تفسير سورة الشورى

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الكتب السماوية، والذي هو نور الله الهادي إلى صراط مستقيم، ليتناسق الختام مع مطلق السورة بالحديث عن هذا الكتاب العزيز: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [٥٢].
إنزال الوحي وعظمة الله ورقابته أحوال المشركين
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)
الإعراب:
كَذلِكَ يُوحِي... اللَّهُ كَذلِكَ: الكاف بمعنى المثل، وكَذلِكَ مفعول مطلق ل يُوحِي واللَّهُ: فاعل يُوحِي. ومن قرأ «يوحى» كان لفظ الجلالة اللَّهُ إما مرفوع بفعل مقدر دل عليه «يوحى» كرفع كلمة رِجالٌ في قراءة من يقرأ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور ٢٤/ ٣٦- ٣٧] بفعل مقدر، أي يسبحه رجال، وإما مرفوع بالابتداء، ويكون الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خبرين عن الله تعالى، ويجوز جعلهما وصفين، ولَهُ ما فِي السَّماواتِ الخبر، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الله.
أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ توالي المؤكدات وهي ألا، وإن، وضمير الفصل.
البلاغة:
أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ توالي المؤكدات وهي: ألا، وإن، وضمير الفصل.
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.. الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.. بِوَكِيلٍ صيغ مبالغة، وسجع لطيف.
23
كَذلِكَ يُوحِي استعمل الفعل المضارع في حقيقته بالنسبة لما ينزل من القرآن، وفي مجازه بالنسبة لما أنزل من الكتب السابقة وما أنزل من القرآن. وهذا تشبيه للمشبه، والمشبه به هذه السورة.
المفردات اللغوية:
حم عسق تقرأ هكذا بأسمائها: حا، ميم، عين، سين، قاف بإدغام السين في القاف، وقد انفردت هذه السورة بآيتين من الحروف، لعلهما اسمان للسورة. وهذه الحروف المقطعة كما تقدم للتنبيه على إعجاز القرآن، ولفت النظر إلى ما تشتمل عليه السورة من عظائم الأمور كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أي مثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين من الكتب الإلهية يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ أي مثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين من الكتب الإلهية يوحي الله إليك أيها الرسول، كما أوحي إلى من قبلك الأنبياء. وإنما ذكر الإيحاء بلفظ المضارع:
يُوحِي لحكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي، وكون إيحاء مثله عادة الله.
الْعَزِيزُ أي القوي الغالب في ملكه الْحَكِيمُ في صنعه، وهما صفتان.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا وَهُوَ الْعَلِيُّ المتعالي فوق خلقه الْعَظِيمُ المتفرد بالكبرياء والعظمة يَتَفَطَّرْنَ يتشققن والفطور: الشقوق، وقرئ «ينفطرن» وقرئ «يتفطّرنّ». مِنْ فَوْقِهِنَّ أي تكاد السموات يتشققن من هيبة وعظمة الله وجلاله، الذي هو فوقهن بالألوهية والقدرة، أو يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية بسبب وجود العرش والكرسي وصفوف الملائكة وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة يلازمون ويداومون خضوعا لعظمة الله على عبادته وتنزيهه عما لا يليق به، وتحميده وشكره على نعمه وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي للمؤمنين فهي عموم يراد به الخصوص، بدليل آية أخرى:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [المؤمن ٤٠/ ٧] وحكايته عنهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ [المؤمن ٤٠/ ٧] أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لأوليائه المؤمنين الرَّحِيمُ بهم.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأندادا وهم الأصنام حَفِيظٌ رقيب على أحوالهم وأعمالهم، محص لها، فيجازيهم عليها وَما أَنْتَ يا محمد بِوَكِيلٍ بموكل بهم تحصل المطلوب منهم وهو هدايتهم، فما عليك إلا البلاغ فقط.
التفسير والبيان:
حم، عسق هذه الحروف الهجائية السبعة المفصولة بمقطعين أو آيتين مما اختصت به هذه السورة، والمعروف ألا يفصل بين هذه الحروف، مثل
24
كهيعص أول مريم والمر أول الرعد، بدئ بها للدلالة على تكوين القرآن من أجزاء أمثال هذه الحروف التي تتركب منها لغة العرب بقصد الإعجاز والتنبيه إلى خطورة ما فيها من أمور.
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي مثل ذلك الإحياء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة، يوحي إليك أيها الرسول في هذه السورة، من الدعوة إلى التوحيد وإثبات النبوة، والإيمان بالبعث أو اليوم الآخر والثواب والعقاب، والعمل بفضائل الأخلاق، والبعد عن رذائلها، وإسعاد الفرد والمجتمع، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى ٨٧/ ١٨- ١٩] وهو إشارة إلى ما تضمنته السورة من إقرار مبدأ التوحيد، والنبوة، والمعاد، فليس الهدف من إنزال جميع الكتب الإلهية إلا الإيمان بهذه الأمور الثلاثة.
والذي يوحي إليك هو الله، العزيز في ملكه، الغالب بقهره، الحكيم في صنعه، يضع الأمور في موضعها الصحيح.
والمقصود بالآية تقرير المماثلة في دعوات الأنبياء إلى التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، والتحذير من الاغترار بالدنيا، والترغيب في التوجه إلى الآخرة.
ومن أوصاف الموحي أيضا ما قاله تعالى:
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أي له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهي مملوكة له، مخلوقة منه، متصرف فيها كما يشاء إيجادا وإعداما، وهو المتعالي فوق خلقه، صاحب الكبرياء والعظمة، ليس كمثله شيء، فليس المراد العلو في الجهة والمكان، ولا عظمة الجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض، وذلك ينافي قوله: اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ١].
25
والمقصود بالآية الدلالة على كمال قدرة الله، ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته.
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي تقارب السموات يتشققن من عظمة وجلال وهيبة من هو فوقها بالألوهية والقهر والقدرة، وهذا هو الظاهر، والأدق أن يقال: من الجهة الفوقانية التي هن فيها.
ويحتمل أن المراد: يتفطرن لكثرة ما عليهن من الملائكة، كما في حديث أحمد والترمذي: «أطّت السماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد». وقيل: إن المراد: كدن يتفطرن من قول المشركين: اتخذ الله ولدا، كما في قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا «١»، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم ١٩/ ٨٨- ٩١].
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة يداومون على تنزيه الله عما لا يليق به ولا يجوز عليه، قارنين التسبيح بالتحميد وشكر النعم التي لا تحصى، كقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٠].
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي ويطلبون المغفرة لعباد الله المؤمنين، ثم أورد الله تعالى ما يكون طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق، فذكر أنه سبحانه كثير المغفرة والرحمة، وفيه إيماء إلى قبول استغفار الملائكة، لضم الرحمة إلى المغفرة، وإشارة إلى أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة لله تعالى. قال بعض العلماء: هيّب وعظّم جل وعز في الابتداء، وألطف وبشّر في الانتهاء «٢».
(١) إدّا: أي منكرا فظيعا.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٥.
26
ونظير الآية: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ، وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [المؤمن ٤٠/ ٧].
ثم حذر الله تعالى من الشرك قائلا:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي إن المشركين الذين اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله، الله هو الرقيب على أحوالهم وأعمالهم، يحفظها ويحصيها عليهم ليجازيهم بها، وما أنت أيها الرسول بموكل إليك هدايتهم ومؤاخذتهم بذنوبهم، ولست مكلفا بحملهم وقسرهم على الإيمان، وإنما عليك البلاغ فحسب.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- هناك مماثلة تامة في أصول العقيدة والأخلاق والفضائل بين رسالات الأنبياء، فالموحى به إليهم واحد يدور حول إثبات التوحيد والنبوة والمعاد.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تبيان أنواع الوحي،
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه صلّى الله عليه وسلّم ليتفصّد عرقا.
٢- لله ملك السموات والأرض ومن فيهما، فهو كامل القدرة، نافذ التصرف في جميع مخلوقاته، وقد اشتملت الآيات على ثمان صفات لله تعالى وهي:
27
العزيز، الحكيم، مالك السموات والأرض ومن فيهما، العلي، العظيم، الغفور، الرحيم، الحفيظ.
٣- تكاد السموات يتشققن من عظمة الله وجلاله فوقهن.
٤- تلازم الملائكة التسبيح (أي تنزيه الله عما لا يجوز في وصفه وما لا يليق بجلاله) والتحميد، خضوعا لما يرون من عظمة الله، ويستغفرون للمؤمنين من الذنوب والخطايا، والله سبحانه له المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة.
٥- الله هو الذي يحفظ أعمال المشركين الذين اتخذوا أصناما من غير الله يعبدونها، ليجازيهم بها، وليس النبي صلّى الله عليه وسلّم بموكل على أحد في هدايته وقسره على الإيمان، وإنما الإيمان أمر اختياري، والرسول مجرد مبلّغ ناصح، وليس في قدرته أن يحملهم على الإيمان.
مقاصد الوحي الإلهي
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٧ الى ١٢]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
28
الإعراب:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا الكاف في كَذلِكَ مفعول به، وقُرْآناً عَرَبِيًّا: حال منه.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ذلِكُمُ: في موضع رفع مبتدأ، واللَّهِ: عطف بيان، ورَبِّي: صفة لله، وخبر المبتدأ: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
وفاطِرُ السَّماواتِ... مرفوع إما خبر بعد خبر، أو صفة، أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو فاطر السموات والأرض، أي مبدعهما.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف: إما زائدة، أي ليس مثله شيء، أو غير زائدة والمراد بالمثل الذات، يقال: مثلي لا يفعل هذا، أي أنا لا أفعل هذا.
البلاغة:
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مجاز مرسل، أي لتنذر أهل مكة. وكما حذف كلمة «أهل» حذف المنذر به وهو العذاب، أي لتنذر أهل مكة العذاب، وهذا يقال له (احتباك) وهو حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر.
الْجَنَّةِ والسَّعِيرِ، يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء، فالإشارة إلى مصدر يوحي أو إلى معنى الآية المتقدمة لِتُنْذِرَ تخوف به أُمَّ الْقُرى أي أهل أم القرى وهي مكة، كأنها أصل للقرى التي حولها، وقد ثبت علميا أنها فعلا في مركز قطب الدائرة الأرضية وَمَنْ حَوْلَها من العرب وسائر الناس يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة الذي تجتمع فيه الخلائق لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه وهو جملة اعتراضية فَرِيقٌ منهم أي جماعة فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي النار المستعرة، أي بعد جمعهم في الموقف يفرقون فريقين.
أُمَّةً واحِدَةً على دين واحد إما مهتدين أو ضالين وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي بالهداية والتوفيق إلى الطاعة وَالظَّالِمُونَ الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي لا يدعمهم
29
ولي يتولى أمورهم، ولا نصير يدفع عنهم العذاب. وتغيير الجملة من فعلية إلى اسمية، للمبالغة في الوعيد.
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذوا، أي أن أَمِ منقطعة بمعنى «بل» للانتقال من كلام إلى كلام أو من معنى إلى معنى، والهمزة: استفهامية يراد بها الإنكار، أي ليس المتخذون أولياء مِنْ دُونِهِ أي الأصنام ونحوها وأَوْلِياءَ نصراء أعوان فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ أي المعين الناصر للمؤمنين، وهذا جواب شرط محذوف مثل: إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بالحق، لاولي سواه وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية.
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما اختلفتم أنتم والكفار في أمر من أمور الدين أو الدنيا فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي حكمه مردود إلى الله يوم القيامة، يفصل بينكم بالإثابة والمعاقبة، أو مفوض إلى الله يميز الحق من المبطل بالنصر في الدنيا عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوضت في مجامع الأمور، ورد كيد أعداء الدين وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في المشكلات وفي كفاية شرهم.
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومبدعهما لا على مثال سبق مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا، واقتصر على الأنعام للتغليب على سائر الحيوانات يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: كثرهم، وفِيهِ في هذا التدبير وهو جعل الأزواج للناس والأنعام، وضمير يَذْرَؤُكُمْ راجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلبا فيه العقلاء.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الكاف زائدة، أي ليس مثله شيء في ذاته وصفاته وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لكل ما يسمع ويبصر، أو يقال ويفعل.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ مفاتيح خزائنها من المطر والنبات وغيرهما يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسعه لمن يريد امتحانا وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يريد ابتلاء.
المناسبة:
بعد بيان كون الله هو الرقيب على أحوال المشركين وأعمالهم، ذكر الله تعالى توجيهات لنبيه والمؤمنين، وهي إنزال القران بلغة العرب ليفهمه أهل مكة ومن حولها، وقسمة الناس في الآخرة فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وجعل الإيمان اختياريا غير قسري ولا جبري، ورد المختلف فيه إلى الله،
30
والاستدلال على قدرته بخلق السموات والأرض، وتصرفه فيهما وانفراده بملك خزائنهما، وخلق الأزواج ذكورا وإناثا من الناس والأنعام وغيرها.
التفسير والبيان:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أي ومثل ذلك الإيحاء إلى الأنبياء السابقين بلغات أقوامهم، أوحينا إليك قرآنا عربيا، لتخوف به من عذاب الله وشؤون الدنيا والآخرة أهل مكة (أم القرى) ومن حولها من العرب وسائر الناس، لأن رسالتك عامة للبشرية قاطبة، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ، بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ ٣٤/ ٢٨]. وإنما خص أهل مكة ومن حولها، فلأنهم المخاطبون بالرسالة أولا ليكونوا حملتها إلى الناس جميعا.
وأما تأييد الآية في تنوع الرسالات على وفق لغات الأقوام والأمم، فهو قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم ١٤/ ٤].
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي وتنذر به أيضا يوم القيامة الذي تجتمع الخلائق فيه، وتقترن الأرواح بالأجساد، والذي لا شك في وقوعه، ثم إنهم بعد الجمع والحساب يفرّقون فريقين: فريق يدخل الجنة لإيمانه بالله ورسوله وكتابه، والإحسان عمله في الدنيا، وفريق آخر يزجّ به في نار جهنم المسعرة على أهلها، لكفرهم بالله ورسوله وقرآنه.
ونظير الآية قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ، ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ [التغابن ٦٤/ ٩] أي يغبن في الكافر بتركه الإيمان، والمؤمن بتقصيره في الإحسان وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ
31
النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
[هود ١١/ ١٠٣- ١٠٥].
ثم أبان الله تعالى مبدأ حرية الإيمان لتسلية رسوله عما يقاسي من كفر قومه، فقال:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً، وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ، وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي لو أراد الله لجعل الناس جميعا أهل دين واحد، إما على هدى، وإما على ضلالة، ولكن اختلفوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وبمقتضى العلم الأزلي بما يختاره الإنسان، فيكون إما مؤمنا وإما كافرا، والله تعالى حكيم لا يفعل إلا ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى والدين الحق وهو الإسلام، هداه ووفقه إليه، فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال والكفر، أضلّه، فيدخله بذلك في السعير، وهؤلاء هم الظالمون الكافرون المشركون الذين ليس لهم ولي يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم يوم الحساب والعقاب.
وهذه الآية تقرير للآية السابقة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي ليس في قدرته حملهم على الإيمان، وإنما القادر على ذلك هو الله تعالى.
والآية أيضا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يكابده ويعانيه من كفر قومه وإعراضهم عن دعوته، وكأنه تعالى يقول له: لا تأس ولا تحزن على عدم إيمانهم، فالهداية والضلالة تابعتان للمشيئة الإلهية، فمن سبقت له السعادة فهو السعيد، ومن سبقت له الشقاوة فهو الشقي. ويكون موضوع الآية مثل آية: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦].
لهذا أمر الله نبيه بعدم الاهتمام بهم بسبب وثنيتهم وشركهم، فقال:
32
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي بل اتخذ هؤلاء الكافرون آلهة يعبدونها من دون الله، من الأصنام والأوثان، زاعمين أنهم أعوان لهم ونصراء، فإن أرادوا وليا ناصرا بحق، فالله هو الولي الحقيق بأن يتخذوه معينا وناصرا، لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه الخالق الرازق الضار النافع الناصر لمن أراد، وهو القادر على إحياء الموتى، وهو قدير بالغ القدرة على كل شيء مقدور.
أما الأصنام وكل من عدا الله فلا تملك في الحقيقة نفعا ولا ضرا، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً، لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج ٢٢/ ٧٣].
