تفسير سورة الحج

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الحج من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

«الرَّحِيمِ» يوجب ابتهاج القلوب وبه يحصل شفاء فتونهم، فعودة فتونهم فى لطف جماله كما أن موجب جنونهم فى كشف جلاله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ» نداء علامة، و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» نداء كرامة، وبكلّ واحد من القسمين يفتتح الحقّ خطابه فى السّور وذلك لانقسام خطابه إلى صفة التحذير مرة، وصفة التبصير أخرى.
والتقوى هى التحرز والاتقاء وتجنب المحظورات. وتجنب المحظورات فرض، وتجنب الفضلات والشواغل- وإن كان من جملة المباحات- نفل، فثواب الأول أكثر ولكنه مؤجّل، وثواب النّفل أقلّ ولكنه معجّل «١».
ويقال خوّفهم بقوله: «اتَّقُوا». ثم سكن ما بهم من الخوف بقوله: «رَبَّكُمْ» فإنّ سماع الربوبية يوجب الاستدامة وجميل الكفاية.
قوله: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» : وتسمية المعدوم «شيئا» توسّع بدليل أنه ليس فى العدم زلزلة بالاتفاق وإن كان مطلق اللفظ يقتضيه، وكذلك القول فى تسميته «شيئا» هو توسّع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢]
يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)
لكل ذلك اليوم شغل يستوفيه، ويستغرقه، وترى الناس سكارى أي من هول ذلك
- ومن المفيد أن نسوق نصا لإحدى المجانين:
معشر الناس ما جننت ولكن انا سكرانة وقلبى صاح
أنا مفتونة بحب حبيب لست أبغى عن بابه من براح
(الروض الفائق ص ٣٦٢) وكتابنا (نشأة التصوف الإسلامى ط المعارف ص ١٧٨).
(١) هذا أصل يضاف إلى أصول الفقه الصوفي عند القشيري.
اليوم عقولهم ذاهبة، والأحوال فى القيامة وأهوالها غالبة. وكأنهم سكارى وما هم فى الحقيقة بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، ولشدّته يحيرهم ولا يبقيهم على أحوالهم.
وهم يتفقون فى تشابههم بأنهم سكارى، ولكنّ موجب ذلك يختلف فمنهم من سكره لما يصيبه من الأهوال، ومنهم من سكره لاستهلاكه فى عين الوصال.
كذلك فسكرهم اليوم مختلف فمنهم من سكره سكر الشراب، ومنهم من سكره سكر المحاب.. وشتّان بين سكر وسكر! سكر هو سكر أهل الغفلة، وسكر هو سكر أهل الوصلة «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣)
المجادلة لله- مع أعداء الحق وجاحدى الدّين- من موجبات القربة، والمجادلة فى الله، والمماراة مع أوليائه، والإصرار على الباطل بعد ظهور الدلائل من أمارات الشقوة، وما كان بوساوس الشيطان ونزغاته فقصاراه النار.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤]
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)
من وافق الشيطان بمتابعة دواعيه لا يهديه إلّا إلى الضلال، ثم إنه فى الآخرة يتبرأ من موافقته، ويلعن جملة متّبعيه. فنعوذ بالله من الشيطان ونزغاته، ومن درك الشقاء وشؤم مفاجآته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
(١) حديث القشيري فى (السكر) هنا مفيد عند دراسة هذا المصطلح.
529
التبس عليهم جواز (بعثه الخلق) «١» واستبعدوه غاية الاستبعاد، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان، واحتجّ عليهم فى ذلك بما قطع حجتهم، فمن تبع هداه رشد، ومن أصرّ على غيّه تردّى فى مهواة هلاكه.
واحتجّ عليهم فى جواز البعث بما أقروا به فى الابتداء أن الله خلقهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها... إلى أن نقلهم من حال شبابهم إلى زمان شيبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم.
واحتجّ أيضا عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيى الأرض- فى حال الربيع- بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه فى الربيع من الخضرة والحياة. والذي يقدر على هذه الأشياء يقدر على خلق الحياة فى الرّمة البالية والعظام النخرة.
قوله: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : زمان الفترة بعد المجاهدة، وحال الحجبة عقب المشاهدة.
ويقال أرذل العمر السعى للحظوظ بعد القيام بالحقوق.
ويقال أرذل العمر الزلة فى زمان المشيب.
ويقال أرذل العمر الإقامة فى منازل العصيان.
ويقال أرذل العمر التعريج فى (أوطان) «٢» المذلة.
ويقال أرذل العمر العشرة مع الأضداد.
ويقال أرذل العمر (عيش) «٣» المرء بحيث لا يعرف قدره.
ويقال أرذل العمر بأن يوكل إلى نفسه.
ويقال أرذل العمر التطوح فى أودية الحسبان أن شيئا بغير الله.
ويقال أرذل العمر الإخلاد إلى تدبير النّفس، والعمى عن شهود تقدير الحق.
(١) هكذا فى م أما فى ص فهى (بعثهم الحق) ونرجح الأولى إذ الذي استبعدوه أن يبعث الله واحدا من الخلق.
(٢) هكذا فى م وهى غير موجودة فى ص.
(٣) فى م (عيش) المرء وفى ص (حبس) المرء. وقد رجحنا (عيش) على معنى أن الله يمنحه من العمر ما لا يكون خلاله تقدير من الخلق له.
530
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)
الله هو الحقّ، والحق المطلق الوجود «١»، وهو الحق أي ذو الحق.
«وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى» أي الأرض التي أصابتها وحشة الشتاء «٢» يحييها وقت الربيع.
ويقال يحيى النفوس بتوفيق العبادات، ويحيى القلوب بأنوار المشاهدات.
ويقال يحيى أحوال المريدين بحسن إقباله عليهم.
ويقال حياة الأوقات بموافقة الأمر، ثم بجميل الرضا وسكون الجأش عند جريان التقدير.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ٩]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩)
دليل الخطاب يقتضى جواز المجادلة فى الله إذا كان صاحب المجادلة على علم بالدليل والحجة ليستطيع المناضلة عن دينه، قال سبحانه لنبيّه: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ومن لم يحسن مذهب الخصم وما يتعلق به من الشبه لم يمكنه الانفصال عن شبهته، وإذا لم تكن له قوة الانفصال فلا يستحبّ له أن يجادل الأقوياء «٣» منهم، وهذا يدل على وجوب تعلم علم الأصول «٤»، وفى هذا رد على من جحد ذلك.
قوله جل ذكره: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
(١) (الحق المطلق الوجود) هذه عبارة لم تصادفنا من قبل فى أي مصنف القشيري، ونحن نعطيها أهمية خاصة إذا تذكرنا أن هذا اصطلاح لأرباب وحدة الوجود، فهم يعتبرون الوجود المطلق للحق وما عدا فوجوده نسبى متكثر متعدد، وهذا لا بأس به، ولكن النتائج التي رتبوها عليه خطيرة. ونظن أنها (الموجود) بدل (الوجود) بدليل ما سبق ذكره عند تفسير الآية «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» من سورة طه وكنا قد أيدنا ذلك بما ذكره فى كتابه «التحبير في التذكير». [.....]
(٢) هكذا فى م ولكنها فى ص (الشقاء) بالقاف ونحن نؤثر الأولى لأن المقصود المقابلة مبين الربيع و (الشتاء).
(٣) هكذا فى م ولكنها في ص (إلا قوما).
(٤) فى هذا وفيما بعده رد على من يتهمون الصوفية بمجافاتهم للعلم، وعدم احترامهم للعقل، كما أن فيه ردا على قضية أنارها بعض المتكلمين حول وجوب أو عدم وجوب تعلم المسلم أصول التوحيد كى يصح إيمانه، ومدى ما يكون عليه إيمان العامة الذين لا تتاح لهم فرصة هذا التعلم.
له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق يريد أنه متكبّر عن قبول الحق، زاهد فى التحصيل، غير واضع نظره موضعه إذ لو فعل ذلك لهان عليه التخلّص من شبهته.
