تفسير سورة التحريم

فتح البيان
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة التحريم
وقال القرطبي : وتسمى سورة النبي صلى الله عله وسلم اثنتا عشرة آية
وهي مدنية قال القرطبي في قول الجميع قال ابن عباس : نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير نحوه.

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) المراد بالتحريم هنا الامتناع من الاستمتاع لا اعتقاد كونه حراماً بعد ما أحله الله له، فإن هذا الاعتقاد لا يصدر منه صلى الله عليه وسلم، لأنه كفر قاله الخطيب (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) استئناف أو تفسير لقوله: تحرم أو حال، والمرضاة اسم مصدر وهو الرضا، وأصله مرضوة، وهو مضاف إلى المفعول أي أن ترضي أزواجك أو إلى الفاعل، أي أن يرضين هن، والمعنى لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضي الخلق بل اللائق أن أزواجك وسائر الخلق تسعى في رضاك، وتتفرغ أنت لما يوحى إليك من ربك، قال الخطيب: وفيه تنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي، وقيل: كان ذلك ذنباً من الصغائر، فلذا عاتبه الله عليه، وقيل: إنها معاتبة على ترك الأولى، وقال النسفي: كان هذا زلة منه.
(والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة، والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، واختلف في سبب نزول هذه الآية على أقوال، الأول قول أكثر المفسرين: قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي ﷺ في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية القبطية في بيتها
205
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت فلما رأى النبي ﷺ في وجه حفصة الغيرة والكآبة، قال لها: لا تخبري عائشة، ولك علي أن لا أقربها أبداً، فأخبرت حفصة عائشة، وكانتا متصافيتين فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي ﷺ حتى حلف أن لا يقرب مارية فأنزل الله هذه السورة (١)، وبه قال المحلي، وقال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة، وذكر القصة وقال أبو السعود والنسفي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة. فقال لها اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة وكانتا متصافيتين انتهى.
" عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كانت له أمة يطؤها فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً، فأنزل الله هذه الآية " أخرجه النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه.
" وعن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب. من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال: عائشة وحفصة، وكان بدء الحديث في شأن مارية القبطية أم إبراهيم، أصابها النبي صلى الله عليه في بيت حفصة في يومها فوجدت حفصة فقالت: يا رسول الله لقد جئت إلي بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي، وفي دوري على فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ابداً؟ قالت: بلى، فحرمها وقال: لا تذكري ذلك لأحد فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله (يا أيها النبي لم تحرم) الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله ﷺ كفَّر عن يمينه وأصاب مارية " أخرجه البزار والطبراني قال السيوطي بسند صحيح.
وأخرجه ابن سعد وابن مردويه عنه بأطول من هذا وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عنه بأخصر منه، وأخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عنه
_________
(١) ضعيف الجامع - ١٧٠٤.
206
مختصراً بلفظ: قال حرم سريته، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي من هذه الطرق.
" وعن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ لحفصة لا تحدثي أحداً، وإن أم إبراهيم عليّ حرام، قالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: فوالله لا أقربها فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، فأنزل الله
207
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) "، أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع.
" وعن أبي هريرة أن سبب النزول تحريم مارية كما سلف "، أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وسنده ضعيف.
الثاني قيل: السبب أنه كان ﷺ يشرب عسلاً، وهو الذي رواه الشيخان، والتي شرب عندها هي زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا له إذا دخل عليهما: إنا نجد منك ريح مغافير فحرم العسل فنزلت هذه الآية، أخرج البخاري وغيره:
" عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها لبناً أو عسلاً فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود، فنزلت (يا أيها النبي) إلى قوله (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة، (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) لقوله: بل شربت عسلاً ".
وقيل: هي سودة كما روي:
" عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ شرب من شراب عند سودة من العسل، فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحاً فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحاً، فقال: أراه من شراب
207
شربته عند سودة، والله لا أشربه أبداً فأنزل الله هذه الآية " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي: بسند صحيح، وقيل: هي أم سلمة كما روي:
" عن عبد الله بن رافع قال: سألت أم سلمة عن هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم؟ قالت كانت عندي عكة من عسل أبيض فكان النبي ﷺ يلعق منها، وكان يحبه فقالت له عائشة نحلها تجرس عرفطاً فنزلت هذه الآية " أخرجه ابن سعد وذكره الخطيب والخازن، وقيل: هي حفصة فواطأت عائشة وسودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المغافير، فحرم العسل فنزلت الآية، قاله البيضاوي.