ثم بعد هذا النبذ للكفار، نهى الله تعالى عن منازعتهم في الدين، فقال:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي مهما اختلفتم في شيء من جميع أمور الدين والدنيا، فإن حكمه ومرجعه إلى الله، فهو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، وسوف يفصل فيه يوم القيامة بحكمه، فيظهر المحق من المبطل. والمقصود أن المؤمنين ممنوعون من الشروع مع الكفار في الخصومات والمنازعات، كما منع الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يحمل الكفار على الإيمان قهرا.
والآية مثل قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء ٤/ ٥٩].
ثم أمر الله نبيه أن يقول لهم:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي ذلكم الحاكم بهذا الحكم هو الله ربي، عليه وحده اعتمدت في جميع أموري، لا على غيره، وفوضته في كل شؤوني، وأرجع إليه تائبا من الذنوب، لا إلى غيره.
33
وهذا تعريف لهم بمصدر الخير الحقيقي ودفع الضرر، لا أصنامهم الجمادات.
وأسباب ذلك قدرته الخارقة، فقال تعالى:
١- فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومبدعهما من العدم، لا على مثال سبق، فهو الجدير بالعبادة.
٢- جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي أوجد وخلق لكم من جنسكم نساء لتسكنوا إليها، ويحدث التكاثر والتوالد، ويستمر بقاء النوع الإنساني، وخلق أيضا للأنعام من جنسها إناثا، حتى تتكاثر موارد المعيشة لبني الإنسان. أو خلق من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث، لذا قال: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أي يبثكم ويكثركم به أي بجعل الأزواج سبيلا للتكاثر. وقوله: فِيهِ أي في هذا التدبير، وهو جعل الأزواج من الناس والأنعام، فكأن هذا الجعل منبع التكاثر ومصدره.
٣- ٤- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي ليس مثل الله شيء في ذاته وصفاته وحكمته وقدرته وعلمه، ومن حكمته التكاثر بالتزاوج، وهو السميع لكل الأصوات، البصير بالأمور، يسمع ويبصر الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، ظاهرها وخفيها. وهذه الآية حجة في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلا في المكان والجهة، إذ لو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام.
والآية أيضا حجة في نفي المثل لله تعالى.
أما قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم ٣٠/ ٢٧]، فلا يعني إثبات المثل، لأن المراد بالمثل: هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الحقيقة والماهية، والمثل: هو الذي يكون مساويا للشيء في بعض الصفات الخارجة عن
34
الماهية، وإن كان مخالفا في الماهية «١».
٥- لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي له سبحانه خزائن السموات والأرض أو مفاتيحهما، يوسع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويضيقه على من يشاء، وإنه تعالى عليم بكل شيء يحدث في الوجود، من إغناء وإفقار، وآثار ذلك على النفس والمجتمع، لا يريد بذلك إلا إجراء الحكمة والمصلحة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الحقائق التالية:
١- القرآن الكريم كما هو واضح عربي مبين، أوحى الله به إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
٢- غاية القرآن الإنذار والتبشير، إنذار الكفار بالنار، وتبشير المؤمنين بالجنة. ويشمل الإنذار أيضا مخاوف وأهوال يوم القيامة الذي لا شكّ في وقوعه، فهو كائن لا محالة، ولكن بعلم الله، وما أقرب حدوث القيامة إن نشبت حرب ذريّة عالمية، فالذّرة كفيلة بالقضاء على الأخضر واليابس.
٣- الناس يوم القيامة فريقان: فريق الجنة، وفريق النار، ولا ثالث لهما.
٤- إن مكة المكرمة هي أم القرى وعاصمة المدن، وأشرف سائر البلاد، وهي كما أثبت العلماء الحديثون في مركز قطب الدائرة للكرة الأرضية، وكانت أحبّ البلاد إلى قلب النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
أخرج الإمام أحمد والتّرمذي والنّسائي وابن ماجه عن عبد الله بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- وهو واقف
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٥٣.
35
بالحزورة في سوق مكة-: «والله إنك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت».
٥- الله قادر على جعل الناس على دين واحد وملّة واحدة، أهل ضلالة أو أهل هدى، ولكن يدعهم وشأنهم في اختيار أي المنهجين شاؤوا، فأهل الهداية في الجنة، وأهل الضلالة في النار، وليس لهم ناصر ولا معين يدفع عنهم العذاب.
٦- لقد استحبّ المشركون الكفر على الهدى، واتّخذوا الأصنام معبودات وآلهة لهم من دون الله، ولكنهم خابوا وخسروا وأخطئوا، فالله هو المعبود بحقّ، لأنّه الناصر الولي الذي لا ولي سواه، وهو القادر على البعث، والقادر على كلّ شيء، وغيره عاجز لا يقدر على شيء، وليس محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم رقيبا ولا حافظا ولا مكلفا بأن يحملهم على الإيمان شاؤوا أم أبوا.
٧- لا داعي للاختلاف والتنازع بين أهل الأديان، لأن ذلك يورث العداوة، ويزرع الأحقاد، ويجعل الحكم إلى السلاح، وما على المؤمنين إلا أن يقولوا لمن خالفهم من أهل الكتاب والمشركين: الحكم إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدّين هو الإسلام لا غيره، والشرائع إنما تتلقّى من بيان الله، ومرجع الحكم وإزالة الخلاف: القرآن والسّنة.
وقد أمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لقومه: ذلكم الله الذي يحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي، عليه اعتمدت، وإليه أرجع، لا إلى غيره من المعبودات الأخرى.
٨- احتجّ نفاة القياس بالآية: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي إلى النص من قرآن أو سنّة. والجواب: المراد من الآية: الرّدّ إلى بيان الله، سواء كان البيان بالنّص أو بالقياس، والقياس في معنى المنصوص عليه.
36
٩- استدلّ الله تعالى على قدرته الفائقة بأنه خالق السموات والأرض من العدم، وخالق الزوجين الذكر والأنثى من الناس والأنعام، وأنه ليس مثله شيء في ذاته وصفاته من عظمته وكبريائه وقدرته وملكوته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبّه به، وهو الذي يملك مفاتيح السموات والأرض ويملك الخزائن، وهو الرّازق الذي يرزق من يشاء بغير حساب، وهو بكلّ شيء عليم.
وفي الجملة: هو الموصوف بكل كمال، المنزّه عن كل نقصان، الخالق لكل المخلوقات، المتصرّف في هذا الكون كله.
والمقصود من إيراد هذه الصفات بيان أن الأصنام لا تتصف بشيء منها، فلا تكون أهلا للعبادة.
وحدة الأديان في أصولها
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٤]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
الإعراب:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ منصوب على البدل من مفعول شَرَعَ أو مرفوع على الاستئناف، كأنه جواب سؤال تقديره: وما ذلك المشروع؟ أو مجرور على البدل من هاء بِهِ.
المفردات اللغوية:
شَرَعَ لَكُمْ أوضح وبيّن وسنّ الشريعة. ما وَصَّى بِهِ نُوحاً أي ما أمر به نوحا.
ونوح: أول أنبياء الشريعة، واستعمل وَصَّى بمعنى (أمر) للاعتناء بشأن المأمور به وتأكيده،
37
أي شرع لكم من الدّين دين نوح ومحمد ومن بينهما عليهم السّلام من أرباب الشرع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم، المفسّر بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي حافظوا عليه، والدّين: هو التوحيد والإيمان بما يجب تصديقه، والطاعة في أحكام الله أي توحيد الله وطاعته، وهو الإسلام بالمعنى العام. وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ولا تختلفوا في هذا الأصل، أما فروع الشرع فيمكن أن تختلف، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨].
كَبُرَ عظم وشقّ عليهم. ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد. يَجْتَبِي إِلَيْهِ يصطفي ويختار، وضمير إليه عائد على ما تدعوهم إليه، أو على الدّين. وَيَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد والتوفيق. مَنْ يُنِيبُ يقبل ويرجع إلى طاعته.
وَما تَفَرَّقُوا أي أهل الأديان في الدّين، بأن وحّد بعض، وكفر بعض. الْعِلْمُ اليقين بالتوحيد أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها. بَغْياً أي ظلما وتجاوزا للحدّ من الكافرين. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإمهال وتأخير الجزاء. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بتعذيب الكافرين المبطلين في الدنيا، حين افترقوا. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين كانوا في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ لفي حيرة من أمرهم وكتابهم الذي لم يؤمنوا بحقيقته. مُرِيبٍ مقلق موقع في الرّيبة، شديد الرّيب والشكّ.
المناسبة:
بعد أن عظّم الله تعالى وحيه إلى نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ... وبعد أن عدّد تعالى نعمه على الناس، فصّل أمر الوحي، وذكر نعمته العامة وهو ما شرع لهم من العقيدة المتفق عليها من توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر والجزاء فيه، وذكر أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأوثان، وأنهم ما اختلفوا إلا بعد قيام الحجة عليهم، وهم متأثرون ببواعث البغي والعدوان والحسد، وأنه لولا القضاء الإلهي السابق بإمهالهم وتأخير عذابهم، لعجلت لهم العقوبة في الدنيا.
38
التفسير والبيان:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي بيّن وأوضح لكم من الدّين أيها المسلمون ما أمر به وشرع لنوح أول الرّسل بعد آدم عليهما السلام من التوحيد وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرّسل وتوافقت عليها الكتب، وما أوحى به إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين من القرآن وشرائع الإسلام ونبذ الشرك، وما أمر به إبراهيم وموسى وعيسى مما تطابقت عليه الشرائع، أن حافظوا على الدّين (وهو توحيد الله والإيمان به، وطاعة رسله وقبول شرائعه) ولا تختلفوا في هذه الأصول التشريعية، فإن هذه الأصول لا ينبغي ولا يصح الخلاف في مثلها.
والخلاصة: شرعنا لكم في هذه الشريعة ما اتفقت عليه الشرائع والأديان كلها في أصول العقيدة من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر والملائكة، وأصول العبادة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الله، قال مجاهد: «لم يبعث الله نبيّا قط إلّا وصّاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم». وكذا أصول الأخلاق وأسس الفضائل كالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الزنى والسرقة والاعتداء على الأموال والنفوس. ووصّى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة.
ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
وأساس الدين الذي جاءت به الرّسل كلّهم: هو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عزّ وجلّ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء ٢١/ ٢٥].
وجاء في الحديث الثابت الذي أخرجه
39
أحمد والشيخان وأبو داود عن أبي هريرة: «الأنبياء أولاد علات «١»، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»
أي أن القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له. أما اختلاف الأديان في الشعائر الفرعية وأنواع العبادات وتفاصيلها ومناهجها المختلفة من شريعة إلى أخرى، فهذا لا شيء فيه، وإنما اقتضاه التّطور ومراعاة الحاجات والمصالح، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨].
وهذه الآية انتظمت ذكر الرّسل الخمسة أولي العزم: وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصّلاة والسّلام. وإنّما خصّهم بالذّكر، لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي عظم وشقّ على المشركين دعوتهم إلى توحيد الإله ورفض الأصنام والأوثان، وأنكروا واشتدّ عليهم: أن لا إله إلا الله وحده، وأبى الله إلا أن ينصرها.
اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي إن الله يختار لتوحيده والدّخول في دينه من يشاء من عباده، ويوفّق لدينه وعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته. وهذا يبيّن فضل الله على عبادة المؤمنين أنه هداهم لدينه، بعد أنّ أمرهم بالتّمسك بالدّين القديم الذي أجمع عليه الرّسل.
وسبب التّفرق في الدّين بالرغم من وحدته، هو ما قال تعالى:
وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ أي ما تفرّق أتباع الأديان في اتّباع الحقّ إلّا بعد قيام الحجة عليهم، وبعد ما علموا أن الفرقة ضلالة، وما حملهم على ذلك إلا العناد والمشاقة والبغي بينهم بطلب الرّياسة، وشدّة الحمية، والحفاظ على مراكز النّفوذ والمكاسب المادية.
(١) بنو العلّات: هم الإخوة والأخوات لأب.
40
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي ولولا القضاء السابق من ربّك بتأخير العقوبة والحساب إلى يوم المعاد، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا، بسبب ما اقترفوا من آثام عظام.
وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ أي وإن لجيل المتأخّر من أهل الكتاب الذين توارثوا التوراة والإنجيل عمن سبقهم لفي شكّ من كتابهم ودينهم وإيمانهم، وهو شكّ مقلق موقع في الرّيب بشدة، لأنّهم لم يتّبعوا الحق، وإنّما قلّدوا رؤساء الدّين المتأخرين الذين صوّروا لهم الدّين بصورة مغايرة لحقيقته الأولى، واتّبعوا الآباء والأسلاف بلا دليل ولا برهان، وهم في حيرة من أمرهم، ولذلك لم يؤمنوا برسالة خاتم الأنبياء، وأصبحوا مكذّبين القرآن ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم الذي صدّق كتابهم في أصله الأوّل.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن الرّسالات السماوية متحدة في أصولها، وإن اختلفت في فروعها.
٢- شرع الله لأمة الإسلام ما شرع لقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السّلام، من توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وباليوم الآخر، وغيرها من أصول العقيدة والعبادة والأخلاق.
أما أحكام الشرائع التي هي متبدلة متغيرة بحسب أحوال الأمم ومصالح الأقوام، فهي مختلفة متفاوتة، وهذا أمر حسن يتناسب مع الأحوال والبيئات والظروف، فالمشرع كامل العلم والحكمة، والإسلام دين قديم أجمع عليه الرّسل، والشرائع قسمان: منها ما لا نسخ فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كحسن الصدق والعدل والإحسان، وقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان. والشرع حريص على القسم الأول باعتباره الجوهر أكثر من حرصه على القسم الثاني.
41
٣- إن الأديان قائمة على توحيد الله، فلا تلتقي مع الشرك والمشركين، وإنما ترفض الشرك والوثنية، وتقبّح عقائد المشركين، لذا كان يشقّ على المشركين سماع كلمة التوحيد- شهادة أن لا إله إلا الله.
٤- يستخلص الله لدينه من رجع إليه، ويهدي إليه من وجد فيه الخير.
٥- لم تتفرّق الأمم في أديانها إلا بعد علمهم بالحقّ والحقيقة، وآثروا الفرقة والاختلاف على الوحدة والجماعة للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا، فما على المسلمين إلا أن يحذروا الفرقة والتّشتت ويحرصوا على الجماعة والوحدة، وينبذوا الخلافات والعصبيات المذهبية الضّارة.
٦- اقتضت الحكمة الإلهية تأخير العذاب إلى يوم القيامة، وتأخير الفصل بين المختلفين إلى يوم المعاد والحساب.
٧- إن الذين توارثوا التوراة والإنجيل لفي شكّ من كتبهم ومما أوصى به الأنبياء.
الأمر بالدعوة والاستقامة على المتفق عليه ودحض حجة المجادلين فيه
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٥ الى ١٩]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩)
42
الإعراب:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ.. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ الَّذِينَ: مبتدأ، وحُجَّتُهُمْ:
مبتدأ ثان، وداحِضَةٌ: خبره، والجملة منهما خبر المبتدأ الأول.
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ.
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ذكّر قَرِيبٌ من أربعة وجوه: ذكّره على النّسب، أي ذات قرب، مثل إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف ٧/ ٥٦] أي ذات قرب، أو لأن التقدير: لعل وقت الساعة قريب، أو حملا على المعنى، لأن الساعة بمعنى البعث، أو للفرق بينه وبين قرابة النسب. وقال الكسائي: قَرِيبٌ نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد.
ولَعَلَّ علق فعل يُدْرِيكَ عن العمل، وسدّ ما بعده مسدّ المفعولين.
البلاغة:
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ اللام في موضع إلى، أي فلذلك الائتلاف والاتّفاق على الملّة الحنيفية ادع الناس يا محمد، واستقم عليه وداوم واثبت. وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تركه.
آمَنْتُ صدقت. لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الحكم والقضاء دون حيف ولا ميل لجانب: اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فيجازي كلّا بعمله. لا حُجَّةَ لا احتجاج ولا خصومة، إذ الحق قد ظهر. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة لفصل القضاء. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع.
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يخاصمون في دينه. اسْتُجِيبَ لَهُ استجاب الناس لدينه، ودخلوا فيه لظهور حجته ومعجزاته. داحِضَةٌ زائفة باطلة. وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ بمعاندتهم. وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ القرآن أو جنس الكتاب. وَالْمِيزانَ العدل والمساواة بين الناس. وَما يُدْرِيكَ يعلمك. لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ لعل إتيانها قريب. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها يتساءلون استهزاء: متى تأتي؟ وظنّا منهم أنها غير آتية. مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها مع العناية والاهتمام، والفعل (أشفق) إذا عدّي بمن كما هنا فالخوف أظهر، وإذا عدّي
43
بعلى، مثل: أشفقت على اليتيم، فالعناية أظهر. الْحَقُّ الأمر المحقق الكائن حتما. يُمارُونَ يجادلون. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق، فإن البعث أشبه الغيبيات إلى المحسوس، فمن لم يهتد إليه لتوافر الدواعي على الاعتقاد به، فهو أبعد عن الاهتداء إلى غيره.
