تفسير سورة البقرة

مراح لبيد
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة البقرة
مدنية، مائتان وست وثمانون آية، ستة آلاف ومائة وأربع وأربعون كلمة، ستة وعشرون ألفا ومائتان وواحد وخمسون حرفا
الم (١) قال الشعبي وجماعة: الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونفوّض العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها، والله تعالى اختص بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء، والأنبياء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء، والعلماء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العامة. وقال أبو بكر رضي الله عنه: في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ أي هذا الكتاب الذي يقرؤه عليكم رسولي محمد لا شك في أنه من عندي، فإن آمنتم به هديتكم، وإن لم تؤمنوا به عذبتكم. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) أي رحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والصراط والميزان، والبعث والحساب وغير ذلك.
وقيل: المراد بالغيب القلب. والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتمون الصلوات الخمس بالشروط والأركان والهيئات.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أي مما أعطيناهم من الأموال يتصدقون لطاعة الله تعالى وهو أبو بكر الصديق وأصحابه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من سائر الكتب السابقة على القرآن وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أي وهم يصدقون بما في الآخرة من البعث بعد الموت والحساب ونعيم الجنة وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة عَلى هُدىً أي كرامة نزل مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) أي الناجون من السخط والعذاب وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) أي الذين كفروا في علم الله متساو لديهم إنذارك إياهم بالقرآن وعدمه وهم لا يريدون أن يؤمنوا بما جئت به فلا تطمع يا أشرف الخلق في إيمانهم، ثم ذكر الله سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ أي طبع الله على قلوبهم فلا يدخلها إيمان وعلى سمعهم فلا ينتفعون بما يسمعونه
من الحق ووحّد السمع لوحدة المسموع وهو الصوت. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مبتدأ وخبر أي على أعينهم غطاء من عند الله تعالى فلا ينصرون الحق. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) أي شديد في الآخرة وهم رؤساء اليهود الذين وصفهم الله بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجدي بن أخطب، ويقال: هم مشركو أهل مكة عتبة وشيبة والوليد بن المغيرة وأبو جهل. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا في السر بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بالبعث بعد الموت الذي فيه جزاء الأعمال. وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) في السر يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يكذبونه في السر وَالَّذِينَ آمَنُوا أبا بكر وسائر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَما يَخْدَعُونَ أي يكذبون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وهذه الجملة حال من ضمير يخادعون أي يفعلون ذلك، والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن دائرة فعلهم مقصورة عليهم.
وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة والكسائي «وما يخدعون» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الدال، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الخاء مع المد وكسر الدال، ولا خلاف في قوله: «يخادعون الله» فالجميع قرءوا بضم الياء وفتح الخاء وبالألف بعدها وكسر الدال، وأما الرسم فبغير ألف في الموضعين وَما يَشْعُرُونَ (٩) أن الله يطلع نبيه على كذبهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وظلمة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مرضا أي شكا وظلمة بما أنزله من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكا وخلافا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع في الآخرة يخلص وجعه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠).
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد، أي بتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ الباقون بتخفيف الذال أي بكذبهم في قولهم: آمنا في السر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب ابن قشير.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتعويق الناس عن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد أَلا أي بلى إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لها بالتعويق وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) أن الله تعالى يطلع نبيه على فسادهم. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن أي إن المؤمنين نصحوا المنافقون من وجهين:
أحدهما: النهي عن الإفساد وهو التخلي عن الرذائل.
وثانيهما: الأمر بالإيمان وهو التحلي بالفضائل كَما آمَنَ النَّاسُ أي الكاملون في الإنسانية، العاملون بقضية العقل كأصحاب النبي أو كعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم قالُوا فيما بينهم لا بحضرة المسلمين أَنُؤْمِنُ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أي الجهال
10
وإنما سفّهوا المؤمنين لتحقير شأنهم، لأن أكثرهم فقراء وبعضهم موال كصهيب وبلال أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأصحابه قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد أَلا أي بلى إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ أي الجهال الخرقى وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) أنهم سفهاء وَإِذا لَقُوا أي المنافقون الَّذِينَ آمَنُوا أبا بكر وأصحابه قالُوا آمَنَّا في السر كإيمانكم وَإِذا خَلَوْا أي عادوا إِلى شَياطِينِهِمْ أي أكابرهم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض وهم خمسة نفر: كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن الأسود بالشام. قالُوا لهم لئلا يتوهموا فيهم المباينة إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم في السر إِنَّما نَحْنُ في إظهار الإيمان عند المؤمنين مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي الله يعاملهم معاملة
المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا خرجوا من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم فإذا وصلوا إلى باب الجنة سدّ عليهم الباب، وذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: ٢٩] وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي يزيدهم في ضلالتهم يَعْمَهُونَ (١٥) أي يترددون في الكفر وتركه متحيّرين أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة من قوله: ومن النّاس اختاروا الكفر على الإيمان فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي فلم يربحوا في تجارتهم بل خسروا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) إلى طرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوهما. فرأس مالهم العقل الصرف، وربحه الهدى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً أي صفة المنافقين في حال نفاقهم كصفة الذي أوقد نارا في ظلمة لكي يأمن بها على نفسه وأهله وماله، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ أي فلما أضاءت النار المكان الذي حول المستوقد فأبصر وأمن مما يخافه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أطفأ الله النور المقصود بالإيقاد فبقي المستوقدون في ظلمة وخوف، وَتَرَكَهُمْ أي المستوقدين فِي ظُلُماتٍ ظلمة الليل، وظلمة تراكم الغمام فيه، وظلمة انطفاء النار لا يُبْصِرُونَ (١٧) ما حولهم، فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بسبب إظهار كلمة الإيمان، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب وهم في القبر وما بعده صُمٌّ عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول بُكْمٌ عن الخير فلا يقولونه قولا مطابقا للواقع لما سبق أنهم مؤمنون ظاهرا عُمْيٌ عن طريق الهدى فلا يرونه رؤية نافعة فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) عن كفرهم وضلالتهم أَوْ كَصَيِّبٍ أو صفة المنافقين كصفة أصحاب مطر نازل مِنَ السَّماءِ أي السحاب ليلا وهم
11
في مفازة فِيهِ أي الصيب ظُلُماتٌ ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. وَرَعْدٌ وهو صوت يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب إذا أخذتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد وَبَرْقٌ وهو ما يلمع من السحاب. يَجْعَلُونَ أي أصحاب الصيب أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها قطعة نار حَذَرَ الْمَوْتِ من سماعها فكذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن المشبّه بالمطر في أن كلا سبب الحياة، وفيه ذكر الكفر المشبّه بالظلمات وعدم الاهتداء، وذكر الوعيد على الكفر المشبه بالرعد في إزعاجه وإرهابه، وذكر الحجج البيّنة المشبّهة بالبرق في ظهوره.
يسدون آذانهم من سماع القرآن حذر الميل إلى الإيمان الذي هو بمنزلة الموت عندهم، فإن ترك الدين موت وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) علما وقدرة فلا يفوتونه تعالى لأن المحاط لا يفوت المحيط يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ أي البرق لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ أي في ضوء البرق وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي بقوا في الظلمة، وهذا تمثيل لإزعاج ما في القرآن قلوبهم باختطاف البرق بأبصارهم ولتصديقهم لما يحبونه من تحصيل الغنيمة وعصمة الدماء والأموال بمشيهم في البرق، ولوقوفهم لما يكرهون من التكاليف الشاقة عليهم كالصلاة والصوم بوقوفهم في الظلمة.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بقصيف الرعد وَأَبْصارِهِمْ بوميض البرق، كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين بزجر ما في القرآن ووعيد ما فيه وأبصارهم بالبيان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي ممكن من ذهاب السمع والبصر قَدِيرٌ (٢٠).
قال الفخر الرازي: وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم مسلكا أخذوه، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا فيه بطرح نوره ويقويه قراءة ابن أبي عبلة كلما ضاء.
يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة أو يا أيها اليهود اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي وحّدوه بالعبادة. الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما من النطفة وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنشأهم ولم يكونوا شيئا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) أي لكي تتقوا السخط والعذاب بعبادته، ولعل للأطماع، لكن الكريم الرحيم إذا أطمع أجرى أطماعه مجرى وعده المحتوم، فلهذا السبب قيل: لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أي بساطا وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا وعبّر عنه بالبناء لأحكامه وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وعن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع، فتجيء السحاب السود فتدخله، فتشربه، فيسوقها الله حيث شاء. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أي أنبت الله بالمطر من ألوان الثمرات طعاما لكم ولسائر الخلق فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي شركاء في العبادة وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) أن الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله أو يقال: وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد من القرآن في أنه من
12
عند نفسه فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي مما هو على صفة ما نزلنا في الفصاحة وحسن النظم والإخبار بالغيوب. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ادعوا أكابركم من غيره تعالى ممن يوافقكم في إنكار أمر محمد ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر، وقد كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أحدهما أعلى درجة من الآخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) في مقالتكم أن محمدا يقول من تلقاء نفسه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تأتوا بسورة من مثل المنزل وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تقدروا أن تجيئوا بمثله فَاتَّقُوا النَّارَ والمعنى إذا ظهر عجزكم عن المعارضة صحّ عندكم صدق محمد عليه السلام، وإذا صح ذلك فاتركوا العناد، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ أي حطبها الكفار وَالْحِجارَةُ المعبودة لهم. قال تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. أُعِدَّتْ أي هيئت تلك النار لِلْكافِرِينَ (٢٤) بما نزّلناه وجعلت عدة لعذابهم وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين ذات شجر ومساكن والمأمور بالبشارة إما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإما كل أحد يقدر على البشارة، وهذا أحسن كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «بشّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة»
«١» ولم يأمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك واحدا بعينه.
وقرأ زيد بن علي «وبشّر» بلفظ المبني للمفعول عطفا على «أعدت». تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت شجرها ومساكنها الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر واللبن والعسل والماء وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي كل حين رزقوا مرزوقا من الجنات من نوع ثمرة قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي هذا مثل الذي أطعمنا في الجنة من قبل هذا الذي أحضر إلينا قال تعالى تصديقا في تلك الدعوى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم وَلَهُمْ فِيها أي الجنات أَزْواجٌ من الحور والآدميات مُطَهَّرَةٌ من الحيض وجميع الأقذار، ومن دنس الطبع وسوء الخلق وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥) أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما أي إن الله لا يترك أن يبين للخلق مثلا أيّ مثل كان بَعُوضَةً فَما فَوْقَها في الذات كالذباب والعنكبوت أو في الغرض المقصود من التمثيل كجناح البعوضة، وكيف يستحي الله من ذكر شيء لو اجتمع الخلائق كلهم على تخليقه وما قدروا عليه. والمراد بالبعوضة هنا:
«الناموس» وهو من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصغر، وله ستة أرجل وأربعة أجنحة، وذنب وخرطوم مجوف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس، والجمل فيبلغ منه الغاية، حتى إن الجمل يموت من قرصته. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي
(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (٢: ٣٠)، والطبراني في المعجم الكبير (١٢: ٣٥٨).
13
ضرب المثل الْحَقُّ أي الثابت مِنْ رَبِّهِمْ فلا يسوغ إنكاره لأنه ليس عبثا بل هو مشتمل على الأسرار والفوائد وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من اليهود فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا تمييز نسبة من اسم الإشارة. أي أيّ فائدة في هذا المثل قال الله تعالى في جوابهم: يُضِلُّ بِهِ أي بهذا المثل عن الدين كَثِيراً من اليهود وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من المؤمنين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) أي الخارجين عن حد الإيمان. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ هو الحجة القائمة على عباده الدالة على وجوب وجوده ووحدانيته وعلى وجوب صدق
رسله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي توكيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فالله أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أُولئِكَ الموصوفون بنقض العهد وما بعده هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) أي المغبونون بذهاب حسناتهم التي عملوها، وبذهاب نعيم الجنة الذي لو أطاعوا الله لوجوده. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَالحال أنكم وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أجساما لا حياة لها، نطفا وعلقا، ومضغا فَأَحْياكُمْ بنفخ الأرواح فيكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالنشور ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) بعد الحشر فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والمعنى ثم إليه تنشرون من قبوركم للحساب هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أي لأجل انتفاعكم في الدين والدنيا بالاستدلال على موجدكم، وإصلاح الأبدان ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى أي قصد إِلَى خلق السَّماءِ أي تعلقت إرادته تعلقا حادثا بترجيح وجود السماء على عدمها، فتعلقت القدرة بإيجادها، فَسَوَّاهُنَّ أي فجعل السماء سَبْعَ سَماواتٍ والحاصل أن الله تعالى خلق الأرض من غير بسط في يومين، ثم خلق السموات السبع مبسوطة في يومين، ثم خلق ما في الأرض مما ينتفع به في يومين. وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين، فجعل الأرض على حوت، والحوت في الماء على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة على الريح فتحرك الحوت، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال، فقرت. فالجبال تفتخر على الأرض. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) فلا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها، وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلياتها. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فإذا نصب بإضمار اذكر.
وقيل: زائدة. وقيل: بمعنى قد. ويجوز أن ينتصب بقالوا: أتجعل أي قالوا ذلك القول وقت قول الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣].
روى الضحاك عن ابن عباس: إنه تعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا في
14
الأرض محاربين مع إبليس، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر. وهؤلاء خزّان الجنان أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لطرد الجن إلى الجزائر والجبال وسكنوا الأرض فخفّف الله عنهم العبادة وكان إبليس يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء، وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه. فقال تعالى له ولجنده: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة. والمراد به آدم عليه السلام قالُوا استكشافا عمّا خفي عليهم من الحكمة لا اعتراضا على الله تعالى ولا طعنا في بني آدم على طريق الغيبة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية وَيَسْفِكُ الدِّماءَ بالظلم بمقتضى القوة الغضبية- فغفلوا عن مقتضى القوة العقلية التي بها يحصل الكمال والفضل- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ أي ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين بِحَمْدِكَ على ما أنعمت به علينا من فنون النعم، التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة. فالتسبيح لإظهار صفات الجلال، والحمد لتذكير صفات الأنعام وَنُقَدِّسُ لَكَ أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزّة، وننزهك عما لا يليق بك. وقيل: المعنى نطهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، أي فنحن أحق بالاستخلاف قالَ تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) من مصلحة استخلاف آدم عليه السلام.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أي أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي ذوات الأشياء عَلَى الْمَلائِكَةِ بأن صور الله الأشياء في قلوبهم فصارت كأنهم شاهدوها، أو خلق الله تعالى معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة فَقالَ تعالى لهم توبيخا: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) في زعمكم أنكم حق بالخلافة ممن استخلفته. قالُوا إقرارا بالعجز: سُبْحانَكَ أي تبنا إليك من ذلك القول لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا أي وإنما قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها، لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا: إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقلنا لك: أتجعل فيها من يفسد فيها، وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ أي الذي لا يخرج عن علمه شيء، الْحَكِيمُ (٣٢) أي المحكم لصنعته قالَ تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أي أخبر الملائكة بِأَسْمائِهِمْ أي المسميات فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ مفصلة وبيّن لهم أحوال كل من المسميات وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد قالَ الله تعالى لهم موبخا: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أعلم غيب ما يكون فيهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من قولكم:
أتجعل فيها إلى آخره وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) أي من استبطانكم أنكم أحقاء بالخلافة.
15
وروى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود: أن المراد بقوله تعالى: ما تُبْدُونَ قولهم:
«أتجعل فيها من يفسد فيها» وبقوله: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر ومن أن لا يسجد. وقيل: لما خلق الله تعالى آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا، فقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموه. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تعظيم لآدم من غير وضع الجهة على الأرض فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى عن أمر الله وَاسْتَكْبَرَ أي تعاظم عن السجود لآدم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) أي صار من الكافرين بإبائه عن أمر الله.
ويقال: إن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا، وهذا السجود كان قبل دخول آدم الجنة. وروي أن بني آدم عشر: الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية. وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم، زجل بالتسبيح والتقديس، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذي هم جنود جبريل عليه السلام وكلهم مشتغلون بعبادته تعالى لا يحصي أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها أكلا رَغَداً أي واسعا لذيذا حَيْثُ شِئْتُما أي في أيّ مكان أردتما منها، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشجرة فقال: «هي الشجرة المباركة السنبلة»
. وعن مجاهد وقتادة: هي التين. وعن يزيد بن عبد الله: هي الأترج، وعن ابن عباس: هي شجرة العلم عليها من كل لون وفن. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما. ويقال: من الذين وضعوا أمر الله تعالى في غير موضعه فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أي أزلقهما إبليس عَنْها أي الجنة.
وقرأ حمزة بألف بعد الزاي، والباقون بغير ألف وتشديد اللام فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من الرغد. وَقُلْنَا لآدم وحواء وإبليس: اهْبِطُوا انزلوا إلى الأرض، فهبط آدم بسر نديب من أرض الهند على جبل يقال له: نود، وهبطت حواء بجدة، وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة
16
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: ٢٢]، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي منزل وَمَتاعٌ أي منفعة ومعاش إِلى حِينٍ (٣٦) أي إلى وقت الموت فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي حفظ آدم من ربه كلمات لكي تكون سببا له ولأولاده إلى التوبة.
وقرأ ابن كثير بنصب «آدم»، ورفع «كلمات» أي جاءته عن الله تعالى كلمات. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «إنها لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا،
وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم»
.
وقال مجاهد وقتادة هي: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين». فَتابَ عَلَيْهِ أي رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع على عباده بالمغفرة. الرَّحِيمُ (٣٧) أي البالغ في الرحمة لمن مات على التوبة. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها أي الجنة جَمِيعاً إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة. وفائدة تكرير الأمر بالهبوط أن آدم وحواء لما آتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر به، ووقع في قلبهما أن الأمر به لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة لا يبقى الأمر به، فأعاد الله الأمر به مرة ثانية ليعلما أن الأمر به باق بعد التوبة، لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠] وعلى هذا فالجمع لاثنين فقط آدم وحواء، ويحتمل كون الجمع لهما ولولديهما قابيل وإقليما بناء على القول بأنهما ولدا في الجنة، ولعل عدم ذكرهما كونهما تابعين لأبويهما. وكان قابيل قد غضبه أبواه لقتله هابيل فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يا ذرية آدم مِنِّي هُدىً دلالة كدليل العقل والنقل، و «إن» للشرطية أدغمت في «ما» الزائدة للتأكيد فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ بأن تأمل الأدلة بحقها واستنتج المعارف منها فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) على ما فاتهم من الدنيا. ويقال: فلا خوف عليهم إذا ذبح الموت ولا هم يحزنون إذا أطبقت النار، وزوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر وعند البعث وعند حضور الموقف، وعند تطاير الكتب، وعند نصب الميزان وعند الصراط وَالَّذِينَ كَفَرُوا برسلنا المرسلة إليهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزّلة عليهم سواء كانوا من الإنس أو من الجن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي أهل النار وملازموها بحيث لا يفارقونها. هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) أي دائمون لا يخرجون منها ولا يموتون فيها يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي يا أولاد يعقوب، وهذا خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من أولاد يعقوب عليه السلام في أيام سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي على آبائكم من الإنجاء من فرعون وفلق البحر، وتظليل الغمام في التيه،
17
وإنزال المنّ والسلوى فيه، وإعطاء الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا، وإعطاء عمود من النور ليضيء لهم بالليل وجعل رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى، وجعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط، وإنزال الكتب العظيمة التي ما أنزلها الله على أمة سواهم أي أقيموا بشكر تلك النعمة. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أي أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي ومن الوفاء بالأمر الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) فيما تأتون وتتركون. واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر، وبالعكس.
روي أنه ينادي مناد يوم القيامة: «وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة»
. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن مُصَدِّقاً أي موافقا بالتوحيد وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبعض الشرائع لِما مَعَكُمْ من التوراة وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي بالقرآن من اليهود فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وفيها قريظة والنضير فكفروا به صلّى الله عليه وسلّم ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. ويقال: ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان من الجهل لا مع المعرفة. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي بكتمان صفة محمد ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا. وذلك لأن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من سفلة اليهود الهدايا، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) أي فخافوني في شأن هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ والباء للاستعانة والمعنى ولا تخلطوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة، وذلك لأن التلبيس صار صارفا للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة، وداعيا لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة، ثم ذكر الله لزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلوات الخمس وَآتُوا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالكم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أي صلوا الصلوات الخمس مع المصلين محمد وأصحابه في جماعتهم، وخصّ الله الركوع بالذكر تحريضا لليهود على الإتيان بصلاة المسلمين فإن اليهود لا ركوع في صلاتهم فكأنه تعالى قال: صلوا الصلاة ذات الركوع في جماعة أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ.
18
روي عن ابن عباس أنه قال: إن أحبار المدينة إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هو صادق فيما يقول وأمره حقّ فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم. ويقال: إن جماعة من اليهود كانوا مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم في اتباعه، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله تعالى بذلك فقال: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة الناطقة بنعوت محمد صلّى الله عليه وسلّم أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) أي أتتلونه فلا تعقلون ما فيه وَاسْتَعِينُوا أيها اليهود على ترك ما تحبون من الدنيا وعلى الدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلّى الله عليه وسلّم بِالصَّبْرِ أي بحبس النفس عن اللذات وَالصَّلاةِ فإنها جامعة لأنواع العبادات وَإِنَّها أي الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي لشاقة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) أي المائلين إلى الطاعة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان منتظرا للموت في كل لحظة، لا يفارق قلبه الخشوع، فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة. وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) أي واذكروا أني فضلت آباءكم على الموجودين في زمانهم لا على من مضى ولا على من يوجد بعدهم، وأيضا معنى تفضيلهم على جميع العوالم أن الله تعالى بعث منهم رسلا كثيرة لم يبعثهم من أمة غيرهم ففضلوا لهذا النوع من التفضيل على سائر الأمم وَاتَّقُوا أيها اليهود إن لم تؤمنوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ بالتأنيث على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وبالتذكير على قراءة الباقين مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فداء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) أي يمنعون من عذاب الله تعالى ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه، ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه
. وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ وقرئ «أنجيناكم» و «نجيتكم» ف «إذا» في موضع نصب عطفا على نعمتي عطف تفصيل على مجمل، وكذلك الظروف الآتية في الكلام المتعلق ببني إسرائيل وينقضي عند قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ والخطاب للموجودين في زمن نبينا. تذكيرا لهم بما أنعم الله على آبائهم لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء». والمعنى ويا بني إسرائيل اذكروا إذ نجينا آباءكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي أتباعه وأهل دينه وعمر فرعون أكثر من أربعمائة سنة- وهو الوليد بن مصعب بن ريان- يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يطلبون لكم أشد العذاب. ثم بيّن الله ذلك بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ صغارا.
وقرئ «يذبحون» بالتخفيف. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يتركونهن أحياء صغارا. ويقال:
يستخدمونهن كبارا، وذلك أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس حتى أحاطت
19
ببيوت مصر وأحرقت كل قبطي، وتركت بني إسرائيل، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
(٤٩) والبلاء هاهنا هو المحنة إن أشير بلفظ ذلكم إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمل البلاء على النعمة أحسن، لأنها هي التي صدرت من الله تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم، ثم إن كون استبقاء نسائهم على الحياة محنة مع أنه ترك للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وكان سببا لانقطاع النسل ولفساد أمر معيشتهن. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي واذكروا إذ فلقناه بسببكم أي لأجل أن يتيسر لكم سلوكه فَأَنْجَيْناكُمْ من الغرق بإخراجكم إلى الساحل وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وترون بعد ثلاثة أيام جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل وفرعون معهم طافين.
روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطا، كل سبط خمسون ألفا فلما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون. فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، ثم اجتمع إلى فرعون ألف ألف ومائتا ألف، كل واحد منهم على فرس فتبعوا موسى وقومه نهارا، وصادفوهم على شاطئ البحر، فضرب موسى بعصاه البحر فانشق البحر اثني عشر جبلا في كل واحد منها طريق فكان فيه وحل، فهبت الصبا فجف البحر حتى صار طريقا يابسا، فأخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه فقالوا لموسى: إنّ بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ، وكوى فرأى بعضهم بعضا فلما وصل فرعون شاطئ البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول، فجاء جبريل على حجرة، فتقدم فرعون وهو على فحل، فتبعها فرس فرعون فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم من خلفهم وهو على فرس فقال: ألحقوا آخركم بأولكم. فلما دخلوا البحر ولم يبق واحد منهم التطم البحر عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ، وهو بحر القلزم طرف من بحر فارس. وقيل: كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى.
قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه. وقرأ الباقون بالألف في المواضع الثلاثة. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بإعطاء الكتاب ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي عبدتم العجل المسمى «بهموت». مِنْ بَعْدِهِ أي بعد انطلاقه إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) أي ضارون لأنفسكم.
