تفسير سورة الحج

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

اتقوا ربكم : أطيعوه ولا تعصوه.
الزلزلة : حركة الأرض الشديدة.
تبدأ السورة بمطلع رهيب مخيف : يا أيها الناس، نداءٌ إلى جميع الخلق، احذَروا عقاب ربكم، فأطيعوه ولا تعصوه.. إن زلزلة الساعة، وهي قيامُ بعد خراب هذا الكون، شيء مذهل.
تذهَل : تسلو وتترك الشيء من الدهشة والخوف.
ففي ذلك اليوم يبلغ الأمر من الهول والدهشة أن تذهَل المرضعةُ عن ولدها فتتركه وتحاول أن تنجوَ بنفسها، وتُسقط الحوامل ما في بطونها من الأجنة من الفزع. وترى الناسَ كأنهم سكارى مع أنهم ليسوا كذلك، لكن شدة الموقف وعظمة الساعة وما فيها من أهوالٍ جعلتهم بهذا الحال، ﴿ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً ﴾ [ المزمل : ١٧ ]. إن الهول الذي يشاهدونه والخوفَ من عذاب الله الشديد هو الذي أفقدَهم توازنهم، وجعلهم في حيرة مذهلة.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ سكرى ﴾ والباقون :﴿ سكارى ﴾.
المَريد : الطاغي، الشرير.
وبعد أن أخبر الله تعالى ما فيه القيامة من أهوالِ وشدائد، ودعا الناس إلى التقوى والعمل الصالح، بيّن أنه مع هذا التحذيرِ الشديد فإن كثير من الناس ينكرون هذا البعث، ويجادلون في أمور الغيب بغير علم، فقال :﴿ وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير ﴾
مع هذا التحذير الشديد، فإن بعض الناس يدفعه العناد إلى الجدَل في الله وصفاته،
لا يستند في جَدَله وإنكاره إلى علمٍ صحيح أو حجة صادقة، ولكنه يقلّد ويتّبع خطواتِ كل شيطان متمرد على ربه، شريرٍ دأبُهُ الفساد والضلال.
ولقد قرر الله وقضى أن كل من اتبع ذلك الشيطانَ، وسلك سبيله، أضلّه الشيطان عن طريق الحق، ووجهه إلى الباطل المفضي به إلى عذاب جهنم.
النطفة : كمية قليلة من ماء الرجل.
العلَقة : القطعة الصغيرة الجامدة من الدم.
المضغة : القطعة الصغيرة من اللحم بقدر ما يمضغ.
مخلَّقة : تامة الخلقة.
غير مخلقة : غير تامة الخلقة.
إلى أجل مسمى : حين الوضع.
لتبلغوا أشُدكم : تكمل قوتكم.
أرذل العمر : آخره مع الكبر والخرف بحيث لا يعرض شيئا.
هامدة : يابسة لا حياة فيها.
اهتزت : تحرك نباتها.
وربت : ازداد نباتها نموا.
من كل زوج بهيج : من كل صنف حسنٍ يسر الناظرين.
يا أيها الناس إن كنتم في شكٍّ من بَعْثِكم من القبور بعد الموت يوم القيامة، فانظروا إلى خلقكم. لقد خلقناكم من تراب ثم جعلنا منه نطفةً صغيرة حولناها بعد مدة إلى علَقة، أي قطعة صغيرة من الدم، ثم إلى مُضْغة وهي قطعة صغيرة من اللحم، تارة تكون تامة الخلقة، وتارة غير مخلقة.
وذلك لنبيّن لكم قدرتنا وعظيم حكمتنا والتدرج في التكوين.
﴿ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ : ونبقي ما نشاء من الأجنّة في الأرحام إلى الوقت الذي يكمل فيه الحَمْل وتتم فيه الولادة، ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم نرعاكم حتى تبلغوا تمام العقل والقوة. ومنكم بعدَ ذلك من يتوفاه الله، ومنكم من يَمُدّ له عمره حتى يبلغ درجة من الكبر يعود فيها إلى الخَرَف وعدم معرفة أي شيء، وذلك هو أرذلُ العمر نعوذ بالله منه.. فاللهُ الذي بدأ خلقكم بهذه الصورة لا يُعجزه إعادتكم.
ثم ذكر الاستدلال على إمكان البعث بحال خلْق النبات أيضا فقال :﴿ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ :
وأمرٌ آخر يدلنا على قدرة الله على البعث، أننا نرى الأرضَ بينما تكون هامدة يابسة قاحلة، فإذا نزل عليها الماء دبّت فيها الحياة وتحرّكت ونمت وازدهر نباتها، وأظهرت من أصناف النباتات ما يروق منظرُه، وتبتهج النفس لمرآه.
ذلك الذي تقدَّم من القدرة على خلْق الإنسان ونبات الزرع شاهدٌ على أن الله هو الإله الحق، وأنه يحيي الموتى عند بعثهم كما بَدَأهم، فهو القادر على كل شيء.
وأنكم إذا تأملتم في خلْق الإنسان والحيوان والنبات وهذا الكون العجيب أمكنكم أن تؤمنوا بقدرة الله على كل شيء وأن الساعة آتيةٌ لا شك فيها وأن الله يبعث من في القبور بعد موتهم، للحساب والجزاء.
بغير علم : بغير معرفة ولا مشاهدة حسّية.
ولا هدى : ولا نظرٍ صحيح ولا عقل.
ولا كتاب منير : ولا وحي.
ومع كل هذه الأدلة الواضحة فإن بعضَ الناس يجادل في الله وقدرته، وينكر البعثَ بغير معرفة، ولا برهان عقليّ على ما يقول، ولا وحي من عند الله ينير صحته.
ثاني عطفه : جاء متكبرا مختالا.
تراه متكبراً مختالا بين الناس، مُعْرِضا عن قبول الحق، ليصدّ المؤمنين عن دينهم.. وهذا الصنفُ من الناس له في هذه الدنيا هوان وخِزي، وسيصَلى في الآخرة عذاب الجحيم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس :﴿ ليَضِل ﴾ بفتح الياء، والباقون :﴿ ليُضل ﴾ بضم الياء
ثُم يبيّن الله سبب هذا الخزي المعجَّلِ والعذابِ المؤجل فقال :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾
ويقال لهذا المتكبر المختال الضال : ذلك الذي تلقاه من خزي وعذاب بسببِ ضلالك وكبريائك، واللهُ لا يظلم أحدا.
على حرف : على ناحية معينة، إذا رأى شيئا لا يعجبه عَدَل عنه. وأصل معنى الحرف الطرَف، وله معان كثيرة.
فان أصابه خير : مالٌ وكثرة في الولد.