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يتلطّف بهم جميعا، سواء البرّ منهم والفاجر، حيث رزقهم ولم يهلكهم بمعاصيهم. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من يريد، كما يشاء ويريد. الْقَوِيُّ الباهر القدرة.
الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين.
قد دخل الناس في دين الله أفواجا، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ الآية.
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في هذه الآية قال: هم اليهود والنصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبيّنا قبل نبيّكم، ونحن خير منكم.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى وحدة الدّين في أصوله الأولى، أمر نبيّه بالدعوة إلى الاتفاق على الملّة الحنيفيّة، والاستقامة عليها والثبات على أحكامها، وأنهى المحاجّة والمخصومة بين المؤمنين والمشركين لوضوح الحجّة، ثم ذكر أن الذين يخاصمون في الدّين بعد الاستجابة إليه، حجّتهم زائفة باطلة، وأردفه استعجال المشركين استهزاء وإنكارا بيوم القيامة، وإيمان المؤمنين به حتما واستعدادهم له، وأن المماراة والشكّ فيه ضلال واضح، لكثرة الأدلّة على وقوعه.
44
التفسير والبيان:
اشتملت الآية الأولى: فَلِذلِكَ فَادْعُ.. على عشرة أوامر ونواه، كلّ منها مستقل بذاته، ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنّها أيضا عشرة موضوعات. والأمر بهذه الأوامر والنهي عن هذه النواهي، وإن وجه إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فهي له ولأمته.
١- ٢: فَلِذلِكَ فَادْعُ، وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي ادع أيها الرسول إلى ذلك الأمر المتفق عليه، واثبت وداوم واستمر على عبادة الله وتبليغ الرسالة، كما أمرت من ربّك، فيكون قوله: فَلِذلِكَ أي إلى ذلك، وتكون اللام بمعنى إلى، كقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة ٩٩/ ٥].
ويصحّ أن يكون المراد باللام التعليل، أي فلأجل ذلك التّفرق والشّك المذكورين، ولأجل تلك الاختلافات المتشعبة في الدين، ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفية القديمة، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله، فتكون اللام على بابها للتعليل، والمعنى: فمن أجل ذلك المتقدّم ذكره فادع واستقم.
أو فلأجل ما شرعه الله من الدّين الواحد، فادع إلى الله وإلى توحيده، واستقم على ما دعوت إليه، واستمر على تبليغ الرسالة كما أمرت بذلك.
٣- وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء المشركين فيما اختلقوه وافتروه من عبادة الأوثان، ولا تتبع أيضا أهواء الذين أورثوا الكتاب فيما وقعوا فيه من شكوك وحيرة وتحريف وتبديل.
٤- وَقُلْ: آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي وقل أيها الرسول:
صدّقت بجميع الكتب المنزلة من السماء التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، من
45
التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى، لا نفرّق بين أحد منهم، فلست من الذين آمنوا ببعض الكتب، وكفروا ببعض، وهذا تعريض بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين حصل منهم ذلك.
٥- وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي وأمرني الله بأن أعدل بينكم في الحكم والقضاء إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة أو نقص.
٦- اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي الله هو المعبود بحقّ، لا إله غيره، فنحن نقرّ بذلك اختيارا، فهو إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم.
٧- لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي إن ثواب أعمالنا وعقابها خاص بنا، ولكم ثواب أعمالكم وعقابها، فهو خاص بكم، ونحن برآء منكم ومن أعمالكم، كما قال تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥]، وقال سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ٤١].
٨- لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا خصومة بيننا وبينكم ولا احتجاج، لأن الحقّ قد ظهر ووضح كالشمس.
٩- ١٠: اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي الله يجمع بيننا في المحشر يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحق في خلافتنا، كما قال تعالى: قُلْ: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ ٣٤/ ٢٦]. وإليه وحده سبحانه المرجع والمآب يوم الحساب والقيامة، فيجازي كل نفس بما كسبت. قيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله، ويزوجه شيبة بابنته.
46
ثم بيّن الله تعالى بطلان حجة المجادلين في دين الله، فقال:
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، ودخلوا فيه، حجّتهم باطلة عند ربّهم، أي لا ثبات لها، كالشيء الذي يزلّ عن موضعه، وعليهم غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل، ولهم عذاب شديد يوم القيامة. وسميت دعاويهم الزائفة وأباطيلهم حجّة ودليلا، مجاراة لهم على زعمهم.
قال مجاهد: وهؤلاء قوم توهّموا أن الجاهلية تعود، فجادلوا الذين استجابوا للإسلام، لعلهم يردّونهم إلى الجاهلية.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، ومحاجّتهم قولهم: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم. والظاهر هذا الرأي، روي أن اليهود قالوا للمؤمنين: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقيّة التوراة معلومة بالاتّفاق، ونبوّة محمد ليست متّفقا عليها، فوجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فدحض تعالى هذه الحجة، لأن الإيمان بموسى عليه السلام إنما وجب لظهور المعجزات على يديه، للدلالة على صدقه، وقد ظهرت المعجزات على يدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فوجب الإقرار بنبوّته.
ثم ردّ تعالى عليهم بقوله:
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي لقد أنزل الله جميع الكتب المنزلة على الرّسل إنزالا مشتملا على الحقّ مقترنا به، وعلى أنواع الدلائل والبيّنات، وأنزل الميزان في كتبه المنزلة، أي العدل والتسوية والإنصاف، ليحكم به بين البشر، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان آلة الإنصاف والتّسوية بين الناس
47
في بيعهم وشرائهم، كقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد ٥٧/ ٢٥].
وبعد تقرير هذه الدلائل خوّف الله تعالى المنكرين بعذاب القيامة، فقال:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي وما يعلمك أيها الرسول والمخاطب أن مجيء الساعة عسى أن يكون قريبا حصوله. وفي هذا ترغيب باتباع شرع الله، وترهيب من القيامة، وطلب الاستعداد لها.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها أي يتعجّل بقدوم الساعة الذين لا يصدّقون بها، قائلين استهزاء وإنكارا وتكذيبا وعنادا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي والمؤمنون خائفون وجلون من وقوعها، ويعلمون أنها كائنة لا محالة، فهم عاملون من أجلها، مستعدون لها، كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٠].
ثبت في حديث متواتر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصورت جهوري، وهو في بعض أسفاره، فناداه، فقال: يا محمد، فقال له نحوا من صوته: «هاؤم»، فقال له: متى الساعة؟ فقال له: «ويحك إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حبّ الله ورسوله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت مع من أحببت» أو «المرء مع من أحب».
أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي ألا أيها السامع، إن الذين يجادلون في وجود القيامة، ويخاصمون فيها مخاصمة شكّ وريبة، لفي جهل بيّن. وانحراف شديد عن الحقّ، ولو تفكّروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء
48
قادر على الإعادة، ومن خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي إن الله تعالى كثير اللطف بعباده، بالغ الرأفة بهم، فيوصل إليهم أعظم المنافع ومنها إنزال الكتاب المقترن بالحقّ، ويدفع عنهم أعظم المضار والبلايا ومنها تأخير العذاب عن الخلق، كما في الآيات المتقدمة، ومن ألطافه ومنافعه أنه يرزق جميع عباده، البرّ منهم والفاجر، يرزق من يشاء منهم كيف يشاء، فيوسع على هذا، ويضيق على هذا، وهو العظيم القوة، الباهر القدرة، الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء، فلا يعجزه شيء.
ونحو الآية في الإمداد بالأرزاق قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦]، ونظائر أخرى كثيرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده كل مؤمن مأمور بالدعوة إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصّاهم به، وإلى القرآن المتضمن تلك الشرائع، وهو مأمور أيضا بالاستقامة والثبات على تبليغ الرسالة والعمل بها، ومنهي عن اتّباع الأهواء والحظوظ النفسية وعدم الاهتمام بخلاف من خالف.
وهو مأمور كذلك بالعدل في الأحكام كما أمر الله، وبإعلان أن الله ربّ الناس جميعا، لا ربّ المسلمين وحدهم، ولا ربّ فئات أخرى وحدها، وأن كل
49
واحد مخصوص بعمل نفسه، وأن كل إنسان مسئول عن عمله، فلنا ديننا ولكم دينكم، ولا خصومة بيننا وبينكم، لأن البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجّة ولا جدال.
والله سيجمع جميع الخلائق إليه يوم القيامة، وإليه المرجع، فهو يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ويجازي كلّا بما كان عليه.
٢- إن المشركين واليهود والنصارى الذين يجادلون في دين الله، بعد انتشاره في الآفاق أو المشارق والمغارب، حجتهم باطلة زائفة لاثبات لها، وعليهم غضب من الله في الدنيا، ولهم عذاب شديد دائم في الآخرة.
٣- إن الله تعالى هو منزّل القرآن وسائر الكتب المنزلة مقترنة بالحق والصدق، ومنزل في كتبه العدل، وسمي العدل ميزانا، لأن الميزان- كما تقدم- آلة الإنصاف والعدل.
٤- وردت في القرآن آيات كثيرة للترغيب والترهيب تدلّ على قرب يوم القيامة وتحقق وقوعها حتما لا محالة.
٥- إن شاء الكفار دائما ومعهم الملاحدة والماديون والطبيعيون ينكرون وقوع القيامة استهزاء وكفرا وعنادا وتكذيبا بها، ظنّا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضّعفة أنها لا تكون.
وعقيدة المؤمن: الإيمان الجازم بمجيء القيامة، فهي الحقّ الذي لا شكّ فيه، وهم دائما يعملون لها ويستعدون من أجلها، خوفا من أهوالها، وحساب الله الشديد فيها.
وإن الذين يشكون ويخاصمون في قيام الساعة لفي ضلال بعيد عن الحق
50
والفكر الصحيح، إذ لو تفكّروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب، ثم من نطفة، إلى أن صاروا رجالا، قادر على أن يبعثهم.
٦- إن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، ينعم عليهم جميعا، ويرزق المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر كيف يشاء، ويحرم من يشاء، وهو البالغ القوة، القاهر الذي لا يغلب.
حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين وقبول التوبة
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
51
الإعراب:
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّ بالكسر: على الابتداء، ويقرأ بالفتح بالعطف على كلمة الْفَصْلِ وتقديره: ولولا كلمة الفصل وأن الظالمين.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ حال من الظالمين، لأن تَرَى من رؤية العين، لا من رؤية القلب.
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ بحذف الباء والهاء، أي: ذلك الذي يبشر الله به عباده، ثم حذف الباء والهاء تخفيفا. وذلِكَ بمبتدإ، وخبره اسم موصول، والعائد عليه محذوف، أي يبشر الله به عباده كما ذكره.
قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ... الْمَوَدَّةَ: منصوب على الاستثناء من غير الجنس.
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ... يَمْحُ: ليس معطوفا على يَخْتِمْ المجزوم، وإنما هو مستأنف مرفوع، وإنما حذفت الواو منه، كما حذفت في سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق ٩٦/ ١٨] ووَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء ١٧/ ١١] وإن كان في موضع رفع، لأن محو الله الباطل واجب، وليس معلقا بشرط.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ: منصوب على أنه مفعول به، أي ويجيب الله الذين آمنوا، أو على تقدير حذف حرف الجر، أي ويستجيب للذين آمنوا، فحذفت اللام، فاتصل الفعل به. وقال أبو حيان: والظاهر أن الَّذِينَ فاعل يستجيب الذي هو بمعنى يجيب.
البلاغة:
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ استعارة تمثيلية، شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة. وبين الآخرة والدنيا طباق.
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ بينهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. حَرْثَ الْآخِرَةِ أي ثوابها، والأصل في الحرث: إلقاء البذر في الأرض، وقد يطلق على الثمر، شبه ثمرة العمل ونتيجته بثمرة المزروع، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ نضاعف له الحسنة إلى عشر أمثالها وأكثر. حَرْثَ
52
الدُّنْيا
لذاتها وطيباتها. نُؤْتِهِ مِنْها بلا مضاعفة ما قسم له، أي نعطه شيئا منها على ما قسمنا له. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ من حظ.
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي بل لكفار مكة وأمثالهم شركاء في الكفر، وهم الشياطين، وأم: أي بل ألهم شركاء؟ والهمزة للتقرير والتقريع، فهو استفهام تقرير وتوبيخ. شَرَعُوا لَهُمْ شرع الشركاء بالتزيين للكفار. مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي من النظام الفاسد كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فقط. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء ليوم القيامة.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين والمؤمنين بتعذيب الأوائل في الدنيا. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين.
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.
تَرَى الظَّالِمِينَ في يوم القيامة. مُشْفِقِينَ خائفين. مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من السيئات أن يجازوا عليها. وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي والجزاء واقع بهم يوم القيامة، لا محالة. فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها وأنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي إن ما يشتهونه ثابت عند ربهم. ذلِكَ جزاء المؤمنين. هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ هو الفضل الإلهي العظيم الذي يصغر أمامه أي فضل في الدنيا.
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ.. ذلك الثواب الذي يبشرهم الله به، فحذف الجارّ، ثم العائد، والبشارة: الإخبار بحصول ما يسرّ في المستقبل. لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً لا أطلب على التبليغ أو البشارة نفعا منكم وخصصه العرف بالنفع المالي. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى استثناء منقطع، أي لكن أسألكم أن تودّوا قرابتي منكم، فإن له في كل بطن من قريش قرابة، أو لكن أسألكم المودّة حال كونها في القربى، أي إلا المودة ثابتة في ذوي القربى أو في حق القرابة،
روي بسند ضعيف أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. فالقربى هنا: قرابة الرحم، كأنه قال: اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يكتسب طاعة، سيما حب آل الرسول. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً نضاعف له الثواب في الحسنة. غَفُورٌ للذنوب. شَكُورٌ كثير الشكر للقليل ولمن أطاع بإيفاء الثواب والتفضل عليه بالزيادة.
أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون. افْتَرى ادعى محمد النبوة أو القرآن. يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يطبع عليه بالخاتم حتى تجترئ على الافتراء، والمراد استبعاد الافتراء على مثله، فإنما الذي يجترئ عليه ما كان مختوما على قلبه جاهلا بربه، أو المراد: يربط عليه بالصبر، فلا يشق عليك أذاهم بهذا القول وغيره. وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ يزيله، وهو استئناف لنفي الافتراء عما يقوله النبي. وَيُحِقُّ الْحَقَّ يثبته. بِكَلِماتِهِ هي حججه وبراهينه. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب.
53
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ يثيب عليها وهو تعريض لهم بالتوبة. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغيرها وكبيرها لمن يشاء. وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ فيجازي عن يقين وحكمة.
سبب النزول: نزول الآية (٢٣) :
قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ.. قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمدا فيما يتعاطاه يطلب أجرا، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودّة أقربائه.
قال الثعلبي: وهذا أشبه بالآية، لأن السورة مكية.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى كونه لطيفا بعباده، كثير الإحسان إليهم، رغّب في فعل الخير، والاحتراز عن القبائح بالعمل للآخرة، وأوضح قانون العمل للآخرة والدنيا، ثم أردفه ببيان سبب الضلالة عند المشركين، واستحقاقهم العذاب العاجل على الشرك بالله وإنكار البعث، لولا تأخيره في الحكم الأزلي السابق إلى الآخرة، وإخبارهم بوقوع عذاب الآخرة، وحصول الثواب في رياض الجنة للمؤمنين.
ثم عظّم تعالى حال الثواب، وأمر رسوله بأن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم على تبليغ الرسالة نفعا عاجلا، وإنما يطلب منهم صلة الرحم والقرابة التي هي شأن قريش، وهذا دليل النبوة. ثم رد عليهم قولهم بأن القرآن مفترى: بأنه لا يفتري الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه، فلو كان محمد مفتريا لكشف الله باطله. ثم رغبهم في التوبة، ووعد تعالى بإجابة دعاء المؤمنين الصالحين، وأوعد الكافرين بشديد العقاب.
54
التفسير والبيان:
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نقويه ونغنيه، ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى ما شاء الله.
وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ أي ومن كان سعيه للحصول على شيء من شؤون الدنيا، وطلب لذائذها وطيباتها، وإهمال شؤون الآخرة، نعطه ما قضت به مشيئتنا، وقسمناه له في قضائنا، ولكن ليس له في الآخرة حظ، لأنه لم يعمل للآخرة، فلا نصيب له فيها.
وهذه الآية بإطلاقها مقيدة بآية الإسراء: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، وَسَعى لَها سَعْيَها، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء ١٧/ ١٨- ١٩].
أخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه وغيرهما عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر هذه الأمة بالسّناء والرفعة، والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب».
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) الآية، ثم قال: يقول الله:
ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك»
.
ولما ذكر تعالى ما شرع للناس، وهو ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية، أخذ ينكر ما شرع غيره وهو سبب ضلال المشركين، فقال:
55
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي بل إن المشركين لهم أعوان من الشياطين شرعوا ما لم يشرعه الله، فلم يتبعوا ما شرع الله لك يا محمد من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، كتحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ونحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة التي اخترعوها في الجاهلية، من التحليل والتحريم والعبادات والأموال. فالشركاء: هم شياطين الجن والإنس، وضمير شَرَعُوا عائد على الشركاء، وضمير لَهُمْ عائد على الكفار المعاصرين للرسول.
ثبت في الصحيح لدى البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة يجرّ قصبه- أي أمعاءه- في النار»
لأنه أول من سيب السوائب، وسنّ للعرب عبادة الأصنام، وكان أحد ملوك خزاعة، لذا قال تعالى:
وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ولولا الحكم والقضاء السابق من الله تعالى بتأخير العذاب في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لقضي بين المؤمنين والمشركين، وعجلت العقوبة في الدنيا لأئمة الشرك، وإن للظالمين العذاب المؤلم الشديد الموجع في جهنم، وبئس المصير.
وتأخير العذاب بموجب قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر ٥٤/ ٤٦].
ثم ذكر تعالى أحوال الجزاء الأخروي لكل من الظالمين والمؤمنين، فقال:
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا، وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي ترى رأي العين أو تبصر الكفار (لمقابلته بالمؤمنين) خائفين وجلين يوم القيامة مما عملوا من
56
السيئات في الدنيا، وجزاء ما كسبوا واقع بهم نازل عليهم لا محالة، سواء خافوا أو لم يخافوا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وأطاعوا ربهم فيما أمر به ونهى عنه، هم في رياضى الجنة وأطيبها وأنزهها، ولهم ما يشتهون عند ربهم من أصناف النعم وأنواع الملذات، ذلك الجزاء الممنوح لهم الذي لا يوصف ولا تعرف حقيقته هو الفضل الذي يفوق كل فضل في الدنيا، وهو النعمة التامة الشاملة. وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ العندية عندية المكانة والتشريف، لا عندية المكان.
ثم أخبر تعالى عن حتمية وقوع هذا الجزاء، فقال:
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إن هذا الجزاء في روضات الجنات والنعيم الشامل حاصل لهم، كائن لا محالة ببشارة الله تعالى لهم به، وتلك البشارة لهؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه. فقوله ذلِكَ إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة.
ثم أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يظهر ترفعه وسموه عن أعراض الدنيا ومنافعها، فقال:
قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي قل أيها الرسول لقومك: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا مكافأة ولا نفعا ماديا، ولكن أطلب تقدير صلة الرحم والقرابة التي بيني وبينكم، وإكرام آل بيتي وقرابتي، فتكفّوا شركم عني، وتذروني أبلّغ رسالات ربي. فقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ استثناء منقطع، لأن المودة ليست أجرا.
57
أخرج أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم»
والحق العمل في هذا
برواية البخاري «إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة».
وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى، وأن تقرّبوا إليه بطاعته».
وهذا قول للحسن البصري، وهو تفسير ثان للمودة في القربى، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. والظاهر لدى جماعة هو التفسير الأول، وأن مودة قرابته داخلة في الآية، والتقدير: إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها، قال أبو حيان: وهو حسن، وفيه تكثير.
قال عكرمة: وكانت قريش تصل أرحامها، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم قطعته،
فقال: «صلوني كما كنتم تفعلون».
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته بغدير خم: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض»
وفسرت العترة
في رواية الترمذي عن جابر فقال صلّى الله عليه وسلّم: «عترتي أهل بيتي».
ثم رغّبهم الله تعالى في الإحسان والإيمان، فقال:
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أي ومن يعمل حسنة، نزد له فيها حسنا، أي أجرا وثوابا، إن الله يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، ويضاعف ويشكر المحسن. ونحو الآية قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء ٤/ ٤٠].
ثم وبخهم على افترائهم على الرسول، فقال:
58
أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بل أيقولون: افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة ونزول القرآن عليه، وهذا أقبح من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، أي أنه تعالى أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال، ثم استفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة، فمثله لا ينسب إليه الكذب على الله، مع اعترافكم له قبل ذلك بالصدق والأمانة.
ثم أكد ذلك فرد الله عليهم مستبعدا الافتراء من مثل محمد الرسول، فقال:
فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لو افتريت على الله كذبا، لطبع على قلبك إن شاء، وسلبك ما آتاك من القرآن، فلا يجرأ على مثل هذا إلا من كان مثلهم قد ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا يجرأ على ذلك، وهذا هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لم يفتر على الله كذبا، فأيده الله.
وهذا كقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٧].
وقال أبو السعود: والآية استشهاد على بطلان ما قالوا ببيان أنه صلّى الله عليه وسلّم لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعا، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرف من حروفه «١».
ثم أكد الله تعالى ذلك بإبطال الباطل وإحقاق الحق، فالله سبحانه وتعالى لا يدع الباطل يستمر، فلو كان ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم باطلا لمحاه، كما جرت به عادته في المفترين، وإنما يثبّت الحق، أي الإسلام، فيبينه بما أنزل من القرآن،
(١) تفسير أبي السعود: ٥/ ٣٤. [.....]
59
وبما أيّد به نبيه من المعجزات والحجج والبراهين، إنه تعالى واسع العلم بما في قلوب العباد.
ثم فتح تعالى أمامهم باب الأمل والتوبة، فقال:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي إن الله عز وجل يقبل في المستقبل من عباده المذنبين توبتهم عما عملوا من المعاصي، ويعفو عن السيئات في الماضي، ويعلم الذي تفعلونه من خير أو شر، فيجازي كلا بما يستحق من الثواب والعقاب.
ونحو الآية: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١١٠]
وثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك- أخطأ من شدة الفرح».
وأكد قبول التوبة بقبول الدعاء، فقال تعالى:
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي ويستجيب الله للذين آمنوا، وأطاعوا ربهم، ويعطيهم ما طلبوه منه، ويزيدهم على ما طلبوه منه، أو على ما يستحقونه من الثواب، تفضلا منه ونعمة.
أو يجيب الله الذين آمنوا إذا دعوه، أو يجيب الذين آمنوا لربهم، مثل اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال ٨/ ٢٤] فيكون المراد بقوله:
60
ويستجيب أي يجيب، قال الزجاج: استجاب وأجاب بمعنى واحد «١».
وبعد أن وعد المؤمنين بالثواب أو عد الكافرين بالعذاب، فقال:
وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي وللكافرين الذين لم يؤمنوا بالله رسوله يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات الكريمات ما يأتي:
١- إن مبدأ الإسلام هو العمل للدنيا والآخرة معا، كما قال تعالى: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا [القصص ٢٨/ ٧٧]. وقال عبد الله بن عمر: «واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». والحرث: العمل والكسب.
٢- فضّل الله تعالى من أراد الآخرة على من أراد الدنيا في الآية من وجوه ستة هي:
الأول- أنه قدم تعالى مريد حرث الآخرة في الذّكر على مريد حرث الدنيا.
الثاني- أنه قال في مريد حرث الآخرة: نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وقال في مريد حرث الدنيا: نُؤْتِهِ مِنْها وكلمة «من» للتبعيض، أي نعطيه بعض ما يطلبه، ولا نؤتيه كله.
(١) تبين بهذا أن قوله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ.. الَّذِينَ إما فاعل مرفوع تقديره:
ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه، وإمّا مفعول محله النصب، والفاعل مضمر وهو الله، وتقديره: ويستجيب الله للمؤمنين، إلا أنه حذف اللام، كما حذف في قوله: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين ٨٣/ ٣] والثاني أولى كما ذكر الرازي.
61
الثالث- أنه تعالى سكت عن طالب حرث الآخرة، ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا، أما طالب حرث الدنيا، فإنه تعالى بيّن أنه لا يعطيه شيئا من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يعني أن الآخرة أصل والدنيا تبع، وواجد الأصل يكون واجدا للتبع بقدر الحاجة.
الرابع- أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه، وأما طالب الدنيا فيعطى بعض مطلوبه من الدنيا، ويحرم من نصيب الآخرة.
الخامس- إن الآخرة نسيئة، والدنيا نقد، والنسيئة مرجوحة بالنسبة إلى النقد، لأن الناس يقولون: النقد خير من النسيئة، فبين تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا، فالأولى متجهة للزيادة والنمو، والثانية آيلة إلى النقصان.
السادس- الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا تحتاج إلى حرث وعمل وتعب، وصرف المتاعب إلى ما يؤدي إلى التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يؤدي إلى النقصان والانقضاء والفناء «١».
٣- استنبط ابن العربي من هذه الآية: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ أن الوضوء تبردا الذي هو من حرث الدنيا، لا يجزئ عن فريضة الوضوء الذي هو من حرث الآخرة، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى «٢».
٤- إن شرع الله الدائم هو ما أنزله على أولي العزم من الرسل، والله لم يشرع الشرك، فمن أين يدين المشركون به؟
٥- من رحمة الله بالمشركين تأخير العذاب عنهم إلى القيامة، ليعطوا فرصة
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٦٢.
(٢) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٥٥.
62
كاملة في أيام العمر كله للإقلاع عن الشرك والكفر، والدخول في ساحة الإيمان والرضا الإلهي. فإن ماتوا مشركين فلهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع.
٦- يبصر الناس الكافرين الظالمين خائفين في يوم القيامة من جراء ما كسبوا، والجزاء حتما نازل بهم. والمراد بالظالمين هاهنا الكافرون، بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر.
أما المؤمنون الطائعون لربهم فهم في روضات الجنان، ولهم ما يشتهون من النعيم والثواب الجزيل، وذلك هو الفضل الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى حقيقته، لأن الله إذا وصف الفضل بأنه الْكَبِيرُ فمن ذا الذي يقدر قدره. قال الرازي: وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة، إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات، وهي البقاع الشريعة من الجنة.
٧- يبشر الله عباده المؤمنين بالثواب العظيم حثا لهم على الطاعة، وليتعجلوا السرور، ويزدادوا منه. ولكن هذا الجزاء والبشارة، إنّما هو على الإيمان والأعمال الصالحات.
٨- عظّم الله تعالى ثواب المؤمنين من وجوه أربعة هي:
الأول- أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصالحات روضات الجنات، وترتيب هذا الجزاء من الله صاحب السلطان الأعظم دليل على أن ذلك الجزاء قد بلغ النهاية التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى.
الثاني- أنه تعالى قال: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهذا يدخل في باب غير المتناهي.
الثالث- أنه تعالى قال: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وإذا كان هذا من الله الأكبر كان في غاية الكبر.
63
الرابع- أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم، فقال: الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ وذلك يدل على غاية العظمة.
٩- إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يطلب من قومه أي منفعة مادية على تبليغ الرسالة، وهذا دليل على صدقه وإخلاصه، والحد الأدنى الذي طالب به هو مراعاة قرابته من قريش. قال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوسط الناس في قريش، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، فقال الله له: قُلْ: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي لكن أذكركم قرابتي منكم.
وقد صرح أكثر الأنبياء، بنفي طلب الأجر على تبليغ الرسالة، فقال نوح عليه السلام: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٠٩] وكذا قال هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام «١».
١٠- إن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يشمل قرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وآل بيته الأقارب، وهم كما جاء في بعض الأحاديث: علي وفاطمة والحسن والحسين، فمراعاة قرابته وحبهم واحترامهم واجب بالنص القرآني المذكور، لذا شرع الدعاء لهم في خاتمة التشهد في الصلاة، وهو منصب عظيم، وهو
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد»
وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، مما يدل على أن حب آل محمد واجب.
ذكر الزمخشري حديثا طويلا في حب آل البيت جاء فيه: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد، مات مؤمنا مستكمل الإيمان.. ألا ومن مات على بعض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه:
آيس من رحمة الله»
«٢».
(١) الشعراء: ١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠
(٢) الكشاف: ٣/ ٨٢
64
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
يا راكبا قف بالمحصّب من منى واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حبّ آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي
١١- من يكتسب حسنة أو خصلة من خصال الخير، ومنها مودة القربى تأكيدا للآية السابقة، ضاعف الله له الحسنة بعشر فصاعدا، ومن فضله ورحمته تعالى أنه غفور للذنوب، شكور للحسنات. والشكور في حق الله مجاز، والمعنى: إنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي زيادة الأفضال عليهم.
١٢- أنكر القرآن الكريم على المشركين قولهم: إن هذا ليس وحيا من الله تعالى، وكان قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ: افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً متعلقا بالمذكور، أول السورة، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ.... وكان إنكاره في هذه الآية متكررا، فوبخهم أولا بقوله: أَمْ يَقُولُونَ.. وثانيا بقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ قال قتادة: يطبع على قلبك فينسيك القرآن، فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية. وثالثا بقوله: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ، وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي بما أنزله من القرآن، ورابعا بقوله:
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وهو نص عام، أي بما في قلوب العباد.
١٣- فتح الله تعالى باب الأمل والرجاء والتوبة لعباده جميعا ليتداركوا أمرهم، فيؤمنوا ويطيعوا ربهم، فذكر أنه يقبل التوبة في المستقبل عن عباده، ويعفو عن سيئات الماضي، ويعلم ما يفعل الناس من الخير والشر، فيثيب على الحسنات، ويعاقب على السيئات.
روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: اللهم إني
65
أستغفرك وأتوب إليك، وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه:
يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، فتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ فقال:
اسم يقع على ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندم، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما ربّيتها في المعصية، وإذاقة النفس ومرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
١٤- أكد الله تعالى قبول التوبة بأنه يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه أو استحقوه.
١٥- جرت عادته تعالى على إقران الوعد بالوعيد، لذا ذكر بعد وعد المؤمنين بالثواب، وعيد الكافرين بالعذاب الشديد.
من مظاهر حكمة الله في خلقه وآياته على قدرته
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٣٦]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)
66
الإعراب:
وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ فِيهِما: أي في أحدهما، فحذف المضاف، كقوله تعالى:
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن ٥٥/ ٢٢] أي من أحدهما، فحذف المضاف.
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ.. فَبِما: الفاء في جواب الشرط، وقرئ بغير فاء، وحذفت إما لأن ما بمعنى الذي، فحذفت كما تحذف مع الذي، أو أن ما الشرطية لا تعمل في الفعل شيئا، لأنه فعل ماض، فحذفت الفاء، وهذا أولى من الأول، لأنها أعم في كل مصيبة، فكان المعنى أقوى.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا... وَيَعْلَمَ يُوبِقْهُنَّ: مجزوم بالعطف على قوله تعالى:
فَيَظْلَلْنَ المعطوف على جواب الشرط. ويَعْلَمَ: بتقدير «أن» بعد الفاء، ونصب الفعل بها، لأنه غير معطوف على ما قبله، ويقرأ بالرفع: «ويعلم» على الاستئناف. وجملة ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ لأن النفي يعلق الفعل عن العمل.
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ.. فَما: موصولة تضمنت معنى الشرط، لأن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا، فجازت الفاء في جوابها.
البلاغة:
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ: عطف عام على خاص، فالغيث خاص، والرحمة عام.
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ: تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، أي كالجبال في الضخامة والعظم.
67
صَبَّارٍ شَكُورٍ من صيغ المبالغة.
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
بَسَطَ وسع لِعِبادِهِ لجميعهم لَبَغَوْا جميعهم أي طغوا وتجاوزوا الحد، والبغي:
الظلم ومجاوزة الحد يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير معين ما يَشاءُ ما اقتضته مشيئته إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي إنه يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم.
