تفسير سورة آل عمران

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة آل عمران مدنية كلها، وهي مائتا آية باتفاق.

قال: حدثنا عبيدالله، حدثنى أبى، عن الهذيل، عن مقاتل، أنه اجتمعت نصارى نجران، فمنهم السيد والعاقب، فقالوا: نشهد أن عيسى هو الله، فأنزل الله عز وجل تكذيباً لقولهم: ﴿ الۤمۤ ﴾ [آية: ١]، يخبره أنه ﴿ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ ﴾ [آية: ٢]، يعنى الحى الذى لا يموت.
﴿ ٱلْقَيُّومُ ﴾، يعنى القائم على كل نفس بما كسبت.
﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾ يا محمد ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾، لم ينزله باطلاً، يعنى القرآن.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتاب، يقول: محمد، عليه السلام، مصدق للكتب التى كانت قبله.
﴿ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ ﴾ على موسى.
﴿ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ [آية: ٣] على عيسى.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾ هذا القرآن، ثم قال: ﴿ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ هما ﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ ﴾، يعنى لبني إسرائيل من الضلالة قال سبحانه: ﴿ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾، يعنى القرآن بعد التوراة والإنجيل، والفرقان يعنى به المخرج فى الدين من الشبهة والضلالة، فيه بيان كل شىء يكون إلى يوم القيامة، نظيرها فى الأنبياء:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾[الأنبياء: ٤٨]، يعنى المخرج من الشبهات، وفى البقرة:﴿ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ﴾[البقرة: ١٨٥]، ثم قال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن، وهم اليهود كفروا بالقرآن، منهم: حيى، وجدى، وأبو ياسر بنو أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وزيد بن التابوه وغيرهم.
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ ﴾ فى الآخرة ﴿ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ ﴾ [آية: ٤]، يعنى عزيز فى ملكه، منيع شديد الانتقام من أهل مكة، هذا وعيد لمن خالف أمره.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾ [آية: ٥]، يعنى شىء من أهل السماء، ولا من أهل الأرض، كل ذلك عنده.
﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾، نزلت فى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، خلقه من غير أب، ذكراً وأنثى، سوياً وغير سوى.
﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ فى ملكه.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٦] فى أمره، نزلت هذه الآية فى قولهم، وما قالوا من البهتان والزور لعيسى صلى الله عليه وسلم.
ثم قال سبحانه: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾، يعمل بهن، وهن الآيات التى فى الأنعام قوله سبحانه:﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾[الأنعام: ١٥١] إلى ثلاث آيات آخرهن:﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[الأنعام: ١٥١ - ١٥٣]، يقول: ﴿ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى أصل الكتاب؛ لأنهن فى اللوح المحفوظ مكتوبات، وهن محرمات على الأمم كلها فى كتابهم، وإنما تسمين أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات فى جميع الكتب التى أنزلها الله تبارك وتعالى على جميع الأنبياء، وليس من أهل دين إلا وهو يوصى بهن. ثم قال عز وجل: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾.
﴿ الۤمۤ ﴾ ﴿ الۤمۤصۤ ﴾ ﴿ الۤمۤر ﴾ ﴿ الۤمۤر ﴾، شبه على اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين، والمتشابهات هؤلاء الكلمات الأربع.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾، يعنى ميل عن الهدى، وهو الشك، فهم اليهود.
﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ ﴾، يعنى ابتغاء الكفر.
﴿ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾، يعنى منتهى ما يكون وكم يكون، يريد بذلك الملك، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾، كم يملكون من السنين، يعنى أمة محمد، يملكون إلى يوم القيامة، إلا أياماً يبتليهم الله عز وجل بالدجال. ثم استأنف، فقال: ﴿ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾، يعنى المتدارسون علم التوراة، فهم عبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمنى أهل التوراة.
﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾، يعنى قليله وكثيره من عند ربنا.
﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾ [آية: ٧]، فما يسمع إلا أولو الألباب، يعنى من كان له لب وعقل، يعنى ابن سلام وأصحابه، فيعلمون أن كل شىء من هذا وغيره من عند الله.
قال ابن سلام وأصحابه: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾، لا تمل قلوبنا، يعنى لا تحول قلوبنا عن الهدى بعدما هديتنا كما أزغت اليهود عن الهدى.
﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾، يعنى من عندك رحمة.
﴿ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾ [آية: ٨] للرحمة، ثم قال ابن سلام وأصحابه: ﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾، يعنى ليوم القيامة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ [آية: ٩] فى البعث بأنك تجمع الناس فى الآخرة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود خاصة، نزلت فى كعب بن الأشرف. ﴿ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ ﴾، يعنى لا ﴿ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ١٠]، يعنى اليهود.
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، يعنى كأشباه آل فرعون فى التكذيب.
﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ من الأمم الخالية قبل آل فرعون والأمم الخالية قبل آل فرعون: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب.
﴿ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ﴾، يعنى بأنهم كذبوا أيضاً بالعذاب فى الدنيا بأنه غير نازل بهم.
﴿ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾، يعنى فى الدنيا، فعاقبهم الله.
﴿ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ١١]، يعنى إذا عاقب.
﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة يوم بدر.
﴿ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ﴾ فى الآخرة.
﴿ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ [آية: ١٢]، يقول: بئسما مهدوا لأنفسهم،" فقال النبى صلى الله عليه وسلم للكفار يوم بدر: " إن الله غالبكم، وسوف يحشركم إلى جهنم "، فقال أبو جهل: يا ابن أبى كبشة، هل هذا إلا مثل ما كنت تحدثنا به، وقوله سبحانه: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ﴾، وذلك أن بنى قينقاع من اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بعد قتال بدر يوعدونه القتال كما قتل كفار مكة يوم بدر، فأنزل الله عزوجل: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾ معشر اليهود، يعنى عبرة ﴿ فِي فِئَتَيْنِ ﴾ ﴿ ٱلْتَقَتَا ﴾ فئه المشركين وفئه المؤمنين يوم بدر، التقتا ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، وهو النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر.
﴿ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ ﴾، أبو جهل والمشركين.
﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ ﴾، رأت اليهود أن الكفار مثل المؤمنين فى الكثرة.
﴿ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ ﴾، وكان الكفار يومئذ سبعمائة رجل، عليهم أبو جهل، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، بين كل أربعة بعير، ومعهم فرسان، أحدهما مع أبى مرثد الغنوى، والآخر مع المقداد بن الأسود الكندى، ومعهم ستة أدراع، والمشركون ألف رجل، سبعمائة دراع، عليهم أبو جهل، وثلاثمائة حاسر، ثم حبس الأخنس بن شريق ثلاثمائة رجل من بنى زهرة عن قتال النبى صلى الله عليه وسلم، فبقى المشركون فى سبعمائة رجل. يقول الله تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ ﴾، يعنى بنصره ﴿ مَن يَشَآءُ ﴾، فينصره الله عز وجل القليل على الكثير.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ ﴾، يعنى يقوى فى نصرهم، نصر المؤمنين وهم قليل، وهزيمة الكفار وهم كثير.
﴿ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾ [آية: ١٣]، يعنى الناظرين فى أمر الله عز وجل وطاعته لعبرة وتفكراً لأولى الأبصار، حين أظهر الله عز وجل القليل على الكثير.
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى الكفار.
﴿ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ ﴾، يعنى المال الكثير ﴿ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ ﴾، فأما الذهب، فهو ألف دينار ومائتا دينار، والفضة ألف ومائتا مثقال.
﴿ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ ﴾، يعنى السائمة، وهى الراعية.
﴿ وَٱلأَنْعَامِ ﴾، وهى الإبل والبقر والغنم.
﴿ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ ﴾ الذى ذكر فى هذه الآية.
﴿ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ ﴾ [آية: ١٤]، يعنى حسن المرجع، وهى الجنة.
﴿ قُلْ ﴾ للكفار: ﴿ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ ﴾، يعنى ما ذكره فى هذه الآية ﴿ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، وذلك أن العيون تجرى من تحت البساتين.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون.
﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ من الحيض والغائط والبول والبزاق والمخاط ومن القذر كله.
﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ أكبر، يعنى رضى الله عنهم.
﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ [آية: ١٥]، يعنى بأعمالهم.
ثم أخبر سبحانه عن فعلهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ١٦]، ثم نعت أعمالهم، فقال: الجنة هى لـ ﴿ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ على أمر الله وفرائضه.
﴿ وَٱلصَّادِقِينَ ﴾ بكتاب الله ورسله.
﴿ وَٱلْقَانِتِينَ ﴾، يعنى المطيعين لله.
﴿ وَٱلْمُنْفِقِينَ ﴾ أموالهم فى حق الله.
﴿ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ ﴾ [آية: ١٧]، يقول: المصلين لله بالأسحار، يعنى المصلين من آخر الليل.
قوله سبحانه: ﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ ﴾، وذلك أن عبد الله بن سلام وأصحابه مؤمنى أهل التوراة، قالوا لرءوس اليهود: إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودينه الحق، فاتبعوه، فقالت اليهود: ديننا أفضل من دينكم، فقال الله تبارك وتعالى: ﴿ شَهِدَ ٱللَّهُ ﴾ ﴿ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾ يشهدون بها.
﴿ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ ﴾ بالتوراة ابن سلام وأصحابه يشهدون أنه لا إله إلا هو، ويشهدون أن الله عز وجل ﴿ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ ﴾، يعنى قائم على كل شىء بالعدل.
﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١٨] فى أمره.
شهدوا ﴿ إِنَّ الدِّينَ ﴾، يعنى التوحيد ﴿ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ ﴾، ثم قال: ﴿ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى اليهود والنصارى فى هذا الدين.
﴿ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ ﴾، يعنى بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم من قبل أن يبعث رسولاً، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل، تفرقوا ﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن، يعنى اليهود، ثم خوفهم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهِ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ [آية: ١٩]، كأنه قد جاء.
﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ ﴾، يعنى اليهود خاصموك يا محمد فى الدين.
﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ ﴾، يقول: أخلصت دينى لله.
﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ ﴾ على دينى فقد أخلص.
﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ ﴾، يعنى أهل التوراة والإنجيل، اليهود والنصارى.
﴿ أَأَسْلَمْتُمْ ﴾، والإسلام اسم مشتق من اسم الله عز وجل، أمر الله تعالى النبى صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام، فقال: أسملت، يعنى أخلصت، يقول: ﴿ فَإِنْ أَسْلَمُواْ ﴾، يعنى فإن أخلصوا له، يعنى لله عز وجل بالتوحيد.
﴿ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ ﴾ من الضلالة.
﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يقول: فإن أبوا أن يسلموا.
﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ ﴾، يعنى بلاغ الرسالة.
﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ [آية: ٢٠] بأعمال العباد.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى بالقرآن، وهم ملوك بنى إسرائيل من اليهود ممن لا يقرأ الكتاب.
﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى بالعدل بين الناس من مؤمنى بنى إسرائيل من بعد موسى.
﴿ فَبَشِّرْهُم ﴾ يا محمد ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٢١]، يعنى وجيع، يعنى اليهود؛ لأن هؤلاء على دين أوائلهم الذين قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط.
ثم قال عز وجل: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾ فعلوا ذلك ﴿ حَبِطَتْ ﴾، يعنى بطلت ﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾، فلا ثواب لهم.
﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَ ﴾ لا فى ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ لأن أعمالهم كانت فى غير طاعة الله عز وجل.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آية: ٢٢]، يعنى من مانعين يمنعونهم من النار.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى أعطوا حظاً من التوراة، يعنى اليهود: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ويحيى بن عمرو، ونعمان بن أوفى، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو نافع بن قيس، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم:" أسلموا تهتدوا، ولا تكفروا "، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: نحن أهدى واحق بالهدى منكم، ما أرسل الله نبياً بعد موسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لم تكذبون وأنتم تعلمون أن الذى أقول حق، فأخرجوا التوراة نتبع نحن وأنتم ما فيها، وهى بينكم، فإنى مكتوب فيها أنى نبى ورسول "، فأبوا ذلك، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾ ﴿ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى التوراة.
﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾، يعنى ليقضى بينهم.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ ﴾، يعنى يأبى ﴿ فَرِيقٌ ﴾، يعنى طائفة ﴿ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ [آية: ٢٣].
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ ﴾ بأن العذاب واجب عليهم، فيها تقديم لقولهم: ﴿ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾، يعنى الأربعين يوماً التى عبد آباؤهم فيها العجل؛ لأنهم قالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه، يقول: ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ﴾ عفو الله ﴿ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [آية: ٢٤]، يعنى الذين كذبوا لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، خوفهم الله، فقال: ﴿ فَكَيْفَ ﴾ بهم ﴿ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾، يعنى يوم القيامة لا شك فيه بأنه كائن.