ثم قال: «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» أي مذلة وهوان، وفى الآخرة عذاب الحريق.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١١]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١)
يعنى يكون على جانب، غير مخلص... لا له استجابة توجب الوفاق، ولا جحدا يبين الشقاق فإن أصابه أمن وخير ولين اطمأن به وسكن إليه، وإن أصابته فتنة أو نالته محنة ارتدّ على عقبيه ناكسا، وصار لما أظهر من وفاقه عاكسا. ومن كانت هذه صفته فقد خسر فى الدارين، وأخفق فى المنزلتين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
أي يعبد من المضرّة فى عبادته أكثر من النّفع منه، بل ليس فى عبادته النفع بحال، فالضّرّ المتيقّن فى عبادتهم الأصنام هو بيان ركاكة عقولهم، ورؤية الناس خطأ فعلهم.
والنفع الذي يتوهمونه فى هذه العبادة ليس له تحصيل ولا حقيقة.
ثم قال: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» : أي لبئس الناصر الصّنم لهم، ولبئس القوم هم للصنم، ولم لا. ؟ ولأجله وقعوا فى عقوبة الأبد.
قوله جل ذكره
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٤]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
«الَّذِينَ آمَنُوا» : أي صدّقوا ثم حقّقوا فالإيمان ظاهره التصديق وباطنه التحقيق، ولا يصل العبد إليهما إلا بالتوفيق.
ويقال الإيمان (انتسام) «١» الحق فى السّرّ.
ويقال الإيمان ما يوجب الأمان، ففى الحال يجب الإيمان وفى المآل يوجب الأمان، فمعجّل الإيمان من ( ) «٢» المسلمين، ومؤجّله الخلاص من صحبة الكافرين الفاسقين.
وقوله: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» : العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويصلح للثواب، وهو أن يكون على الوجه الذي تعلّق به الإيمان.
والجنان التي يدخل المؤمنين فيها مؤجلة ومعجلة فالمؤجّله ثواب وتوبة، والمعجّلة أحوال وقربة، قال تعالى: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٥]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥)
أي أنّ الحقّ- سبحانه- يرغم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تطب
(١) فى م (ابتسام) وفى ص (انتسام)، ونحن نفضل هذه على تلك على أنها صيغة (انفعال) من (تنسم) فلان العلم أو الخبر أي تلطف فى التماسه حتى تبينه وتبعه.
(٢) فى م (سيف) وفى ص (سلف) ونحن نؤثر الأولى إذ أن الذي يؤمن يأمن- فى الحال- من بطش المسلمين الذين أمروا بقتال أعدائهم جهادا فى سبيل إعلاء كلمة الإيمان.
(٣) آية ٤٦ سورة الرحمن.
نفسه بشهود تخصيص الله سبحانه بما أفرده به فليقتل نفسه من الغيظ خنقا، ثم لا ينفعه ذلك، كما قيل:
إن كنت لا ترضى بما قد ترى فدونك الحبل به فاخنق
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٦]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
«آياتٍ بَيِّناتٍ» : أي دلالات وعلامات نصبها الحقّ سبحانه لعباده، فمن الآيات ما هو قضية العقل، ومنها ما هو قضية الخبر والنقل، ومنها ما هو تعريفات فى أوقات المعاملات «١» فما يجده العبد فى حالاته من انغلاق، واشتداد قبض، وحصول خسران، ووجوه امتحان..
لا شكّ ولا مرية إذا أخلّ بواجب أو ألمّ بمحظور «٢». أو تكون زيادة بسط أو حلاوة طاعة، أو تيسير عسير من الأمور، أو تجدد إنعام عند حصول شىء من طاعاته.
ثم قد يكون آيات فى الأسرار، هى خطاب الحقّ ومحادثة معه، كما فى الخبر:
«لقد كان فى الأمم محدّثون فإن يك فى أمتى فعمر» «٣» ثم يقال الآيات ظاهرة، والحجج زاهرة، ولكن الشأن فيمن يستبصر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٧]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
أصناف الناس على اختلاف مراتبهم: الولىّ والعدوّ، والموحّد والجاحد يجمعون يوم الحشر، ثم الحقّ- سبحانه- يعامل كلا بما وعده إما بوصال بلا مدى، أو بأحوال
(١) يمكن القول إن هذه هى المصادر الأساسية لما أطلقنا عليه من قبل (أصول الفقه الصوفي) ومنها يتضح اهتمام القشيري بالعقل ثم النقل ثم ما يحصل من العرفان نتيجة المجاهدات.
(٢) فإن الإثم ما حاك فى صدرك كما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه.
(٣) وهى التي يطلق عليها القشيري (الفراسة) انظر الرسالة ص ١١٥ وما بعدها.
بلا منتهى. الوقت واحد وكلّ واحد لما أعدّ له وافد، وعلى ما خلق له وارد..
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
أهل العرفان يسجدون له سجود عبادة، وأرباب الجحود كلّ جزء منهم يسجد له سجود دلالة وشهادة.
وفى كل شىء له آية... تدلّ على أنه واحد
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ١٩]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
أما الذين كفروا فلهم اليوم لباس الشرك وطرازه الحرمان، ثم صدار الإفك وطرازه الخذلان. وفى الآخرة لباسهم القطران وطرازه الهجران، قال تعالى: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ».
أمّا أصحاب الإيمان فلباسهم اليوم التقوى، وتنقسم إلى اجتناب الشّرك ثم مجانبة المخالفة، ثم مباينة الغفلة، ثم مجانبة السكون إلى غير الله والاستبشار إلى ما سوى الله.
وفى الآخرة لباسهم فيها حرير، وآخرون لباسهم صدار المحبة، وآخرون لباسهم الانفراد به، وآخرون هم أصحاب التجريد فلا حال ولا مقام ولا منزلة ولا محل وهم الغرباء «١»، وهم الطبقة العليا، وهم أحرار من رقّ كل ما لحقه التكوين.
(١) يقول ابن الجلاء فى تعريف الصوفي: فقير مجرد عن الأسباب، كان مع الله بلا مكان، ولا يمنعه الحق- سبحانه- من علم كل مكان (الرسالة ص ١٤٠) ويقول الحصرى: «الصوفى لا تقله أرض ولا تظله سماء» الرسالة (الصفحة ذاتها).
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٣]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
التحلية تحصين لهم، وستر لأحوالهم فهم للجنة زينة، وليس لهم بالجنة زينة:
وإذا الدّرّ زان حسن وجوه... كان للدّرّ حسن وجهك زينا
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٤]
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
الطيب من القول ما صدر عن قلب خالص، وسرّ صاف (مما يرضى به علم التوحيد، فهو الذي لا اعتراض عليه للأصول) «١» ويقال الطيب من القول ما يكون وعظا للمسترشدين، ويقال الطيب من القول هو إرشاد المريدين إلى الله.
ويقال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
ويقال الدعاء للمسلمين.
ويقال كلمه حق عند من يخاف ويرجى «٢».
ويقال الشهادتان عن قلب مخلص.
ويقال ما كان قائله فيه مغفورا «٣» وهو مستنطق.
(١) هكذا فى ص ولا فرق بين العبارة فى س، م إلا أنها جاءت فى الأخيرة (مما رضى به... )
والمقصود أن أقوال أرباب القلوب ينبغى ألا تتعارض مع أقوال أرباب أصول التوحيد لأن الحقيقة لا تعارض الشريعة فى شىء. فالضمير (فهو) يعود على الطيب من القول الصادر من القلب الخالص والسر الصافي.
(٢) أي عند صاحب سلطان، وقد عرف الصوفية بشجاعتهم الرائعة فى مواجهة أصحاب الأمر والنهى من الحكام وغيرهم.
(٣) هكذا فى ص أما فى م فهى (مفقودا) وعلى الأول يكون المعنى أن قوله مسموح به- ظاهريا- حيث لا يستشنع فى الباطن، وعلى الثاني: أي يكون قائله فى حال الفقد فهو لا ينطق بنفسه بل بالله.
ويقال هو بيان الاستغفار والعبد برىء من الذنوب.
ويقال الإقرار بقوله: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» «١».
ويقال أن تدعوا للمسلمين بما لا يكون لك فيه نصيب.
وأمّا «صِراطِ الْحَمِيدِ» : فالإضافة فيه كالإضافة عند قولهم: مسجد الجامع (أي المسجد الجامع) والصراط الحميد: الطريق المرضى وهو ما شهدت له الشريعة بالصحة، وليس للحقيقة عليه نكير.