الْغَيْثَ المطر الذي يغيث من الجدب قَنَطُوا يئسوا من نزوله وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يعم رحمته كل شيء من السهل والجبل والنبات والإنسان والحيوان الْوَلِيُّ المتولي عباده بالإحسان الْحَمِيدُ المستحق للحمد على نعمه.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهي بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم وَما بَثَّ فِيهِما نشر وفرّق، وهو معطوف على السموات أو على كلمة خَلْقُ أي وخلق ما بث دابَّةٍ كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم جَمْعِهِمْ للحشر والحساب، وفي الضمير:
تغليب العاقل على غيره إِذا يَشاءُ في أي وقت يشاء قَدِيرٌ متمكن منه. وإذا: تدخل على الماضي وعلى المضارع.
مُصِيبَةٍ بلية وشدة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم، وعبر بالأيدي، لأن أكثر الأفعال تزاول بها وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب، فلا يعاقب عليه، وهو تعالى أكرم من أن يثنّي الجزاء في الآخرة. أما ما يصيب غير المذنبين فلرفع درجاتهم وتعريضهم للأجر العظيم في الآخرة.
وَما أَنْتُمْ أيها البشر بِمُعْجِزِينَ فائتين الله هربا في الأرض، أي بجاعلين الله تعالى عاجزا بالهرب منه دُونِ اللَّهِ غيره وَلِيٍّ يحرسكم نَصِيرٍ يدفع عذاب الله عنكم الجواري السفن الجارية، جمع جارية: وهي السفينة التي تجري على الماء: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ١١] كَالْأَعْلامِ كالجبال في العظم، جمع علم: وهو الجبل.
يُسْكِنِ الرِّيحَ يجعلها ساكنة لا تتحرك، وقرئ «الرياح». رَواكِدَ ثوابت سواكن صَبَّارٍ كثير الصبر شَكُورٍ كثير الشكر، وهما صفتان للمؤمن الكامل، لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، والمؤمن يصبر في الشدة، ويشكر في الرخاء يُوبِقْهُنَّ يهلكهن أو يغرقهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة والمراد: إهلاك أهلها، لقوله: بِما كَسَبُوا
68
اقترفوا من الذنوب وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي يتجاوز عن الكثيرين وينجيهم من الهلاك بالعفو عنهم.
وَيَعْلَمَ عطف على علة مقدرة، مثل ليغرقهم وينتقم منهم ويعلم مَحِيصٍ مهرب من العذاب، وجملة النفي ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سدت مسد مفعولي يَعْلَمَ والنفي يعلّق الفعل عن العمل، كما تقدم.
فَما أُوتِيتُمْ أيها الناس المؤمنون وغيرهم، وآتاه الشيء: أعطاه إياه مِنْ شَيْءٍ من أمتعة الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو مجرد متاع مؤقت تتمتعون به فيها، ثم يزول. والمتاع:
ما ينتفع به ويتمتع من أثاث وغيره وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب الأخروي خَيْرٌ وَأَبْقى لخلوص نفعه ودوامه يَتَوَكَّلُونَ يفوضون إليه أمورهم بعد اتخاذ الأسباب.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٧) :
وَلَوْ بَسَطَ:
أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصّفّة: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية- أي في أهل الصفّة- وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
نزول الآية (٣٦) :
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ:
عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت.
جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا.
المناسبة:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ: عن علي رضي الله عنه: تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفا.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى في الآية السابقة: إنه يجيب دعاء المؤمنين، ذكر هنا أنه لا يعطيهم من الأرزاق إلا بقدر وحكمة، حسبما يعلم من مصلحتهم، وإلا
69
فإنهم يبغون ويقدمون على المعاصي. ولو احتاجوا أمدهم بالرزق، لأنه المتولي أمورهم بإحسانه، المستحق الحمد على نعمه.
ثم أقام الله تعالى الأدلة على ألوهيته بخلق السموات والأرض وما فيهما، ثم جمعهم للحساب في الآخرة. ثم أوضح أن المصائب والأحوال المكروهة كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والفقر ونحوها تكون عقوبات على الذنوب لمن يرتكبها، أو من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء.
ثم ذكر تعالى دليلا آخر على ألوهيته وهو إجراء السفن العظيمة على وجه البحر، وتأثير الرياح فيها إما بالتسيير وإما بالإغراق.
والخلاصة: بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من دلائل وحدانيته، ذكر بعدها العالم الأكبر وهو السموات والأرض، ثم العالم الأصغر، وهو الحيوان، ثم أتبعه بذكر المعاد وذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة.
التفسير والبيان:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي لو وسع الله على عباده رزقهم، وأعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان، وعصوا في الأرض، وبطروا النعمة، وتكبروا، وطلبوا ما ليس لهم طلبه مثل قارون وفرعون، ولكنه تعالى ينزل من الرزق لعباده بتقدير معين، على حسب مشيئته، وما تقتضيه حكمته البالغة، ويختار لهم مما فيه صلاحهم، فيغني من يستحق الغنى، ويفقر من يستحق الفقر، إنه بعباده خبير بأحوالهم، بصير بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه، كما
جاء في الحديث القدسي عن انس: «إن من
70
عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».
قال قتادة: كان يقال: خير العيش ما لا يهليك ولا يطغيك.
ثم ذكر الله تعالى أنه لو احتاج الناس إلى الخير أمدهم به، فقال:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أي وهو سبحانه الذي ينزل المطر من بعد إياس الناس في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، والمطر أنفع أنواع الرزق، وأكثرها فائدة ونفعا، ويعم الوجود كله برحمته، ويفيض على أهل ذلك القطر أو الناحية فيضه، وهو المتولي لأمور عباده بالإحسان إليهم، وجلب النفع لهم، ودفع الشر عنهم، وهو المستحق للحمد منهم على إنعامه.
ونظير الآية في إنزال المطر بعد اليأس قوله تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [الروم ٣٠/ ٤٩].
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، قحط المطر، وقنط الناس، فقال عمر: مطرتم، ثم قرأ الآية:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
ثم ذكر تعالى الأدلة على ألوهيته، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه: خلق السموات والأرض على هذا النحو البديع، وخلق ما نشر وفرق فيهما، أي في السموات والأرض مما يدب ويتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم
71
وطباعهم. وربما يكون في الكواكب الأخرى أحياء، فتدل الآية عليهم.
وقيل: أراد ما بث في الأرض دون السماء، لأن المراد من فِيهِما في أحدهما، كما جاء في آية أخرى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ [لقمان ٣١/ ١٠].
وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وهو على جمع سائر الخلائق من السموات والأرض في صعيد واحد، وحشرهم يوم القيامة، إذا أراد، قادر كل القدرة، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل الحق.
والمقصود بالآية أنه تعالى خلق الكائنات الحية متفرقة، لا لعجز، ولكن لمصلحة، فلهذا قال: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ «١» قَدِيرٌ يعني الجمع للحشر والمحاسبة، وإنما قال: عَلى جَمْعِهِمْ ولم يقل: على جمعها، لأن المقصود من هذا الجمع المحاسبة، فكأنه تعالى قال: وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير.
ثم ذكر تعالى أسباب الذنوب والآثام، فقال:
وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ما أصابكم أيها الناس من المصائب (وهي الأحوال المكروهة) كالآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق والزلازل ونحوها، فإنما هي بسبب سيئات اقترفتموها، ومعاص اقتحمتموها، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها، ويعفو الله عن كثير من معاصي العباد، فلا يعاقب عليها، وقد يكون المصاب لغير ذنب، وإنما لزيادة الأجر ورفع الدرجة.
ونظير مقدمة الآية قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء ٤/ ١٦٠]
(١) إذا كما بينا تدخل على المضارع، كما تدخل على الماضي، قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل ٩٢/ ١] ومنه إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ.
72
وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء ٤/ ١٢٣]. ونظير آخر الآية: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر ٣٥/ ٤٥].
وورد في الحديث الصحيح عن الشيخين والموطأ عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «والذي نفسي بيده، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفّر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها»
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها».
ولما نزلت هذه الآية،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر».
وفي حديث آخر: «ما ينزل العقاب إلا بذنب، ولا يرتفع إلا بتوبة».
وروى الواحدي في البسيط: «ما عفا الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقب عليه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة».
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أي ما أنتم أيها المذنبون الكافرون بمعجزين الله حيثما كنتم، ولا بفائتين عليه هربا في الأرض، بل ما قضاه عليهم من المصائب، واقع عليهم، نازل بهم، وليس لكم من غير الله ولي يتولى أموركم، فيمنع عنكم ما قضاه الله، ولا نصير ينصركم من عذاب الله.
ثم ذكر الله تعالى آيات أخرى دالة على قدرته وعظمته، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه إجراء السفن السائرة في البحر كالجبال.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي إن يرد الله
73
إيقاف السفن التي تجري، يجعل الرياح ساكنة، فتصبح السفن ثوابت سواكن على ظهر البحر، واقفة على وجه الماء لا تتحرك.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي إن في أمر السفن المذكور وجريها في البحر لدلالة عظيمة على قدرته تعالى، لكثير الصبر على الشدائد والبلايا وعلى طاعة الله، كثير الشكر على النعماء. وهذه جملة معترضة.
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا، وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ أي وإن يشأ يهلكهنّ بالغرق بما كسبوا من الذنوب، ويعف عن كثير من ذنوبهم، أو عن كثير منهم، فينجيهم من الغرق، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك كل من ركب البحر.
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لينتقم منهم ويعلم حينئذ الذين ينازعون في آيات الله مكذبين بها أنه لا مفر ولا مهرب ولا ملجأ من عذاب الله، فإنهم مقهورون بقدرة الله وسلطانه.
وبعد بيان أدلة التوحيد حذر الله تعالى من الاغترار بالدنيا، فقال:
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن كل ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق والجاه والسلطان، فإنما هو متاع قليل في الدنيا يتمتع به في زمن قصير، ثم سرعان ما ينقضي ويذهب، لأن الدنيا فانية زائلة لا محالة، ويلاحظ أن الذي يمنع من قبول دلائل التوحيد إنما هو الرغبة في الدنيا ومطامعها بسبب الرياسة وطلب الجاه، لذا حذر تعالى من الاغترار بالدنيا، ورغّب في الآخرة، فقال:
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي وما عند الله من ثواب الطاعات وجزاء الجنات خير من متاع الدنيا، وأبقى وأدوم، لأنه لا ينقطع، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة، فلا تقدموا الفاني على الباقي. وهو خير
74
وأبقى للذين صدّقوا بالله ورسوله، وعلى ربهم يعتمدون في كل شؤونهم، ويفوضون إليه أمورهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن الإمداد بالرزق يخضع لحكمة الله ومشيئته، فيعطي بقدر الحاجة، وعلى وفق المصلحة، فلو بسط الله الرزق لعباده، لوقعوا في المعاصي، وبغى بعضهم على بعض، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون وفرعون عبرة، ولذا قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦- ٧]
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها».
٢- قال المالكية: أفعال الرب سبحانه لا تخلو عن مصالح، وإن لم يجب على الله الاستصلاح، فقد يعلم من حال عبد أنه لو بسط عليه، قاده ذلك إلى الفساد، فيزوي عنه الدنيا، مصلحة له. فليس ضيق الرزق هوانا، ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل، لكانوا أقرب إلى الصلاح، والأمر على الجملة مفوّض إلى مشيئته، ولا يمكن التزام مذهب الاستصلاح في كل فعل من أفعال الله تعالى.
٣- يتولى الله أمور عباده بالإحسان والإنعام، فلو احتاجوا أغناهم بقدر الحاجة، وأنزل عليهم المطر الذي يكون سببا لوفرة الخيرات والغلال والثمار، وعمهم بالرحمة، وهو سبحانه الولي المتولي شؤون عباده وناصر أوليائه المؤمنين، والمحمود على كل لسان.
٤- من دلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته: خلق السموات والأرض
75
وما فيهما من المخلوقات التي لا يعلم حصرها إلا الله تعالى، وأنه قادر على جمعهم للحشر والحساب يوم القيامة.
ويرى بعض العلماء استدلالا بقوله تعالى: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ أنه لا يستبعد وجود مخلوقات في الكواكب والعوالم العلوية غير الملائكة، كما تدل الدلائل الفلكية- وربما اكتشاف سفن الفضاء الحديثة- على وجود حياة في كوكب المرّيخ. وليس في هذا دلالة قطعية، لأن في تفسير الآية وجها آخر كما تقدم.
٥- المصائب في الغالب تكون بسبب الذنوب والمعاصي، فهي عقوبات على السيئات، وقد تكون للابتلاء كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي وابن ماجه عن سعد: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»
والقصد من الابتلاء رفع الدرجات، لأن الأنبياء معصومون عن الذنوب والآثام، ويكون حصول المصيبة من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة، كما في حق الأنبياء والأولياء.
والعقوبة عن الذنب في الدنيا كفارة له في الآخرة، وهذا في حق المؤمنين، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن آية: وَما أَصابَكُمْ... : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل. وإذا كان يكفّر عني بالمصائب، ويعفو عن كثير، فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟!
٦- إن قدرة الله عامة شاملة لكل شيء، ومهيمنة على كل شيء، فلن يستطيع الكفار والمشركون أن يعجزوه أو يفوتوه هربا من سلطانه، ولن يجدوا لهم في الآخرة وليا يتولى أمورهم، ويتعهد مصالحهم، ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله وانتقامه، فهم في الدنيا والآخرة في قبضة القدرة الإلهية.
76
٧- من آيات الله تعالى أيضا على قدرته، ونعمته على العباد، هذه السفن السائرة في عرض البحر على سطح الماء عند هبوب الرياح، أو ما حل محلها من الطاقة الدافعة لمحركاتها، مما صنعه الإنسان بإلهام الله وتعليمه والتمكن من اكتشافه، وشأن الأجسام الثقيلة الكثيفة الغرق في الماء، لكنه تعالى جعل للماء قوة لحمل السفن ومنع الغوص، ثم جعل الرياح سببا لسيرها، فإذا أراد أن ترسو أسكن الريح.
والله قادر على جعل الرياح ساكنة هادئة، فتبقى السفن سواكن على ظهر البحر، وقادر على تعطيل آلاتها وإيقاف محركاتها بأيسر الأشياء، وهو قادر أيضا على جعل الرياح عواصف فيوبق السفن، أي يغرق ركابها بذنوبهم، ويعفو عن كثير من أهلها فلا يغرقهم معها، وحينئذ يعلم الكفار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أو بقيت السفن رواكد أنه لا ملجأ لهم سوى الله تعالى، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة.
إن في أمر السفن دلالات وعلامات لكل صبار على البلوى، شكور على النعماء، قال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر. وكم من مبتلى غير صابر.
٨- لا ينبغي التفاخر بمظاهر الدنيا، فإن كل ما فيها من ثروات وقصور ومبان وآلات، هو متاع يستمتع به في أيام قليلة تنقضي وتذهب. وما عند الله من الثواب على الطاعة خير وأدوم للذين صدّقوا بالله ووحّدوه، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم.
77
صفات المؤمنين الكمّل أهل الجنة
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٧ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
الإعراب:
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. الَّذِينَ معطوف مجرور على «الذين» في قوله تعالى:
خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وكذلك أيضا قوله تعالى وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في موضع جرّ أيضا بالعطف عليه.
هُمْ يَغْفِرُونَ هُمْ: إما تأكيد لضمير غَضِبُوا ويَغْفِرُونَ: جواب إذا، وإما مبتدأ، خبره: يَغْفِرُونَ والتقدير: فهم يغفرون، فحذف الفاء في جواب الشرط.
وكذلك قوله تعالى: هُمْ يَنْتَصِرُونَ.
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ لَمَنْ: اسم موصول مبتدأ، وإِنَّ ذلِكَ في حكم المبتدأ الثاني، والعائد محذوف تقديره: إن ذلك الصبر منه، وحذف للعلم به، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ الأول.
78
البلاغة:
كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ عطف البعض على الكل.
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها من قبيل المشاكلة، سمي جزاء السيئة سيئة للتشابه بينهما في الصورة.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ معطوف مع ما بعده على لِلَّذِينَ آمَنُوا. كَبائِرَ الْإِثْمِ ما رتب عليه وعيد شديد، كشهادة الزور وعقوق الوالدين، أو كل ما يوجب حدا، كالقتل العمد والقذف والسرقة والزنى ونحوها وَالْفَواحِشَ ما فحش وعظم قبحه كالزنى والقتل ونحوهما، جمع فاحشة، وهو من عطف البعض على الكل يَغْفِرُونَ يعفون ويتجاوزون.