فتنة : بلاءٌ ومحنة في نفسه او أهله او ماله.
انقلب على وجهه : ارتد عن دينه.
خسر الدنيا والآخرة : ضيّعهما.
ومن الناس نوعٌ آخر لم يتمكن الإيمان من قلبه، فهو كأنه واقف على طرف غير ثابتٍ على حال، فهو مزعزع العقيدة، مضطرِب مذبذَب، يعبد الله على وجه التجربة. فان أصابه خيرٌ بقي مؤمنا، وإن أصابه شر من مرض أو ضياع مال أو فقد ولد ترك دينه وارتدّ كافرا. خسِر الدنيا والآخرة... فخسر في الدنيا راحةَ البال والاطمئنان إلى قضاء الله، كما خسر في الآخرة النعيم الذي وَعَدَ الله المؤمنين به، وذلك هو الخسران الذي لا خسران مثله.
يدعو من دون الله ما لا يضره... : يعبد غير الله.
إن مثلَ هذا يعبد من دون الله أصناماً لا تضره ولا تنفعه. وأيُّ ضلالٍ وخسران أكبر من هذا الضلال، وأبعد عن الهدى ! !
المولى : الناصر.
العشير : الصاحب المعاشر.
يدعو من دون الله من ضررُه أقربُ من نفعه، لبئس ذلك المولى ناصراً، ولبئس ذلك المعبودُ من صاحبٍ معاشر لا فائدة منه. فأيُّ ناصرٍ ذلك الذي لا ينفع ولا يضر ! !.
بعد أن بين الله حال المشركين الضالين وما يعبدون من دون الله ومصيرهم في الآخرة، ذَكَر هنا ما يدّخره للمؤمنين، وهو خيرٌ من عَرَضِ الحياة الدنيا كله، فقال :﴿ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ :
أن الله يتفضّل على المؤمنين الذي عملوا صالح الأعمال ويكافئهم لقاءَ إحسانهم بدخول جناته التي تجري من تحت أشجارها الأنهار بسبب صدقهم وإيمانهم وما قاموا به من جليل الأعمال.
﴿ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ من إكرام من يطيعه وإهانةِ من يعصيه، ولا رادّ لحكمه
ولا مانع لقضائه.
بسبب : بحبل.
إلى السماء : إلى مكان مرتفع.
ثم ليقطع : ليختنق.
فلينظر : فليقدّر في نفسه النظر.
من كان من الناس يحسَب أن الله لن ينصر نبيّه محمداً في الدنيا والآخرة فليقتلْ نفسه وينظر هل يُذهِب ذلك ما يجِدُ في صدره من الغيظ !
وهناك من المفسّرين من يقول من يفقد ثقته بنصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله حين تشتد به المِحَن، فدُونَه فليفعل بنفسه ما يشاء ؛ فليمدد بحبل غالى السماء ويشنق نفسه به، ثم ينظر هل ينقذه تدبيره ذلك مما يغيظه.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو عمرو ورويس :﴿ ثم لِيقطع فَلِينظر ﴾ بكسر اللام، والباقون : بسكون اللام.
ومثلَ ما بينّا حجتنا الواضحة فيما سبق، أنزلنا القرآنَ كله على محمدٍ آياتٍ واضحة، واللهُ يهدي من أراد هدايته وإرشاده إلى سبيل السلام.
الذين هادوا : اليهود.
والصابئين : وهم فرقتان : جماعة يوحنا المعمدان واسمُهم المندائيون، وصابئة حَران الذين عاشوا زمنا في كنف الإسلام.. وسيأتي في الشرح التعريف بهم.
المجوس : كلمة إيرانية، أهلُها أتباع زرادشت. وهم يقدّسون الناروالشمس والقمر، وقد انقرضت المجوسية أو كادت بعد استيلاء المسلمين على فارس.
الذين أشركوا : عبدةُ الأوثان.
إن الذين آمنوا بالله وبرسلِه جميعا واليهودَ، والصابئين ( وهم فرقتان : جماعة المندائيين أتباع يوحنا المعمدان وصابئة حَرّان وقد ورد ذِكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، مما يؤذن بأنهم أهلُ كتاب، وقد فصّل تاريخهم وطقوسهم كل من الشهرستاني في « المِلل والنِحَل » والدمشقي في « نخبة الدهر في عجائب البحر ». وهم قوم لهم طقوس، ويعدُّون من بين الروحانيين الذي يقولون بوسائط بينَ الله والعالم، وهم يتطهرون بالماء إذا لمسوا جسداً، ويحرّموا الخِتان، كما يحرمون الطلاق إلا بأمر القاضي، ويمنعون تعدُّد الزوجات، ويؤدون ثلاث صلوات كل يوم. ولقد عاشوا متفرقين في العراق، وكان مركزهم الرئيسي حَرّان، ولغتهم السريانية، وكان منهم المترجمون والرياضيون والنباتيون في صدر الإسلام كما نبغ منهم شخصيات عديدة. ومنهم بقية في العراق في الوقت الحاضر
والنصارى أتباع سيدنا عيسى. والمجوس : الذين يقدّسون النار، ويقولون إن الخير من النور والشر من الظلام، وهؤلاء تقريبا انقرضوا ولا يزال منهم بقية في الهند. والذين أشركوا هم عبدة الأوثان وهم كثيرون، ولا يزال منهم عدد هائل في عصرنا الحاضر، وهم منتشرون في إفريقيا، وآسيا وكثير من البلدان.. ) إن الله سيفصل بين هؤلاء جميعا يوم القيامة بإظهار المحقّ من المبطِل منهم، فهو مطّلع على كل شيء، عالمٌ بأعمال خلقه وما تكنّه ضمائرهم.
تقدم في سورة البقرة ٦٦ :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ فلم يذكر المجوس ولا الذين أشركوا، وفي سورة المائدة ٦٩ :﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى.... ﴾ فلم يذكر المجوسَ ولا الذين أشركوا.
ألم تر : ألم تعلَم.
الخطاب لجميع الناس وجعله الطبري لسيدنا محمد، وتفسيره : ألم تعلم أن هذه الخلائقَ جميعَها مسخَّرة لقدرة الله، منقادةٌ لإرادته، فتسجد له سجودا لا تطّلع أنتَ عليه، وكثيرُ من الناس يؤمن بالله ويخضع لأوامره.. وبذلك استحقوا الجنة، فيما أعرض كثير منهم ولم يؤمن فاستحقوا العذاب، ومن يهنْه الله لسوءِ سلوكه فليس له من مكرِم، إن الله يفعل في خلقه ما يشاء، فهو لا يُسأل عما يفعل، فمن سلك طريق السلام سلم، ومن سلك طريق الهلاك هلك.