ويقال الصراط الحميد: ما كان طريق الاتباع دون الابتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
الصدّ عن المسجد الحرام بإخافة السّبل، وبغصب المال الذي لو بقي فى يد صاحبه لوصل به إلى المسجد الحرام.
قوله: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «٢» » وإنما يعتبر فيه السبق والتقدم.
ومشهد الكرام يستوى فيه الإقدام، فمن وصل إلى تلك العقوة فلا ترتيب ولا ردّ، وبعد الوصول فلا زجر ولا صدّ، أمّا فى الطريق فربما يعتبر التقدم والتأخر قال تعالى:
«وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» «٣» ولكن فى الوصول فلا تفاوت ولا تباين، ثم إذا اجتمعت النفوس فالموضع الواحد يجمعهم، ولكن لكلّ حال ينفرد بها.
(١) آية ٢٣ سورة الأعراف. [.....]
(٢) البادي- غير المقيم.
(٣) آية ٢٤ سورة الحجر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٦]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
أصلحنا له مكان البيت ومسكّناه منه وأرشدناه له، وهديناه إليه، وأعنّاه عليه، وذلك أنه رفع البيت إلى السماء الرابعة فى زمن طوفان نوح عليه السلام، ثم أمر إبراهيم عليه السلام ببناء البيت على أساسه القديم. قوله «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً»، أي لا تلاحظ البيت ولا بناءك له.
«وَطَهِّرْ بَيْتِيَ..» يعنى الكعبة- وذلك على لسان العلم، وعلى بيان الإشارة فرّغ قلبك عن الأشياء كلّها سوى ذكره- سبحانه.
وفى بعض الكتب: «أوحى الله إلى بعض الأنبياء فرّغ لى بيّتا أسكنه، فقال ذلك الرسول: إلهى.. أى بيت تشغل؟ فأوحى الله إليه: ذلك قلب عبدى المؤمن». والمراد منه ذكر الله تعالى فالإشارة فيه أن يفّرّغ قلبه لذكر الله. وتفريغ القلب على أقسام:
أوله من الغفلة ثم من توهّم شىء من الحدثان من غير الله.
ويقال قد تكون المطالبة على قوم بصون القلب عن ملاحظة العمل، وتكون المطالبة على الآخرين بحراسة القلب عن المساكنة إلى الأحوال.
ويقال «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي قلبك عن التطلع والاختيار بألا يكون لك عند الله حظّ فى الدنيا أو فى الآخرة حتى تكون عبدا له بكمال قيامك بحقائق العبودية.
«ويقال طَهِّرْ بَيْتِيَ» : أي بإخراج كل نصيب لك فى الدنيا والآخرة من تطلع إكرام، أو تطلّب إنعام، أو إرادة مقام، أو سبب من الاختيار والاستقبال.
ويقال طهّر قلبك للطائفين فيه من موارد الأحوال على ما يختاره الحق. «وَالْقائِمِينَ» وهى الأشياء المقيمة من مستودعات «١» العرفان فى القلب من الأمور المغيبة عن البرهان،
(١) هكذا فى م أما فى ص فهى (مستوطنات).
ويتطلع بما هو حقائق البيان التي هى كالعيان كما فى الخبر: «كأنك تراه». «١»
«وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» : هى أركان الأحوال المتوالية من الرغبة والرهبة، والرجاء والمخافة والقبض والبسط، وفى معناه أنشدوا:
لست من جملة المحبين إن لم... أجعل القلب بيته والمقاما
وطوافى إجالة السّرّ فيه... وهو ركنى إذا أردت استلاما
قوله: «لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» : لا تلاحظ البيت ولا بناءك «٢» للبيت.
ويقال هو شهود البيت دون الاستغراق فى شهود ربّ البيت.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٧]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)
أذّن إبراهيم- عليه السلام- بالحج ونادى، وأسمع الله نداءه جميع الذرية فى أصلاب آبائهم، فاستجاب من المعلوم من حاله أنه يحج.
وقدّم الرّجالة على الركبان لأنّ الحمل على المركوب أكثر «٣».
ولتلك الجمال على الجمال خصوصية لأنها مركب الأحباب، وفى قريب من معناه أنشدوا:
وإنّ جمالا قد علاها جمالكم... - وإن قطّعت أكبادنا- لحبائب
ويقال «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» هذا على وجه المدح وسبيل الشكر منهم.
وكم قدر مسافة الدنيا بجملتها!؟ ولكن لأجل قدر أفعالهم وتعظيم صنيعهم يقول ذلك إظهارا لفضله وكرمه.
(١) إشارة إلى الحديث (أعبد الله كأنك تراه وعد نفسك من الموتى).
الطبراني عن أبى الدرداء، وحسن السيوطي سنده، ورواه البيهقي عن معاذ. وفى الحلية (أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك... ).
(٢) هكذا فى م أما فى ص فقد وردت (ولا تبال) ونحن نرجح ما جاء فى م.
(٣) فتقديم الرجالة فيه تخصيص نظرا لما يبذلونه من جهد أكبر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٨]
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)
أرباب الأموال منافعهم أموالهم، وأرباب الأعمال منافعهم حلاوة طاعتهم، وأصحاب الأحوال منافعهم صفاء أنفاسهم، وأهل التوحيد منافعهم رضاهم باختيار الحقّ ما يبدو من الغيب لهم.
قوله جل ذكره: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «١» عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ لأقوام عند التقرّب بقرابينهم وسوق هديهم «٢». وآخرون يذكرون اسمه عند ذبحهم أمانيهم واختيارهم بسكاكين اليأس.. حتى يقوموا بالله لله بمحو ما سوى الله.
قوله جل ذكره: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ.
شاركوا الفقراء فى الأكل من ذبيحتكم- الذي ليس بواجب- لتلحقكم بركات الفقراء. والإشارة فيه أن ينزلوا «٣» ساحة الخضوع والتواضع، ومجانبة الزّهو والتكبّر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٢٩]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
ليقضوا حوائجهم وليحققوا عهودهم، وليوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم، فمن كان عقده التوبة فوفاؤه ألا يرجع إلى العصيان. ومن كان عهده اعتناق الطاعة فشرط وفائه ترك تقصيره. ومن كان عهده ألا يرجع إلى طلب مقام وتطلّع إكرام فوفاؤه استقامته على الجملة فى هذا الطريق بألا يرجع إلى استعجال نصيب واقتضاء حظ.
قوله جل ذكره: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الإشارة فى الطواف إلى أنه يطوف بنفسه حول البيت، وبقلبه فى ملكوت السماء، وبسرّه فى ساحات الملكوت.
(١) أبو حنيفة: هى عشر ذى الحجة وآخرها يوم النحر. وأكثر المفسرين: هى أيام النحر.
(٢) الهدى- ما يهدى إلى الحرم من النعم، قال تعالى: «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ».
(٣) هكذا فى م وفى س (يتركوا) وربما كانت فى الأصل ألا يتركوا فهكذا يقتضى السياق.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٠]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
تعظيم الحرمات «١» بتعظيم أمره وتعظيم أمره بترك مخالفته.
ويقال من طلب الرضا بغير رضى الله لم يبارك له فيما آثره من هواه على رضى مولاه، ولا محالة سيلقى سربعا غبّه «٢».
ويقال تعظيم حرماته بالغيرة على إيمانه (وما فجر صاحب حرمة قط «٣» ).
ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجب الفرقة.
ويقال كلّ شىء من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إليه طريق، وترك الحرمة على خطر ألا يغفر.. وذلك بأن يؤدى ثبوته بصاحبه إلى أن يختلّ دينه وتوحيده.
قوله جل ذكره: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ.
فالخنزير من جملة المحرمات، وكذلك النطيحة والموقوذة، وما يجىء تفصيله فى نصّ الشرع.
قوله جل ذكره: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.
«مَنْ» هاهنا للجنس لا للتبعيض، وهوى كلّ من اتبعه معبوده، وصنم كلّ أحد نفسه.
«وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» : ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قول القلب ونطقه، ومن عاهد الله بقلبه ثم لا يفى بذلك فهو من جملة قول الزور.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣١]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)
(١) هكذا في م وفى ص (الجهات) ونرجح الأول حيث وردت فى الآية.
(٢) هكذا في م وفى ص (نحبه) ونرجح (غبه) بمعنى عاقبته.