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أجابوا إلى ما دعاهم إليه ربهم من التوحيد والعبادة، وأداء الفرائض وترك النواهي وَأَقامُوا الصَّلاةَ داوموا على إقامتها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ الشورى:
مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، أي أمرهم ذو شورى، يتشاورون، ولا ينفردون برأي حتى يتشاوروا وذلك من فرط تيقظهم في الأمور، وإحكام الخطط، والظفر بالمطلوب، والشورى: تبادل الآراء لمعرفة الصواب منها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم يُنْفِقُونَ في طاعة الله.
الْبَغْيُ الظلم يَنْتَصِرُونَ ينتقمون ممن ظلمهم، وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بأكمل الفضائل، لأن الحلم على العاجز محمود، وعلى الظالم مذموم، منعا من الإغراء على البغي وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ هي الفعلة التي تسيء مرتكبها وهي الفعل القبيح سَيِّئَةٌ مِثْلُها سميت الثانية (وهي الجزاء) سيئة لمشابهتها للأولى (الجريمة) في الصورة. وهذه المماثلة في العقوبة ظاهرة في الجراحات، فإنما يقتص فيها بمثلها. عَفا عن ظالمة وَأَصْلَحَ بالود ما بينه وبينه من عداوة فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فثوابه على الله حتما، وهذا وعد يدل على عظم الموعود إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ البادئين بالظلم، فيعاقبهم.
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ قابل الظالم بمثل فعله بعد أن ظلمه ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ مؤاخذة أو عتاب ومعاقبة يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدءونهم بالإضرار أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم على ظلمهم وبغيهم وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى. فلم ينتصر وَغَفَرَ تجاوز إِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزومات الأمور، بمعنى المطلوبات شرعا أو المشكورة المندوب إليها.
79
سبب النزول:
نزول الآية (٣٧) :
وَإِذا ما غَضِبُوا.. قيل: نزلت في عمر حين شتم بمكة، وقيل: في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شتم فحلم.
نزول الآية (٣٨) :
وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا..: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
نزول الآيات (٤١- ٤٣) :
ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضا في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
المناسبة:
بعد بيان دلائل التوحيد والقدرة الإلهية، والتنفير من الدنيا، رغّب تعالى في الآخرة، فإنها خير وأبقى، ثم بيّن أن الخيرية تحصل لمن اتصف بصفات معينة، ذكر أولا منها صفتين وهما الإيمان بالله والتوكل عليه، وتابع هنا إيراد الصفات الأخرى للمؤمنين وهي: اجتناب كبائر الذنوب والفواحش، وإطاعة الله تعالى وترك نواهيه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والتشاور في الأمور العامة والخاصة، والشجاعة والبأس لاسترداد الحقوق المغتصبة.
التفسير والبيان:
وصف الله تعالى أهل الجنة بالإيمان بالله والتوكل عليه، وبالصفات التالية:
80
١- اجتناب الكبائر: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ أي الذين يجتنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيدا شديدا، كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين، والفواحش وهي كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو فعل، كالغيبة والكذب، والزنى، والسرقة والحرابة (الإفساد في الأرض).
٢- العفو عند المقدرة: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم، ويكظمون الغيظ، ويحلمون عن ظلمهم، لأن سجيتهم العفو والصفح وليس الانتقام من الناس. وهذا من محاسن الأخلاق يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله وعفوه.
جاء في الحديث الصحيح: «ما انتقم النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله».
٣- تمام الانقياد والطاعة لله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والتبرؤ من الشرك، وأطاعوا الرسل فيما أمر الله به وزجر عنه.
٤- إقام الصلاة: وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوا الصلاة المفروضة كاملة بإتمام أركانها وشروطها وخشوعها في مواقيتها المفروضة، وخصت الصلاة هنا بالذكر مع أمهات الفضائل، لأنها أعظم العبادات لله عز وجل، فهي معراج الوصول إلى الله، أو صلة بين العبد وربه.
٥- الأخذ بنظام الشورى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي يتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة، ولا ينفردون برأي في كل أمر من القضايا العامّة، كتولي الحكم (أو الخلافة) وشؤون تدبير الدولة والتخطيط لمصالحها، وإعلان الحرب، وتولية الولاة والحكام والقضاة وغيرهم. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر
81
الناس مشاورة لأصحابه، وسلك الصحابة طريقه ومنهجه في عظائم الأمور كتولية الخلافة وحروب الردة واستنباط الأحكام الشرعية للقضايا والحوادث المستجدة، وشاور عمر رضي الله عنه الهرمزان حين وفد عليه مسلما «١»، ولما طعن عمر جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر، وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فاتفقوا على تقديم عثمان رضي الله عنه للخلافة الثالثة.
وإذا كانت الآية هنا تقرر وصفا ثابتا للمؤمنين، فقد أمر الله تعالى بالشورى في آية أخرى، فقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران ٣/ ١٥٩] وقال الحسن البصري رحمه الله: «ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم». وقال ابن العربي «٢» : الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا، وقد قال حكيم:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة فريش الخوافي قوة للقوادم
٦- الإنفاق: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي وينفقون في سبيل الله وطاعته بعض ما رزقناهم من أموال وخيرات، فالإنفاق من الأغنياء قوة للأمة، وعلاج لضعفها، وسبيل للحفاظ على هيبة الدولة ورفعة شأن أفرادها وعزها، وذلك بالإحسان إلى الأقرب فالأقرب، ثم للمصالح العامة، كإغناء المحاويج، وإعداد القوى الحربية لمجابهة الأعداء.
٧- الشجاعة: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي إذا تعرضوا للظلم والاعتداء انتصروا ممن ظلمهم، لأن الانتصار عند البغي واجب وفضيلة،
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٦٥٦
(٢) أحكام القرآن ٤/ ١٦٥٦.
82
ولأن التذلل لمن بغى يتنافى مع عزة المؤمنين، إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوف أخرى من العدوان، فالمؤمنون أعزة كرام يحافظون على الحقوق والحرمات والكرامة، وليسوا بالعاجزين والأذلّين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، فإذا قدروا عفوا.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما سبقها وهي: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ فإن كل آية لها مجال وموضع، فالسابقة في موضع، واللاحقة في موضع، وذلك لأن العفو قسمان «١» :
الأول- أن يكون سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ورجوع الجاني عن جنايته، وهذا محمود، تحمل عليه آيات العفو، مثل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢/ ٢٣٧]. وهذا مرغب فيه في داخل الأمة الواحدة.
الثاني- أن يكون سببا لتجرؤ الظالم وتماديه في غيه واستضعافه الأمة، وهذا مذموم، تحمل عليه آيات الحث على الانتقام، وهذا واجب في مقاومة العدو الخارجي، وعند اغتصاب الحقوق، ويتوقف على توافر القوة المكافئة أو القدرة المطلوبة في نظام الإسلام بإلزام المؤمن الصمود أمام اثنين من العدو.
والأمثلة الموضحة كثيرة، منها: عفا يوسف عليه السلام عن إخوته وقال كما حكى القرآن: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف ١٢/ ٩٢] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه. وعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل مكة بعد فتحها، وعفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام:
وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه- سيف النبي صلّى الله عليه وسلّم-
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٧٧.
83
وهو نائم، فاستيقظ صلّى الله عليه وسلّم، وهو في يديه مصلتا، فانتهره، فوقع من يده، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السيف في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل، وعفا عنه. وكذلك عفا صلّى الله عليه وسلّم عن المرأة اليهودية- وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة، التي سمّت الذراع يوم خيبر- فأخبره الذراع بذلك، فدعاها فاعترفت، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على هذا» ؟ قالت: أردت إن كنت نبيا لم يضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك، فأطلقها صلّى الله عليه وسلّم
، ولكن لما مات منه- من السم- بشر بن البراء رضي الله عنه، قتلها به.
وروي أن زينب أقبلت على عائشة، فشتمتها، فنهاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها، فلم تنته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دونك فانتصري» «١»
وهذه تطبيق لقوله تعالى:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨].
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المستبّان ما قالا من شيء، فعلى البادي حتى يعتدي المظلوم» ثم قرأ:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
ثم إن الله تعالى لم يرغب دائما في الانتصار، بل بيّن أنه مشروع فقط، ثم بيّن بعده أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة، ثم أبان أن العفو أولى بقوله:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
وشرط الله تعالى المماثلة بين الجناية والعقوبة في قوله تعالى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي إن عقاب السيئة عقاب مماثل للجرم، وإن العدل في الانتصار هو الاقتصار على المساواة، فإذا قال المسيء: أخزاك
(١)
أخرجه مسلم، وأخرجه بلفظ آخر النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة، وجاء فيه: «فقال لي: سبّيها، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها».
84
الله، يقول: أخزاك الله، من غير أن يعتدي. وسمى جزاء السيئة سيئة، لأنها تسوء من تنزل به.
ونظير الآية قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٤] وقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل ١٦/ ١٢٦] وقوله عز وجل: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام ٦/ ١٦٠].
وهكذا فإن جميع العقوبات المدنية والجنائية في الإسلام تجب فيها المماثلة، فالقصاص مثلا من القاتل عمدا أو في الجروح واجب بقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة ٢/ ١٩٤] وقوله عز وجل: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة ٢/ ١٩٤] وقوله سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة ٥/ ٤٥] لكن رغّب تعالى بالعفو في آخر الآية الأخيرة، فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وهنا قال:
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي من عفا عن الظالم المسيء، وأصلح بالود والعفو ما بينه وبين معاديه، فثوابه على الله، يعطيه جزاء أعظم، كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا».
ووصف الله المتقين بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران ٣/ ١٣٤].
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي إنه تعالى لا يحب المبتدئين بالظلم، ولا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد فيه، لأن المجاوزة ظلم. والمراد أنه تعالى يعاقب المتجاوز حده. وهذا تأكيد لمطلع الآية في اشتراط المماثلة نوعا ومقدارا.
ثم أكد الله تعالى مشروعية دفع الظلم والبغي، فقال:
85
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي والله إن المنتصر من الظالم بعد ظلمه له، لا سبيل عليه بمؤاخذة أو عقوبة، لأن الانتصار بحق، فيشرع القصاص في الجنايات العمدية، والضمان في جنايات الخطأ والإتلافات، ويجوز الشتم والسب بالمثل دون اعتداء ولا تجاوز.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدءون الناس بالظلم، أو يتعدّون مبدأ المماثلة، ويتجاوزون الحد في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحق، ويتكبرون ويتجبرون بظلم الناس، وسلب الحقوق.
أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أولئك البادئون بالظلم أو المتجاوزون الحدود لهم عذاب مؤلم شديد بسبب اعتدائهم.
ثم أكد الله تعالى الترغيب في العفو والصفح عند المقدرة، فقال:
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي بعد أن ذم تعالى الظلم وأهله وشرع القصاص، ندب إلى العفو والصفح، فقال: إن من صبر على الأذى، وستر السيئة، وغفر خطأ من ظلمه، فإن ذلك الصبر والمغفرة لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة، التي يثاب عليها بالثواب الجزيل والثناء الجميل، لأن الإنسان الغاضب يثبت فيها ويرسخ، ولا ينطلق وراء شهوة الانتقام.
فقه الحياة أو الأحكام:
يؤخذ من الآيات ما يأتي:
١- ترغيب المؤمنين بالاتصاف بأمهات الفضائل التي ذكرت في الآيات ليكونوا ورّاث الجنة وأهلها، وتلك الصفات سبع هي: اجتناب كبائر الإثم والفواحش، وهي كل ما توعد الله عليه بالعذاب أو أوجب فيه حدا من الحدود
86
المقدرة شرعا، والتجاوز والحلم عمن ظلمهم، والانقياد والطاعة لأوامر الله تعالى، وإقام الصلاة، والتشاور فيما بينهم، والبذل والإنفاق في طاعة الله، والجرأة والشجاعة في دفع البغي والظلم.
٢- قال ابن العربي: مدح الله المشاورة في الأمور، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه في الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآثار كثير، ولم يشاورهم في الأحكام، لأنها منزّلة من عند الله على جميع الأقسام: من الفرض، والندب، والمكروه، والمباح، والحرام.
فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا، فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينصّ عليها، حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما هو معروف، وقال عمر: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا، وتشاوروا في أمر الردّة، فاستقر رأي أبي بكر على القتال، وتشاوروا في الجدّ وميراثه، وفي حد الخمر وعدده، وتشاوروا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحروب، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي قائلا: فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى «١».
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها».
٣- إن آية وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ هي غالبا في العلاقات الخارجية بين المسلمين وغيرهم، فقد أصابهم بغي المشركين في الماضي،
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٥٦.
87
قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه، وآذوهم وأخرجوهم من مكة، فأذن الله لهم بالخروج ومكّن لهم في الأرض، ونصرهم على من بغى عليهم، وذلك قوله في سورة الحج: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ.. الآيات [٣٩- ٤١].
وليست الآية مقصورة على الماضي، وإنما هي عامة في بغي كل باغ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه. وهذا إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود «١»، وإشارة إلى أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة وإباء الذل والشمم، والاعتزاز بقوة الله والثقة بنصره.
٤- أما إذا كان الظلم بين المسلمين فقط أو بين المسلمين وغيرهم، فإذا كان الباغي معلنا الفجور، وقحا يؤذي الصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، قال إبراهيم النّخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم، فتجترئ عليهم الفسّاق. أي أنّه في حال وقوع الأذى أو الضرر العام يكون الانتقام.
وإذا وقعت الجناية خطأ أو فلتة أو تعمدها صاحبها ثم طلب المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢/ ٢٣٧] وقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة ٥/ ٤٥] وقوله:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور ٢٤/ ٢٢].
٥- إن آية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أصل كبير في علم الفقه وهو مقابلة الجناية بمثلها، سواء في العقوبات البدنية أو المالية. وتأول الشافعي في هذه الآية: أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه،
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٨- ٣٩.
88
واستشهد في ذلك
بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لهند زوج أبي سفيان في الحديث المتفق عليه عن عائشة: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك»
فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه.
٦- اختلف اجتهاد المجتهدين فيما إذا لم يمكن استيفاء الحق إلّا باستيفاء الزيادة، بسبب التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني، وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى؟ وذكر الرازي أمثلة عشرة لهذا الخلاف «١» أشير إليها بإيجاز:
المثال الأول- احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد: بأن قال: المماثلة شرط لجريان القصاص، وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب ألا يجري القصاص بينهما.
المثال الثاني- احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحدة، فقال: لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم، فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله، لهذه النصوص.
المثال الثالث- شريك الأب يشرع في حقه القصاص، لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله، لقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة ٥/ ٤٥].
المثال الرابع- قال الشافعي رضي الله عنه: من حرّق حرقناه، ومن غرّق غرقناه، والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس- شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا الكذب، يلزمهم القصاص، لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
(١) تفسير الرازي: ٢٧/ ١٧٩- ١٨٠.
89
المثال السادس- قال الشافعي رضي الله عنه: المكره يجب عليه القود (القصاص) لأنه صدر عنه القتل، فوجب أن يجب عليه مثله، أي كالمكره.
المثال السابع- قال الشافعي رضي الله عنه: القتل بالمثقل كالحجر والخشب يوجب القود، لهذه الآية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ...
المثال الثامن- الحر لا يقتل بالعبد قصاصا، كما تقدم، ولأن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا، فيجب ضمانه، وإذا وجب الضمان، وجب ألا يجب القصاص، إذ لا فرق.
المثال التاسع- منافع الغصب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه، لأن الغاصب فوّت على المالك منافع تقابل في العرف بمال، فوجب أن يفوت على الغاصب مثله من المال، لهذه الآية: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ...
المثال العاشر- الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لعلة ثالثة وهي أنه لو قتل بالعبد لكان هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص، لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [غافر ٤٠/ ٤٠].
والخلاصة: أن قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا ما استثني وخص بدليل.
٧- لمن عفا وأصلح النزاع بينه وبين الظالم بالعفو: أجر كبير عند الله تعالى. والمقصود من قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم، لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم، والانتصار قد يؤدي إلى تجاوز المساواة، والتعدي، خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما.
٨- للمظلوم الانتصار من الظالم دون مؤاخذة ولا عقوبة ولا حرج وهل له
90
أن يستوفي ذلك بنفسه؟ هناك ثلاثة أقسام «١» :
الأول- القصاص بالنفس إذا ثبت الحق فيه عند الحكام يجوز استيفاؤه من ولي الدم، لكن يزجره الإمام لجرأته على سفك الدم. أما إذا لم يثبت حقه عند الحاكم، فيجوز له استيفاؤه ديانة بينه وبين الله، لكن يؤاخذ قضاء ويعاقب على فعله.
