لأنه هو الَّذي يصلُ إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر، ما كان كذا فهو المفعول الأول.
قوله: ﴿جَهَنَّمَ﴾ فيه ثلاثة أوجه:
383
أحدها: أنه بدلٌ من «دَارَ».
الثاني: أنه عطف بيان لها، وعلى هذين الوجهين؛ فالإحلال يقع في الآخرة.
الثالث: أن ينتصب على الاشتغل بفعل مقدر، وعلى هذا، فالإحلال يقع في الدُّنيا، لأن قوله: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا﴾ أي: واقع في الآخرة.
ويؤيَّدُ هذا التأويل: قراءة ابن أبي عبلة «جَهَنَّمُ» بالرفع على أنها مبتدأ، والجملة بعده الخبر.
وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر: وهو أن ترتفع على خبر [مبتدأ] مضمر.
و «يَصْلونهَا» حال إمَّا من: «قَوْمَهُمْ»، وإمَّا من «دَارَ»، وإمَّا من: «جَهنَّمَ».
وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال.
و «البَوار» : الهلاكُ؛ قال الشاعر: [الوافر]
٣٢١٩ - فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ
وأصله من [الكساد] كما قيل: كَسَدَ حتَّى فسَدَ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار.
ويقال: بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ [الفتح: ١٢] ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى، ومن وقوع «بُور» على الواحد قوله: [الخفيف]
٣٢٢٠ - يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ
أي: هَالِكٌ.
قوله: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ﴾ والمراد بهذا الجعل: الحم والاعتقاد، والفعل، والأنداد الأشباه، والشركاء.
384
«لِيُضلُّوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ﴾ بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله، واللام هي لام الجر مضمرة: «أنْ» بعدها، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون لللتعليل.
وقيل: هي مع فتح الياء للعاقبة فقط، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم، وليس كما زعم، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُواْ﴾ عيشوا في الدنيا: ﴿فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار﴾ ﴿إِلَى النار﴾ خبر «إنَّ: والمصير مصدر، و» صَارَ «التامة، أي: فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار.
وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق ﴿إِلَى النار﴾ ب»
مَصِيرَكُمْ «.
وقد ردَّ هذا بعضهم: بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل، و ﴿إِلَى النار﴾ متعلق به، بقيت»
إنَّ «بلا خبر، لا يقال: خبرها حينئذ محذوف؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة، والخبر ظرفاً أو جارًّا، كقوله: [المنسرح]
385
قوله :﴿ جَهَنَّمَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من " دَارَ ".
الثاني : أنه عطف بيان لها، وعلى هذين الوجهين ؛ فالإحلال يقع في الآخرة.
الثالث : أن ينتصب على الاشتغال بفعل مقدر، وعلى هذا، فالإحلال يقع في الدُّنيا، لأن قوله :﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ﴾ أي : واقع في الآخرة.
ويؤيَّدُ هذا التأويل : قراءة ابن أبي عبلة١ " جَهَنَّمُ " بالرفع على أنها مبتدأ، والجملة بعده الخبر.
وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر : وهو أن ترتفع على خبر [ مبتدأ ]٢ مضمر.
و " يَصْلونهَا " حال إمَّا من :" قَوْمَهُمْ "، وإمَّا من " دَارَ "، وإمَّا من :" جَهنَّمَ ".
وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح ؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال.
و " البَوار " : الهلاكُ ؛ قال الشاعر :[ الوافر ]
٣٢٢١ - إنَّ مَحَلا وإنَّ مُرْتَحَلاَ وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا
فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ٣
وأصله من [ الكساد ]٤ كما قيل : كَسَدَ حتَّى فسَدَ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار.
ويقال : بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ، وقوله -عزَّ وجلَّ- :﴿ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾ [ الفتح : ١٢ ].
ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى، ومن وقوع " بُور " على الواحد قوله :[ الخفيف ]
يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ٥
أي : هَالِكٌ.
١ البحر المحيط ٥/٤١٣ والدر المصون ٤/٢٦٨. ينظر.
٢ في أ: ابتداء..
٣ ينظر: القرطبي ٥/٣٩٨، الألوسي ٣/٢١٨، فتح القدير ٣/١٠٩، الدر المصون ٤/٢٦٨..
٤ في ب: الإكساد..
٥ ينظر: ديوان ابن رواحة (٦٦١)، القرطبي ٩/٣٦٥، روح المعاني ١٣/٢١٨، الطبري ١٣/١٤٥، مجاز القرآن ١/٣٤٠، إصلاح المنطق /١٤١، تاريخ الطبري ٣/١٢٢، الجمهرة ٢٩٨١، اللسان والتاج (بور)، شواهد المغني للسيوطي /١٨٨، تفسير غريب القرآن ٣١١. سمط اللآلي ٣٨٨، ٣٩٠، طبقات فحول الشعراء ٢٠٢، الدر المصون ٦/٨٦٨..
قوله :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّواْ ﴾ والمراد بهذا الجعل : الحم والاعتقاد، والفعل، والأنداد الأشباه، والشركاء.
" لِيُضلُّوا " قرأ ابن كثير١ وأبو عمرو هنا :﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ ﴾ بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله، واللام هي لام الجر مضمرة :" أنْ " بعدها، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون للتعليل.
وقيل : هي مع فتح الياء للعاقبة فقط، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم، وليس كما زعم، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه.
قوله تعالى :﴿ قُلْ تَمَتَّعُواْ ﴾ عيشوا في الدنيا :﴿ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار ﴾ ﴿ إِلَى النار ﴾ خبر " إنَّ " : والمصير مصدر، و " صَارَ " التامة، أي : فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار.
وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق ﴿ إِلَى النار ﴾ ب " مَصِيرَكُمْ ".
وقد ردَّ هذا بعضهم : بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل، و﴿ إِلَى النار ﴾ متعلق به، بقيت " إنَّ " بلا خبر، لا يقال : خبرها حينئذ محذوف ؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة، والخبر ظرفاً أو جارًّا، كقوله :[ المنسرح ]
إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتَحَلاَ وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا٢
١ ينظر: حجة القراءات ٣٧٨ والإتحاف ٢/١٦٩ والمحرر الوجيز ٣/٣٣٨، والبحر المحيط ٥/٤١٤ والدر المصون ٤/٢٦٨..
٢ البيت للأعشى. ينظر: ديوانه (١٥٥)، الكتاب ١/٢٨٤، المقتضب ٤/١٣٠، الخصائص ٢/٢٧٣، المحتسب ١/٣٤٩، دلائل الإعجاز /٢١٠، أمالي ابن الشجري ١/٣٢٢، ابن يعيش ١/٣٠، ٨/٧٤، المقرب ٢٠، الخزانة ٤/٣٨١، مغني اللبيب ٨٢، شرح شواهد المغني ٢/١٦١، الهمع ١/١٣٦، الدرر ١/١١٣، الدر المصون ٤/٢٦٩، سر صناعة الإعراب ٢/٥٧١، حاشية يس ١/١٦٩، الشعر والشعراء ص ٧٥، لسان العرب (رحل)، الأشباه والنظائر ٢/٣٢٩، أمالي ابن الحاجب ١/٣٤٥، رصف المعاني ص ٢٩٨، الصاحبي في فقه اللغة ص ١٣٠، الدر المصون ٤/٢٦٩..
لما هدد الكفار، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال.
وفي «يُقِيمُوا» أوجه:
385
أحدها: أنه مجزومٌ بلام محذوفة، تقديره: ليقيموا، فحذفت وبقي عملها، كما يحذف الجار ويبقى عمله، كقوله: [الوافر]
٣٢٢٢ - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا
يريد: لتفدِ.
وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ.
قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون:» يُقِيمُوا، و «يُنْفِقُوا» بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، وليكون هذا هو المقولُ، قالوا: وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو «قُلْ» عوض منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز «.
ونحا ابنُ مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى قريب من هذا، فإنَّه جعل محذف هذه اللاَّم على أضربٍ: قليل، وكثير ومتوسط. فالكثير: أن يكمون قبله قول بصيغة الأمر، كلآية الكريمة.
والقليل: ألا يتقدم قول؛ كقوله: [الوافر]
٣٢٣٣ - مُحَمَّدُ تَفْدِ...................................
والمتوسطُ: أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر، كقوله: [الرجز]
٣٢٢٤ - قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا
الثاني: أن»
يُقِيمُوا «مجزوم على جواب:» قُلْ «، وإليه نحا الأخفش والمبرد.
وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم: أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر.
وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا.
الثالث: أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ، تقديره: قل لعبادي أقيموا وأنفقوا، أي: يقيموا وينفقوا، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وعزاه للمبرّد، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده، وهو فاسدٌ من وجهين:
أحدهما: أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو
386
فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل، فهو خطأ، كقولك: قُمْ يَقُمْ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه: أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا.
والوجه الثاني: أنَّ الأمر المقدر للمواجهة، و» يُقِيمُوا «على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً.
قال شهاب الدين:»
أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب، وأمَّا الثاني، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول: قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال «.
الرابع: أن التقدير: أن يقول هلم: أقيموا يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية، وهذا هو القول الثاني.
الخامس: قال ابن عطية:»
يحتمل أن يكون «يُقِيمُوا» جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله «قُلْ» وذلك أن تجعل «قُلْ» في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة «.
السادس: قال الفراء: الأمر معه شرط مقدر، تقولُ: أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا، وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ.
السابع: قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر، ومعناه: أقيموا.
وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه.
وأجيب عن هذا: بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو: يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير.
ولو قيل: بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا»
.
وفي معمول «قُلْ» ثلاثة أوجه:
الأول: الأمر المقدر، أي: قل لهم أقيما يقيموا.
الثاني: أنه نفس «يُقِيمُوا» على ما قاله ابن عطية.
الثالث: أنَّه الجملة من قوله: ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ إلى أخره، قاله ابن عطية؟
وفيه تفكيك النَّظم، وجعل الجملة: ﴿يُقِيمُواْ الصلاة﴾ إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده، أو يكون جواباً فصل به بين القولين، ومعموله، لكنه لا يترتب على قوله ذلك: إقامة الصلاة، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا.
387
وقرأ حمزة والكسائي: «لِعبَادِيْ» بسكون الياء، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين.
قوله: ﴿سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾ في نصبهما ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهما حالان مما تقدجم، وفيهما الثلاث التأويلات في: زيْدٌ عدْلٌ، أي: ذَوِي سرٍّ، وعلانيةٍ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة.
الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وقتي سر وعلانية.
الثالث: أنهما منصوبان على المصدر، أي: إنفاق سرِّ، وإنفاق علانية.
قوله: ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ متعلق ب: «يُقِيمُوا» و «يُنْفِقُوا» أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.
وقد تقدَّم خلاف القراء في: «لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ».
والخِلال المُخالة، وهي المُصاحبة، يقال: خاللته خِلالاً، ومخالَّة؛ قال طرفة: [السريع]
٣٢٢٥ - كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه
وقال امرؤ القيس: [الطويل]
٣٢٢٦ - صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ
وقال الأخفش: خِلال جمع ل «خلة»، نحو «بُرمَة وبِرَام».

فصل


قال مقاتلٌ: يوم لا بيع فيه، ولا شراء، ولا مخالفة، ولا قرابة. وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [٢٥٤].
فإن قيل: كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله: ﴿الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين﴾ [الزخرف: ٦٧] ؟.
فالجواب: أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع، ورغبة النفس، والآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ.
قوله تعالى: ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ الآية لما وصف أحوال السعداء،
388
وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل:
أولها: خلق السَّموات.
وثانيها: خلق الأرض.
وثالثها: قوله: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾.
«مِنَ السَّماءِ: يجوز أني تعلق ب» أنْزلَ «، و» من «لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من» مَاءٍ «؛ لأ، هـ صفته في الأصل، وكذلك» مِنَ الثَّمراتِ «في الوجهين.
وجوَّز الزمخشري وابن عطية: أن تكون:»
مِنْ «لبيان الجنس، أي: ورزقاً هو الثمرات.
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة ٢٣، ٢٥].
ورابعها: قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ يجوز أن يتعلق»
بأمْرهِ «ب» تَجْرِي «أي: بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي: ملتبسة به.
وخامسها: قوله ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار﴾.
وسادسها، وسابعها: ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ﴾ دائبين حال من»
الشمسِ والقَمرِ «، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ.
وثامنها وتاسعها: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار﴾.
وعاشرها: قوله تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ العكامة على أضافة:»
كُلِّ «إلى ما. وفي» مِنْ «قولان:
أحدهما: أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي: كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ.
والثاني: أن تكون تبعيضية، أي: آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره: وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و»
مَا «يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي: مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في:» سَألتُموهُ «عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما
389
أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾.
وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع رضشي الله عنهم في رواية:» مِنْ كُلِّ «منونة، وفي» مَا «على هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنَّها نافية، وبيه بدأ الزمخشري، فقال: و»
مَا سَألتْمُوهُ «نفي ومحله النَّصب على الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.
قال شهاب الدين: ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله: «مِنْ كُلِّ»
كقوله تعالى ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ١٦].
والثاني: أنها موصولة يمعنى الذي، وهي المفعول الثاني ل «آتَاكُمْ:.
وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة.
قال أبو حيَّان: ِ»
ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال: ويجوز أن تكون: «مَا» موصولة على: وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول: «مَا سَألتْمُوهُ» بمعنى ما احتجتم إليه «.

