هذه السورة مكية كلها في قول أكثر العلماء. وقيل : باستثناء آيتين فهم مدنيتان. وقيل : باستثناء سبع آيات.
وهذه السورة مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأه من القرآن في كل ليلة. وهي سورة تتندّى منها الآيات والعبر وتفيض منها المواعظ والدلائل وألوان المعاني. ويأتي في طليعة ذلك كله التنديد بالشرك وعبادة الأوثان واتخاذ الأنداد والشركاء من دون الله.
وفي السورة تحضيض عظيم ومؤثر على الإيمان وحده وإفراده بالإلهية فالله وحده الخالق المعبود، وما سواه من أجزاء هذا الوجود خليق به أن يذعن لله بالخضوع والاستسلام.
وتتضمن السورة حججا وبينات شتى في الحياة والطبيعة على عظيم صنع الله وبالغ حكمته وقدرته.
وفي السورة إنذار من الله مجلجل ومخُوف بأن الناس جميعا ميتون لا محالة.
فالخليقة صائرة إلى نهايتها المحتومة التي لا ريب فيها وهي الموت. ﴿ إنك ميَّت وإنهم ميّتون ﴾.
وفي السورة بيان من الله مذهل بما هو آتٍ على الكون نمن نفخ في الصور. وهما نفختان عظيمتان مريعتان. فنفخة الصعق لتموت الأحياء كافة، ثم نفخة البعث والنشور لملاقاة الحساب، ثم يساق بعد ذلك زمرا فإما إلى الجنة وإما إلى النار.
ﰡ
قوله :﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴾ أمره الله بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، أو أمره بالخشوع له والطاعة وإفراده وحده بالعبادة.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ :﴿ وَالَّذِينَ ﴾ مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره : يقولون : ما نعبدهم.
هؤلاء هم المشركون المبْطلون السادرون في غيهم وضلالهم كانوا إذا قيل لهم : من ربكم وخالقكم، ومن خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله. فإذا قيل لهم : كيف تعبدون هذه الأصنام والله خالقها وخالق كل شيء ؟ قالوا : ليقربونا إلى الله زلفى، فيشفعوا لنا عنده في نصرنا ورزقنا وليكونوا لنا أعوانا لنا عند النائبات في هذه الدنيا. أما الآخرة فهم يجحدونها ويكذبون بها.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ الله يقضي بين العباد يوم القيامة فيجازي المحق بإيمانه واهتدائه، والمُبْطِل بما كان عليه من باطل وفساد.
قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ لا يجعل الله الهداية والرشاد لمن كان يفتري على الله الكذب ويتقول عليه الباطل ويصطنع له من الصفات ما الله منزه عنه. وذلكم الكاذب الكَفّار، شديد الجحود والافتراء الذي لا يهديه الله للحق.
قول :﴿ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ ينزه الله نفسه عن النقائص والعيوب ؛ كاتخاذ الولد أو الصاحبة ؛ فإنه سبحانه الواحد المعبود الذي يدين له كل شيء بالتذلل والخضوع. وهو سبحانه القهار الذي يقهر العباد بقدرته وعظيم سلطانه وسطوته.
قوله :﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ ﴾ أي يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا. وهو من التكوير، ومعناه طرح الشيء بعضه على بعض. كار الرجلُ العمامة أي أدارها على رأسه. وكورت الشمس إذا لففته على جهة الاستدارة فالمراد بتكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه. وتكوير النهار على الليل، تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته ؛ وذلك حدث كوني هائل لا يقدر على فعله غير الله الخالق المقتدر.
قوله :﴿ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي ذللهما لمنافع العباد وتحقيق الحياة فتكون صالحة سوية، بجريان كل منهما ؛ فالشمس تجري في دورتها المنسجمة المطردة حتى تستقر وتسكن بقيام الساعة. وكذا القمر يدور دورته في الفضاء من حول الشمس بجرمها الهائل العظيم حتى يأذن الله بنهاية العالمين واندثار النظام الكوني كله. وهو قوله :﴿ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾.
قوله :﴿ أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ ﴿ ألاَ ﴾ أداة تنبيه ؛ يعني : تنبهوا فإن الله ﴿ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ أي الغالب القوي الذي لا يُقهر. وهو سبحانه ﴿ الْغَفَّارُ ﴾ يستر ذنوب عباده وإساءاتهم.
قوله :﴿ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ أنزل بمعنى قضى أو خلق لكم من الأنعام، وقيل : الأنعام لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الله الماء فكأنه أنزل الأنعام ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ﴾ أي ذكر وأنثى، من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. فالمراد بخلْقه من الأنعام ثمانية أزواج، أنه خلق من الإبل زوجين، ومن البقر زوجين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين.
قوله :﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ﴾ أي خلقكم أجنة في بطون أمهاتكم أطوارا. فيكون أحدكم أولا نطفة مهينة قذرة، ثم يصير علقة، ثم يكون مضغة فعظاما ثم تُكسى العظام لحما وأعصابا وعروقا وغير ذلك من مركبات الجسد الكثيرة العجيبة. ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ؛ أي خلقا ذا روح.
وذلك كله ﴿ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ﴾ والظلمات في قول المفسرين هي : ظلمة البطن، وظلمة الرحم : وظلمة المشْيمة.
وقد وجد بعضَ المعاصرين المتخصصين في علوم الطب والتشريح في هذه الآية متسعا لما أدلَوا به من وصف لطبيعة الرحم في المرأة ؛ إذ قالوا : إنه يتكون من ثلاثة أغشية صمّاء لا يتخللها شيء من ماء أو ضوء أو حرارة، صونا للجنين أن يتأذى أو ينفذ إليه أذى.
قوله :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ﴾ ذلكم الذي فعل كل هذه العجائب في الخلْق والإنشاء والتكوين هو الله خالقكم ومالككم وهو وحده المتفرد بالإلهية، وليس من إله سواه ﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ كيف تُصرفون عن عبادة الله الذي هذه بعض صفاته في الخلق والتكوين، وتعبدون معه آلهة مزعومة موهومة أخرى ؟ !.