الثاني- الحد الخالص لله تعالى الذي لا حق فيه للآدمي كحد الزنى وقطع السرقة: إن لم يثبت عند حاكم عوقب به، وإن ثبت عند حاكم، فإن كان قطع يد أو رجل، سقط به الحد، ويعزر، وإن كان جلدا لم يسقط به الحد، لتعدّيه، فيؤاخذ بحكمه.
الثالث- الحقوق المالية: يجوز أخذها مغالبة ممن هو عالم بها، أما غير العالم بها، فإن أمكن أخذها منه بالمطالبة القضائية وجبت، ويجوز أخذها سرا، وإن لم يكن أخذها منه بالمطالبة القضائية، لجحود من هي عنده، ولا بينه تشهد بالحق، فيجوز أخذها سرا عند مالك والشافعي، ولا يجوز ذلك عند أبي حنيفة.
٩- يؤاخذ الظلمة بعدوانهم، فيعاقبون في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، وذلك سواء أكان الظلم في النفوس أم في الأموال. والحاكم هو الذي يؤاخذ.
١٠- قال ابن العربي في آية إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ..:
هذه الآية في مقابلة الآية المتقدمة في براءة، وهي قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [٩٢]
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٤١. [.....]
91
فكما نفى الله السبيل عمن أحسن، فكذلك أثبتها على من ظلم «١».
١١- اختلف العلماء في فرض الحاكم الرسوم والضرائب والأموال على الناس، هل يجوز الخلاص منها لمن قدر على ذلك، مع أنه يستوفي جميع المطلوب من الآخرين؟ قال سحنون من المالكية: لا، وقال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي المالكي: نعم له ذلك إن قدر على الخلاص، لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحد بظلم مخافة أن يضاعف الظلم على غيره، والله سبحانه يقول: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ.
١٢- اختلف العلماء في التحليل «٢» والمسامحة عن العرض والمال، فأجازه على العرض والمال سليمان بن يسار ومحمد بن سيرين من التابعين. ورأى مالك التحليل من المال دون العرض. ورأى سعيد بن المسيب: ألا يحلله بحال. وجه الرأي الأول: أنه حقه، فله أن يسقطه كما يسقط دمه وعرضه. ووجه الرأي الثاني: أن التحليل في المال رفق، وفي العرض يتجرأ الظلمة ويغترون ويسترسلون في أفعالهم القبيحة.
ووجه الرأي الثالث: أنه تحليل ما حرّم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله.
والصحيح الجواز بدليل قصة أبي ضمضم الذي كان قد استحل عرضه، أي سامح من يؤذيه ويشتمه،
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: فيما روى مسلم في صحيحة: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟
١٣- إن ثواب المال المأخوذ ظلما لصاحبه طوال حياته وإلى موته، ثم يرجع الثواب إلى ورثته، لأن المال يصير لهم بالإرث.
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٥٨.
(٢) التحليل هنا: أن يجعل من ظلمه في حلّ.
92
١٤- من صبر على الأذى، وغفر بأن ترك الانتصار لوجه الله إذا كان الظالم مسلما، كان صبره من عزائم الله التي أمر بها، ومن عزائم الصواب التي وفق لها.
أحوال الكفار أمام النار
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
الإعراب:
مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ مِنَ: ابتدائية، أو بمعنى الباء.
إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا الْخاسِرِينَ: اسم إن، والَّذِينَ: خبرها.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذل الله، فلا يوفقه إلى الإيمان ويضله بسبب رضاه بالكفر فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ فليس له أحد يلي هدايته مَرَدٍّ رجوع إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ طريق.
يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار خاشِعِينَ خائفين ذليلين يَنْظُرُونَ إليها مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ضعيف النظر مسارقة، والطرف: العين، أو مصدر معناه إطباق أحد جفني العين على الآخر، والمرة منه: طرفة، ومِنَ ابتدائية، أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك ضعيف لأجفانهم خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعريض لعذاب الخلد إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم. وقوله: إِنَّ الظَّالِمِينَ تمام كلام المؤمنين، أو تصديق من الله لهم.
93
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أَوْلِياءَ نصراء وأعوان يدفع عذابه عنهم فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ طريق إلى الهدى والنجاة والجنة في الآخرة.
المناسبة:
بعد بيان أن الذين يظلمون الناس ويفسدون في الأرض لهم عذاب أليم على بغيهم وعدوانهم، ذكر الله تعالى أحوال الكفار عند رؤية عذاب النار، فهم يتمنون الرجوع إلى الدنيا، ويقفون أمام النار ذليلين خائفين، وتتبين خسارتهم الفادحة بخلودهم في العذاب، دون أن يجدوا أنصارا يخلصونهم من العذاب. وقد بدئت الآيات وختمت ببيان أن الإضلال من الله تعالى، وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى.
التفسير والبيان:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من يخذله الله بإضلاله إياه، لعلمه بسوء استعداده للخير والإيمان، واقترافه المعاصي والآثام، فما له من أحد يتولى هدايته ونصره، والأخذ بيده إلى طريق الهدى والرشاد والفوز، كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف ١٨/ ١٧] وهذا تحقير لأمر الكفرة، وبيان أنه لا يقع شيء في الكون من الهدى والضلال وغيرهما إلا بإرادة الله ومشيئته، حتى لا يوصف بالعجز، وكشف لأحوال الذين أعرضوا عن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان بالله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثم أخبر الله تعالى عن أحوال الظالمين في الآخرة، وهم المشركون بالله، فقال:
١- وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟
أي وتبصر المشركين الكافرين بالله المكذبين بالبعث، حين نظروا إلى النار،
94
وعاينوا العذاب، يتمنون الرجوع إلى الدنيا من أي طريق، قائلين: هل من سبيل إلى الرجعة؟
ونظير الآية قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الأنعام ٦/ ٢٧- ٢٨].
٢- وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي وتبصرهم أيضا يعرضون على النار، وهم خائفون أذلاء، يسارقون النظر إليها من شدة الخوف. وهذا شأن الرهبة من العقاب.
٣- وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ويقول المؤمنون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة: إن الخاسرين الخسار الأكبر، هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، بدخول النار والخلود فيها، وعلى هذا التأويل يكون يَوْمَ الْقِيامَةِ متعلقا ب قالَ ويصح أن يتعلق ب خَسِرُوا ويكون قول المؤمنين واقعا في الدنيا، والظاهر: الأول.
أما خسرانهم لأنفسهم، فلكونهم صاروا معذبين في النار، دون أمل في النّجارة، وأما خسرانهم لأهليهم، فإن كانوا معهم في النار، فلا ينتفعون بهم، ولأنهم كانوا هم السّبب في تعذيبهم، وإن كانوا في الجنة فقد فرّق بينهم وبيتهم.
٤- أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ أي ألا إن الكافرين في عذاب دائم لا ينتهي، ولا يخرجون منه، ولا محيد لهم عنه، وهذا تتمة كلام المؤمنين أو تصديق من الله لهم فهو من كلامه.
٥- وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وليس لهم أعوان وأنصار من غير الله، ينقذونهم مما هم فيه من العذاب.
95
٦- وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ أي ومن يحجب الله عنه توفيقه إلى الإيمان بسبب علم الله السابق بما سيختاره ويقترفه من الآثام، فلا طريق له إلى النّجاة والجنّة. أي فلا غرابة في وقوع تلك الظّواهر، لأنهم ضالّون منحرفون عن سبيل الإيمان والحقّ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- لا هادي ولا منقذ ولا ناصر لمن خذله الله، بسبب إعراضه عن الإيمان بالله، والمودّة في القربى، والتّكذيب بالبعث، وعدم إدراكه أن متاع الدنيا قليل.
٢- يرى المؤمنون الظالمين الكافرين عند عرض النار عليهم، حال كونهم حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذّلّ، يرونهم قائلين طالبين أن يردّوا إلى الدنيا، ليعملوا بطاعة الله، فلا يجابون إلى ذلك.
٣- ويرونهم أيضا حين يعرضون على النار أذلّة صاغرين لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تامّا، لأنّهم ناكسوا الرؤوس، والعرب تصف الذّليل بغضّ الطّرف.
٤- يقول المؤمنون في الجنة، لما عاينوا ما حلّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم، لأنهم في العذاب المخلّد، وخسروا أهليهم، لأن الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة، فقد حدثت القطيعة الدائمة بينهم وبينهم، ألا إن الظالمين في عذاب دائم لا ينقطع.
٥- ليس لأولئك الكافرين الظالمين أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب
96
الله، وليس للأصنام التي كانوا يعبدونها بقصد الشافعة لهم عند الله أي مجال في الشفاعة: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر ٤٠/ ١٨]، ومن أضلّه الله وخذله، فلا طريق له يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة، لانسداد طريق النّجاة عليه.
الاستجابة لنداء الله مالك السموات والأرض
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
الإعراب:
لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا: نافية للجنس، ومَرَدَّ: اسمها المبني على الفتح، والجارّ والمجرور الأول: صفة له، والآخر: خبره.
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يَجْعَلُ: بدل من يَخْلُقُ بدل البعض من الكلّ.
البلاغة:
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فيها ما يسمى بالتّقسيم.
97
المفردات اللغوية:
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أجيبوا نداء ربّكم إلى ما فيه نجاتكم بالتّوحيد والعبادة الخالصة لله. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ هو يوم القيامة. لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يردّه الله بعد ما حكم به، فيكون مِنَ اللَّهِ صلة لا مَرَدَّ ويصح كونه صلة ل: يَأْتِيَ أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على ردّه. مَلْجَإٍ مأمن أو منجى أو ملاذ تلجؤون إليه. نَكِيرٍ إنكار لذنوبكم يومئذ.
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإجابة فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا أو محاسبا لأعمالهم.
إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ما عليك إلا تبليغ الرسالة، وقد بلّغت. رَحْمَةً نعمة كالصحّة والغنى. وَإِنْ تُصِبْهُمْ الضمير يعود لجنس الإنسان. سَيِّئَةٌ بلاء من مرض أو فقر أو خوف أو موت عزيز مثلا. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بما قدّموا لأنفسهم من ذنوب وآثام، وعبّر بالأيدي، لأن أكثر الأفعال تزاول بها. كَفُورٌ جحود للنّعمة، نسّاء لها، ذكّار للبلية، يذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها. وهذا وإن اختصّ بالمجرمين من الناس، جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه.
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً الله المالك يهب ويمنح بعض الناس إناثا فقط أو ذكورا فقط، أو يجعل لهم الذّكور والإناث، أو يجعل من يشاء عقيما، فلا يلد ولا يولد له. والمعنى: يجعل أحوال العباد في الأولاد أربعة أصناف مختلفة على مقتضى المشيئة، ولعل تقديم الإناث، لتكثير النسل وتطييب قلوب الآباء، والتّكريم والاهتمام ردا على العرب الذين يعدّونهن بلاء. وعرف الذُّكُورَ للمحافظة على فواصل الآيات على نسق واحد: نَكِيرٍ، كَفُورٌ، الذُّكُورَ. إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إنه تعالى يفعل بحكمه واختيار، عليم بما يخلق، قدير على ما يشاء.
المناسبة:
بعد الإفاضة في وعد المؤمنين ووعيد الكافرين وبيان أحوال الكفار أمام النار، ذكر الله تعالى الهدف والغاية، وهو الاستجابة لدعوة الله إلى التوحيد والعبادة الخاصة، محذّرا من أهوال القيامة، ومبيّنا أنهم إن أعرضوا عن دعوته، فلا يؤبه بهم، وأن من شأن الإنسان جحود النعمة، لبيان سبب إعراضهم
98
وإصرارهم على مذاهبهم الباطلة، ثم ذكر تعالى مثلا من تقسيم هبات الأولاد ليكون دليلا على تصرف الله في العالم.
التفسير والبيان:
يحذّر تعالى من أهوال يوم القيامة، ويأمر بالاستعداد له، فيقول:
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ أي أجيبوا دعوة ربّكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله، واتّبعوا ما جاءكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من قبل مجيء يوم يكون كلمح البصر، ليس له دافع، ولا مانع، فلا يردّه أحد، أو لا يردّه الله بعد أن حكم به، وهو يوم القيامة. واستجاب وأجاب بمعنى واحد.
ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي ليس لكم فيه حصن أو ملجأ تتحصّنون أو تلجؤون إليه، ولا تجدون يومئذ من ينكر ما ينزل بكم من العذاب، ولا تقدرون إنكار شيء مما اقترفتموه من السّيئات، لرصده في صحفكم، وشهادة ألسنتكم وجلودكم به، فلا ملجأ من الله إلا إليه، كما قال تعالى: يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ.
والنّكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم، أو بمعنى الإنكار، أي إنكار ما ينزل بهم من العذاب، والنّكير والإنكار: تغيير المنكر.
فَإِنْ أَعْرَضُوا، فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإن أعرض المشركون عن إجابة دعوة الله ورسوله، فما أرسلناك أيها الرّسول موكّلا بهم، رقيبا عليهم، تحفظ أعمالهم وتحصيها، حتى تحاسبهم عليها، فما عليك إلا تبليغ ما أرسلناك به، وليس عليك غيره.
ونظائر الآية كثير، مثل: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢]،
99
ومثل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٧٢]، ومثل: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرّعد ١٣/ ٤٠].
وهذا كله تسلية من الله تعالى لرسوله، ثم بيّن الله تعالى سبب إصرارهم على مذاهبهم الباطلة وهو طبع الإنسان، فقال:
وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ أي وإننا إذا أعطينا الإنسان منا نعمة، وغمرناه بالرّخاء كالصّحة والأمن وسعة الرّزق، فرح بذلك، وإن أصيب الناس بسيئة، كجدب ونقمة، وبلاء وشدّة، ومرض أو فقر، بسبب ما اقترف من المعاصي والذنوب، فإن الإنسان جحود ما تقدّم من النّعم، ينساها ولا يذكرها بسبب الضّر الواقع عليه، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة، فإن أصابته نعمة بطر وأشر، وإن أصابته محنة يئس وقنط. والكفور: المبالغ في كفران النّعم.
ويظهر أثر هذا في الواقع المتكرر من أكثر النّساء، كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للنّساء فيما أخرجه مسلم وابن ماجه عن ابن عمر: «يا معشر النّساء، تصدّقن، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار، فقالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم:
لأنكنّ تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير- الزوج-، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر، ثم تركت يوما قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ»
.
أما المؤمن الصالح فشأنه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد ومسلم عن صهيب: «إن أصابته سرّاء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء، صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن».
ثمّ حذّر تعالى من الاغترار بالدنيا، وما ملكه الإنسان من المال والجاه، فقال مبيّنا أن الكلّ ملك الله ونعم الله:
100
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إنه تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرّف فيهما بما يريد، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
يَخْلُقُ ما يَشاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ أي إنه تعالى يخلق ما يشاء من الخلق والأولاد، فيرزق من يشاء البنات فقط، ويرزق من يشاء البنين فقط، ويعطي من يشاء من الناس الصنفين معا الذّكر والأنثى، فالتّزويج هنا: الجمع بين البنين والبنات، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له، لأن الملك ملكه، ويمنح على وفق الحكمة والمصلحة، فإنه سبحانه عليم بمن يستحق كلّ صنف أو قسما من هذه الأقسام، بليغ عظيم القدرة على ما يريد من تفاوت الناس في ذلك، على حسب الحكمة والعلم. يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم.
وإنما قدّم الله تعالى أولا الإناث اهتماما وعناية من الله بهنّ بسبب ضعفهنّ، وردّا على العرب في النّفور من الأنثى، والفرح بالذّكور. وعبّر عن الإناث بالتّنكير وعن الذّكور بالتّعريف، للتّنبيه على كون الذّكر أفضل من الأنثى.
وقال في إعطاء الإناث وحدهنّ، وفي إعطاء الذّكور بلفظ الهبة: يَهَبُ وقال في إعطاء الصّنفين معا: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ للدلالة على الاقتران، أي أنه تعالى يقرن الإناث والذّكور فيجعلهم أزواجا، وكل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان.
وأما التّعبير بالعقم فللدلالة على قدرة الله في منع الولد مع توافر الأسباب الظاهرة.