فصل


اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.
ثمَّ قال: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾ فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل: ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ﴾.
قال أبو مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ: لفظ»
الثَّمراتِ «يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى: ﴿كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١].
390
ثم قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ﴾ [إبراهيم: ٣٢] نظره ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام﴾ [الشورى: ٣٢].
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض، وبالعكس، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ، وهي الجمال، أو بسفن البحر، وهي الفلك.
فإن قيل: ما معنى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك﴾ منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟.
فالجوابُ: أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهنل السُّنَّة، فلا سؤال.
وأمَّا عند المعتزلة: فأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد، وسائر الآلات، وعرف العباد صنعه التركيب، وخلق الرياح، وخلق الحركات القوية فيها، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.
وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل، وإنَّما يقال: أمر، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
[النحل: ٤٠] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر.
ثم قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار﴾، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً: فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار.
ثم قال عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر﴾ والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى ﴿وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً﴾ [نوح: ١٦] ﴿وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ [الفرقان: ٦١] ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ [يونس: ٥]، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة.
ثم قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار﴾ ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله ﴿وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً﴾ [النبأ: ١٠، ١١]، وقوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ [القصص: ٧٣].
قال المتكلمون: تسخير الليل، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر.
391
ثم قال عزَّ وجلَّ: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ﴾ أي: أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد.
ثمَّ قال ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا﴾ قال الواحديُّ: «النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر، يقال: أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله: أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر».
وقال غيره: «النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به».
وخُتِمَت هذه الآية ب ﴿إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ﴾ ونظيرها في النحل ب ﴿إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النحل: ١٨] لأن في هذه تقدم قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً﴾ [إبراهيم: ٢٨] وبعده ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً﴾ [أبراهيم: ٣٠] فجاء قوله ﴿إِنَّ الإنسان﴾ شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله جلّ ذكره ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾ [النحل: ١٧] أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.
وقال ابن الخطيب: «كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما: كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند أعطائها وهما: كوني غفوراً رحيماً، فكأنه تعالى يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء».
392
قوله تعالى :﴿ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ الآية لما وصف أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله -تعالى- بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله -تعالى- هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل :
أولها : خلق السماوات.
وثانيها : خلق الأرض.
وثالثها : قوله :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾.
" مِنَ السَّماءِ " يجوز أني تعلق ب " أنْزلَ "، و " من " لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من " مَاءٍ " ؛ لأنه صفته في الأصل، وكذلك " مِنَ الثَّمراتِ " في الوجهين.
وجوَّز الزمخشري١ وابن عطية٢ : أن تكون :" مِنْ " لبيان الجنس، أي : ورزقاً هو الثمرات.
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما ؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [ البقرة ٢٣، ٢٥ ].
ورابعها : قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ ﴾ يجوز أن يتعلق " بأمْرهِ " ب " تَجْرِي " أي : بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي : ملتبسة به.
وخامسها : قوله ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار ﴾.
وسادسها، وسابعها :﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ ﴾ دائبين حال من " الشمسِ والقَمرِ "، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ.
وثامنها وتاسعها :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار ﴾.
وعاشرها : قوله تعالى :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ العامة على إضافة :" كُلِّ " إلى ما. وفي " مِنْ " قولان :
أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ.
والثاني : أن تكون تبعيضية، أي : آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و " مَا " يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي : مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في :" سَألتُموهُ " عائد على الله -تعالى- وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، و كلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾.
وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر٣ بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع -رضي الله عنهم- في رواية :" مِنْ كُلِّ " منونة، وفي " مَا " على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنَّها نافية، وبه بدأ الزمخشري، فقال : و " مَا سَألتْمُوهُ " نفي ومحله النَّصب على الحال، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.
قال شهاب الدين٤ : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله :" مِنْ كُلِّ " كقوله تعالى :﴿ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ النمل : ١٦ ].
والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي، وهي المفعول الثاني ل " آتَاكُمْ ".
وهذا التخريج الثاني أولى ؛ لأنَّ في الأول منافاة في الظاهر لقراءة العامة.
قال أبو حيَّان٥ : ِ " ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون :" مَا " موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول :" مَا سَألتْمُوهُ " بمعنى ما احتجتم إليه ".

فصل


اعلم أنَّه -تعالى- بدأ بذكر خلق السماوات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.
ثمَّ قال :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو ؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى :﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ﴾.
قال أبو مسلم -رحمه الله- : لفظ " الثَّمراتِ " يقع في الأغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى :﴿ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ].
ثم قال تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٢ ] نظيره ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام ﴾.
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك ؛ لأنَّ الله -تعالى- خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض، وبالعكس، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ، وهي الجمال، أو بسفن البحر، وهي الفلك.
فإن قيل : ما معنى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك ﴾ منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ ؟.
فالجوابُ : أنَّ فعل العبد خلقُ الله -تعالى- عند أهل السُّنَّة، فلا سؤال.
وأمَّا عند المعتزلة : فلأنه -تعالى- خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد، وسائر الآلات، وعرف العباد صنعه التركيب، وخلق الرياح، وخلق الحركات القوية فيها، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.
وأضاف التسخير إلى أمره ؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل، وإنَّما يقال : أمر، قال -تعالى- :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ] وسخر الفلك مجازاً ؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر.
ثم قال تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار ﴾، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله -تعالى- على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار.
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٥٧..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٣٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٠، والبحر المحيط ٥/٤١٦ والدر المصون ٤/٢٧٢..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٢٧٢..
٥ ينظر: البحر المحيط ٥/٤١٦..
ثم قال -عز وجل- ﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر ﴾ والانتفاع بهما عظيم قال الله -سبحانه وتعالى- ﴿ وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ] ﴿ وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ] ﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ]، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة.
ثم قال :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار ﴾ ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله ﴿ وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً ﴾ [ النبأ : ١٠، ١١ ]، وقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ القصص : ٧٣ ].
قال المتكلمون : تسخير الليل، والنهار مجاز ؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر.
ثم قال عزَّ وجلَّ :﴿ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع ما لا يأتي على بعضها التَّعداد.
ثمَّ قال ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ قال الواحديُّ :" النِّعْمةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر، يقال : أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله : أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر ".
وقال غيره :" النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به ".
وخُتِمَت هذه الآية ب ﴿ إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ ﴾ ونظيرها في النحل ب ﴿ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ١٨ ] لأن في هذه تقدم قوله -عز وجل- :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً ﴾ [ إبراهيم : ٢٨ ] وبعده ﴿ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ [ إبراهيم : ٣٠ ] فجاء قوله ﴿ إِنَّ الإنسان ﴾ شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله -جلّ ذكره- ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾ [ النحل : ١٧ ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.
وقال ابن الخطيب١ :" كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة ؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند أعطائها وهما : كوني غفوراً رحيماً، فكأنه -تعالى- يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء ".
١ ينظر: الفخر الرازي ١٩/١٠٣..
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾ الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله تعالى وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ألبتَّة، وحكة عن إبراهيم عليه السلام أنَّه طلب من الله تعالى أشياء:
392
أحدها: قوله: ﴿رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً﴾، وتقدَّم تحريه في البقرة «وهذا البلد آمناً»، ومسوِّل الجعل التَّصيير.
قال الزمخشري: «فإن قلت: فرق بين قوله: ﴿اجعل هذا البلد آمِناً﴾ وبين قوله ﴿هذا بَلَداً آمِناً﴾ [البقرة: ١٢٦].
قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها، ولا يخافون، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً»
.
قوله «واجْنُبْنِي»، يقال: جنَّبهُ شرًّا، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً، ورباعياً، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ، وأصله من الجانب.
وقال الراغب: «قوله تعالى: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ﴾ من جَنَبْتهُ عن كذا، أي: أبْعدتهُ منه، وقيل: من جَنَبْتُ الفرس، [كأنَّما] سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة».
و «أنْ نعبد» على حذف الحرف، أي: عن أن نَعْبُد.
وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي رحمهما الله «وأجْنِبْنِي» بطقع الهمزة من «أجَنَبَ».
قال بعضهم: يقال: جَنَبْتهُ الشَّيء، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً، وأجْنبتهُ إجْنَاباً، بمعنى واحد.
فإن قيل: ههنا إشكالٌ من وجوه:
أحدهما: أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة، وأغاروا على مكَّة.
وثانيها: أن الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ معصومون من عبادة الأصنام، فما فائدة هذا الدعاء.
وثالثها: أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟.
فالجواب عن الأوَّل من وجهين:
الأول: أنه نقل عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة، وتلك البلدة آمنة من الخراب.
والثاني: أنَّ المراد جعل أهلها آمنين، كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] والمراد أهلها، وعلى هذا أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير، فالمراد بالأمن ما
393
اختصت به مكة من زيادة الأمن، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً، ولذلك أمن الوحش، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كاناو خارج مكَّة.
وعن الثاني قال الزجاج: معناه: ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها، كما قال:
﴿واجعلنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾
[البقرة: ١٢٨] أي: ثبتنا على الإسلام.
ولقائل أن يقول: السؤال باقٍ، لأنه من المعلوم أنَّ الله تبارك وتعالى ثبت الأنبياء على الإسلام، واجتناب عبادة الأصنام، فما الفائدةٌ من هذا السؤال؟.
قال ابن الخطيب: والصحيح عندي في الجواب وجهان:
الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه وإن كان يعلم أنَّ الله تعالى يصعمه من عبادة الأصنام، إلاّ أنه ذكر ذلك للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب.
والثاني: أنَّ الصوفية يقولون: إنَّ الشرك نوعان: شركٌ ظاهرٌ، وهو الذي يقوله المشركون، وشرك خفي، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة. والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي، والله تعالى أعمل.
والجواب عن الثالث من وجوه:
أحدها: قال الزمخشري: «قوله» وبَنِيَّ: أراد بنيه [من صلبه] «.
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله:»
واجْنُبْنِي وبَنِيََّ «.
وثانيها: قال بعضهم: أراد من أولاده، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم.
وثالثها: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ صنماً، والصنم هو التمثال المصور، وما ليس بصنم هو من الوثن، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة.
وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه معليه لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصَّنم في ذلك.
واربعها: أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده، بدليل قوله في آخر الآية
394
﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، وقوله تبارك وتعالى لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: ٤٦].
وخامسها: لعلَّه، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
قوله: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ دليل على أن الكفر، والإيمان من الله تعالى لأنًَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه طلب من الله تعالى أن يجنبه، ويجنب أولاده من الكفر.
والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف، وهو عدول عن الظَّاهر، وتقدم فسادهذا التأويل.
قوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً﴾ الضمير في:» إنَّهُنَّ «و» أضْلَلْنَ «عائد على الأصنام، لأنها جمع تكسير غير عاقل.
وقوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ أي: من أشياعي، وأهل ديني.
وقوله ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ شرط، ومحل «مَنْ»
الرفع بالابتداء، الجواب: ﴿فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ والعائد محذوف، أي: لهخ.

فصل


قال السديُّ: ومن عصاني ثمَّ تاب. وقال مقاتلٌ: ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ فيما دون الشرط.
وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّه طلب المغفرة، والرَّحمة لأولئك العصاة، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [أو للعصاة، ولا يجوز أن تكون للكفار] ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله: ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾.
وقوله: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه، فليس منه، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة؛ فثبت أن قوله: م ﴿وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ شفاعة في العصاة غير الكفَّار.
ووتلك المعصية: إمَّا أن تكون من الصغائر، أو من الكبائر بعد التَّوبة [أو من الكبائر
395
قبل التوبة، والأول والثاني بطلان؛ لأن وقوله: ﴿وَمَنْ عَصَانِي﴾ اللفظ فيه مطلق، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة] وجبة الغفران عند الخصوم، فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة.
وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيثم صلوات الله وسلامه عليه ثبت حصولها لمحمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام لأنه لا قائل بالفرق، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب، فلو حصلت لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف، أي: أسكنت ذرية من ذريتي، ويجوز أن تكون «مِنْ» مزيدة عند الأخفش.
«بوَادٍ» أي: في وادٍ، وهو مكّة؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين.
وقوله: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ كقوله ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨].
قوله: ﴿عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾ يجوز أن تكون صفة ل «وَادٍ».
وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً منه، يعني أنَّه يكون بدل بعضه من كل؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت.
وفيه نظرٌ، من حيث أن «عِنْدَ» لا يتصرف.

فصل


سماه محرّماً؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
وقيل: لأنَّ الله حرم التعرض له، والتهاون به. قيل: لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب.
وقيل: لأنه حُرِّمَ من الطوفان، أي: منع منه، كما يسمى عتيقاً؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل: لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي نباه آدم صلوات الله وسلامه عليه فرفع إلى السَّماءِ.
وقيل: إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء، والأقذار وغيرها.
قوله: «لِيُقِيمُوا» : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر، وأن تكون لام علة، وفي متعلقها حينئذ [وجهان] :
أحدهما: أنها متعلقة ب «أسْكَنْتُ» وهو ظاهنر، ويكون النداء معترضاً.
396
الثاني: أنَّها متعلقة ب «ألأجْنُبْنِي» أي: أجنبهم الأصنام. ليقيموا. وفيه بعد.
قوله: ﴿اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ العامة على: «أفْئِدةً» جمع فؤاد، ك «غُرَاب وأغْرِبَة» وقرأ هشام عن بان عامر بياء بعد الهمزة، فقيل: إشباع؛ كقوله: [الطويل]
٣٢٢٧ -........................... يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ
أي: ترب؛ وكقوله: [الرجز]
٣٢٢٨ - أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
وقد طعن جماعة على هذه القراءة، وقالوا: الإشباعُ من ضرائر الشعر، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟.
وزعم بعضهم: أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [أنها زائدة] ياء بعد الهمزة، قال: كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في: «بَارِئكُمْ»، و «يَأمُرُكمْ» أنه سكن.
وهذا ليس بشيءٍ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا.
وقرأ زيد بنُ عليِّ: «إفادة» بزنة «رِفادة»، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً ل «أفَادَ» ك «أقَامَ إقَامَة» أي: ذوي إفادَةِ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم.
والثاني: أن يكون أصلها: «وفَادة» فأبدلت الواو همزة، نحو إشاح وإعَاء.
وقرأت أم الهيثم: «أفْوِدَة» بكسر الواو وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون جمع: «فُؤاد» المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً، نحو «جُون» ففعل في: «فُؤاد» المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها.
والثاني: قال صاحب اللَّوامح رَحِمَهُ اللَّهُ: هي جمع «وَفْد».
قال شهاب الدين: «فكان ينبغكمي أن يكون اللفظ» أوْفِدَة «يتقدم الواو؛ إلا أن
397
يقال: إنه جمع» وَفْداً «على» أوْفِدَة «، ثم قبله فوزنه» أعْفِلَة «كقولهم: آرام» في «أرْآم» وبابه، إلاَّ أنَّه جمع «فَعْل» على «أفْعِلَة» نحو: «نَجْد وأنْجِدَة» و «وَهْي وأوْهِيَة» وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ.
وقرىء «آفِدة» بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مقلوبة من «أَفْئِدَة» بتقديم الهمزة على الفاء، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه: «أعْفِلَة» ك «آرام» في «أرآم».
والثَّاني: أنها اسم فاعل: من «أَفَدَ يَافَدُ»، أي: «قَرُبَ ودَنَا». المعنى: جماعمةٌ آفدة أو جماعات آفدة.
وقرِىء: أَفِدَة «بالقصر، وفيها وجهان أيضاً:
أحدهما: أن تكون اسم فالع على»
فَعِل «ك» فَرِح فهو فَرِحٌ «، وأن تكون مخففة من» أفْئِدَة «بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذف الهمزة.
و»
مِنْ «في» مِنَ النَّاسِ «فيها وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية. قال الزمخشريُّ:»
ويجوز أن يكون «مِن» الابتداء الغاية، كقولك: القلبُ منِّي سقيمٌ، تريد: قَلْبي، كأنه قال: أفْئدةُ ناسٍ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل، لتنكير «أفْئِدَة» لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة «.
قال أبو حيَّان:»
ولا ينظر كونها للغاية؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إلهيا، إذ لا يصح حعل ابتداء الأفئدة من الناس «.
والثاني: أنها للتعبيض، وفي التفسير: لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم.
قوله: تَهْوِي»
هذا هو المفعول الثاني للجعل، والعامة على: «تَهْوِي» بكسر العين، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه؛ قال: [الكامل]
٣٢٢٩ - وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ
وأصله أن يتعدى باللام، كقوله: [البسيط]
٣٢٣٠ - حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى؛ لأ، هـ ضمن معنى تميلُ، كقوله: [السريع]
398
٣٢٣١ - يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بفتح الواو، وفيه قولان:
أحدهما: أن «إلى» زائدة، أي: تهواهم.
والثاني: أنه ضمن معنى تنزع وتميل، ومصدر الأول على «هُوّى» ؛ كقوله: [الكامل]
٣٢٣٢ -......................... يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ
ومصدر الثاني على «هَوًى».
وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان، إلا أنَّ» هوى «يعني بفتح الواو متعمد بنفسه، وإنَّما عدِّي ب:» إلَى «حملاً على تميلُ».
وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوى» بضم التاءِ، وفتح الواو مبنياً للمفعول، من «أهْوى» المنقول من «هَوَى» اللازم، أي: يسرع بها إليهم.