قوله :﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ أي إن تؤمنوا بالله وتطيعوه وتذكروا نعمته عليكم فإنه يرضى ذلك لكم ؛ لأنه سبب نجاتكم وفلاحكم ؛ فالله جل جلاله لم يكره كفركم ولم يرض شكركم إلا من أجلكم ولما في ذلك من صلاح لكم.
قوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس آثمة أخرى غيرها ولا تؤاخذ إلا بإثم نفسها. أو أن على كل نفس ما جَنَتْ وأنها لا تؤاخذ بذنب غيرها.
قوله :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ثم إنكم أيها الناس راحلون عن حياتكم الدنيا فصائرون إلى الله يوم القيامة فيخبركم يومئذ بكل ما اجترحتموه من السيئات والحسنات أو من الخير والشر ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ الله يعلم ما يستكنُّ في القلوب من خفايا وأسرار ؛ فهو سبحانه عليم بكل شيء ولا يخفى عن علمه وإحاطته أيُّما شيء.
قوله :﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ﴾ أي قل لهذا الجاحد المضل الذي فَسَقَ عن أمر الله وأوغل في الشرك والمعاصي ﴿ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ﴾ حيث الشهوات واللهوات والسيئات واتباع الهوى. وذلك كله قليل عارض ؛ فإن أجلك آتٍ، وكل آتٍ قريب. وذلك أمر تهديد ووعيد ﴿ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ أي إن مصيرك إلى النار لتكون فيها من اللابثين الماكثين.
والمعنى – على التشديد - : العاصون الذي تقدمت صفتهم خير، أم الذي هو مطيع لربه، منيب إليه بالدعاء والخشوع في كل أوقات الليل ﴿ سَاجِدًا وَقَائِمًا ﴾ أي يقنت ساجدا أحيانا، ويقنت قائما أحيانا ﴿ يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ ﴾ أي يحذر العقاب في الآخرة ﴿ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ أي يرجو من الله رحمته فيجزيه الجنة.
قوله :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ذلك ثناء من الله عظيم على أهل العلم وهم الذين يؤمنون بالله ويخشونه ويذعنون له بالطاعة والخضوع والامتثال وهم موقنون أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها. أولئك يطْريهم الله ويثني عليهم ويذكرهم أحسن الذكر فهم أولو أذهان مدّكرة فَطينة، وطبائع مستوية سليمة. وخلافهم الجاحدون المدْبرون عن جلال الله، الزائغون عن صراط المستقيم الناكلون عن دينه القويم نكولا أفضى بهم إلى الضلال والخسران.
فهم الذين لا يعلمون. وقيل : المراد العلماء المدَّكرون المعتَبِرون، والجاهلون الضالون المتخبطون. لا جرم أن الفريقين لا يستويان، كما لا يستوي العلم والجهل، ولا يستوي العالم والجاهل. وكذلك لا يستوي الطائعون والعصاة.
قوله :﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ إنما يتعظ ويعتبر ويدَّكر ولو الحِجى والعقول المستنيرة من المؤمنين. أما الجاحدون المكذبون فهم ضالون سادرون في الغفلة والعماية والتيه لا يعتبرون ولا يدَّكِرون.
يأمر الله عباده المؤمنين أن يتقوا ربهم، وذلك بعبادته وحده لا شريك له، فيطيعوا أوامره ويجتنبوا نواهيه.
قوله :﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ﴾ أعدَّ الله للمحسنين الذين أخلصوا دينهم لله وبادروا فعل الطاعات والصالحات واستقاموا على صراط الله القويم ومنهجه الحكيم – أعدَّ الله لهم حسنة وهي الجنة.
قوله :﴿ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ﴾ فلا عذر للمفرطين المتخاذلين الذين يتعللون بأنهم مقهورون في بلادهم وأوطانهم فلم يتمكنوا من عبادة الله وطاعته ودعوة الناس إلى الإسلام بما يجدونه في أوطانهم من ظلم الظالمين الذين يصدونهم عن دين الله. بل عليهم أن يبادروا القرار بدينهم وترك الأوطان التي لا يستطيعون فيها أن يعبدوا الله أو يوشك أن تغشاهم فيها غاشية من الفتنة، ينزلقون فيها عن الإسلام فينقلبون فاسقين مشركين. فلا جرم أنهم في مثل هذه الحال مكلفون بالهجرة إلى بلاد الله الواسعة التي يجدون فيها الأمن فيعبدون الله طُلقاء ويدعون الناس إلى منهج الحق، منهج الإسلام.
قوله :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ذلك ثناء من الله عظيم على الصابرين الذين يصبرون على فراق الوطن والأهل والعشيرة والخلان، ويصبرون على بلاء الغربة وهم بعيدون عن بلادهم وأهليهم فرارا بدينهم من أرض القهر والصدّ والفتنة. أولئك يوفّيهم الله أجورهم بغير حساب ؛ أي يعطون في الآخرة من جزيل الأجر والجزاء ما لا يحصره حساب من الكثرة.
قوله :﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ إنما الخاسرون كل الخُسران، الجامعون لوجوه الخسران وأسبابه هم الذين خسروا أنفسهم بإهلاكها في جهنم، وكذلك خسروا أهليهم وأتباعهم إذا أضلوهم وفتنوهم عن الحق فصاروا يوم القيامة إلى النار.
قوله :﴿ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ ﴿ ألاَ ﴾ أداة تنبيه ؛ فقد نبَّه إلى حقيقة الخسران الظاهر يوم القيامة فإنه هو الخسران الفظيع، لما يجده المفرّطون الهلكى من شديد البلايا وعظيم الويلات في النار.
قوله :﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ﴾ الإشارة عائدة إلى وصف العذاب أو الظلل منن النار ؛ أي ينذر الله عباده بآياته في الوعيد والعذاب الشديد ليخشوه ويطيعوه ويزدجروا تمام الازدجار عن مناهيه.
قوله :﴿ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ وذلك نداء كريم ودود من الله، ينادي به عباده ليؤمنوا ويتقوا ويبادروا بالطاعة والإنابة غير مضطرين ولا مترددين ولا مستنكفين لينجوا من غضب الله وينأوا بأنفسهم من عذاب النار.