﴿ وَوُفِّيَتْ ﴾ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ بر وفاجر ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ من خير أو شر.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٥] فى أعمالهم.
﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل له ملك فارس والروم فى أمته، فنزلت: ﴿ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ ﴾ ﴿ مَن تَشَآءُ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته.
﴿ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ ﴾، يعنى الروم وفارس.
﴿ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ ﴾ محمداً وأمته.
﴿ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾، يعنى الروم وفارس.
﴿ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من الملك والعز والذل ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢٦].
﴿ تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ ﴾، يعنى ما تنقص فى الليل داخل فى النهار، حتى يصير الليل تسع ساعات والنهار خمس عشرة ساعة، فذلك قوله سبحانه:﴿ يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ﴾يعنى يسلط﴿ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ ﴾[الزمر: ٥]، وهما هكذا إلى أن تقوم الساعة. قوله سبحانه: ﴿ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ ﴾، فهو الناس والدواب والطير، خلقهم من نطفة وهى ميتة، وخلق الطير من البيضة وهى ميتة.
﴿ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ ﴾، يعنى يخرج الله عز وجل هذه النطفة من الحى، وهم الناس والدواب والطير.
﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آية: ٢٧]، يقول سبحانه: ليس فوقى ملك يحاسبنى، أنا الملك أعطى من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبنى.
قوله سبحانه: ﴿ لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك.
﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ﴾، فيتخذونهم أولياء من غير قهر.
﴿ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾، ثم استثنى تعالى، فقال: ﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾، فيكون بين أظهرهم فيرضيهم بلسانه من المخافة، وفى قلبه غير ذلك، ثم خوفهم، فقال: ﴿ وَيُحَذِّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾، يعنى عقوبته فى ولاية الكفار.
﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٢٨] فى الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم.
﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ ﴾، يعنى إن تسروا ما فى قلوبكم من الولاية للكفار.
﴿ أَوْ تُبْدُوهُ ﴾، يعنى أو تظهروا ولايتهم، يعنى حاطب وأصحابه.
﴿ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾، من المغفرة والعذاب ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢٩]، نظيرها فى آخر البقرة، ثم خوفهم ورغبهم، فقال: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾، يعجل لها كل خير عملته، ولا يغادر منه شىء.
﴿ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً ﴾، يعنى أجلاً بعيداً بين المشرق والمغرب.
﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ ﴾، يعنى عقوبته فى عمل السوء.
﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ [آية: ٣٠]، يعنى بربهم، حين لا يعجل عليهم بالعقوبة، لما دعا النبى صلى الله عليه وسلم كعباً وأصحابه إلى الإسلام، قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولنحن أشد حباً لله مما تدعونا إليه، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي ﴾ على دينى.
﴿ يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ ما كان فى الشرك.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٣١] ذو تجاوز لما كان فى الشرك، رحيم بهم فى الإسلام.
﴿ قُلْ ﴾ لليهود ﴿ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يعنى أعرضوا عن طاعتهما.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٣٢]، يعنى اليهود.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً ﴾، يعنى اختار من الناس لرسالته آدم ونوحاً.
﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾، يعنى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، ثم قال: ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾، يعنى موسى، وهارون ذرية آل عمران اختارهم للنبوة والرسالة ﴿ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٣٣]، يعنى عالمى ذلك الزمان. وهى ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾، وكل هؤلاء من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٣٤]، لقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حباً لله، عليهم بما قالوا، يعنى اليهود.
﴿ إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَةُ عِمْرَانَ ﴾ بن ماثانا، اسمها حنة بنت فاقوز، وهى أم مريم، وهى حبلى، لئن نجانى الله عز وجل ووضعت ما فى بطنى، لأجعلنه محرراً، وبنو ماثان من ملوك بنى إسرائيل من نسل داود، عليه السلام، والمحرر الذى لا يعمل للدنيا ولا يتزوج، ويعمل للآخرة، ويلزم المحراب، فيعبد الله عز وجل فيه، ولم يكن يحرر فى ذلك الزمان إلا الغلمان، فقال زوجها: أرأيت إن كان الذى فى بطنك أنثى؟ والأنثى عورة، كيف تصنعين؟ فاهتمت لذلك، فقالت حنة: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ٣٥] لدعائهما، العليم بنذرهما، يعنى بالتقبل والاستجابة لدعائهما.
﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ ﴾، والانثى عورة، فيها تقديم، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ﴾، ثم قالت حنة: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾، وكذلك كان اسمها عند الله عز وجل.
﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾، يعنى عيسى ﴿ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ ﴾ [آية: ٣٦]، يعنى الملعون، فاستجاب الله لها، فلم يقربها ولا ذريتها شيطان، وخشيت حنة ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها فى خرق ووضعتها فى بيت المقدس عند المحراب، حيث يدرس القراء، فتساهم القوم عليها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم، وهم الأحبار من ولد هارون أيهم يأخذها. قال زكريا، وهو رئيس الأحبار: أنا آخذها، أنا أحقكم بها؛ لأن أختها أم يحيى عندى، فقال القراء: وإن كان فى القوم من هو أقرب إليها منك؟ فلو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، ولكنها محررة، ولكن هلم نتساهم عليها، من خرج سهمه فهو أحق بها، فاقترعوا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾يعنى عندهم فتشهدهم،﴿ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾حين اقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التى كانوا يكتبون بها الوحى أيهم يكفلها؟ أيهم يضمها؟ فقرعهم زكريا فقبضها، ثم قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾[آل عمران: ٤٤] فى مريم، فذلك قوله: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾.
﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً ﴾، يقول: رباها تربية حسنة فى عبادة وطاعة لربها، فبنى لها زكريا محراباً فى بيت المقدس، وجعل بابه وسطه، لا يصعد إليه أحد إلا بسلم، واستأجر لها ظئراً ترضعها حتى تحركت، فكان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح، لا يأمن عليها أحداً، يأتيها بطعامها ومصالحها، وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله، فتكون مع أختها أيليشفع بنت عمران، وهى مريم بنت عمران، أم يحيى، فإذا طهرت ردها إلى محراب بيت المقدس، وكان زكريا يرى عندها العنب فى الشتاء الشديد البرد، فيأتيها به جبريل، عليه السلام من السماء.
﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ ﴾ لها زكريا: ﴿ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ﴾، يعنى من أين هذا فى غير حينه؟ ﴿ قَالَتْ ﴾ هذا الرزق ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آية: ٣٧].
فطمع عند ذلك زكريا فى الولد، فقال: إن الذى يأتى مريم بهذه الفاكهة فى غير حينها لقادر أن يصلح لى زوجتى ويهب لى منها ولداً، فذلك قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾، يعنى عند ذلك ﴿ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ﴾، يعنى من عندك.
﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾، تقياً زكياً، كقوله:﴿ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ﴾[مريم: ٦].
﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ ﴾ [آية: ٣٨]، فاستجاب الله عز وجل، وكانا قد دخلا فى السن.
﴿ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ ﴾، فبينما هو يصلى فى المحراب، حيث يذبح القربان، إذا برجل عليه بياض حياله، وهو جبريل، عليه السلام، فقال: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ ﴾، اشتق يحيى من أسماء الله عز وجل.
﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى من الله عز وجل، وكان يحيى أول من صدق بعيسى، عليهما السلام، وهو ابن ثلاث سنين، قوله الأول وهو ابن ستة أشهر، فلما شهد يحيى أن عيسى من الله عز وجل، عجبت بنو إسرائيل لصغره، فلما سمع زكريا شهادته، قام إلى عيسى فضمه إليه، وهو فى خرقة، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، يحيى وعيسى ابنا خالة، ثم قال الله سبحانه: ﴿ وَسَيِّداً ﴾، يعنى حليماً.
﴿ وَحَصُوراً ﴾ لا ماء له.
﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ٣٩]، والحصور الذى لا حاجة له فى النساء.
فلما بشر زكريا بالولد، قال لجبريل، عليه السلام فى المخاطبة: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ ﴾، يعنى من أين ﴿ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾، يقول ذلك تعجباً؛ لأنه كان قد يبس جلده على عظمه من الكبر.
﴿ قَالَ ﴾ جبريل، عليه السلام.
﴿ كَذَلِكَ ﴾، يعنى هكذا قال ربك، إنه يكون لك ولد.
﴿ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ [آية: ٤٠]، أن يجعل ولداً من الكبير والعاقر؛ لقوله: ﴿ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾.
﴿ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً ﴾، يعنى علماً للحبل.
﴿ قَالَ آيَتُكَ ﴾ إذا جامعتها على طهر فحبلت، فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرساً ولا سقماً، ولكن تصبح لا تطيق الكلام.
﴿ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾، يعنى إلا إشارة يومئ بيده، أو برأسه من غير مرض، ولم يحبس لسانه عن ذكر الله عز وجل، ولا عن الصلاة، فكذلك قوله سبحانه: ﴿ وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ ﴾ [آية: ٤١]، يقول: صل بالغداة والعشى، فأتى امرأته على طهرها فحملت، وكان آية الحبل أنه وضع يده على صدرها، فحملت فاستقر الحمل فى رحمها، فحبلت بيحيى، فأصبح لا يستطيع الكلام، فعرف أن امرأته قد حبلت، فولدت يحيى، عليه السلام، فلم يعص الله قط.
﴿ وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾، وهو جبريل، عليه السلام، وحده: ﴿ يٰمَرْيَمُ ﴾، وهى فى المحراب؛ ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ ﴾، يعنى اختارك.
﴿ وَطَهَّرَكِ ﴾ من الفاحشة والألم.
﴿ وَٱصْطَفَاكِ ﴾، يعنى واختارك.
﴿ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٤٢] بالولد من غير بشر.
﴿ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾، يعنى لربك.
﴿ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ ﴾ [آية: ٤٣]، يعنى مع المصلين فى بيت المقدس.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ أن الذى ذكر فى هؤلاء الآيات.
﴿ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ ﴾، يعنى حديثاً من الغيب لم تشهده يا محمد، فذلك قوله: ﴿ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ ﴾ فى القرعة.
﴿ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾، يعنى يضم مريم إلى نفسه.
﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ﴾ يا محمد.
﴿ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آية: ٤٤] فى مريم، يعنى القراء أيهم يكفلها.
﴿ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ ﴾، وهو جبريل وحده، عليه السلام.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً ﴾، يعنى مكيناً عند الله عز وجل.
﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ فيها تقديم.
﴿ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آية: ٤٥] عند الله فى الآخرة.
﴿ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾، يعنى حجر أمه فى الخرق طفلاً.
﴿ وَ ﴾ يكلمهم ﴿ وَكَهْلاً ﴾، يعنى إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء.
﴿ وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ٤٦].
﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ ﴾، يعنى من أين ﴿ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾، يعنى الزوج.
﴿ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، ويخلق من يشاء، فشاء أن يخلق ولداً من غير بشر، لقولها: ﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾.
﴿ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾ كان فى علمه أن يكون عيسى فى بطن مريم من غير بشر.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آية: ٤٧] لايثنى.
﴿ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى خط الكتاب بيده بعدما بلغ أشده، وهو ابن ثمانى عشرة سنة، والمرأة بعدما تبلغ الحيض.
﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الحلال والحرام والسُّنة.
﴿ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾ [آية: ٤٨].
ويجعله ﴿ وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، يعنى بعلامة، ثم بين الآية.
﴿ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ ﴾، يعنى أجعل لكم ﴿ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً ﴾، فخلق الخفاش ﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ لأنه أشد الخلق، إنما هو لحم وشىء يطير بغير ريش فطار بإذن الله.
﴿ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ ﴾ الذى ولدته أمه أعمى، الذى لم ير النور قط، فيرد الله بصره.
﴿ وَ ﴾ أبرئ ﴿ وٱلأَبْرَصَ ﴾، فيبرأ بإذن الله.
﴿ وَأُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾، فتعيش، ففعل ذلك وهم ينظرون، وكان صنبعه هذا آية من الله عز وجل بأنه نبى ورسول إلى بنى إسرائيل، فأحيا سام بن نوح بن لمك من الموت بإذن الله، فقالوا: له: إن هذا سحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أنا أخبرتكم ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ ﴾ فى بيوتكم من الطعام، فيها تقديم ﴿ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾، يعنى وما ترفعون فى غد، تعلمون أنى صادق؟ قالوا: نعم، قال عيسى صلى الله عليه وسلم: فلان أكلت كذا وكذا. وشربت كذا وكذا، وأنت يا فلان أكلت كذا وكذا، وأنت يا فلان، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً ﴾، يعنى لعلامة.