فصل


قال المفسرون: قوله ﴿أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي﴾ أدخل «مِنْ» للتعبيض، والمعنى: أسكنت من ذريتي ولداً: ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ وهو مكة؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين: ﴿عِندَ بَيْتِكَ المحرم﴾.
روي عن ابن عبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، وليس بمكَّة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ، وسقاء فيه
399
ماء ثمَّ قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه منطلقاً، فتبعته هاجر، فقالت: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه إلى الله، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثمَّ رجعت، فانطلق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثمَّ دعا الله بقوله: ﴿رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي؛ فجعل يتلوى، وهي تنظر إليه، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً، فلم تر أحداً، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمَّ سمعت سعي المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فمل ترا أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه ﴿تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت، فقالت: قد أسمعتن إن كان عندك غواث﴾ فإذا هي بالملك عند مضع زمزم؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء، أو قال: فضرب بجناحه فغارت عينها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً».
ثمَّ إنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عاد بعد كبر إسماعيل، وأقرَّاهو وإسماعيل قواعد البيت.
قال القاضي: «أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا: إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام».
وقوله: ﴿مِن ذُرِّيَّتِي﴾، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه.
﴿لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ قال المفسرون: جمع، وقد تهوى: تحن وتشتاقُ إليهم. قال السدي: معناه: وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع.
قال مجاهدٌ: لو قال: أفئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند.
400
وقال سعيد بن جبير: لحجَّتِ اليهود، والمجوس، ولكنه قال: ﴿أَفْئِدَةً مِّنَ الناس﴾ فهم المسلمون.
﴿ارزقهم مِّنَ الثمرات﴾ ممَّا رقزت سكان القرى ذوات الماء: ﴿لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ وذلك يدعل على أن المقصود من منافع الدنيا: أن يتفرغ لأداء العبادات.
ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ ما أمرونا.
قال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع. ﴿وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾.
قيل: هذا كله قول إبراهيم عليه السلام، وقال الأكثرون: قول الله تعالى؛ تصديقاً لقول إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قوله تعالى: ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر﴾ وجهان:
أحدهما: أن «عَلَى» على بابها من الاستعلاء المجازي.
والثاني: أنها معنى «مع» كقوله: [المنسرح]
٣٢٣٣ - إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ
قال الزمخشري: «ومحلّ هذا [الجار] النصب على الحال من الياء في» وهَبَ لِي «».
الآية تدلُّ على أنه تعالى أعطى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن، فالمرجعُ فيه إلى الروايات.
فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم صولات الله وسلامه عليه تسعاً وتعسين سنة، ولما ولد إسحاق ك ان سنة مائة واثنتي عشرة سنة.
وقيل: ولد إسماعيل لأربع وستين سنة، وولد إسحاق [لتسعين] سنة.
وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يولد لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، [وإنما ذكر هذا الكبر؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛] لأنه زمن اليأس من الولد.
401
فإن قيل: إن إبراهيم صلوت الله وسلامه عليه إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال: ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ ؟.
فالجواب: قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن إيضاً أنه صلوت الله وسلامه عليه إنَّما ذكر هذا [الدعاء] بعد كبر إسماعيل وظهرو إسحاق صلوات الله وسلامه عليهما وإن كان ظاهر الروايات بخلافه».

فصل


المناسبة بين قوله ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ وبين قوله ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال: ﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ﴾ أي: تلعم ما في قلوبنا وضمائرنا، فقوله: ﴿الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء.
قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنه قال: «مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ».
ثم قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء﴾ لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح، قال: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء﴾ من قولك: «سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ» إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ، ومنه «سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ».
قوله: ﴿لَسَمِيعُ الدعآء﴾ فيه أوجه:
أحدهما: أن يكون «فَعِيل» مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب، وهذا دليل سيبويه على أن «فعيلاً» يعمل عمل اسم الفاعل، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين.
الثاني: أنَّ الإضافة ليست من نصب، وإنَّما هو كقولك: «هذا ضَارِب ازيد أمس».
الثالث: أن «سميعاً» مضاف لمرفوعه، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد: سماع الله، قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان: «وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية
402
وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فإنه يجيز أن تكون المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس، نحو: زيدٌ ظالم العبيدَ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين، وأما ههنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل».
قال شهاب الدين: «واللَّبس أيضاً هنا منتف؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر».
قوله: ﴿رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة﴾ أي: من المحافظين عليها.
واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلا م ﴿واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام﴾ يدلُّ على أنت ترك المنيهات لا يحصل إلا من الله تعالى.
وقوله: ﴿رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي﴾ يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى.
قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَتِي﴾ «عطف على المفعول الأول ل» اجْعَلْنِي «أي: واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف، أي: وبعضاً من ذريتي».
وإنَّما ذكر هذا التعبيض؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين﴾ [البقرة: ١٢٤].
وقوله ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ﴾ قرأ ابو عمرو، وحمزة وورش، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، ووقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه: تتقبل عملي، وعبادتي، سمى العبادة دعاء.
قال صلوات الله وسلامه عليه «الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ».
وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ [مريم: ٤٨] وقيل: معناه: استجب دعائي.
قوله: ﴿رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ العامة على «والديَّ» بالألف بعد الواو وتشديد الياء،
403
وإبن جبير كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده، كقوله ﴿واغفر لأبي﴾ [الشعراء: ٨٦].
وقرأ الحسين بن علي، ومحمد بن زيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «ولِولدَيَّ» ودمن ألف، تثنية «وَلد»، ويعنى بهما: إسماعيل، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي «ولأبويَّ» فهي مفسرة لقراءة العامة.
وروي عن ابن يعمر أنه قرأ: «وَلِوُلدِي» بضم الواو، وسكون الياء، وفيها تأويلان:
أحدهما: أنه جمع ولد كأسْد في أسَد.
وأن يكون لغة في الولد، الحُزْنِ والحَزَن، والعُدْمِ والعَدَم، والبُخْلِ والبَخَل، وعليه قول الشاعر: [الطويل]
٣٢٣٤ - فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وقد قرىء بذلك في مريم، والزخرف، ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و «يَوْمَ» [نصب] ب «اغْفِرْ».
فِإن قيل: طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان قاطعاً بأن الله يغفر له، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله؟.
فالجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه.
فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لأبويه، كانا كافرين؟.
فالجواب: من وجوه:
الأول: أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف، فلعله لم يجد [منعاً]، فظن جوازهن.
الثاني: أراد بالوالدين آدم وحواء صلوات الله وسلامه عليهما.
الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام.
فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ [الممتحنة٤].
404
فالجواب: أن الله تعالى بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة: ١١٤].
في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الحسابيوم يَقُومُ الحساب﴾ قولان:
الأول: يقوم إلى بيت المقدس، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل، كقولهم: قَامِتِ الحرُ على ساقها، ونظيره: قوله: قامت الشمس أي: اشتعلت، وثبت ضوؤها كأنَّها قامت على رجل.
الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز، كقوله: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: ٨٢] ٍ.
405
قوله :﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً ﴾ الضمير في :" إنَّهُنَّ " و " أضْلَلْنَ " عائد على الأصنام، لأنها جمع تكسير غير عاقل.
وقوله :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ أي : من أشياعي، وأهل ديني.
وقوله ﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ شرط، ومحل " مَنْ " الرفع بالابتداء، الجواب :﴿ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ والعائد محذوف، أي : له.

فصل


قال السديُّ : ومن عصاني ثمَّ تاب١. وقال مقاتلٌ :﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ فيما دون الشرك٢.
وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر ؛ لأنَّه طلب المغفرة، والرَّحمة لأولئك العصاة، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [ أو للعصاة، ولا يجوز أن تكون للكفار ]٣ ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله :﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾.
وقوله :﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه، فليس منه، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة ؛ فثبت أن قوله :﴿ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ شفاعة في العصاة غير الكفَّار.
وتلك المعصية : إمَّا أن تكون من الصغائر، أو من الكبائر بعد التَّوبة [ أو من الكبائر قبل التوبة، والأول والثاني بطلان ؛ لأن وقوله :﴿ وَمَنْ عَصَانِي ﴾ اللفظ فيه مطلق، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة ]٤ وجبة الغفران عند الخصوم، فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة.
وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- ثبت حصولها لمحمَّد -عليه أفضل الصلاة والسلام- لأنه لا قائل بالفرق، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب، فلو حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام- مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صلى الله عليه وسلم كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ -صلوات الله وسلامه عليه-.
١ ذكره البغوي في تفسيره (٣/٣٧)..
٢ ينظر: المصدر السابق..
٣ سقط من ب..
٤ سقط من ب..
قوله :﴿ رَّبَّنَا إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾ يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف، أي : أسكنت ذرية من ذريتي، ويجوز أن تكون " مِنْ " مزيدة عند الأخفش.
" بوَادٍ " أي : في وادٍ، وهو مكّة ؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين.
وقوله :﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ كقوله ﴿ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ [ الزمر : ٢٨ ].
قوله :﴿ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾ يجوز أن تكون صفة ل " وَادٍ ".
وقال أبو البقاء١ : يجوز أن يكون بدلاً منه، يعني أنَّه يكون بدل بعض من كل ؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت.
وفيه نظرٌ، من حيث أن " عِنْدَ " لا يتصرف.