هذه الآية محكمة في المؤمنين إلى يوم القيامة. أولئك الذين يعبدون الله وحده ولا يعبدون أحدا من خلْقه سواء كان المعبود شيطانا من الجن أو الإنس. وذلك هو قوله :﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا ﴾ الضمير عائد على الطاغوت ؛ لأنها مؤنث. وأن يعبدوها في محل نصب على البدل من الطاغوت ؛ أي اجتنبوا عبادة الطاغوت. والجمع طواغيت على اختلاف أجناسها ومسمياتها سواء في ذلك السحرة والكهنة أو الأصنام أو المردة من شياطين الجن وغير ذلك من وجوه الأنداد ورؤوس الكفر والضلال من عتاة البشر وطواغيتهم الذين يفتنون الناس ويضلونهم عن دينهم بمختلف الأسباب والوسائل. أولئك جميعا طواغيت يضلون الناس عن دين الله ويسوقونهم بالإغراء والإغواء سوقا إلى الكفر والضلال والمعاصي. فليس على المؤمنين في كل زمان إلا أن يحذروا الطواغيت الكثيرة المختلفة وأن يكونوا دائما على بينة من إضلالهم وإفسادهم فيبادروا على عبادة الله وحده وطاعته والإنابة إليه وأولئك ﴿ لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ يبشرهم الله بحسن الجزاء وتمام السعادة والفوز يوم القيامة.
قوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ﴾ أولئك المؤمنون الطائعون لله، المتبعون أحسن القول قد كتب الله لهم التوفيق ؛ إذ هداهم الله إلى دينه ﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ أ هم أصحاب العقول السليمة والفِطر المستقيمة، النزاعة للحق واليقين، النافرة من الشرك والضلال والباطل.
والمعنى : أمَن وجب عليه عذاب النار أأنت تنقذه منها ؟ أو هل من أحد بقادر أن ينقذ من أحاطت به خطيئته فكان من الظالمين وسبق في علم الله إنه من أهل النار ؟ فلست أنت تملك أمر الناس، ولا أنت بقادر على إنقاذهم منها بل القادر على ذلك هو الله عزّ وجل.
قوله :﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ : تنساب الأنهار جارية سائحة من تحت المنازل في الجنة وبين خلالها.
قوله :﴿ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾ :﴿ وَعْدَ ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله يعني هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين. وهو سبحانه ﴿ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾.
ذلك خطاب من الله عظيم يستوقف المسامع وينبِّه الأذهان للأحداث الكونية التي تدل في جريانها المقدور على سرعة فناء الدنيا واضمحلالها. وكثيرا ما يضرب الله لذلك مثلا من الماء النازل من السماء إلى الأرض فيخرج به النبات حتى إذا نما واخضرّ وأينع صار بعد ذلك إلى لذبول والجفاف واليبس والتفتُّت. وكذلك الإنسان يولد صغيرا لا يعي ولا يعقل ثم يمرّ في مراحل من التطور بدءا بالطفولة فاليفاع فالشباب فالشيخوخة ولهرم الذي يُفضي لا محالة إلى الموت والبلى. وهو قوله سبحانه :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾ يعني أنزل بقدرته ومشيئته المطر من السماء وهو العلو من الفضاء الواسع ﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ﴾ أي أدخله في الأرض ينابيع وهي العيون والمسالك والمجاري الكائنة في الأرض كالعروق في الأجساد ﴿ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ﴾ يخرج الله بواسطة الماء زرعا مختلف الأنواع والأصناف والطعوم والروائح والألوان من خُضرة وحمرة وصفرة وبياض ﴿ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ﴾ أي بعد ذلك يجف وييبس فينقلبُ لونه أصفر بعد أن كان نضرا أخضر ﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ﴾ أي فُتاتا متكسرا. وهو ما تفتَّت وتكسر من النبات وغيره.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ الإشارة عائدة على ما ذُكر من تفصيل عن نزول المطر وإنبات الزرع ذي النضارة والجمال والاخضرار ثم صيروته حطاما يابسا مُتفتتا ؛ فإن في ذلك ﴿ لَذِكْرَى ﴾ أي لتذكيرا ﴿ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ أي لأصحاب العقول النيرة الذين يتذكرون ويعتبرون بذلك وينتبهون إلى أن الدنيا شأنها هكذا ؛ إذ تكون خضرة حسناء ثم تنقلب هرمة واهية شوهاء. وكذلك الإنسان يكون شابا مكتمل القوة والهمة والبأس ثم يعود شيخ كبيرا هرما وقد أتى عليه الضعف والهزل ثم يُفْضي بعد ذلك كله إلى النهاية المحتومة الموت.
والمعنى : أفمن وسع الله صدره فجعله مستعدا لقبول الإسلام بفطرته السليمة كمن قسا قلبه ؟ ! أو كالناسي المعرض عن الخير والهدى، أو كمن طبع على قلبه فقسا ؟ !
قوله :﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ القلوب القاسية هي الغليظة الكَزَّة التي لا تلين للذكرى ولا تخشع للآيات والعظات. وأولو القلوب القاسية غلاظ الطباع، غُلْفُ القلوب لا يعتبرون ولا يدَّكِرون ولا تستجيب نفوسهم لهتاف الحق والخير. وهم إذا ذُكِر الله عندهم أو ذكرت آياته اشمأزت قلوبهم وتولوا جامحين مدبرين. وهذا الصنف من الناس قد طبع على قلبه فبات مسدودا أصم لا خير فيه ولا لين. فويل لهؤلاء من عذاب الله ونكاله.
قوله :﴿ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ الإشارة إلى الموصوفين بقساوة القلوب ؛ فهم غاوون سادرون في العماية والظلام.
ذلك ثناء من الله عظيم على كتابه الحكيم، القرآن، الذي أنزله هداة وتبصرة للناس إلى يوم الدين وهو قوله :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا ﴾ ﴿ كتاباً ﴾ بدل من ﴿ أحْسَنَ ﴾ وقيل : حال منه.
قوله :﴿ مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ ﴿ مُتَشَابِهًا ﴾ يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز، وغير ذلك من مختلف المعاني. وبذلك إذا كانت سياقات القرآن في معنى واحد يشبه بعضه بعضا فهو التشابه.
وأما المثاني : فهو جوع مثنى، بمعنى مردد ومكرر لما ثني من قصصه وأخباره وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعيده ومواعظه.