(٣) هكذا فى م وفى ص (وما فجر صاحب ظلمة فظ) والعبارة الأولى أقرب إلى المعنى.
الحنيف المائل إلى الحق عن الباطل فى القلب والنّفس، فى الجهر وفى السّرّ، فى الأفعال وفى الأحوال وفى الأقوال «غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ» : الشّرك جلىّ وخفىّ «١».
قوله «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما... » كيف لا.. وهو يهوى فى جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق.. وكذلك غدا فى صفة قوم يقول الله تعالى:
«نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٢]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)
يقف المؤمن على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهرا، وبخواطر الإلهام سرّا.
وكما لا تجوز مخالفة شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإنّ خاطر الحقّ لا يكذب، وعزيز من له عليه وقوف. وكما أنّ النّفس لا تصدق فالقلب لا يكذب، وإذا خولف القلب عمى فى المستقبل، وانقطعت عنه تعريفات الحقيقة، والعبارة «٣» والشرح يتقاصران عن ذكر هذا على التعيين والتفسير. ويقوى القلب بتحقيق المنازلة فإذا خرست النفوس، وزالت هواجسها، فالقلوب تنطق بما تكاشف به من الأمور.
ومن الفرق بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبه أولا ثم يعمل مختارا، وما كان من الحق يجرى ويحصل ثم بعده يعلم من جرى عليه
(١) الشرك الجلى معروف أما الشرك الخفي فهو أن ينازعه منازع فى قلبك من هوى أو حظ أو علاقة تنأى بك عنه.
(٢) آية ٦٧ سورة التوبة. [.....]
(٣) فى م وص (والعبادة) وقد رأينا أن تكون (العبارة) بالراء أي أن التعبير عن ذلك بالكلام والشرح قاصر
ذلك معناه، ولا يكون الذي يجرّى عليه ما يجرى مضطرا إلى ما يجرى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار «١»، بل يكون مختارا ولكنّ سببه عليه مشكل، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٣]
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
لكلّ من تلك الجملة منفعة بقدره وحدّه «٢» فلأقوام بركات فى دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم، ولآخرين فى لذاذات بسطهم، ولآخرين فى حلاوة طاعاتهم، ولآخرين فى أنس أنفاسهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٤]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)
الشرائع مختلفة فيما كان من المعاملات، متفقة فيما كان من جملة المعارف، ثم هم فيها مختلفون: فقوم هم أصحاب التضعيف «٣» فيما أوجب عليهم وجعل لهم، وقوم هم أصحاب التخفيف فيما ألزموا وفيما وعد لهم. قوله «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى..» وذكر اسم الله على ما رزقهم على أقسام: منها معرفتهم إنعام الله بذلك عليهم.. وذلك من حيث الشكر، ثم يذكرون اسمه على ما رفقهم لمعرفته بأنه هو الذي يتقبل منهم وهو الذي يثيبهم.
قوله جل ذكره: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
أي استسلموا لحكمه بلا تعبيس ولا استكراه من داخل القلب.
(١) هذه وجهة نظر باحث صوفى فيما يشغل المتكلمين عن الجبر والاختيار.
(٢) أي بحسب ماله من قدر وهمة، وما هو واقف عنده من حد ورتبة.
(٣) أصحاب التضعيف أي أصحاب التشدد الذين يأبون اتباع الرخص، لأن الرخص لا تكون إلا لأرباب الحوائج والأشغال وهؤلاء لا حاجة ولا شغل لهم إلا بالحق.
والإسلام «١» يكون بمعنى الإخلاص، والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم تصفية الأخلاق من الكدورات، ثم تصفية الأحوال، ثم تصفية الأنفاس. «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» :
الإخبات استدامة الطاعة بشرط الاستقامة بقدر الاستطاعة. ومن أمارات الإخبات كمال الخضوع بشرط دوام الخشوع، وذلك بإطراق السريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٥]
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)
الوجل الخوف من المخافة، والوجل عند الذكر على أقسام: إما لخوف عقوبة ستحصل أو لمخافة عاقبة بالسوء تختم، أو لخروج من الدنيا على غفلة من غير استعداد للموت، أو إصلاح أهبة، أو حياء من الله سبحانه فى أمور إذا ذكر اطلاعه- سبحانه- عليها لما بدرت منه تلك الأمور التي هى غير محبوبة.
ويقال الوجل على حسب تجلى الحق للقلب فإن القلوب فى حال المطالعة والتجلي تكون بوصف الوجل والهيبة.
ويقال وجل له سبب ووجل بلا سبب فالأول مخافة من تقصير، والثاني معدود فى جملة الهيبة «٢».
ويقال الوجل خوف المكر والاستدراج، وأقربهم من الله قلبا أكثرهم من الله- على هذا الوجه- خوفا.
قوله جل ذكره: وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ.
أي خامدين تحت جريان الحكم من غير استكراه ولا تمنى خرجة، ولا روم فرجة بل يستسلم طوعا:
(١) هكذا فى م ولكنها فى ص (السلام) والصواب الأولى ففى الآية (أسلموا).
(٢) فالخوف إذن أدنى منزلة من الهيبة، والترتيب هكذا: الخوف والرجاء ثم القبض والبسط ثم الهيبة والأنس (الرسالة ص ٣٥ وص ٣٦).
ويقال الصابرين على ما أصابهم. أي الحافظين معه أسرارهم، لا يطلبون السلوة باطلاع الخلق «١» على أحوالهم.
قوله جل ذكره: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ.
أي إذا اشتدت بهم البلوى فزعوا إلى الوقوف فى محلّ النجوى:
إذا ما تمنّي الناس روحا وراحة تمنّيت أن أشكو إليك فتسمعا
قوله جل ذكره: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عند المعاملة من أموالهم، وفى قضايا المنازلة بالاستسلام، وتسليم النفس وكل ما منك وبك لطوارق التقدير فينفقون أبدانهم على تحمل مطالبات الشريعة، وينفقون قلوبهم على التسليم والخمود تحت جريان الاحكام بمطالبات الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٦]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)
أقسام الخير فيها كثيرة بالركوب والحمل عليها (وشرب ألبانها وأكل لحومها والانتفاع بوبرها ثم الاعتبار بخلقتها كيف سخّرت للناس على قوتها وصورتها، ثم كيف تنقاد للصبيان فى البروك عند الحمل عليها وركوبها والنزول منها ووضع الحمل عنها) «٢» وصبرها على العطش فى الأسفار، وعلى قليل العلف، ثم ما فى طبعها من لطف الطبع، وحيث تستريح بالحداء مع كثافة صورتها إلى غير ذلك.
(١) هكذا فى ص ولكنها فى م (بإطلاق الحق) والصواب الأول لأنهم لا يفزعون للخلق طلبا للسلوة فيما يصيبهم من الحق وفى هذا حفظ لأسرارهم.
(٢) ما بين القوسين موجود فى م وساقط من ص.
«فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها» : أي سقطت على وجه الأرض فى حال النّحر فأطعموا القانع الذي ألقى جلباب الحياء وأظهر فقره للناس، والمعترّ الذي هو فى تحمّله متحمّل، ولمواضع فاقته كاتم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٧]
لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
لا عبرة بأعيان الأفعال سواء كانت بدنية محضة، أو مالية صرفة، أو بما له تعلّق بالوجهين، ولكن العبرة باقترانها بالإخلاص «١»، فإذا انضاف إلى أكساب الجوارح إخلاص القصود، وتجرّدت عن ملاحظة أصحابها للأغيار صلحت للقبول «٢».
ويقال التقوى شهود الحقّ بنعت التفرّد فلا يشاب تقرّبك بملاحظة أحد، ولا تأخذ عوضا على عمل من بشر.
«لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» : أي هداكم وأرشدكم إلى القيام بحقّ العبودية على قضية الشرع.
«وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» : والإحسان كما فى الخبر: «أن تعبد الله كأنك تراه..».
وأمارة صحته سقوط التعب بالقلب عن صاحبه، فلا يستثقل شيئا، ولا يتبرم بشىء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨).
(١) يقال إن سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا إذا تحروا الإبل نضحوا الدماء- حبل البيت ولطخوه بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت الآية.