فصل


سماه محرّماً ؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
وقيل : لأنَّ الله حرم التعرض له، والتهاون به. قيل : لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب.
وقيل : لأنه حُرِّمَ من الطوفان، أي : منع منه، كما يسمى عتيقاً ؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل : لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السماوات، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي بناه آدم -صلوات الله وسلامه عليه- فرفع إلى السَّماءِ.
وقيل : إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء، والأقذار وغيرها.
قوله :" لِيُقِيمُوا " : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر، وأن تكون لام علة، وفي متعلقها حينئذ [ وجهان ]٢ :
أحدهما : أنها متعلقة ب " أسْكَنْتُ " وهو ظاهر، ويكون النداء معترضاً.
الثاني : أنَّها متعلقة ب " اجْنُبْنِي " أي : أجنبهم الأصنام. ليقيموا. وفيه بعد.
قوله :﴿ اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس ﴾ العامة على :" أفْئِدةً " جمع فؤاد، ك " غُرَاب وأغْرِبَة " وقرأ هشام عن ابن٣ عامر بياء بعد الهمزة، فقيل : إشباع ؛ كقوله :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ٤
أي : ترب ؛ وكقوله :[ الرجز ]
أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ *** الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ٥
وقد طعن جماعة على هذه القراءة، وقالوا : الإشباعُ من ضرائر الشعر، فكيف يجعل في أفصح الكلام ؟.
وزعم بعضهم : أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [ أنها زائدة ]٦ ياء بعد الهمزة، قال : كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في :" بَارِئكُمْ "، و " يَأمُرُكمْ " أنه سكن.
وهذا ليس بشيءٍ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا.
وقرأ زيد٧ بنُ عليِّ :" إفادة " بزنة " رِفادة "، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مصدراً ل " أفَادَ " ك " أقَامَ إقَامَة " أي : ذوي إفادَةِ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم.
والثاني : أن يكون أصلها :" وفَادة " فأبدلت الواو همزة، نحو إشاح وإعَاء.
وقرأت أم الهيثم٨ :" أفْوِدَة " بكسر الواو وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع :" فُؤاد " المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً، نحو " جُون " ففعل في :" فُؤاد " المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها.
والثاني : قال صاحب اللَّوامح -رحمه الله- : هي جمع " وَفْد ".
قال شهاب الدين٩ :" فكان ينبغي أن يكون اللفظ " أوْفِدَة " بتقديم الواو ؛ إلا أن يقال : إنه جمع " وَفْداً " على " أوْفِدَة "، ثم قبله فوزنه " أعْفِلَة " كقولهم : آرام " في " أرْآم " وبابه، إلاَّ أنَّه يقل جمع " فَعْل " على " أفْعِلَة " نحو :" نَجْد وأنْجِدَة " و " وَهْي وأوْهِيَة " وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ.
وقرئ١٠ :" آفِدة " بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مقلوبة من " أَفْئِدَة " بتقديم الهمزة على الفاء، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه :" أعْفِلَة " ك " آرام " في " أرآم ".
والثَّاني : أنها اسم فاعل : من " أَفَدَ يَافَدُ "، أي :" قَرُبَ ودَنَا ". المعنى : جماعةٌ آفدة أو جماعات آفدة.
وقرئ :" أَفِدَة " ١١ بالقصر، وفيها وجهان أيضاً :
أحدهما : أن تكون اسم فاعل على " فَعِل " ك " فَرِح فهو فَرِحٌ "، وأن تكون مخففة من " أفْئِدَة " بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذف الهمزة.
و " مِنْ " في " مِنَ النَّاسِ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية. قال الزمخشريُّ :" ويجوز أن يكون " مِن " الابتداء الغاية، كقولك : القلبُ منِّي سقيمٌ، تريد : قَلْبي، كأنه قال : أفْئدةُ ناسٍ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل، لتنكير " أفْئِدَة " لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة ".
قال أبو حيَّان١٢ :" ولا ينظر كونها للغاية ؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح جعل ابتداء الأفئدة من الناس ".
والثاني : أنها للتبعيض، وفي التفسير : لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم.
قوله :" تَهْوِي " هذا هو المفعول الثاني للجعل، والعامة على :" تَهْوِي " بكسر العين، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه ؛ قال :[ الكامل ]
وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ *** يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ١٣
وأصله أن يتعدى باللام، كقوله :[ البسيط ]
حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا *** طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى ؛ لأ، ه ضمن معنى تميلُ، كقوله :[ السريع ]
يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى *** ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومجاهدٌ رضي الله عنهم بفتح الواو، وفيه قولان :
أحدهما : أن " إلى " زائدة، أي : تهواهم.
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل، ومصدر الأول على " هُوّى " ؛ كقوله :[ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ١٤
وأصله أن يتعدى باللام، كقوله :[ البسيط ].
حتى إذا ما هوت كف الوليد بها *** طارت وفي كفه من ريشها بتكُ١٥
وإنما عدي بإلى ؛ لأنه ضمن معنى تميل، كقوله :[ السريع ].
يهوي إلى مكة يبغي الهدى *** ما مؤمن الجن ككفارها١٦
وقرأ أمير المؤمنين علي١٧، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومجاهد – رضي الله عنهم – بفتح الواو، وفيه قولان :
أحدهما : أن " إلى " زائدة، أي : تهواهم.
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل، ومصدر الأول على " هُوًى " ؛ كقوله :[ الكامل ].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يهوي مخارمها هُوي الأجدل١٨
ومصدر الثاني على " هَوًى ".
وقال أبو البقاء١٩ :" معناهما متقاربان، إلا أنَّ " هوى " - يعني بفتح الواو - متعد بنفسه، وإنَّما عدِّي ب :" إلَى " حملاً على تميلُ ".
وقرأ مسلمة٢٠ بن عبد الله :" تُهْوى " بضم التاءِ، وفتح الواو مبنياً للمفعول، من " أهْوى " المنقول من " هَوَى " اللازم، أي : يسرع بها إليهم.

فصل


قال المفسرون : قوله ﴿ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾ أدخل " مِنْ " للتبعيض، والمعنى : أسكنت من ذريتي ولداً :﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ وهو مكة ؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين :﴿ عِندَ بَيْتِكَ المحرم ﴾.
روي عن ابن عبَّاسٍ، -رضي الله عنهما- : أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل -صلوات الله وسلامه عليه- اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، وليس بمكَّة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ، وسقاء فيه ماء ثمَّ قال إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- منطلقاً، فتبعته هاجر، فقالت : يا إبراهيم إلى من تكلنا ؟ فقال -صلوات الله وسلامه عليه- إلى الله، فقالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم، قالت : إذن لا يضيعنا، ثمَّ رجعت، فانطلق إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثمَّ دعا الله بقوله :﴿ رَّبَّنَا إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾ الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي ؛ فجعل يتلوى، وهي تنظر إليه، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً، فلم تر أحداً، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمَّ سمعت سعي المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت : صه ! تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء، أو قال : فضرب بجناحه فغارت عينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً " ٢١.
ثمَّ إنَّ إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- عاد بعد كبر إسماعيل، وأقرَّا هو وإسماعيل قواعد البيت.
قال القاضي٢٢ :" أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة ؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام ".
وقوله :﴿ مِن ذُرِّيَّتِي ﴾، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه.
﴿ لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس ﴾ قال المفسرون : جمع، وقد تهوى : تحن وتشتاقُ إليهم. قال السدي : معناه : وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع٢٣.
قال مجاهدٌ : لو قال : أفئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند٢٤.
وقال سعيد بن جبير : لحجَّتِ اليهود، والمجوس، ولكنه قال :﴿ أَفْئِدَةً مِّنَ الناس ﴾ فهم المسلمون٢٥.
﴿ ارزقهم مِّنَ الثمرات ﴾ ممَّا رزقت سكان القرى ذوات الماء :﴿ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ وذلك يدل على أن المقصود من منافع الدنيا : أن يتفرغ لأداء العبادات.
١ ينظر: الإملاء ٢/٦٩..
٢ في أ: قولان..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٢ والبحر المحيط ٤٢١ والدر المصون ٤/٢٧٣..
٤ جز بيت وصدره:
تُحبك نفسي ما حييت، فإن أمت ***.......................
ينظر: رصف المباني ١٣، الدر المصون ٤/٢٧٣، وفي الأصل "حتى يحبّك" في عجز البيت، وهي مقحمة وليست خزما؛ لأنها ليست على قاعدته..

٥ تقدم..
٦ في أ: زيادة..
٧ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢١ والدر المصون ٤/٢٧٣..
٨ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢١ والدر المصون ٤/٢٧٣..
٩ ينظر: الدر المصون ٤/٢٧٤..
١٠ ينظر: الكشاف ٢/٥٥٩ والبحر المحيط ٥/٤٢١ والدر المصون ٤/٢٧٤..
١١ ينظر: الكشاف ٢/٥٥٩ والبحر المحيط ٥/٤٢١..
١٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢١..
١٣ ؟؟؟؟؟.
١٤ البيت لأبي الهذلي. ينظر: ديوان الهذليين ٢/٩٤، البحر المحيط ٥/٤٢٩، اللسان (خرم)، الكشاف ٢/٣٨٠، شواهد الكشاف ٤٩٢، حماسة أبي تمام ١/٢١، الدر المصون ٤/٢٧٤..
١٥ تقدم..
١٦ لبيت لسواد بن قارب، وروي بأربع روايات هي:
تهـوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما خير الجن كأنجاسهـا
تهـوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما صادق الجن ككذابهـا
تهـوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمن الجن ككفارهـا
تهـوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمن الجن كأنجاسها
ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٢، شرح شواهد المغني للبغدادي ٦/٣٧٢، ٢٧٣، الألوسي ١٣/٢٣٩، الدر المصون ٤/٤٧٥..

١٧ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٢ والبحر المحيط ٥/٤٢٢، والدر المصون ٤/٢٧٥..
١٨ تقدم..
١٩ ينظر: الإملاء ٢/٦٩..
٢٠ ينظر: المحرر الوجيز ٣٤٢٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٢ والدر المصون ٤/٢٧٥..
٢١ أخرجه البخاري (٦/٤٥٦ – ٤٥٧) كتاب أحاديث الأنبياء باب يزفون: النسلان في المشي حديث (٣٣٦٤) من حديث ابن عباس..
٢٢ ينظر: الفخر الرازي ١٩/١٠٨..
٢٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٦١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٣٨)..
٢٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٦٥) عن مجاهد وذكره البغوي (٣/٣٨) وأخرج مثله عن ابن عباس. وذكره السيوطي (٤/١٦٢) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب بسند حسن. ومثله عن سعيد بن جبير وسيأتي..
٢٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٦٥) وذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٣٨)..
ثم قال -صلوات الله وسلامه عليه- :﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ ما أمرونا.
قال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع١. ﴿ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السماء ﴾.
قيل : هذا كله قول إبراهيم عليه السلام، وقال الأكثرون : قول الله تعالى ؛ تصديقاً لقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
المناسبة بين قوله ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السماء ﴾ وبين قوله ﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال :﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ أي : تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، فقوله :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء.


١ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٣٨)..
قوله تعالى :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر ﴾ في " على " وجهان :
أحدهما : أن " عَلَى " على بابها من الاستعلاء المجازي.
والثاني : أنها معنى " مع " كقوله :[ المنسرح ]
إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ١
قال الزمخشري :" ومحلّ هذا [ الجار ]٢ النصب على الحال من الياء في " وهَبَ لِي " ".
الآية تدلُّ على أنه -تعالى- أعطى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق -صلوات الله وسلامه عليه- على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن، فالمرجعُ فيه إلى الروايات.
فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- تسعاً وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنة مائة واثنتي عشرة سنة.
وقيل : ولد إسماعيل لأربع وستين سنة، وولد إسحاق [ لتسعين ]٣ سنة.
وعن سعيد بن جبير -رضي الله عنه- لم يولد لإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، [ وإنما ذكر هذا الكبر ؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم ؛ ]٤ لأنه زمن اليأس من الولد.
فإن قيل : إن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ ؟.
فالجواب : قال القاضي -رحمه الله- :" هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه-، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن أيضاً أنه -صلوات الله وسلامه عليه- إنَّما ذكر هذا [ الدعاء ]٥ بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق -صلوات الله وسلامه عليهما- وإن كان ظاهر الروايات بخلافه ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
المناسبة بين قوله ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السماء ﴾ وبين قوله ﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال :﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ﴾ أي : تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، فقوله :﴿ الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ﴾ يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء.