فسياقات القرآن تكون بذكر الشيء وضده، كذكر المؤمنين ثم الكافرين. وكوصف الجنة ثم وصف النار. ونحو ذلك. فهذا من المثاني.
قوله :﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ جملة ﴿ تَقْشَعِرُّ ﴾ صفة لكتاب، أو حال منه، أو مستأنفة. والمصدر اقشعرار، وقشعريرة. والمعنى : أن المؤمنين المتقين إذا سمعوا القرآن وما فيه من القوارع وآيات الوعيد والتهديد وأخبار الساعة وأهوالها أصبهم لفزع وغشيهم من الرهبة والخشية ما تقشعرّ به جلودهم، وتضطرب منه قلوبهم وأبدانهم.
قوله :﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ يعني إذا ذكرت آيات الرحمة سكنت قلوبهم واطمأنت، وزال عنها ما كان بها من الفزع والقشعريرة. وليس في الآية أكثر من نعت المؤمنين الخاشعين باقشعرار القلوب والجلود من آيات الكتاب الحكيم ثم سكونهم وطمأنينتهم إلى رحمة الله سبحانه. فلن تنعتهم الآية بالصعق والغشيان كما يفعله أهل البدع وبعض المتصوفة ؛ إذ يُصرعون عند قراءة القرآن، ويفقدون عقولهم ويضربون رؤوسهم الأرض. وذلك ضرب من الابتداع المستهجن الذي يتلبس به المبتدعون الجهال. وهم في ذلك ليسوا بأخشع وأورع من الصحابة الكرام وهم خير جيل أقلَّتهُ هذه الغبراء فما كانوا يُصعقون ولا يسقطون وما كانت عقولهم لتذهب بسماع القرآن. وإنما كانوا يسكنون ويطمئنون وتخشع قلوبهم وتبكي عيونهم وهم حينئذ في غاية التنبه والادكار والتيقظ.
قوله :﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ ﴿ ذلكَ ﴾، إشارة إلى الكتاب الذي هو أحسن الحديث، فهو هدى الله يهدي به من يشاء هدايته بتوفيقه للتذكر والتدبر والاعتبار.
قوله :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ يضلل الله من العباد من ساء استعداده وفسدت فطرته فنفر من الحق والهداية. ومن كان كذلك ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ ليس له من أحد غير الله يرشده ويدله إلى الهداية والصواب.
قوله :﴿ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ معطوف على ﴿ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ ﴾ أي يتقي النار وسوء العذاب بوجهه، ويقال لهم من خزنة جهنم على سبيل التعنيف والتقريع وزيادة في التنكيل ﴿ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ أي ذوقوا وبال كسبكم للكفر والعصيان في الدنيا.
قوله :﴿ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ ﴾ ما أعدَّ الله للظالمين الخاسرين يوم القيامة من سوء العذاب والنكال، وشديد البلاء والهوان لهو أعتى وأفظع من عذاب الدنيا. فعذاب الآخرة أليم شديد، ودائم سرمدي لا يزول.
قوله :﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لو كانوا من أهل العلم والنظر لعرفوا ذلك فاعتبروا به وآمنوا.
قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي يجتنبون الكفر والمعاصي ويحذرون الآخرة ؛ فإن عقابها أليم وشديد.
قوله :﴿ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ﴾ ﴿ مثلاً ﴾ بمعنى صفة، وهو تمييز. أي هل يستوي هذان الرجلان في حالهما وصفتهما ؟ ! وهو استفهام إنكار واستبعاد لاستوائهما. والمراد من المثل : أنه لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي يعبد الله وحده لا شريك له.
فالمشرك يتيه في ضلاله حائرا بين الشركاء والأنداد، وهي كثيرة ومختلفة وصماء يتخبط الجاهلون في تعظيمها والتخشُّع أمامها. لكن المؤمن الذي أخلص دينه وعبادته لله وحده دون غيره من الشركاء، لا جرم أنه مستقر في سكينته وراحته وطمأنينته.
قوله :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾ ذلك تنبيه من الله للموحدين على ما امتنَّ به عليهم من توفيقهم لتوحيده وطاعته. لا جرم أن هذه نعمة جليلة تقتضي دوام الحمد لله تعالى بالخضوع له وعبادته وتمام طاعته.
قوله :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أضرب عن بيان عدم الاستواء بين الرجلين المملوكين إلى بيان أن ﴿ أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي لا يعلمون الحق، وهم ناكبون عن صراط الله السويِّ وناكلون عن منهجه الحكيم.
وذلك هو الموت ؛ فإنه مصير رهيب متربص سيفضي إليه كل كائن مهما طال أجله أو امتد به العمر. إنما الناس كافة، صغيرهم وكبيرهم، عظيمهم وحقيرهم، عالمهم وجاهلهم، مؤمنهم وكافرهم، سعيدهم وشقيهم – صائرون جميعا إلى النهاية المحققة المشتركة وهي الموت.
ذلك خطاب من الله للمشركين يتوعدهم فيه ويُندِّدُ بهم وبظلمهم، ذلك أنهم تلبسوا بخطيئتين كبريين أولاهما : افتراؤهم على الله الكذب ؛ إذ اتخذوا مع الله آلهة أخرى وزعموا أن لله ولدا. والثانية : تكذيبهم بالحق ؛ إذ جاءهم على ألسنة النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين. وهو قوله :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي لا احد أظلم وأعتى من هذا الذي أضاف إلى الله الولد أو الشريك ﴿ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ﴾ أي كذَّب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِذْ جَاءَهُ ﴾ يعني وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير روية ولا تدبُّر ولا نظر. بل كذَّب به وقت مجيئه. ثم توعد الله هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب والذين كذَّبوا بالصدق وهو الإسلام – بجهنم تكون مثوىً لهم فبئس المقام والقرار. وهو قوله :﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ وهم الذين افتروا على الله الكذب ؛ إذ نسبوا له الولد وكذَّبوا بالصدق وهو الإسلام.
قوله :﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ الإشارة عائدة إلى ما ذكر من حصولهم على ما يشاءونه. وذلك كله جعله الله جزاء للمؤمنين المتقين الذين أحسنوا أعمالهم لله.
قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعييبنا لنسلطنها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء فأنزل الله ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ دخلت الهمزة الإنكار على النفي لتقرير الكفاية وإثباتها. أي هو كاف عبده. وفي إضافة عبده إليه تشريف له عظيم. والمراد بعبده هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كقوله :﴿ إنّا كفيناك المستهزئين ﴾ أي حفظناك بعنايتنا وكفيناك شرهم وأذاهم.
قوله :﴿ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾ أي يُخَوفك المشركون بالأوثان. فقد ذكر أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لتعيبك إياها فزلت وفي رواية : لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو ليصيبك منها خبل فنزلت. ذلك تصور الجاهليين الضالين، وذلك هو مَبلَغَهم من العلم، إذْ يظنون أن تماثيل بلهاء من أحجار صماء تصيب أحدا بضُرٍّ أو شر. فقد غفل هؤلاء الموغلون في الضلالة أم الأحجار الموهومة والتماثيل الخرساء المركومة لا تضر ولا تنفع. وكذلك غفلوا عن أن الله يكفي عبده المؤمن فيدفع عنه كل وجوه الشر والمكر.
قوله :﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ من لم يكتب الله له التوفيق والهداية فغفل عن أن الله كاف نبيه صلى الله عليه وسلم، راح يخوف بالأصنام الجاحدة الخاوية ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ ليس له من أحد يهديه للحق ويرشده للسداد.
قوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ﴾ استفهام تقرير ؛ فإن الله جل وعلا غالب لا يغلبه أحد. وهو منيع قوي لا يقهره أحد. وهو سبحانه منتقم لأوليائه المؤمنين من أعدائه الظالمين المجرمين.
قوله :﴿ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ الفاء مقترنة بجواب شرط مقدر. أي قل لهم يا محمد – على سبيل التبكيت لهم والتوبيخ : أخبروني إن كانت آلهتكم المفتراة – إن أرادني الله بضُر، من مرض أو فقر أو غيره – يدفعن عني ذلك الضر ﴿ أوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ﴾ أو إن أرادني الله بنفع أو خير هل أصنامكم وأندادكم المزعومة تمسك عني ذلك فيمنعه الله عني. وفي الخبر عن عبد الله بن عباس مرفوعا : " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل اللهَ، وإذا استعنت فاستعِنْ بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك، لم ينفعوك. جَفَّت الصحف ورُفعت الأقلام. واعملْ لله بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ".
قوله :﴿ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ﴾ أي اللهُ كافيَّ في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر ﴿ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ إنما يتوكل المؤمنون المتقون على الله وحده. فإنما عليه الاعتماد والتكلان وليس على أحد غيره من المخاليق. فكل شيء من أناسي وجنٍّ وطير وكائنات، مملوك لله. فما ينبغي التوكل والاعتماد إلا على الله.
قوله :﴿ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ أي عذاب دائم لا يخفف ولا يزول، وهو عذاب النار في الآخرة١.
أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الكتاب وهو القرآن. أنزله للناس متلبسا بالحق ليكون هاديا ونذيرا. وليكون رحمة للعالمين ؛ فإنه مناط مصالحهم ومنافعهم في معاشهم على هذه الأرض وفي معادهم يوم القيامة.
قوله :﴿ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ﴾ أي من اختار الهدى وسلك سبيل المؤمنين المتقين والتزم منهج الله وشرعه فإنما ينفع بذلك نفسه ؛ إذ يستقيم ويرشد فيكون من الناجين المفلحين في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ أي من زاغ عن صراط الله وتنكّب عن طريقه القويم فتولى مدبرا عن دينه فإنما يبوء بالخزي والخسران ولا يحيق وبال كفره وضلاله إلا بنفسه.
قوله :﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ أي لست عليهم بحفيظ فتجبرهم على الإيمان والهدى فما أنت إلا نذير ووظيفتك البلاغ وقد بلغت.
قوله :﴿ وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ أي يتوفى الأنفس حين تنام – تشبيها للنائمين بالموتى – وتلك هي الموتة الصغرى التي يُسلبْ فيها النائم القدرة على الإدراك والإحساس والوعي، مع أنه يتنفس، وقلبه خافق ينبض. ويصطلح الباحثون في الدراسات النفسية الحديثة على عبارة اللاشعور، ويسمون ذلك بالعقل الباطن. وذلك شطر أساسي وكبير يجد الإنسان فيه متنفسه أثناء النوم. وهو الشطر الواسع من النفس، الذي تحتشد في خضمِّه كل الرغبات المكبوتة للإنسان، والتي عجز الإنسان عن تحقيقها وبلوغها في حال اليقظة أو الشعور فانحشرت جميعها في عالم اللاشعور من نفس الإنسان. وذلك هو الكبت. فما يجد المرء المكبوت بذلك من متسع للتنفيس عن هذه الرغبات المضغوطة المكبوتة إلا في الأحلام عند المنام. ويبقى مثل هذا التحليل للنفس الإنسانية مجرد تصوّر يتخيله الباحثون في علم النفس. وهو تصوّر يحتمل الخطأ والصواب، في حق شطر من الأحلام، لا كلها. فشطر من الأحلام – قلّ أو كثر – ربما كان نتيجة لإحساسات مختلفة من الأفراح والأحزان أو لرغائب محبوسة لم يتيسر لها التحقق والنفاذ، أما أن تُفسَّر الأحلام على أنها كلها تعبير عن رغبات مكبوتة فذلك إسراف في الهوى والخطأ ومجانبة للحق والصواب، وركون للخيال والتخريص الواهم ؛ بل الصحيح أن شطرا عظيما من الأحلام لهو تجليات روحية صادقة وارتباط وثيق حقيقي بالملأ الأعلى في السماء. وهذا الشطر من الأحلام سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالمبشرات وهي جزء من النبوة الكريمة.
ومن أصدق الاحتجاج لهذه الحقيقة رؤى النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت ما تلبث أن تتحقق وتستبين في الواقع. وكذلك المؤمنون من بعده يرى كثير منهم الرؤى ثم يجدون تفسيرها في حياتهم وقد ظهر تأويلها واضحا لا شك فيه.