هذه السجدة من عزائم السجود في القرآن فَيُسَنُّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها او سماع تلاوتها.
خصمان : واحدُهما خصم وهو المنازع.
قطعت لهم : قدرت، فصلت لهم وهي الأوْلى.
الحميم : ا لماء المغلي.
إن أهلَ الأديان الستة الذين سبق ذِكرهم فريقان : فريق المؤمنين وفريق الكافرين، جادلوا في دين الله وتنازعوا في أمر ربهم، وكل فريقٍ يعتقد أن الّذي عليه هو الحقّ. فالذين كفروا أُعدّت لهم نيرانٌ تحيط بهم كأنها ثياب قُدِّرت على أجسامهم، ولزيادة تعذيبهم تصبُّ الملائكة على رؤوسهم الماء المغلي.
فقد روى ابن جرير الطبريّ في تفسيره أن أبا ذَرٍّ رضي الله عنه كان يُقسم أن هذه الآيات نزلت في المتبارزين يوم بدر. وفي الصحيحَين عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه انه قال : فينا نزلتْ هذه الآيات، وأنا أولُ من يجثو في الخصومة على رُكبتيه بين يد الله يوم القيامة.. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
يصهر به : يذاب به.
فينفذ إلى بطونهم فيذيبُ أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم.
مقامع : واحدتها مِقمعة بكسر الميم الأولى خسبة أو حديدة يُضرب بها الإنسان على رأسه ليذّل ويهان.
ولتعذيبهم سياطٌ من حديد، تضرب بها رؤوسهم، يُقمعون بها.
الحريق : المحرِق.
كلّما حاولوا الهروب من جهنم والخروج منها من شدة الغم. وتردّهم الملائكةُ إلى جهنم، ويقولون لهم : ذوقوا عذاب النار المحرِقة جزاءَ كفركم.
ويرى جماعة من المفسرين أن هذه الآياتِ نزلت يوم بَدْرٍ، وان المراد بالخَصْمَين : حمزة بن عبد المطلب وعلي بن ابي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه وهم المؤمنون، وعتبة بن ربيعة وشَيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهم الكافرون، وهؤلاء أول من تبارزوا يوم بدر.
أساور : الأسوار والسوار هو الحلية التي تلبس في المعصم، جمعها أسورة، وجمع الجمع أساور وأساورة.
وبعد أن بين الله سوء حال الكافرين أردفَ ذلك ببيانِ ما يناله المؤمنون من الكرامة من المسكن والحِلية والمَلْبس وحسن القول والعمل :﴿ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ [ القمر : ٥٥ ]
أما الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمالَ الصالحة، فإن الله تعالى أعدَّ لهم نعيماً مقيماً في جنات الخُلد، تجري من تحت قصورِها وأشجرها الأنهار، ويتمتعون فيها بالحليّ من الذهب واللؤلؤ، ويلبسون أفخر أنواع الحرير.
قراءات :
قرأ نافع وعاصم :﴿ ولؤلؤا ﴾ بالنصب، والباقون :﴿ ولؤلؤ ﴾ بالجر.
هدوا : أرشدوا.
الطيب من القول : الكلام اللطيف الرقيق.
الصراط الحميد : الطريق المحمود.
وزيادةً في ما أسبغ الله عليهم من النعيم، يتعاملون فيما بينهم بالكلام اللِّين الطيب، والعشرةِ المحمودة بمحبة وسلام.
العاكف : المقيم.
البادي : الطارئ القادم عليها.
الإلحاد : الانحراف، والعدول عن القصد.
بظلم : بغير حق.
إن الّذين كفروا بالله ورسوله، ويمنعون الناسَ أن يدخلوا في دين الله وأن يصِلوا إلى المسجد الحرام الذي جعله الله لجميع الناس، سواء المقيمُ فيه والطارئ الذي جاء قاصداً له من مكان بعيد - يجازيهم اللهُ على ذلك بالعذاب الشديد.... وكذلك يجازي من ينحرف عن الحق، ويميل إلى الظلم في الحَرَمِ ويعذّبه عذاباً أليما.
روى ابن عباس رضي الله عنهما : أن الآية نزلت في أبي سفيانَ وأصحابه من قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عامَ الحُدَيبية عن المسجد الحرام، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
بوّأْنا لإبراهيم مكان البيت : أنزلناه فيه، يعني في الحرم.
وطهِّر بيتي : اجعله مطَّهرا بالعبادة الصحيحة.
للطائفين : الذين يدورون حوله.
واذكر أيها الرسول، لهؤلاء المشركين الذي يصدّون عن سبيلِ الله ودخول المسجد الحرام ويدَّعون أنهم أتباع إبراهيم.... اذكُر لهم قصة إبراهيم والبيت الحرام حين أنزلناه فيه وأمرناه بإعادة بنائه، وقلنا له : لا تُشرك بي شيئا، وطهّر بيتي من عبادة الأوثان لمن يطوف به ويقيم بجواره ويتعبد عنده.
وأذّن في الناس بالحج : ناد الناس للحج وادعهم إليه.
رجالا : مشاة.
وعلى كل ضامر : جملٌ ضامر وناقة ضامر، قليلة اللحم تتحمل مشاق السفر.
فج عميق : طريق بعيد.
وقلنا له ( إبراهيم ) : نادِ الناسَ داعياً إياهم إلى الحجّ وزيارة هذا البيت الذي أُمرتَ ببنائه يأتوك مشاةً على أرجلهم، وركباناً على كل جمل ضامر وناقة ضامر من كل طريق بعيد.
ليذكروا اسم الله : ليحمدوه ويشكروه.
في أيام معلومات : أيام النحر الثلاثة وهي يوم العيد ويومان بعده.
بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والضان.
البائس : الذي افتقر واشتدت حاجته.
ثم بيّن السب في هذه الزيارة فقال :﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير ﴾.
نادِهم يا إبراهيم ليحصلوا على منافعَ دينية لهم بأداء فريضة الحج، ومنافعَ دنيوية بالتعارف مع إخوانهم المسلمين والتشاور معهم فيما ينفعُهم في دينهم ودنياهم. ( والحجُّ أكبر مؤتمرٍ في العالم، وهو من أعظمِ التجمعات لو عرف المسلمون كيف يستفيدون منه ) وليذكروا اسم الله في أيام النَّحْر ويشكروه ويحمدوه على ما رزقهم ويسّر لهم من الإبل والبقر والغنم، فكلوا منها ما شئتم وأطعِموا الفقراءَ وكلَّ محتاجٍ من البائسين والمحتاجين.