قال -صلوات الله وسلامه عليه- حاكياً عن ربِّه عز وجل أنه قال :" مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ " ٦.
ثم قال :﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء ﴾ لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح، قال :﴿ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء ﴾ من قولك :" سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ " إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ، ومنه " سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ ".
قوله :﴿ لَسَمِيعُ الدعاء ﴾ فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون " فَعِيل " مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب، وهذا دليل سيبويه على أن " فعيلاً " يعمل عمل اسم الفاعل، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين.
الثاني : أنَّ الإضافة ليست من نصب، وإنَّما هو كقولك :" هذا ضَارِب زيد أمس ".
الثالث : أن " سميعاً " مضاف لمرفوعه، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد : سماع الله، قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيَّان٧ :" وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رحمه الله تعالى فإنه يجيز أن تكون الصفة المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس، نحو : زيدٌ ظالم العبيدَ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين، وأما ههنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل ".
قال شهاب الدين٨ :" واللَّبس أيضاً هنا منتف ؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر ".
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٣، روح المعاني ١٣/٢٤٢، الكشاف ٢/٤٣٦، حاشية الشهاب ٥/٢٧٤، الرازي ١٩/١٤١، السراج المنير ٢/١٨٧، شواهد الكشاف ٤/٤٥٨، الدر المصون ٤/٢٧٥..
٢ في ب: الحمد..
٣ في ب: لسبعين..
٤ سقط من ب..
٥ في ب: الكلام..
٦ تقدم تخريجه..
٧ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٣..
٨ ينظر: الدر المصون ٤/٢٧٦..
قوله :﴿ رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة ﴾ أي : من المحافظين عليها.
واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله -تعالى- لأنَّ قول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- ﴿ واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام ﴾ يدلُّ على أنت ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى.
وقوله :﴿ رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى.
قوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَتِي ﴾ " عطف على المفعول الأول ل " اجْعَلْنِي " أي : واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف، أي : وبعضاً من ذريتي ".
وإنَّما ذكر هذا التبعيض ؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين ﴾ [ البقرة : ١٢٤ ].
وقوله ﴿ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة١ وورش، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً.
قال ابن عباس -رضي الله عنه- : معناه : تقبل عملي، وعبادتي، سمى العبادة دعاء٢.
قال -صلوات الله وسلامه عليه- :" الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ " ٣.
وقال إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- :﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ مريم : ٤٨ ] وقيل : معناه : استجب دعائي.
١ ينظر: اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٥/٣٣، ٣٤ وإعراب القراءات السبع ١/٣٣٧، والإتحاف ٢/١٧١، والمحرر الوجيز ٣/٣٤٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٣ والدر المصون ٤/٢٧٦..
٢ ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/٣٩)..
٣ أخرجه الترمذي (٥/٤٥٦) كتاب الدعاء: باب ما جاء في فضل الدعاء حديث (٣٣٧١) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة..
قوله :﴿ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ ﴾ العامة على " والديَّ " بالألف بعد الواو وتشديد الياء، وإبن جبير١ كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده، كقوله ﴿ واغفر لأبي ﴾ [ الشعراء : ٨٦ ].
وقرأ الحسين بن علي، ومحمد بن زيد٢ ابنا علي بن الحسين وابن يعمر -رضي الله عنهم :" ولِولدَيَّ " ودمن ألف، تثنية " وَلد "، ويعنى بهما : إسماعيل، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي " ولأبويَّ " ٣ فهي مفسرة لقراءة العامة.
وروي عن ابن يعمر أنه قرأ :" وَلِوُلدِي " ٤ بضم الواو، وسكون الياء، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه جمع ولد كأسْد في أسَد.
وأن يكون لغة في الولد، الحُزْنِ والحَزَن، والعُدْمِ والعَدَم، والبُخْلِ والبَخَل، وعليه قول الشاعر :[ الطويل ]
فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ٥
وقد قرئ بذلك في مريم، والزخرف، ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء الله -تعالى-.
و " يَوْمَ " [ نصب ]٦ ب " اغْفِرْ ".
فِإن قيل : طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- كان قاطعاً بأن الله يغفر له، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله ؟.
فالجواب : المقصود منه الالتجاء إلى الله، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه.
فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لأبويه، كانا كافرين ؟.
فالجواب : من وجوه :
الأول : أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف، فلعله لم يجد [ منعاً ]٧، فظن جوازه.
الثاني : أراد بالوالدين آدم وحواء -صلوات الله وسلامه عليهما-.
الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام.
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ [ الممتحنة : ٤ ].
فالجواب : أن الله -تعالى- بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
وقال بعضهم : كانت أمه مؤمنة، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله :﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ].
في قوله :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الحساب ﴾ قولان :
الأول : يقوم إلى بيت المقدس، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل، كقولهم : قَامِتِ الحرُ على ساقها، ونظيره : قوله : قامت الشمس أي : اشتعلت، وثبت ضوءها كأنَّها قامت على رجل.
الثاني : أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز، كقوله :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ].
١ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٢ والمحرر الوجيز ٣/٤٤٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٣ والدر المصون ٤/٢٧٦..
٢ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٢ وقرأ بها أيضا الزهري والنخعي ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٣ وينظر: الدر المصون ٤/٢٧٦..
٣ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٢ والمحرر الوجيز ٣/٣٤٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٣ والدر المصون ٤/٢٧٦..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٣ والبحر المحيط ٥/٤٢٣ والدر المصون ٤/٢٧٦..
٥ البيت لنافع بن صفار الأسلمي. وروي فلانا مكانا زيادا، ينظر: البحر ٥/٤٢٣، المحتسب ١/٣٦٥، معاني الفراء ٢/١٧٣، التهذيب واللسان (ولد)، إصلاح المنطق /٣٧، الدر المصون ٤/٢٧٦..
٦ في ب: منصوب..
٧ في أ: مانعا..
قوله: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون﴾ لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكاى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة، فهو قوله عزَّ وجلَّ ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون﴾ وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم، أو عاجزاً عن الانتقام، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة، والعجز، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم.
فإن قيل: كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ؟.
405
فالجواب من وجوه:
الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ١٤] ﴿وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ [القصص: ٨٨].
والثاني: المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً للك أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً.
الثالث: أنَّ المراد: ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون، ولكن معالمة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير، والقطمير.
الرابع: أنَّ هذا الخطاب، وإن كان خطاباً للنبِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة.
قال سفيان بن عيينة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هذا تسلية للمظلوم، وتهديد للظَّالم.
قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ﴾ أي: لأجل يوم، فاللام للعلَّة.
وقيل: بمعنى «إلى» أي: للغاية.
وقرأ العامة «يُؤخِّرهُمْ» بالياء، لتقدم اسم الله تعالى. وقرأ الحسن والسلمي، والأعرج، [وخلائق] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «نُؤخِّرهُم» بنون العظمة.
ويروى عن أبي عمرو «نُؤخِّرُهمْ» بنون العظمة.
و «تَشْخَصُ» صفلة ل «يَوْمِ». ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر، وعدم استقراره في مكانه، ويقال: شَخَصَ سَمْعُه، وبَصَرُه، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما، وشَخَصَ بَصَره، أي: لم يطرف جفنهُ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة، ويقال: شخص من بلده أي: بعد والشخصُ: سواد الإنسان المرئيّ من بعيد.
قوله: ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾ حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير: أصحاب الأبصار، إذا يقال: شَخَسَ زَيْدٌ بصرهُ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه، قالهما أبو البقاءِ.
وقيل: «مُهْطِعين» منصوب بفعل مقدر، أي: تبصرهم مهطعين، ويجوز في «مُقْنِعِي» أن يكون حالاً من الضمير في: «مُهْطِعِينَ» فيكون حالاً، وإضافة: «مُقْنِعِي» غير حقيقة؛ فلذلك وقع حالاً.
والإهْطَاعُ: قيل: الإسرْاعُ في المشيِ؛ قال: [البسيط]
406
٣٢٣٥ - إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا
وقال: [الكامل]
٣٢٣٦ - وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ.....................
وقال أبو عبيدة: قد يكون الإسراع [مع] إدامة النَّظر.
وقال الراغب: «هَطَعَ» الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ «.
وقال الأخفش: هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ، وأنشد: [الوافر]
٣٢٣٧ - بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى: مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي.
وقال ثعلبٌ:»
هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء «. وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة؛ فقد سمع فيه:» أهْطََعَ وهَطَعَ «رباعيًّا وثلاثيًّا.
والإقناعُ: رفع الرَّأسِ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى شغيره، قاله القتبيُّ، وابنُ عرفة.
ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر؛ فترفع رءوسها: [الوافر]
٣٢٣٨ - يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ
ويقال: أقْنَعَ رأسه، أي: طأطأها، ونكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعةُ: الاجتزاءُ باليسيرِ، ومعنى قَنَعَ عن كذا: أي: رفع رأسه عن السؤال. وفَمٌ مُقَنَّعٌ: معطوف الأسنان إليه داخلة، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد، ويقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً، وقَنَعاً، إذا رَضِيَ، وقنع قُنُوعاً، إذا سَألَ، [فوقع] الفرق بالمصدر.
وقال الراغب: قال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناعِ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس
407
والقَانِعُ: من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ، كقوله: [الوافر]
٣٢٣٩ - لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مقنَّعٌ: تَقنَّعَ بِهِ؛ قال: [الطويل]
٣٢٤٠ -........................... شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ
ومنى الآية: أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد، وأنهم يرفعون رءوسهم.
والرُّءُوسُ: جمعُ رأسِ، وهو مؤنَّثٌ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس، وفي الكثرة على» رُءُوس «والأرَاسُ: العظيم الرأس، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه، وشاةٌ رَأْسَى: أسودَّتْ رأسَها.
قوله: ﴿لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في:»
مُقْنِعِي «ويجوزو أن يكون بدلاً من:» مُقْنِعِي «، كذا قاله أبو البقاء، يعني أنه يحل محله، ويجوز أن يكون استئنافاً، والطرف في الأصل مصدر، وأطلق على الفاعل، كقولهم:» مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف «، الطَّرفُ هنا: العَيْنُ قال الشاعر: [الكامل]
٣٢٤١ - وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا
والطَّرفُ: الجِفْنُ أيضاً، يقال: ما طبق طرفهُ، أي: حفنهُ على الآخر، الطَّرفُ أيضاً: تحركُ الجِفْنِ.
ومعنى الآية: دوام ذلك الشُّخوصِ.
قوله: ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ »
يجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعامل فيه إمَّا «يَرتَدُّ» وإمَّا ما قبله من العوامل، وأفرد: «هَواءٌ»، وإن كان خبراً عن جمع؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة، ولو لم يقصد ذلك لقال: أهوية ليطابق الخبر مبتدأه «.
والهَواءُ: الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ، يقال: جوفهُ هواء، أي: فارغ؛ قال زهيرٌ: [الوافر]
408
٣٢٤٢ - كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ
وقال حسَّان بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الوافر]
٣٢٤٣ -........................... فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ
النَّخْبُ: الذي أخذت نخبته أي: خِيارهُ، ويقال: قلب فلانٍ هواء: إذا كان جَباناً للقوة في قلبه.
والمعنى: أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ.
قوله: ﴿وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ قال أبو البقاء: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ﴾ معفول ثان ل: «أنْذر»، أي: خوفهم عذاب يوم، وكذا قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ، إذ يؤول إلى قولك: أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب، ولا حاجة إلى ذلك، ولا جائز أن يكون ظرفاً؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل: إنه يوم القيامة، أو يوم هلاكهم، أو يوم تلقاهم الملائكةُ.
والألف واللام في: «العَذابُ» للمعهود السَّابق، أي: وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره، وهو شخوصُ الأبصار، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم.

فصل


حمل أبو مسلم قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ على أنه حال المعاينة، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين﴾ [المنافقون: ١٠]، وظاهر الآية يشهد بخلافه؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه، وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ﴾ ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم: ﴿فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ قال بعضهم: طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه.
409
وقيل: طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم: ﴿نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل﴾، فقوله: «نُجِبْ» جواب الأمرِ.
قوله: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ﴾ قال الزمشخري: «على إرادة القول وفيه وجهان: أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً، وأملوا بعيداً».
و «مَا لكُمْ» جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله: «أقْسَمْتُمْ»، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل: «مَا لنَا».
وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي: فيقال لهم: «أو لم تكونوا»، وهوأظهر من الأول، أعني؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم، والمعنى: ﴿أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ﴾ أراد قوله:
﴿وَأَقْسَمُواْ
بالله
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾
[الأنعام: ١٠٩] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه.
قوله: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ وأصل «سَكَنَ» التَّعدي ب «في» كما في هذه الآية، وقد يتعدى بنفسه.
قال الزمخشريُّ: «السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ، من الأصل تعديه ب» في «كقولك: قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه، فقيل: سكن الدَّار كما قيل: تَبَوَّأها، وأوطنَها، ويجوز أن يكون من السُّكونِ، أي: قرُّوا فيها واطمأنُوا».
والمعنى: وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح، وعادٍ، وثمود و: ﴿ظلموا أَنفُسَهُمْ﴾ بالكفر؛ لأن من شاهد هذه الحال؛ وجب عليه أنّ يعتبر، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع.
قوله: «وتَبيَّنَ لَكُمْ» فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم، و «كَيْفَ» نصب ب «فَعلْنَا» وحملة الاستفهام ليست معمولة ل «تَبيَّنَ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق، ولا جائز أن يكون:» كَيْفَ «فاعلاً؛ لأنَّها إمَّا شرطية، أو استفهامية وكلاهما لايعمل فيه ما تقدمه، والفاعل لا يتقدَّم عندنا.
وقال بعض الكوفيين: إنَّ جملة:»
كَيْفَ فَعلْنَا «هو الفاعل، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً، وقد تقدَّم هذا في قوله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥].
والعامة على»
تَبيَّنَ «فعلاً ماضياً، وقرأ عمر بن الخطاب، والسلمي رَضِيَ اللَّهُ
410
عَنْهما في رواية عنهما:» ونُبيِّنُ «بضمِّ النون الأولى والثانية، مضارع:» بيَّن «، وهو خبر مبتدأ مضمر، والجملة حالٌ، أي: ونحن نبين.
وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على»
تَكُونُوا «فيكون داخلاً في حيز التقدير.

فصل


والمعنى: عرفتم عقوبتنا إياهم، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل.
قوله: ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ﴾ قيل: الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
وقيل: أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى: ﴿وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب﴾ يا محمد، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
وقيل: المراد من هذا المكر ما نقل: أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ، وكان قد جوَّعها، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً، وعلم عليها اللحم، ثم جلس مع صاحب له في التابوت، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن عين نمروذ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض.
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا بعيد جدًّا؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم، ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر، ولا دليل»
.
قال القشيري: وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع، وخمسة وعشرين ذراعاً، وصعد فيه مع النُّّسور، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه، فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصَّرح علهيم، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ﴾.
قوله: ﴿وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ﴾ يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى
411
أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله، أو للمفعول، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، أي: يعذبهم قالمها الزمخشريُّ.
قال أبو حيان: «وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان» مَكَرَ «يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به، والمحفوظ أن» مَكَرَ «لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ﴾ [الأنفال: ٣٠] وتقول: زيدٌ ممكور به، ولا يحفظ: زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا.
قوله: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ قرأ العامة بكسر لام»
لِتَزولَ «الأولى، والكسائي بفتحها.
فأما القراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّها نافيةٌ، واللام بعدها لام الجحودِ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ، وفي»
كَانَ «حينئذ قولان:
أحدهما: أنَّها تامَّة، والمعنى؛ تحقير مكرهم، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها.
ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله: (وما كان مَكْرُهُمْ).
القول الثاني: أنَّها ناقصةٌ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين، هل هو محذوف، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون، أو هو اللام، وما جرته كما [هو مذهب] الكوفيين؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني: أن تكون المخففة من الثقيلة.
قال الزمخشري:»
وإن عظم مركهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم معدًّا لذلك «.
وقال ابن عطية:»
ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة: تعظيم مكرهم، أي: وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الامور «، فمهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ؛ لأنَّه إثبات.
والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابها محذوفٌ، أي: وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه
412
الجبال الرَّواسي، وهي المعجزات، والآيات، فالله مجازيهم بمكرهم، وأعظم منه.
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل، وهو: أنها نافية؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكاسئي في ذلك؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي.
وقد أجاب بعضهم عن ذلك: بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها، وفي قراءة الجماعة مشار لها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً، وإثباتاً.
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي: «إنْ» وجهان:
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية، واللام بمعنى: «إلاَّ» وقد تقدَّم تحقيق المذهبين.
وقرأ عمر، وعلي، وعبد الله، وزيد بن علي، وأبو سلمة وجماعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم (وإن كاد مكرهم لتزول) كقراءة الكسائي، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون: «كَانَ» دالاً، فعل مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوال غير واقع.
وقرىءك «لَتَزُولَ» بفتح اللامين، وتخريجها على إشاكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي.

فصل


في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان:
أحدهما: جبال الأرض.
الثاني: الإسلامُ، والقرآن؛ لأنَّ ثبوته، ورسوخه كالجبالِ.
وقال االقشيريُّ: ﴿وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ﴾ أي: هو عالم بذلك فيجازيهم، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد.
قوله: ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ﴾ العامة على إضافة: «مخْلِفَ» إلى «وعْدِهِ» وفيها وجهان:
أظهرهما: أن «مُخْلفَ» يتعدَّى لاثنين كفعله، فقدم المفعول الثاني، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً، نحو: هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ.
قال الفراء وقطرب: لما تعدَّى إليهما جميعاً، لم يبالِ بالتقديم والتأخير.
413
وقال الزمخشري: فإن قلت: هلاَّ قيل: مُخْلف رسله وعده؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟.
قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد، ثم قال: «رُسلهُ» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلف رسله؟.
وقال أبو البقاء: هو قريبُ من قولهم: [الرجز]
٣٢٤٤ - يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ... وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر: [الطويل]
٣٢٤٥ - تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ
والحسبان هنا: الأمر [المتيقن]، كقوله: [الطويل]
٣٢٤٦ - فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي... وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمام: ِ يَذُوقُ
الثاني: أنه متعد لواحد، وهو «وعْدهِ»، وأمَّا «رُسلهُ» فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ، وفعل تقديره: مخلف ما وعد رسله، ف «ما» مصدريَّة لا بمعنى الذي؟
وقرأت جماعة: ﴿مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ بنصب: «وَعْدهُ» وجر: رسُلهِ «فصلاً بالمفعول بين المتضايفين، هي كقراءة ابن عامرٍ: ﴿قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ).
قال الزمخشري مجرأة منه: «وهذه في الضعف [كقراءة] (قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ).
ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾
غالب لأهل المكر، ذو انتقام لأوليائه منهم.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ [لما بين أنه عزيز ذو انتقام، بين وقت انتقامه، فقال: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض﴾ ] ويجوز في»
يَوْمَ «عدة أوجه:
أحدها: أن ينتصب منصوباً ب»
انتقام «أي: يقع انتقامه في ذلك اليوم.
الثاني: أن ينتصب ب»
اذكُر «.
الثالث: ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام.
الرابع: أن يكون بدلاً من:»
يَوْمَ يَأتِيهِمْ «.
414
الخامس: أن ينتصب ب:» مُخْلِفَ «.
السادس: أن ينتصب ب»
وَعْدِهِ «، و» إنَّ «وما بعدها اعتراض.
ومنع أبو البقاء هذه الآخرين، قال:»
لأن ما قبل «إنَّ» لا يعمل فيما بعدها «.
وهذا غير مانع؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض، فلا يبالى به فاصلاً.