قيل: وعد موسى عليه السلام بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب
20
من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يجيء إلى الطور ويصوم فيه ذا القعدة وعشر ذي الحجة، فذهب إليه واستخلف هارون على بني إسرائيل ومكث في الطور أربعين ليلة، وأنزلت عليه التوراة في ألواح من زبرجد، فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط لعمل عرس. قال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فاحرقوها، فجمعوا نارا وأحرقوها، وكان موسى السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدّم على فرعون في دخول البحر، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة، ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصوّر منه عجلا في ثلاثة أيام مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت ومشى. فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى فتركه هاهنا وخرج يطلبه، وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد، فعدوا اليوم مع الليلة يومين، فلما مضى عشرون يوما ولم يرجع موسى عليه السلام وقعوا في الفتنة، فعبدوا كلهم العجل إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وكان موسى السامري رجلا صائغا من جماعة يقال لها:
سامرة، وكان منافقا يظهر الإسلام، وكان من بني إسرائيل من قوم يعبدون البقر. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي محونا ذنوبكم حين تبتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد عبادتكم العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) أي لكي تشكروا نعمة عفوي وتستمروا بعد ذلك على طاعتي. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ أي واذكروا إذ أعطينا موسى التوراة وبيّنا فيها الحلال والحرام. والأمر والنهي وغير ذلك. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) لكي تهتدوا بتدبر الكتاب من الضلال وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي إنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ أي بعبادتكم العجل. فقالوا لموسى:
فماذا تأمرنا؟ فقال لهم: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ أي إلى خالقكم ولو أظهرتم التوبة بالبدن دون القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس. قالوا: كيف نتوب؟ فقال لهم: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي سلموا أنفسكم للقتل وارضوا به، فأجابوا. فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين. فكل قبيلة على حدة، وأتاهم بالاثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف. فقال التائبون: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا. فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مدّ طرفه إليهم، أو اتقاهم بيد أو رجل فيقولون: آمين. فجعلوا يقتلون من الصبح إلى المساء، وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله تعالى ويقولان: البقية البقية يا إلهنا، فأوحى الله إليهما: «إني قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي» وكان القتلى سبعين ألفا. ذلِكُمْ أي القتل في التوبة خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ لما فيه طهارة عن الشرك فَتابَ عَلَيْكُمْ أي قبل توبة من قتل منكم وغفر لمن لم يقتل من بقية المجرمين، وعفا عنم من غير قتل إِنَّهُ هُوَ
21
التَّوَّابُ
أي المتجاوز لمن تاب الرَّحِيمُ (٥٤) على من مات على التوبة. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وذلك لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل حرق العجل وألقاه في البحر، واختار من قومه سبعين رجلا من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى يسمعنا كلامه. فسأل موسى عليه السلام ذلك، فأجابه الله ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام، وتغشى الجبل كله، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه، فقال للقوم: ادخلوا. وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له: «افعل كذا، ولا تفعل كذا». فلما تمّ الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه. فقال القوم بعد ذلك: لا نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله حتى نرى الله معاينة، فأحرقتهم نار من السماء وماتوا جميعا، وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون؟! فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى ردّ الله أرواحهم وبطلت توبة بني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا أقبل إلا أن يقتلوا أنفسهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) إلى النار الواقعة من السماء ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي ثم أحييناكم بعد حرقكم بالنار وبعد موتكم يوما وليلة وذلك لإظهار آثار القدرة، وليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بانقضاء آجالهم لم يحيوا إلى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) أي لكي تشكروا إحيائي وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أي جعلنا السحاب الرقيق يظلكم من حر الشمس أي وكان يسير بسيرهم وكانوا يسيرون ليلا ونهارا، وينزل عليهم بالليل عمود من نور يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى- وذلك في التيه- وهو واد بين الشام ومصر، وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى الخروج منه، وسبب ذلك مخالفتهم أمر الله تعالى بقتال الجبارين الذين كانوا بالشام حيث امتنعوا من القتال. وَأَنْزَلْنا في التيه عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار، طعمه كالشهد. وكان يقع على أشجارهم من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع. وَالسَّلْوى فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوما وليلة، وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت، «والسلوى» وهو طائر ليس له ذنب ولا يطير إلا قليلا ويموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن «الخطاف» يقتله البرد فيلهمه الله أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض. وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية. كُلُوا أي وقلنا لهم: كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من مستلذات ما رزقناكموه ولا تدخروا لغد فادخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد ما ادّخروه. وَما ظَلَمُونا أي وما نقصونا بما
22
ادخروا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) أي يضرون، لنقص أنفسهم
حظها من النعيم. وَإِذْ قُلْنَا لهم بعد خروجهم من التيه على لسان موسى أو على لسان يوشع ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ.
روي أن موسى عليه السلام سار بعد انقضاء الأربعين سنة بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحا- بفتح الهمزة وكسر الراء- قرية الجبارين وهي بين القدس وحوران، وأقام فيها ما شاء الله، ثم قبض فيها، وقيل: إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة، وصار الشام كله لبني إسرائيل فَكُلُوا مِنْها أي تلك القرية حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي موسعا عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية. أي من أيّ باب كان من أبوابها السبعة، أو من باب يسمى «باب الحطة»، أو «باب القبة» التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام سُجَّداً أي منحنين متواضعين كالراكع. وَقُولُوا حِطَّةٌ أي إن القوم أمروا بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح، والاستغفار باللسان. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب. والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ.
وقرأ نافع بالتذكير وابن عامر بالتأنيث على البناء للمجهول. والباقون بالنون المفتوحة وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بالطاعة في حسناتهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي أمر لهم، أي فدخلوا الباب زاحفين على أدبارهم قائلين حنطة على شعيرة استخفافا بأمر الله تعالى. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي غيروا الأمر رِجْزاً أي طاعونا مقدرا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) أي بسبب فسقهم أي خروجهم عن الطاعة. روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا. فهذا الوباء غير الذي حلّ بهم في التيه وَاذكروا إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ في التيه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ وكانت العصا من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها لموسى. وروي أن ذلك الحجر حجر طوري حمله معه وكان مربعا له أربعة جوانب، وكان ذراعا في ذراع، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستمائة ألف وسبعة.
المعسكر اثنا عشرة ميلا. وقيل: كان حجرا أعطاه الله عليه اثني عشر ثديا كثدي المرأة يخرج من كل ثدي نهر إذا ضرب عصاه عليه. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً أي نهرا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم من نهرهم روي أنه كان لكل سبط عين من اثنتي عشرة عينا لا يشركه فيها غيره. وقلنا لهم: كُلُوا من المنّ والسلوى وَاشْرَبُوا من الأنهار
23
كلها مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أي كلوا واشربوا من رزق الله الذي يأتيكم بلا تعب وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) أي لا تتمادوا في الفساد في الأرض في حالة إفسادكم. ويقال: لا تمشوا في الأرض على خلاف أمر موسى.
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي على أكل طعام واحد وهو المن والسلوى فَادْعُ لَنا أي اسأل لأجلنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها أي من أطايبه التي تؤكل كالكرفس والكراث والنعناع وَقِثَّائِها وَفُومِها أي ثومها كما هو مروي عن ابن عباس ومجاهد وهو اختيار الكسائي، لأن الثوم بالثاء في حرف عبد الله بن مسعود وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أي موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أي أخس وهو الثوم والبصل بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي أشرف وهو المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. اهْبِطُوا مِصْراً أي اخرجوا من هذا المكان إلى المكان الذي خرجتم منه فَإِنَّ لَكُمْ هناك ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت على فروع بني إسرائيل المذلة بالجزية. وَالْمَسْكَنَةُ أي زي الفقر وَباؤُ بِغَضَبٍ أي استحقوا الغضب أي استحقوا الغضب أي اللعنة مِنَ اللَّهِ ذلِكَ أي الذلة والمسكنة واللعنة. بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بسبب أنهم كانوا يجحدون على الاستمرار بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وآية الرجم التي في التوراة وبالإنجيل وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ظلما.
روي أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار، ولم يغتموا حتى قاموا في آخر النهار يتسوقون مصالحهم، وقتلوا زكريا ويحيى وشعيبا وغيرهم من الأنبياء. ذلِكَ الغضب بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) أي يتجاوزون الحد بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي، وهذا الذل الذي أصابهم هو بسبب قتلهم عيسى في زعمهم. وقوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: ٦١] عدّه بعض العلماء من باب المعجزات، لأنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم وقد وقع الأمر كذلك فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا، وهذا الكلام إلى قوله:
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٦٢] معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، لأن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا أي الذين تهودوا وَالنَّصارى أي الذين تنصروا وَالصَّابِئِينَ أي الخارجين من دين إلى دين، وهم قوم من النصارى يحلقون وسط رؤوسهم ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة. يقولون: صبأت قلوبنا أي رجعت قلوبنا إلى الله. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينهم وبين ربهم فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بأن يدخلهم الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تفويت الثواب. والمعنى: أن الذين آمنوا قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم في زمن الفترة بعيسى عليه السلام، مثل: قس بن ساعدة، وبحيرة الراهب، وحبيب النجار، وزيد بن عمرو بن نفيل،
24
وورقة بن نوفل، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، ووفد النجاشي والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والنصارى والصابئين كل من آمن منهم ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم، أو المعنى إن الذين آمنوا باللسان دون القلب، وهم المنافقون واليهود والنصارى والصابئين كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله، وهذا قول سفيان الثوري وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي إقراركم بقبول التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل مقدار قامة كالظلة وكان فرسخا في فرسخ حتى أعطيتم الميثاق وقلنا:
خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي اعملوا بما أعطيناكموه من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب واحفظوا ما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) أي لكي تتقوا المعاصي ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي رفع الطور وإيتاء التوراة فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتأخير العذاب وَرَحْمَتُهُ بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم إليكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) أي لصرتم من المغبونين بالعقوبة وبالانهماك في المعاصي وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ أي وبالله لقد عرفتم عقوبة الذين تجاوزوا الحد منكم يوم السبت في زمن داود عليه السلام، روي أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتركوا الصيد، وهؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام وكانوا يسكنون بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم أخذوا السمك وهم خائفون من العقوبة فلما طال الزمان استسنّ الأبناء بسنة الآباء فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم. فلم ينتهوا، وقالوا: نحن في هذا العمل منذ أزمان فما زادنا الله به إلا خيرا. فقيل لهم: لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب، فأصبح القوم قردة خاسئين فمكثوا كذلك ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتوالدوا، ثم هلكوا وذلك قوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا أي صيروا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) أي ذليلين مبعدين عن الرحمة والشرف فَجَعَلْناها أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي عقوبة رادعة للأمم التي في زمانها وبعدها إلى يوم القيامة أو لما قرب من تلك القرية وما تباعد عنها أو عقوبة لأجل ما تقدّم على هذه الأمة من ذنوبهم وما تأخر منها.
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) أي لكل متق سمع تلك الواقعة فإنه يخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم. والمراد بقوله تعالى: كونوا سرعة التكوين، وأنهم صاروا كذلك كما أراد الله بهم. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكروا وقت قول موسى عليه السلام لأصولكم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
25
روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل قتل ابن أخيه أو أخاه أو ابن عمه لكي يرثه، ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله، فأوحى الله إليه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتعجبوا من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها فذبحوها، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله، وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي أتستهزئ بنا يا موسى فإن سؤالنا عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة وإخباره بقاتله.
قالَ أي موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) أي المستهزئين بالمؤمنين، لأن الهزء في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل فما علموا أن الأمر بالذبح حق. قالُوا ادْعُ لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها أصغيرة أو كبيرة. قالَ إِنَّهُ أي الله تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ أي كبيرة في السن وَلا بِكْرٌ أي صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي وسط بين المسنة والفتية فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) به من ذبحها قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) إليها بسبب حسنها وتعجبهم من شدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أعاملة هي أم لا؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) إلى وصفها أو إلى القاتل
قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي غير مذللة تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقبلها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي الزرع مُسَلَّمَةٌ من كل عيب لا شِيَةَ فِيها أي لا خلط في لونها.
قال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي نطقت بالبيان المحقق ففتشوا عليها فوجدوها عند الفتى البار لأمه فاشتروها بملء جلدها بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) أي ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم. ويقال: وما كادوا أن يذبحوها لأجل غلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له ابن طفل وله عجلة، فأتى بها إلى الغيضة.
وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر فكانت من أحسن البقر وأسمنها، فلما كبر الابن كان بارا لوالدته فكان يقسّم الليل أثلاثا يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فلما أصبح احتطب على ظهره فيبيع الحطب في السوق، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، ثم أمرته أمه أن يأخذ تلك العجلة من الغيضة. فلما أخذها قالت له أمه: إنك
26
فقير يشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فبع هذه البقرة. فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذ ذاك ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكا ليختبر الفتى كيف بره بوالدته، فقال: الملك له بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير بشرط رضى والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأذن أمك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذها إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن. فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأذنت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأذنها. فقال الملك: إني أعطيك اثني عشر دينارا على أن لا تستأذنها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك. فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له:
اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا دنانير فأمسكتها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة للفتى على بره بوالدته فضلا من الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً اسمه عاميل وقيل: نكار فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي تخاصمتم في شأنها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ أي مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) من قتلها وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما فادارأتم وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
أي القتيل بِبَعْضِها
أي بعضو من أعضاء البقرة قيل: بذنبها. وقيل:
بلسانها، وقيل: بفخذها الأيمن ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فقتل قاتله فحرم الميراث. وفي الحديث: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة». كَذلِكَ
أي كما أحيا الله عاميل في الدنيا يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
في الآخرة من غير احتياج إلى آلة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
أي يجعلكم مبصرين دلائل قدرته وإحيائه للميت لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(٧٣) أي لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة، فتصدقوا بالبعث بعد الموت ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أيها اليهود فلم تقبل الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء عاميل وإخباره بقاتله أو من بعد الأمور التي جرت على أجدادكم فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القساوة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ.
قال الحكماء: إن الأنهار إنما تنشأ عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض حجريا اجتمعت تلك الأبخرة حتى تكثر كثرة عظيمة فتنشق الأرض وتسيل تلك المياه أنهارا وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي العيون الصغار التي هي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ أي يتدحرج من أعلى الجبل إلى أسفله مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي من انقياد أمر الله وقلوبكم أيها اليهود لا تتحرك من خوف الله، و «اللام» في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم إن وهو ما بمعنى الذي والضمير منه ويشقق
27
ويهبط يعود عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أي إن الله محافظ لأعمال القاسية قلوبهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) أي أفتطمعون أيها النبي والمؤمنون أن يؤمن هؤلاء اليهود بواسطتكم ويستجيبوا لكم، والحال أن طائفة منهم وهم أحبارهم يسمعون كلام الله في التوراة، ثم يغيرونه من بعد المعنى الذي فهموه بعقولهم وهم يعلمون أنهم مفترون، وذلك كنعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكانت صفته صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، أكحل العين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه فكتبوا بدلها طويلا، أزرق العين سبط الشعر.
وقال ابن عباس: والمعنى أفترجو يا أشرف الخلق أن تؤمن بك اليهود. والحال أن أسلافهم وهم السبعون المختارون للميقات الذين كانوا مع موسى يسمعون كلام الله بلا واسطة، ثم يغيرونه من بعد ما علموه يقينا وهم يعلمون أنهم يغيرونه، وذلك أنهم قالوا: سمعنا الله يقول في آخر كلامه: «إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس» وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي إن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق، وأن قوله: حق ونجد نعته في كتابنا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ أي رجع الساكتون الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ آخر منهم وهو منافقوهم قالُوا أي الساكتون موبخين للمنافقين أَتُحَدِّثُونَهُمْ أي المؤمنين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما بيّن الله لكم في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي ليقيموا الحجة عليكم بما أنزل ربكم في كتابه في ترك اتباع محمد مع إقراركم بصدقه. وقوله تعالى:
لِيُحَاجُّوكُمْ متعلق بالتحديث والمراد بهذا تشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك لأجل هذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل أي أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم بكتاب الله وحكمه، ويقال: عند الله كذا معناه في كتابه وحكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه.
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ أي اللائمون أو المنافقون أو كلاهما اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) أي إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم، وإظهار
غيره فيرعووا عن ذلك.
وَمِنْهُمْ أي اليهود أُمِّيُّونَ أي جهلة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أي لا يعرفونه بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد إِلَّا أَمانِيَّ أي إلّا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، ومما تحملهم أخبارهم على تمني قلوبهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، ومن أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وقال الأكثرون إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه أو لا يقرءون إلا قراءة عارية عن معرفة المعنى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨) أي ما هم يعرفون إلا بأن يذكر لهم تأويله فظنوه فَوَيْلٌ أي عذاب أليم أو مسيل صديد أهل جهنم أو شدة الشر لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا في الكتاب الذي جاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
28
لِيَشْتَرُوا بِهِ
أي ليأخذوا لأنفسهم بمقابلة الكتاب المحرف ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا من الدنيا- وهم اليهود- غيّروا صفة النبي في التوراة وآية الرجم وغيرها... فغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي تسويد الوجه فَوَيْلٌ لَهُمْ أي فشدة العذاب لهم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي فيما غيرت أيديهم وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) أي يصيبون من الحرام والرشوة وَقالُوا أي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قليلة. قال مجاهد: إن اليهود كانت تقول: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان ألف سنة يوما فكانوا يقولون: الله تعالى يعذبنا سبعة أيام.
وحكى الأصمعي عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون: الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وذلك كما أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير من طرق ضعيفة عنه أنها أربعون يوما قُلْ لهم يا أشرف الخلق أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي خبرا فإن خبره تعالى أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أي فإن الله تعالى منزّه عن الكذب في وعده ووعيده لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال أَمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) وقوعه أي أم لم تتخذوا من الله عهدا بل تتقوّلون عليه تعالى
بَلى تمسكم النار أبدا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي كفرا وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي كبيرته بأن مات على الكفر فَأُولئِكَ أي أهل هذه الصفة أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها في الآخرة هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) أي لا يخرجون منها. أما أصحاب الكبائر غير الكافرين فإنا نقطع بأنه تعالى يعفو عن بعض العصاة وعن بعض المعاصي، ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا؟ ونقطع بأنه تعالى إذا عذّب أحدا منهم مدة فإنه لا يعذبه أبدا بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة.
وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع، والمراد بالخطيات أنواع الكفر المتجددة في كل وقت وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) لا يموتون فيها ولا يخرجون منها وَإِذْ أَخَذْنا في التوراة مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين كانوا في زمن موسى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي لا تشركون به شيئا.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة، وقرأ عبد الله وأبيّ «لا تعبدوا» بصريح النهي وهذه قراءة شاذة. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وهو متعلق بمحذوف أي وتحسنون أو أحسنوا بالبر بهما وإن كانا كافرين بأن لا يؤذيهما ألبتة، ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين، وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين وَذِي الْقُرْبى أي أحسنوا بالأقارب بصلة الرحم وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً.
29
وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين. وقرئ قراءة شاذة حسنا بضمتين وحسنى كبشرى، والقول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمراد بالصلاة والزكاة ما فرض عليهم في ملتهم. فقبلتم ذلك الميثاق المذكور ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ أي آباءكم وهو من أقام اليهودية على طريقها قبل النسخ ويقال: إلا قليلا منكم وهم من أسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) عن الطاعة كآبائكم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي واذكروا يا أيها اليهود المعاصرون لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقت أن أخذنا الميثاق على آبائكم في التوراة لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من منازلكم يا بني قريظة والنضير ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بوجوب المحافظة على الميثاق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) أي تعلمون ذلك ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي هؤلاء الحاضرون بعد ذلك تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي من منازلهم ذلك الفريق تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء. والباقون بالتشديد أي يعاون بعضكم بعضا بِالْإِثْمِ أي المعصية وَالْعُدْوانِ أي التجاوز في الظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى أي أسارى أهل دينكم تُفادُوهُمْ بالمال أو غيره. أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرا في يد حلفائكم تفدوه. قرأ حمزة «أسرى» بفتح الهمزة وسكون السين مع الإمالة. وقرأ عاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وفتح الفاء. والباقون بفتح التاء وسكون الفاء. وَهُوَ أي الشأن مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ.
قال السدي: إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه.
وكان قريظة والنضير أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، ثم إذا أسر رجل من الفريقين فدوه كما لو أسر واحد من النضير ووقع في يد الأوس افتدته قريظة منهم بالمال، وهكذا يقال في عكس ذلك فعيّرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدوهم. فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحي أن تذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ أي تفعلون بعض الواجبات وهو المفاداة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي فلم تتركوا المحرم وهو القتال والإخراج والمعاونة فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ أي ذمّ عظيم وتحقير بالغ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزي قريظة القتل والسبي وقد قتل صلّى الله عليه وسلّم منهم سبعمائة في يوم واحد، وخزي بني
30
النضير بالإجلاء إلى أذرعات وأريحا. وقيل: هو ضرب الجزية على النضير في الشام وعلى من بقي من قريظة الذين سكنوا خيبر. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أي عذاب جهنم لما أن معصيتهم أشد المعاصي وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥).
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب في «يعملون» وأما في «يردون» فالسبعة بالغيبة فقط وأما بتاء الخطاب فشاذة وهذه الجملة زجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا أي استبدلوها بِالْآخِرَةِ بأن اختاروا الكفر على الإيمان فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لا بالانقطاع ولا بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) فلا يدفع أحد هذا العذاب عنهم. وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي أتبعناهم إياه مترتبين وهم يوشع وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا وأرميا، وعزير، وحزقيل، والياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى وغيرهم وجميع الأنبياء بين موسى وعيسى على شريعة موسى. قيل: هم سبعون ألفا.
وقيل: أربعة آلاف، ومدة ما بينهما ألف وتسعمائة سنة وخمسة وعشرون سنة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه- سواء كان كمهه خلقيا أو طارئا- وإبراء الأبرص، وكالإخبار بالمغيبات، وكالإنجيل. ثم عيسى بالسريانية أيشوع ومعناه:
المبارك. ومريم بالسريانية بمعنى الخادم. وفي كتاب لسان العرب: هي المرأة التي تكره مخالطة الرجال. وَأَيَّدْناهُ قرأه ابن كثير بمد الهمزة وتخفيف الياء أي قويناه
بِرُوحِ الْقُدُسِ
وهو جبريل وهو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء. أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أي بما لا يوافق قلوبكم من الحق اسْتَكْبَرْتُمْ أي تعظمتم عن الإيمان به والاتباع له فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) أي كذّبت طائفة محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وعيسى عليه السلام، وقتل فريق يحيى وزكريا وَقالُوا أي اليهود: قُلُوبُنا غُلْفٌ أي مغشاة بأغطية عن قولك يا محمد، أو قلوبنا أوعية لكل علم وهي لا تعي علمك وكلامك بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي ليس عدم قبولهم للحق لخلل في قلوبهم ولكن الله أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم فأبطل استعدادهم عن القبول فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) أي لا يؤمنون إلا بالقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله، إلا أنهم كانوا يكفرون بالرسل.
وقال قتادة والأصم وأبو مسلم: أي لا يؤمن منهم إلا القليل وذلك نظير قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: ١٥٥] وَلَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي موافق لكتابهم التوراة بالتوحيد
31
وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم كذبوه وَكانُوا أي اليهود مِنْ قَبْلُ أي من قبل مبعث محمد ونزول القرآن يَسْتَفْتِحُونَ أي يسألون الفتح أي النصرة عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي مشركي العرب أسد وغطفان ومزينة وجهينة وهم عدوهم يقولون: إذا دهمهم عدو: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم كَفَرُوا بِهِ حسدا وخوفا على الرياسة. وقال ابن عباس وقتادة والسدي: نزلت هذه الآية في شأن نبي قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثه يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبي قد قرب زمانه ينصرنا عليكم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) أي إبعاد الله من خيرات الآخرة عليهم بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بئس الشيء شيئا اشتروا به أنفسهم، كفرهم بالقرآن المصدق للتوراة، أي إن هؤلاء اليهود لما اعتقدوا أنهم بما فعلوه خلصوا أنفسهم من العقاب وأوصلوها إلى الثواب فقد اشتروا أنفسهم به في زعمهم.
وقال الأكثرون: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع لأن المذموم لا يكون إلا لما كان حاصلا لهم، لا لما كان زائلا عنهم، والمعنى باعوا أنفسهم بكفرهم، لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم هو الكفر فصاروا بائعين أنفسهم بذلك، لكن لما كان الغرض بالبيع والشراء إبدال ملك بملك، صلح أن يوصف كل واحد من المتبادلين بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما. بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي حسدا على أن ينزل الله النبوة بفضله على محمد وطلبا لما ليس لهم أي فإنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحسد، وقد أجاز العلماء أن يكون بغيا مفعولا له ناصبه «أن يكفروا»، وأن ينزل الله مفعولا له وناصبه «بغيا»، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي فاستحقوا لعنة بعد لعنة لأمور صدرت عنهم وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) أي يهانون بالعذاب الشديد بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي وإذا قال المؤمنون لليهود الموجودين في زمن نبينا: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بكل ما أنزل الله من الكتب الإلهية جميعا قالُوا في جواب هذا القيل: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي بما أنزل على أنبيائنا من التوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يكفرون بما بعده وهو الإنجيل والقرآن وَهُوَ أي ما وراء ما أنزل على نبيهم من الإنجيل والقرآن الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أي موافقا بالتوحيد لكتبهم قُلْ لهم يا أشرف الخلق إلزاما وبيانا لكفرهم بالتوراة التي ادعوا الإيمان بها فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) والمعنى إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما زعمتهم فلأي شيء كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل لأن في التوراة تحريم القتل وذلك لأن التوراة دلّت على أن المعجزة تدل على الصدق، ودلّت على أن من كان صادقا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل
32
زكريا ويحيى وعيسى كفرا! فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟
والمعنى أنهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء فآل أمرهم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى لا بالبعض كما ادعوا. فإن قيل قوله تعالى: آمِنُوا خطاب لهؤلاء الموجودين. وقوله: فلم تقتلون حكاية فعل أسلافهم. فكيف وجه الجمع بينهما؟ قلنا: معناه إنكم بهذا التكذيب للإنجيل والقرآن خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالآيات التسع وهي: العصا واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي عبدتم العجل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد انطلاقه إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) أي كافرون بعبادته وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي إقراركم وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل حين امتنعتم من قبول التوراة وقلنا: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب بجد وَاسْمَعُوا أي أطيعوا ما تؤمرون قالُوا سَمِعْنا قولك بآذاننا وَعَصَيْنا أمرك بقلوبنا وغيرها وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أي وادخلوا في قلوبهم حب عبادة العجل بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قُلْ لهم يا أشرف الخلق بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بما أنزل عليكم من التوراة قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) بالتوراة كما زعمتم ف «إن» يجوز فيها الوجهان من كونها نافية وشرطية وجوابها محذوف تقديره فبئسما يأمركم. قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي نعيم الدار الآخرة عِنْدَ اللَّهِ وهو الجنة خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق بأن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ كأن تقولوا ليتنا نموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) في مقالتكم لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي لن يسألوا الموت أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار، كالكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن، وكتحريف التوراة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) أي الكافرين فيجازيهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أي والله لتجدن اليهود يا محمد أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي بقاء في الدنيا وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي وأحرص من مشركي العرب المنكرين للبعث لعلمهم بأن مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له.