ثم ليقضوا تفثهم : ليزلوا ما علق بهم من أوساخ.
وليوفوا نذورهم : يؤدوا ما نذروه.
بالبيت العتيق : المسجد الحرام لأنه أولُ بيتٍ وضع للناس.
ثم عليهم بعدَ ذلك أن ينظّفوا أجسامهم مما عَلِقَ بها أثناء الإحرامِ من آثار العرق وطول السفر، لأن الحاجّ لا يستطيع أن يقصّ شَعره أو يقلّم أظافره أو يزيلَ ما علق به من أدران حتى يتحلّلَ من الإحرام، ثم بعد ذلك يقومون بما عليهم من نُذورِ فيؤدونها، ويطُوفون.
حرمات الله : التكاليف الدينية وكل ما نهى الله عنه.
فاجتنبوا الرجسَ من الأوثان : ابتعِدوا عن عبادتها.
الزور : الكذب.
ذلك الذي أمرنا به من قضاء المناسك هو الواجبُ عليكم في حَجِّكم، ومن يلتزم أوامر الله ونواهيه في حجه تعظيماً لحدود الله يكن ذلك خيراً له عند ربه في دنياه وآخرته. لقد أحلّ الله لكم لُحوم الإبل والبقرة والغنم، إلا في حالاتٍ مما بينه القرآن، كالميتة وغيرها، فاجتنبوا عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان.. إن ذلك رجس. ابتعِدوا عن قول الزور على الله وعلى الناس.
حنفاء : واحدهم حنيف، وهو من استقام على دين الحق، ومال عن كل زيغ وضلال. كأنما خرّ من السماء : كأنما سقط من السماء.
فتخطَفه الطير : يعني بعد أن يسقط ويموت تأكله الطير.
مكان سحيق : مكان بعيد.
تمسّكوا بهذه الأمور مخلصين العبادةَ لله وحده، دون إشراك أحدٍ به.... إن من يشركْ بالله يعرّض نفسه للهلاك المريع، وكأنه سقط من السماء فتمزَّقَ قِطعاً تتخطّفه الطور فلا تبقي له أثرا، أو كأن الريح العاتية عصفتْ به فشتّتَت أجزاءه، وهوت بكل جزء منها في مكانٍ بعيد.
شعائر الله : جمع شعيرة وهي كل أعمال الحج والهدايا التي يسوقها الحاج.
امتثِلوا ذلك واحفظوه، لأن من يعظّم دينَ الله وفرائضَ الحج وأعماله، ويسوق البُدْنَ والهدايا إلى الحَرَم ويختارها عظيمةَ الأجسام صحيحة سمينة، فقد اتقى الله، لأن تعظيمها أثرٌ من آثار تقوى القلوب.
لكم في هذه الهدايا منافع دنيوية، فتركبونها حين الحاجة وتحمل أثقالكم، وتشربون من ألبانها، ثم لكم منافعها الدينية كذلك حين تذبحونها عند البيتِ الحرام تقرباً إلى الله.
منسكا : مكانا للعبادة.
مُخبتين : خاشعين.
ليست هذه المناسك خاصةً بكم، فقد جعلنا لأهل كل دينٍ من الأديان من قبلكم قرابينَ يتقربون بها إلى الله، ويذكرون اسم الله عليها ويعظّمونه عند ذبْحِها شكراً له على ما أنعم عليهم، ويسَّره لهم منها. إن معبودَكم إله واحدٌ فأسلِموا له وحده، ولا تشركوا معه أحداً ويا أيها الرسول، بشّر بالجنة والثوابِ الجزيل المخلصين، الخاضعين لله من عباده.
وَجِلتْ قلوبهم : خافت.
وقد بيّن الله علاماتِ أولئك المخبتين فقال :﴿ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمي الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾.
وهؤلاء المخبتين لهم صفات : أولاها : أنهم إذا ذُكر الله عرتهم رهبةٌ من خشيته، وخوفٌ من عقابه. ثانيتها : الذين يصبرون عند الشدائد على ما يصيبُهم من المكارِه والمتاعب.
ثالثتها : ويقيمون الصلاةَ على أحسنِ وجهٍ في أوقاتها بخضوع ونشاط. رابعتها : وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق في وجوه البِرِّ وفي سبيل الله.
البدن : بضم الباء جمع بدنة، وهي الناقة أو البقرة التي تنحر بمكة أيام الحج. وتطلق اللفظة على الذكر والأنثى.
صوافّ : قائمات قد صُفت أيديهن وأرجلهن، مفردها : صافَّة.
وجبت جنوبها : سقطت على الأرض عند نحرها.
القانع : الراضي بما يعطى له من غير سؤال.
المعترّ : الذي يتعرض للسؤال ويطلب الصدقات من الناس.
بعد أن حثّ الله على التقرب بالأنعام كلّها، وبين أن ذلك من تقوى القلوب، خصَّ من بينها الإبلَ والبقر لأنها أعظمُها خَلقا وأكثرها نفعا، وأغلاها قيمة.
﴿ والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ :
وقد جعلنا تقديم الإبل والبقر هدايا في الحجّ من شعائِرِ الدِّين ومظاهره، ولكم فيها خيرٌ كثير، ركوبها وشُرب ألبانها، ولكم في الآخرة أجرٌ وثواب بإطعام الفقراء منها. فإذا صُفَّت للذبح فاذكُروا اسمَ الله عليها. فإذا تم ذبحها وسقطت على الأرض، فكُلوا بعضاً منها، وتصدّقوا على الفقير القانع المتعفف الذي لا يسأل، والفقيرِ الذي يسأل. وكذلك سخّرناها لكم وذلّلناها لإرادتكم لتشكرونا على نِعمنا التي لا تحصى عليكم.
ثم بين الله تعالى أن عملكم هذا ينفع الفقراء والمحتاجين، والله غنيٌّ عن ذلك كله فقال :
﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين ﴾ :
اعملوا أن الله تعالى غنيّ عن العالمين، ولا يصله شيءٌ من هذه الأضاحي والهدايا والصدقات، وهو لا يريد منكم مجرد التظاهرِ بالذبح وإراقة الدماء، لكنّه ينال رضاه تقواكم وإخلاصُ نواياكم. ولهذا سخّرها لكم لتشكروه على هدايتكم لمعالم دينه، ومناسك حجّه. وبشِّر أيها النبي، المحسِنين الذين أحسنوا أعمالهم بثواب عظيم وجنةٍ عرضُها السموات والأرض.
قراءات :
قرأ يعقوب :﴿ لن تنال الله لحومها، ولكن تناله ﴾ بالتاء، والباقون بالياء.