فصل


التَّبديلُ يحتمل وجهين:
الأول: أن تكون الذَّات باقية، وتبدل الصفة بصفة أخرى، كما تقول: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، منه قوله تعالى: ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠]، ويقال: بدلَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ، وقال الشاعر: [الطويل]
٣٢٤٧ - فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ
الثاني: أنْ تُفني الذات، وتحدث ذاتاً أخرى، كقولك: بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبأ: ١٦].
وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان:
الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي تلك الأرض، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها، وتفجر أنهارها، وتسوى، فلا ﴿ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٧] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
تُبدَّلُ الأرضُ غيكر الأرْضِ، فيَبْسُطهَا، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [العكاظي] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً «وتبدل السموات باتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها؛ وخسوف قمرها، وكونها تكن تارة كالمهل، وتارة كالدهان.
والقول الثاني: تبديل الذات. قال ابن مسعود رضي الله عه: تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية، لم يسفك فيها د مٌ، ولم يعمل عليها خطيئة.
415
والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ: لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنَّما يعدم صفاتها.
وقيل: المراد من تبديل الأرض والسموات: هو أنَّ الله تعالى، يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ﴾
[المطففين: ٧] وقوله عزَّ وجلَّ ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: ١٨].
وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: سألتُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات﴾ [إبراهيم: ٤٨] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «على الصِّراطِ».
وروى ثوبانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ؟ قال: «هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ».
قوله «والسَّمواتِ» تقديره: وتبدل السموات غير السموات.
وقرىء: «نُبَدّلُ» بالنون: «الأرض» نصباً «والسَّمواتِ» نسق عليه.
قوله «وبَرَزُوا» فيه وجهان:
أحدهما: أنها حملةٌ مستأنفة، أي: يبرزون، كذا قدَّره أبو البقاءِ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال، والأحسن أنه مثل ﴿ونادى أَصْحَابُ النار﴾ [الأعراف: ٥٠] ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤] ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [الحجر: ٢] ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١] لتحقُّّق ذلك.
والثاني: أنها حال من «الأرض»، و «قَدْ» معها مرادة، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في: «بَرَزُوا» للخلق دلّ عليه السِّياق، والرَّابط بين الحال، وصاحبها الواو.
وقرأ زيد بن علي «وبُرِّزُوا» بضم الباء، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى ﴿وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً﴾ [إبراهيم: ٢١]، وإنما ذكر «الوَاحدِ القهَّارِ» هنا؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ،
416
قهَّار لا يقهر، فلا يستغاث بأحد عغيره، فكان الأمر في غية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً، بيَّن عجزهم، وذلتهم فقال: «وتَرَى المُجْرمينَ» وصفهم بصفات:
الأولى: قوله: ﴿مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ «يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية، و» فِي الأصْفادِ «متعلق به.
وقيل: بمحذوف على أنه حال أو صفة ل»
مُقرَّنينَ «».
والمُقرن: من جمع في القَرَن، وهون الحبل الذي يربط به، قال: [البسيط]
٣٢٤٨ - أوابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ لَمْ يَستَطعْ صَولةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
وقال آخر: [البسيط]
٣٢٤٨ - ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ... وقال آخر: [البسيط]
٣٢٤٨ - ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ... يقال: قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ، ووَصلتهُ، والقرنُ: اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك.
والأصْفَادُ: جمع صفدٍ، وهو الغلُّ، والقيد، يقال: صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً، قيَّدهُ، بِهِ، والاسم الصَّفَد، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير؛ قال: [الوافر]
٣٢٤٩ - فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا
والأصفادُ من الصَّفْد، وأصفْدَه، أي: أعطاه، ففرَّقُوا بين «فَعَل» و «أفْعَلَ».
وقيل: بل يستعملان في القَيْدِ، والعَطاءِ، قال النابغة الذبياني: [البسيط]
٣٢٥٠ -.................... فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ
أي: بالإعطاءِ، وسمي العطاء صفداً، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه، منه: أنا مغلول أياديك، أسير نعمتك.

فصل


قيل: يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة، بيانهن قوله: ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ [
417
الصافات: ٢٢] يعنى: قرناءهم من الشَّياطين، وقوله جل ذكره: ﴿وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧]. أي قرنت.
وقيل: مقرونة أيديهم، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي: بالقيود.
قوله: ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾ مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «المُجْرمينَ» وإمَّا من: «مُقرَّنِينَ»، وإما من ضميره، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر.
والسَّرابِيلُ: الثِّيابُ، وسَرْبلتهُ، أي: ألْبَستهُ السِّربالَ؛ قال: [السريع]
٣٢٥١ -...................... أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه
وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع، وشبهه قال تعالى: ﴿وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: ٨].
والقَطرانُ: ما يستخرج منن شجر يسمَّى الأبهل، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [بحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار]، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ، وفيه لغاتٌ: «قِطرانٍ» بفتح القاف وكمسر الطاء، وهي قراءة العامة.
و «قَطْران» بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وقال أبو النَّجْم: [الرجز]
٣٢٥٢ - لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا و «قِطْرَان» بكسر القاف، وسكون الطاء بزنة «سِرْحَان» ولم يقرأ بها فيما علمتُ.
قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وةابن عباس، وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «قَطِرِ» بفتح الْقاف، وكسرها وتنوين الراء «آنٍ» بوزن «عَانٍ» جعلوها كلمتين، والقَطِر: النَّحاس، وال «آنِ» اسم فالع من أنَى يأني، أي: تَناهى في الحرارةِ؛ كقوله تعالى: ﴿بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤].
418
وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ليس بالطقران، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه.
قال ابن الأنباري: «تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران، ولا تفنيه، كما لا تهلك أجسادهم النَّار، والأغلال التي عليهم».
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال، وهو القميص، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النَّار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الرِّحِ، وأيضاً: التفاوت بين قطران القيامة، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين.
قوله: ﴿وتغشى وُجُوهَهُمْ النار﴾ قرىٍ «وتَغَشَّى» بتشديد الشِّين، أي: وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين.
وقرىء برفع: «وُجوهُهُم» ونصب «النَّار» على سبيل المجازِ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً.
والجملة من قوله: «وتَغْشَى» قال أبو البقاءِ: «حال أيضاً».
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ، ولا يعني أنَّها حال، والواو للحال، لأنَّه مضارع مثبت.

فصل


المعنى: [تعلو] النَّار وجوههم، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب﴾ [الزمر: ٢٤] وقوله: ﴿يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨].
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة، والعلم، والجهل هـ والقلبُ، وموضع الفكر، والوهم والخيال هو الرَّأس، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما، قال الله تعالى [في القلب] :﴿نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة﴾ [الهمزة: ٦، ٧] وقال تعالى في الوجه: ﴿وتغشى وُجُوهَهُمْ النار﴾.
قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ في هذه الأيام وجهان:
أظهرهما: أنَّها تتعلق ب «بَرَزُوا» وعلى هذا فقوله: «وتَرَى» جلمة معترضة بين المتعلق، والمتعلق به.
والثاني: أنها تتعلق بمحذوف، أي: فعلنا بالمجرمين، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم؛ أثاب الطَّائع.
419
قال الواحدي: «المرادُ: أنفسُ الكفَّار؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم، فلأن يثيب المطيعين أولى».
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي: لا يظلمهم، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه.
قوله تعالى: ﴿هذا بَلاَغٌ﴾ إشارة إلى ما تقدَّم من قوله: «ولا تحْسَبنَّ» إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن، نزل منزلة الحاضر بلاغ، أي: كافية في الموعظة.
قوله تعالى: ﴿وَلِيُنذَرُواْ بِهِ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: ولينذروا أنزلنا عليك.
الثاني: [أنه معطوف على محذوف، وذلك المحذوف متعلق ب «بلاغ»، تقديره: لينصحوا ولينذروا].
الثالث: أن الواو مزيدة: «ولِيُنْذَرُوا» متعلق ب «بَلاغٌ»، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ.
الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليبلغوا، ولينذروا.
الخامس: أن اللام لام الأمر، وهو حسنٌ، لولا قوله: «ولِيَذَكَّرَ» فإن منصوب فقط.
قال شهاب الدين: قال بعضهم: لا محذور في ذلك، فإن قوله: «لِيَذَّكرَ» ليس معطوفاً على ما تقدمه، بل متعلق بفعل مقدر، أي: وليذكر أنزلناه وأوحيناه.
السادس: أ، هـ خبر لمبتدأ مضمر، التقدير: هذا بلاغ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة.
السابع: أنه عطف مفرداً على مفردٍ، أي: هذا بلاغ وإنذار، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب.
الثامن: أنه معطوف على قوله: «يُخْرجَ النَّاسَ» في أول السورة، وهذا غريب جدًّا.
التاسع: قال أبو البقاء: «المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، وتقديره: ولينذروا به أنزل، أو تلي»
.
420
قال شهاب الدين: «فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب: هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك».
وقرأ العامة: «لِيُنذَرُوا» مبنيًّا للمفعول. وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس: «ولتُنْذِرُوا» بتاء مضمومة، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم، والإنذار للمخاطبين، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد
بن يزيد بن أسيد السلمي «ولِيَنْذَرُوا» بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء، أي: علم به فاستعد له.
قالوا: ولو لم يعرف مصدر فهو ك «عَسَى»، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها.

فصل


معنى «لِيُنْذَرُوا» أي: وليخوفوا به ﴿وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ أي: يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى: ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي: يتّعظ أولو العقول.
قال القاضي: أول هذه السورة، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه، وإن شاء عصى.
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى: ﴿لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور﴾ [إبراهيم: ١] وقد ذكرناه هناك.
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى: ﴿وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة، وذكر هذه المواعظ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية، وقد تقدم جوابه.
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا».
421
سورة الحجر
422
قوله :﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير : أصحاب الأبصار، إذا يقال : شَخَص زَيْدٌ بصرهُ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه، قالهما أبو البقاءِ.
وقيل :" مُهْطِعين " منصوب بفعل مقدر، أي : تبصرهم مهطعين، ويجوز في " مُقْنِعِي " أن يكون حالاً من الضمير في :" مُهْطِعِينَ " فيكون حالاً، وإضافة :" مُقْنِعِي " غير حقيقة ؛ فلذلك وقع حالاً.
والإهْطَاعُ : قيل : الإسرْاعُ في المشيِ ؛ قال :[ البسيط ]
إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ *** دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا١
وقال :[ الكامل ]
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ *** فِي رَأْسِ جِذْعٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . ٢
وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [ مع ] إدامة النَّظر.
وقال الراغب :" هَطَعَ الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ ".
وقال الأخفش : هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ، وأنشد :[ الوافر ]
بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ *** بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ٣
والمعنى : مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي.
وقال ثعلبٌ :" هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء ". وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة ؛ فقد سمع فيه :" أهْطََعَ وهَطَعَ " رباعيًّا وثلاثيًّا.
والإقناعُ : رفع الرَّأسِ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى غيره، قاله القتبيُّ، وابنُ عرفة.
ومنه قوله -يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر ؛ فترفع رءوسها- :[ الوافر ]
يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ *** نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ٤
ويقال : أقْنَعَ رأسه، أي : طأطأها، ونكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعةُ : الاجتزاءُ باليسيرِ، ومعنى قَنَعَ عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال. وفَمٌ مُقَنَّعٌ : معطوف الأسنان إليه داخلة، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ –بالتشديد-، ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً، وقَنَعاً، إذا رَضِيَ، وقنع قُنُوعاً، إذا سَألَ، [ فوقع ] الفرق بالمصدر.
وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناعِ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس
والقَانِعُ : من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ، كقوله :[ الوافر ]
لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي *** مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ٥
ورجل مقنَّعٌ : تَقنَّعَ بِهِ ؛ قال :[ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ٦
ومنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه، فبين -تعالى- أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد، و أنهم يرفعون رءوسهم.
والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ، وهو مؤنَّثٌ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس، وفي الكثرة على " رُءُوس " والأرَاسُ : العظيم الرأس، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها.
قوله :﴿ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ﴾ في محل نصب على الحال من الضمير في :" مُقْنِعِي " ويجوزو أن يكون بدلاً من :" مُقْنِعِي "، كذا قاله أبو البقاء، يعني أنه يحل محله، ويجوز أن يكون استئنافاً، والطرف في الأصل مصدر، وأطلق على الفاعل، كقولهم :" مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف "، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر :[ الكامل ]
وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي *** حتَّى يُوارِي جَارتِي مأواها٧
والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً، يقال : ما طبق طرفهُ، أي : حفنهُ على الآخر، الطَّرفُ أيضاً : تحركُ الجِفْنِ.
ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ.
قوله :﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾ " يجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعامل فيه إمَّا " يَرتَدُّ " وإمَّا ما قبله من العوامل، وأفرد :" هَواءٌ "، وإن كان خبراً عن جمع ؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه ".
والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ، يقال : جوفهُ هواء، أي : فارغ ؛ قال زهيرٌ :[ الوافر ]
كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل *** مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ٨
وقال حسَّان بن ثابت -رضي الله عنه- :[ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** فأنت مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ٩
النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه.
والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ.
١ البيت لعمران بن حطان. وينظر: الدر المنثور ٤/٨٨، الدر المصون ٤/٢٧٧..
٢ البيت لامرئ القيس وقيل: لأنيق بن جبلة. وروي:
ومستقلل الذفري.......... *** في رأس...............
ينظر: البحر المحيط ٥/٤١٨، الطبري ١٣/٢٣٨، مجاز القرآن ١/٣٢٢، اللسان والتاج (أول)، الدر المصون ٤/٢٧٧..