(٢) يرى القشيري ان هذا جوهر العبادات جميعا، أن تكون خالصة لله، وقد فصلنا ذلك عند بحثنا عن القشيري المفسر.
انظر كتابنا (الإمام القشيري ومذهبه فى التصوف) ط مؤسسة الحلبي.
546
يدفع عن صدورهم نزغات الشيطان، وعن قلوبهم خطرات العصيان، وعن أرواحهم طوارق النسيتان.
والخيانة على أقسام: خيانة فى الأموال تفصيلها فى المسائل الشرعية، وخيانة فى الأعمال، وخيانة فى الأحوال فخيانة الأعمال بالرياء والتصنع، وخيانة الأحوال بالملاحظة والإعجاب والمساكنة، وشرّها الإعجاب، ثم المساكنة وأخفاها الملاحظة «١».
ويقال خيانة الزاهدين عزوفهم عن الدنيا (على) «٢» طلب الأعواض ليجدوا فى الآخرة حسن المآل.. وهذا إخلاص الصالحين. ولكنه عند خواص الزهاد خيانة لأنهم تركوا دنياهم لا لله ولكن لوجود العوض على تركهم ذلك من قبل الله.
وخيانة العابدين أن يدعوا شهواتهم ثم يرجعون إلى الرّخص، فلو صدقوا فى مرماهم لما انحطّوا إلى الرخص بعد ترقيهم عنها.
وخيانة العارفين جنوحهم إلى وجود مقام، وتطلعهم لمنال منزلة وإكرام من الحق ونوع تقريب.
وخيانة المحبين روم فرحة «٣» مما يمسهم من برحاء المواجيد، وابتغاء خرجة مما يشتدّ عليهم «٤» من استيلاء صدّ، أو غلبات شوق، أو تمادى أيام هجر.
وخيانة أرباب التوحيد أن يتحرك لهم للاختيار عرق، ورجوعهم- بعد امتحائهم عنهم- إلى شظية من أحكام الفرق، اللهم إلا أن يكون ذلك منهم موجودا، وهم عنه مفقودون «٥».
(١) نلفت النظر إلى أهمية ذلك عند دراسة المصطلح الصوفي، خاصة وأن القشيري لم يتكلم عن ذلك فى رسالته.
(٢) (على) طلب الأعواض معناها لأجل طلب الأعواض.
(٣) (روم) فى ص و (روح) فى م، ونظن أنها (فرجة) بالجيم كما سبق منذ قليل حين استعمل القشيري (فرجة، وخرجة) فى سياق مماثل.
(٤) هكذا فى م وهى فى ص مما (يشق عليهم) وكلاهما مقبول فى السياق. [.....]
(٥) معنى هذا أن القشيري يسلم بأنه قد يحدث من العبد الواله ما ينبغى أن يعذر فيه، إن صحّ صدقه فى التوجه، واشتد وقع المحو عليه.
547
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٣٩]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)
إذا أصابهم ضرّ أو مسّهم- ما هو فى الظاهر- ذلّ من الأعادى يجرى عليهم ضيم، أو يلحقهم من الأجانب استيلاء وظلم.. فالحقّ- سبحانه- ينتقم من أعدائهم لأجلهم، فهم بنعت التسليم والسكون فى أغلب الأحوال، وتفاصيل الأقدار جارية باستئصال من يناويهم، وبإحالة الدائرة على أعاديهم. وفى بعض الأحايين ينصبهم الحقّ سبحانه بنعت الغلبة والتمكين من نزولهم بساحات من يناوئهم بحسن الظّفر، وتمام حصول الدائرة على من ناصبهم، وأخزاهم بأيديهم، وكلّ ذلك يتفق، وأنواع النصرة من الله- سبحانه- حاصلة، والله- فى الجملة- غالب على أمره.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٠]
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
المظلوم منصور ولو بعد حين، ودولة الحق تغلب دولة الباطل، والمظلوم حميد العقبى، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا» «١».
وقد يجرى من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء وأهل القصة- ظلم، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء، وتستولى غاغة النّفس، فتعمل فى القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تنداعى القلوب للخراب من «٢» طوارق الحقائق وشوارق الأحوال، كما قال قائلهم:
أنى إليك قلوبا طالما هطلت سحائب الجود فيها أبحر الحكم
فيهزم الحقّ- سبحانه- بجنود الإقبال أراذل الهواجس، وينصر عسكر التحقيق بأمداد الكشوفات. ويتجدّد دارس العهد، وتطلع شموس السّعد فى ليالى الستر، وتكنس القلوب وتتطهر من آثار ظلمة النّفس، كما قيل:
(١) آية ٥٢ سورة النمل.
(٢) (للخراب من طوارق الحقائق) أي بسبب خلوها من طوارق الحقائق
أطلال سعدى باللّوى تتجدّد فإذا هبّت على تلك القلوب رياح العناية، وزال عنها وهج النسيان سقاها الله صوب «١» التجلّى، وأنبت فيها أزهار البسط فيتضح فيها نهار الوصل، ثم يوجد فيها نسيم القرب إلى أن تطلع شموس التوحيد.
قوله جل ذكره: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
يتجاوز عن الأصاغر لقدر الأكابر، ويعفو عن العوام لاحترام الكرام.. وتلك سنّة أجراها الله لاستنقاء «٢» منازل العبادة، واستصفاء من اهل العرفان. ولا تحويل لسنّته، ولا تبديل لكريم عادته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤١]
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
إذا طالت بهم المدة، وساعدهم العمر لم يستفرغوا أعمالهم فى استجلاب حظوظهم، ولا فى اقتناء محبوبهم من الدنيا أو مطلوبهم، ولكن قاموا بأداء حقوقنا.
وقوله: «أَقامُوا الصَّلاةَ» : فى الظاهر، واستداموا المواصلات فى الباطن.
(١) الصوب- المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذى (الوسيط).
(٢) هكذا فى م ولكنها فى س (لاستيفاء). وقد آثرنا (استنقاء) لملاء منها (لاستصفاء) التي بعدها ولا نستبعد أنها قد تكون (لاستبقاء) فى الأصل على معنى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لما بقيت منازل العبادة لأن الكافرين إذا انتصروا لم يتركوا معابد.
ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها فتعلم- بين يدى الله- من أنت، ومن تناجى، ومن الرقيب عليك، ومن القريب منك.
وقوله: «وَآتَوُا الزَّكاةَ» : الأغنياء منهم يوفون بزكاة أموالهم، وفقراؤهم يؤتون زكاة أحوالهم فزكاة الأموال عن كل مائتين خمسة للفقراء والباقي لهم، وزكاة الأحوال أن يكون من مائتى نفس تسعة وتسعون ونصف جزء ومائة لله، ونصف جزء من نفس- من المائتين- لك.. وذلك أيضا علّة «١» قوله «وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» : يبتدئون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأنفسهم ثم بأغيارهم، فإذا أخذوا فى ذلك لم يتفرغوا من أنفسهم إلى غيرهم.
ويقال «الأمر بالمعروف» حفظ الحواس عن مخالفة أمره، ومراعاة الأنفاس معه إجلالا لقدره.
ويقال الأمر بالمعروف على نفسك، ثم إذا فرغت من ذلك تأخذ فى نهيها عن المنكر ومن وجوه المنكر الرياء والإعجاب والمساكنة والملاحظة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤)
فى الآيات تسلية للنبى- صلى الله عليه وسلم، وأمر حتم عليه بالصبر على مقاساة ما كان يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء «٢».
(١) لأنه ينبغى الا تكون لك فى نفسك بقية على الإطلاق، ويجب أن تكون بكليتك للحق.
(٢) أسواء- جمع سوء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٥]
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فتخرب أولا أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة التي هى غالبة على الظّلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظ من يظلمون عليهم.. كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم، وهو فى الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم.
ويقال خراب منازل الظّلمة ربما يتأخر وربما يتعجل. وخراب نفوسهم فى تعطلها عن العبادات لشؤم ظلمهم، وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصا فى أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم.. نقد «١» غير مستأخر.
قوله جل ذكره: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.
الإشارة فى «بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» : إلى العيون المتفجرة التي كانت فى بواطنهم، وكانوا يستقون منها، وفى ذلك الاستقاء حياة أوقاتهم من غلبات الإرادة وقوة المواجيد، فإذا اتصفوا بظلمهم غلب غشاؤها «٢» وانقطع ماؤها بانسداد عيونها.