إن الله يدفع عن عباده المؤمنين شرَّ المعتدين، ويحميهم وينصرُهم بإيمانهم. وفي الآية تمهيد لما في الآية التي بعدها من الإذن في القتال، فهو يدافع عن الذين آمنوا لأنه يدافع عن دِينه، ولا يحب الخائنين لأماناتهم، المبالغين في كفرهم بربّهم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ إن الله يدفع ﴾ بدون ألف.
أذن : رخِّص.
كان المؤمنون وهم في مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب من الله الإذن بالقتال، وكان المشركون يؤذونهم ويظلمونهم، فيأتون إلى النبيّ الكريم بين مضروبٍ ومشجوج في رأسه، ويتظلمون إليه. فيقول لهم :« صبراً صبرا، فإني لم أوذَن بالقتال » حتى هاجر وأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾.
وهذه كما يقول العلماء، أولُ آيةٍ نزلت بالإذن بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيّف وسبعين آية كما رواه الحاكم في المستدرَك عن ابن عباس.
لقد أُبيح للمؤمنين أن يقاتِلوا المشركين دفاعاً عن أنفسِهم وأموالهم ووطنهم، وأن يردّوا اعتداءهم عليهم، بسب ما نالهم من ظلم صبروا عليه طويلا.
ثم وعدهم الله بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم :﴿ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾.
سبق ما ذكره القرآن الكريم في هذه الآية من الإذن بالقتال، جميع القوانين الوضعية، وهو أن الدفاع عن النفس والمال والوطن والعقيدة أمر مشروع مهما كانت نتائجه، وأن المُدافع عن نفسه وماله ووطنه وعقيدته، لا يؤاخذ أمام الله وأمام العدالة ولو قتل نفساً وأزهق أرواحا. وقد قررت الآية أن المسلمين مأذون لهم في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتُدي عليهم.
والآن وقد اعتدى علينا العدو الإسرائيلي وحلفاؤه الغربيون وسلب أرضنا، فإن الله تعالى أذِن لنا بالدفاع عن مالنا وأنفسنا ووطننا، فيجيب علينا أن نعدّ العدة ونتسلح بالإيمان الصادق ونعمل على استرداد مقدساتنا، ولا يستطيع أحدٌ أن يلومنا إذا فعلنا ذلك، بل إننا مقصّرون في حق ديننا وظننا إذا لم نفعل ذلك ومؤاخذون عند الله والرسول.
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس : قال لما أُخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيَّهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكنَّ القوم فأنزل الله تعالى ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ.... ﴾ قال أبو بكر : فعرفتُ أنه سيكون قتال.
قراءات :
قرأ نافع وحفص :﴿ أذن للذين يقاتلون ﴾ بضم الهمزة من أُذن وفتح التاء من يقاتلون،
وقرأ ابن كثيرة وحمزة والكسائي :﴿ أذن ﴾بفتح الهمزة، ﴿ للذين يقاتلون ﴾ بكسر التاء.
صوامع : واحدها صومعة، وهي معابد الرهبان خارج المدن.
وبيَع : واحدتها : بيعة، وهي الكنيسة.
وصلوات : معابد اليهود.
ومساجد : معابد المسلمين.
ثم وصف الله هؤلاء المؤمنين بقوله :﴿ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ﴾ : الذين ظَلمهم المشركون وأرغموهم على ترك مكة والهجرة منها بغير حق، لأنهم آمنوا بالله وحده.
﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ :
ولولا أن سخّر الله للحق أعواناً يردعون الطغاة بالقوة لسادت الفوضى وعمَّ الفساد في الأرض، وأخمدوا صوت الحق، وهدموا صوامع الرهبان وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا.
وقد تعهّد الله بأن ينصر كلَّ من نَصَرَ دينه، ووعدُ الله لا يتخلف، إن الله قوي على تنفيذ ما يريد، عزيز لا يغلبه غالب.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ إن الله يدفع ﴾ ﴿ ولولا دفع الله ﴾ بدون ألف، وقرأ نافع :﴿ إن الله يدافع ﴾ ﴿ ولولا دفاع الله ﴾ وقرأ نافع وابن كثير :﴿ لهدمت صوامع ﴾ بدون تشديد الدال.
ثم وصف الله الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله :﴿ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور ﴾
هؤلاء المؤمنون الذي أُخرجوا من ديارهم هم الذين إن قوَّينا سلطانهم في الأرض، حافظوا على صلواتهم، وعلى صِلتهم بالله، وأدوا الزكاة وأمروا بالمعروف، وحثّوا على كل خير، ونهوا عن كل ما فيه شر، ولله وحده مصيرُ الأمور، وإليه المرجع.
إن يكذبك هؤلاء المشركون بالله، فلا تحزن أيها الرسول.... لقد كَذَبت أمم كثيرة رسُلهم قبلك، ولستَ أولَ رسولٍ كذّبه قومه وآذوه، فقد كذّب قومُ نوحٍ نوحا، وكذبت عاد وثمود رسُلهم.
وكذب قوم إبراهيم رسولَهم إبراهيم، وكذلك فعلَ قوم لوط.
ثم أخذتهم : أهلكتهم.
النكير : العقوبة الرادعة.
وكذب أهل مَدْيَنَ رسولهم شُعيبا، وكذبت فرعونُ وقومه موسى.... وقد أمهلتُ أولئك المكذبين مدة لعلّهم يتوبون إلى رشدهم ويستجيبون لدعوة الحق، فلم يرتدعوا بل تمادَوا في غيّهم، فعاقبتُهم بأشد أنواع العقاب، فانظر يا محمد في آثارهم كيف كان عقابي لهم.
خاوية : خالية وساقطة.
عروشها : سقوفها.
بئر معطلة : مهملة لا يُستقى منها.
قصر مَشيد : عظيم فخم.
وكثير من القرى أهلكناها بسبب ظُلْم أهلها وكفرهم، وأصبحت خاليةً من سكانها، سقوفها ساقطة على جدرانها، كأن لم تكن بيوتها موجودة من قبل. وكم بئرٍ معطلة لا يرِدُ عليها أحد، وقصرٍ عظيم خلا من سكانه !
قراءات :
قرأ أهل البصرة :﴿ أهلكتها ﴾ بالتاء، والباقون :﴿ أهلكناها ﴾ بالنون.
أوَلَم يتعظ هؤلاء المكذبون بمصارع الأولين، وينظروا كيف أصبحتْ ديارهم خاليةً ودورهم معطلة ! أين عقولهم وسمعُهم وأبصارهم، هل تعطلت ؟
إن العمى الحقيقي ليس في العيون، ولكنه في القلوب والبصائر، فإنهم في هذه الحالة يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون.