٣ البيت ليزيد الحميري. وروي: بدجلة أهلها.. في ديوانه /١١٠، ينظر: مجاز القرآن ١/٣٤٣، البحر المحيط ٥/٤٢٣، روح المعاني ١٣/٢٤٥، التاج والتهذيب واللسان (هطع) إعراب القرآن ٣/١٦٦، الدر المصون ٤/٢٧٧..
٤ البيت للشماخ. ينظر: ديوانه (٢٢٠) وفيه: (يبادرون) بدلا من (يباكرن)، مجاز القرآن ١/٢٤٣، روح المعاني ١٣/٢٢٠، المخصص ١٢/٢٨٧، الصاحبي (٢٦٣)، التهذيب واللسان (قنع) القرطبي ٥/٤٠٩، إعراب القرآن ٣/١٦٦، الطبري ١٣/١٥٧ الدر المصون ٤/٢٧٧..
٥ البيت للشماخ. ينظر: ديوانه (٢٢١)، مجاز القرآن ٢/٥١، المخصص ١٢/٢٨٧، الصاحبي (٢٦٣)، التهذيب واللسان (قنع) فصيح ثعلب /١٥ المفرادات ٤٢٩، أحكام القرآن ٣/١٢٩٤، المسائل البصريات ١/٦١٣، الدر المصون ٤/٢٧٧..
٦ جز بيت لقيس بن الملوح وصدره:
وبايعت ليلى بالخلاء ولم يكن ***......................
ينظر: ديوانه (١٨٦)، اللسان (قنع) جمهرة اللغة ص ٩٤٢، شرح المفصل ١/١٣، ٣/٥١، أمالي القالي ١/١٩٦، الكامل ١/١٦٥، الراغب /٦٢٤، ٦٢٥ معجم البلدان (القانع)، الدر المصون ٤/٢٧٨..

٧ البيت لعنترة. ينظر: ديوانه (٧٦)، البحر المحيط ٥/٤١٩، تفسير القرطبي ٩/٣٧٧، روح المعاني ١٣/٢٤٦، الدر المصون ٤/٢٧٨..
٨ ينظر: ديوانه (٩)، شرح الديوان ٦٣، تفسير غريب القرآن ١٣٤، القرطبي ٥/٤٠٩، الطبري ١٣/١٥٩، الكشاف ٢/٣٨٢ شواهد الكشاف /٣١٧، الألوسي ١٣/٢٤٧، الكامل ١/١٩٥، المحرر الوجيز ٤/٥٦٠، الدر المصون ٤/٢٧٨..
٩ عجز بيت وصدره:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ***...................
ينظر: الديوان (٩)، الكشاف ٢/٣٨٢، القرطبي ٥/٤٠٩، الألوسي ١٣/٢٤٧، مجاز القرآن ١/٣٤٤، الطبري ١٣/١٤٤، اللسان والتاج (هوى، جوف)، الدر المصون ٤/٢٧٨..

قوله :﴿ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب ﴾ قال أبو البقاء :﴿ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ﴾ مفعول ثان ل :" أنْذر "، أي : خوفهم عذاب يوم، وكذا قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب، ولا حاجة إلى ذلك، ولا جائز أن يكون ظرفاً ؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة، أو يوم هلاكهم، أو يوم تلقاهم الملائكةُ.
والألف واللام في :" العَذابُ " للمعهود السَّابق، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره، وهو شخوصُ الأبصار، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم.

فصل


حمل أبو مسلم قوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب ﴾ على أنه حال المعاينة، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخّرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين ﴾ [ المنافقون : ١٠ ]، وظاهر الآية يشهد بخلافه ؛ لأنه -تعالى- وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه، وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم :﴿ أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم :﴿ فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه.
وقيل : طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم :﴿ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل ﴾، فقوله :" نُجِبْ " جواب الأمرِ.
قوله :﴿ أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ من قبل ﴾ قال الزمخشري :" على إرادة القول وفيه وجهان : أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً، وأملوا بعيداً ".
و " مَا لكُمْ " جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله :" أقْسَمْتُمْ "، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل :" مَا لنَا ".
وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله -عزَّ وجلَّ- أو الملائكة -عليهم السلام- أي : فيقال لهم :" أو لم تكونوا "، وهو أظهر من الأول، أعني ؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم، والمعنى :﴿ أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ ﴾ أراد قوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه.
قوله :﴿ وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ وأصل " سَكَنَ " التَّعدي ب " في " كما في هذه الآية، وقد يتعدى بنفسه.
قال الزمخشريُّ :" السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ، من الأصل تعديه ب " في " كقولك : قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه، فقيل : سكن الدَّار كما قيل : تَبَوَّأها، وأوطنَها، ويجوز أن يكون من السُّكونِ، أي : قرُّوا فيها واطمأنُوا ".
والمعنى : وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح، وعادٍ، وثمود و :﴿ ظلموا أَنفُسَهُمْ ﴾ بالكفر ؛ لأن من شاهد هذه الحال ؛ وجب عليه أنّ يعتبر، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع.
قوله :" وتَبيَّنَ لَكُمْ " فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم، و " كَيْفَ " نصب ب " فَعلْنَا " وحملة الاستفهام ليست معمولة ل " تَبيَّنَ " ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق، ولا جائز أن يكون :" كَيْفَ " فاعلاً ؛ لأنَّها إمَّا شرطية، أو استفهامية وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدمه، والفاعل لا يتقدَّم عندنا.
وقال بعض الكوفيين : إنَّ جملة :" كَيْفَ فَعلْنَا " هو الفاعل، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً، وقد تقدَّم هذا في قوله :﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ ﴾ [ يوسف : ٣٥ ].
والعامة على " تَبيَّنَ " فعلاً ماضياً، وقرأ عمر١ بن الخطاب، والسلمي -رضي الله عنهما- في رواية عنهما :" ونُبيِّنُ " بضمِّ النون الأولى والثانية، مضارع :" بيَّن "، وهو خبر مبتدأ مضمر، والجملة حالٌ، أي : ونحن نبين.
وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ٢ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على " تَكُونُوا " فيكون داخلاً في حيز التقدير.

فصل


والمعنى : عرفتم عقوبتنا إياهم، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل.
١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٥، والدر المصون ٤/٢٧٩..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٥ والبحر المحيط ٥/٤٢٥ والدر المصون ٤/١٧٩..
قوله :﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ ﴾ قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى :﴿ وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب ﴾ يا محمد، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ].
وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ، وكان قد جوَّعها، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً، وعلم عليها اللحم، ثم جلس مع صاحب له في التابوت، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن عين نمروذ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض.
قال القاضي -رحمه الله- :" وهذا بعيد جدًّا ؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم، ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر، ولا دليل ".
قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس -رضي الله عنهما- أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع، وخمسة وعشرين ذراعاً، وصعد فيه مع النُّّسور، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه، فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصَّرح عليهم، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله -عزَّ وجلَّ- :﴿ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ ﴾١.
قوله :﴿ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ ﴾ يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله، أو للمفعول، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، أي : يعذبهم قالهما الزمخشريُّ.
قال أبو حيان٢ :" وهذا لا يصحُّ إلاَّ إن كان " مَكَرَ " يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به، والمحفوظ أن " مَكَرَ " لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه، قال تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] وتقول : زيدٌ ممكور به، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا.
قوله :﴿ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال ﴾ قرأ العامة بكسر لام " لِتَزولَ " الأولى، والكسائي بفتحها٣.
فأما القراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها نافيةٌ، واللام بعدها لام الجحودِ ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ، وفي " كَانَ " حينئذ قولان :
أحدهما : أنَّها تامَّة، والمعنى ؛ تحقير مكرهم، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها٤.
ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله :( وما كان مَكْرُهُمْ ).
القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين، هل هو محذوف، واللام متعلقة به ؟ وإليه ذهب البصريون، أو هو اللام، وما جرته كما [ هو مذهب ]٥ الكوفيين ؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.
الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة.
قال الزمخشري٦ :" وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك ".
وقال ابن عطية٧ :" ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الأمور "، فمفهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ ؛ لأنَّه إثبات.
والثالث : أنها شرطيةٌ، وجوابها محذوفٌ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي، وهي المعجزات، والآيات، فالله مجازيهم بمكرهم، وأعظم منه.
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل، وهو : أنها نافية ؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكسائي في ذلك ؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي.
وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها، وفي قراءة الجماعة مشار بها إلى ما جاء به النبيُّ المختار -صلوات الله وسلامه عليه- من الدين الحق، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً، وإثباتاً.
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي :" إنْ " وجهان :
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية، واللام بمعنى :" إلاَّ " وقد تقدَّم تحقيق المذهبين.
وقرأ عمر، وعلي، وعبد الله٨، وزيد بن علي، وأبو سلمة وجماعة -رضي الله عنهم- ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون :" كَانَ " دالاً، فعل مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوال غير واقع.
وقرئ :" لَتَزُولَ " ٩ بفتح اللامين، وتخريجها على إشكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي.

فصل


في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :
أحدهما : جبال الأرض.
الثاني : الإسلامُ، والقرآن ؛ لأنَّ ثبوته، ورسوخه كالجبالِ.
وقال القشيريُّ :﴿ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ ﴾ أي : هو عالم بذلك فيجازيهم، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف.
١ ذكره الماوردي في "تفسيره" المسمى بـ "النكت والعيون" (٣/١٤٢)..
٢ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٥..
٣ ينظر: الحجة ٥/٣١ وإعراب القراءات السبع ١/٣٣٦، ٣٣٧ وحجة القراءات ٣٧٩ والإتحاف ٢/١٧١ والمحرر الوجيز ٣/٣٤٦ والبحر المحيط ٥/٤٢٦ والدر المصون ٤/٢٧٩..
٤ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٦ والبحر المحيط ٥/٤٢٦ والدر المصون ٤/٢٨٠..
٥ في أ: ذهب إليه..
٦ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٥..
٧ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٦..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٦ والبحر المحيط ٥/٤٢٥ والدر المصون ٤/٢٨٠..
٩ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٦ والدر المصون ٤/٢٨٠..
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد.
قوله :﴿ مُخْلِفَ وَعْدِهِ ﴾ العامة على إضافة :" مخْلِفَ " إلى " وعْدِهِ " وفيها وجهان :
أظهرهما : أن " مُخْلفَ " يتعدَّى لاثنين كفعله، فقدم المفعول الثاني، وأضيف إليه اسم الفاعل تخفيفاً، نحو : هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ.
قال الفراء وقطرب : لما تعدَّى إليهما جميعاً، لم يبالِ بالتقديم والتأخير.
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلاَّ قيل : مُخْلف رسله وعده ؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول ؟.
قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد، ثم قال :" رُسلهُ " ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلف رسله ؟.
وقال أبو البقاء : هو قريبُ من قولهم :[ الرجز ]
يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ١ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأنشد بعضهم -نظير الآية الكريمة- قول الشاعر :[ الطويل ]
تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ وسَائرِهُ بَادٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ٢
والحسبان هنا : الأمر [ المتيقن ]٣، كقوله :[ الطويل ]
فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي وكُلُّ امرئ كَأسَ الحِمامِ يَذُوقُ٤
الثاني : أنه متعد لواحد، وهو " وعْدهِ "، وأمَّا " رُسلهُ " فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ، وفعل تقديره : مخلف ما وعد رسله، ف " ما " مصدريَّة لا بمعنى الذي ؟
وقرأت٥ جماعة :﴿ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ﴾ بنصب :" وَعْدهُ " وجر :" رسُلهِ " فصلاً بالمفعول بين المتضايفين، هي كقراءة ابن عامرٍ :{ قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ ).
قال الزمخشري -جرأة منه- :" وهذه في الضعف [ كقراءة ]٦ ( قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ ).
ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام ﴾ غالب لأهل المكر، ذو انتقام لأوليائه منهم.
١ ينظر: الكتاب ١/١٧٥، أمالي ابن الشجري ٢/٢٥٠، الخزانة ٣/١٠٨، معاني الفراء ٢/٨٠، التبيان ٢/٧٧٤، ابن يعيش ٢/٤٥، ٤٦، الهمع ١/٢٠٣، الدرر ١/١٧٢، الألوسي ١٣/٢٥٣، الدر المصون ٤/٢٨١..
٢ تقدم..
٣ في ب: المتبين..
٤ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٦، الدر المصون ٤/٢٨١..
٥ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٦، والمحرر الوجيز ٣/٣٤٦ والبحر المحيط ٥/٤٢٧ والدر المصون ٤/٢٨١..
٦ في أ: كمن قرأ..
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض ﴾ [ لما بين أنه عزيز ذو انتقام، بين وقت انتقامه، فقال :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض ﴾ ] ١ ويجوز في " يَوْمَ " عدة أوجه :
أحدها : أن ينتصب منصوباً ب " انتقام " أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم.
الثاني : أن ينتصب ب " اذكُر ".
الثالث : ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام.
الرابع : أن يكون بدلاً من :" يَوْمَ يَأتِيهِمْ ".
الخامس : أن ينتصب ب " مُخْلِفَ ".
السادس : أن ينتصب ب " وَعْدِهِ "، و " إنَّ " وما بعدها اعتراض.
ومنع أبو البقاء هذه الآخرين، قال٢ :" لأن ما قبل " إنَّ " لا يعمل فيما بعدها ".
وهذا غير مانع ؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض، فلا يبالى به فاصلاً.