قوله :﴿ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ﴾ أي يقبضها فلا يردها وذلك هو الموت الحقيقي ﴿ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ﴾ أي يطلق النفس الأخرى وهي النائمة ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ أي على الوقت المؤجل حتى تموت.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ الإشارة، إلى توفِّي الأنفس، وفاتين : وهما وفاة الموت ووفاة النوم ؛ إذ يمسك الله الأولى بقبضها، وإرسال الأخرى النائمة ؛ فإن في ذلك آيات ظاهرة على قدرة الصانع العظيم. وهي آيات مكشوفة يتدبرها أولو العقول السليمة، الذين يُجيلون فيها أفكارهم فيعتبرون كل الاعتبار١
ذلك تنديد من الله للمشركين الذين يعبدون من دونه أصناما لا تضر ولا تنفع، وهي كذلك لا تجدي ولا تشفع. وهو قوله :﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ ﴾ يعني بل اتخذ هؤلاء المشركون شفعاء لهم، أي آلهة يعبدونها من دو الله ّ ﴿ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾ الاستفهام للإنكار ؛ أي قل لهم يا محمد، أتتخذون هذه الأصنام آلهة شفعاء، وإن كانوا لا يملكون نفعا ولا شفاعة ﴿ وَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾ فهذه أصنام جامدة عمياء لا تعي ولا تفهم.
قوله :﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ الله مالك كل شيء، وهو بيده مقاليد السماوات والأرض. فهو حقيق أن يُعبد وحده دون غيره من آلهتكم المزعومة.
قوله :﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ يخوِّفهم الله بالموت فإنهم جميعا صائرون إلى الله فملاقوه يوم القيامة ليجازيهم بما فعلوه من شرك وعصيان.
والمعنى : إذا أُفرد الله وحده بالذكر وقيل : لا إله إلا الله ﴿ اشْمَأَزَّتْ ﴾ أي انقبضت أو نفرت واستنكرت قلوب المشركين المكذبين بيوم الدين. وذلك هو دأب الظالمين المشركين المكذبين بيوم الدين ؛ فإنهم لا يَبَشّون بذكر الحق والإسلام في عقيدته السليمة وتشريعه الكامل. إنهم إذا ذكر الحق أو الإسلام انقبضت قلوبهم فاغتموا واغتاظوا ونفروا نفورا وذلك لسوء طبائعهم وفساد فطرهم التي أُشربت الشرك والضلال والباطل.
قوله :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ إذا ذكرت آلهتهم المزعومة المصطنعة على اختلاف أجناسها ومسمياتها فإنهم يبتهجون بها ويفرحون وتغشاهم غاشية من الهشاشة لفرط ابتهاجهم بتلك الآلهة المكذوبة المفتراة. إن ذلك لهو دأب المشركين الضالين في كل زمان. أولئك الذين يغتاظون بذكر الله وحده أو ذكر دينه الإسلام. لكنهم يفرحون ويَهَشّون بذكر ما ابتدعوه من آلهة مكذوبة أقزام يقدسونها تقديسا ويعبدونها وتعلو وجوههم بذكرها غمرة من البشاشة والسرور. أولئك هم الجاحدون الضالون السفهاء في كل زمان ؛ الذين ينفرون جامحين من الحق ويستبشرون فرحين بالباطل٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٤ ص ٨ والكشاف ج ٣ ص ٤٠١.
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء معلنا فيه وحدانية الله وانفراده بالإلهية والخلق وأنه سبحانه يحيط بكل شيء علما. وهو قوله :﴿ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق. وأنه سبحانه ﴿ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ أي لا يخفى عليه شيء وهو سبحانه عليم بالظاهر والباطن ما من شيء إلا هو معلوم لديه وظاهر بين يديه، لا يخفى عليه.
قوله :﴿ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي تقضي بينهم بالحق يوم القيامة فيما كانوا في الدنيا يختلفون فيه من القول فيك وفي عظيم سلطانك وغير ذلك من وجوه الاختلاف.
قوله :﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ أي ظهر لهم يوم القيامة من عذاب الله ونكاله الذي أعده لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يخطر لهم على بال.
ذلك هو الإنسان في ضعفه واغتراره وقلة حيلته وهوان عزمه واصطباره ؛ فإنه إذا أصابه ضُر، أي سوء ومكروه من بؤس أو شدة أو فقر أو سقَم أو جزع، بادر بالاستغاثة بالله داعيا إياه أن يدفع عنه ما أصابه من ضرٍّ ﴿ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا ﴾ يعني إذا بدلناه بالضُر رخاء وسعة وعافية ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ يعني إنما أعطيت هذه النعمة من الرخاء والخير والسعة والعافية على علم من الله بفضلي وبأني أهل لذلك من أجل شرفي ورضاه عني. أو بعلم علمني الله إياه. أو على علم عندي بوجوه المكاسب وتحصيل الخير.
قوله :﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ﴾ أي ما أوتيته في الدنيا من نعمة إنما هو امتحان لك، واختبار اختبرناك به، أو بلاء ابتليناك به.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس لا يعلمون أن ما خوَّلهم الله إياه من نعمة المال وزينة الحياة الدنيا، اختبار لهم وابتلاء من الله يبلوهم به. فهم بذلك غافلون عن توحيد الله وشكره، سادرون في الغي والجهالة موغلون في الشهوات وما في الحياة الدنيا من متاع وزينة.
قوله :﴿ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ﴿ مَّا ﴾، نافية ؛ أي لم تُجْدِهم شيئا أموالهم ومكاسبهم من عذاب لما حاق بهم ولم تنفعهم آلهتهم المزعومة حينئذ بل تخلت عنهم وأسْلمتهم للتعْس وسوء المصير.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ﴾ أي الذين أشركوا بالله من قومك يا محمد وقالوا هذه المقالة سيصيبهم جزاء كفرهم وما عملوه من سيئات مثلما أصاب الذين من قبلهم من الظالمين من وبال ﴿ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ أي لا يفوتون الله ولا يسبقونه هربا من عذابه إذا حاق بهم بل إنهم مصيبهم ما أصاب أولئك من شديد الوبال.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ الإشارة عائدة إلى بسط الرزق وتقتيره على من أراد سبحانه ؛ فإن في ذلك دلالات وحُججا لقوم يؤمنون. وقد خص المؤمنين بالذكر ؛ لأنهم أجدر أن ينتفعوا بالآيات والبراهين، وأحرص على الاعتبار والاتعاظ١.