يَوَدُّ أي يتمنى أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ والمراد بألف سنة التكثير لا خصوص هذا العدد، وليس المراد بها قول الأعاجم: عش ألف سنة. «لو» مصدرية، وهي مع صلتها في تأويل مصدر مفعول «يود» وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ فاعل لمزحزح أي وما أحدهم بمن يبعده من النار تعميره ألف سنة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) فيجازيهم به. قرأ السبعة بالياء التحتية ويعقوب من العشرة بالفوقية.
33
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال: يا محمد، كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: «أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة». فقال: صدقت، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله، ويشبه أخواله دون أعمامه. فقال: «أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له». قال: صدقت، أخبرني أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه، فنذر الله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان: الإبل وألبانها». فقالوا: نعم، فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله. قال: «جبريل» «١» قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين:
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لأنه ينزل القرآن على محمد فقد خلع ربقة الإنصاف فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ أي القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره وخصّ القلب بالذكر لأنه خزانة الحفظ وبيت الرب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبل القرآن من الكتب الإلهية لأن الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بالأوقات ومنتهية في هذا
الوقت فإن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وسائر الكتب اختلاف في الشرائع وَهُدىً أي بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وَبُشْرى أي بيان ثواب تلك الأعمال لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وخصّ الله جبريل بالذكر ردا على اليهود في دعوى عداوته وضمّ إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح، وقدّم جبريل لشرفه لأن العلم أشرف من الأغذية، وقدّم الملائكة على الرسل كما قدّم الله على الجميع، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب. «وجبريل» قرأ حمزة والكسائي بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء. والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم. «وميكائيل» قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همزة ولا ياء بين الألف واللام، وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة، والباقون بهمزة بعد الألف وياء.
(١) رواه أحمد في (م ١/ ص ٢٧٣، ٢٧٨).
34
قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم: ما جاءنا بشيء من البينات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أشرف الخلق آياتٍ بَيِّناتٍ أي آيات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (٩٩) وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم. قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخذ الله عليهم من العهود في محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يؤمنوا به. قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهدا فأنزل الله هذه الآية: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهدا كقولهم قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وككونهم عاهدوا الله على أن لا يعينوا عليه صلّى الله عليه وسلّم أحدا من المشركين ثم أعانوا عليه قريشا يوم الخندق نبذه فريق منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) أي لا يصدقون بك أبدا لحسدهم، وقيل:
لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بمقتضاه
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوه وتمسكوا به كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) أي أنه كتاب الله أي فكفروا عنادا والكتاب مفعول ثان ل «أوتوا» وكتاب الله مفعول «نبذ».
وقال السدي: لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصموه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهو معطوف على نبذ ما تَتْلُوا أي تكذيب الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ من السحر وكانت الشياطين دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر لذلك سليمان، فلما مات استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله عليه براءة سليمان ومدة نزع ملكه أربعون يوما، وسبب ذلك أن إحدى زوجاته عبدت صنما أربعين يوما وهو لا يشعر بها فعاتبه الله تعالى بنزع ملكه أربعين يوما، وذلك أن ملكه كان في خاتمه وهو من الجنة، وكان إذا دخل الخلاء نزعه ووضعه عند زوجة له تسمى الأمينة ففعل ذلك يوما فجاء جني اسمه صخر، وتصوّر بصورة سليمان ودخل على الأمينة. وقال: أعطيني خاتمي فدفعته له فسخرت له الجن والإنس والطير والريح، وجلس على كرسي سليمان فجاء سليمان
35
للأمينة وطلب الخاتم فرأت صورته غير الصورة التي تعرفها منه. فقالت له: ما أنت سليمان وهو قد أخذ الخاتم. فلما تم الأربعون طار الجني من فوق الكرسي ومر على البحر وألقى الخاتم فيه فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان فأخذه من بطنها ولبسه، ورجع له الملك فأمر الجن بإحضار صخر فأتوا به فحبسه في صخرة وسد عليه بالرصاص والحديد ورماها في قعر البحر. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي ما كتب سليمان السحر وما عمل به لأن العمل بالسحر كفر في شريعته وأما في شرعنا فإن اعتقد فاعله حل استعماله كفر وإلا فلا. وأما تعلمه فإن كان ليعمل به فحرام أو ليتوقاه فمباح أو لا ولا فمكروه وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي كتبوا واستعملوا السحر.
وقرأ «لكن» ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون مع الكسر ورفع الشياطين يُعَلِّمُونَ أي الشياطين النَّاسَ السِّحْرَ ويقصدون به إضلالهم وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر أي ويعلمونهم ما ألهماه من السحر. وقيل: عطف على ما «تتلو» واختار أبو مسلم أن «ما» في محل جر عطف على «ملك سليمان». وذلك أن الملكين أنزلا لتعليم السحر امتحانا من الله للناس هل يتعلمونه أو لا كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر. وقيل: إنما أنزلا لتعليمه للتمييز بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس لأن السحرة كثروا في ذلك الزمن واستنبطوا أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدّعون النبوة فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس بِبابِلَ وهو بلد في سواد العراق هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان للملكين لأنهما ملكان نزلا من السماء كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وقيل: «ما أنزل» نفي معطوف على قوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كأنه تعالى قال: لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانوا يسندون السحر إلى سليمان وزعموا أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فكذبهم الله تعالى على ذلك. وقيل: إن الملكين هما جبريل وميكائيل أخرجه البخاري في تاريخه، وابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن عطية. وحينئذ يكون هاروت وماروت مرفوعين بدل من الشياطين بدل من البعض كما هو قراءة الزهري وعلى هذا كما قاله الحسن والضحّاك فهما علجان من بابل يعلمان السحر.
وقرأ الحسن «على الملكين» بكسر اللام فهما داود وسليمان كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبزي. وقيل: كانا رجلين صالحين من الملوك. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ أي وما يعلم الملكان أحدا السحر حَتَّى يَقُولا أولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي امتحان من الله تعالى للناس فَلا تَكْفُرْ أي فلا تتعلم ولا تعمل به أي لا يصفان السحر لأحد إلا أن يقولا- يبذلا النصيحة له- فيقولان له: هذا الذي نصه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر والمعجزة
36
ولكنه يمكنك أن تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة فَيَتَعَلَّمُونَ أي الأحد. والمراد به السحرة مِنْهُما أي الملكين أو السحر والمنزل على الملكين أو الفتنة والكفر ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إما بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا وإذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما، وإما بالتمويه والحيل فيبغض كل منهما في الآخر. وَما هُمْ أي السحرة أو اليهود أو الشياطين بِضارِّينَ بِهِ أي باستعمال السحر مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإيجاد الله وإرادته وعلمه وَيَتَعَلَّمُونَ أي الشياطين واليهود والسحرة بعضهم من بعض ما يَضُرُّهُمْ في الآخرة وَلا يَنْفَعُهُمْ في الدنيا ولا في الآخرة وهو السحر وَلَقَدْ عَلِمُوا أي اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلوا الشياطين ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ أي في الجنة مِنْ خَلاقٍ أي نصيب أو ما له في النار من خلاص أي أن اليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي وبالله لبئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم في الآخرة الكفر أو تعلم السحر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) قبحه على اليقين وَلَوْ أَنَّهُمْ أي اليهود آمَنُوا بمحمد المشار إليه في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة: ٨٩] إلخ. وبما أنزل إليه من الآيات المذكورة بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ [البقرة: ٩٩] أو بالتوراة التي أريدت بقوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: ١٠١] وَاتَّقَوْا بأن تابوا من اليهودية واستعمال السحر لَمَثُوبَةٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ
أي لشيء من ثواب الله خير لهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم راعِنا وكان المسلمون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا تلا عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله أي تأن بنا حتى نفهم كلامك واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها فيما بينهم فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا، خاطبوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يعنون بها تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ منهم وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟
فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى لئلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وذلك قوله تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إتيانه للكلام على نعت الأفهام أقوى، وقيل: لا تعجل علينا قاله ابن زيد وَاسْمَعُوا أي أحسنوا سماع ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجون إلى الاستعادة وَلِلْكافِرِينَ أي اليهود الذين سبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) هو النار ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود وَلَا الْمُشْرِكِينَ من العرب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
37
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي ما يحب اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ومشركو العرب أبو جهل وأصحابه أن ينزل عليكم وحي من ربكم لأنهم يحسدونكم به وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ أي بوحيه مَنْ يَشاءُ أي من كان أهلا لذلك وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) بالوحي على محمد صلّى الله عليه وسلّم من غير علة ولما قال الكفار: إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه وما يقوله: إلا من تلقاء نفسه نزل قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
قرأ ابن عامر «ننسخ» بضم النون الأولى وكسر السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأ» بفتح النون الأولى والسين وبهمزة ساكنة بعد السين أي ما نبدل آية إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما معا، أو نتركها كما كانت فلا نبدلها، نأت بأنفع من المنسوخ وأخف في العمل بها، أو نأت بمثلها في الثواب والنفع والعمل أو يقال: ما نمحو من آية قد عمل بها، أو نؤخر نسخها فلا نرفع تلاوتها ولا نزيل حكمها، نأت بما هو أنفع للعباد في السهولة كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة من الأعداء بوجوب مصابرته لاثنين أو في كثرة الأجر كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم أو نأت بمثلها في التكليف والثواب كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة فهما متساويان في الأجر أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) وهذا تنبيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وإنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهذا هو التنبيه على أنه تعالى إنما حسن منه التكليف لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل ولا لعقاب يندفع. وَما لَكُمْ يا معشر اليهود مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليد والنصير بأن الولي قد يعجز عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور ولما قالت اليهود: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة نزل قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أي أتريدون أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أي الرسول الذي جاءكم كَما سُئِلَ مُوسى أي سأله بنو إسرائيل رؤية الرب وغير ذلك مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الرسول وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) أي ومن يختر الكفر على الإيمان أي بأن يأخذ الكفر بدل الإيمان فقد أخطأ الطريق المستوي أي الحق وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي من أحبار اليهود كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا عمار ويا حذيفة ويا معاذ بن جبل مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بمحمد والقرآن كُفَّاراً أي تمنى كثير من اليهود أن يصيّروكم من بعد إيمانكم مرتدين.
38
روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة وعمّار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم! فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: أمر شديد. قال:
فإني قد عاهدت الله تعالى أني لا أكفر بمحمد ما عشت، فقالت اليهود: أما هذا فقد صبا. وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبراه بذلك فقال: «أصبتما خيرا وأفلحتما». فنزلت هذه الآية:
حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ في كتابهم أن محمدا هو الحق. وقالت صفية بنت حيي للنبي صلّى الله عليه وسلّم: جاء أبي وعمي من عندك، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول إنه النبي الذي بشّر به موسى عليه السلام. قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد. فَاعْفُوا أي اتركوهم فلا تؤاخذوهم وَاصْفَحُوا أي أعرضوا عنهم فلا تلوموهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فيهم أي بقتل بني قريظة وسبيهم، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم أو بإذنه في القتال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) فهو يقدر على الانتقام منهم من القتل والإجلاء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والواجبتين عليكم ولما أمر الله المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم فقال: أقيموا الصلاة. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي عمل صالح أي أيّ شيء من التطوعات تقدموه لمصلحة أنفسكم تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه مدخرا عند الله إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) فلا يضيع عنده عمل
وَقالُوا عطف على ود لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت يهود المدينة: لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية. وقالت نصارى نجران: لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية. وقرأ أبيّ ابن كعب إلا من كان يهوديا أو نصرانيا أي قالوا ذلك لما تناظروا بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم تِلْكَ أي الأماني الباطلة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يروا المؤمنين كفارا وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أَمانِيُّهُمْ أي متمنياتهم على الله ما ليس في كتابهم قُلْ يا أشرف الخلق هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا حجتكم من كتابكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) في مقالتكم بَلى يدخل الجنة غيرهم مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي من أخلص نفسه لِلَّهِ لا يشرك به شيئا وَهُوَ مُحْسِنٌ في جميع أعماله فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعد له على عمله عِنْدَ رَبِّهِ أي في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدارين من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) من فوات مطلوب ولما قدم نصارى نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود فتخاصموا في الدين حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدين. وقالت النصارى لليهود: ما أنتم على شيء من الدين. أنزل الله تعالى هذه الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ أي يهود المدينة لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أي أمر يعتد به
39
من الدين. قاله رافع بن حرملة فكفر بعيسى والإنجيل وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ قاله رجل من أهل نجران فكفر بموسى والتوراة كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وَهُمْ أي الفريقان يَتْلُونَ الْكِتابَ المنزّل عليهم ويقولون ما ليس فيه وكان حق كل منهم أن يقر بحقيقة دين خصمه بحسب ما ينطق به كتابه فإن في كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي سمعت به قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كتاب الله.
قال السدي: هم العرب. وقال عطاء: هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى كما أخرجهما ابن جرير مِثْلَ قَوْلِهِمْ بدل من كذلك بيان للكاف أي لأهل كل دين أنهم ليسوا على شيء يصح فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ من الدين يَخْتَلِفُونَ (١١٣) فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وقال الحسن: أي فالله يكذبهم جميعا ويدخلهم النار وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بالصلاة والتسبيح وَسَعى أي عمل فِي خَرابِها بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر أُولئِكَ المانعون الساعون في خرابها ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا بخشية وخضوع، وقيل:
معنى هذه الجملة النهي عن تمكين الكفار من الدخول في المسجد. واختلف الأئمة في ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا، ومنعه مالك مطلقا، وفرّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم قريش كما قيل: إن هذه الآية نزلت في شأن مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن
الدعاء إلى الله بمكة وألجأوه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام. وقد كان الصديق رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر، ومن طريق الغنوي عن ابن عباس أنهم النصارى كما نقل عن ابن عباس أن طيطيوس بن اسبيانوس الرومي- ملك النصارى- وأصحابه غزوا بني إسرائيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وأحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، ولم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه المسلمون في زمن عمر رضي الله عنه. ومعنى هذه الآية حينئذ ولا أحد أظلم في كفره ممن خرب بيت المقدس لكيلا يذكر فيه اسمه بالتوحيد والأذان وعمل في خرابه من إلقاء الجيف فيه. أولئك- أي أهل الروم- ما كان لهم أمن في دخوله إلا مستخفين من المؤمنين مخافة القتل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي هوان بالقتل والسبي وضرب الجزية عليهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وهو عذاب النار وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي له تعالى كل الأرض فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو المسجد الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فَأَيْنَما تُوَلُّوا وجوهكم في الصلاة بأمره فَثَمَّ أي هناك وَجْهُ اللَّهِ أي قبلته كما قاله مجاهد. وقرئ بفتح التاء واللام
40
أي فأينما توجهوا إلى القبلة فثم مرضاة الله إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ برحمته يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ (١١٥) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها أي إن الله تعالى أراد تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات مملوكة له تعالى، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل إن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده وكيف يريد. وقال ابن عباس:
لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت هذه الآية ردا عليهم. وقال أبو مسلم:
إن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى إنما استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام ولد هناك فرد الله عليهم بهذه الآية:
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ أي صنع وَلَداً.
وقرأ ابن عامر «قالوا» بغير واو قبل القاف أي قالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. وقال مشركوا العرب: الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى ردا عليهم:
سُبْحانَهُ وهي كلمة تنزيه ينزه الله تعالى بها نفسه عما قالوه بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والملكية تنافي الوالدية أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) أي كل ما في السموات والأرض مطيعون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه ومشيئته فالطاعة هنا طاعة الإرادة لا طاعة العبادة بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي موجودهما بلا مثال وَإِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد إيجاد شيء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) أي أحدث فيحدث. وقوله «كن» تمثيل لسهولة حصول المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها من غير توقف كطاعة المأمور المطيع للآمر القوي المطاع، ولا يكون من المأمور الآباء. وقرأ ابن عامر «كن فيكون» بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران في قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [آل عمران: ٣]. وفي الأنعام في قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ [الأنعام: ٧٣] فإنه رفعها. وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس، وبالرفع في سائر القرآن. والباقون بالرفع في كل القرآن. أما النصب فعلى جواب الأمر، وأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فهو يكون أو معطوف على «يقول» أو معطوف على «كن» من حيث المعنى كما هو قول الفارسي. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود منهم رافع بن حرملة كما أخرجه جرير عن ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي، أو هم كفار العرب كما أخرج عن قتادة لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا الله مشافهة من غير واسطة بالأمر والنهي كما يكلم الملائكة أو موسى وهو ينص على نبوتك وهذا منهم استكبار أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي فإن كان الله تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة تأتينا- وهذا منهم إنكار في كون القرآن آية
41
ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا ذلك- ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم مِثْلَ قَوْلِهِمْ في التشديد وطلب الآيات فقالوا:
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣] وقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: ٦١] وقالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: ١٣٨] وقالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة: ١١٢]. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي توافقت قلوبهم مع آبائهم واستوت كلمتهم في الكفر والعناد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي نزلناها بينة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) أي يطلبون اليقين. وحاصل هذا الجواب من الله تعالى أنا قد أيدنا قول محمد صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي إنا أرسلناك ملتبسا بالقرآن والدين لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك، ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك، أو المعنى إنا أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدّقك بالثواب، ونذيرا لمن كذّبك بالعذاب وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩).
قرأ الجمهور برفع التاء واللام على الخبر أي ولست بمسؤول عنهم ما لهم لم يؤمنوا بما أنزل عليك بعد ما بلغت ما أرسلت به. وقرأ نافع بالجزم وفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حال كفار أهل الكتاب التي تكون لهم في القيامة ولا يمكنك في هذه الدار الاطلاع عليها وذلك إعلام بكمال شدة عقوبة الكفار فلا يستطيع السامع أن يسمع خبرها وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي لن ترضى عنك يهود المدينة ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع دينهم وقبلتهم، ولن ترضى عنك نصارى نجران ولو تركتهم ودينهم حتى تتبع ملتهم وقبلتهم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي قل لهم يا أشرف الخلق ردا لقولهم لك لن ترضى عنك حتى تتبع ديننا إن دين الله هو الإسلام، وإن قبلة الله هي الكعبة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ على سبيل التقدير أو المراد من هذا الخطاب أمته صلّى الله عليه وسلّم أَهْواءَهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء النفس وهي المعبر عنها أولا بقوله تعالى:
مِلَّتَهُمْ إذ هم الذين ينتسبون إليها. أما الشريعة الحقيقية من الله فقد غيروها تغييرا، أي والله لئن اتبعت ملتهم وقبلتهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته في أن دين الله هو الإسلام وقبلة الله هي الكعبة ما لَكَ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعك وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) يمنعك منه.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ عبد الله بن سلام وأصحابه وبحيرا الراهب، وأصحابه والنجاشي وأصحابه يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتدبرون في معانيه ويخضعون عند تلاوته ويبينون أمره ونهيه لمن سألهم أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بكتابهم، وبمتشابهه ويتوقفون فيما أشكل عليهم منه ويفوضونه
42
إلى الله تعالى ويعملون بمحكمه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالكتاب المؤتى بأن يغيره فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) حيث اشتروا الكفر بالإيمان. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ومن جملة النعمة: التوراة وذكر النعمة إنما يكون بشكرها، وشكرها الإيمان بجميع ما فيها، ومن لازم الإيمان بها الإيمان بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نعت النبي من جملة ما فيها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ بالإسلام عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) أي الموجودين في زمانكم وَاتَّقُوا يَوْماً أي اخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من عذاب الله وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فداء وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) أي يمنعون مما يريد الله بهم، ثم ذكر الله تعالى قصة إبراهيم توبيخا لأهل الملل
المخالفين، وذلك لأن إبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديما وحديثا، فالمشركون كانوا متشرفين بأنهم من أولاده. ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أمورا توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمد صلّى الله عليه وسلّم والانقياد لشرعه، لأن ما أوجبه الله تعالى على إبراهيم جاء به محمد كأفعال الحج واستقبال الكعبة وفي ذلك حجة عليهم فقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بأوامر ونواه. قيل: قال ابن عباس وقتادة: هي مناسك الحج كالإحرام والطواف والسعي والرمي.
وقال ابن عباس: هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه، وهي سنة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس أي فرق شعره إلى الجانب الأيمن والجانب الأيسر، وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة إبراهيم ربه برفع إبراهيم ونصب ربه، والمعنى أن إبراهيم دعا ربه بكلمات من الدعاء كفعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا؟ فَأَتَمَّهُنَّ أي قام بها حق القيام وأداها أحسن التأدية من غير تفريط قالَ تعالى له إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي قدوة في الدين إلى يوم القيامة. والذي يكون كذلك لا بدّ وأن يكون رسولا من عند الله مستقلا بالشرع وأن يكون نبيا إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه في الجملة. قالَ أي إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من بعض أولادي أئمة يقتدى بهم في الدين. قالَ الله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) أي لا يصيب عهدي بالإمامة والنبوة الكافرين. وكل عاص فإنه ظالم لنفسه.
وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء «الظالمون» رفعا بالفاعلية و «عهدي» مفعول به وفي هذا دليل على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر مطلقا وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي جميع الحرم مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مرجعا لهم فإنهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم أو بأمثالهم كما قاله الحسن. أو
43
المراد لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه كما قاله ابن عباس ومجاهد. أو المعنى جعلنا الكعبة موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره وَأَمْناً أي موضع أمن لمن يسكنه ويلجأ إليه من الأعداء والخسف والمسخ أو آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله وحمل بعضهم هذه الكلمة على الأمر على سبيل التأويل. والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمنا من الغارة والقتل فكان البيت محترما بحكم الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى.
روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: ربنا نقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي و «اتخذوا» بكسر الخاء على صيغة الأمر.
قال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده وعلى هذا فهذه الجملة كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام فكأنه تعالى قال: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا- أنتم يا أمة محمد- من مقام إبراهيم مصلى. والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمنا فاتخذوه قبلة لأنفسكم. وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على صيغة الماضي فهو إخبار عن ولد إبراهيم إنهم اتخذوا من مقامه مصلى. وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن أسساه على التقوى. وقيل: معناه عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا فيه لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) جمع راكع وساجد.
فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجا أو معتمرا فيطوف به. وبالعاكفين: من يقيم هناك ويجاور. وبالركع السجود: من يصلي هناك. قال عطاء: فإذا كان الشخص طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود ثم إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة.
روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الحرم بَلَداً آمِناً أي كثيرا لخصب فإن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وأيضا إن الخصب مما يدعو الإنسان إلى تلك البلدة فهو سبب اتصاله في الطاعة وَارْزُقْ أَهْلَهُ أي الحرم مِنَ الثَّمَراتِ وقد حصل في مكة الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.
روي أن الطائف كانت من مدائن الشام في أردن فلما دعا إبراهيم بهذا الدعاء أمر الله تعالى
44
جبريل عليه السلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا، ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أهله بدل البعض خصهم سيدنا إبراهيم بالدعاء مراعاة لحسن الأدب وفي ذلك ترغيب لقومه في الإيمان. قالَ تعالى: وَمَنْ كَفَرَ أي أرزقه فَأُمَتِّعُهُ بالرزق قَلِيلًا أي مدة عمره. وقرأ ابن عباس بسكون الميم. ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي ألجئه في الآخرة إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) هي النار وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ أي وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل الجدران التي هي من البيت أي التي هي بعضه المستتر من الأرض. قيل: بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان والجودي، وأسسه من حراء. وجاء جبريل عليه السلام بالحجر الأسود من السماء وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا بناءنا بيتك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ (١٢٧) بنياتنا في جميع أعمالنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ أي مخلصين لَكَ بالتوحيد والعبادة لا نعبد إلا إياك وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي واجعل بعض أولادنا جماعة مخلصة لك وَأَرِنا مَناسِكَنا أي علمنا سنن حجنا وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عن تقصيرنا والعبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ أي المتجاوز لمن تاب الرَّحِيمُ (١٢٨) به رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي في ذريتنا رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» «١». أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية وغيره. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يذكرهم بالآيات ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه وَالْحِكْمَةَ قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قول قتادة.
وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من شركهم إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي القادر الذي لا يغلب الْحَكِيمُ (١٢٩) أي العالم الذي لا يجهل شيئا. هاهنا سؤال: ما الحكمة في ذكر إبراهيم مع محمد في باب الصلاة حيث يقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟
فجوابه: أن إبراهيم دعا لمحمد بهذه الدعوة فأجرى الله ذكر إبراهيم على ألسنة أمة محمد إلى يوم القيامة أداء عن حق واجب على محمد لإبراهيم.