فصل


التَّبديلُ يحتمل وجهين :
الأول : أن تكون الذَّات باقية، وتبدل الصفة بصفة أخرى، كما تقول : بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، منه قوله تعالى :﴿ فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ]، ويقال : بدّلتُ قَمِيصِي جُبَّة، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ، وقال الشاعر :[ الطويل ]
فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ٣
الثاني : أنْ تُفني الذات، وتحدث ذاتاً أخرى، كقولك : بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله -تعالى- :﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ﴾ [ سبأ : ١٦ ].
وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : هي تلك الأرض، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها، وتفجر أنهارها، وتسوى، فلا ﴿ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً ﴾٤ [ طه : ١٠٧ ] وقال صلى الله عليه وسلم :" تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ، فيَبْسُطهَا، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [ العكاظي ]٥ لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ". وتبدل السماوات بانتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها ؛ وخسوف قمرها، وكونها تكن تارة كالمهل، وتارة كالدهان٦.
والقول الثاني : تبديل الذات. قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية، لم يسفك فيها دمٌ، ولم يعمل عليها خطيئة٧.
والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ : لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنَّما يعدم صفاتها.
وقيل : المراد من تبديل الأرض والسماوات : هو أنَّ الله -تعالى-، يجعل الأرض جهنم، ويجعل السماوات الجنة بدليل قوله تعالى :﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ ﴾
[ المطففين : ٧ ] وقوله -عزَّ وجلَّ- ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [ المطففين : ١٨ ].
وقالت عائشة -رضي الله عنها- : سألتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات ﴾ [ إبراهيم : ٤٨ ] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :" على الصِّراطِ " ٨.
وروى ثوبانُ -رضي الله عنه- أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ ؟ قال :" هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ " ٩.
قوله " والسماوات " تقديره : وتبدل السماوات غير السماوات.
وقرئ١٠ :" نُبَدّلُ " بالنون :" الأرض " نصباً " والسماوات " نسق عليه.
قوله " وبَرَزُوا " فيه وجهان :
أحدهما : أنها حملةٌ مستأنفة، أي : يبرزون، كذا قدَّره أبو البقاءِ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال، والأحسن أنه مثل ﴿ ونادى أَصْحَابُ النار ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] ﴿ ونادى أَصْحَابُ الجنة ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] ﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحجر : ٢ ] ﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ [ النحل : ١ ] لتحقُّّق ذلك.
والثاني : أنها حال من " الأرض "، و " قَدْ " معها مرادة، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في :" بَرَزُوا " للخلق دلّ عليه السِّياق، والرَّابط بين الحال، وصاحبها الواو.
وقرأ زيد١١ بن علي " وبُرِّزُوا " بضم الباء، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى ﴿ وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ]، وإنما ذكر " الوَاحدِ القهَّارِ " هنا ؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ، قهَّار لا يقهر، فلا يستغاث بأحد غيره، فكان الأمر في غية الصعوبة.
١ سقط من ب..
٢ ينظر: الإملاء ٢/٧١..
٣ ينظر: مجالس ثعلب ١/٤٩، روح المعاني ١٣/٢٥٤، الكشاف ٢/٣٨٤، شواهد الكشاف ٤/٢٥٨، البحر المحيط ٥/٤٢٧، العقد الفريد ٢/١٤٨، الدر المصون ٤/٢٨١...
٤ ذكره الرازي في "تفسيره" (١٩/١١٦)..
٥ في ب: العاكظي..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٨٢)..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٧/٤٧٩) والحاكم (٤/٥٧٠) والطبراني في "الكبير" كما في "المجمع" (٧/٤٨).
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في "المجمع" (٧/٤٨) وقال: وإسناده جيد.
وذكره أيضا السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٦٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "البعث"..

٨ أخرجه مسلم (٤/٢١٥٠) كتاب صفات المنافقين: باب في البعث والنشور حديث (٢٩/٢٧٩١). والترمذي (٥/٢٧٦) كتاب التفسير حديث (٣١٢١) وابن ماجه (٤٢٧٩) واستدركه الحاكم (٢/٣٥٢) من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة وهو في مسلم بهذا الإسناد.
والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٤/١٦٧) وزاد نسبته إلى أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه..

٩ أخرجه مسلم (١/٢٥٢) كتاب الحيض: باب بيان صفة مني الرجل والمرأة حديث (٣٤٠/٣١٥) والطبري (٧/٤٨٣) والحاكم (٣/٤٨٢) من حديث ثوبان.
١٠ /٥٦٧ والبحر المحيط ٥/٤٢٨ والدر المصون ٤/٢٨٢. ينظر: الكشاف.
١١ ينظر: البحر المحيط ٥/٤٢٨ والدر المصون ٤/٢٨٢..
ولما وصف نفسه -تعالى- بكونه قهاراً، بيَّن عجزهم، وذلتهم فقال :" وتَرَى المُجْرمينَ " وصفهم بصفات :
الأولى : قوله :﴿ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ " يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية، و " فِي الأصْفادِ " متعلق به.
وقيل : بمحذوف على أنه حال أو صفة ل " مُقرَّنينَ " ".
والمُقرن : من جمع في القَرَن، وهون الحبل الذي يربط به، قال :[ البسيط ]
وابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ *** لَمْ يَستَطعْ صَولةَ البُزْلِ القَناعِيسِ١
وقال آخر :[ البسيط ]
ب- والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ٢ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :[ البسيط ]
ج- إنِّي لَدَى الباب كالمَلزُوزِ في قَرنٍ٣ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقال : قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ، ووَصلتهُ، والقرنُ : اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك.
والأصْفَادُ : جمع صفدٍ، وهو الغلُّ، والقيد، يقال : صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً، قيَّدهُ، والاسم الصَّفَد، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير ؛ قال :[ الوافر ]
فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا *** وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا٤
والأصفادُ من٥ الصَّفْد، وأصفْدَه، أي : أعطاه، ففرَّقُوا بين " فَعَل " و " أفْعَلَ ".
وقيل : بل يستعملان في القَيْدِ، والعَطاءِ، قال النابغة الذبياني :[ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ٦
أي : بالإعطاءِ، وسمي العطاء صفداً، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه، منه : أنا مغلول أياديك، أسير نعمتك.

فصل


قيل : يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة، بيانهن قوله :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] يعنى : قرناءهم من الشَّياطين، وقوله -جل ذكره- :﴿ وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ ﴾ [ التكوير : ٧ ]. أي قرنت.
وقيل : مقرونة أيديهم، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي : بالقيود.
١ تقدم..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٢٨٢..
٣ تقدم..
٤ في أ: الصفاد مثل..
٥. تقدم.
٦ لبيت لعمرو بن ملقط.
وهو عجز بيت وصدره: مهما ليه الليلة مهما ليه ***...................
ينظر: شرح المفصل ٧/٤٤، الخزانة ٩/١٨، المغني ١/١٠٨، الهمع ٢/٥٨، الدرر ٢/٧٤، التهذيب (مه)، النوادر /٦٢، الدر المصون ٤/٢٨٣..

قوله :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من " المُجْرمينَ " وإمَّا من :" مُقرَّنِينَ "، وإما من ضميره، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر.
والسَّرابِيلُ : الثِّيابُ، وسَرْبلتهُ، أي : ألْبَستهُ السِّربالَ ؛ قال :[ السريع ]
. . . . . . . . . . . . . . . *** أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه١
وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع، وشبهه قال تعالى :﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ [ النحل : ٨ ].
والقَطرانُ : ما يستخرج من شجر يسمَّى الأبهل، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [ بحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ]٢، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ، وفيه لغاتٌ :" قِطرانٍ " بفتح القاف وكمسر الطاء، وهي قراءة العامة.
و " قَطْران " بزنة سكران، وبها قرأ٣ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- وقال أبو النَّجْم :[ الرجز ]
لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا٤ ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و " قِطْرَان " بكسر القاف، وسكون الطاء بزنة " سِرْحَان " ولم يقرأ بها فيما علمتُ.
قال شهابُ الدين٥ -رحمه الله- : وقرأ٦ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس، وأبو هريرة -رضي الله عنهم- :" قَطِرِ " بفتح الْقاف، وكسرها وتنوين الراء " آنٍ " بوزن " عَانٍ " جعلوها كلمتين، والقَطِر : النَّحاس، وال " آنِ " اسم فاعل من أنَى يأني، أي : تَناهى في الحرارةِ ؛ كقوله تعالى :﴿ وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمان : ٤٤ ].
وعن عمر -رضي الله عنه- ليس بالقطران، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه٧.
قال ابن الأنباري :" وتلك النَّار لا تبطل ذلك القطران، ولا تفنيه، كما لا تهلك أجسادهم النَّار، والأغلال التي عليهم ".
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال، وهو القميص، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته، وإسراع النَّار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الرِّيحِ، وأيضاً : التفاوت بين قطران القيامة، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين.
قوله :﴿ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار ﴾ قرئ٨ " وتَغَشَّى " بتشديد الشِّين، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين.
وقرئ برفع :" وُجوهُهُم " ٩ ونصب " النَّار " على سبيل المجازِ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً.
والجملة من قوله :" وتَغْشَى " قال أبو البقاءِ :" حال أيضاً ".
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ، ولا يعني أنَّها حال، والواو للحال، لأنَّه مضارع مثبت.

فصل


المعنى :[ تعلو ]١٠ النَّار وجوههم، ونظيره قوله -تعالى- :﴿ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب ﴾ [ الزمر : ٢٤ ] وقوله :﴿ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ القمر : ٤٨ ].
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة، والعلم، والجهل ه والقلبُ، وموضع الفكر، والوهم والخيال هو الرَّأس، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله -تعالى- هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما، قال الله -تعالى- [ في القلب ] :﴿ نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة ﴾ [ الهمزة : ٦، ٧ ] وقال -تعالى- في الوجه :﴿ وتغشى وُجُوهَهُمْ النار ﴾.
١ سقط من ب..
٢ /٤٢٨ والدر المصون ٤/٢٨٣ ينظر: البحر المحيط.
٣ ينظر: الديوان ٨٣، المحتسب ١/٣٦٧، اللسان (نتح)، الطبري ١٣/١٦٧، الدر المصون ٤/٢٨٣، والقرطبي ٩/٣٨٥، والرواية في القرطبي والمحتسب "القِطران" بكسر القاف، وليس بفتحها كما استشهد به المؤلف..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٢٨٣..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٨ والبحر المحيط ٥/٤٢٨ والدر المصون ٤/٢٨٣..
٦ أخرجه الطبري (٧/٤٨٥ - ٤٨٦) عن ابن عباس وسعيد بن جبير مثله..
٧ ينظر: الكشاف ٢/٥٦٨ والبحر المحيط ٥/٤٢٩ والدر المصون ٤/٢٨٣..
٨ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٨ والبحر المحيط ٥/٤٢٩ والدر المصون ٤/٢٨٣..
٩ ينظر: الفخر الرازي ١٩/١١٨..
١٠ في ب: تطل..
قوله :﴿ لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ في هذه الأيام وجهان :
أظهرهما : أنَّها تتعلق ب " بَرَزُوا " وعلى هذا فقوله :" وتَرَى " جملة معترضة بين المتعلق، والمتعلق به.
والثاني : أنها تتعلق بمحذوف، أي : فعلنا بالمجرمين، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم ؛ أثاب الطَّائع.
قال الواحدي١ :" المرادُ : أنفسُ الكفَّار ؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه، وأنه -تعالى- يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبت من عملها اللائق بها، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً، فالله -تعالى- لما عاقب المجرمين بجرمهم، فلأن يثيب المطيعين أولى ".
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي : لا يظلمهم، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه.
١ سقط من ب..
قوله تعالى :﴿ هذا بَلاَغٌ ﴾ إشارة إلى ما تقدَّم من قوله :" ولا تحْسَبنَّ " إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن، نزل منزلة الحاضر بلاغ، أي : كافية في الموعظة.
قوله تعالى :﴿ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف، أي : ولينذروا أنزلنا عليك.
الثاني :[ أنه معطوف على محذوف، وذلك المحذوف متعلق ب " بلاغ "، تقديره : لينصحوا ولينذروا ]١.
الثالث : أن الواو مزيدة :" ولِيُنْذَرُوا " متعلق ب " بَلاغٌ "، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ.
الرابع : أنه محمولٌ على المعنى، أي : ليبلغوا، ولينذروا.
الخامس : أن اللام لام الأمر، وهو حسنٌ، لولا قوله :" ولِيَذّكَّرَ " فإن منصوب فقط.
قال شهاب الدين٢ : قال بعضهم : لا محذور في ذلك، فإن قوله :" لِيَذَّكرَ " ليس معطوفاً على ما تقدمه، بل متعلق بفعل مقدر، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه.
السادس : أنه خبر لمبتدأ مضمر، التقدير : هذا بلاغ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة.
السابع : أنه عطف مفرداً على مفردٍ، أي : هذا بلاغ وإنذار، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب.
الثامن : أنه معطوف على قوله :" يُخْرجَ النَّاسَ " في أول السورة، وهذا غريب جدًّا.
التاسع : قال أبو البقاء٣ :" المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، وتقديره : ولينذروا به أنزل، أو تلي ".
قال شهاب الدين٤ :" فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك ".
وقرأ العامة :" لِيُنذَرُوا " مبنيًّا للمفعول. وقرأ مجاهدٌ٥ وحميد بن قيس :" ولتُنْذِرُوا " بتاء مضمومة، وكسر الذال -كأن البلاغ للعموم، والإنذار للمخاطبين، وقرأ٦ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي " ولِيَنْذَرُوا " بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء، أي : علم به فاستعد له.
قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو ك " عَسَى "، وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها.

فصل


معنى " لِيُنْذَرُوا " أي : وليخوفوا به ﴿ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ ﴾ أي : يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله -تعالى- :﴿ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي : يتّعظ أولو العقول.
قال القاضي٧ : أول هذه السورة، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه، وإن شاء عصى.
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى :﴿ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ وقد ذكرناه هناك.
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى :﴿ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب ﴾ يدلُّ على أنَّه -تعالى- إنَّما أنزل هذه السورة، وذكر هذه المواعظ ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق ؛ فيصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية، وقد تقدم جوابه.
١ سقط من ب..
٢ ينظر: الدر المصون ٤/٢٨٣..
٣ ينظر: الإملاء ٢/٧١..
٤ ينظر: الدر المصون ٤/٢٨٤..
٥ ينظر: البخر المحيط ٥/٤٢٩ والدر المصون ٤/٢٨٤..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٣/٣٤٨ والبحر المحيط ٥/٤٢٩ والدر المصون ٤/٢٨٤..
٧ ١٩/١١٨. ينظر: الفخر الرازي.
Icon