والإشارة فى «قَصْرٍ مَشِيدٍ» إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها من الهيبة والأنس، وخلوّ أرواحهم من أنوار المحابّ، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٦]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
(١) (نقد) هنا معناها معجّل، تقابل (وعد) فى المؤجّل.
(٢) الغثاء- الفاسد من الماء، الممتلئ ببقايا الأشياء من وجه الأرض والرغوة القدرة.
كانت لهم قلوب من حيث الخلقة، فلمّا زايلتها صفاتها المحمودة صارت كأنها لم تكن فى الحقيقة. ثم إنه أخير أن العمى عمى القلب وكذلك الصمم، وإذا صحّ وصف القلب بالسمع والبصر صحّ وصفه بسائر صفات الحىّ من وجوه الإدراكات فكما تبصر القلوب بنور اليقين يدرك نسيم الإقبال بمشامّ السّرّ، وفى الخبر:
«إنى لأجد نفس ربكم من قبل اليمن» وقال تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام:
«إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ» «١» وما كان ذلك إلا بإدراك السرائر دون اشتمام ريح فى الظاهر.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٧]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)
عدم تصديقهم حملهم على استعمال ما توعدهم به، قال تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» «٢» ولو آمنوا لصدّقوا، ولو صدّقوا لسكنوا. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ»
: أي إنّ الأيام عنده تتساوى، إذ لا استعجال له فى الأمور فسواء عنده يوم واحد وألف سنة إذ من لا يجرى عليه الزمان وهو يجرى الزمان فسواء عليه وجود الزمان، وعدم الزمان وقلة الزمان وكثرة الزمان.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٨]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
: الإمهال يكون من الله- سبحانه وتعالى، والإمهال يكون بأن يدع الظالم فى ظلمه حينا، ويوسّع له الحبل «٣»، ويطيل به المهل، فيتوهم أنه انفلت من قبضة التقدير، وذلك ظنه الذي
(١) آية ٩٤ سورة يوسف.
(٢) آية ١٨ سورة الشورى.
(٣) هكذا فى م ولكنها فى ص (الحيل) بالياء جمع حيلة، وربما تتأيد هذه بقوله فيما بعد (وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى لتقدير عدمه).
أراده، ثم يأخذه من حيث لا يرتقب، فيعلوه ندم، ولات حينه، وكيف يستبقى بالحيلة ما حق فى التقدير عدمه؟
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٤٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩)
: أشابهكم فى الصورة ولكنى أباينكم من حيث السريرة، وأنا لمحسنكم بشير، ولمسيئكم نذير، وقد أيّدت بإقامة البراهين ما جئتكم به من وجوه الأمر بالطاعة والإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥٠]
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠)
الناس- فى المغفرة- على أقسام: فمنهم من يستر «١» عليه زلّته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر حاله لئلا تصيبه من الشهرة فتنة «٢»، وفى معناه قالوا:
لا تنكرن جحدى هواك فإنما ذاك الجحود عليك ستر مسبل
ومنهم من يستره بين أوليائه، لذلك ورد فى الكتب: «أوليائى فى قبائى، لا يشهد أوليائى غيرى».
«والرزق الكريم» ما يكون من وجه الحلال. ويقال ما يكون من حيث لا يحتسب العبد.
ويقال هو الذي يبدو- من غير ارتقاب- على رفق فى وقت الحاجة إليه.
ويقال هو ما يحمل المرزوق على صرفه فى وجه القربة. ويقال ما فيه البركة.
ويقال الرزق الكريم الذي ينال من غير تعب «٣»، ولا يتقلد منّه مخلوق.
(١) لأن غفر معناها فى اللغة ستر.
(٢) وهذه إحدى الأفكار التي نشط أصحاب الملامة فى العمل بها، وحثّ أتباعهم عليها. [.....]
(٣) (الذي ينال من غير تعب) هنا معناها من غير استعجال، ومن غير بعد عن التفويض والتوكل، ومن غير اعتماد على مخلوق. ونحو ذلك مما قد يهدم صرح الاستسلام الكامل للرازق الوهاب سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥١]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
فى الحال فى معجّله الوحشة وانسداد أبواب الرشد، وتغص العيش، والابتلاء بمن لا يعطف عليه ممن لا يخافون الله.
وفى الآخرة ما سيلقون من أليم العقوبة على حسب الاجرام.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
الشياطين يتعرّضون للأنبياء عليهم السلام ولكن لا سلطان ولا تأثير فى أحوالهم منهم، ونبيّنا- صلى الله عليه وسلم- أفضل الجماعة.
وإنما من الشيطان تخييل وتسويل (من التضليل) «١». وكان لنبيّنا- صلى الله عليه وسلم- سكتات فى خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلفّظ الشيطان ببعض الألفاظ «٢»، فمن لم يكن له تحصيل توهّم أنه كان من ألفاظ الرسول- عليه الصلاة والسلام وصار فتنة لقوم.
(١) هكذا فى ص ولكن فى م وردت هكذا (وليس به شىء من التضليل) ونحسب ان هذا أكثر ملازمة للسياق حسبما يتضح من الهامش التالي.
(٢) قيل كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يقرأ بين قومه سورة النجم حتى إذا وصل إلى (ومناة الثالثة الأخرى) جرى على لسانه. تلك الفرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فنبهه جبريل لما لم يفطن له، وحيث إن النبي معصوم من إجراء الشيطان عليه، ومعصوم من الغفلة، ولأنه لا يعقل أن يجرى على لسانه مدح للأصنام- فقد جاء لتحطيمها- فيرى بعض المفسرين انّ الشيطان تكلم بهذه الكلمات- وقد وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد- وتداخلت الكلمات فى قراءة النبي (ص) أثناء سكتة من سكتاته- كما نبّه القشيري.
أما- الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا ولم يضرهم «١» ذلك.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥٤]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
إذا أراد الله بعبده خيرا أمدّه بنور التحقيق، وأيّده بحسن العصمة، فيميز بحسن البصيرة بين الحق والباطل فلا يظلّه غمام الرّيب، وينجلى عنه غطاء الغفلة، فلا تأثير لضباب الغداة فى شعاع الشمس عند متوع النهار، وهذا معنى قوله:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥٦]
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
: لم يتخصص ملكه- سبحانه- بيوم، ولم تتحدد له وقتية أمر، ولا لجلاله قدر «٢»، ولكنّ الدعاوى فى ذلك اليوم تنقطع، والظنون ترتفع، والتجويزات تتلاشى «٣» فللمؤمنين وأهل الوفاق نعم، وللكفار وأصحاب الشقاق نقم.
(١) ضبطناها هكذا ولا بأس- من حيث المعنى- أن تضبط (ولم يضرهم ذلك) فما حدث من الفتنة لم يلحق بهم ضيرا ولا ضررا فقد أدركتهم العناية.
(٢) أي أنه يجل عن التحدد بزمان وقدر فهو المطلق الذي لا يتناهى.
(٣) الدعاوى والظنون والتجويزات هى تهم النفس والعقل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)
هؤلاء لهم عذاب مهين، وهؤلاء لهم فضل مبين.
«وَالَّذِينَ هاجَرُوا... » : للقلوب حلاوة العرفان، وللأرواح حلّة المحاب، وللأسرار دوام الشهود.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٥٩]
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
إدخالا فوق ما يتمنّونه، وإبقاء على الوصف الذي يهدونه.. ذلك فى أوان صحوهم لينالوا لطائف الأنس على وصف الكمال، ويتمكنوا من قضايا البسط على أعلى أحوال السرور.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٠]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
نصره- سبحانه- للأولياء نصر عزيز، وانتقامه بتمام، واستئصاله بكمال، وإزهاقه أعداءه بتمحيق جملتهم، وألا يحتاج المنصور إلى الاحتيال أو الاعتضاد بأشكال «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦١]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١).
(١) أي لا يحتاج المنصور إلى حيلة أو أي تدبير إنسانى من جانبه، بل يسقط تدبيره لأن النصر له من عند الله، ولا يحتاج المنصور إلى أن يعتضد بأمثاله من المخلوقين فكفى الله له ناصرا ومعينا.