والجواب الثاني: أن إبراهيم سأل ربه بقوله: «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» أي أبق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأجابه الله تعالى فقرن بين ذكرهما إبقاء للثناء الحسن على إبراهيم في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(١) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (١: ٣٩)، والقرطبي في التفسير (٢: ١٣١).
45
والجواب الثالث: أن إبراهيم كان أبا الملة، ومحمدا كان أبا الرحمة. وفي قراءة ابن مسعود النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم،
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا لكم مثل الوالد»
«١».
أي في الرأفة والرحمة. فلما وجب لكل واحد منهما حق الأبوة من وجه قرن بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة.
والجواب الرابع: أن إبراهيم كان منادي الشريعة في الحج ومحمدا كان منادي الإيمان، فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي لا يكره أحد ملة إبراهيم إلا من جهل نفسه وخسر نفسه كما قاله الحسن أي فلم يفكر في نفسه فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله وعلى حكمته ثم يستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا أي اخترناه في الدنيا للرسالة من دون سائر الخليقة عرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) أي مع آبائه المرسلين في الجنة
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ عند استدلاله بالكواكب والقمر والشمس واطلاعه أمارات الحدوث فيها وذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك حين خرج من السرب أَسْلِمْ أي فزد في مقالتك وقل لا إله إلا الله. قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) ويقال: قال له ربه حين دعا قومه إلى التوحيد أسلم أي أخلص دينك وعملك لله قال: أسلمت، أي أخلصت ديني وعملي لله رب العالمين. ويقال: قال له ربه حين ألقي في النار أسلم نفسك إليّ، قال: أسلمت نفسي لله رب العالمين، أي فوضت أمري إليه وقد حقق ذلك حيث لم يستغن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار وَوَصَّى.
وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى» بهمزة مفتوحة قبل واو ساكنة بِها أي باتباع الملة إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وكانوا ثمانية إسماعيل وهو أول أولاده وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة، والبقية وهم: مدن، ومدين، ويقشان، وزمران، وأشبق، وشوح أمهم قنطوراء الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة. وَيَعْقُوبُ والأشهر أنه معطوف على إبراهيم، ويجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر والمعنى أن يعقوب وصى كوصية إبراهيم. وقرئ بالنصب عطفا على نبيه، والمعنى وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب يا بَنِيَّ هو على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لأنه في معنى القول إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لَكُمُ الدِّينَ أي
(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والدارمي في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالأحجار، وابن ماجة في كتاب الطهارة، باب:
الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٤٧).
46
دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أي فاثبتوا على الإسلام حتى تموتوا مسلمين مخلصين له تعالى بالتوحيد والعبادة.
روي أن اليهود قالوا لرسول صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت هذه الآية: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي أكنتم يا معشر اليهود حضراء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ بماذا أوصى بنيه باليهودية أو الإسلام أي حضره أسباب الموت إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) أي مقرون بالعبادة والتوحيد تِلْكَ أي إبراهيم ويعقوب وبنوهما أُمَّةٌ أي جماعة قَدْ خَلَتْ أي مضت بالموت لَها أي لتلك الأمة ما كَسَبَتْ من الخير أي جزاؤه وَلَكُمْ أي يا معشر اليهود ما كَسَبْتُمْ أي جزاء ما كسبتموه من العمل وَلا تُسْئَلُونَ يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) كما لا يسألون عن عملكم.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا صفية عمة محمد، يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا»
«١».
وقال: «ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه»
«٢».
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت يهود المدينة للمؤمنين: كونوا هودا أي اتبعوا اليهودية، وقالت: نصارى نجران للمؤمنين: كونوا نصارى أي اتبعوا النصرانية تَهْتَدُوا من الضلالة قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي قل يا أشرف الخلق بل اتبعوا ملة إبراهيم أي بل نكون أهل ملة إبراهيم حَنِيفاً أي مستقيما مخالفا لليهود والنصارى منحرفا عنهما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) أي ما كان إبراهيم على دينهم وهذا أعلاه ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم:
عزير بن الله والمسيح بن الله قُولُوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم ذلك آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وهو القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من الصحف العشرة وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم بنو يعقوب وكانوا اثني عشر رجلا، وهم يوسف وبنيامين، وروبيل ويهوذا، وشمعون ولاوى ودان، ونفتالى وجادور بالون، ويشجر. ودان والصحف إنما أنزلت على إبراهيم لكن لما كانوا متعبدين بتلك الصحف كانوا داخلين تحت أحكامها فكانت منزلة إليهم أيضا كما أن القرآن منزل إلينا وَما أُوتِيَ مُوسى من التوراة
(١) رواه أبو عوانة في المسند (١: ٩٥)، والبيهقي في السنن الكبرى (٩: ١٣٨)، والطبراني في المعجم الكبير (١٩: ٧).
(٢) رواه أبو داود في كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي في كتاب القرآن، باب: ١٠، وابن ماجة في المقدّمة، باب: الحث على طلب العلم، والدارمي في المقدّمة، باب: في فضل العلم والعالم، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٥٢).
47
وَعِيسى من الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ من كتبهم والمعجزات لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بجميعهم وَنَحْنُ لَهُ أي لله مُسْلِمُونَ (١٣٦) أي مخلصون فَإِنْ آمَنُوا أي اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا أي فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف وتحريف كما أنكم آمنتم بالقرآن من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتوصلون بذلك إلى معرفة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أو المعنى فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا من الضلالة بدين محمد وإبراهيم وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان بالنبيين وكتبهم فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي فإنما هم مستقرون في خلاف عظيم بعيد من الحق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي سيكفيك الله شقاقهم وقد أنجز الله تعالى وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) فيدرك ما يقولون وما يضمرون وقادر على عقوبتهم صِبْغَةَ اللَّهِ أي اطلبوا صبغة الله وهي دين الإسلام عبّر بها عن الدين لكونه تطهير للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثارهم الجميلة ومتداخلا في قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى أي ثوب كذلك كما قيل: إنما سمي دين الله بصبغة الله لأن اليهود تصبغ أولادها يهودا، والنصارى تصبغ أولادها نصارى. بمعنى إنهم يلقنونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم. فقال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ أي اتبعوا دين الله. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى لأنه تعالى يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر وَنَحْنُ لَهُ أي لله الذي أعطانا تلك النعمة الجليلة عابِدُونَ (١٣٨) شكرا لها ولسائر نعمه قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي في شأن الله أن اصطفى رسوله من العرب لا منكم وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فإنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا يرجع إلينا من أفعالكم ضرر وإنما مرادنا نصحكم وإرشادكم وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) في العبودية ولستم كذلك فنحن أولى بالاصطفاء أَمْ تَقُولُونَ.
قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة ف «أم» يحتمل أن تكون متصلة معادلة للهمزة والتقدير بأيّ الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد أم باتباع دين الأنبياء، وأن تكون منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام. وقرأه الباقون بالياء على صيغة الغيبة ف «أم» منقطعة غير داخلة تحت الأمر واردة من الله تعالى توبيخا لهم لا من جهة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نهج الالتفات.
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ
أي أولاد يعقوب كانُوا قبل نزول التوراة والإنجيل هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ يا أشرف الخلق لهم: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم أَمِ
48
اللَّهُ
فإن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم أنهم كانوا مسلمين مبرئين من اليهودية والنصرانية وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة عِنْدَهُ كائنة مِنَ اللَّهِ وهو شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بدين الإسلام والبراءة من اليهودية والنصرانية وهم اليهود وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) أي تكتمون من الشهادة
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) هذا تكرير ليكون وعظا لليهود وزجرا لهم حتى لا يتكلموا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الجهال الذي خفت أحلامهم مِنَ النَّاسِ وهم اليهود كما قاله ابن عباس ومجاهد لإنكار النسخ وكراهة التوجه إلى الكعبة.
والقائل منهم رفاعة بن قيس وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن حرملة والحجاج بن عمرو والربيع بن أبي الحقيق. وقيل: هم المنافقون كما قاله السدي لمجرد الاستهزاء والطعن. وقيل: هم مشركو العرب كما قاله ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم للطعن في الدين ما وَلَّاهُمْ أي أيّ شيء صرف المؤمنين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها وهي بيت المقدس قُلْ لهم يا أشرف الخلق لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الجهات كلها ملكا والخلق عبيده لا يختص به مكان وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) أي موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة تارة أخرى وَكَذلِكَ أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا عدولا ممدوحين بالعلم والعمل لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي يشهد بعدالتكم.
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم. فيقولون: أمة محمد يشهدون لنا فيؤتى بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون فتقول الأمم الماضية: من أين عرفتم وأنتم بعدنا؟ فيقولون: علمنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وقيل: معنى قوله تعالى: ويكون الرسول عليكم شهيدا أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا ادعى على أمته أنه بلغهم تقبل منه هذه الدعوى ولا يطالب بشهيد يشهد له فسميت دعواه شهادة من حيث قبولها وعدم توقفها على شيء آخر وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي وما صيرنا لك القبلة الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة إلا لنعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ من يتبع الرسول في التوجه إلى ما أمر به ممن يرتد عن دين الإسلام. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى الكعبة فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود فصلى إليها سبعة عشر شهرا
49
ثم حوّل إلى الكعبة وارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة أي وإنها كانَتْ أي التولية إلى الكعبة لَكَبِيرَةً أي شاقة على الناس إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ منهم وهم الثابتون على الإيمان وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي ثباتكم على الإيمان بل أعد لكم الثواب العظيم.
وقيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها، أي فإن الله لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ أي بالمؤمنين لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) فلا يدع صلاتهم إلى بيت المقدس. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ف «قد» للتكثير أي كثيرا نرى تصرف نظرك في جهة السماء انتظارا للوحي وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يترجى من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم أبيه وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرة لهم، ولمخالفة اليهود فكان ينتظر نزول جبريل بالوحي بالتحويل فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي فلنحولنك في الصلاة إلى القبلة تحبها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها في قلبك فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي فاصرف جملة بدنك تلقاء الكعبة أي استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيدا عنها والمراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة كما هو في أكثر الروايات. وقال آخرون: المراد بالمسجد الحرام جميع المسجد الحرام.
وقال آخرون: والمراد به الحرم كله. روي عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي في أيّ موضع كنتم يا أمة محمد منه برّ أو بحر، مشرق أو مغرب فاصرفوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام الذي هو بمعنى الكعبة وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هم أحبار اليهود وعلماء النصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التولي إلى الكعبة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لمعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، ولكن يكتمونه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤). قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء إما خطاب للمسلمين أي وما الله بساه عما تعملون أيها المسلمون من امتثال أمر القبلة، وإما خطاب لأهل الكتاب. أي وما الله بغافل عما تكتمون يا أهل الكتاب خبر الرسول وخبر القبلة. وقرأ الباقون بالياء على أنه راجع لهؤلاء وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أي والله لئن جئت الذين أعطوا الكتاب اليهود والنصارى بكل حجة قطعية دالة على صدقك في أن تحولك بأمر من الله ما صلوا إلى قبلتك وما دخلوا في دينك وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي اليهود والنصارى وهذا بيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة وحسم أطماع أهل الكتاب. وقرئ بتابع قبلتهم بالإضافة وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الأمور التي
50
يحبونها منك مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي في أمر القبلة بأنك لا تعود إلى قبلتهم إِنَّكَ إِذاً أي إنك لو فعلت ذلك على سبيل تقدير المستحيل وقوعه لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) لأنفسهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم علم التوراة يَعْرِفُونَهُ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معرفة جلية يميّزون بينه وبين غيره كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا تشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: كيف هذه المعرفة المذكورة في هذه الآية فقال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بابني. فقال عمر: فكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقا وقد نعته الله تعالى في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبّل عمر رأسه وقال: وفقك الله يا أبا سلام فقد صدقت وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) أن صفة محمد مكتوبة في التوراة والإنجيل وأن كتمان الحق معصية الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ وخبر أي الحق الذي أنت عليه يا رسول الله كائن من ربك ويحتمل أن الحق خبر مبتدأ محذوف أي ما كتموه هو الحق، وقرأ علي رضي الله عنه الحق من ربك بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) أي الشاكين في أن علماء أهل الكتاب علموا صحة نبوّتك وشريعتك لِكُلٍّ وِجْهَةٌ.
قال بعضهم: أي لكل قوم من المسلمين جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية. وقال آخرون: ولكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك حتى عيسى عليه السلام بيت المقدس، وقبلتك الكعبة وهي قبلة إبراهيم هوَ أي الله موَلِّيها
أي أمر بأن يستقبلها، في قراءة عبد الله بن عامر النخعي هو مولاها وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي الباقر. والمعنى هو أي كل قوم مولى لتلك الجهة، وقرئ ولكل وجهة بالإضافة فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
أي فبادروا يا أمة محمد إلى الطاعات وقبول أوامرها أيْنَ ما تَكُونُوا أي في أيّ موضع تكونوا من بر أو بحر يأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي يجمعكم الله يوم القيامة فيجزيكم على الخيرات إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) من جمعكم وغيره وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أي من أيّ مكان خرجت إليه للسفر فَوَلِّ وَجْهَكَ عند صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ أي هذا الأمر لَلْحَقُّ أي الثابت الموافق للحكمة مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) قرأه أبو عمرو بالياء على الغيبة وهو راجع للكفار أي من إنكار أمر القبلة والباقون بالتاء على الخطاب وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة فَوَلِّ وَجْهَكَ في الصلاة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي تلقاءه وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين في بر أو بحر فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في الصلاة من محالكم شَطْرَهُ أي المسجد
51
الحرام وكرر الله تعالى أمر التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة، لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة مع أنه تعالى علّق بكل آية فائدة أما في الآية الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في الآية الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقا مغايرا لعلم أهل الكتاب بكونه حقا، وأما في الآية الثالثة فبين أنه تعالى قطع حجة اليهود والمشركين، وذلك قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ أي اليهود والمشركين عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي مجادلة في التولي. والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن محمدا يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وذلك مدفوع بأن المنعوت في التوراة قبلته صلّى الله عليه وسلّم الكعبة وتدفع احتجاج المشركين بأنه صلّى الله عليه وسلّم يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم وَاخْشَوْنِي أي احذروا عقابي فلا تخالفوا أمري وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بالقبلة كما أتممت عليكم بالدين وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) إلى الحق
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ أي من نسبكم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا إما متعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. وإما متعلق بما بعده أي كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي يقرأ عليكم القرآن بالأمر والنهي وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الذنوب بالتوحيد والصدقة وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ أي معاني القرآن وَالْحِكْمَةَ أي السنة وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) أي يعلمكم أخبار الأمم الماضية وقصص الأنبياء وأخبار الحوادث المستقبلة فَاذْكُرُونِي باللسان والقلب والجوارح فالصلاة مشتملة على الثلاثة.
فالأول: كالتسبيح والتكبير. والثاني: كالخشوع وتدبر القراءة. والثالث: كالركوع والسجود. أَذْكُرْكُمْ بالإحسان والرحمة والنعمة في الدنيا والآخرة وَاشْكُرُوا لِي نعمتي بالطاعة وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) أي لا تتركوا شكرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على تمحيص الذنوب بِالصَّبْرِ على أداء فرائض الله وترك المعاصي وعلى المرازي وَالصَّلاةِ أي بكثرة صلاة التطوع في الليل والنهار إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) بالنصر وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ كسائر الأموات بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم كإحياء أهل الجنة في الجنة يرزقون من التحف وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) بحياتهم وحالهم.
قال ابن عباس: نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. فالمهاجرون: عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب وعمرو بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله. والأنصار:
سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن
المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء. وكان الناس يقولون: مات فلان ومات فلان، فنهى الله تعالى أن يقال فيهم إنهم ماتوا. وقال آخرون: إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت تلك الآية وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي والله لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أم لا؟
بِشَيْءٍ أي بقليل مِنَ الْخَوْفِ من العدو وَالْجُوعِ في قحط السنين وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالهلاك وَالْأَنْفُسِ بالقتل والموت وَالثَّمَراتِ بالجوانح.
قال الشافعي رضي الله عنه: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكاة والصدقات، والنقص من الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه البشارة. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا باللسان والقلب معا إِنَّا لِلَّهِ أي نحن عبيد الله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) بعد الموت. قال أبو بكر الوراق: «إنا لله» إقرار منا بالملك له تعالى وإنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلاك أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ أي مغفرة مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ أي لطف وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧) للاسترجاع حيث سلموا لقضاء الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من علامات مواضع العبادات لله بالحج والعمرة. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما سبعا.
قال ابن عباس: كان على الصفا صنم اسمه أساف، وعلى المروة صنم آخر اسمه نائلة.
وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله لا من شعائر الجاهلية وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة عَلِيمٌ (١٥٨) أي يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ هي كل ما أنزله الله على الأنبياء وَالْهُدى أي ما يهدى في وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلّم والإيمان به من الدلائل العقلية والنقلية مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي لبني إسرائيل فِي الْكِتابِ أي التوراة أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم من رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩) أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم، وهؤلاء دواب الأرض. كذا قال مجاهد أخرجه سعيد بن منصور وغيره. وقال قتادة والربيع هم الملائكة والمؤمنون أخرجه ابن جرير. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي ندموا على ما فعلوا وَأَصْلَحُوا بالعزم على عدم العود وَبَيَّنُوا ما كتموه فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ أي القابل لتوبة من تاب الرَّحِيمُ (١٦٠) أي المبالغ في نشر الرحمة لمن مات على التوبة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالكتمان وغيره وَماتُوا وَهُمْ
53
كُفَّارٌ
بالله ورسوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) حتى أهل دينهم فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا خالِدِينَ فِيها أي اللعنة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ طرفة عين وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) أي يؤجلون من العذاب فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وَإِلهُكُمْ أي المستحق منكم العبادة إِلهٌ واحِدٌ أي فرد في الإلهية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود لنا موجود إلّا الإله الواحد الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) خبران آخران للمبتدأ، فالرحمن المبالغ في النعمة والرحيم كثير النعمة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) اعلم أنه تعالى لما حكم بالوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده تعالى وعلى براءته من الأنداد.
النوع الأول: السموات والأرض والآيات في السماء هي: سمكها وارتفاعها بغير عمد ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآيات في الأرض مدّها وبسطها على الماء، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار، والثمار.
النوع الثاني: الليل والنهار والآيات فيهما تعاقبهما بالمجيء والذهاب، واختلافهما في الطول والقصر، والزيادة والنقصان. والنور والظلمة وانتظام أحوال العباد في معاشهم بالراحة في الليل والسعي في الكسب في النهار.
النوع الثالث: السفن والآيات فيها جريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرحال فلا ترسب، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة وتسخير البحر لحمل السفن مع قوة سلطان الماء، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلا الله تعالى.
النوع الرابع: ركوب السفن والحمل عليها في التجارة والآيات في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلوب من يركب هذه السفن لما تمّ الغرض في تجاراتهم ومنافعهم، وأيضا فإن الله تعالى خصّ كل قطر من أقطار العالم بشيء معين فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وجوف البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه.
النوع الخامس: نزول المطر من السماء والآيات في ذلك أن الله جعل الماء سببا لحياة جميع الموجودات من حيوان ونبات، وأنه ينزله عند الحاجة إليه بمقدار المنفعة
وعند الاستسقاء وينزله بمكان دون مكان.
54
النوع السادس: انتشار كل دابة في الأرض والآيات في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم مع ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.
النوع السابع: الريح والآيات فيه أنه جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الشجر والصخر ويخرب البنيان وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن على ما وجه الأرض.
النوع الثامن: السحاب والآيات في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده.
قال القاضي زكريا: إن السحاب من شجرة مثمرة في الجنة والمطر من بحر تحت العرش وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أي ومن الكفار من يعبد من غير الله أوثانا يُحِبُّونَهُمْ حبا كائنا كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبهم لله تعالى أي يسوّون بينه تعالى وبين الأصنام في الطاعة والتعظيم أو يحبون عبادتهم أصنامهم كحب المؤمنين إلى الله تعالى بالعبادة وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من الكفار لأصنامهم فإن المؤمنين لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأصنام. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥).
قرأ الجمهور ولو يرى بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من أن عند القراء السبع.
والمعنى لو لم يعلم الذين أشركوا بالله شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا، وعلى قراءة بعض القراء غير السبع بكسر الهمزة من إن كان التقدير ولو يعلم الذين ظلموا بعبادة الأصنام عجزها حال مشاهدتها عذاب الله لقالوا: إن القوة لله. وقرأ نافع وابن عامر «ترى» بالتاء المنقوطة من فوق مع فتح الهمزة على الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والمعنى ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، ترى أن القوة لله جميعا ولو كسرت الهمزة كان المعنى ولو ترى الذين أشركوا إذ يرون العذاب لقلت: إن القوة لله جميعا. وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أي القادة وهم الرؤساء من مشركي الإنس مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي السفلة وَرَأَوُا الْعَذابَ أي وقد رأى القادة والسفلة العذاب في الآخرة وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) أي تقطعت عنهم المواصلات والأرحام والأعمال والعهود والألفة بينهم أي أنكر القادة إضلال السفلة يوم القيامة حين يجمعهم الله وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي السفلة لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي القادة هناك كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ أي كما أراهم
55
الله شدة عذابه يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي ندامات شديدة عَلَيْهِمْ أي على تفريطهم وَما هُمْ أي القادة والسفلة بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) بعد دخولها يا أَيُّهَا النَّاسُ.
قال ابن عباس: نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف، وبني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبني مدلج كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ أي من الحرث والأنعام حَلالًا طَيِّباً أي مباحا بأن لا يكون متعلقا به حق الغير وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تقتدوا طرق وساوس الشيطان في تحريم الحرث والأنعام إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) أي ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي القبيح من الذنوب التي لا حد فيها وَالْفَحْشاءِ أي المعاصي التي فيها حد وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) أي وبأن تفتروا على الله ما لا تعلمون أن الله تعالى حرم هذا وذاك وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمشركي العرب اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من التوحيد وتحليل الطيبات قالُوا لا نتبعه بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما وجدناهم عليه من عبادة الأصنام وتحريم الطيبات ونحو ذلك قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ أي أيتبعونهم وإن كان آباؤهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) إلى الحق
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي وصفة الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كصفة الراعي الذي يصوت على ما لا يسمع من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعي من غير فهم لكلامه أصلا، فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة فكذا التقليد. ويقال: مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم للأوثان كمثل الراعي الذي يتكلم مع البهائم فكما يحكم على الراعي بقلة العقل فكذا هؤلاء صُمٌّ لأنهم لم يسمعوا الحق بُكْمٌ لأنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه عُمْيٌ لأنهم أعرضوا عن الدلائل فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) أي لا يفقهون أمر الله ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم كما لا تفهم البهائم كلام الراعي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي كلوا من حلالات ما أعطيناكم من الحرث والأنعام وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على ما رزقكم من الطيبات إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه تعالى هو المنعم لا غير فإن الشكر رأس العبادات إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها والانتفاع بها وهي التي ماتت على غير ذكاة أما السمك والجراد فهما خارجان عنهما باستثناء الشرع كخروج الطحال من الدم وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أي جميع أجزائه وإنما خصّ اللحم لأنه المقصود بالأكل وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فما موصول وبه نائب الفاعل والباء بمعنى في مع حذف مضاف. والمعنى وما صيح في ذبحه لغير الله والكفار يرفعون الصوت لآلهتهم عند الذبح.
وقال الربيع بن أنس وابن زيد: والمعنى وما ذكر عليه غير اسم الله وعلى هذا فغير الله نائب
56
الفاعل واللام صلة. قال العلماء: لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد فَمَنِ اضْطُرَّ أي أحوج إلى أكل ما ذكر بأنه أصابه جوع شديد ولم يجد حلالا يسدّ به الرمق أو أكره على تناول ذلك غَيْرَ باغٍ أي غير طالب للذة وَلا عادٍ أي متجاوز سد الجوعة كما نقل عن الحسن وقتادة والربيع، ومجاهد وابن زيد. وقيل: غير باغ على الوالي ولا عاد على المسلمين بقطع الطريق وعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في أكل ما ذكر. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أكل في حال الاضطرار رَحِيمٌ (١٧٣) حيث أباح في تناول قدر الحاجة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على الأحكام من المحللات والمحرمات وعلى نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي بالكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي إلا الحرام الذي هو سبب النار يوم القيامة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بكلام طيب يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) يخلص ألمه إلى قلوبهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي أولئك الكاتمون اختاروا ما تجب به النار على ما تجب به الجنة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) أي فما أجرأهم على النار ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالصدق أو ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب ببيان الحق وهم قد حرفوا تأويله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) أي لفي خلاف بعيد عن الهدى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في الصلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ أي جهة الكعبة وَالْمَغْرِبِ أي جهة بيت المقدس.
وقرأ حفص وحمزة بنصب «البر» على أنه خبر مقدم وَلكِنَّ الْبِرَّ ولكن الشخص البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع حب المال وهو أن يؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ذَوِي الْقُرْبى أي القرابة وَالْيَتامى أي المحاويج منهم وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أي مار الطريق وَالسَّائِلِينَ أي الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال وَفِي الرِّقابِ أي في المكاتبين. وقيل: في اشتراء الرقاب لإعتاقها وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة منها وَآتَى الزَّكاةَ أي المفروضة وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ عطف على من آمن إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الناس وَالصَّابِرِينَ مفعول لفعل محذوف كاذكر فِي الْبَأْساءِ أي الخوف والبلايا والشدائد وَالضَّرَّاءِ أي الأمراض والأوجاع والجوع وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت شدة القتال في سبيل الله أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الدين وطلب البر وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) عن الكفر.