نزلت الآية في أهل مكة ؛ إذ قالوا : يزعم محمد أن من عَبَدَ الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يُغفر له. وكيف نهاجر ونسْلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله ؟ فأنزل الله هذه الآية. وقيل : نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة وخافوا ألاَّ يتقبَّل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية. وقال ابن عباس : نزلت في وحشيّ قاتل حمزة ؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه١ لا جرم أن هذه الآية أكثر الآيات في الكتاب الحكيم فرحا ؛ لما فيها من إعلان رباني كريم يفيض بالإحسان والفضل والرحمة ؛ فإن فيها بيانا بأن الله غفار لسائر الذنوب عقب التوبة والندم إذا ما اجتُنب الإشراك بالله وهو قوله :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ وتقنطوا، من القنوط، بضم القاف وهو الإياس من رحمة الله٢. وذلك إعلان من الله داوٍ ينادي فيه عباده من الكافرين وغيرهم، الذين أسرفوا على أنفسهم بكثرة المعاصي والذنوب أن يبادروا بالتوبة والإنابة إلى الله. وفيه إخبار منه سبحانه بأنه يغفرُ الذنوب جميعا لمن تاب منها وإنْ كانت مثل زبد البحر. فما ينبغي لأحد بعد هذا الكرم الرباني الفياض، وهذه الرحمة الدافقة الغامرة أن ييأس من رحمة الله فيسْدُرَ في الإياس والعصيان.
وفي عظيم رحمة الله بعباده وبالغ كرمه ولطفه بهم كيلا ييأسوا من رحمة الله روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " وروى الإمام أحمد أيضا عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفارة الذنب الندامة " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم ".
وعن عبد الله بن الإمام أحمد بسنده عن علي بن أبي طالب ( رضي الله تعالى عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب ".
٢ المصباح المنير ج ٢ ص ١٧٧.
قوله :﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ﴾ أي أطيعوا الله واعبدوه وحده والتزموا ما أمركم به في منهاجه العظيم لكم من قبل أن يفاجئكم عذاب الله ؛ إذ يغشاكم بغتة وأنتم لا تعلمون به.
٢ تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٢٦٨-٢٧٣ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٦٠..
﴿ الذين ﴾ في موضع نصب، مفعول للفعل ﴿ تَرَى ﴾. والجملة الاسمية من قوله :﴿ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ﴾ في موضع نصب على الحال. وقيل : مفعول ثان١. ذلك إخبار من الله عن أهوال يوم القيامة وما فيها من شديد القوارع والأفزاع. وحينئذ يكون الناس فريقين. فريق المؤمنين الطائعين المذعنين لله. وفريق المكذبين برسل الله، الجاحدين لدينه، الذين افتروا على الله الكذب والباطل ؛ إذ نسبوا له الولد والشريك وأوغلوا في الضلال والباطل فأولئك تسودُّ وجوههم يوم القيامة مما نزل بهم من غضب الله وانتقامه ومما أحاط بهم من شديد الذعر والإياس.
قوله :﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ المتكبرون، هم المعرضون عن منهج الله، المستكبرون عن دينه، الجاحدون لآيات الله ظلما واستكبارا. أولئك يتبوأون مأواهم في جهنم لابثين فيها مقيمين لا يبرحون.
.
قوله :﴿ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء ﴾ أي لا يمس المؤمنين المتقين من عذاب جهنم شيء من أذى ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ أي لا يبتئسون ولا يحزنون على ما فاتهم من زينة الحياة الدنيا ومن مفارقة الأهل والصحب والخلان، فهم صائرون إلى الكرامة الأبدية المثلى والسعادة الكاملة العظمى في جوار الملك الديّان حيث النعيم الواصب المقيم١.
يبين الله لعباده عن بالغ قدرته وعظيم سلطانه فهو خالق الأشياء كلها وهو مالكها ومُدبّرها. وما من شيء في السماوات والأرض إلا هو تحت قهره وملكوته وكلاءته.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الذين كذّبوا بحجج الله وأنكروا دلائله الظاهرة ومعجزاته الباهرة، أولئك هم الذين خسروا حظهم من نعيم الله فخسروا بذلك أنفسهم فكانوا مع الهالكين الغاوين.
٢ تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٦١ وتفسير الطبري ج ٢٤ ص ١٦-١٧ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٣ وأحكام الأحكام لابن العربي ج ٤ ص ١٦٤٦..
يبين الله أن الكافرين بجحودهم وتكذيبهم لم يقدروه بما هو أهله من التقدير. وهو قوله :﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ أي ما عظّموه حق تعظيمه. تعظيم يليق بكماله وجلاله وعظيم سلطانه. لا جرم أن الله حقيق بالطاعة والعبادة وجميل الثناء والشكران. وهو مستوجب الإفراد بالإلهية والربوبية ليكون له وحده كامل الطاعة والإذعان. ومن لم يؤمن بهذه الحقيقة فعصى ربه أو استكبر عن عبادته أو اتخذ معه آلهة أخرى، فما عظَّمه بما هو أهله.
قوله :﴿ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ﴿ وَالْأَرْضُ ﴾، مبتدأ مرفوع. و ﴿ قَبْضَتُهُ ﴾ خبر، و ﴿ جَمِيعًا ﴾، منصوب على الحال١ أي الأرض يوم القيامة في إحاطته وملكوته وتحت قدرته وإرادته ﴿ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾ ﴿ مَطْوِيَّاتٌ ﴾ من الانطواء وهو الفناء والذهاب. والمراد باليمين هنا القوة والقدرة. وقيل : مطويات، من الطيِّ وهو ضد النشر. ومطويات بيمينه ؛ أي في قدرته. قال ابن عباس في ذلك : ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم.
قوله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ ينزِّهُ الله نفسه ويتعالى علوًّا عظيما عما يشرك به المشركون من اتخاذ الآلهة معه والأنداد٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٤ ص ١٧-١٩ وتفسير الرازي ج ٢٧ ص ١٧.