وأكثر المفسّرين على أن هذا الحكم عام في حقّ كلّ الناس، إذ لا معنى
101
للتّخصيص، ولأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد، لكنهم ذكروا أمثلة لكل حالة، لتكون سلوة المكروب والمحزون، فمثال الحالة الأولى: لوط وشعيب عليهما السّلام لم يكن لهما إلا البنات فكان للوط بنتان، ومثال الحالة الثانية: إبراهيم عليه السّلام لم يكن له إلا الذّكور وهم ثمانية، ومثال الحالة الثالثة: محمد صلّى الله عليه وسلّم كان له من البنين أربعة: القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم، ومن البنات أربعة: زينب ورقيّة وأم كلثوم وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، ومثال الحالة الرابعة: عيسى ويحيى عليهما السّلام. قال واثلة بن الأسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر، وذلك أن الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فبدأ بالإناث.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- على البشر كافة إجابة ما دعاهم الله إليه من الإيمان به والطاعة، قبل مفاجأتهم بيوم القيامة الذي لا يردّه أحد بعد ما حكم الله به، وجعله أجلا ووقتا معلوما لديه، ولا منجا ينجي أحدا من العذاب، ولا ناصر ينصر.
٢- إن أعرض الناس عن الإيمان، فليس الرّسول صلّى الله عليه وسلّم موكّلا بهم يستطيع إكراههم على الإيمان، ولا حافظا لأعمالهم حتى يحاسبهم عليها، إنما عليه التبليغ فقط.
٣- طبع الإنسان الكافر عجيب غريب، يفرح ويبطر عند الرحمة والرخاء والصحة والمتعة، ويجحد النعمة عند البلاء والشدّة بسبب ما اقترف من الذّنوب، فيعدد المصائب وينسى النّعم.
102
٤- إن الله تعالى مالك السموات والأرض وما فيهما، يفعل ويتصرّف في ملكه ما يشاء بمقتضى علم تام دقيق، وحكمة بالغة، فيهب الإناث فقط لمن يريد، والذّكور فقط لمن يريد، والذّكور والإناث معا لمن يريد، ويجعل من يشاء عقيما لا يولد له.
جاء في الحديث الصحيح: «إذا سبق ماء الرّجل ماء المرأة أذكرا، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرّجل آنثا» وفي لفظ آخر: «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله».
أما الخنثى ففيه الذّكورة والأنوثة، ويغلّب إحداهما بعمل جراحي، وفي الماضي من حيث يبول،
روى ابن عباس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن مولود له قبل وذكر، من أين يورّث؟ قال: «من حيث يبول»
واقتصر النّص القرآني على الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول عن غير العقيم.
أنواع الوحي
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
103
الإعراب:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ: اسم كان، ولِبَشَرٍ: خبرها، وإِلَّا وَحْياً: منصوب على المصدر في موضع الحال من اسمه تعالى اللَّهُ، ومِنْ متعلّقة بمقدر، أي إلا موحيا أو مكلّما من وراء حجاب.
أَوْ يُرْسِلَ معطوف بالنّصب على معنى قوله: إِلَّا وَحْياً تقديره: أو أن يرسل رسولا، لأن كانَ مع الفعل في تأويل المصدر، فيكون عطف مصدر على مصدر، ويقرأ بالرفع:
أَوْ يُرْسِلَ على الاستئناف تقديره: أهو يرسل رسولا.
ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ النّفي على الفعل تَدْرِي عن العمل، وكان ما بعده سادّا مسدّ المفعولين.
صِراطِ اللَّهِ بدل من الأوّل.
البلاغة:
حَكِيمٌ مُسْتَقِيمٍ وغير ذلك من مقاطع السورة: فيها ما يسمى توافق الفواصل.
المفردات اللغوية:
وَما كانَ لِبَشَرٍ وما صحّ وما استقام له. إِلَّا وَحْياً الوحي: كلام خفي يدرك بسرعة، أو إلقاء شيء في القلب بإلهام في اليقظة أو في المنام. وهو يشمل المشافة به كما في حديث المعراج، وما وعد به في حديث الرؤية، والمهتوف به كما حدث لموسى عليه السّلام في الطّور وطوى أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بأن يسمعه كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه السّلام، فالآية دليل على جواز رؤية الله في الآخرة، لا على امتناعها. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي إلا أن يرسل رسولا ملكا كجبرئيل عليه السّلام. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ يوحي الرّسول إلى المرسل إليه بأن يكلّمه، بإذن الله، ما يشاء الله. إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين. حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته، فيكلّم تارة بوسيط وتارة بغير وسيط، إما عيانا، وإما من وراء حجاب.
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمد.
رُوحاً ما أوحى به، وهو القرآن كالرّوح، وسمّي الوحي روحا، لأن القلوب تحيا به. مِنْ أَمْرِنا أي من بعض أمرنا الذي نوحيه إليك. ما كُنْتَ تَدْرِي تعرف قبل الوحي إليك.
مَا الْكِتابُ القرآن. وَلَا الْإِيمانُ ولا حقيقة الإيمان الصحيح المشتمل على الشرائع والأحكام
104
الموحى بها. وَلكِنْ جَعَلْناهُ الرّوح أو الكتاب أو الإيمان. لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تدعو بالوحي إليك إلى الإسلام. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ترجع الأمور، من غير وسائط، وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين.
سبب النزول: نزول الآية (٥١) :
وَما كانَ لِبَشَرٍ.. سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال: لم ينظر موسى إلى الله تعالى.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى دلائل كمال قدرته وعلمه وحكمته ونعمته مما هو محسوس، أتبعه ببيان أنواع وحيه وكلامه إلى أنبيائه من النّعم الروحية، التي اختصّ بها الأنبياء والرّسل من سائر الناس. وأوضح أن الوحي إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن المشتمل على الشرائع التي تصلح البشر وتهديهم إلى الحق هو مثل الوحي إلى الأنبياء السابقين. وهذا الختام للسورة مشابه لما بدئت به، لينسجم البدء والختام.
التفسير والبيان:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ أي ما صحّ لبشر تكليم الله إلا بوحي يوحى، أو بسماع كلام من وراء ستار، أو بواسطة ملك. وقد نفى الله تعالى تكليم أحد من البشر إلا بأحد ثلاثة أوجه تحدث في الدنيا.
105
الأول- الوحي: وهو الإلهام والقذف بمعان تلقى في القلب يقظة في الغالب، أو في المنام، كرؤيا إبراهيم الخليل عليه السّلام ذبح ولده. وقد يطلق الوحي على الإلهام المجرد، كما أوحى إلى أم موسى.
الثاني- سماع كلام من وراء حجاب: بأن يسمعه النّبي من غير واسطة متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يرى، كما كلّم موسى عليه السلام ربّه، وسمّاه الله وحيا بقوله: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى [طه ٢٠/ ١٣]. وكان موسى قد سأل الرؤية بعد التكليم، فحجب عنها.
الثالث- إرسال رسول: وهو إرسال رسول من الملائكة إما جبريل أو غيره فيوحي ذلك الملك إلى الرّسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه، كما كان جبرئيل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام.
إن الله عليّ عن صفات المخلوقين وصفات النّقص، يفعل ما تقتضيه حكمته حكيم في كل أحكامه، فيجعل الوحي معتمدا على وسيط، أو بغير وسيط.
وهذه الأنواع الثلاثة يتيقن النّبي في كلّ منها أن الله تبارك وتعالى هو مصدر الوحي، دون أي شكّ، كما
جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي «١» أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتّقوا الله، وأجملوا في الطلب».
وقد جاء في السّنّة بيان أنواع الوحي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
روى البخاري في صحيحة عن عائشة رضي الله عنها- كما تقدّم- «أن الحارث بن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال
(١) الرّوع- بالضّم: القلب والعقل. والرّوع- بالفتح: الفزع.
106
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول.
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا»
أي يسيل عرقا.
ثم ذكر تعالى تشابه الوحي بين النّبي صلّى الله عليه وسلّم وبين الأنبياء السابقين، فقال:
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي مثلما أوحينا إلى سائر الأنبياء، أوحينا إليك هذا القرآن، الذي هو من أمر الله، وهو روح، لأنه يهتدى به، ففيه حياة سعيدة بعد موت الكفر، وكان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين، استيقظ به العرب والمسلمون من رقدتهم، وصنعوا حضارة سامقة ومجدا.
ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي ما كنت أيها النّبي قبل إنزال الوحي عليك تعرف ما القرآن، ولا معنى الإيمان، ولا تفاصيل الشرائع، ولا تهتدي إلى معالمها الصحيحة، وخصّ الإيمان، لأنه رأس الشريعة.
ولكن جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ضياء ونورا نهدي به من نشاء هدايته، وتخرجه من ظلمات الجهالة والضلال إلى الهداية والمعرفة، ونرشده إلى الدين الحق، كما قال تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصّلت ٤١/ ٤٠]، وقال سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء ١٧/ ٨٢]، وقال عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس ١٠/ ٥٧].
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ
107
وَما فِي الْأَرْضِ
أي وإنك يا محمد لتهدي بذلك النوع إلى المنهج السليم، والحق القويم، الذي هو شرع الله الذي أمر به، وطريق الله الذي له ملك السموات والأرض، وربّهما المتصرف فيهما، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه. وفي إضافة الصراط إلى اسم الجلالة تعظيم له وتفخيم لشأنه.
أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي ألا أيها الخلائق ترجع الأمور كلها يوم القيامة إلى الله تعالى، لا إلى غيره، فيحكم فيها بقضائه العدل. وهذا وعد للمتّقين المهتدين، ووعيد للظالمين الكافرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- إن مظاهر الوحي إلى الأنبياء والرّسل منحصرة في ثلاثة أنواع هي:
الأول- الإلهام المباشر والإلقاء في القلب معاني ذات دلالة عامة وصبغة تشريعية، تستقر في النفس.
الثاني- إسماع الله كلامه للنّبي من غير واسطة.
الثالث- إرسال رسول من الملائكة لتبليغ الرسالة، كإرسال جبريل عليه السّلام.
٢- فهم المعتزلة من حصر الوحي بهذه الأنواع أن رؤية الله غير جائزة في الآخرة، إذ لو صحّت رؤية الله تعالى، لصحّ من الله تعالى أن يتكلّم مع العبد حالما يراه العبد، فيكون ذلك قسما رابعا زائدا، وقد نفاه الله تعالى بقوله:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ.. إلا على هذه الأوجه الثلاثة.
والجواب أن في الآية قيدا: هو ما كان لبشر أن يكلّمه الله في الدنيا إلا على
108
هذه الأقسام الثلاثة، وزيادة هذا القيد مفهومة من السياق، ويجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآية وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة، مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣].
٣- احتجّ بهذه الآية: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا الإمام مالك والنّخعي على أن من حلف ألا يكلّم رجلا، فأرسل إليه رسولا، أنه حانث، لأن المرسل قد سمّي مكلّما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن عبد البرّ:
ومن حلف ألا يكلّم رجلا فسلّم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلّم على جماعة هو فيهم، فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلّم عليه في الصلاة، لم يحنث.
٤- الصحيح عند أهل الحق أن الملك عند ما يبلّغ الوحي إلى الرسول، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي.
والملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة.
ولا يسمى كلام الله مع إبليس من غير واسطة وحيا من الله تعالى إليه.
٥- حقيقة الوحي واحدة بالنسبة لجميع الأنبياء، ومظاهرها وأنواعها متعددة، ذكرت الآية منها هنا ثلاثة فقط.
٦- ظاهر الآية: ما كُنْتَ تَدْرِي.. يدلّ على أنه لم يكن النّبي قبل الإيحاء متّصفا بالإيمان، والصّواب أن الأنبياء معصومون قبل النّبوة من الجهل بالله وصفاته والتّشكك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان. وإنما المراد بالإيمان هنا: الشرائع والأحكام المعتمدة على الوحي الإلهي، فقد أطلق الإيمان على الصلاة في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة ٢/ ١٤٣].
109
والآية دليل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكن قبل النّبوة متعبّدا بشرع ما.
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بدّ أن يكون على دين، ولكن عين الدّين غير معلومة عندنا. وهذا وإن كان جائزا عقلا، لكن ليس عليه دليل قاطع.
قال القرطبي: والذي يقطع به أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته، ومخاطبا بكلّ شريعته، بل شريعته مستقبلة بنفسها، مفتتحة من عند الله الحاكم جلّ وعزّ. وأنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى، ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر «١»، ولا حضر حلف المطيّبين «٢»، بل نزهه الله وصانه عن ذلك «٣».
ولكنه صلّى الله عليه وسلّم حضر حلف الفضول، فقال: «شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت».
٧- لم يكن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة عالما بالقرآن، فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا بالإيمان، أي شرائع الإيمان ومعالمه، لا أصل الإيمان فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ من حين نشأ إلى حين بلوغه، كما تقدّم.
٨- إن القرآن العظيم الذي أوحى الله به إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم هو نور وهداية، يدعو ويرشد إلى دين قويم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام. والمقصود بالهداية: الدعوة إلى الدّين الحقّ وإيضاح الأدلّة.
(١) السامر: الموضع الذي يجتمعون فيه للسّمر.
(٢) حلف المطيبين: حدث حينما اجتمع بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار ابن جدعان في الجاهلية، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا على التّناصر والأخذ من المظلوم للظالم، فسمّوا المطيبين.
(٣) تفسير القرطبي: ١٦/ ٥٩.
110
والله الذي أنزله له جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبدا وخلقا وإليه مصير الخلائق جميعهم. وهذا وعيد بالبعث والجزاء، ووعد بالثواب للمؤمنين الصالحين، وتنبيه إلى أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله، والإفادة بأنه تعالى يجازي كلّ إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
٩- دلّ قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على أنه كما أن القرآن يهدي، فكذلك الرسول يهدي، أي يرشد.
111

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزخرف
مكيّة، وهي تسع وثمانون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الزخرف) لاشتمالها على وصف بعض مظاهر الحياة الدنيا ومتاعها الفاني وهو الزخرف، أي الذهب أو الزينة المزوقة ومقارنته بنعيم الآخرة الخالد في قوله تعالى:... وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ، وَزُخْرُفاً، وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [٣٤- ٣٥].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من آل حم من وجهين:
الأول- تشابه مطلع هذه السورة مع مطلع وخاتمة السورة المتقدمة في وصف القرآن الكريم، وبيان مصدره: وهو الوحي الإلهي.
الثاني- التشابه في إيراد الأدلة القاطعة على وجود الله عز وجل ووحدانيته، ووصف أحوال الآخرة ومخاوفها وأهوال النار التي يتعرض لها الكفار، ومقارنته بنعيم الجنة وإعداده للمؤمنين المتقين.
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية يتعلق بغرس أصول العقيدة
112
الإسلامية في النفوس، وهي: الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك له، والرسالة والنبوة والوحي، والبعث والجزاء.
بدأت السورة ببيان مصدر القرآن العظيم وهو الوحي الإلهي وتأكيد عربيته ومصداقيته، وجعله معجزة الإسلام والنبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة إلى يوم القيامة، وكونه أداة إنذار قريش وقبائل العرب الذين أسرفوا في متع الدنيا، وكذبوا رسولهم كتكذيب من سبقهم من الأمم.
ثم أبانت بنحو قاطع أدلة وجود الله عز وجل وقدرته ووحدانيته من خلق السموات، والأرض وتذليلها وتمهيدها وإيجاد طرقها، وإنزال الغيث النافع عليها، وخلق أصناف (أزواج) الأشياء والفلك (السفن) والأنعام لأهلها، واعتراف المشركين صراحة بأن الخالق هو الله عز وجل.
ولكنهم لوثوا ذلك الاعتراف بالوثنية والخرافة، فعبدوا الأصنام والأوثان، وزعموا أن الملائكة بنات الله، ولم يجدوا مسوغا لتدينهم الفاسد إلا تقليد الآباء والأجداد، فصححت لهم آي القرآن انحرافهم، ونعت جهلهم وسفههم بتلك العبادة الباطلة، والزعم الذي لا دليل عليه، وحذرتهم من إنزال مثل العقاب الذي أهلك به الله أمثالهم من الأمم الغابرة.
وأوردت قصص بعض الأنبياء من أولي العزم كإبراهيم الخليل وموسى وعيسى عليهم السلام ليعتبروا بها ويتعظوا بأحداثها ونتائجها. وأردفت قصة إبراهيم بتفنيد شبهة المشركين حول رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث اقترحوا إنزالها على أحد رجلين عظيمين من أهل الجاه والثراء في مكة والطائف، لا على يتيم فقير، فرد الله عليهم بأن ميزان الاصطفاء للنبوة هو مقومات أدبية خلقية إنسانية، لا مادية رخيصة، فالدنيا لا تساوي شيئا عند الله تعالى، وأنه خشية أن يكون الناس أمة واحدة على ملة الكفر، لمنحها بجميع زخارفها وأمتعتها الكفار، ومنعها المؤمنين.
113
Icon