﴿ لَّكُمْ ﴾ فيما أخبرتكم به ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٤٩]، يعنى مصدقين بعيسى بأنه رسول.
﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ من اللحوم، والشحوم، وكل ذى ظفر، والسمك، فهذا البعض الذى أحل لهم غير السبت، فإنهم يقومون عليه فوضع عنهم فى الإنجيل ذلك.
﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ بعلامة من ربكم، يعنى العجائب التى كان يصنعها الله.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعنى فوحدوا الله.
﴿ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آية: ٥٠] فيما آمركم به من النصيحة، فإنه لا شريك له.
وقال لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ ﴾، يعنى فوحدوه.
﴿ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ [آية: ٥١]، يعنى هذا التوحيد دين مستقيم، وهو الإسلام، فكفروا.
﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ ﴾، يعنى فلما رأى ﴿ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ ﴾، يعنى من بنى إسرائيل، كقوله عز وجل:﴿ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾[مريم: ٩٨]، يعنى هل ترى منهم من؟ فمر عيسى صلى الله عليه وسلم على الحواريين، يعنى على القصارين غسالى الثياب.
﴿ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾، يعنى من يتبعنى مع الله، كقوله:﴿ فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ﴾[الشعراء: ١٣]، يعنى معى هارون، وكقوله سبحانه:﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ﴾[النساء: ٢]، يعنى مع أموالكم.
﴿ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ ﴾، يعنى بتوحيد الله.
﴿ وَٱشْهَدْ ﴾ يا عيسى ﴿ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ٥٢] يعنى مخلصين بتوحيد الله عز وجل.
ثم قالوا: ﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ ﴾، يعنى صدقنا بالإنجيل الذى أنزلت على عيسى.
﴿ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ ﴾، يعنى عيسى على دينه.
﴿ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ [آية: ٥٣]، يقول: فاجعلنا مع الصادقين، نظيرها فى المائدة، هذا قول الحواريين.
﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾، وذلك أن كفار بنى إسرائيل عمدوا إلى رجل، فجعلوه رقيباً على عيسى ليقتلوه، فجعل الله شبه عيسى على الرقيب، فأخذوا الرقيب فقتلوه وصلبوه، وظنوا أنه عيسى، ورفع الله عز وجل عيسى إلى سماء الدنيا من بيت المقدس ليلة القدر فى رمضان، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَكَرُواْ ﴾ بعيسى ليقتلوه، يعنى اليهود.
﴿ وَمَكَرَ ٱللَّهُ ﴾ بهم حين قتل رقيبهم وصاحبهم.
﴿ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ ﴾ [آية: ٥٤]، يعنى أفضل مكراً منهم.﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾، فيها تقديم، يقول: رافعك إلىَّ من الدنيا، ومتوفيك حين تنزل من السماء على عهد الدجال، يقول: إني رافعك إلىَّ الآن ومتوفيك بعد قتل الدجال، يقول: رافعك إلى فى السماء.
﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود وغيرهم.
﴿ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ ﴾ على دينك يا عيسى، وهو الإسلام.
﴿ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى اليهود وغيرهم، وأهل دين عيسى هم المسلمون فوق الأديان كلها ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ فى الآخرة ﴿ فَأَحْكُمُ ﴾، يعنى فأقضى ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾، يعنى بين المسلمين وأهل الأديان ﴿ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ ﴾ من الدين ﴿ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ٥٥]، وهو الإسلام، فأسلمت طائفة وكفرت طائفة.
ثم أخبر الله عز وجل عن منزلة الفريقين فى الآخرة، فقال: ﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى كفار أهل الكتاب.
﴿ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا ﴾، يعنى القتل أو الجزية.
﴿ وَ ﴾ فى ﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾ عذاب النار.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آية: ٥٦]، يعنى من مانعين يمنعونهم من النار.
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾، يعنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾، يعنى فيوفوا أجورهم فى الآخرة.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٥٧].
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذى ذكره الله عز وجل فى هذه الآيات ﴿ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ﴾ يا محمد ﴿ مِنَ الآيَاتِ ﴾، يعنى من البيان ﴿ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ ﴾ [آية: ٥٨]، يعنى المحكم من الباطل.
﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ ﴾، وذلك" أن وفد نصارى نجران قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، منهم السيد، والعاقب، والأسقف، والرأس، والحارث، وقيس، وابنيه، وخالد، وخليد، وعمرو، فقال السيد والعاقب، وهما سيدا أهل نجران: يا محمد، لم تشتم صاحبنا وتعيبه؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ما صاحبكم؟ "، قالوا: عيسى ابن مريم العذارء البتول، قال أبو محمد بن ثابت، قال: العذراء البتول، المنقطعة إلى الله عز وجل، لقوله عز وجل: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: ٨].
قالوا: فأرنا فيما خلق الله عبداً مثله يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيراً، ولم يقولوا: بإذن الله، وكل آدمى له أب، وعيسى لا أب له، فتابعنا فى أن عيسى ابن الله ونتابعك، فإما أن تجعل عيسى ولداً وإما إلهاً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله أن يكون له ولد، أو يكون معه إله "، فقالا للنبى صلى الله عليه وسلم: أنت أحمد؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " أنا أحمد، وأنا محمد "، فقالا: فيم أحمد؟ قال: أحمد الناس عن الشرك "، قالا: فإنا نسألك عن أشياء، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " لا أخبركم حتى تسلموا فتتبعونى "، قالا: أسملنا قبلك، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " إنكما لم تسلما، حجزكما عن الإسلام ثلاثة: أكلكما الخنزير، وشربكما الخمر، وقولكما: إن لله عز وجل ولداً ". فغضبا عند ذلك، فقالا: من أبو عيسى؟ ائتنا له بمثل، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [آية: ٥٩]، هذا الذى قال الله فى عيسى هو ﴿ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ ﴾ [آية: ٦٠] يا محمد، يعنى من الشاكين فى عيسى أنه مثله كمثل آدم، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ليس كما تقول، ما هذا له بمثل.
فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ ﴾، يعنى فمن خاصمك فى عيسى ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾، يعنى من البيان من أمر عيسى، يعنى ما ذكر فى هذه الآيات.
﴿ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾، يعنى نخلص الدعاء إلى الله عز وجل.
﴿ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ ﴾ [آية: ٦١].
﴿ إِنَّ هَـٰذَا ﴾ الذى ذكرته فى عيسى.
﴿ لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ ﴾، والذى تقولون هو الباطل.
﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ﴾ فى ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٦٢] فى أمره، حكم عيسى فى بطن أمه. ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يعنى فإن أبوا إلا أن يلاعنوا.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ [آية: ٦٣] فى الأرض بالمعاصى.
قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ ﴾، يعنى كلمة العدل، وهى الإخلاص.
﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ من خلقه.
﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾؛ لأنهم اتخذوا عيسى رباً.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يعنى فإن أبوا التوحيد.
﴿ فَقُولُواْ ﴾ لهم أنتم: ﴿ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ٦٤]، يعنى مخلصين بالتوحيد، فقال العاقب: ما نصنع بملاعنته شيئاً، فو الله لئن كان كاذباً ما ملاعنته بشىء، ولئن كان صادقاً لا يأتى علينا الحول حتى يهلك الله الكاذبين." قالوا: يا محمد، نصالحك على أن تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدى إليك ألف حلة فى صفر، وألف حلة فى رجب، وعلى ثلاثين درعاً من حديد عادية، فصالحهم النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: " والذى نفس محمد بيده، لولا عنونى ما حال الحول، ويحضرنى منهم أحد، ولأهلك الله الكاذبين "، قال عمر، رضى الله عنه: لو لاعنتهم بيد من كنت تأخذ، قال: " آخذ بيد على، وفاطمة، والحسن، والحسين، عليهم السلام، وحفصة، وعائشة، رحمهما الله ".
﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ ﴾، يعنى تخاصمون ﴿ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾، وذلك" أن رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف، وأبا ياسر، وأبا الحقيق، وزيد بن التابوه، ونصارى نجران، يقولون: إبراهيم أولى بنا، والأنبياء منا كانوا على ديننا، وما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً، وقالت النصارى: ما تريد بأمرك إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت اليهود عزيراً رباً، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله من ذلك، ولكنى أدعوكم إلى أن تعبدوا الله جميعاً، ولا تشركوا به شيئاً "، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ ﴾، يعنى تخاصمون ﴿ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾، فتزعمون أنه كان على دينكم.
﴿ وَمَآ أُنزِلَتِ ٱلتَّورَاةُ وَٱلإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ ﴾، أى بعد موت إبراهيم.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٦٥].
﴿ هٰأَنْتُمْ هَؤُلاۤءِ حَاجَجْتُمْ ﴾، يعنى خاصمتم ﴿ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ ﴾ مما جاء فى التوراة والإنجيل؛ ﴿ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ بما ليس فى التوراة والإنجيل.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ أن إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٦٦] أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً، ثم أخبر الله عز وجل، فقال: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً ﴾، يعنى حاجاً ﴿ مُّسْلِماً ﴾، يعنى مخلصاً.
﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ٦٧]، يعنى من اليهود ولا من النصارى.
ثم قال: ﴿ إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ﴾ لقولهم: إنه كان على دينهم.
﴿ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ ﴾ على دينه واقتدوا به.
﴿ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يقول: من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه، ثم قال الله عز وجل: ﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٦٨] الذين يتبعونهما على دينهما.
﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾، يعنى يستنزلونكم عن دينكم الإسلام.
﴿ وَمَا يُضِلُّونَ ﴾، يعنى وما يستنزلون ﴿ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ٦٩]، إنما يصلون أنفسهم، فنزلت فى عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وذلك أن اليهود جادلوهما ودعوهما إلى دينهم، وقالوا: إن ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلاً، فنزلت: ﴿ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ... ﴾ إلى آخر الآية.
ونزلت: ﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آية: ٧٠] أن محمداً رسول الله، ونعته معكم فى التوراة.
﴿ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ ﴾، يعنى لم تخلطون الحق ﴿ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ ﴾، وذلك أن اليهود أقروا ببعض أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضاً ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧١] أن محمداً نبى ورسول صلى الله عليه وسلم.﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف اليهوديان لسلفة اليهود ﴿ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا بالقرآن.
﴿ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ ﴾ أول النهار، يعنى صلاة الغداة، وإذا كان العشى قولوا لهم: نظرنا فى التوراة، فإذا النعت الذى فى التوراة ليس بنعت محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ ﴾، يعنى صلاة العصر، فلبسوا عليهم دينهم لعلهم يشكون فى دينهم، فذلك قوله: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آية: ٧٢]، يعنى لكى يرجعوا عن دينهم إلى دينكم. وقالا لسفلة اليهود: ﴿ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾، فإنه لن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم من الفضل والتوراة والمن والسلوى والغمام والحجر، اثبتوا على دينكم، وقالوا لهم: لا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم فيحاجوكم، يعنى فيخاصموكم عند ربكم، قالوا ذلك حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن تكون النبوة فى غيرهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ إِنَّ ٱلْفَضْلَ ﴾، يعنى الإسلام والنبوة ﴿ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ لذلك ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧٣] بمن يؤتيه الفضل.
﴿ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ﴾، يعنى بتوبته.
﴿ مَن يَشَآءُ ﴾، فاختص الله عز وجل به المؤمنين.
﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ ﴾، يعنى الإسلام ﴿ الْعَظِيمِ ﴾ [آية: ٧٤] على المؤمنين.
﴿ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى أهل التوراة.
﴿ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾، يعنى عبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾، يعنى كفار اليهود، يعنى كعب بن الأشرف وأصحابه، يقول: منهم من يؤدى الأمانة ولو كثرت، ومنهم من لا يؤديها ولو ائتمنته على دينار لا يؤده إليك.
﴿ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ﴾ عند رأسه مواظباً عليه تطالبه بحقك.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ استحلالاً للأمانة.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ٱلأُمِّيِّينَ ﴾، يعنى فى العرب ﴿ سَبِيلٌ ﴾، وذلك أن المسلمين باعوا اليهود فى الجاهلية، فلما تقاصهم المسلمون فى الإسلام، قالوا: لا حرج علينا فى حبس أموالهم؛ لأنهم ليسوا على ديننا يزعمون أن ذلك حلال لهم فى التوراة، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧٥] أنهم كذبة، وأن فى التوراة تحريم الدماء والأموال إلا بحقها، ولكن أمرهم بالإسلام وأداء الأمانة وأخذ على ذلك ميثاقهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ ﴾ الذى أخذه الله عليه فى التوراة وأدى الأمانة.