إنَّ قومُك يا محمد، بدلاً من التأمل في مصارع الماضين، وديارِهم الخاوية، والاتعاظ بها والإيمان بالله، راحوا يستعجلون في العذاب الذي أخَّره اللهُ عنهم إلى أجلٍ معلوم ! ! وهذا غرور كبير منه، واللهُ تعالى لن يُخلف وعدَه، فهو واقع بهم، ولكن في موعدٍ قدَّره الله في الدنيا أو في الآخرة. إن أيام الله لا تقدير لها، فإن يوماً واحداً من أيامه كألف سنةٍ من أيامكم.
ولم يكن هذا مفهوماً في الزمن الماضي، ولكنه اليومَ أصبح بديهيا، بعد أن صعد الإنسان إلى القمر وعرف أَن الزمن نسبيٌّ، وأن الإنسان إذا خرج من جوّ الأرض الذي نعيش فيه أصبح الزمن بلا حدود.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي :﴿ مما يعدّون ﴾ بالياء، والباقون :﴿ مما تعدون ﴾ بالتاء.
ثم أكد الله تعالى ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وإن طال الأمد فقال :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير ﴾.
كم من قرية أخرتُ إهلاكها مع استمرارها على ظُلمها، فاغترَّتْ بذلك، ثم أنزلتُ بها أشد العذاب، ثم مرجعُهم جميعاً إلي يوم القيامة فأجازيهم بما يستحقون.... فلا تغتروا أيها الجاحدون بتأخير العذاب عنكم.
بعد أن بيّن مصارع الغابرين، وسُنَة الله في المكذّبين، يخاطب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لينذر الناس ويبين لهم ما ينتظرهم.
قل أيها النبي لهؤلاء المكذّبين الذين يطلبون منك استعجالَ العذاب : ليس ذلك إليّ، وإنما أرسلني ربي نذيراً لكم محذِّراً تحذيراً واضحا، واللهُ هو الذي يتولى حسابكم ومجازاتكم.
فالذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرةٌ من الله كما أن لهم رزقاً كريماً في الجنة.
معاجِزين مسرعين من الحق إلى الباطل.
وأما الذين سَعوا في محاربة القرآن وتعطيل آياته، ظناً منهم أنهم يُعْجِزوننا وأنهم
لا يُبعثون، فأولئك هم أهلُ النار المقيمون خالدين فيها أبدا.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :﴿ معجّزين ﴾ بتشديد الجيم المكسورة بمعنى مثبطين ومبطئين والباقون :﴿ معاجِزين ﴾ بالألف.
تمنى : تمنى الشيء أراده : وحدث نفسه بما يكون وما لا يكون. وتمنى : سأل ربه : وفي الحديث : إذا تمنى أحدكم فليستكثر. وتمنى الكتابَ : قرأه.
ينسخ : يبطل.
يحكِم : يجعلها محكمة مثبتة.
إن أغلى أُمنية لأي رسولٍ أو نبيّ هي أن يعرف الناسُ حقيقةَ رسالته ويفهموها ويدركوا أهدافها ليهتدوا بها، فلا تحزنْ أيها الرسول من محاولاتِ هؤلاء الكفارِ أربابِ الأطماع، فقد جرت الحوادثُ من قبلك مع كلِّ رسولٍ ونبيّ من أنبيائنا أنه كلما قرأ عليهم شيئاً يدعوهم به إلى الحقّ تصدّى له شياطينُ الإنس المتمردون لإبطال دعوته وتشكيك الناس فيما يتلوه. وذلك لكي يَحولوا دون تحقيق أُمنيته في إجابة دعوته، فينسخُ الله ما يدبّرون، ثم يثّبت شريعته وينصر رسله، ويجعل آياتهِ محكَمةً لا تقبل الردّ. إنه عليم بأحوال الناس ومكايدهم، حكيم في أفعاله يضع كل شيء في موضعه.
وجاء في كثير من التفاسير روايةٌ منسوبة إلى ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا على قريش سورةَ النجم، ولما بلغ قوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى ﴾ ألقى الشيطانُ في تلاوة الرسول :« تِلك الغرانيقُ العُلى، وإنّ شفاعتَهن لتُرتَجى ». فلمّا سمعتْ قريش ذلك فرِحوا به. ولما سجد الرسول سجد المسلمون والمشركون جميعا بسجوده.... فنزلت هذه الآية والآياتُ الثلاث التي بعدها.
وهذه الرواية مكذوبة لا أصل لها ولم تردْ في كتاب من الكتب الموثوقة، وليس لها سند صحيح. بل إنها من وضع الكذّابين المشككين في الدين.
وقد كذّبها العلماء... قال القاضي عياض في الشفاء : إن هذا لم يُخرجه أحد من أهل الصحيح، ولا رواه ثقةٌ بسندٍ سليم متصل. وقال أبو بكر البزّار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل. وقال الفخر الرازي في تفسيره : هذه الرواية باطلة موضوعة عند أهل التحقيق. وقال الإمام أبو بكر البَيْهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل.
وهذه السورة مدنية فكيف نوفق بينها وبين سورة النجم وهي مكية ومن أوائل ما نزل بمكة ! ولا أعتقد بصحة ما يقوله بعض المفسرين أن هذه الآيات ٥٢، ٥٣، ٥٤، ٥٥ من سورة الحج مكية، فإنهم قالوا إنها مكية حتى توافقَ هذه الروايةَ الباطلة.
إن الشيطان ليجدُ الفرصة مهيّأة أمامه ليلقي الفتنةَ في نفوس أوليائه الذين في قلوبهم مرضٌ من نفاقٍ آو انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين، فيجدون في مثل هذه الأقوال مادةً للجدَل والشقاق والتمردِ على أحكام الله.
أما الذين أوتوا العلمَ والمعرفة فتطمئنّ قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل، فيزيدهم إيماناً وعلما بأن ما يقوله الأنبياء والرسل هو الحقّ المنزل من عند الله. ثم بين الله حُسن مآلهم وفوزَهم بالسعادة الأبدية فقال :﴿ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : إن الله ليهدي الذين آمنوا إلى تأويل ما تشابَهَ من الدّين، وينسَخ ما ألقاه الشياطين من الفتن، فلا تلحقُهم حَيرة ولا تعتريهم شُبهة، ولا تُزلزِل أقدامهم تُرَّهاتُ المبطِلين.
في مرية : في شك.
يوم عقيم : منفرد لا شبيه له.