57
تنبيه: قوله «ليس البر» هو اسم جامع لكل طاعة، ثم قوله: ولكن البر هو اسم فاعل والأصل برر بكسر الراء الأولى فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى الباء بعد سلب حركتها أو مصدر بمعنى اسم الفاعل الذي هو البار كما هو القراءة الشاذة، واختلف في المخاطب بهذه الآية. فقال بعضهم: المراد مخاطبة اليهود لما شددوا في الثبات على التوجه جهة بيت المقدس.
فقال تعالى: ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله. وقال بعضهم: بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام. وقال بعضهم: بل هو خطاب للكل.
وقال الله تعالى: إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور.
أحدها: الإيمان بالله فأهل الكتاب أخلّوا بذلك فإن اليهود قالوا بالتجسيم ووصفوا الله تعالى بالبخل، وقالوا عزير ابن الله. وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله.
وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، فاليهود أخلّوا بهذا الإيمان حيث قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
وثالثها: الإيمان بالملائكة، فاليهود أخلّوا بذلك حيث أظهروا عداوة جبريل عليه السلام.
ورابعها: الإيمان بكتب الله، فاليهود والنصارى قد أخلّوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن.
وخامسها: الإيمان بالنبيين، واليهود أخلّوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء وطعنوا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى، واليهود أخلّوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل.
وسابعها: إقامة الصلوات والزكوات، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما.
وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي فرض عليكم المماثلة وصفا وفعلا فِي الْقَتْلى أي بسبب قتل القتلى عند مطالبة الولي بالقصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ أي الحر يقتل بقتل الحر لا بقتل العبد وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وبالحر من باب أولى وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وبيّنت الأحاديث أنه يقتل أحد النوعين الذكر والأنثى بالآخر ويعتبر أن لا يفضل القاتل القتيل بالدين والأصلية والحرية. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فمن سهل له من أولياء الدم من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فعلى ولي الدم مطالبة ذلك المال من ذلك القاتل من غير تشديد بالمطالبة، وعلى القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير
58
مماطلة وبخس بل على بشر وطلاقة، وقول جميل ومعنى هذه الآية إن الله تعالى حثّ الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفو عن القود. ذلِكَ أي الحكم من جواز القصاص والعفو عنه على الدية تَخْفِيفٌ في حقكم مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ للقاتل من القتل لأن العفو وأخذ الدية محرمان على اليهود بل فرض عليهم القصاص وحده والقصاص والدية محرمان على النصارى بل فرض عليهم العفو على الإطلاق وفي ذلك تضييق على كل من الوارث والقاتل، وهذه الأمة مخيّرة بين الثلاث: القصاص، والدية، والعفو تيسيرا عليهم فَمَنِ اعْتَدى أي جاوز الحد بَعْدَ ذلِكَ أي بعد بيان كيفية القصاص والدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) أي شديد الألم في الآخرة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أي ولكم في مشروعية القصاص حياة لأن من أراد قتل الشخص إذا علم القصاص ارتدع عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأن الجماعة يقتلون بالواحد فتنتشر الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم يا أُولِي الْأَلْبابِ أي ذوي العقول الخالية من الهوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) أي لكي تتقوا المساهمة في أمره وترك المحافظة عليه. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأولاد كما قاله عبد الرحمن بن زيد أو الرحم غير الوالدين، كما قاله ابن عباس ومجاهد بالعدل بحسب استحقاقهم فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت كالمرض المخوف إن ترك مالا.
قال الأصم: إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعا للقوم عمّا كانوا اعتادوه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) أي حق ذلك حقا على الموحدين
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي الوصية من وصي وشاهد إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي بعد علم الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ أي التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي الوصية لا على الميت لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصية الميت عَلِيمٌ (١٨١) بالمبدل فيجازي الميت بالخير والمبدل بالشر فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ قرأه شعبة وحمزة والكسائي بفتح الواو وتشديد الصاد أي من علم من ميت جَنَفاً أي ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية أَوْ إِثْماً أي عمدا في الميل في الوصية فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي فعل ما فيه الصلاح بين الوصي والموصى لهم برده إلى الثلث والعدل فَلا إِثْمَ أي على من علم ذلك في هذا الصلح وإن كان فيه تبديل لأنه تبديل باطل بحق بخلاف الأول عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للميت إن جار وأخطأ للوصي رَحِيمٌ (١٨٢) للوصي حيث رخص عليه الرد إلى الثلث والعدل. ومعنى الآية بأن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا إثم على من علم ذلك أن يغيّره ويرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء عليهم
59
الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه السلام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أي تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فالرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في غيرهما والاتقاء عنهما أشق فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما كان اتقاء الله بترك غيرهما أسهل وأخف أو المعنى لعلكم تتقون ترك المحافظة على الصوم بسبب عظم درجاته أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي في أيام مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يوما وهي رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا يضره الصوم ولو في أثناء اليوم أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرا على سفر قصر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه إن أفطر صوم عدة أيام المرض والسفر أي بقدر ما أفطر من رمضان ولو مفرقا. وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق.
وروي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم علي أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقة؟ فقال له:
«أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟» قال: نعم. قال: «فالله أحق أن يعفو ويصفح»
«١».
وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صم إن شئت وأفطر إن شئت»
«٢».
وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مر الظهران؟ فقال: لا، لكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ أي قدر ما يأكله في يوم وهو مد من غالب قوت بلده. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فدية وجمع مساكين. قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما: إن هذه الآية منسوخة وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيّرين بين الصيام والفدية، وإنما خيّرهم الله تعالى بينهما لأنهم كانوا لم يتعودوا الصيام فاشتد عليهم فرخص الله لهم في الإفطار. وقيل: إن هذه الآية نزلت في حق الشيخ
(١) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب: من مات وعليه صوم، «بما معناه»، ومسلم في كتاب الصيام، باب: ١٥٤.
(٢) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار، ومسلم في كتاب الصيام، باب: ١٠٣، والدارمي في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر، وأبو داود في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر، والنسائي في كتاب الصيام، باب: ذكر الاختلاف على سليمان بن يسار، وابن ماجة في كتاب الصيام، باب: ما جاء في الصوم في السفر، والموطأ في كتاب السفر، باب: ما جاء في
الصيام في السفر، وأحمد في (م ٦/ ص ٤٦، ١٩٣).
60
الهرم. والمعنى وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً كأن زاد في الفدية على القدر الواجب أو صام مع إخراج الفدية فَهُوَ أي التطوع خَيْرٌ لَهُ بالثواب وَأَنْ تَصُومُوا أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين والذين يقدرون على الصوم مع المشقة خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) ما في الصوم من الفضيلة ومن المعاني المورثة للتقوى وبراءة الذمة فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي إن جبريل نزل بالقرآن جملة واحدة في ليلة القدر وكانت ليلة أربع وعشرين من رمضان من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فأملاه جبريل على السفر فكتبوه في صحف وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يسمى بيت العزة، ثم نزل جبريل بالقرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة بحسب الحاجة يوما بيوم آية وآيتين وثلاثا وسورة. هُدىً لِلنَّاسِ أي بيانا للناس من الضلالة وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي واضحات من أمر الدين فالهدى الأول محمود على أصول الدين، والهدى الثاني على فروع الدين وَالْفُرْقانِ أي من الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي من شهد منكم أول الشهر في الحضر فليصم كل الشهر. وشهود الشهر إما بالرؤية، وإما بالسماع فإذا رأى إنسان هلال رمضان وقد انفرد بتلك الرؤية ورد الإمام شهادته لزمه أن يصوم لأنه قد حصل شهود الشهر في حقه فوجب عليه الصوم، وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعا، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به أما إذا شهد على هلال رمضان فيحكم به احتياطا لأمر الصوم، أي يقبل قول الواحد في إثبات العبادة ولا يقبل في الخروج منها إلا قول الاثنين لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا وَمَنْ كانَ مَرِيضاً في شهر رمضان وإن كان مقيما أَوْ عَلى سَفَرٍ أي متلبسا بالسفر وقت طلوع الفجر وإن كان صحيحا فَعِدَّةٌ أي فعليه عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فليصم منها بقدر ما أفطر يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ أي رخصة الإفطار في السفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي لم يرد أن يوجد لكم العسر في الصوم في السفر. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي لكي تصوموا في الحضر عدة ما أفطرتم في السفر. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الكاف وتشديد الميم وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عند انقضاء الصوم عَلى ما هَداكُمْ إلى هذه الطاعة.
قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي:
وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد.
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) الله على رخصته. قال الفراء: قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ علة للأمر بمراعاة العدة. وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة ما علمكم الله من كيفية القضاء. وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة التسهيل وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي أي عن قربي وبعدي
61
فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم يا أشرف الخلق: إني قريب منهم بالعلم والإجابة أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. قيل: المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء: هو قبول التوبة، وقيل: المراد من الدعاء العبادة.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء هو العبادة»
. «١» ومما يدل على ذلك قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: ٦٠]. وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع «الداعي إذا دعاني» بإثبات الياء فيهما في الوصل. والباقون بحذفها على الوصل في الأولى وعلى التخفيف في الثانية فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فلينقادوا لي وليستسلموا لي وَلْيُؤْمِنُوا بِي وهذا الترتيب يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي وسبب نزول هذه الآية قيل: إن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فندعوه سرا أم بعيد فندعوه جهرا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي عن قتادة وغيره: أن الصحابة قالوا: كيف تدعو ربنا يا نبي الله أي أبالمناجاة أو بالمناداة؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء وغيره: إنهم سألوا في أي ساعة ندعو الله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن: سأل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أين ربنا؟. وقال ابن عباس: إن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ أي المجامعة مع نسائكم. قال المفسرون: كان في أول شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر الصائم حلّ له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام، ولا يصلي العشاء الأخيرة. فإذا فعل أحدهما بأن نام أو صلى العشاء حرّم عليه هذه الأشياء إلى الليلة القابلة. فواقع عمر بن الخطاب أهله بعد صلاة العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بالجماع بعد العشاء فنزلت هذه الآية ناسخة لتلك الشريعة: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ هذا مبين لسبب إحلال الوقاع وهو صعوبة اجتنابهن وستر أحدهما الآخر عن الفجور. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تظلمونها لأنكم تسرون بالمعصية في الجماع بعد صلاة العتمة والأكل بعد النوم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي قبل توبتكم وَعَفا عَنْكُمْ أي محا ذنوبكم ولم يعاقبكم في الخيانة فَالْآنَ أي حين أحل لكم بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما وضع الله لكم بالنكاح من التناسل وقصد العفة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها وقيل: هذا نهي عن العزل.
(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة ٢، وابن ماجة في كتاب الدعاء، باب: فضل الدعاء، وأحمد في (م ٤/ ص ٢٦٧).
62
قال الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها، ولا بأس أن يعزل عن الأمة، وقيل:
معنى ذلك ابتغوا هذه المباشرة من الزوجة والمملوكة فإن ذلك هو الذي كتب الله لكم أي قسم الله لكم وَكُلُوا وَاشْرَبُوا من حين يدخل الليل حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ أي حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل حال كون الخيط الأبيض بعضا مِنَ الْفَجْرِ الصادق وسمى الصبح الصادق فجرا لأنه يتفجر منه النور ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي إلى دخوله بغروب الشمس نزلت هذه الآية في شأن صرمة بن مالك بن عدي وذلك أنه كان يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، وأخذت تصنع له طعاما فأخذه النوم من التعب فأيقظته فكره أن يأكل خوفا من الله فأصبح صائما مجهودا في عمله فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما وقع فأنزل الله هذه الآية. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي لا تجامعوهن ليلا ونهارا وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ أي ماكثون فِي الْمَساجِدِ بنية الاعتكاف للتقرب إلى الله تعالى تِلْكَ أي المباشرة حُدُودُ اللَّهِ أي معصية الله فَلا تَقْرَبُوها أي فلا تقربوا المعصية واتركوا مباشرة النساء ليلا ونهارا حتى تفرغوا من الاعتكاف كَذلِكَ أي هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أي أمره ونهيه لِلنَّاسِ أو المعنى كما بيّن الله ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يبين سائر أدلته على دينه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) أي لكي يتقوا معصية الله نزلت هذه الآية في حق نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وغيرهما، فكانوا معتكفين في المسجد فيأتون إلى أهاليهم إذا احتاجوا، ويجامعون نساءهم، ويغتسلون فيرجعون إلى المسجد فنهاهم الله عن ذلك وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بالطريق الحرام شرعا وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي ولا تدخلوا بالأموال إلى الحكام لتأخذوا جملة من أموال الناس متلبسين بالإثم أي بالحلف الكاذب وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) أنكم مبطلون. فالإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق.
روي أن عبدان بن الأسوع الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بيّنة، فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يحلف امرؤ القيس، فهمّ بالحلف. فقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: ٧٧] الآية. فارتدع عن اليمين وأقر بالحق وسلّم الأرض إلى عبدان فنزلت هذه الآية.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: اختصم رجلان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عالم بالخصومة وجاهل بها، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعالم. فقال من قضي عليه: يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق، فقال: «إن شئت أعاوده» فعاوده، فقضى للعالم. فقال المقضي عليه مثل ما قال أولا.
63
ثم عاوده ثالثا ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار».
فقال العالم المقضي له: يا رسول الله إن الحق حقه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار»
«١». ومعنى «اقتطع» أي أخذ
وسأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم لا يزل ينقص حتى يعود دقيقا كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
أي عن فائدة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان لماذا قُلْ يا أشرف الخلق هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أي هي علامات لأغراض الناس الدينية والدنيوية وللحج كعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وصيامهم وإفطارهم وقضاء دينهم وأوقات زرعهم ومتاجرهم، ودخول وقت الحج وخروجه، ثم نزل في شأن نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كنانة وخزاعة كانوا يدخلون بيوتهم في الإحرام من خلفها أو من سطحها كما فعلوا في الجاهلية قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها في الإحرام وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى محارمه تعالى كالصيد وتوكل على الله تعالى في جميع أموره وَأْتُوا الْبُيُوتَ أي ادخلوها مِنْ أَبْوابِها في الإحرام كغيره وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير الأحكام أو في جميع أموركم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩) لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا أو لكي تنجوا من السخط والعذاب وَقاتِلُوا أي جاهدوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم. الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يبدءونكم بالقتال من الكفار وَلا تَعْتَدُوا عليهم بابتداء القتال في الحرم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) أي لا يريد الخير للمتجاوزين الحد.
وَاقْتُلُوهُمْ إن بدءوكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في الحل والحرم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي والمحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها، وقيل: وشركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدّهم لكم عنه أشر من قتلكم إياهم فيه وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لا تبدأوهم بالقتل في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ أي الحرم بالابتداء فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه بالابتداء فَاقْتُلُوهُمْ فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب.
قرأ حمزة والكسائي «ولا تقتلوهم»، «حتى يقتلوكم»، «فإن قتلوكم» كله بغير ألف.
كَذلِكَ أي مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) يفعل بهم مثل ما
(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: ٢١٨، والنسائي في كتاب القضاة، باب: القضاء في قليل المال وكثيره، والدارمي في كتاب البيوع، باب: فيمن اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه، «بما معناه».
64
فعلوا فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما قد سلف رَحِيمٌ (١٩٢) بهم وَقاتِلُوهُمْ بالابتداء منهم في الحل والحرم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كي لا توجد فتنة عن دينكم، أي وقد كانت فتنتهم أنهم كانوا يؤذون أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة ذلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى قاتلوهم حتى تعلوا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وَيَكُونَ الدِّينُ أي وكي يوجد الإسلام والعبادة لِلَّهِ وحده لا يعبدون في الحرم سواه فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم في الحرم فَلا عُدْوانَ أي فلا سبيل لكم بالقتل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) أي المبتدئين بالقتل، أو المعنى فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي دخلت يا محمد فيه لقضاء العمرة وهو ذو القعدة من السنة السابعة مقابل بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صدوك عن دخول مكة وهو ذو القعدة من السنة السادسة. أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه. وَالْحُرُماتُ أي الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام قِصاصٌ أي يجري فيها بدل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي فجازوه بمثل ما اعتدى عليكم به وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوه بالابتداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) بالنصرة والحفظ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله لقضاء العمرة وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي ولا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بمنع النفقة في سبيل الله أو بالإسراف في النفقة أو بتضييع وجه المعاش وَأَحْسِنُوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته بأن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا. ويقال: وأحسنوا الظن في الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) أي يريد بهم الخير ويثيبهم نزلت الآيات من قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: ١٩٠] إلى هاهنا في حق المحرمين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لقضاء العمرة بعد عام الحديبية لأنهم خافوا أن يقاتلهم الكفار في الحرم والإحرام أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك لأن القتال في ذلك الوقت كان محرما في تلك الأحوال الثلاثة.
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام بأركانهما وشروطهما لله بأن تخلصوهما للعبادة ولا تخلطوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي منعتم عن إتمامهما بعدو فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم إذا أردتم التحلل ما تيسّر من الهدي من بدنة أو بقرة، أو شاة لترك الحرم، واذبحوها حيث أحصرتم في حل أو حرم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي وقت مجيء ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجا من خلاف أبي حنيفة، فإذا ذبحتم فاحلقوا. ويجب نية التحلل عند الذبح والحلق وبهما يحصل الخروج من النسك.
65
قال الشافعي: كل ما وجب على المحرم في ماله لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في نوعين:
أحدهما: من ساق هديا فعطب في طريقه فيذبحه ويخلي بينه وبين المساكين.
وثانيهما: دم المحصر بالعدو فإنه يذبح حيث حبس لأن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً في بدنه محتاجا إلى المداواة واستعمال الطيب واللباس أَوْ كان بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي ألم في رأسه بسبب القمل والصيبان أو بسبب الصداع، أو كان عنده خوف من حدوث مرض أو ألم واحتاج إلى الحلق أبيح له ذلك، بشرط بذل الفدية كما قال تعالى: فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية مِنْ صِيامٍ في ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ بثلاثة آصع من غالب قوت مكة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة فَإِذا أَمِنْتُمْ من العدو فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أي فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب واللباس والنساء بسبب إتيانه بالعمرة إلى الإحرام بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليه ما تيسر من الدم للجبران بخمسة شروط:
الأول: أن يقدم العمرة على الحج.
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
الثالث: أن يحج في هذه السنة.
الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام.
الخامس: أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ووقت وجوب هذا الدم بعد ما أحرم بالحج، ويستحب أن يذبح يوم النحر ويجوز تقديم الذبح على الإحرام بالحج بعد الفراغ من العمرة، لأن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات. وعند أبي حنيفة هو دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر فلا يجوز عنده الذبح قبله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فمن لم يجد الهدي لفقده أو فقد ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في حال اشتغاله بإحرام الحج في أيام الاشتغال بأعمال الحج بعد الإحرام وقبل التحلل وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهليكم ووطنكم مكة أو غيرها. وقرأ ابن أبي عبلة سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في البدل عن الهدي قائمة مقامه. ذلِكَ أي لزوم الهدي وبدله على التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما
66
فرض عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) لمن تهاون بحدوده الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي أشهر الحج معروفات بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام فيهن فلا جماع ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ولا خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما في أيام الحج.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق» بالرفع والتنوين، ولا جدال بالنصب.
والباقون قرءوا الكل بالنصب. والمعنى على هذا لا يكونن رفث ولا فسوق، ولا خلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه»
«١». فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر الجدال وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة وكترك المنهي يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يقبله أو يجزي به خير جزاء وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي تزودوا من التقوى لمعادكم فإنها خير زاد وهي فعل الواجبات وترك المحظورات. ويقال: وتزودوا ما تعيشون به لسفركم في الدنيا فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) أي ذوي العقول. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقا من ربكم بالتجارة في الحج فَإِذا أَفَضْتُمْ أي رجعتم مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو جبل يقف عليه الإمام وسمي «قزح» وهو آخر حد المزدلفة.
وقال بعضهم: المشعر الحرام هو المزدلفة، لأن الذكر المأمور به عنده يحصل عقب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالمبيت بالمزدلفة وَاذْكُرُوهُ أي الله كَما هَداكُمْ أي لأجل هدايته إياكم لمعالم دينه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) أي وإنكم كنتم من قبل الهدي لمن الجاهلين بالإيمان والطاعة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي ثم ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، كما رجع منها إبراهيم وإسماعيل في ذلك الوقت على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان العرب الذين وقفوا بالمزدلفة يرجعون إلى منى بعد
(١) رواه البخاري في كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم في كتاب الحج، باب: ٤٣٨، والترمذي في كتاب الحج، باب: ٤، وابن ماجة في كتاب المناسك، باب:
فضل الحج والعمرة، والدارمي في كتاب المناسك، باب: في فضل الحج والعمرة، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب: فضل الحج، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٢٩). [.....]
67
طلوع الشمس وهذا كما اختاره الضحّاك. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ باللسان مع التوبة بالقلب وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ويقصد بذلك تحصيل مرضاة الله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المستغفر رَحِيمٌ (١٩٩) أي منعم عليه فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وكان العرب بعد الفراغ من الحج يقفون بمنى بين المسجد والجبل، فيبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم، فقال الله تعالى هذه الآية. فالمعنى فإذا فرغتم من عبادتكم المتعلقة بالحج كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى فابذلوا جهدكم في الثناء على الله وذكر نعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم في الجاهلية. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أي بل أكثر ذكرا من ذكر آبائكم لأن صفات الكمال لله تعالى غير متناهية فَمِنَ النَّاسِ أي المشركين أو المؤمنين مَنْ يَقُولُ في الموقف رَبَّنا آتِنا أي أعطنا فِي الدُّنْيا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا، أو إماء ومالا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) أي من نصيب في الجنة بحجه.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي علما وعبادة وعصمة من الذنوب وشهادة وغنيمة وصحة، وكفافا وتوفيقا للخير وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أي جنة ونعيمها وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أي ادفع عنا العذاب أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة لَهُمْ نَصِيبٌ أي حظ وافر في الجنة مِمَّا كَسَبُوا أي من حجهم وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وعالم بجملة سؤالات السائلين. وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي بالتكبير والتهليل والتمجيد فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أي في أيام التشريق الثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ برجوعه إلى أهله فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النحر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتعجيله وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث حتى رمى فيه قبل الزوال أو بعده فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخره فهم مخيّرون في ذلك لِمَنِ اتَّقى أي ونفي الإثم لمن اتقى الله في حجه لأنه المتشفع بحجه دون من سواه وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا الإخلال بما ذكر من الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣) أي للجزاء على أعمالكم بعد البعث. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ومن الناس يعظم في قلبك كلامه عند ما يتكلم لطلب مصالح الدنيا وهو الأخنس بن شريق الثقفي واسمه أبيّ كان منافقا حسن العلانية خبيث الباطن. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ فإن الأخنس هذا أقبل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأظهر الإسلام وحلف بالله أنه يحبه ويتابعه في السر، ويحتمل أنه يقول فالله يشهد بأن الأمر كما قلت فهذا استشهاد بالله وليس بيمين. وقرأ ابن محيص يشهد الله بفتح الياء والهاء. والمعنى يعلم الله من قلبه خلاف ما أظهره وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤).
قال قتادة شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم اللسان جاهل العمل. وقال السدي: أعوج الخصام. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها أي وإذا انصرف من عندك اجتهد في إيقاع القتال بأن يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أنه يتبرأ بعضهم
68
من بعض فيقطع الأرحام ويسفك الدماء وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ أي الزرع بالإحراق وَالنَّسْلَ أي الحيوان بالقتل، فإن الأخنس لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) أي لا يرضى به وَإِذا قِيلَ لَهُ أي لذلك الإنسان اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي لزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه. فإن التكبر إنما حصل بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي كافيه جهنم جزاء له وعذابا وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) أي لبئس المستقر هي. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي أي يشتري نَفْسَهُ بماله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ.
روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الإرث، وفي أبي ذر، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير ولي مال ومتاع وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني. فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف إلى المدينة فنزلت هذه الآية. وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ربح بيعك يا أبا يحيى. فقال: وما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك قرآنا، وقرأ عليه هذه الآية. وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرّا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) الذين قتلوا في مكة أبي عمار وأمه
وغيرهما لأنه تعالى أرشدهم لما فيه رضاه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت هذه الآية في شأن طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به لأنها صارت منسوخة. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا طرق تزيين الشيطان بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) أي ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلائل العقلية والنقلية كالمعجزة الدالة على الصدق وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي قوي بالنقمة لمن لا يتابع رسوله فلا يمنعه مانع عنكم ولا يفوته ما يريده منكم حَكِيمٌ (٢٠٩) أي عالم بعواقب الأمور هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ أي ما ينظر أهل مكة إلا أن يأتيهم الله بلا كيف يوم القيامة والملائكة في ظل من الغمام فقوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ مقدم ومؤخر،
69
فنزول الغمام علامة لظهور أشد الأهوال في القيامة. قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: ٢٥] وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته في الجنة والنار وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) أي إنّ الله تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه. كما قال تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: ١٩].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ترجع» بالبناء للمجهول على معنى ترد. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» بالبناء للفاعل أي تصير كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: ٥٣]. قال فخر الدين محمد الرازي: والأوضح عندي أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: ٢٠٨] إنما نزلت في حق اليهود والمعنى يا أيّها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم أكملوا طاعتكم في الإيمان بأن تؤمنوا بجميع أنبياء الله وكتبه فادخلوها بإيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه في الإسلام عن التمام، ولا تتبعوا الشهوات التي تتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة وعلى هذا التقدير. فقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: ٢٠٩] يكون خطابا مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: ٢١٠] حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوّزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلّى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وذكر الله تعالى بعد ذلك ما يجري مجرى التهديد بقوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: ٢١٠].