ذلك إخبار من الله عن أهوال القيامة وعما يجري فيها من قوارع وقواصم كونية ترتج من أجلها الأرض والسماوات وتتزلزل من شدتها سائر المخاليق والكائنات ويكشف عن ذلك هذه الآيات المريعة العظام التي تأخذ بالقلوب وتقرع المشاعر والوجدان والأبدان. وهو قوله :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ﴾ وهو قرن هائل، الله أعلم ماهيته وحقيقة تكوينه ومدى حجمه وعظمته. وقد وُكِّل بالنفخ فيه ملك عظيم وهو إسرافيل عليه السلام ؛ فإنه قد انتقم هذا القرن منذ خلق. ومازال ينتظر أن يأمره الله بالنفخ إيذانا بالموت والفناء. وهو قوله :﴿ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ وهذه هي النفخة الأولى، وهي نفخة الموت التي تسبق نفخة البعث. وقيل : هذه هي النفخة الثانية التي تأتي عقب نفخة الفزع. وكيفما تكن، فإن هذه النفخة تموت فيها الأحياء كافة وتضطرب بها نواميس الحياة والكون كله ويتبدل كل شيء تبديلا.
قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ واختلفوا في المستثنين من الصعق عقب النفخ. فقيل : المراد بهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. وقيل : المراد بهم الشهداء ؛ فهم أحياء عند ربهم يرزقون. وهم يومئذ لا يفزعون بل هم حول العرش آمنون ساكنون.
قوله :﴿ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ وتلك هي نفخة البعث والنشور والقيام من القبور. فإذا وقعت قام الأموات من أهل الأرض والسماء من قبورهم وأماكنهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم أو ينتظرون ما يفعله الله بهم.
قوله :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾ المراد بذلك، الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فمنهم آخذ كتابه بيمينه فهو من أهل النجاة ومنهم آخذ بشماله فهو من الخاسرين الأشقياء.
قوله :﴿ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ﴾ يجاء بالنبيين ليشهدوا على أممهم بأنهم بلَّغوهم رسالات الله إليهم. ويجاء كذلك بالشهداء وهم الملائكة ليشهدوا على أعمال العباد من خير و شر. وقيل : المراد بهم الشهداء من الأمم يشهدون للرسل بتبليغ الرسالات. وقيل : هم الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذلك بيان من الله عن حال الخاسرين يوم القيامة وهم يساقون إلى جهنم مذعورين آيسين خزايا وقد أحاط بهم الإياس والفزع وهول المشهد، وأيقنوا أنهم صالوا النار لا محالة. نسأل الله السلامة والنجاة والعافية. وهذا قوله :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ﴾ ﴿ زمرا ﴾، جماعات متفرقة، جمع زمرة، أي يُساقون إلى النار بعنف وشدة فلا يرون حينئذ غير البطش والتنكيل وشديد الانتقام.
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾ إذا وصل هؤلاء الخاسرون جهنم فتحت لهم أبوابها ثم نادتهم الملائكة من زبانية جهنم، القائمين عليها ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ﴾ نادوهم بزجر وتعنيف وتنكيل : ألم يأتكم رسل مُبلِّغون من جنسكم تعرفون حسن أخلاقهم وكمال صدقهم وأمانتهم ﴿ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ ﴾ أي يتلون عليكم ما أنزل الله إليكم من الكتب والبينات التي فيها هدايتكم ورشادكم ﴿ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ أي يبلغونكم أنكم ملاقوا ربكم في هذا اليوم الرعيب. أو يحذرونكم من فظاعة هذا اليوم العصيب.
قوله :﴿ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ قالوا مجيبين لخزنة جهنم : بلى جاءتنا الرسل فبلَّغتنا وحذرتنا هذا اليوم ولكن وجب عذاب الله علينا بسبب كفرنا وتفريطنا وسوء فعالنا في الدنيا.
بعد الإخبار عن سوْق المجرمين الأشقياء إلى جهنم وهم تزجرهم الملائكة زجرا وتدعُّعهم إلى نار جهنم دعّا، ذليلين مذعورين عِطاشا – يخبر عقب ذلك عن السعداء الفائزين، وهم المؤمنون المتقون ؛ إذ يساقون إلى الجنة زمرا ؛ أي جماعة بعد جماعة، أولهم المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم. فالنبيون مع النبيين، والصدِّيقون مع الصدِّيقين، والشهداء مع الشهداء، والعلماء مع نظرائهم، فيساق الجميع مكرمين مبجلين وهم تحفُّهم ملائكة الرحمة من كل جانب حتى يبلغوا الجنة ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ جواب إذا محذوف وتقديره : حتى إذا جاءوها فازوا ونعموا١ والمعنى : حتى إذا وصلوا الجنة وقد فتحت لهم أبوابها إكراما وتعظيما وتلقتهم الملائكة بالبشرى والسلام والثناء – فازوا فوزا عظيما ووجدوا من البشائر والمسرات وأوجه النعم وطيب العيش والمقام ما لم يخطر على بال أحد. أما إثبات الواو في سَوْق أهل الجنة عند قوله :﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾ فقد دل على أن الجنة كانت مُفتّحة قبل أن يجيئها المؤمنون. أما حذفها في سَوْق أهل النار فيدل على أنها كانت مغلقة. وقيل : إنها واو الثمانية. فقد كان من عادة قريش أن يعدّوا من الواحد فيقولون : خمسة ستة سبعة وثمانية. أي إذا بلغوا السبعة قالوا وثمانية. والمعنى الأول أظهر.
قوله :﴿ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ تحييهم الملائكة وهم خزنة الجنة بالسلام والإكرام ويقولون لهم في تودد ورحمة : طابت أعمالكم وأقولكم وطاب سعيكم وطابت عاقبتكم وما كتب الله لكم من حسن الجزاء ﴿ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ أي ماكثين فيها، لابثين لا تخرجون ولا تبرحون.
قوله :﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ أي قضى الله بين عباده بالعدل والصدق ﴿ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هذه شهادة حق ينطق بها الكون كله بما فيه من مختلف الخلائق والكائنات والأجناس على أن الله له الحمد والثناء وهو المستحق لبالغ الشكر والتقديس والإذعان١.