ذلك شأنُ الذين كفروا مع القرآن كله، فهم لا يزالون في شكٍّ منه، فلا مطمع في إيمانهم ولا زوالِ الشك من قلوبهم، .. سوف يستمرون على شكّهم في القرآن حتى يأتيَهم الموتُ فجأةً أو يأتيهم عذاب يوم القيامة، العذابُ العقيم الذي لا شبيه له.
في ذلك اليوم يكون الملك لله وحده، فلا مُلك لأحدٍ، والحكم يومئذٍ لله وحده يحكم بينهم بالحق، والناس في ذلك اليوم فريقان : فريق في الجنة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتنعمون في جنات النعيم.
مهين : مذل.
وفريق في الجحيم هم الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين.
مدخَلا يرضونه : الجنة.
بغى عليه : اعتدى عليه، ظلم.
بعد أن ذكر اللهُ أن المُلك له يوم القيامة، وأنه يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين، ذكَر هنا وعدَه الكريم للمهاجرين في سبيله بالجنَة، ثم بين أنه ينصر الذين يُضْطَرّون إلى مفارقة أوطانهم في سبيله والذين يُعتدى عليهم وجميعَ المظلومين، وذكر بعض آياته التي تتجلّى في صفحات الكون ونواميس الوجود.
﴿ والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين ﴾ : الذين تركوا أوطانهم وفارقوا أهلَهم وعشيرتهم حفاظاً على عقيدتهم وابتغاءَ رِضوان الله ثم قُتلوا في ميدان الجهاد أو ماتوا على فراشِهم، لهم عند الله رزقٌ أكرمُ من كل ما تركوا في ديارهم. هذا وعدٌ من الله لهم بالعوض الكريم وهو خير الرازقين. قراءت :
قرأ ابن عامر :﴿ ثم قتّلوا ﴾ بتشديد التاء، والباقون :﴿ ثم قتلوا ﴾ بالتخفيف.
ثم بيّن هذا الرزقَ الحسن بقوله :﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ :
وهذا تعهّدٌ من كريم بأن يُدخلهم الجنة، ويحقّقَ لهم ما يرضونه ويكرِمهم بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خَطَرَ على قلب بشر. وإنه عليم بما وقع عليهم من ظلمٍ وأذى، وبما يرضي نفوسهم ويعزّها، حليمٌ يمهِل ثم يوفي الظالمَ والمظلومَ الجزاء الأوفى.
ذلك شأننا في مجازاة الناس لا نظلِمهم شيئا، والذي يقتصّ ممن جنى عليه ويجازيه بمثل اعتدائه عليه دون زيادة ثم اعتُدي عليه بعد ذلك، فإن الله ينصره على من تعدّى عليه، واللهُ كثير العفو والمغفرة فهو يستُرُ هفواتِ عباده الطائعين ويعفو عنهم.
ذلك النصر الذي ينصره الله لمن بُغي عليه هيِّن على الله، لأنه قادر على كل شيء، ومن آياتِ قدرته البارزة هيمنتُه على العالَم، فيداول بين الليل والنهار، بأن يزيد في أحدِهما ما يُنْقِصُه من الآخر، فتصير بعض ظلمة الليل مكانَ ضوء النهار، وعكس ذلك والقادرُ على هذا الكون، قادرٌ على نصر المظلومين. وهو مع تمام قُدرته سميعٌ لقول المظلوم بصيرٌ بفعل الظالم، لا يغيب عنه شيء.
ذلك الاتصاف بكمال القدرة، والتصرّف المطلق في الكون، إنما هو لأن الله هو الحق الذي لا إله معه غيره، وأن ما يعبده المشركون من الأصنام هو الباطل، وهو العليُّ
لا سلطان فوق سلطانه، وهو الكبير الذي وسع كل شيء قدرةً وعلما ورحمة.
قراءات : قرأ ابن كثير ونافع وابن عارم وأبو بكر :﴿ وإن ما تدعون من دونه ﴾ بالتاء والباقون :﴿ ما يدعون ﴾ بالياء.
ألم تتبصرّ أيها العاقل بما ترى حولك من مظاهر قدرة الله، فهو الذي ينزل الماءَ من السماء فيُحيي به الأرضَ فتنبت أنواعاً مختلفة من النبات بديعةَ الألوان والأشكال تسرّ الناظرين، إنه تعالى لطيف يصِل عِلمه إلى الدقيق والجليل، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.
كل ما في السموات والأرض وما في هذا الكون مِلكٌ له، يتصرف فيه كما يشاء، فما به سبحانه حاجةٌ إلى من في السماء والأرض.. إنه الغنيُّ عن الجميع، وهو المحمود على نِعمه المشكور عليها من جميع خلقه.
ألا تنظرُ أيها العاقل إلى مظاهر قدرة الله، كيف يسرَّ للناس جميعا الانتفاعَ بالأرض وما فيها، وهيّأ لهم البحرَ تجري فيه السفنُ بمشيئته، وسيّرَ هذه الأجرامَ السماوية بنظام محكَم لا يختل، وامسك كل ما في السماء أن تقع على الأرض، وذلك بقدرته ! !
لقد تجلَّتْ مشيئة الله ورأفته بالعباد بان هيّأ غلافاً جوياً يحتوي على العناصر الغازية التي لا غنى للحياة عنها، كما يحمي سكانَ الأرض من الإشعاعات الكونية وأسرابِ الشهب والنيازك التي تَهيم في الفضاء، وتتسابق. وعندما تدنو من الأرض تحترق في جوّها العلوي قبل أن تصل إلى سطح الأرض.
ومن رحمته تعالى بنا أن سقوط النيازك الكبير التي تدمر سطح الأرض نادرُ الحدوث جداً وهو يتم في الأماكن الخالية من السكان، وفي هذا تأييدٌ وتصديق لقوله تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾.
كَم في هذا الكون وهذه الأرض من قوة ؛ وكم من ثروة سخّرها الله لهذا الإنسان ؟ والإنسان غافل عن قدرة الله ونعمه التي لا تحصى.
وهو الذي أنعم عليكم بهذه الحياة بعد أن كنتم تراباً، ثم يُميتكم حين تنقضي آجالكم، ثم يحييكم يومَ القيامة للحساب والجزاء، فيلقى كلٌّ حسابه.
ثم بيّن طبيعة الإنسان التي فَطِرَ عليها بقوله :﴿ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ ﴾ أي : إن الإنسان مع كل هذه الدلائل والنعم يظل شديد الجحود بالله وبعمه عليه.
المنسك : موضع العبادة، والشريعة والمنهاج.
ناسكون : عابدون فيه، ملتزمون به. والناسك : العابد، والنسك العبادة.