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قل يا أشرف الخلق لأولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخا: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي معجزات موسى عليه السلام، كفلق البحر وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب، وإنزال التوراة عليهم فبدلوا مقتضاها وهو الإيمان بها بالكفر فاستوجبوا العقاب من الله تعالى فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم. أو المعنى سل يا أشرف الخلق هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل تنبيها لهم على ضلالتهم كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم يعلم بها صدقه وصحة شريعته وكفروا بها. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي ومن يغيّر آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالكفر من بعد ما عرفها. أو المعنى ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء
70
محمد به فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) لمن كفر به. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي حسن ما في الحياة الدنيا من سعة المعيشة لكفار مكة أبي جهل ورؤساء قريش وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يسخرون على فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود، وعمّار، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسلمان، وبلال، وصهيب بضيق المعيشة وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن المؤمنين في عليين والكافرين في سجّين ولأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض المذلة، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ في الدنيا من كافر ومؤمن بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) أي بغير تكلف من المرزوق ومن حيث لا يحتسب وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قائمة على الحق ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا فإن الناس وهم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن آمن بالله وَمُنْذِرِينَ بالنار لمن لم يؤمن بالله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق.
فالكتاب حاكم والمختلف فيه وهو الحق محكوم عليه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم أي أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فبعد ذلك لم يبق في العدول عن الحق علة فلو حصل العدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والحرص على طلب الدنيا فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي فهدى الله الذين آمنوا- للحق الذي اختلف فيه- من اختلف بعلمه وبإرادته وبكرامته. قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة. واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود:
كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا. فقلنا: إنه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا حيث أنكروا نبوته ورسالته، والنصارى أفرطوا حيث جعلوه إلها. وقلنا قولا عدلا وهو إنه عبد الله ورسوله. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أي طريق حق لا يضل سالكه. ويقال: والله يثبّت من يشاء على دين قائم يرضيه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ.
71
قال ابن عباس: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم. وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن. وقيل: نزلت في حرب أحد، لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما كلفكم به وابتلاكم بالصبر عليه ودون أن ينالكم أذى الكفار، والفقر، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين.
وهو المراد من قوله تعالى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي والحال لم يأتكم شبه محنة المؤمنين الذين مضوا من قبلكم ثم بيّن الله ذلك الشبه مستهم البأساء والضراء. فالبأساء:
تضييق جهات الخير والمنفعة. والضراء: انفتاح جهات الشر والآفات والألم. ومعنى زلزلوا أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا، ومعنى حتى يقول الرسول لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤) إجابة لهم من الله أو من قوم منهم والأحسن أن يقال: فالذين آمنوا قالوا: متى نصر الله؟ ثم رسولهم قال: ألا إن نصر الله قريب.
وروى الكلبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمرو بن الجموح- وكان شيخا كبيرا هرما- وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي أيّ شيء مصرف المال قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى أي المحتاجين منهم وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فالإنفاق على الوالدين واجب عند عجزهما عن الكسب والملك، والإنفاق على الأقربين- وهم الأولاد وأولاد الأولاد- قد يلزم عند فقد الملك، فحينئذ الواجب فيما ذكر قدر الكفاية وقد يكون على صلة الرحم.
والإنفاق على اليتامى والمساكين والمارين في السبيل إما من جهة الزكاة أو من جهة صدقة التطوع. فالمراد بهذه الآية: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى في صدقة التطوع. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي من سائر وجوه البر والطاعة فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) أي فيجازيكم عليه ويوفى ثوابه. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم قتال الكفرة في أوقات النفير العام مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي والحال أن القتال مكروه لكم طبعا للمشقة على النفس وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالجهاد في سبيل الله وَهُوَ
72
خَيْرٌ لَكُمْ
لما تصيبون الشهادة والغنيمة والأجر وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً كالجلوس عن الجهاد وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لأنكم لا تصيبون الشهادة ولا الغنيمة ولا الأجر وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم فلذلك يأمركم به وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) ذلك ولذلك تكرهونه. أو المعنى والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيكم وامتثلوا أمره تعالى نزلت تلك الآية في حق سعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود وأصحابهما يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.
روى أكثر المفسرين عن ابن عباس أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهرا من مجيئه المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتابا وعهدا ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه: أما بعد، فسر على بركة الله تعالى بمن اتّبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير. فقال عبد الله: سمعا وطاعة لأمره، فقال لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره. ومن أحب التخلف فليتخلف. فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا اثنين، وساقوا العير بما فيه من تجارة الطائف حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضجت قريش، وقالوا: قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضا قد تعجبوا من ذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام».
وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة
وعلى هذا التقدير، فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين قُلْ في جوابهم سَبِيلِ اللَّهِ أي الشهر الحرام وهو رجب كَبِيرٌ أي عظيم وزرا وقد تم الكلام هاهنا والوقف هنا تام وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أي ولكن منع الناس عن دين الله وطاعته وكفر بالله ومنع الناس عن مكة وإخراج أهله وهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون من مكة أعظم وزرا عند الله من قتل عمرو بن الحضرمي في رجب خطأ مع أنه يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة وَالْفِتْنَةُ أي ما فعلوا الفتنة عن دين المسلمين تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي أفظع من قتل عمرو بن الحضرمي.
روي أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون
73
بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام وَلا يَزالُونَ أي أهل مكة الكفرة يُقاتِلُونَكُمْ أيها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أي كي يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل إِنِ اسْتَطاعُوا وهذا استبعاد لاستطاعتهم وإشارة إلى ثبات المسلمين في دينهم وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ المصرون على لارتداد إلى حين الموت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من كل أحد. وحبوط أعمالهم في الآخرة أن الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة أما لو رجع المرتد إلى الإسلام عادت أعماله الصالحة مجردة عن الثواب فلا يكلف بإعادتها وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) أي مقيمون لا يخرجون ولا يموتون.
وروي أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نطمع منه أجرا وثوابا؟ فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
بالله ورسوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم من مكة إلى المدينة وَجاهَدُوا أي بذلوا جهدهم في قتل العدو كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دين الله أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يطمعون في ثواب الله أو ينالون جنة الله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) فيحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن تناولهما قُلْ فِيهِما أي في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي عظيم بعد التحريم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف للأموال ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قبل التحريم بالتجارة فيها وباللذة والفرح وتصفية اللون وحمل البخيل على الكرم وزوال الهمّ وهضم الطعام، وتقوية الباءة وتشجيع الجبان في شرب الخمر، وإصابة المال بلا كد في القمار، أي المغالبة بأخذ المال في أنواع اللعب وَإِثْمُهُما بعد التحريم أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قبل التحريم. وقرئ أقرب من نفعهما.
قال المفسرون: نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: ٦٧] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة منهم سيدنا حمزة بن عبد المطلب وبعض الأنصار قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيهما قوله تعالى: قُلْ
74
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي إماما فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا، فنزلت: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقلّ من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر:
اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩٠]. فقال عمر: انتهينا يا رب. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي أيّ قدر
ينفقونه نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الجموح سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا نتصدق من أموالنا؟ وقيل: السائل معاذ بن جبل وثعلبة. وقال الرازي: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله تعالى أن العفو أي الفاضل عن الكفاية مقبول قُلِ الْعَفْوَ أي ما سهل مما يكون فاضلا عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤونتهم كَذلِكَ أي كما بيّن الله لكم قدر المنفق وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام الشرعية لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا أنها فانية وَالْآخِرَةِ أنها باقية، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بدّ من ترجيح الآخرة على الدنيا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها ثم إن الله تعالى أنزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: ١٠] وقوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[الأنعام: ١٥٢] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم فاختلّت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم فثقل ذلك على الناس فقال عبد الله ابن رواحة، وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري: يا رسول الله ما لكلنا منازل تسكنها الأيتام، ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يردهما لليتيم فهل يجوز مخالطة اليتامى بالطعام والشراب والمسكن أم لا؟ فنزلت هذه الآية: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي قل يا أشرف الخلق إصلاح أموالهم من غير أخذ أجرة خير لكم من ترك مخالطتهم وأعظم أجرا لكم وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز لأنهم إخوانكم في الدين وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي يعرف المفسد لأموالهم بالمخالطة من المصلح لها وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في أموالهم بالنكاح ممن أراد الإصلاح وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لكلفكم ما يشتد عليكم أو لضيق الأمر عليكم في مخالطتهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب على أمره قوي بالنقمة لمفسد مال اليتيم حَكِيمٌ (٢٢٠) يحكم بما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس طاقة البشر
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ أي
75
ولا تتزوجوا المشركات بالله إلى أن يؤمن بالله بأن يقررن بالشهادة ويلتزمن أحكام الإسلام هذا مقصور على غير الكتابيات لما
روي عن جابر بن عبيد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا»
«١».
وروى عبد الرحمن بن عوف أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في حق المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم»
«٢». وسبب نزول هذه الآية ما
روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا، فعند قدومه جاءته امرأة مشركة اسمها عناق فالتمست الخلوة فقال: ويحك إن الإسلام حال بيني وبينك! فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: نعم، ثم وعدها أن يأذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلما انصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرفه ما جرى في أمر عناق وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
أي لنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح مشركة ولو أعجبتكم تلك المشركة بحسنها أو بمالها أو بحريتها أو بنسبها.
قال السدي: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن رواحة، كان له أمة فأعتقها وتزوج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة!؟ وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله تعالى تلك الآية. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي ولا تزوجوا الكفار ولو كانوا أهل كتاب المؤمنات حتى يؤمنوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ أي تزويجكم لعبد مؤمن خير من تزويجكم لمشرك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ذلك المشرك لماله وجماله وقوته وحريته أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إلى النار فإن الزوجية مظنة المحبة وذلك يوجب الموافقة في الأغراض وربما يؤدي ذلك إلى انتقال الدين بسبب موافقة المحبوب وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بتبيان هذه الأحكام من الإباحة والتحريم فإن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ أي بتيسيره تعالى وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن «والمغفرة بإذنه» بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسير الله تعالى. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ أي أمره ونهيه في التزويج والتزويج لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) قبح المنهي عنه وحسن المدعو إليه.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أي الحيض والسائل عن ذلك ثابت الدحداح الأنصاري، وقيل:
عباد بن بشر وأسيد بن الحضير، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس. وأما
(١) رواه السيوطي في الدر المنثور (٢: ٢٦١).
(٢) رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٩: ٤٣٧)، والبيهقي في السنن الكبرى (٩: ١٨٩)، والساعاتي في بدائع المنن (٣: ٢٢٩).
76
النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض. قُلْ يا أشرف الخلق: هُوَ أي الحيض أَذىً أي قذر الرائحة المنكرة التي فيه واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «دم الحيض هو الأسود المحتدم»
«١» أي المحترق من شدة حرارته فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي في موضع الحيض وَلا تَقْرَبُوهُنَّ أي لا تجامعوهن حَتَّى يَطْهُرْنَ وهذا تأكيد لحكم الاعتزال.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، ويعقوب الحضرمي «حتى يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء بمعنى: حتى يزول عنهن الدم. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء بمعنى يغتسلن فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن أو تيممن عند تعذر استعمال الماء فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي فجامعوهن في موضع أمركم الله به وهو القبل.
وقال الأصم والزجاج: أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات بالنسك، وفهم من هذا الشرط أنه يشترط بعد انقطاع الحيض الاغتسال لأنه قد صار المجموع غاية وذلك بمنزلة قولك: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامك بالأمرين جميعا، واتفق مالك والأوزاعي والثوري والشافعي: أنه إذا انقطع حيض المرأة لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، والمشهور عن أبي حنيفة: أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ بالندم على ما مضى من الذنب والترك في الحاضر والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) أي المتنزهين عن المعاصي من إتيان النساء في زمان الحيض والإتيان في الأدبار. وقيل: يحب المستنجين بالماء نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي فروج نسائكم مزرعة لأولادكم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي مزرعتكم أَنَّى شِئْتُمْ أي من أيّ جهة شئتم، أي فالمراد من هذه الآية أن الرجل مخيّر بين أن يأتي زوجته من قبلها في قبلها وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها لأن سبب نزول هذه الآية ما
روي أن اليهود قالوا: من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلا، وزعموا أن ذلك في التوراة فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «كذبت اليهود»
«٢».
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من الأعمال الصالحة كالتسمية عند الجماع وطلب الولد.
روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال بسم الله عند الجماع فأتاه ولد فله حسنات بعدد أنفاس ذلك الولد وعدد عقبه إلى
(١) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، ورد دون لفظة «المحتدم».
(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح، باب: ما جاء في العزل، وأحمد في (م ٣/ ص ٣٣).
77
يوم القيامة»
«١». أي قدّموا ما يدخر لكم من الثواب ولا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وَاتَّقُوا اللَّهَ في أدبار النساء ومجامعتهن في الحيض وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي الله بالبعث فتزودوا ما تنتفعون به فإنه تعالى يجزيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) خاصة بالثواب والكرامة وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أي ولا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب إيمانكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.
قال ابن عباس: ارجعوا إلى ما هو خير لكم وكفّروا يمينكم. نزلت هذه الآية في شأن عبد الله ابن رواحة فإنه حلف بالله أن لا يحسن إلى أخته وختنه- أي زوج أخته بشير بن النعمان- ولا يكلمهما ولا يصلح بينهما فكان إذا قيل له في الصلح يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي أن لا أبرّ في يميني. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بيمينكم بترك الإحسان عَلِيمٌ (٢٢٤) بنياتكم وبكفارة اليمين لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال الشافعي رضي الله عنه: إن اللغو قول العرب لا والله، وبلى والله في الشراء والبيع وغير ذلك مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال: لا والله ألف مرة.
وقال أبو حنيفة: إن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، فالشافعي لا يوجب الكفارة في المسألة الأولى ويوجبها في الثانية. وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدته من الإيمان بجد وربطت به فحنثتم فإذا حلف على شيء بالجد في أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يحصل فقد قصد بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك فلم يكن ذلك لغوا بل كان حاصلا بكسب القلب وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم الاحتياط حَلِيمٌ (٢٢٥) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أي للذين يحلفون أن لا يجامعوهن مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر انتظارا أربعة أشهر فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا عن اليمين بالحنث بأن جامعوا قبل أربعة أشهر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ليمينهم إن تابوا بفعل الكفارة رَحِيمٌ (٢٢٦) حيث بين كفارتهم وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي إن حققوا الطلاق وبروا يمينهم فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ليمينهم عَلِيمٌ (٢٢٧) بعزمهم فليس لهم بعد التربص إلا الفيئة أو الطلاق. فإن بر المولى يمينه وترك مجامعة امرأته حتى تجاوز أربعة أشهر بانت منه امرأته بتطليقة واحدة، وإن جامعها قبل ذلك فعليه كفارة اليمين كما قاله ابن عباس وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول
(١) رواه الدارمي في كتاب النكاح، باب: القول عند الجماع، «بما معناه».
78
بهن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ في العدة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فلا تتوقف العدة على ضرب قاض وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الحبل والحيض معا وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزوج وأحبت التزوج بزوج آخر، أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل. وإذا كتمت الحيض فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يجترئن على ذلك الكتمان وهذا الشرط للتغليظ حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضا وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ أي أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص إِنْ أَرادُوا أي البعولة بالرجعة أَصْلَحا والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يراجعون المطلقات، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة فنهوا عن ذلك. وَلَهُنَّ عليهم من الحقوق مِثْلُ الَّذِي لهم عَلَيْهِنَّ من الحقوق بِالْمَعْرُوفِ شرعا في حسن المعاشرة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة في الحق لأن حقوقهم عليهن في أنفسهن وحقوقهن عليهم في المهر والنفقة وَاللَّهُ عَزِيزٌ يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه حَكِيمٌ (٢٢٨) فيما حكم بين الزوجين الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج هو أن يوجد مرتان فالواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أي رجعة بحسن عشرة ولطف معاملة لا على قصد إضرار، أو تسريح أي إرسال بترك المراجعة حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة بإحسان أي بغير ذكر سوء بعد المفارقة وبأداء جميع حقوقها المالية، وهذه الآية متناولة لجميع الأحوال لأن الزوج بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ. أو يتركها حتى تبين بانقضاء العدة وهو المراد بقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. أو يطلقها ثالثة وهو المراد بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام ولو جعلنا التسريح طلقة ثالثة لكان قوله تعالى: فإن طلقها طلقة رابعة، فإنه غير جائز وسبب نزول هذه الآية: أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها بأن زوجها يطلقها ويراجعها كثيرا وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أي ومن جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها لأنه استمتع بها في مقابلة ما أعطاها إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أن لا يراعيا مواجب أحكام الزوجة.
وقرأ حمزة «يخافا» بضم الياء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي فلا حرج على الزوج في أخذ ما افتدت الزوجة به نفسها من المال ليطلقها، ولا عليها في إعطائه إياه بطيبة نفسها. نزلت هذه الآية في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وفي شأن جميلة بنت عبد الله ابن
79
أبي اشترت نفسها من زوجها بمهرها.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت: «خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها»
«١». ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام. وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.
تنبيه: يجوز أن يكون أول الآية وهو قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا خطابا للأزواج وآخرها. وهو قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون، ثم الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن كما قرئ قراءة شاذة «إلا أن يظنوا». والخوف إما أن يكون من قبل المرأة فقط أو من قبل الزوج فقط أو من قبلهما معا، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما فإن كان الخوف من قبل المرأة بأن تكون ناشزة مبغضة للزوج فيحل له أخذ المال منها، وإن كان من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفداء فهذا المال حرام كما كان الخوف حاصلا من قبلهما معا فذلك المال حرام أيضا وإن لم يحصل الخوف من قبل واحد منهما. فقال أكثر المجتهدين: إن هذا الخلع جائز والمال المأخوذ حلال. وقال قوم: إنه حرام تِلْكَ أي ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع حُدُودَ اللَّهِ أي أحكام الله بين المرأة والزوج فَلا تَعْتَدُوها أي فلا تتجاوزوا عنها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي ومن يتجاوز أحكام الله إلى ما نهى الله عنه له فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) أي الضارون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه فَإِنْ طَلَّقَها بعد الطلقتين فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد التطليقة الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي المطلق مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط تعتد منه وتعقد للثاني ويطؤها ثم يطلقها ثم تعتد منه.
وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد.
روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي- بفتح الزاي وكسر الباء- فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقالت: كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، وإنه أراد أن يطلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة!؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»
«٢». و «العسيلة» مجاز عن قليل
(١) رواه الدارمي في كتاب الطلاق، باب: في الخلع.
(٢) رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: إذا طلّقها ثلاثا ثم تزوجت امرأة بعد العدة زوجا-
80
الجماع، إذ يكفي قليل انتشار. وفي قصة عبد الرحمن بن الزبير نزل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ والحكمة في التحليل الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعودة إلى المطلقة ثلاثا فَإِنْ طَلَّقَها أي طلق الزوج الثاني المطلقة ثلاثا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي المرأة والزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد ومهر إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أحكام الله فيما بين المرأة والزوج وَتِلْكَ أي الأحكام حُدُودَ اللَّهِ أي فرائض الله يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) أنه من الله ويصدقون بذلك
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهن ولم تنقض فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي فراجعوهن بغير ضرار بل بحسن الصحبة والمعاشرة أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي أو خلوهن حتى ينقضي أجلهن بغير تطويل وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً أي لا تراجعوهن بسوء العشرة وتضييق النفقة لِتَعْتَدُوا أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء ولتطيلوا عليهن العدة. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار- يدعى ثابت بن يسار- طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الإمساك المؤدي إلى الظلم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي أضر بنفسه بتعريضها إلى عذاب الله وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ أي أمر الله ونهيه هُزُواً بأن تعرضوا عنها وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية، أي فاشكروها واحفظوها. وَما أَنْزَلَ الله عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ أي السنة يَعِظُكُمْ بِهِ أي يأمركم وينهاكم بما أنزل عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره كلها ولا تخالفوه في نواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وتذرون وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ والخطاب إما للأزواج والمعنى حينئذ: وإذا طلقتم النساء فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن من يريدون أن يتزوجوهن فإن الأزواج قد يعضلون مطلقاتهم أن يتزوجن ظلما، وإما للأولياء فنسبة الطلاق إليهم باعتبار تسببهم فيه كما يقع كثيرا أن الولي يطلب من الزوج طلاقها. والمعنى حينئذ وإذا خلصتم النساء من أزواجهن بتطليقهن فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن الرجال الذين كانوا أزواجا لهن.
روي أن معقل بن يسار زوج أخته جميلة عبد الله بن عاصم فطلقها وتركها حتى انقضت
غيره فلم يمسها، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: الطلاق للتي تنكح زوجا ثم لا يدخل بها، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب: الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها إلخ، والموطأ في كتاب النكاح، باب: نكاح المحلل وما أشبه، وأحمد في (م ١/ ص ٢١٤).
81
عدتها، ثم ندم، فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك، فقال لها معقل: إنه طلقك ثم تريدين مراجعته! وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه. فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معقلا وتلا عليه هذه الآية فقال معقل: رغم أنفي لأمر ربي اللهم رضيت وسلمت لأمرك، ثم أنكح أخته زوجها الأول عبد الله بن عاصم إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ أي بأن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه بِالْمَعْرُوفِ أي بالجميل عند الشرع المستحسن عند الناس ذلِكَ أي تفصيل الأحكام يُوعَظُ بِهِ أي يأمر به مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه المتعظ ذلِكُمْ أي العمل بالوعظ أَزْكى لَكُمْ أي أصلح وأنفع لكم وَأَطْهَرُ للقلوب من العداوة والتهمة بسبب المحبة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه صلاح أموركم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) ذلك فدعوا رأيكم. وَالْوالِداتُ ولو مطلقات يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ من الأبوين وليس فيما دون ذلك حد وإنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي على الأب رِزْقُهُنَّ أي نفقتهن وَكِسْوَتُهُنَّ لأجل الإرضاع إذا كن مطلقات من الأب طلاقا بائنا لعدم بقاء علقة النكاح الموجبة لذلك فلو لم ترضعهم الوالدات لم يجب فإن كن زوجات أو رجعيات فالرزق والكسوة لحق الزوجية ولهن أجرة الرضاع إن امتنعن منه وطلبن ما ذكر بِالْمَعْرُوفِ أي بغير إسراف وتقتير لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ بالنفقة على الرضاع إِلَّا وُسْعَها أي إلا بقدر ما أعطاها الله من المال لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها أي بأخذ ولدها منها بعد ما رضيت بما أعطى غيرها على الرضاع مع شدة محبتها له وَلا مَوْلُودٌ لَهُ أي لا يضار أب بِوَلَدِهِ بطرح الولد عليه بعد ما عرف أمه، ولا يقبل ثدي غيرها مع أن الأب لا يمتنع عليها من الرزق والكسوة وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أي على الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى مثل ما على الأب من النفقة والكسوة، فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على الرضاعة ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الولدان وهو قول مالك والشافعي. وقيل: المراد من الوارث الباقي من الأبوين أخذا من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا»
«١» فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطام الصبي عن اللبن قبل تمام الحولين عَنْ تَراضٍ أي باتفاق مِنْهُما لا من أحدهما فقط وَتَشاوُرٍ أي تدقيق النظر فيما يصلح الولد فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
(١) رواه الحاكم في المستدرك (١: ٥٢٣)، والبخاري في الأدب المفرد (٦٥٠)، والطبراني في المعجم الكبير (٢: ١٠٨)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (٥٥٩)، وعبد الرزاق في المصنف (١٩٦٦٠)، والهيثمي في مجمع الزوائد (١٠: ١٧٨)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٦٢١)، والسيوطي في جمع الجوامع (٩٨٢١)، وأبي نعيم في حلية الأولياء (٢: ١٨٢)، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (٩٣).
82
في ذلك وكما يجوز عن النقص عن الحولين عند اتفاق الأبوين عليه كذلك تجوز الزيادة عليهما فاتفاقهما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أي إن أردتم أن تطلبوا مراضع لأولادكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في الاسترضاع إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ما آتيتموهن إياه، أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة.
وقرأ ابن كثير وحده ما أتيتم مقصورة الألف أي «ما أتيتم» به أي ما أردتم إتيانه بِالْمَعْرُوفِ أي بالموافقة وليس تسليم الأجرة شرطا لصحة الإجارة بل لتكون المرضعة طيبة النفس راضية فيصير ذلك سببا لصلاح حال الصبي وللاحتياط في مصالحه وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرار والمخالفة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) فيجازيكم على ذلك وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أي والذين تقبض أرواحهم من رجالكم ويتركون أزواجا ينتظرن بعدهم بأنفسهن في العدة أربعة أشهر وعشرة أيام. وهذه العدة سببها الوفاة عند الأكثرين لا العلم بالوفاة كما قال به بعضهم، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغ المرأة خبر وفاة زوجها وجب أن تعتد بما انقضى والدليل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت في تركهن فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين وغيره من كل ما حرم عليهن في زمن العدة لأجل وجوب الإحداد عليهن بِالْمَعْرُوفِ أي بما يحسن عقلا وشرعا. وقيل: المخاطب بهذا الخطاب جميع المسلمين، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع، فإن عجز
وجب عليه أن يستعين بالسلطان وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر خَبِيرٌ (٢٣٤) فيجازيكم عليه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي ولا حرج عليكم فيما طلبتم النكاح من النساء المعتدات للوفاة وللطلاق الثلاث بطريق التعريض، وهو ذكر كلام محتمل مؤكد بدلالة الحال على المقصود كأن يقول: إن جمع الله بيننا بالحلال يعجبني ذلك أو فيما أضمرتم في قلوبكم من قصد نكاحهن عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي إنما أباح لكم التعريض لعلمه بأنكم لا تصبرون على السكوت عنهن لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهى من العزم والتمني، وبأنه لا بدّ من كونكم ستذكرونهن بالخطبة فاذكروهن ولكن لا تواعدون بذكر الجماع وهو كما قال ابن عباس بأن لا يصف الخاطب نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول لها: آتيك الأربعة والخمسة إلا أن تساررونهن بالقول غير المنكر شرعا كأن يعدها الخاطب في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض وَلا تَعْزِمُوا أي لا تحققوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها وصارت منقضية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي
83
أَنْفُسِكُمْ
من العزم على ما نهيتم عنه فَاحْذَرُوهُ بالاجتناب عن العزم على ذلك وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى حَلِيمٌ (٢٣٥) لا يعاجلكم بالعقوبة عن ذنوبكم لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً.
وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء وبالألف بعد الميم، أي لا ثقل عليكم بلزوم المهر إن طلقتم النساء ما لم تجامعوهن أو ما لم تبينوا لهن مهرا فلا تعطوهن المهر. وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) أي أعطوهن متعة الطلاق جبرا لا يحاش الطلاق على الغني قدر ماله وإمكانه وعلى ضيق الرزق قدر ماله وطاقته تمتيعا بالوجه الذي تستحسنه الشريعة والمروءة واجبا على المؤمنين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى طاعة الله تعالى، لأن المتعة بدل المهر. نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمتعها». قال: لم يكن عندي شيء، قال:
«متعها بقلنسوتك»
«١». وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي وقد بينتم مهورهن فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فنصف ما بينتم ساقط إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ إلا أن تسهل الزوجات بإبراء حقها فيسقط كل المهر أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي أو يسهل الزوج ببعث كل الصداق فيثبت الكل إليها. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي عفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للألفة وطيب النفس من عدم العفو الذي فيه التنصيف.
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي ولا تتركوا أن يتفضل بعضهم على بعض بأن يسلم الزوج المهر إليها بالكلية، أو تترك المرأة المهر بالكلية إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ من الفضل والإحسان بَصِيرٌ (٢٣٧) لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم عليه. حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ الخمس بأدائها في أوقاتها كاملة الأركان والشروط. وهذه المحافظة تكون بين العبد والرب كأنه قيل له:
احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وتكون بين المصلي والصلاة فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي الفضلى. قيل: هي صلاة الصبح، وهو قول علي وعمر، وابن عباس وجابر، وأبي أمامة والباهلي- وهم من الصحابة- وطاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد- وهم من التابعين- وهو مذهب الشافعي. فإن أولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار. ولأنها منفردة في وقت واحد لا تجمع مع غيرها، ولأنها مشهودة لأنها تؤدي بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار وقيل: هي صلاة العصر وهو مروي عن علي وابن مسعود، وابن عباس وأبي هريرة فإنها متوسطة بين صلاة شفع وصلاة وتر، ولأن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل، فلما كانت معرفته أشق كانت الفضيلة فيها أكثر.
(١) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (٢٧٩٢٣)، وفيه «ولو بصاع»
84
وقال بعض الفقهاء: العصر وسط ولكن ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر، أحدهما ثبتت بالقرآن والأخرى بالسنة، كما أن الحرم حرمان حرم مكة بالقرآن، وحرم المدينة بالسنة. واختار جمع من العلماء أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها فأبهمها الله تعالى تحريضا للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء ليحافظوا على جميعها، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا من الموت في كل الأوقات فيكون آتيا بالتوبة في كل الأوقات. وَقُومُوا لِلَّهِ في الصلاة قانِتِينَ (٢٣٨) أي ذاكرين داعين مواظبين على خدمة الله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أي فإن خفتم من عدو وغيره فصلوا مشاة على أرجلكم بالإيماء في الركوع والسجود، أو راكبين على الدواب حيثما توجهتم. والخوف الذي يفيد هذه الرخصة، إما أن يكون في القتال أو في غير القتال. فالخوف في القتال: إما أن يكون في قتال واجب أو مباح فالقتال الواجب هو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ويلتحق به قتال أهل البغي. وكما إذا قصد الكافر نفسه فإنه يجب الدفع عنه لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام. وقد جوّز الشافعي أداء الصلاة حال المسايفة. والقتال المباح: هو أن يدفع الإنسان عن نفسه وعن كل حيوان محترم فيجوز في ذلك هذه الصلاة، أما إذا قصده إنسان بأخذ المال فالأصح أنه تجوز هذه الصلاة
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد»
«١» فالدفع عن المال كالدفع عن النفس.
وقيل: لا تجوز لأن حرمة الروح أعظم، والخوف الحاصل في غير القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع، والمطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بينة الإعسار فلهم أن يصلوا هذه الصلاة. فَإِذا أَمِنْتُمْ بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فافعلوا الصلاة كَما عَلَّمَكُمْ بقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه. والصلاة تسمى ذكرا كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: ٩] ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم ف «ما» مفعول لعلمكم إن جعلت «ما» الأولى مصدرية، أما إن جعلت موصولة فما هذه بدل من الأولى أو من العائد المحذوف وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ
(١) رواه الترمذي في كتاب الديات، باب: ٢١، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: ٢٢٦، والبخاري في كتاب المظالم، باب: من قاتل دون ماله، وأبو داود في كتاب السنّة، باب:
في قتال اللصوص، والنسائي في كتاب التحريم، باب: من قتل دون ماله، وابن ماجة في كتاب الحدود، باب: من قتل دون ماله فهو شهيد، وأحمد في (م ١/ ص ٧٩).
85
أي والذين يقربون من الوفاة من رجالكم ويتركون أزواجا، عليهم أن يوصوا وصية لزوجاتهم في أموالهم بثلاثة أشياء: النفقة، والكسوة، والسكنى، إلى تمام الحول من موتهم غير مخرجات من مسكنهن.
من التزين ومن الإقدام على النكاح.
أو المعنى لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها في الذي فعلن في أنفسهن من معروف من تزين وتشوف للتزويج وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره يعاقب من خالفه حَكِيمٌ (٢٤٠) يراعي في أحكامه مصالح عباده واختيار جمهور من المفسرين أن هذه الآية منسوخة، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة، ولكنها كانت مخيرة بين أن تعتد في بيت الزوج وأن تخرج منه قبل الحول، لكن متى خرجت نفقتها فهذه الوصية صارت مفسرة بالنفقة والكسوة والسكنى إلى الحول، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين: النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والاعتداد سنة، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنّة توجب المنع من التزويج بزوج آخر في هذه السنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين وقد دل القرآن على ثبوت الميراث لها بتعيين الرابع أو الثمن، ودلت السنّة على أنه «لا وصية لوارث» فصار مجموع القرآن والسنّة ناسخا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول، ووجوب العدة في الحول منسوخ بقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: ٢٣٤].
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ أي متعة بِالْمَعْرُوفِ أي بقدر حال الزوجين وما يليق بهما حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) قال الشافعي رحمه الله: لكل مطلقة متعة، إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس. روي أنه لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ إلى قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل من المسلمين: إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل. فقال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي على كل من كان متقيا عن الكفر كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ هذا وعد من الله تعالى بأنه سيبين لعباده من الأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أي لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها ثم ذكر خبر غزاة بني إسرائيل فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ
86
مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أي لم يصل علمك إلى الذين خرجوا من منازلهم لقتال عدوهم وهم ثمانية آلاف أو أربعون ألفا- كل ذلك عن ابن عباس على اختلاف الرواة- فجبنوا عن القتال مخافة القتل فأماتهم الله مكانهم ثم أحياهم بعد ثمانية أيام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تذهب إليها فيها الوباء فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء، فأماتهم الله تعالى بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم، فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر، فأحياهم الله بعد الثمانية، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي على أولئك القوم بسبب أنه أحياهم ومكّنهم من التوبة وعلى العرب الذين أنكروا المعاد الذين تمسكوا بقول اليهود في كثير من الأمور فيرجعون من الإنكار إلى الإقرار بالبعث بسبب إخبار اليهود لهم بهذه الواقعة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) فضله تعالى كما ينبغي أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. وهذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبيده لأن ذكر هذه القصة سبب لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة. ثم قال الله لهم بعد ما أحياهم:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله مع عدوكم وسميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين فكان طاعة فلا شك أن المجاهد مقاتل في سبيل الله. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكلامكم في ترغيب الغير في الجهاد وفي تنفير الغير عنه عَلِيمٌ (٢٤٤) بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لغرض الدنيا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.
قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي «فيضاعفه» بالألف والرفع. وقرأ عاصم «فيضاعفه» بالألف والنصب. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالتشديد والرفع بلا ألف. وقرأ ابن عامر «فيضعفه» بالتشديد والنصب. والمعنى من ذا الذي يعامل الله بإنفاق ماله في طاعته سواء كان الإنفاق واجبا أو متطوعا به معاملة جامعة للحلال الذي لا يختلط بالحرام للخالص من المن والأذى، ولنية التقرب إلى الله تعالى لا لرياء وسمعة فيضاعف الله جزاءه له في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة»
. ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء فهو يطلب منا القرض وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقبض الرزق عمن يشاء ولو أمسكه عن الإنفاق ويبسطه على من يشاء ولو أنفق منه كثيرا، أو المعنى والله يفيض بعض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة
87
ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) فلا مدبر ولا حاكم سواه.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن أبي الدحداح- رجل من الأنصار- قال: يا رسول الله إن لي حديقتين، فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال: «نعم» وأم الدحداح معي؟ قال: «نعم». قال والصبية معي؟ قال: «نعم». فتصدق بأفضل حديقتيه وكانت تسمى الجنينية فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته أم الدحداح: بارك الله لك في ما اشتريت. فخرجوا منها وسلموها فكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح»
«١». أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي ألم تخبر يا أشرف الخلق عن قصة الرؤساء من بني إسرائيل من بعد وفاة موسى حين قالوا لنبيهم شمويل كما قاله وهب بن منبه أو سمعون، أو يوشع بن نون كما قاله قتادة، أو حزقيل كما حكاه الكرماني أو أسماويل بن حلفا- واسم أمه حسنة- كما قاله مجاهد. وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ذلك أنه لما مات موسى وعظمت الخطايا، سلط الله عليهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم حينئذ نبي يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، فولدت غلاما فلما كبر كفله شيخ من علمائهم في بيت المقدس، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة فإن كنت صادقا فبيّن لنا ملك الجيش نُقاتِلْ بأمره عدونا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإنما كان صلاح أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وبطاعة الملوك أنبياءهم فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي هو الذي يقيم أمره ويشير عليه برشده. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي قال نبيهم: هل قاربتم أن لا تقاتلوا عدوكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي أيّ شيء ثبت لنا في ترك القتال الذي في طاعة الله، والحال أنه قد أبعد بعضنا من المنازل والأولاد والقائلون لنبيهم بما ذكر كانوا في ديارهم فسأل الله تعالى ذلك النبي فأوجب عليهم القتال وعين لهم ملكا ليقاتل بهم فَلَمَّا كُتِبَ أي أوجب عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قتال عدوهم لما شاهدوا كثرة العدو وشوكته إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة وثلاثة
(١) رواه أحمد في (م ٥/ ص ٩٥)، والهيثمي في مجمع الزوائد (٩: ٣٢٤)، والطبراني في المعجم الكبير (٢: ٢٤٢).
88
عشر على عدد أهل بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قبل من ربه وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ أي لأجل سؤالكم طالُوتَ مَلِكاً أي لما سأل الله تعالى أن يبين لهم ملكا أرسل الله له عصا وقرنا فيه دهن القدس وقيل له: إن صاحبك الذي يكون ملكا هو من يكون طوله طول هذه العصا، وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فانتشر الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملّكه عليهم واسمه طالوت.
فدخل عليه رجل فانتشر الدهن في القرن فقام شمويل فقاسه بالعصا فكان على طولها وقال له: قرّب رأسك، فقربه فدهنه النبي بدهن القدس وقال له:
«أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم». فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى من سبط ملوك بني إسرائيل؟ قال: بلى. فقال شمويل الله يؤتي ملكه من يشاء كما قال الله تعالى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أي قالوا: من أين يكون له الملك علينا والحال نحن أولى بالملك منه، وليس له سعة المال لينفق على الجيش؟. وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة. فكان سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون عليهما السلام. وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه داود وسليمان عليهما السلام. ولم يكن طالوت من أحدهما وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا وقالوا: هو دبّاغ، أو راع، أو سقّاء يستقي الماء على حمار له وإنما نزع الملك والنبوة منهم لأنهم عملوا ذنبا عظيما كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهارا فغضب الله عليهم بنزع ذلك منهم وكانوا يسمون سبط الإثم.
قالَ أي نبيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ أي اختاره بالملك عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً أي سعة فِي الْعِلْمِ أي علم الحرب وعلم الديانات حتى قيل: إنه نبي أوحي إليه وَالْجِسْمِ بالقوة على مبارزة العدو، وبالجمال وبطول القامة فإنه أطول من غيره برأسه ومنكبيه فكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ في الدنيا وَاللَّهُ واسِعٌ بالعطية عَلِيمٌ (٢٤٧) بمن يليق بالملك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما قالوا: ليس ملكه من الله بل أنت ملّكته علينا: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أي إن علامة صحة ملكه من الله أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي الصندوق الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة وكانوا يعرفونه، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل لما عصوا وفسدوا، فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء إلى الأرض والملائكة يحفظونه فأتاهم والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل عنهم الخوف من العدو
89
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ وهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه ونعلاه وشيء من التوراة ورداء هارون وعمامته تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي تسوقه الملائكة إليكم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في رد التابوت إليكم لَآيَةً لَكُمْ أي علامة لكم دالة على أن ملكه من الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) أي مصدقين بتمليكه عليكم. أو المعنى أن في هذه الآية من نقل القصة معجزة باهرة دالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبر بهذه التفاصيل من غير سماع من البشر إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة والرسالة. فلما رد عليهم التابوت قبلوا وخرجوا معه وهم ثمانون ألفا من الشبان الفارغين من جميع الأشغال فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ أي خرج من بيت المقدس بِالْجُنُودِ أي بالجيش التي اختارها وكان الوقت قيظا وسلك بهم في أرض قفرة فأصابهم حر وعطش شديد فطلبوا منه الماء قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي مختبركم بنهر جار ليظهر منكم المطيع والعاصي- وهو بين الأردن وفلسطين- أي والمقصود من هذا الابتلاء أن يميز الصدّيق عن الزنديق والموافق عن المخالف فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي من ماء النهر فَلَيْسَ مِنِّي أي من أتباعي المؤمنين فلا يكون مأذونا في هذا القتال وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي من لم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنه مني ويكون أهلا لهذا القتال.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «غرفة» بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم. فالغرفة بالضم: الشيء القليل الذي يحصل في الكف.
والغرفة بالفتح: الفعل وهو الاغتراف مرة واحدة. فكانت تكفيهم هذه الغرفة لشربهم ودوابهم وحملهم. فَشَرِبُوا مِنْهُ أي فلما وصلوا إلى النهر وقفوا فيه وشربوا منه بالكرع بالفهم كيف شاءوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلم يشربوا إلا قليلا وهو الغرفة.
روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه، وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه وخدمه وحمله مع نفسه، إما لأنه كان مأذونا أي في أخذ ذلك المقدار، وإما لأن الله تعالى يجعل البركة في ذلك الماء حتى يكفي لكل هؤلاء وذلك معجزة لنبي الزمان. وأما الذين شربوا منه وخالفوا أمر الله تعالى فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو. فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أولئك القليل قالُوا أي بعض من معه من المؤمنين لبعض لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي بمحاربتهم وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي كم من جماعة قليلة من المؤمنين غلبت جماعة كثيرة من الكافرين بنصر الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) أي معين الصابرين في الحرب بالنصرة يحتمل أن
90
يقال: المؤمنين الذين عبروا النهر كانوا فريقين بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت فيخاف ويجزع، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى. فالأول: هم الذين قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ. والثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ويحتمل أن يقال القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فلا بد أن نوطن على القتل لأنه لا سبيل إلى القرار من أمر الله. والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصافوا لِجالُوتَ اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشام وَجُنُودِهِ قالُوا جميعا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به تعالى رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة وَثَبِّتْ أَقْدامَنا في مداحض القتال بكمال القوة عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) بقهرهم وهزمهم
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أي كسروهم بنصرة الله إجابة لدعائهم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام كان راعيا وله سبعة أخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف، وبادر جالوت الجبار وهو من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم، فقال داود لأخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها أخوته، فمرّ به طالوت وهو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي. فقال داود: فأنا خارج إليه. وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى. وكان طالوت عارفا بجلادته. فلما همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. فلما خرج إلى جالوت الكافر رماه فأصابه في صدره، ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ثلاثين رجلا، فهزم الله تعالى جنود جالوت، وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح بنو إسرائيل وانصرفوا إلى البلاد سالمين غانمين. فجاء داود إلى طالوت وقال: أنجزني ما وعدتني، فزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك كما وعده. فمكث معه كذلك أربعين سنة، فمات طالوت وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت واستقل داود بالملك سبع سنين، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى كما قال تعالى:
وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي الكامل سبع سنين بعد موت طالوت، أي ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها وَالْحِكْمَةَ أي النبوة بعد موت شمويل. وكان موته قبل
91
موت طالوت، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة لأحد قبله الإله، بل كان الملك في سبط، والنبوة في سبط آخر. ومع ذلك جمع الله تعالى له ولابنه سليمان بين
الملك والنبوة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعه الدروع من الحديد- وكان يلين في يده وينسجه- وفهم كلام الطير والنمل وكيفية القضاء وما يتعلق بمصالح الدنيا ومعرفة الألحان الطيبة. ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بأهلها.
قال ابن عباس: ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد. وقيل المعنى: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض بما فيها، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر.
روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه والبلاء». ثم قرأ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) كافة بسبب ذلك الدفع. تِلْكَ أي القصص بأخبار الأمم الماضية آياتُ اللَّهِ المنزّلة من عنده تعالى نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل بِالْحَقِّ أي ملتبسة باليقين الذي لا يشك فيه أحد من أهل الكتاب لما يجدونها موافقة لما في كتبهم وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) إلى الجن والإنس كافة بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع على أحد يخبرك بذلك. تِلْكَ الرُّسُلُ أي جماعة الرسل فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في مراتب الكمال بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بلا واسطة- وهو موسى- حيث كلمه ليلة الحيرة وهي تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر، وفي الطور. ومحمد حيث كلمه ليلة المعراج وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي فضائل وهو إبراهيم لأنه تعالى اتخذه خليلا ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة. وإدريس فإنه تعالى رفعه مكانا عاليا، وداود فإنه تعالى جمع له الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسليمان فإنه تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه السلام.
ومحمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه تعالى خصّه بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي العجائب من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ أي أعنّاه بجبريل في أول أمره وفي وسطه وفي آخره- وهو نفخ جبريل في عيسى وتعليمه العلوم وحفظه من الأعداء، وإعانته، ورفعه إلى السماء حين أرادت اليهود قتله- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الذين جاءوا
92
من بعد الرسل من الأمم المختلفة بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق وَلكِنِ اخْتَلَفُوا في الدين. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاءت به أولئك الرسل من كل كتاب وعملوا به. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بذلك فإن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وهذا التكرير ليس للتأكيد بل للتنبيه، على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم، بل الله تعالى مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ أي تصدقوا بشيء مما أعطيناكم من الأموال في طاعة الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ أي فداء فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أي مودة وَلا شَفاعَةٌ للكافرين.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح في «بيع» «خلة» و «شفاعة». والباقون جميعا بالرفع وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم حاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله تعالى.
وقيل: المعنى: والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب. اللَّهُ لا إِلهَ أي لا معبود بحق موجود إِلَّا هُوَ الْحَيُّ أي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء الْقَيُّومُ أي دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه في الإيجاد والأرزاق لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ أي نعاس وَلا نَوْمٌ ثقيل فيشغله عن تدبيره وأمره أي لا يأخذه نعاس فضلا عن أن يأخذه نوم. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذا رد على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء وللأصنام التي في الأرض، أي فلا تصلح أن تكون معبودة لأنها مملوكة لله مخلوقة له. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي لا يشفع عنده أحد من أهل السموات والأرض يوم القيامة إلا بأمره. وهذا رد على المشركين حيث زعموا أن الأصنام تشفع لهم فإنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما قبلهم وما بعدهم أو ما فعلوه من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي بقليل من معلوماته إِلَّا بِما شاءَ أن يعلموه أي أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى إلا ما شاء هو أن يعلمهم. أو المعنى أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فالكرسي جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة. وهو أوسع من السموات والأرض.
وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي لا يثقل عليه تعالى حفظ السموات والأرض بغير الملائكة. وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي بذاته عن الأشباه والأنظار. الْعَظِيمُ (٢٥٥) أي الذي يستحقر كل ما سواه بالنسبة إليه. فهو تعالى أعلى وأعظم من كل شيء.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين
93
يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة»
. وعن علي أنه قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت»
أي فإذا مات دخل الجنة. ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي لا إكراه على الدخول في دين الله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي قد تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الدلائل. وروي أنه كان لأبي الحصين الأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان قد تنصّرا قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فخلى سبيلهما، ثم نزل في شأن منذر بن ساوى التميمي قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي بالشيطان وبكل ما عبد من دون الله وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي فقد تمسك بالعقدة المحكمة لا انقطاع لها، أي فقد أخذ بالثقة لا انقطاع لصاحبها عن نعيم الجنة، ولا زوال عن الجنة ولا هلاك بالبقاء في النار وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر.
عَلِيمٌ (٢٥٦) بما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث، أو يقال: والله سميع عليم لدعائك يا محمد بحرصك على إسلام أهل الكتاب، وذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة. وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي الله ناصر الذين آمنوا، كعبد الله بن سلام وأصحابه يُخْرِجُهُمْ بلطفه وتوفيقه مِنَ الظُّلُماتِ أي الكفر إِلَى النُّورِ أي الإيمان وَالَّذِينَ كَفَرُوا ككعب بن الأشرف وأصحابه أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال مِنَ النُّورِ الفطري أي الذي جبل عليه الناس كافة أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والانهماك في الضلال. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أي ماكثون أبدا أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر إِلَى هذا الطاغوت كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات. الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي إلى قصة الذي خاصم إبراهيم في دين رب إبراهيم وهو نمروذ بن كنعان أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي فطغى وادعى الربوبية فحاج لأن أعطاه الله الملك. إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يخلق الحياة والموت في الأجساد.
وقرأ حمزة «ربي» بسكون الياء. وهذه المحاجة مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال: أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له: من
94
ربك؟ فقال له ذلك. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ له ائتني ببيان ذلك فدعا نمروذ برجلين من السجن، فقتل واحدا وترك واحدا قال: هذا بيان ذلك. قال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ في كل يوم فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ولو يوما واحدا إن كنت صادقا فيما تدّعيه من الربوبية فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي سكت بغير حجة أي فيبقى مغلوبا لا يجد للحجة مقالا ولا للمسألة جوابا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) بالكفر إلى طريق الحجة أَوْ كَالَّذِي أي أرأيت مثل الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هي بيت المقدس. كما أخرجه ابن جرير عن وهب عن قتادة، والضحاك وعكرمة والربيع. أو القرية التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم- وهم ألوف حذر الموت- كما نقل عن ابن زيد أي قد رأيت الذي مر على قرية كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان،
والمار هو عزير بن سروحا. كما روي عن علي بن أبي طالب،
وعن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت السقوف أولا ثم الأبنية. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها أي كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم تعجبا من قدرة الله تعالى على إحيائها فَأَماتَهُ اللَّهُ مكانه فكان ميتا مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه في آخر النهار. قالَ تعالى له: كَمْ لَبِثْتَ أي مكثت هنا يا عزير بعد الموت؟ - والقائل هو الله تعالى، أو ملك مأمور بذلك القول من قبله تعالى- قالَ لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر إلى الشمس وقد بقي منها شيء فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ أي الله له أو الملك بَلْ لَبِثْتَ ميتا مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ أي التعين والعنب وَشَرابِكَ أي العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير ولم ينصب في هذه المدة المتطاولة فكان التين، والعنب كأنه قد قطف من ساعته، والعصير كأنه قد عصر من ساعته، واللبن قد حلب من ساعته وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تقطعت أوصاله، وكيف تلوح عظامه بيضاء. فعلنا ذلك الإحياء لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي لكي نجعلك علامة للناس في إحياء الموتى أنهم يحيون على ما يموتون لأنه مات شابا، وبعث شابا وعبرة للناس لأنه كان ابن أربعين سنة وابنه ابن مائة وعشرين سنة وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار كَيْفَ نُنْشِزُها.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر بالراء أي كيف نحييها ونخلقها. وقرأ حمزة والكسائي «ننشزها» بالزاي المنقوطة أي كيف نرفع بعضها على بعض ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي ننبت عليها العصب والعروق، واللحم والجلد والشعر ونجعل فيه الروح بعد ذلك فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وقوع ما كان يستبعد وقوعه قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحياة والموت قَدِيرٌ (٢٥٩).