﴿ وَاتَّقَى ﴾ محارمه.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٧٦]، يقول: الذين يتقون استحلال المحارم.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعنى عرضاً من الدنيا يسيراً، يعنى رءوس اليهود.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾، يعنى لا نصيب لهم فى الآخرة.
﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ بعد العرض والحساب.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧٧]، يعنى وجيع.﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ ﴾، يعنى من اليهود ﴿ لَفَرِيقاً ﴾، يعنى طائفة، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وأبو ياسر، وجدى ابن أخطب، وشعبة بن عمرو.
﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى باللى التحريف بالألسن فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى التوراة، يقول الله عز جل: ﴿ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ كتبوا يعنى فى من التوراة غير نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومحوا نعته.
﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ ﴾ هذا النعت ﴿ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، ولكنهم كتبوه.
﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧٨] أنهم كذبة، وليس ذلك نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ ﴾، يعنى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ﴾، يعنى أن يعطيه الله ﴿ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى التوراة والإنجيل.
﴿ وَٱلْحُكْمَ ﴾، يعنى الفهم.
﴿ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى بنى إسرائيل.
﴿ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن ﴾، يقول لهم: ﴿ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ﴾، يعنى متعبدين لله عزوجل.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى التوراة والإنجيل.
﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آية: ٧٩]، يعنى تقرءون.﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً ﴾، يعنى عيسى، وعزير، ولو أمركم بذلك لكان كفراً، فذلك قوله: ﴿ أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ ﴾، يعنى بعبادة الملائكة والنبيين.
﴿ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [آية: ٨٠]، يعنى مخلصين له بالتوحيد، فقال: الإصبغ بن زيد، وكردم بن قيس، أيامرنا بالكفر بعد الإيمان، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ ﴾، على أن يعبدوا الله، ويبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين الله عز وجل، فبعث الله موسى ومعه التوراة إلى بنى إسرائيل، فكان موسى أول رسول بعث إلى بنى إسرائيل، وفى التوراة بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فأقروا به.
﴿ لَمَآ ﴾، يعنى للذى ﴿ آتَيْتُكُم ﴾، يعنى بنى إسرائيل ﴿ مِّن كِتَابٍ ﴾، يعنى التوراة.
﴿ وَحِكْمَةٍ ﴾، يعنى ما فيها من الحلال والحرام.
﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ ﴾، يعنى بنى إسرائيل.
﴿ رَسُولٌ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾، يعنى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم لما معكم فى التوراة.
﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ﴾، يعنى لتصدقن به إن بعث.
﴿ وَلَتَنصُرُنَّهُ ﴾، إذا خرج، يقول عز وجل لهم: ﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ ﴾ بمحمد فى التوراة بتصديقه ونصره.
﴿ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي ﴾، يقول: وقبلتم على الإيمان بمحمد وعهدى وميثاقى فى التوراة.
﴿ قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا ﴾، يقول الله: ﴿ قَالَ فَٱشْهَدُواْ ﴾ على أنفسكم بالإقرار، يقول الله عز وجل: ﴿ وَأَنَاْ مَعَكُمْ ﴾ أى إقراركم بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ [آية: ٨١].
ثم قال: ﴿ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾، يعنى فمن أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إقراره، فى التوراة.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٨٢]، يعنى العاصين.
﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾، يعنى الملائكة.
﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾، يعنى المؤمنين.
﴿ طَوْعاً ﴾، ثم قال سبحانه: ﴿ وَكَرْهاً ﴾، يعنى أهل الأديان، يقولون: الله هو ربهم، وهو خلقهم، فذلك إسلامهم، وهم فى ذلك مشركون.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آية: ٨٣].
ثم أنزل الله عز وجل فى آل عمران: إن لم يؤمن أهل الكتاب بهذه الآية التى فى البقرة، وأمر المؤمنين أن يقرءوها، فنزل: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِٱللَّهِ ﴾، يعنى صدقنا بتوحيد الله.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾، يعنى الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ﴾، يعنى وما أعطى موسى.
﴿ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾، يقول: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض.
﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ٨٤]، يعنى مخلصين.
﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٨٥]، نزلت فى طعمة بن أبيرق الأنصارى من الأوس من بنى صقر، ارتد عن الإسلام ولحق بكفار مكة.
﴿ كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوۤاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعنى البيان.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ﴾ إلى دينه ﴿ ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٨٦].
﴿ أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ ٱللَّهِ وَ ﴾ لعنة ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ٨٧]، يعنى والعالمين كلهم.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ فى اللعنة، مقيمين فيها.
﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [آية: ٨٨]، يعنى لا يناظر بهم العذاب، نزلت فى اثنى عشر رجلاً ارتدوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة كهيئة البداة، ثم انصرفوا إلى طريق مكة، فلحقوا بكفار مكة، منهم: طعمة بن أبيرق الأنصارى، ومقيس بن ضبابة الليثى، وعبد الله بن أنس بن خطل من بنى تيم بن مرة القرشى، ووجوج بن الأسلت الأنصارى، وأبو عامر بن النعمان الراهب، والحارث بن سويد بن الصامت الأنصارى من بنى عمرو بن عوف أخو الجلاس بن سويد بن الصامت. ثم إن الحارث ندم فرجع تائباً من ضرار، ثم أرسل إلى أخيه الجلاس: إنى قد رجعت تائباً، فسل النبى صلى الله عليه وسلم هلى لى من توبة وإلا لحقت بالشام؟ فانطلق الجلاس إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأخبره فلم يرد عليه شيئاً، فأنزل الله عز وجل فى الحارث، فاستثنى: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾، فلا يعذبون ﴿ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾، يعنى من بعد الكفر.
﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ فى العمل فيما بقى.
﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ ﴾ لكفره.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٨٩] به فيما بقى.
فبلغ أمر الحارث الأحد عشر الذين بمكة، فقالوا: نقيم بمكة ما أقمنا ونتربص بمحمد الموت، فإذا أردنا المدينة فسينزل فينا ما نزل فى الحارث ويقبل منا ما يقبل منه، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً ﴾، قالوا: نقيم بمكة كفاراً، فإذا أردنا المدينة، فسينزل فينا كما نزل فى الحارث.
﴿ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ ﴾ [آية: ٩٠].
ثم أخبرهم عنهم وعن الكفار وما لهم فى الآخرة، فقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾، فيود أحدهم أن يكون له ملء الأرض ذهباً، يقدر على أن يفتدى به نفسه من العذاب لافتدى به.
﴿ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ ﴾ ما قبل منه.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، وله عذاب، وجميع نظيرها فى المائدة.
﴿ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آية: ٩١]، يعنى من مانعين يمنعونهم من العذاب، قوله سبحانه: ﴿ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ ﴾، يقول: لن تستكملوا التقوى حتى تنفقوا فى الصدقة ﴿ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ من الأموال.
﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ ﴾، يعنى من صدقة.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٩٢]، يعنى عالم به، يعنى بنياتكم.
﴿ كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوْرَاةُ ﴾، وذلك أن يعقوب بن إسحاق خرج ذات ليلة ليرسل الماء فى أرضه، فاستقبله ملك، فظن أنه لص يريد أن يقطع عليه الطريق، فعالجه فى المكان الذى كان يقرب فيه القربان يدعى شانير، فكان أول قربان قربه بأرض المقدس، فلما أراد الملك أن يفارقه، غمز فخذ يعقوب برجليه ليريه أنه لو شاء لصرعه، فهاج به عرق النساء، وصعد الملك إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فلقى منها البلاء، حتى لم ينم الليل من وجعه، ولا يؤذيه بالنهار، فجعل يعقوب لله عز وجل تحريم لحم الإبل وألبانها، وكان من أحب الطعام والشراب إليه، لئن شفاه الله. قالت اليهود: جاء هذا التحريم من الله عز وجل فى التوراة، قالوا: حرم الله على يعقوب وذريته لحوم الإبل وألبانها، قال الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ لليهود ﴿ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا ﴾ فاقرءوها ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٩٣] بأن تحريم لحوم الإبل فى التوراة، فلم يفعلوا، يقول الله عز وجل يعيبهم: ﴿ فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾ بأن الله حرمه فى التوراة.
﴿ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ البيان.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٩٤].
﴿ قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ ﴾، وذلك حين قال الله سبحانه:﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً... ﴾[آل عمران: ٦٧] إلى آخر الآية، وقالت اليهود والنصارى: كان إبراهيم والأنبياء على ديننا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" فقد كان إبراهيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذلك، فلم تكفرون بآيات الله "، يعنى بالحج، فذلك قوله سبحانه: ﴿ قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ ﴾ ﴿ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾، يعنى حاجاً.
﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ٩٥]، يقول: لم يكن يهودياً ولا نصرانياً.
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ ﴾، يعنى أول مسجد.
﴿ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى للمؤمنين.
﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ﴾، وإنما سمى بكة؛ لأنه يبك الناس بعضهم بعضاً فى الطواف، ومباركاً فيه، البركة مغفرة للذنوب.
﴿ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٩٦]، يعنى المؤمنين من الضلالة لمن صلى فيه، وضلالة لمن صلى قبل بيت المقدس، وذلك أن المسلمين واليهود اختصموا فى أمر القبلة، فقال المسلمون: القبلة الكعبة، وقالت اليهود: القبلة بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل أن الكعبة أول مسجد كان فى الأرض، والبيت قبلة لأهل المسجد الحرام، والحرم كله قبلة الأرض. ثم قال عز وجل: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾، يعنى علامة واضحة أثر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَن دَخَلَهُ ﴾ فى الجاهلية ﴿ كَانَ آمِناً ﴾ حتى يخرج منه.
﴿ وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى المؤمنين ﴿ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾، يعنى بالاستطاعة الزاد والراحلة.
﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ من أهل الأديان بالبيت ولم يحج واجباً فقد كفر، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ ﴿ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٩٧].
﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى بالقرآن.
﴿ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٨].
﴿ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أهل الإيمان، نزلت فى حذيفة، وعمار بن ياسر حين دعوهما إلى دينهم، فقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلاً، فقال عز وجل: ﴿ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، عن دين الإسلام.
﴿ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾، يعنى بملة الإسلام زيغاً ﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ ﴾ أن الدين هو الإسلام، وأن محمداً رسول الله ونبى.
﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٩].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى طائفة من الذين أوتوا الكتاب، يعنى أعطوا التوراة.
﴿ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٠٠].
﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.
﴿ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ ﴾، يعنى يحترز بالله فيجعله ثقته.
﴿ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ١٠١]، يعنى إلى دين الإسلام.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى الأنصار.
﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، وهو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، نسختها:﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ ﴾[التغابن: ١٦]، وذلك أنه كان بين الأوس والخزرج عداوة فى الجاهلية فى دم شمير وحاطب، فقتل بعضهم بعضاً حيناً، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصلح بينهم، فلما كان بعد ذلك، فاتخر منهم رجلان أحدهما ثعلبة بن غنيمة من الأوس، والآخر سعد بن زرارة من بنى الخزرج من بنى سلمة بن جشم، فجرى الحديث بينهما فغضبا، فقال الخزرجى: أما والله لو تأخر الإسلام عنا وقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا لقتلنا سادتكم، واستعبدنا أبناءكم، ونكحنا نساءكم بغير مهر، فقال الأوسى: قد كان الإسلام متأخراً زماناً طويلاً، فهلا فعلتم، فقد ضربناكم بالمرهفات حتى أدخلناكم الديار، وذكرا الأشعار والموتى، وافتخرا وانتسبا، حتى كان بينهما دفع وضرب بالأيدى والسعف، والنعال، فغضبا فناديا، فجاءت الأوس إلى الأوس، والخزرج إلى الخزرج بالسلاح، وأسرع بعضهم إلى بعض بالرماح، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فركب حماراً وأتاهم، فلما أن عاينهم ناداهم: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [آية: ١٠٢]، يعنى معتصمين بالتوحيد.﴿ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى بدين الله.
﴿ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾، يعنى ولا تختلفوا فى الدين كما اختلف أهل الكتاب.
﴿ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ الإسلام.
﴿ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً ﴾ فى الجاهلية يقتل بعضكم بعضاً.
﴿ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾، يعنى برحمته إخواناً فى الإسلام.
﴿ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا ﴾، يقول للمشركين: الميت منكم فى النار، والحى منكم على حرف النار، إن مات دخل النار.
﴿ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا ﴾، يعنى من الشرك إلى الإيمان.
﴿ كَذٰلِكَ ﴾، يعنى هكذا.
﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾، يعنى علاماته فى هذه النعمة، أعداء فى الجاهلية، إخواناً فى الإسلام.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، لكى ﴿ تَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٠٣]، فتعرفوا علاماته فى هذه النعمة." فلما سمع القوم القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم تحاجزوا، ثم عانق بعضهم بعضاً، وتناول بخدود بعض بالتقبيل والالتزام، يقول جابر بن عبدالله، وهو فى القوم: لقد اطلع إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحد هو أكره طلعة إلينا منه لما كنا هممنا به، فلما انتهى إليهم النبى صلى الله عليه وسلم، قال: " اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ".
﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾، يعنى عصبة.
﴿ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١٠٤].
فوعظ الله المؤمنين لكى يتفرقوا ولا يختلفوا كفعل أهل الكتاب، فقال: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ ﴾ فى الدين بعد موصى، فصاروا أدياناً ﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعنى البيان.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٥].
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث.
﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آية: ١٠٦].
﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ﴾، يعنى فى جنة ﴿ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ١٠٧]، يعنى لا يموتون.
﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ١٠٨]، فيعذب على غير ذنب.
﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ١٠٩]، يعنى تصير أمور العباد إليه فى الآخرة، وافتخرت الأنصار، فقالت الأوس، منا خزيمة بن ثابت صاحب الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن الأفلح الذى حمت رأسه الدبر، يعنى الزنابير، ومنا سعد بن معاذ الذى اهتز العرش لموته، ورضى الله عز وجل بحكمه، والملائكة فى أهل قريظة، وقالت الخزرج: منا أربعة أحكموا القرآن، أبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة صاحب راية الأنصار وخطيبهم الذى ناحت الجن عليه، فقالوا: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة   فرميناه بسهمين فلم تخط فؤادهقوله سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى خير الناس للناس، وذلك أن مالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا قالا لعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ فى زمانكم كما فضل بنى إسرائيل فى زمانهم.
﴿ تَأْمُرُونَ ﴾ الناس ﴿ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعنى بالإيمان.
﴿ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ ﴾ بتوحيد ﴿ بِٱللَّهِ ﴾ وتنهوهم عن الظلم وأنتم خير الناس للناس، وغيركم من أهل الأديان لا يأمرون أنفسهم ولا غيرهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، ثم قال: ﴿ وَلَوْ آمَنَ ﴾، يعنى ولو صدق ﴿ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق.
﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ من الكفر، ثم قال: ﴿ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾، يعنى عبد الله بن سلام وأصحابه.
﴿ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ١١٠]، يعنى العاصين، يعنى اليهود.﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى ﴾، وذلك أن رؤساء اليهود: كعب بن مالك، وشعبة، وبحرى، ونعمان، وأبو ياسر، وأبا نافع، وكنانة بن أبى الحقيق، وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم، وهم عبدالله بن سلام وأصحابه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ ﴾ اليهود ﴿ إِلاَّ أَذًى ﴾ باللسان.
﴿ وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ [آية: ١١١].
ثم أخبر عن اليهود فقال سبحانه: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ ﴾، يعنى المذلة.
﴿ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ ﴾، يعنى وجدوا.
﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يقول: لا يأمنوا حيث ما توجهوا إلا بعهد من الله، وعهد من الناس، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم وحده.
﴿ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى استوجبوا الغضب من الله.
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ﴾ الذلة و ﴿ ٱلْمَسْكَنَةُ ﴾، يعنى الذل والفقر.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذى نزل بهم ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ ﴾ الذى أصباهم ﴿ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ [آية: ١١٢] فى دينهم بما خير عنهم.
فقال سبحانه: ﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، وذلك أن اليهود قالوا لابن سلام وأصحابه: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم ديناً غيره، وقد عاهدتم الله بعهد ألا تدينوا إلا بدينكم، فقال الله عز وجل: ﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً ﴾، يقول: ليس كفار اليهود والذين فى الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه الذين هم على دين الله، منهم ﴿ أُمَّةٌ ﴾ عصابة ﴿ قَآئِمَةٌ ﴾ بالحق على دين الله عادلة.
﴿ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى يقرءون كلام الله ﴿ آنَآءَ ٱللَّيْلِ ﴾، يعنى ساعات الليل.
﴿ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آية: ١١٣]، يعنى يصلون بالليل.﴿ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعنى يصدقون بتوحيد الله والبعث الذى فيه جزاء الأعمال.
﴿ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعنى إيماناً بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾، يعنى عن تكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ ﴾، يعنى شرائع الإسلام.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ١١٤].
﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ﴾، فلن يضل عنهم، بل يشكر ذلك لهم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١١٥]، يعنى ابن سلام وأصحابه.
فقال: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ١١٦]، ثم ذكر نفقة سفلة اليهود من الطعام والثمار على رءوس اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، يريدون بها الآخرة، فضرب الله عز وجل مثلاً لنفقاتهم، فقال: ﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هِـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾، وهم كفار، يعنى سفلة اليهود.
﴿ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ﴾، يعنى برداً شديداً.
﴿ أَصَابَتْ ﴾ الريح الباردة.
﴿ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾، فلم يبق منه شيئاً، كما أهلكت الريح الباردة حرث الظلمة، فلم ينفعهم حرثهم، فكذلك أهلك الله نفقات سفلة اليهود، ومنهم كفار مكة التى أرادوا بها الآخرة، فلم تنفعهم نفقاتهم، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ حين أهلك نفقاتهم، فلم تقبل منهم.
﴿ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آية: ١١٧].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى المنافقين عبد الله بن أبى، ومالك بن دخشم الأنصارى وأصحابه، دعاهم اليهود إلى دينهم، منهم: إصبغ ورافع ابنى حرملة، وهما رءوس اليهود، فزينوا لهما ترك الإسلام، حتى أرادوا أن يظهروا الكفر، فأنزل الله عز وجل يحذرهما ولاية اليهود.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً ﴾، يعنى اليهود.
﴿ مِّن دُونِكُمْ ﴾، يعنى من دون المؤمنين.
﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ﴾، يعنى غياً.
﴿ وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ﴾، يعنى ما أثمتم لدينكم فى دينكم.
﴿ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ ﴾، يعنى ظهرت البغضاء.
﴿ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾، يعنى قد ظهرت العداوة بألسنتهم.
﴿ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ ﴾، يعنى ما تسر قلوبهم من الغش.
﴿ أَكْبَرُ ﴾ مما بدت بألسنتهم.
﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ ﴾، يقول: ففى هذا بيان لكم منهم.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١١٨].
ثم قال سبحانه: ﴿ هَآأَنْتُمْ ﴾ معشر المؤمنين ﴿ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ تحبون هؤلاء اليهود فى التقديم لما أظهروا من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
﴿ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾؛ لأنهم ليسوا على دينكم.
﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾، كتاب محمد صلى الله عليه وسلم والكتب كلها التى كانت قبله.
﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾، يعنى صدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وهم كذبة، يعنى اليهود، مثلها فى المائدة:﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ... ﴾[المائدة: ٦١] إلى آخر الآية، ثم قال: ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ ﴾، يعنى أطراف الأصابع.
﴿ مِنَ ٱلْغَيْظِ ﴾ الذى فى قلوبهم، ودوا لو وجدوا ريحاً يركبونكم بالعداوة.
﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ١١٩]، يعنى يعلم ما فى قلوبهم من العداوة والغش للمؤمنين. ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: ﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ﴾، يعنى الفتح والغنيمة يوم بدر.
﴿ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ﴾، القتل والهزيمة يوم أحُد.
﴿ يَفْرَحُواْ بِهَا ﴾، ثم قال للمؤمنين: ﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ ﴾ على أمر الله.
﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ معاصيه ﴿ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾، يعنى قولهم: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آية: ١٢٠]، أحاط علمه بأعمالهم.
﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ على راحلتك يا محمد يوم الأحزاب.
﴿ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾، يعنى توطن لهم.
﴿ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ فى الخندق قبل أن يستبقوا إليه ويستعدوا للقتال.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٢١].
﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ﴾، يعنى ترك المركز، منهم بنو حارثة بن الحارث، ومنهم أوس بن قيظى، وأبو عربة بن أوس بن يامين، ، وبنو سملة بن جشم، وهما حيان من الأنصار.
﴿ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ حين عصمها فلم يتركا المركز، وقالوا: ما يسرنا أنا لم نهم بالذى هممنا إذا كان الله ولينا.
﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١٢٢]يعنى فليثق المؤمنون به.﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾، وأنتم قليل، يذكرهم النعم.
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ١٢٣] ربكم فى النعم.
﴿ إِذْ تَقُولُ ﴾ يا محمد ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يوم أحُد: ﴿ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ ﴾ [آية: ١٢٤] عليكم من السماء، وذلك حين سألوا المدد، فقال سبحانه: ﴿ بَلَىۤ ﴾ يمددكم ربكم بالملائكة.
﴿ إِن تَصْبِرُواْ ﴾ لعدوكم ﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ معاصيه.
﴿ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا ﴾، يعنى من وجههم هذا.
﴿ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾، فزادهم ألفين ﴿ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آية: ١٢٥]، يعنى معلمين بالصوف الأبيض فى نواصى الخيل، وأذنابها عليها البياض، معتمين بالبياض، وقد أرخوا أطراف العمائم بين أكتافهم.
﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ ﴾، يقول: وما جعل المدد من الملائكة ﴿ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ ﴾، يعنى ولكى تسكن ﴿ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: النصر ليس بقلة العدد ولا بكثرته، ولكن النصر من عند الله ﴿ ٱلْعَزِيزِ ﴾، يعنى المنيع فى ملكه.
﴿ ٱلْحَكِيمِ ﴾ [آية: ١٢٦] فى أمره حكم النصر للمؤمنين، نظيرها فى الأنفال.
﴿ لِيَقْطَعَ ﴾ لكى يقطع ﴿ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ من أهل مكة.
﴿ أَوْ يَكْبِتَهُمْ ﴾، يعنى يخزيهم.
﴿ فَيَنقَلِبُواْ ﴾ إلى مكة ﴿ خَآئِبِينَ ﴾ [آية: ١٢٧]، لم يصيبوا ظفراً ولا خيراً، فلم يصبر المؤمنون وتركوا المركز وعصوا، فرفع عنهم المدد، وأصابتهم الهزيمة بمعصيتهم، فيها تقديم.
﴿ لَيْسَ لَكَ ﴾ يا محمد ﴿ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ ﴾، وذلك أن سبعين رجلاً من أصحاب الصفة فقراء، كانوا إذا أصابوا طعاماً فشبعوا منه تصدقوا بفضله، ثم إنهم خرجوا إلى الغزو محتسبين إلى قتال قبيلتين من بنى سليم: عصبة وذكوان، فقاتلوهم فقتل السبعون جميعاً، فشق على النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتلهم، فدعا عليهم النبى صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً فى صلاة الغداة، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ ﴾ ﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾، فيهديهم لدينه.
﴿ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ﴾ على كفرهم.
﴿ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آية: ١٢٨].
ثم عظم نفسه تعالى، فقال: ﴿ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده وفى ملكه.
﴿ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٢٩] فى تأخير العذاب عن هذين الحيين من بنى سليم.
﴿ يَآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ﴾، وذلك أن الرجل كان إذا حل ماله طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب: أخر عنى وأزيدك على مالك، فيفعلون ذلك، فوعظهم الله تعالى، وقال: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ فى الربا ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١٣٠]، ثم خوفهم، فقال: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٣١].
﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آية: ١٣٢]، يعنى لكى ترحموا فلا تعذبوا.
ثم رغبهم، فقال سبحانه: ﴿ وَسَارِعُوۤاْ ﴾ بالأعمال الصالحة ﴿ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ ﴾ لذنوبكم ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ ﴾، يقول: عرض الجنة كعرض سبع سماوات وسبع أرضين جميعاً لو ألصق بعضها إلى بعضن ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١٣٣]، ثم نعتهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ ﴾، يعنى فى اليسر والعسر، وفى الرخاء والشدة.
﴿ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ ﴾، وهو الرجل يغضب فى أمر، فإذا فعله وقع فى معصية، فيكظم الغيظ ويغفر، فذلك قوله: ﴿ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ ﴾، ومن يفعل هذا فقد أحسن، فذلك قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٣٤]، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" إنى أرى هؤلاء فى أمتى قليلاً، وكانوا أكثر فى الأمم الخالية ".
﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ﴾، وذلك أن رجلاً خرج غازياً، وخلف رجلاً فى أهله وولده، فعرض له الشيطان فى أهله، فهوى المرأة، فكان منه ما ندم، فأتى أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، فقال: هلكت، قال: وما هلاكك، قال: ما من شىء يناله الرجل من المرأة، إلا وقد نلته غير الجماع، فقال أبو بكر، رضى الله عنه: ويحك، أما علمت أن الله عز وجل يغار للغازى ما لا يغار للقاعد، ثم لقى عمر، رضى الله عنه، فأخبره، فقال له مثل مقالة أبى بكر، رضى الله عنه، ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً ﴾، يعنى الزنا ﴿ أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ ما كان نال منها دون الزنا.
﴿ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ ﴾ يقيموا ﴿ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٣٥] أنها معصية. فمن استغفر فـ ﴿ أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، يعنى مقيمين فى الجنان لا يموتون.
﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ ﴾ [آية: ١٣٦]، يعنى التائبين من الذنوب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" ظلمت نفسك، فاستغفر الله وتب إليه، فاستغفر الرجل، واستغفر له النبى صلى الله عليه وسلم "، نزلت هذه الآية فى عمر بن قيس، ويكنى أبا مقبل، وذلك حين أقبل إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد صدمه حائط، وإذا الدم يسيل على وجهه عقوبة لما فعل، فانتهى إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأذن بلال بالصلاة، صلاة الأولى، فسأل أبو مقبل النبى صلى الله عليه وسلم ما توبته، فلم يجبه، ودخل المسجد وصلى الأولى، ودخل أبو مقبل وصلى معه، فنزل جبريل، عليه السلام، بتوبته،﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ ﴾يعنى الصلوات الخمس﴿ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ﴾[هود: ١١٤]، يعنى الذنوب التى لم تختم بالنار، وليس عليه حد فى الزنا وما بين الحدين فهو اللمم، والصلوات الخمس تكفر هذه الذنوب، وكان ذنب أبى مقبل من هذه الذنوب،" فلما صلى النبى صلى الله عليه وسلم، قال لأبى مقبل: " أما توضأت قبل أن تأتينا؟ " قال: بلى، قال: " أما شهدت معنا الصلاة؟ "، قال: بلى، قال: " فإن الصلاة قد كفرت ذنبك "، وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾، يعنى عذاب الأمم الخالية، فخوف هذه الأمم بعذاب الأمم ليعتبروا فيوحدوه، قوله سبحانه: ﴿ فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آية: ١٣٧] للرسل بالعذاب، كان عاقبتهم الهلاك، ثم وعظهم، فقال سبحانه: ﴿ هَـٰذَا ﴾ القرآن ﴿ بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾ من العمى ﴿ وَهُدىً ﴾ من الضلالة ﴿ وَمَوْعِظَةٌ ﴾ من الجهل ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١٣٨].
﴿ وَلاَ تَهِنُوا ﴾ ولا تضعفوا عن عدوكم ﴿ وَلاَ تَحْزَنُوا ﴾ على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحُد ﴿ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾، يعنى العالين ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٣٩]، يعنى إن كنتم مصدقين.
ثم عزاهم، فقال: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ﴾، يعنى إن تصبكم جراحات يوم أُحُد فقد مس القوم، يعنى كفار قريش، قرح مثله، يقول: قد أصاب المشركين جراحات مثله يوم بدر، وذلك قوله سبحانه: ﴿ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾ يوم لكم ببدر، ويوم عليكم بأُحُد، مرة للمؤمنين ومرة للكافرين، بديل للكافرين من المؤمنين، ويبتلى المؤمنين بالكافرين.
﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ﴾، يعنى وليرى إيمان ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ منكم عند البلاء فيتبين إيمانهم أيشكو فى دينهم أم لا.
﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٤٠]، يعنى المنافقين.
﴿ وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بالبلاء ليرى صبرهم.
﴿ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٤١]، يعنى ويذهب دعوة الكافرين الشرك، يعنى المنافقين، فيبين نفاقهم وكفرهم، ثم بين للمؤمنين أنه نازل بهم الشدة والبلاء فى ذات الله عز وجل، فقال: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾، يعنى أحسبتم، وذلك أن المنافقين قالوا للمؤمنين يوم أُحُد بعد الهزيمة: لم تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم، فإن محمداً لو كان نبياً لم يسلط عليه القتل؟ قال المؤمنون: بلى، من قُتل منا دخل الجنة، فقال المنافقون: لم تمنون أنفسكم الباطل؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ ﴾ معشر المؤمنين ﴿ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾، يعنى ولما يرى الله ﴿ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ﴾ فى سبيل الله ﴿ وَ ﴾ لما ﴿ وَيَعْلَمَ ﴾، يعنى يرى ﴿ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٢] عند البلاء، وليمحص، أى يقول إذا جاهدوا وصبروا رأى ذلك منهم، وإذا لم يفعلوا لم ير ذلك منهم.﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ ﴾، وذلك حين أخبر الله عز وجل عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير، قالوا: يا نبى الله، أرنا يوماً كيوم بدر، فأراهم الله عز وجل يوم أُحُد، فانهزموا فعاتبهم الله عز وجل، فقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ ﴾ ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ﴾، يعنى القتال من قبل أن تلقوه.
﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [آية: ١٤٣]، وقالوا يومئذ: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بشر بن النضر الأنصارى، وهو عم أنس بن مالك: إن كان محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإن رب محمد حى، أفلا تقاتلون على ما قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلقوا الله عز وجل. ثم قال النضر، اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد عليهم بسيفه فقتل منهم من قتل، وقال المنافقون يومئذ: ارجعوا إلى إخوانكم فاستأمنوهم، فارجعوا إلى دينكم الأول، فقال النضر عند قول المنافقين تلك المقالة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ﴾، يقول: وهل محمد، عليه السلام، لو قتل إلا كمن قتل قبله من الأنبياء.
﴿ أَفإِنْ مَّاتَ ﴾ محمد ﴿ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾، يعنى رجعتم إلى دينكم الأول الشرك، ثم قال: ﴿ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ﴾، يقول: ومن يرجع إلى الشرك بعد الإيمان.
﴿ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً ﴾ بارتداده من الإيمان إلى الشرك، إنما يضر بذلك نفسه.
﴿ وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٤]، يعنى الموحدين لله فى الآخرة.
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ﴾، يعنى أن تقتل.
﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ حتى يأذن الله فى موته.
﴿ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ فى اللوح المحفوظ.
﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾، يعنى الذين تركوا المركز يوم أُحُد وطلبوا الغنيمة، وقال سبحانه: ﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾، الذين ثبتوا مع أميرهم عبدالله بن جبير الأنصارى من بنى عمرو حتى قتلوا.
﴿ وَسَنَجْزِي ٱلشَّاكِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٥]، يعنى الموحدين فى الآخرة. ثم أخبر بما لقيت الأنبياء والمؤمنون قبلهم يعزيهم ليصبروا، فقال سبحانه: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ ﴾، وكم من نبى ﴿ قَاتَلَ مَعَهُ ﴾ قبل محمد ﴿ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾، يعنى الجمع الكثير.
﴿ فَمَا وَهَنُواْ ﴾، يعنى فما عجزوا لما نزل بهم من قبل أنبيائهم وأنفسهم.
﴿ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾، يعنى خضعوا لعدوهم.
﴿ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ ﴾، يعنى وما استسلموا، يعنى الخضوع لعدوهم بعد قتل نبيهم، فصبروا ﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٦].
﴿ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ﴾ عند قتل أنبيائهم ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيۤ أَمْرِنَا ﴾، يعنى الخطايا الكبار فى أعمالنا.
﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ عند اللقاء حتى لا تزل.
﴿ وٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٧]، أفلا تقولون كما قالوا، وتقاتلون كما قاتلوا، فتدركون من الثواب فى الدنيا والآخرة مثل ما أدركوا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا ﴾، يقول: أعطاهم النصر والغنيمة فى الدنيا.
﴿ وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ ﴾ جنة الله ورضوانه، فمن فعل ذلك فقد أحسن، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٤٨].
وأنزل الله عز وجل فى قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم فادخلوا فى دينهم، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى المنافقين فى الرجوع إلى أبى سفيان.
﴿ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ﴾ كفاراً بعد الإيمان.
﴿ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ﴾ [آية: ١٤٩] إلى دينكم الأول.
﴿ بَلِ ٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ ﴾، يعنى يقول: فأطيعوا الله مولاكم، يعنى وليكم.
﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّاصِرِينَ ﴾ [آية: ١٥٠] من أبى سفيان وأصحابه ومن معه من كفار العرب يوم أُحُد.
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ ﴾، فانهزموا إلى مكة من غير شىء.
﴿ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾، يعنى ما لم ينزل به كتاباً فيه حجة لهم بالشرك.
﴿ وَمَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىٰ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٥١]، يعنى مأوى المشركين النار.
﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾، يعنى تقتلونهم بإذنه يوم أُحُد، ولكم النصر عليهم.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾، يعنى ضعفتم عن ترك المركز.
﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ ﴾ كان تنازعهم أنه قال بعضهم: ننطلق فنصيب الغنائم، وقال بعضهم: لا نبرح المركز كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ﴾ من النصر على عدوكم، فقتل أصحاب الألوية من المشركين.
﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ﴾ الذين طلبوا الغنيمة.
﴿ وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ﴾ الذين ثبتوا فى المركز حتى قتلوا.
﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ﴾ من بعد أن أظفركم عليهم.
﴿ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ بالقتل والهزيمة.
﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ﴾ حيث لم تقتلوا جميعاً عقوبة بمعصيتكم.
﴿ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ ﴾ فى عقوبته ﴿ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٥٢]، حيث لم يقتلوا جميعاً.
﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ ﴾ من الوادى إلى أُحُد.
﴿ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ ﴾، يعنى بأحد النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَاكُمْ ﴾، يعنى يناديكم من ورائكم: يا معشر المؤمنين، أنا رسول الله، ثم قال: ﴿ فَأَثَابَكُمْ غُمّاً بِغَمٍّ ﴾، وذلك أنهم كانوا يذكرون فيما بينهم بعد الهزيمة ما فاتهم من الفتح والغنيمة، وما أصابهم بعد ذلك من المشركين، وقتل إخوانهم، فهذا الغم الأول، والغم الآخر إشراف خالد بن الوليد عليهم من الشعب فى الخيل، فلما أن عاينوه ذعرهم ذلك وأنساهم ما كانوا فيه من الغم الأول والحزن، فذلك قوله سبحانه: ﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ ﴾ من الفتح والغنيمة.
﴿ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ ﴾ من القتل والهزيمة.
﴿ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٥٣].
﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً ﴾، يعنى من بعد غم الهزيمة أمنة نعاساً، وذلك أن الله عز وجل ألقى على بعضهم النعاس فذهب غمهم، فذلك قوله عز وجل: ﴿ يَغْشَىٰ ﴾ النعاس ﴿ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾ نزلت فى سبعة نفر، فى: أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، والحارث بن الصمة، وسهل بن ضيف، ورجلين من الأنصار، رضى الله عنهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾، يعنى الذين لم يلق عليهم النعاس.
﴿ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ كذباً يقول المؤمنون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل.
﴿ ظَنَّ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ﴾، يقول: كظن جهال المشركين أبو سفيان وأصحابه، وذلك أنهم قالوا: إن محمداً قد قتل.
﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ ﴾، هذا قول متعب بن قشير، يعنى بالأمر النصر، يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ ﴾، يعنى النصر ﴿ كُلَّهُ للَّهِ ﴾.
ثم قال سبحانه: ﴿ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾، يقول: يسرون فى قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم، والذى أخفوا فى أنفسهم أنهم قالوا: لو كنا فى بيوتنا ما قتلنا ها هنا، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُل ﴾ لهم يا محمد: ﴿ لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ﴾ كما تقولون لخرج من البيوت ﴿ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ﴾، فمن كتب عليه القتل لا يموت أبداً، ومن كتب عليه الموت لا يقتل أبداً.
﴿ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ١٥٤]، يقول الله عليم بما فى القلوب من الإيمان والنفاق، والذين أخفوا فى أنفسهم قولهم: إن محمداً قد قتل، وقولهم: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا، يعنى هذا المكان، فهذا الذى قال الله سبحانه لهم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ كما تقولون ﴿ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ﴾.
قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ ﴾، يعنى انهزموا عن عدوهم مدبرين منهزمين ﴿ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾، جمع المؤمنين وجمع المشركين يوم أُحُد.
﴿ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ ﴾، يعنى استفزهم الشطيان ﴿ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ﴾ من الذنوب، يعنى بمعصيتهم النبى صلى الله عليه وسلم وتركهم المركز، منهم: عثمان بن عفان، ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد، وحذيفة بن عبيد بن ربيعة، وعثمان بن عقبة.
﴿ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ حين لم يقتلوا جميعاً عقوبة بمعصيتهم النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٥٥] عنهم فى هزيمتهم فلم يعاقبهم.