كما فى أفق العالم ليل ونهار فكذلك للسرائر ليل ونهار فعند التجلي نهار وعند الستر ليل، ولليل السّرّ ونهاره زيادة ونقصان، فبمقدار القبض ليل وبمقدار البسط نهار، ويزيد أحدهما على الآخر وينقص.. وهذا للعارفين. فأمّا المحقّقون فلهم الأنس والهيبة مكان قبض قوم وبسطهم، وذلك فى حالى صحوهم ومحوهم، ويزيد أحدهما وينقص، ومنهم من يدوم نهاره ولا يدخل عليه ليل.. وذلك لأهل الأنس فقط «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٢]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
إذا بدا علم من الحقائق حصلت بمقداره شظية من الفناء لمن حصل له التجلي، ثم يزيد ظهور ما يبدو ويغلب، وتتناقص آثار التفرقة وتتلاشى، قال: صلى الله عليه وسلم:
«إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا» فإذا نأى العبد بالكلية عن الإحساس بما دون الله فلا يشهد أولا الأشياء إلا للحقّ، ثم لا يشهدها إلا بالحق، ثم لا يشهد إلا الحق..
فلا إحساس له بغير الحق، ومن جملة ما ينساه.. نفسه والكون كله «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٣]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)
ماء السماء يحيى الأرض بعد موتها، وماء الرحمة يحيى أحوال أهل الزّلة بعد تركها، وماء العناية يحيى أحوال (... ) «٣» بعد زوال رونقها، وماء الوصلة يحيى أهل القربة بعد لضوبها.
(١) كثير من المصطلحات الصوفية لا يفهم فهما دقيقا إلّا بطريق المقارنة المعتمدة على مظاهر الطبيعة كالليل والنهار والجبال والبحار والسحب... إلخ.
وقد استغل القشيري- فى ظلال القرآن الكريم- هذا الجانب.
(٢) تفيد هذه الفقرة فى توضيح مراتب الشهود.
(٣) في م (الناس) وفى ص مكتوبة هكذا (المقاليس).
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٤]
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
الملك له، وهو عن الجميع غنى، فهو لا يستغنى بملكه، بل ملكه بصير موجودا بخلقه إياه إذ المعدوم له مقدور والمقدور هو المملوك.
ويقال كما أنه «١» غنىّ عن الأجانب ممن أثبتهم فى شواهد الأعداء فهو غنى عن الأكابر وجميع الأولياء.
ويقال إذا كان الغىّ حميدا فمعنى ذلك أنه يعطى حتى يشكر.
ويقال الغنىّ الحميد المستحقّ للحمد: أعطى أو لم يعط فإنّ أعطى استحقّ الحمد الذي هو الشكر، وإن لم يعط استحق الحمد الذي هو المدح «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٥]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
أراد به تسخير الانتفاع بها فما للخلق «٣» به انتفاع وميسّر له فى الاستمتاع به فهو كالمسّخّر له على معنى تمكينه منه، ثم يراعى فيه الإذن فمن استمتع بشىء على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعام وإكرام، ومن كان بالعكس فمكر واستدراج.
وأمّا السفينة.. فإلهام العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها بالحمل فيها وركوبها فمن أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قطع المسافات البعيدة، والتوصل بها إلى المضارب
(١) هكذا في م وهى فى ص (أنت) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
(٢) لاجل هذا نقول فى صلاتنا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي نشكرك فى السراء، ونمدحك فى الضراء فالحمد أعم والشكر أو المدح أخص.
(٣) وردت هكذا فى م وهى فى ص (للحق) وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففى ذلك أعظم نعمة، وأكمل عافية.
وجعل الأرض للخلق قرارا من غير أن تميد، وجعل السماء بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء فى الظلام، ثم هى زينة السماء- وفى ذلك من الأدلة ما يوجب ثلج الصدر وبرد اليقين.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٦]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
إحياء النفوس وإماتتها مرات محصورة، وإحياء أوقات العبّاد وإماتتها لا حصر له ولا عدّ، وفى معناه أنشدوا.
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا فكم أحيا عليك وكم أموت
ويقال يحي الآمال بإشهاد تفضله، ثم يميتها بالاطلاع على تعزّزه.
ويقال هذه صفة العوام منهم، فأمّا الأفاضل فحياتهم مسرمدة وانتعاشهم مؤبّد. وأنّى يحيا غيره وفى وجوده- سبحانه- غنية وخلف عن كل فائت «١»
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٧]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧)
جعل لكلّ فريق شرعة هم واردوها، ولكلّ جماعة طريقة هم سالكوها.
وجعل لكلّ مقام سكّانه، ولكلّ محلّ قطّانه، فقد ربط كلّا بما هو أهل له، وأوصل كلّا إلى ما جعله محلا له فبساط التّعبّد موطوء بأقدام العابدين، ومشاهد الاجتهاد معمورة بأصحاب التكلف من المجتهدين، ومجالس أصحاب المعارف مأنوسة بلزوم العارفين، ومنازل المحبين مأهوله بحضور الواجدين.
(١) هكذا فى النسختين، ونحن لا نستبعد أن تكون في الأصل (فان) فسواء كان الفناء بالمعنى المعروف أو بالمعنى الصوفي فإنها منسجمة مع السياق. ولأن القشيري يستعمل هذا الأسلوب كثيرا: فكفى به خلفا لك عند فنائك عنك. [.....]
قوله: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ... » الأمر اشهد تصاريف الأقدار، واعمل بموجب التكليف، وانته دون ما أذنت له من المناهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٨]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨)
كلهم إلينا عند ما راموا من الجدال، ولا تنكل على ما تختاره من الاحتيال، واحذر جنوح قلبك إلى الاستعانة بالأمثال والأشكال، فإنهم قوالب خاوية، وأشباح عن المعاني خالية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٦٩]
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
أمّا الأجانب فيقول لهم: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» «١»، وأمّا الأولياء فقوم منهم يحاسبهم حسابا يسيرا، وأقوام مخصوصون يقول لهم: بينى وبينكم حساب فلا جبريل يحكم بينهم ولا ميكائيل، ولا نبيّ مرسل، ولا ملك مقرّب.
«اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» يحكم بينهم فيسأل عن أعماله جميع خصمائه، ويأمر بإرضاء جميع غرمائه.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
يعلم السّرّ والنجوى، وما تكون حاجة العبد له أمس وأقوى، وبكلّ وجه هو بالعبد أولى، وله أن يحمل له النّعمى، ويزيل عنه البلوى، ولا يسمع منه الشكوى، فله الحكم تبارك وتعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧١]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
(١) آية ١٤ سورة الإسراء.
الآية تشير إلى أنّ من كان من جملة خواصّه أفرده- سبحانه- ببرهان، وأيّده ببيان، وأعزّه بسلطان. ومن لا سلطان له يمتد إليه قهره، ومن لا برهان له ينبسط عنه- إلى غيره- نوره، فهو بمعزل عن جملته.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٢]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
لسماع الخطاب أثر في القلوب من الاستبشار والبهجة، أو الإنكار «١» والوحشة.
ثم ما تخامره السرائر يلوح على الأسرّة فى الظاهر فكانت الآيات عند نزولها إذا تليت على الكفار يلوح على رجوههم دخان ما تنطوى عليه قلوبهم من ظلمات التكذيب، فما كان يقع عليهم طرف إلّا نبّأ عن جحودهم، وعادت إلى القلوب النّبوءة عن إقلاعهم.
ثم أخبر أنّ الذي هم بصدده فى الآخرة من أليم العقوبة شرّ بكل وجه لهم ممّا يعود إلى الرائين لهم عند شهودهم. وإنّ المناظر الوضيئة للرائين مبهجة، والمناظر المنكرة للناظرين إليها موحشة.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣).
(١) هكذا فى م ولكنها فى ص (الانكسار) بالسين وهى خطأ لأن المقصود بيان المقابلة بين أثر القرآن على المؤمنين بالاستبشار والبهجة مع أثر القرآن على الكافرين (بالإنكار) والوحشة وظلمات التكذيب.
نبه الأفكار المشتّتة، والخواطر المتفرقة على الاستجماع لسماع ما أراد تضمينه فيها فاستحضرها فقال: «ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ..»