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سبب نزول هذه الآية قال: إن بختنصر البابلي غزا بني إسرائيل وهو في ستمائة ألف راية، فسبى من بني إسرائيل الكثير ومنهم عزير- وكان من
95
علمائهم- فجاء بهم إلى بابل، فدخل عزير تلك القرية التي انهدمت حيطانها، ونزل تحت شجرة وهو على حمار، فربط حماره وطاف في القرية، فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها- وذلك على سبيل الاستبعاد بحسب العادة لا على سبيل الشك في قدرة الله- وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة والتين والعنب وشرب من عصير العنب، وجعل فضل الفاكهة في سلة، وفضل العصير في زق، ونام. فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير، ثم أحياه الله تعالى بعد مائة ونودي من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت؟ فقال: يوما، فأبصر من الشمس بقية، فقال: أو بعض يوم. فقال الله تعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ من التين والعنب وَشَرابِكَ من العصير لم يتغير طعمها فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما، ثم قال تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله، وسمع صوتا: «أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا»، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور من الجلد، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق، فخرّ عزير ساجدا وقال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ثم إنه دخل بيت المقدس، لما روي أنه لما مضى من وقت موته سبعون سنة سلط الله ملكا من ملوك فارس فسار بجنوده حتى أتى بيت المقدس فعمروه وصار أحسن مما كان، ورد الله تعالى من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس ونواحيه، فعمروها ثلاثين سنة، وكثروا كأحسن ما كانوا، وأعمى الله العيون عن العزير هذه المدة فلم يره أحد، فلما مضت المائة أحيا الله تعالى منه عينيه وسائر جسده ميت، ثم أحيا الله تعالى جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره- كما سبق- فلما دخل بيت المقدس قال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن سروحا أو ابن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل في بيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت عورضت بما أملاه، فما اختلفا في حرف. فعند ذلك قالوا عزير ابن الله وَأ لم تر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ هذا دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.
قال الحسن والضحّاك وقتادة وعطاء وابن جريح: إنه رأى جيفة مطروحة في شط النهر فإذا مدّ البحر أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت. فقال إبراهيم: رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطوع السباع والطيور ودواب البحر قالَ تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أتسأل ولم توقن بقدرتي عن الإحياء قالَ بَلى أنا موقن بذلك وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي ولكن سألت ما سألت لتسكن حرارة قلبي،
96
وأعلم بأني خليلك مستجاب الدعوة، والمطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريا قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ أشتاتا: وزا، وديكا، وطاوسا، ورألا (وهو فرخ النعام) - كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق الضحاك- أو طاوسا وديكا وحمامة وغرنوقا (وهو الكركي) - كما أخرجه عنه من طريق حنش- فَصُرْهُنَّ.
قرأه حمزة بكسر الصاد. والباقون بضمها وتخفيف الراء أي قطعن وأملهن إِلَيْكَ فقطع إبراهيم أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي ثم ضع على كل جبل من أربعة أجبل منهن جزءهن أي على حسب الطيور الأربعة، وعلى حسب الجهات الأربعة أيضا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ بأسمائهن أي قل لهن: تعالين يا وز، ويا ديك ويا طاوس، ويا رأل بإذن الله تعالى يَأْتِينَكَ سَعْياً أي مشيا سريعا ولم تأت طائرة ليتحقق أن أرجلها سليمة في هذه الحالة وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ (٢٦٠) أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بذبحها ونتف ريشها، وتقطيعها جزءا جزءا، وخلط دمائها ولحومها. وأن يمسك رؤوسها بيده، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله تعالى، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها سعيا على أرجلها، وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى.
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي صفة صدقات الذين ينفقون أموالهم في دين الله كصفة حبة أخرجت سبع سنابل. أو المعنى مثل الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخيرات من الواجب والنفل كمثل زارع حبة أخرجت ساقا تشعب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن بل فيهما أكثر من ذلك وَاللَّهُ يُضاعِفُ فوق ذلك لِمَنْ يَشاءُ على حسب المنفق من إخلاصه وتعبه. ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب. وَاللَّهُ واسِعٌ أي لا يضيق عليه ما يتفضل به من التضعيف عَلِيمٌ (٢٦١) بنية المنفق وبمن يستحق المضاعفة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً والمن: هو الاعتداد بالنعمة واستعظامها على المنفق عليه. والأذى: بأن يؤذى المنفق عليه بالقول أو العبوس في وجهه أو الدعاء عليه. وقيل:
المراد هو المن على الله وهو العجب، والأذى لصاحب النفقة. لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي ثواب إنفاقهم عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فلا يخافون فقد أجورهم ولا يخافون
العذاب ألبتة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) على ما خلفوا من خلفهم
نزلت هذه الآية في حق عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف
97
دينار، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه يقول: «يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه» «١». وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار وقال: كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأخرجت أربعة آلاف لربي عز وجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت»
«٢». والمعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم في حوائجهم ومؤنتهم ولم يخطر ببالهم شيء من المن والأذى قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل من غير إعطاء شيء وَمَغْفِرَةٌ من المسؤول عن بذاءة لسان الفقير خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً لكونها مشوبة بضرر التعيير له بالسؤال وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقة العبادة، فإنما أمركم بالصدقة لينبئكم عليها. حَلِيمٌ (٢٦٣) إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أي أجر صدقاتكم بِالْمَنِّ وَالْأَذى.
قال ابن عباس: أي بالمن على الله معناه العجب بسبب صدقتكم، وبالأذى للسائل.
وقال الباقون: بالمن على الفقير وبالأذى للفقير كَالَّذِي أي كإبطال أجر نفقة الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ أي سمعة الناس ولطلب المدحة والشهرة وَكالذي وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو المنافق. فإن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا. إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما منّ على الفقير ولا آذاه. فالمقصود من الإبطال، الإتيان بالإنفاق باطلا، لأن المقصود الإتيان به صحيحا، ثم إحباطه بسبب المن والأذى والأوجه كما قال بعضهم: إذا فعل ذلك فله أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن فَمَثَلُهُ أي فحالة المرائي في الإنفاق كَمَثَلِ صَفْوانٍ. وقيل: الضمير عائد على المنافق، فيكون المعنى إن الله تعالى شبّه المانّ والمؤذي بالمنافق، ثم شبه المنافق بالحجر الكبير الأملس عَلَيْهِ تُرابٌ أي شي من التراب فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد فَتَرَكَهُ صَلْداً أي فجعل المطر ذلك الحجر أملس نقيا من التراب لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يقدرون على ثواب شيء في الآخرة مما أنفقوا في الدنيا رثاء، أو المعنى لا يجد المان والمؤذي ثواب صدقته، كما لا يوجد على الصفوان التراب بعد ما أصابه المطر الشديد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) إلى الخير والرشاد. وفي هذه الآية تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى- على الإنفاق- من خصائص الكفار فلا بدّ للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ أي مثل أموال الذين ينفقون أموالهم طلب رضاء الله تعالى ويقينا
(١) رواه القرطبي في التفسير (٣: ٣٠٦).
(٢) رواه ابن حجر في فتح الباري (٨: ٣٣٢). [.....]
98
من قلوبهم بالثواب من الله تعالى، وتصديقا بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا كمثل بستان في مكان مرتفع مستو أصابه مطر شديد كثير فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي فأخرجت ثمرها مضاعفا مثلي ما يثمر غيرها- بسبب الوابل- فتحمل من الريع في سنة ما يحمل غيرها في سنتين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي رش مثل الرذاذ يكفيها لجودتها ولطافة هوائها. والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عملا ظاهرا أو قلبيا بَصِيرٌ (٢٦٥) لا يخفى عليه شيء منه أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب حبا شديدا أو يتمنى أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أي بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تطرد الْأَنْهارُ من تحت شجر تلك الجنة ومساكنها. لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لذلك الأحد- حال كونه في الجنة- رزق من كل الثمرات وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أي وقد أصابه كبر السن فلا يقدر على الكسب. والحال أن له أولادا صغارا لا يقدرون على الكسب فَأَصابَها أي الجنة إِعْصارٌ أي ريح ترتفع إلى السماء كأنها عمود فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ أي تلك الجنة. والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة. إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب. فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته. كَذلِكَ أي مثل هذا البيان في أمر النفقة المقبولة وغيرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الدلائل في سائر أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) أي لكي تتفكروا في أمثال القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي زكوا من جياد ما جمعتم من الذهب والفضة وعروض التجارة والمواشي وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من الحبوب والثمار والمعادن. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي ولا تقصدوا الرديء من أموالكم مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فقوله «منه» استفهام على سبيل الإنكار، وهو متعلق بالفعل بعده. والمعنى أمن الخبيث تنفقون في الزكاة والحال أنكم لستم قابلي الخبيث إذا كان لكم حق على صاحبكم؟ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي إلا بأن تساهلوا في الخبيث وتتركوا بعض حقكم كذلك لا يقبل الله الرديء منكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم. حَمِيدٌ (٢٦٧) أي مستحق للحمد على نعمه العظام. وقيل: حامد بقبول الجيد وبالإثابة عليه. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي إبليس يخوفكم بالفقر عند الصدقة ويقول لكم: أمسكوا أموالكم فإنكم إذا تصدقتم صرتم فقراء. أو المعنى النفس الأمارة بالسوء توسوس لكم بالفقر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي بالبخل ومنع الزكاة والصدقة وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ يسبب الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ عز وجل وَفَضْلًا أي خلفا في الدنيا وثوابا في الآخرة وَاللَّهُ واسِعٌ بالمغفرة للذنوب وبإغنائكم وإخلاف ما تنفقونه عَلِيمٌ (٢٦٨) بنياتكم وصدقاتكم
99
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فالحكمة هي العلم النافع وفعل الصواب. فقيل في حد الحكمة: هي التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تخلّقوا بأخلاق الله تعالى»
. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ أي إصابة القول والفعل والرأي فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي أعطي خير الدارين وَما يَذَّكَّرُ أي ما يتفكر في الحكمة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) أي إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أي أيّ نفقة كانت في حق أو باطل، في سر أو علانية قليلة أو كثيرة. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي أيّ نذر كان في طاعة أو معصية، بشرط أو بغير شرط، متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي ما أنفقتموه فيجاز بكم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الزكاة وعدم الوفاء بالنذور، أو بالإنفاق بالخبيث أو بالرياء والمن والأذى مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) أي أعوان ينصرونهم من عقاب الله
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي أفضل من إيذائها وإيتائها الأغنياء.
روي أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا. وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «نكفر» بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم أي و «نكفر» عنكم شيئا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «يكفر» بالياء والرفع. والمعنى يكفر الله أو يكفر الإخفاء. وقرئ قراءة شاذة «تكفر» بالتاء وبالرفع والجزم والفاعل راجع للصدقات. وقرأ الحسن بالتاء والنصب بإضمار أن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الصدقة في السر والعلانية خَبِيرٌ (٢٧١) لا يخفى عليه شيء منه لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ
أي ليس عليك هدي من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إلى الدخول في الإسلام.
روي أن نبيلة أم أسماء بنت أبي بكر وجدتها وهما مشركتان جاءتا أسماء تسألانها شيئا.
فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكما لستما على ديني. فسألته عن الصدقة على الكفار فقالت: هل يجوز لنا يا رسول الله أن نتصدق على ذوي قرابتنا من غير أهل ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية. فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتصدق عليهما، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه فلا يضركم كفرهم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي ولستم في صدقتكم على أقاربكم من
100
المشركين تقصدون إلا وجه الله. فقد علم الله هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال على الفقراء يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفي إليكم ثواب ذلك في الآخرة وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، لأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة. لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ولا يستطيعون سفرا في الأرض، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لخوفهم من الأعداء كما قاله قتادة وابن زيد لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم فذلك يمنعهم من السفر، وإما لمرضهم بالجروح كما قاله سعيد بن المسيب ولعجزهم لفقرهم كما قاله ابن عباس وذلك يمنعهم من السفر فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي يظنهم من لم يختبر أمرهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة تَعْرِفُهُمْ أيها المخاطب بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم من الهيبة ووقع في قلوب الخلق وآثار الخشوع في الصلاة فكل من رآهم تواضع لهم.
روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف أي كثرة التلطف وملازمة المسؤول أي إنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. والمراد بقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا. عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذي السآل الملحف الذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح، وإن أعطي قليلا أفرط في الذم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) فيجازيكم على ذلك أحسن جزاء وهذا يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علمي شاهدا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في الصدقة بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بالدوام وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) إذا حزن غيرهم.
101
قيل: لما نزل قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلا فنزلت هذه الآية.
وقال ابن عباس: إن عليا رضي الله عنه ما يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على هذا؟» فقال: أن أستوجب ما وعدني ربي. فقال: «لك ذلك». فأنزل الله تعالى هذه الآية
. وقيل: نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية. وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.
وقال الأوزاعي نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد وينفقون عليها الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه استحلالا لا يَقُومُونَ من قبورهم إذا بعثوا إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أي إلا قياما كقيام الذي يتخبله الشيطان من إصابة الشيطان بالجنون في الدنيا، أي أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف بتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بالجنون. ذلِكَ أي كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي إنما الزيادة في البيع كالزيادة في الربا، أي ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله وقالوا: يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين، بل جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما وفي الثاني منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي زجر وتخويف عن الربا مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى أي امتنع عن أخذه فَلَهُ ما سَلَفَ.
قال السدي: أي له ما أكل من الربا وليس عليه ردما سلف فأما ما لم يقض بعد النهي فلا يجوز له أخذه وإنما رأس ماله فقط وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أي يجازيه على انتهائه عن أخذه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية وَمَنْ عادَ إلى تحليل الربا بعد التحريم فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) أي ماكثون أبدا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم. وَيُرْبِي
102
الصَّدَقاتِ أي يبارك في المال الذي أخرجت منه في الدنيا والآخرة
وفي الحديث: «إن الملك ينادي كل يوم اللهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا»
«١». وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أي جاحد بتحريم الربا أَثِيمٍ (٢٧٦) أي فاجر بأخذه مع اعتقاد التحريم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسله وكتبه وبتحريم الربا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي فيما بينهم وبين ربهم وتركوا الربا وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلوات الخمس بما يجب فيها وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) على محبوب فات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي اتركوا طلب ما بقي مما زاد على رؤوس أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) أي مصدقين بقلوبكم في تحريم الربا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به بأن لم تتركوا الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فاستعدوا للعذاب من الله في الآخرة بالنار، وللعذاب من رسوله في الدنيا بالسيف وَإِنْ تُبْتُمْ من معاملة الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أي أصولها دون الزيادة لا تَظْلِمُونَ الغريم بطلب الزيادة على رأس المال وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) أي بنقصان رأس المال وبالمطل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي وإن وقع غريم من غرمائكم ذو حالة يتعسر فيها وجود المال فيجب عليكم إمهاله إلى وقت يسار وسعة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي تصدقكم على المعسر برءوس أموالكم خير لكم من الأخذ والتأخير لأنه حصل لكم الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) فضل التصدق على الأنظار والقبض
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أي إلى حسابه لأعمالكم وهو يوم القيامة ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي توفى فيه كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملت من خير أو
شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) بنقص حسنة أو زيادة سيئة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله والرسول إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ أي إذا داين بعضكم بعضا، وعامله نسيئة معطيا أو آخذا إلى وقت معلوم بالأيام، أو الأشهر ونحوهما مما يرفع الجهالة لا بالحصاد ونحوه مما لا يرفعها، فاكتبوا الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع للنزاع. والأكثرون على أن هذه الكتابة أمر استحباب، فإن ترك فلا بأس وهو أمر تعليم ترجع فائدته إلى منافع الخلق في دنياهم، فلا يثاب عليه المكلف إلا إن قصد الامتثال.
قال المفسرون: المراد بالمداينة السلم، فالله تعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية، مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء: «لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله تعالى لتحصيل مثل
(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب: قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إلخ، وأحمد في (م ٢/ ص ٣٠٦).
103
تلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا». والقرض غير الدين، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير، أو حبا أو تمرا أو ما أشبه ذلك، ويسترد مثله ولا يجوز فيه الأجل. والدين يجوز فيه ذلك فذكر الأجل في القرض إن كان لغرض المقرض أفسده وإلا فلا يفسده ولا يجب الوفاء به لكنه يستحب.
قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في السلف لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»
«١».
وقال أكثر المفسرين: إن البياعات على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة ألبتة.
والثاني: بيع الدين بالدين. وهو باطل فلا يكون داخلا تحت هذه الآية.
وبيع العين بالدين: وهو إذا باع شيئا بثمن مؤجل.
وبيع الدين بالعين: وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية. وَلْيَكْتُبْ كتاب الدين بَيْنَكُمْ أي بين الدائن والمديون كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي بحيث لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص في ذلك وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ أي ولا يمتنع أحد من أن يكتب كتاب الدين بين الدائن والمديون على طريقة ما علمه الله كتابة الوثائق فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي وليبين المديون للكاتب ما عليه من الدين لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أي وليخش المديون ربه بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص مما عليه من الدين شيئا في إلقاء الألفاظ على الكاتب فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي فإن كان المديون ناقص العقل مبذرا أو عاجزا عن سماع الألفاظ للكاتب لصغر أو كبر مضعف للعقل، أو لا يحسن الإسماع بنفسه على الكاتب- لخرس أو جهل باللغة أو بما عليه- فليقر على
(١) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب: ١٢٨، والبخاري في كتاب السلم، باب: السلم إلى أجل معلوم، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في السلف، والترمذي في كتاب البيوع، باب: ٦٨، والنّسائي في كتاب البيوع، باب: السلف في الثمار، وابن ماجة في كتاب التجارة، باب: السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في السلف، وأحمد في (م ١/ ص ٢١٧).
104
الكاتب ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة. والمراد بالولي هو الولي لغة وهو من له ولاية عليه بأي طريق كان كوصي وقيّم ومترجم بِالْعَدْلِ أي بالصدق من غير زيادة ونقص. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أي وأشهدوا على الدين شاهدين من الرجال البالغين الأحرار المسلمين.
وعند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبيد. وأجاز أبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين بأن لم يقصد إشهادهما فرجل وامرأتان كائنون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ لدينه وعدالته مِنَ الشُّهَداءِ يشهدون. وهذا تفسير للخير. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.
قرأ حمزة «أن تضل» بكسر «إن»، «وتذكر» بالرفع والتشديد. وقرأ نافع وعاصم والكسائي «فتذكر» بالتشديد والنصب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب. أما سائر القراء فقرأوا بنصب «أن» على حذف لام التعليل، أي وإنما اشترط التعدد في النساء لأجل أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة لنقص عقلهن، فتذكر إحداهما الذاكرة للشهادة المرأة الأخرى الناسية لها وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا أي ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا إلى تحمل الشهادة وأدائها عند الحكام، فيحرم الامتناع عليهم، لأن تحمل الشهادة وفرض كفاية مطلقا، والأداء كذلك إن زاد المتحملون على من يثبت بهم الحق وإلا ففرض عين. وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أي ولا تملوا أن تكتبوا الدين لكثرة وقوع المداينة على أي حال كان الدين قليلا أو كبيرا، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرا، أو مشبعا حال كون الدين مستقرا في ذمة المديون إلى وقت حوله الذي أقر به المديون. أي فاكتبوا الدين بصفة أجله ولا تهملوا الأجل في الكتابة وقوله تعالى:
وَلا تَسْئَمُوا معطوف على قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ. ذلِكُمْ أي الكتابة للدين أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل في حكم الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أبين للشاهد بالشهادة إذا نسي وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي وأقرب إلى انتفاء شككم في قدر الدين وأجله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ.
قرأ عاصم «تجارة» بالنصب على أنه خبر «تكون». والباقون بالرفع على أنه اسم «تكون» والخبر «تديرونها»، و «إلا» إما استثناء متصل راجع إلى قوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريبا وهو المراد من التجارة الحاضرة، وإما استثناء منقطع. فالتقدير: لكنه إذا كانت تجارتكم ومداينتكم تجارة حالة تتعاطونها يدا بيد، أو التقدير لكن إذا كانت تجارة حاضرة مقبوضة بينكم ولا أجل فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي ليس عليكم مضرة في ترك الكتابة في المداينة الحاضرة كأن باع ثوابا بدرهم في الذمة بشرط أن يؤدى الدرهم في هذه الساعة، أي لا بأس بعدم الكتابة في ذلك
105
لبعده عن التنازع والنسيان. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ بالأجل وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ بالكتابة وَلا شَهِيدٌ بالشهادة. وهذا إما مبني للفاعل فيكون نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، وهو قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، ويدل على ذلك قراءة عمر رضي الله عنه ولا يضارر بالإظهار والكسر، واختار الزجاج هذا القول لقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: ٢٨٢] وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن الشهادة: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: ٢٨٣]- والآثم والفاسق متقاربان- وإما مبني للمفعول فيكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، كأنه يكلفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة ولا يعطي الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان فإن لهما الجعل، ولا يكلفان الكتابة والشهادة مجانا، وهو قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس «ولا يضارر» بالإظهار والفتح، وهذا لو كان نهيا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما، ولأن دلالة الكلام من أول الآيات إنما هو في المكتوب له والمشهود له. وإذا كان هذا النهي متوجها للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرير فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي فإن فعلكم ذلك معصية منكم وخروج عن طاعة الله وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حذر منه وهو هنا المضارة. أو المعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما يكون إرشادا واحتياطا في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشادا في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من مصالح الدنيا والآخرة عَلِيمٌ (٢٨٢) فلا يخفى عليه حالكم وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» بضم الراء والهاء أو سكونه. والباقون «فرهان» بكسر الراء وفتح الهاء مع المد و «على» بمعنى في أو بمعنى إلى. أي وإن كنتم مسافرين أو متوجهين إلى السفر، ولم تجدوا كاتبا أو آلة الكتابة في المدينة فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو يقال في الوثيقة رهان مقبوضة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ أي الدائن بَعْضاً أي المديون بالدين بلا رهن لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ بالدين أَمانَتَهُ أي حق صاحبه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي وليخش المديون ربه في أداء الدين عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا إنكار بل يعامل الدائن معاملة حسنة كما أحسن ظنه فيه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ عند الحكام بإنكار العلم بتلك الواقعة أو بالامتناع من أداء الشهادة عند الحاجة إلى إقامتها. وَمَنْ يَكْتُمْها أي الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها ومن الخيانة في الأمانة وعدمها عَلِيمٌ (٢٨٣) فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا من الخلق والعجائب يأمر عباده بما يشاء وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على السوء بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل أَوْ تُخْفُوهُ بأن تكتموه منهم وَلا يَأْبَ كاتِبٌ يوم القيامة. فالخواطر
106
الحاصلة في القلب على قسمين: ما يوطّن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، وما لا يكون كذلك بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس. فالقسم الأول يكون مؤاخذا به، والثاني لا يكون مؤاخذا به فَيَغْفِرُ بفضله لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَيُعَذِّبُ بعدله مَنْ يَشاءُ تعذيبه وقد يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وقد يعذب من يشاء على الذنب الحقير. لا يسأل عما يفعل.
قرأ عاصم وابن عامر «فيغفر»، «ويعذب» بالرفع. والباقون بالجزم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المغفرة والعذاب قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ أي صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي من القرآن.
قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج، وذكر الطلاق والإيلاء والحيض والجهاد، وقصص الأنبياء، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بجميع ذلك، انتهى. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ أي كل واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ أي بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه وَمَلائِكَتِهِ أي بوجودها وبأنهم معصومون مطهرون يخافون ربهم من فوقهم وأنهم وسائط بين الله وبين البشر. وأن كتب الله المنزّلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة وَكُتُبِهِ. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء مع المد بأن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسله، وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وبأن يعلم أن الوحي بهذه الكتب، فالله تعالى لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر. وبأن يعلم أن هذا القرآن لم يغيّر ولم يحرّف، فمن قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وهو قول فاسد. وبأن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه وَرُسُلِهِ بأن يعلم كونهم معصومين من الذنوب. وبأن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأن الرسل أفضل من الملائكة. وأن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي يقول المؤمنون لا نكفر بأحد من رسله بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم وَقالُوا أيضا سَمِعْنا قول ربنا وَأَطَعْنا أمر ربنا غُفْرانَكَ أي نسألك غفرانك من ذنوبنا رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) أي المرجع بعد الموت لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً من الطاعة إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها لَها ما كَسَبَتْ أي ثوابه من الخير وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي وزره من الشرفان.
قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم إنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا:
كيف لا نسمع ولا نطيع، وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا! فإذا كان هو تعالى بحكم
107
الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا، ثم قالوا بعده: غفرانك ربنا، دل ذلك على أن قولهم: غفرانك، طلب للمغفرة مما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم غفرانك طلبا للمغفرة من ذلك التقصير فلا شك في أن الله تعالى خفف عنهم ذلك وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا التقصير، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وبالجملة فهذا إجابة لهم من الله في دعائهم بقولهم غفرانك ربنا، اه. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا أي يا ربنا لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا طاعتك أَوْ أَخْطَأْنا في أمرك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي تكليفا بالأمور الشاقة. كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من بني إسرائيل أي لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود.
قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة. ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها. وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ أي قوة لَنا بِهِ من البلاء والعقوبة. أي ولا تحمل علينا أيضا ما لا راحة لنا فيه من الاستكراه. وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار ذنوبنا وَاغْفِرْ لَنا أي استر عيوبنا ولا تفضحنا بين عبادك. وَارْحَمْنا أي تعطّف بنا وتفضّل علينا. أَنْتَ مَوْلانا أي أنت سيدنا وناصرنا ونحن عبيدك ويقال: واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط. فلما دعوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه وعفا عنهم من الخسف والمسخ والقذف. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦) أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم. ولما مدح الله تعالى المتقين في أول السورة بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال هاهنا:
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هو المراد بقوله تعالى هناك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم قال هاهنا: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله تعالى هناك: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم حكى الله تعالى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا إلى آخر السورة وهو المراد بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.
108
Icon