ثم وعظ الله المؤمنين ألا يشكوا كشك المنافقين، فقال سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ ﴾ فى القول ﴿ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى المنافقين.
﴿ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ﴾، يعنى عبدالله بن أبى، وذلك أنه قال يوم أُحُد لعبد الله بن رباب الأنصارى وأصحابه: ﴿ إِذَا ضَرَبُواْ ﴾، يعنى ساروا ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تجاراً ﴿ أَوْ كَانُواْ غُزّىً ﴾ جمع غاز.
﴿ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ ﴾، يعنى التجار.
﴿ وَمَا قُتِلُواْ ﴾، يعنى الغزاة، قال عبدالله بن أبى ذلك حين انهزم المؤمنون وقتلوا، يقول الله عز وجل: ﴿ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ ﴾ القتل ﴿ حَسْرَةً ﴾، يعنى حزناً ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ يُحْيِـي ﴾ الموتى ﴿ وَيُمِيتُ ﴾ الأحياء لا يملكهما غيره، وليس ذلك بأيديهم.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ١٥٦].
﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ﴾ فى غير قتل ﴿ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ لذنوبكم ﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [آية: ١٥٧] من الأموال، ثم حذرهم القيامة، فقال: ﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ ﴾ فى غير قتل ﴿ أَوْ قُتِلْتُمْ ﴾ فى سبيله ﴿ لإِلَى ٱلله تُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ١٥٨] فيجزيكم بأعمالكم.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ﴾، فبرحمة الله كان إذ لنت لهم فى القول، ولم تسرع إليهم بما كان منهم يوم أُحُد، يعنى المنافقين.
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ﴾ باللسان ﴿ غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ لتفرقوا عنك، يعنى المنافقين.
﴿ فَٱعْفُ عَنْهُمْ ﴾، يقول: اتركهم ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ لما كن منهم يوم أُحُد.
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ ﴾، وذلك أن العرب فى الجاهلية كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمراً دونهم ولم يشاورهم شق ذلك عليهم، فأمر الله عز وجل النبى صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم فى الأمر إذا أراد، فإن ذلك أعطف لقلوبهم عليه، وأذهب لضغائنهم.
﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ ﴾، يقول: فإذا فرق الله لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك.
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، يقول: فثق بالله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آية: ١٥٩] عليه، يعنى الذين يثقون به.
﴿ إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ ﴾، يعنى يمنعكم.
﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾، يعنى لا يهزمكم أحد.
﴿ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ ﴾، يعنى يمنعكم من بعد الله.
﴿ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١٦٠].
﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾، يعنى أن يخون فى الغنيمة يوم أُحُد ولا يجور فى قسمته فى الغنيمة،" نزلت فى الذين طلبوا الغنيمة يوم أُحُد، وتركوا المركز، وقالوا: إنا نخشى أن يقول النبى صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئاً فهو له، ونحن ها هنا وقوف، فلما رآهم النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا من المركز حتى يأتيكم أمرى؟ "، قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفاً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ظننتم أنا نغل "، فنزلت: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾، ثم خوف الله عز وجل من يغل، فقال: ﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ بر وفاجر ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ من خير أو شر.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٦١] فى أعمالهم.
ثم قال سبحانه: ﴿ أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى رضى ربه عز وجل ولم يغلل.
﴿ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى استوجب السخط من الله عز وجل فى الغلول، ليسوا سواء، ثم بين مستقرهما، فقال: ﴿ وَمَأْوَاهُ ﴾، يعنى ومأوى من غل ﴿ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٦٢]، يعنى أهل الغلول. ثم ذكر سبحانه من لا يغل، فقال: ﴿ هُمْ ﴾، يعنى لهم ﴿ دَرَجَاتٌ ﴾، يعنى لهم فضائل ﴿ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٦٣] من غل منكم ومن لم يغل فهو بصير بعمله.
﴿ لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾، يعنى ويصلحهم.
﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى القرآن ﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى المواعظ التى فى القرآن من الحلال والحرام والسُّنة.
﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [آية: ١٦٤]، يعنى بين مثلها فى الجمعة.
﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ ﴾، وذلك أن سبعين رجلاً من المسلمين قتلوا يوم أُحُد يوم السبت فى شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقتل من المشركين قبل ذلك بسنة فى سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ببدر سبعين رجلاً، وأسروا سبعين رجلاً من المشركين، فذلك قوله سبحانه: ﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا ﴾ من المشركين يوم بدر، بمعصيتكم النبى صلى الله عليه وسلم وترككم المركز.
﴿ قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٦٥] من النصرة والهزيمة قدير.
﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ ﴾ من القتل والهزيمة بأُحُد ﴿ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾ جمع المؤمنين وجمع المشركين.
﴿ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ أصابكم ذلك، ثم قال: ﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾، يقول: وليرى إيمانكم، يعنى ﴿ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٦٦] صبرهم.
﴿ وَلْيَعْلَمَ ﴾، يعنى وليرى ﴿ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ ﴾ فى إيمان أهل الشك عند البلاء والشدة، يعنى عبدالله بن أبى بن مالك الأنصارى وأصحابه المنافقين.
﴿ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ ﴾ المشركين عن دياركم وأولادكم، وذلك أن عبدالله بن رباب الأنصارى يوم أُحُد دعا عبد الله بن أبى ملك يوم أُحُد للقتال، فقال عبدالله بن أبى: ﴿ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً ﴾، يقول: لو نعلم أن يكون اليوم قتالاً ﴿ لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾، يقول الله عز وجل: لو استيقنوا بالقتال ما تبعوكم.
﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آية: ١٦٧]، يعنى من الكذب.
فرجع يومئذ عبدالله بن أبى فى ثلاثمائة ولم يشهدوا القتال، فقال عبدالله بن رباب وأصحابه: أبعدكم الله، سيغنى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن نصركم، فلما انهزم المؤمنون وقتلوا يومئذ، قال عبدالله بن أبى: لو أطاعونا ما قتلوا، يعنى عبدالله بن رباب وأصحابه، فأنزل الله عز وجل فى قول عبدالله بن أبى: ﴿ ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ﴾ فى النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم فى الدين، ولا الولاية، كقوله سبحانه:﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ﴾[هود: ٦١]، ليس بأخيهم فى الدين ولا فى الولاية، ولكن أخاهم فى النسب والقرابة.
﴿ وَقَعَدُواْ ﴾ عن القتال.
﴿ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾، فأوجب الله لهم الموت صفرة قمأة والإيجاب لمن كرهوا قتله من أقربائهم، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ١٦٨].
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى قتلى بدر من قتل المسلمين يومئذ، وهم أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين: مهجع بن عبدالله مولى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر:" سيد شهداء أمتى مهجع "، وهو أول قتيل قتل يوم بدر، رضى الله عنه، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشى، وعمير بن أبى وقاص بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وذو الشماليل عبد عمرو بن نضلة بن عمرو بن نضلة بن عبد عمرو القيسانى، وعقيل بن بكير، وصفوان ابن بيضاء، رضى الله عنهم، وثمانية من الأنصار: حارثة بن سراقة، ويزيد بن الحارث بن جشم، ومعوذ بن الحارث، وعوف بن الحارث بن رفاعة ابنا عفراء، الاسم اسم أمهما عفراء، ورافع بن المعلى، وسعد بن حنتمة، وعمرو بن الحمام بن الجموح، ومبشر بن عبد المنذر. فقال رجل: يا ليتنا نعلم ما لقى إخواننا الذين قتلوا ببدر، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى قتلى بدر.
﴿ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آية: ١٦٩] الثمار فى الجنة، وذلك أن الله تعالى جعل أرواح الشهداء طيراً خضراً ترعى فى الجنة، لها قناديل معلقة بالعرش تأوى إلى قناديلها، فاطلع الله عز وجل عليهم، فقال سبحانه: هل تستزيدونى شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: أولسنا نسرح فى الجنة حيث نشاء؟ ثم اطلع عليهم أخرى، فقال سبحانه: هل تستزيدونى شيئاً فأزيدكم؟ ثم اطلع الثالثة، فقال سبحانه: هل تستزيدونى شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: ربنا، نريد أن ترد أرواحنا فى أجسادنا فنقاتل فى سبيلك مرة أخرى لما نرى من كرامتك إيانا، ثم قالوا فيما بينهم: ليت إخواننا الذين فى دار الدنيا يعلمون ما نحن فيه من الكرامة والخير والرزق، فإن شهدوا قتالاً سارعوا بأنفسهم إلى الشهادة، فسمع الله عز وجل كلامهم، فأوحى إليهم: أنى منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فأنزل الله عز وجل يحبب الشهادة إلى المؤمنين: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ من الثمار. ثم قال سبحانه: ﴿ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ ﴾، يعنى راضين بما أعطاهم الله ﴿ مِن فَضْلِهِ ﴾، يعنى الرزق.
﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾، يعنى من بعدهم من إخوانهم فى الدنيا أنهم لو رأوا قتالا لاستشهدوا ليلحقوا بهم، ثم قال سبحانه: ﴿ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من العذاب.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ١٧٠] عند الموت.
﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى رحمة من الله ﴿ وَفَضْلٍ ﴾ ورزق.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٧١]، يعنى أجر المصدقين بتوحيد الله عز وجل.
﴿ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾، وذلك" أن المشركين انصرفوا يوم أحُد ولهم الظفر، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إنى سائر فى أثر القوم، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحُد على بغلة شهباء "، فدب المنافقون إلى المؤمنين، فقالوا: أتوكم فى دياركم فوطئوكم قتلاً، وكان لكم النصر يوم بدر، فكيف تطلبونهم وهم اليوم عليكم أجرأ وانت اليوم أرعب؟ فوقع فى أنفس المؤمنين قول المنافقين، فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله عز وجل:﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ... ﴾[آل عمران: ١٤٠] إلى آخر الآية. وأنزل الله تعالى:﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ... ﴾[النساء: ١٠٤]، يعنى تتوجعون من الجراحات، إلى آخر الآية، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" لأطلبنهم ولو بنفسى "، فانتدب مع النبى صلى الله عليه وسلم سبعون رجلاً من المهاجرين والأنصار، حتى بلغوا سفراء بدر الصغرى، فبلغ أبا سفيان أن النبى صلى الله عليه وسلم يطلبه، فأمعن عائداً إلى مكة مرعوباً، ولقى أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعى وهو يريد المدينة، فقال: يا نعيم، بلغنا أن محمداً فى الأثر، فأخبره أن أهل مكة قد جمعوا جمعاً كثيراً من قبائل العرب لقتالكم، وأنهم لقوا أبا سفيان، فلاموه بكفه عنكم بعد الهزيمة حتى هموا به فردوه، فإن رددت عنا محمداً فلك عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة، فسار نعيم فلقى النبى صلى الله عليه وسلم فى الصفراء، فقال: " ما وراءك يا نعيم؟ "، فأخبره بقول أبى سفيان، ثم قال: أتاكم الناس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ﴿ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ ﴾، نعم الملتجأ ونعم الحرز "، [آل عمران: ١٧٣].
فأنزل الله سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ ﴾، يعنى الجراحات.
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ ﴾ الفعل ﴿ وَٱتَّقَواْ ﴾ معاصيه ﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٢]، وهو الجنة.
﴿ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ ﴾، يعنى نعيم بن مسعود وحده.
﴿ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾ الجموع لقتالكم.
﴿ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ﴾، يعنى تصديقاً.
﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ ﴾ [آية: ١٧٣]، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضى الله عنهم، فأصابوا.
﴿ فَٱنْقَلَبُواْ ﴾، يعنى فرجعوا إلى المدينة ﴿ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ ﴾، يعنى الرزق، وذلك أنهم أصابوا سرية فى الصفراء، وذلك فى ذى القعدة.
﴿ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ ﴾ من عدوهم فى وجوههم.
﴿ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى رضى الله فى الاستجابة لله عز وجل، وللرسول صلى الله عليه وسلم فى طلب المشركين، يقول الله سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آية: ١٧٤] على أهل طاعته. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا هذيل، قال مقاتل فنزلت هذه الآيات فى ذى القعدة بذى الحليفة حين انصرفوا عن طلب أبى سفيان وأصحابه بعد قتال أُحُد.
﴿ إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم ندب الناس يوم أُحُد فى طلب المشركين، فقال المنافقون للمسلمين: قد رأيتم ما لقيتم لم ينقلب إلا شريد، وأنتم فى دياركم تصحرون وأنتم أكلة رأس، والله لا ينقلب منكم أحد، فأوقع الشيطان قول المنافقين فى قلوب المؤمنين، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾، يعنى يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين.
﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ﴾ فى ترك أمرى ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٧٥]، يعنى إذ كنتم، يقول: ﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ فلا تخافوهم.
ثم قال: ﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ ﴾، يعنى المشركين يوم أُحُد.
﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً ﴾، يقول: لن ينقصوا الله شيئاً من ملكه وسلطانه لمسارعتهم فى الكفر، وإنما يضرون أنفسهم بذلك.
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ ﴾، يعنى نصيباً فى الجنة.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٦]، ثم قال سبحانه يعنيهم: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ ﴾، يعنى باعوا الإيمان بالكفر.
﴿ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ ﴾، يعنى لن ينقصوا الله من ملكه وسلطانه ﴿ شَيْئاً ﴾ حين باعوا الإيمان بالكفر، إنما ضروا أنفسهم بذلك.
﴿ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٧]، يعنى وجيع.
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أبا سفيان وأصحابه يوم أُحُد.
﴿ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ﴾ حين ظفروا ﴿ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ﴾ فى الكفر.
﴿ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ١٧٨]، يعنى الهوان.
﴿ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ يا معشر الكفار ﴿ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ ﴾ من الكفر.
﴿ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ﴾ فى علمه حتى يميز أهل الكفر من أهل الإيمان، نظيرها فى الأنفال، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾، وذلك أن الكفار قالوا: إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ ﴾، يعنى ليطلعكم على غيب ذلك، إنما الوحى إلى الأنبياء بذلك، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي ﴾ يستخلص ﴿ مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾، فيجعله رسولاً فيوحى إليه ذلك، ليس الوحى إلا إلى الأنبياء.
﴿ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾، يعنى صدقوا بتوحيد الله تعالى وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ ﴾، يعنى تصدقوا بتوحيد الله تعالى.
﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ الشرك.
﴿ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٩].
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾، يعنى بما أعطاهم الله من فضله، يعنى من الرزق، وبخلوا بالزكاة، إن ذلك ﴿ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ ﴾ البخل ﴿ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، وذلك أن كنز أحدهم يتحول شجاعاً أقرع ذكر، ولفيه زبيبتان كأنهما جبلان، فيطوق به فى عنقه فينهشه، فيتقيه بذراعيه فيلتقمهما حتى يقضى بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار ويغل، وذلك قوله سبحانه: ﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، ثم قال سبحانه: ﴿ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، يقول: إن بخلوا بالزكاة فالله يرثهم ويرث أهل السموات وأهل الأرضين، فيهلكون ويبقى.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ١٨٠]، يعنى فى ترك الصدقة، يعنى اليهود.
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب مع أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، إلى يهود قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، قال فنحاص اليهودى: إن الله فقير حين يسألنا القروض ونحن أغنياء، ويقول الله عز وجل: ﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ ﴾، فأمر الحفظة أن تكتب كل ما قالوا.
﴿ وَ ﴾ نكتب ﴿ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، أى تقول لهم خزنة جهنم فى الآخرة: ﴿ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ [آية: ١٨١].
﴿ ذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ من الكفر والتكذيب.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [آية: ١٨٢] فيعذب على غير ذنب.
ثم أخبر عن اليهود حين دعوا إلى الإيمان، فقال تبارك وتعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ ﴾، فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم ﴿ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى التبيين بالآيات.
﴿ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ ﴾ من أمر القربان.
﴿ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾، فلم قتلتم أنبياء الله من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ١٨٣] بما تقولون.
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ يا محمد، يعزى نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم، فلست بأول رسول كُذب، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى بالآيات.
﴿ وَٱلزُّبُرِ ﴾، يعنى بحديث ما كان قبلهم والمواعظ.
﴿ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ﴾ [آية: ١٨٤]، يعنى المضىء البين الذى فيه أمره ونهيه.
ثم خوفهم، فقال: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ ﴾، يعنى جزاء أعمالكم.
﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ ﴾، يعنى صرف ﴿ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾، يعنى فقد نجى، ثم وعظهم، فقال: ﴿ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ ﴾ [آية: ١٨٥]، يعنى الفانى الذى ليس بشىء.
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾، نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر الصديق، رضى الله عنه، يعنى بالبلاء والمصيبات.
﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ حين قالوا: إن الله فقير، ثم قال: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ ﴾، يعنى مشركى العرب.
﴿ أَذًى كَثِيراً ﴾ باللسان والفعل.
﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ ﴾ على ذلك الأذى.
﴿ وَتَتَّقُواْ ﴾ معصيته.
﴿ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾ [آية: ١٨٦]، يعنى ذلك الصبر والتقوى من خير الأمور التى أمر الله عز وجل بها.
﴿ وَإِذَ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى أعطوا التوراة، يعنى اليهود.
﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
﴿ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ﴾، أى أمره وأن تتبعوه.
﴿ فَنَبَذُوهُ ﴾، يعنى فجعلوه ﴿ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ﴾ بكتمان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، وذلك أن سفلة اليهود كانوا يعطون رءوس اليهود من ثمارهم وطعامهم عند الحصاد، ولو تابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لذهب عنهم ذلك المأكل، يقول الله عز وجل: ﴿ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آية: ١٨٧].
﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ ﴾، وذلك أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم حين دخلوا عليه: نعرفك نصدقك وليس ذلك فى قلوبهم، فلما خرجوا من عند النبى صلى الله عليه وسلم قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قالوا: عرفناه وصدقناه، فقال المسلمون: أحسنتم، بارك الله فيكم، وحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ يا محمد.
﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٨٨]، يعنى وجيع.
ثم عظم الله نفسه، فقال: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ وما بينهما من الخلق عبيده وفى ملكه.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٨٩].
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ خلقين عظيمين.
﴿ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾ [آية: ١٩٠]، يعنى أهل اللب والعقل، ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾، يقول: عبثاً لغير شىء، لقد خلقتهما لأمر قد كان.
﴿ سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آية: ١٩١].
﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾، يعنى من خلدته فى النار فقد أهنته.
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آية: ١٩٢]، يعنى وما للمشركين من مانع يمنعهم من النار، قالوا: ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ ﴾، فهو محمد صلى الله عليه وسلم داعياً يدعو إلى التصديق.
﴿ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ ﴾، يعنى صدقوا بتوحيد ربكم.
﴿ فَآمَنَّا ﴾، أى فأجابه المؤمنون، فقالوا: ربنا آمنا، يعنى صدقنا.
﴿ رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ﴾، يعنى امح عنا خطايانا.
﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ﴾ [آية: ١٩٣]، يعنى المطيعين، قالوا: ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا ﴾، يعنى وأعطنا ﴿ مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ ﴾، يقول: أعطنا من الجنة ما وعدتنا على ألسنة رسلك.
﴿ وَلاَ تُخْزِنَا ﴾، يعنى ولا تعذبنا ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ﴾ [آية: ١٩٤].
فأخبر الله عز وجل بفعلهم وبما أجابهم، وأنجز الله عز وجل لهم موعوده، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾، فقال: ﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ ﴾ فى الخير.
﴿ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ إلى المدينة.
﴿ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ﴾، وذلك أن كفار مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي ﴾، يعنى فى سبيل دين الإسلام.
﴿ وَقَاتَلُواْ ﴾ المشركين.
﴿ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ﴾، يعنى لأمحون عنهم ﴿ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾، يعنى خطاياهم.
﴿ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، يعنى بجنات البساتين، ذلك الذى ذكر كان ﴿ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ﴾ [آية: ١٩٥]، يعنى الجنة، نزلت فى أم سلمة أم المؤمنين، رضى الله عنها، ابنة أبى أمية المخزومى حين قالت: ما لنا معشر النساء عند الله خير، وما يذكرنا بشىء، ففيها نزلت:﴿ إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾[الأحزاب: ٣٥] فى الأحزاب إلى آخر الآية، فأشرك الله عز وجل الرجال مع النساء فى الثواب كما شاركن الرجال فى الأعمال الصالحة فى الدنيا.
﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾ [آية: ١٩٦]، نزلت فى مشركى العرب، وذلك أن كفار مكة كانوا فى رخاء ولين عيش حسن، فقال بعض المؤمنين: أعداء الله فيما ترون من الخير وقد أهلكنا الجهد، فأخبر الله عز وجل بمنزلة الكفار فى الآخرة، وبمنزلة المؤمنين فى الآخرة، فقال سبحانه: ﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم ما فيه الكفار من الخير والسعة، فإنما هو ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾ يمتنعون بها إلى آجالهم.
﴿ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ [آية: ١٩٧]، فبين الله تعالى مصيرهم.
ثم بين منازل المؤمنين فى الآخرة، فقال سبحانه: ﴿ لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ ﴾ وحدوا ربهم.
﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون، كان ذلك ﴿ نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾ [آية: ١٩٨]، يعنى المطيعين.
﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى ابن سلام.
﴿ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى يصدق بالله.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾، يعنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ﴾ من التوراة، ثم نعتهم، فقال: ﴿ خَاشِعِينَ للَّهِ ﴾، يعنى متواضعين لله.
﴿ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى بالقرآن ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعنى عرضاً يسيراً من الدنيا كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من المأكل من الطعام والثمار عند الحصاد، ثم قال يعنى مؤمنى أهل التوراة ابن سلام وأصحابه.
﴿ أُوْلۤـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ﴾، يعنى جزاؤهم فى الآخرة ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، وهى الجنة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ [آية: ١٩٩]، يقول: كأنه قد جاء.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ ﴾ على أمر الله عز وجل وفرائضه.
﴿ وَصَابِرُواْ ﴾ مع النبى صلى الله عليه وسلم فى المواطن.
﴿ وَرَابِطُواْ ﴾ العدو فى سبيل الله حتى يدعوا دينهم لدينكم.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوا، ومن يفعل ذلك فقد أفلح، فذلك قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٢٠٠].
قال: حدثنا عبدالله بن ثابت، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنى الهذيل، قال: سمعت أبا يوسف يحدث عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس، رضى الله عنه، قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:" هذا ما كتب محمد لأهل نجران فى كل ثمرة، وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفى حلة من حلل الألوان، فى كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية، وفى كل رجب ألف حلة، كل حلة أوقية، فما زاد من حلل الخراج على الأواق فبحسابه، وما قصر من درع، أو حلة، أو خيل، أو ركاب، أو عرض، أخذ منهم بحسابه، وعلى نجران مثوبة رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ليلة، ولا تحبس رسولى فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كبد باليمن ذو معذرة، ولنجران وحاشيتها جوار الله عز وجل، وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، ومالهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وتابعهم، ولا يغير ما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا ملة من مللهم، ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، وعلى ما تحت أيديهم من قليل وكثير، وليس عليهم ربا ولا دم جاهلية، ولا يحسرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم حاشر، ومن سأل فيهم حقاً أنصف، غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذى قبل، فذمتى منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بطلب آخر، وكل ما كان فى هذه الصحيفة جوار الله عز وجل، وذمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتى الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما لهم وعليهم غير متغلبين بظلم ". شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف النضرى، والأقرع ابن حابس، والمغيرة، وكتب على بن أبى طالب، وزعم أن أبا بكر، رضى الله عنه، كتب لهم كتاباً من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: حدثنا عبدالله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل: سمعت المسيب والضرير يحدثان عن الأعمش، عن سالم بن أبى الجعد، قال: لو كان عليّاً طاعناً على عمر بن الخطاب، رضى الله عنهما، لطعن عليه حين جاء أهل نجران ومعهم قطعة أيدم فيه كتاب عليه خاتم النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا لعلى، عليه السلام: ننشدك الله كتابك بيدك، وشفاعتك بلسانك، ألا ما رددتنا إلى نجران، فقال على، رضى الله عنه: دعونى، فإن عمر، رضى الله عنه، كان رشيد الأمر. قال الأعمش: فسألت سالماً: كيف كان إخراج عمر، رضى الله عنه، إياهم؟ قال: كثروا حتى صاروا أربعين ألف مقاتل، فخاف المسلمون أن يميلوا عليهم، فوقع بينهم شر، فجاءوا إلى عمر، رضى الله عنه، فقالوا: قد فسد الذى بيننا، فذهبوا، فاغتنمها عمر، رضى الله عنه، ثم جاءوا إليه، فقالوا: قد اصطلحنا فأقلنا، فقال: لا والله لا أقيلكم أبداً، فأخرج فرقة إلى الشام، وفرقة إلى العراق، وفرقة إلى أرض أخرى. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل فى قوله عز وجل:﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ﴾[آل عمران: ١٨٦]، فيها تقديم، ولم أسمع مقاتل.
Icon