لقد جعلنا لأهل كل دين من الأديان شريعةً خاصة يعملون بها، ومنهجاً يسيرون عليه ويعبدون الله به، فلا ينبغي للمشركين من قومك أن ينازعوك في أمر هذا الدين... فاثُبتْ أيها الرسول، على دِينك، ولا تلتف لمجادلتهم واستمرَّ في الدعوة إلى ربِّك كما أمرك. إنك تسير على هدى من ربك مستقيم، وشريعة توصل إلى السعادة.
وإن أصرّ هؤلاء المشركون على المجادلة، فأعرض عنهم وقل لهم : اللهُ أعلم بأعمالكم، إن الجدل يجدي مع القلوب المستعدّة للهدى لا مع القلوب التي تصر على الضلال، فلا ضرورة لإضاعة الوقت والجهد معهم.
دعْهُم في غيّهم يا محمد، فقد أنذرت وقل له : الله هو الذي يحكم بين الناس جميعاً يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وعندها يتبين المحقّ من المبطِل، فيثيب المهتدي، ويعاقب المضليّن.
ألم تعلم أيها الرسول، أن الله يحكم بعلمٍ كامل، وهو محيطٌ بكل ما في السماء والأرض، لا يندُّ عنه سبب، ولا تخفى عليه خافية في العمل والشعور.... كلّ ذلك ثابتٌ عنده في لوحٍ محفوظ، وإثباته وحفظه يسيرٌ عليه كل اليسر.
سلطانا : حجة، برهانا.
نصير : ناصر، معين.
وأعجبُ شيء أن هؤلاء المشركين يعبدون أوثاناً وأشخاصا ولا يعبدون الله، مع أن هؤلاء الذين يعبدونهم لم ينزل بهم كتاب من الله ولم يقم دليلٌ على أنهم آلهة.... ليس لهؤلاء الظالمين ناصرٌ يوم القيامة ولا معين.
يسطون : يبطشون.
وهؤلاء الجاحِدون لا يناهضون الحُجَّة بالحجةِ، وإنما يلجأون إلى العنف والبطش، فإذا تُليتْ عليهم آياتنا الواضحة تلحظ في وجوهِهم الحَنَقَ والغيظ. بل يحاولون البطشَ بالذين يتلُون عليهم هذه الآيات.
ثم بين الله أن هذا الغيظَ الكمين في نفوسهم ليس بشيء إذا قِيسَ بما سيلاقونه من العذابِ يوم القيامة، فقال :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم.... ﴾ : قل لهم أيها النبي : هل أخبركم بشرِّ من غيظِكم وبطشكم ؟ إنه النارُ التي وعدَ الله الكافرين أمثالكم يوم القيامة، وبئس المصير.
يستنقذوه : يخلّصوه.
يعلن الله في هذه الآية على الناس جميعاَ ضعفَ هذه المعبودات المزيفة، فهي عاجزة عن خَلق ذباب واحد على حقارته، بل أعجب من ذلك أنها عاجزةٌ عن مقاومة الذباب. فلو سلبهم شيئا لما استطاعوا أن يخلصوا ذلك الشيء منه. وما أضعف الذي يهزم أمام الذباب ! فكيف يليق بإنسان عاقل أن يعبد تلك الأوثان ويلتمس النفع منها ! ويختم الله تعالى هذه الآية بعبارة ناطقة للحقيقة :﴿ ضَعُفَ الطالب والمطلوب ﴾ : ما أضعف الطالب وهو تلك الآلهة، وما أضعف المطلوب وهو الذباب !
ما عرفَ هؤلاء المشركون الله حق معرفته، ولا عظّموه حق تعظيمه، حين أشركوا به في العبادة أعجز الأشياء، وهم يرون آثار قدرته وبدائع مخلوقاته.
يصطفي : يختار.
اقتضت إرادة الله تعالى وحكمته أن يختار من الملائكة رسُلا يبلّغون الأنبياء الوحي، ويختار من البشر رسلا، ليبلّغوا شرعه إلى خلقه، فكيف يعترض المشركون على من اختاره رسولاً إليهم ؟ إنه تعالى سميعٌ لأقوال عباده بصيرٌ بهم فيعلم من يستحقّ أن يختار منهم لهذه الرسالة.
يعلم سبحانه مستقبل أحوالهم وماضيَها، فهو يسمع ويرى ويعلم عِلماً شاملاً لا يندّ عنه حاضرا ولا غائب، وإليه وحدَه الأمور كلّها، فهو الحَكَم الأخير، وله السيطرة والتدبير.
يا أيها الذين آمنوا : لا تلتفتوا إلى تضليل الكفار، واعبدوا الله بإقامة الصلاة كاملة، وافعلوا الخير الذي أمركم بفعله من صِلة الأرحام ومكارم الأخلاق والاستقامة التامة كي تكونوا من المصلحين السعداء وتنالوا رضوان الله.
السجدة : عند قوله تعالى ﴿ واسجدوا ﴾ : قال بعض العلماء : إنه يُسنُّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها، منهم ابنُ المبارك والشافعي وأحمد، وقال بعضهم : لا يُسنّ السجود لأنها للصلاة فقط ومنهم : الحسنُ البصري وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جُبير وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك.
وجاهِدوا في الله : في سبيل الله.
اجتنابكم : اختاركم.
من حرج : من ضيق بتكليفكم ما يشق عليكم.
شهيدا : شاهدا.
واعتصِموا بالله : استعينوا به وتمسكوا بدينه.
وجاهدوا في سبيل الله إعلاءً لكلمته ونشرِ دينه حتى تنتصروا على أعدائكم وشهواتكم، فإن الله تعالى اختاركم لنصر دينه، وجعلكم أمة وسطاً، ولم يكلّفكم في شرعه ما يشقُّ عليكم، ويسرّ عليكم ما يعترضكم من المشقات التي لا تطيقونها بما جعله لكم من أنواع الرُخَص. فتمسّكوا بهذا الدين القويم، فهو دين أبيكم إبراهيم الذي سماكم المسلمين.
﴿ مِن قَبْلُ وَفِي هذا... ﴾ : من قبلُ في الكتب السابقة، وفي هذا القرآن الكريم، فكونوا كما سماكم وانصروا الله ينصركم.. ليكون الرسول شاهداً عليكم بأنكم عملتم بما بلّغكم، وتكونوا شهداء على الأمم السابقة بأن رسُلها بلّغوها. فإذا كان الله قد خصكم بهذه الميزات كلها، فمن الواجب عليكم أن تقابلوها بالشكر والطاعة له، فتقيموا الصلاة على أتم وجوهها، وتؤدوا الزكاة، وتتوكلوا على الله وتعتصموا به في كل أموركم، وهو ناصركم، فنعم المولى ونعم النصير.
Icon