ثم بيّن المعنى فقال إنّ الذين تدعون من دون الله، وتدعونها آلهة أي وتسمونها آلهة (وأنها للعبادة مستحقة) «١» لن يخلقوا بأجمعهم ذبابا، ولا دون ذلك. وإن يسلبهم الذباب شيئا بأن يقع على طعام لهم فليس فى وسعهم استنقاذهم ذلك منه، ومن كان بهذه الصفة فساء المثل مثلهم، وضعف وصفهم، وقلّ خطرهم.
ويقال إن الذي لا يقاوم ذبابا فيصير به مغلوبا فأهون بقدره! قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٤]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
ما عرفوه حقّ معرفته، ولا وصفوه بجلال ما يستحقه من النعوت. ومن لم يكن فى عقيدته نقص لما يستحيل فى وصفه- سبحانه- لم تباشر خلاصة التوحيد سرّه، وهو فى ترجّم فكر، وتجويز ظن، وخطر تعسّف، يقع فى كل وهدة من الضلال.
ويقال العوام اجتهادهم فى رفضهم الأعمال الخبيثة خوفا من الله، والخواص جهدهم فى نقض عقيدتهم للأوصاف التي تجلّ عنها الصمدية، وبينهما (... ) «٢» بعيد.
«إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» قوى أي قادر على أن يخلق من هو فوقهم فى التحصيل وكمال العقول.
«عَزِيزٌ» : أي لا يقدّر أحد قدره- إلا بما يليق بصفة البشر- بقدر من العرفان.
ويقال من وجد السبيل إليه فليس النعت له إلا بوصف القصور، ولكن كلّ بوجده مربوط، وبحدّه فى همته موقوف، والحق سبحانه عزيز «٣».
(١) ما بين القوسين موجود فى ص مفقود فى م
(٢) فى ص جاءت (وفاق) وفى م جاءت (فرقان) والأولى مرفوضة، وفى مثل هذا الموضع يستعمل القشيري (فرق) أو (بون) بعيد.
(٣) كلام القشيري هنا فى (قوى) وفى (عزيز) هام لأنه لم يرد فى مبحثه المستقل عن الأسماء والصفات الإلهية الذي ضمنه كتاب (التحبير فى التذكير) الذي حققناه ونشرته دار الكاتب العربي سنة ١٩٦٩.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٥]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
الاجتباء والاصطفاء من الحق سبحانه بإثبات القدر، وتخصيص الطّول، وتقديمهم على أشكالهم فى المناقب والمواهب.
ثم بعضهم فوق بعض درجات فالفضيلة بحقّ المرسل، لا لخصوصية فى الخلقة فى المرسل.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٦]
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
يعلم حالهم ومآلهم، وظاهرهم وباطنهم، ويومهم وغدهم، ويعلم نقضهم عهدهم فإليه منقلبهم، وفى قبضته تقلّبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
الركوع والسجود والعبادة كلّها بمعنى الصلاة لأنّ الصلاة تشتمل على هذه الأفعال جميعها، ولكن فرّقها فى الذكر «١» مراعاة لقلبك من الخوف عند الأمر بالصلاة فقسّمها ليكون مع كلّ لفظة ومعنى نوع من التخفيف والترفيه، ولقلوب أهل المعرفة فى كل لفظة راحة جديدة.
ويقال لوّن عليهم العبادة، وأمرهم بها، ثم جميعها عبادة واحدة، ووعد عليها من الثواب الكثير ما تقصر عن علمه البصائر.
ويقال علم أن الأحباب يحبّون سماع كلامه فطّول عليهم القول إلى آخر الآية ليزدادوا عند سماع ذلك أنسا على أنس، وروحا على روح، ومعاد خطاب الأحباب هو روح روحهم، وكمال راحتهم.
(١) ما يلى من الكلام فى هذه الفقرة مفيد فى المباحث البلاغية فائدة كبيرة.
ثم قال بعد هذا: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» فأدخل فيه جميع أنواع القرب.
قوله جل ذكره:
[سورة الحج (٢٢) : آية ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
( «حَقَّ جِهادِهِ» : حق الجهاد ما وافق الأمر فى القدر والوقت والنوع، فإذا حصلت فى شىء منه مخالفة فليس حقّ جهاده) «١».
ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدة بالنّفس، ومجاهدة بالقلب، ومجاهدة بالمال.
فالمجاهدة بالنفس ألا يدّخر العبد ميسورا إلا بذله فى الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق «٢». والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة مثل الغفلة، والعزم على المخالفات، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.
ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل- وإن كان فى الأخفّ أيضا حق.
ويقال حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النّفس لحظة، قال قائلهم.
يا ربّ إنّ جهادى غير منقطع فكلّ أرض لى ثغر طرسوس
قوله جل ذكره: هُوَ اجْتَباكُمْ يحتمل أنه يقول من حقّ اجتبائه إياكم أنّ تعظّموا أمر مولاكم ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لما جاهدتم، فلاجتبائه إياك وفّقك حتى جاهدت.
ويقال علم ما كنت تفعله قبل أن خلقك ولم يمنعه ذلك من أن يجتبيك، وكذلك إن رأى ما فعلت فلا يمنعه ذلك أن يتجاوز عنك ولا يعاقبك
(١) ما بين قوسين موجود فى م وناقص فى ص.
(٢) إذا كانت (الإرفاق) فمعناه التسهيل، والقشيري لا يرضى به غالبا لأرباب الطريق لأنهم باحثون عن الأشق، وإذا كانت (الأرفاق) فهى جمع رفق وقد نهى القشيري فى نهاية رسالته عن وفق النسوان والصبيان فهم الأنتان والجيف... إلخ. والسياق هنا بعيد عن ذلك مما يرجح أنها الإرفاق بكسر الهمزة.
564
قوله جل ذكره: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجب جزيل فضله وإحسانه، وتتخلّص به من أليم عقابه وامتحانه- يسير «١» من الأمر لا يستغرق كنه إمكانك بمعنى أنّك إن أردت فعله لقدرت عليه، وإن لم توصف فى الحال بأنّك مستطيع ما ليس بموجود فيك.
قوله جل ذكره: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ.
أي اتّبعوا والزموا ملّة أبيكم ابراهيم عليه السلام فى البذل والسخاء والجود والخلة والإحسان.
قوله جل ذكره: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ.
الله هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سمّاكم المسلمين. وقيل ابراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» «٢».
قوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ، نصب الرسول بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يبقى للشفاعة موضعا ومحلا.
قوله جل ذكره: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.
وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومن كانت له شهادة عند أحد- وهو كريم- فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.
قوله جل ذكره: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
(١) يسير خبر لاسم الموصول (والذي به... )
(٢) آية ١٢٨ سورة البقرة.
565
أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.
والاعتصام بالله التبري من الحول والقوة، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسك بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصام بالله حسن الاستقامة بدوام الاستعانة.
«هُوَ مَوْلاكُمْ» : سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.
«فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» نعم المولى: إخبار عن عظمته، ونعم النصير: إخبار عن رحمته.
ويقال إن قال لأيوب: «نِعْمَ الْعَبْدُ» «١» ولسليمان «نِعْمَ الْعَبْدُ» «٢» فلقد قال لنا «فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»، ومدحه لنفسه أعزّ وأجلّ من مدحه لك.
ويقال «فَنِعْمَ الْمَوْلى» : بدأك بالمحبة قبل أن أحببته، وقبل أن عرفته أو طلبته أو عبدته.
«وَنِعْمَ النَّصِيرُ» : إذا انصرف عنك جميع من لك فلا يدخل القبر معك أحد كان ناصرك، ولا عند السؤال أو عند الصراط.
السورة التي يذكر فيها المؤمنون
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الاسم اشتقاقه من السمو، وللمسمى بهذا الاسم استحقاق العلو، فالاسم اسم لسموّه من القدم، والحقّ حقّ لعلوّه بحق القدم.
ويقال من عرف «بِسْمِ اللَّهِ» سمت همّته عن المرسومات، ومن أحبّ بسم الله صفت حالته عن مساكنة الموهومات..
اسم من طلبه نسى من الدارين أربه، ومن عرفه وجد بقلبه مالا يعرف سببه.
(١) «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية ٤٤ سورة ص.
(٢) «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» آية ٣٠ سورة ص.
566
Icon