الثالث قيل: السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي ﷺ فالأولان سببان صحيحان لنزول الآية والجمع ممكن بوقوع القصتين، قصة مارية وقصة العسل، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً، وفي كل واحد منهما أنه أسر الحديث إلى بعض أزواجه، وأما الثالث فقال شيخنا الشوكاني: أنه ليس في ذلك إلا ما روى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
" عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية للمرأة التي وهبت نفسها للنبي ﷺ "، قال السيوطي: وسنده ضعيف، ويرد هذا أيضاً أن النبي ﷺ لم يقبل تلك الواهبة نفسها، فكيف يصح أن يقال: إنه نزل في شأنها؟ فإن من رد ما وهب له لم يصح أن يقال: أنه حرم على نفسه، وأيضاًً لا ينطبق على هذا السبب قوله: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً إلى آخر ما حكاه الله.
وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ فأخبره أنهما عائشة وحفصة ثم ذكر قصة الإيلاء كما في الحديث الطويل، فليس في هذا نفي كون السبب هو ما قدمنا من قصة العسل والسرية، لأنه إنما أخبره
208
بالمتظاهرتين، وذكر فيه أن أزواج النبي ﷺ يراجعنه وتهجره إحداهن من اليوم إلى الليل، وأن ذلك سبب الاعتزال، لا سبب نزول: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك؟ ويؤيد هذا ما قدمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا فأخبره بأنهما حفصة وعائشة وبينّ له أن السبب قصة مارية، هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية، ودفع الاختلاف في شأنه، فاشدد عليه يديك لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين.
(قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) أي شرع لكم تحليل أيمانكم، وبينّ لكم الخروج والخلاص منها بالكفارة، وقول النسفي: أو شرع لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها، وذلك أن يقول: إن شاء الله عقيبها حتى لا يحنث، وتحريم الحلال يمين عندنا انتهى، وتحلة أصلها تحللة فأدغمت وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية، فكأن اليمين عند والكفارة حل لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه، قال مقاتل: المعنى قد بينّ الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة، أمر الله نبيه ﷺ أن يكفر يمينه، ويراجع وليدته، فأعتق رقبة.
وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه ﷺ مغفور له ذكره المحلي والنسفي، قال الزجاج: وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله وهذا هو الحق، إن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره، ومعاتبته لنبيه ﷺ في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك، والبحث طويل، والمذاهب فيه كثيرة، والمقالات فيه طويلة وقد حققه الشوكاني في مؤلفاته بما يشفي، وذكر رضي الله عنه في شرحه للمنتقي خمسة عشر قولاً، واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين توجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف، وليس في الآية ما يدل على أنه يمين، لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له، ثم قال: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي
209
سبب نزول الآية حرم أولاً ثم حلف ثانياً، كما قدمنا.
عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وعنه أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت امرأتي عليّ حراماً فقال كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا (لم تحرم ما أحل الله لك)؟ قال: عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة.
" وعن عائشة قالت لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فأنزل الله (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) فأحل يمينه، وأنفق عليه " أخرجه الحرث ابن أسامة.
(والله مولاكم) أي وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم، وقيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم ذكره النسفي (وهو العليم) بما فيه صلاحكم وفلاحكم (الحكيم) في أقواله وأفعاله.
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) قال أكثر المفسرين ومنهم النسفي والمحلي والخازن: هي حفصة كما سبق، والحديث هو تحريم مارية أو العسل أو تحريم التي وهبت نفسها له، والعامل في الظرف فعل مقدر، أي واذكر إذ أسر، وقال الكلبي: أسر إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر.
" عن عائشة في الآية قالت: أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي ". وأخرج ابن عدي وأبو نعيم في الصحابة والعشاري في فضائل الصديق وابن مردويه وابن عساكر من طرق:
210
" عن علي وابن عباس قالا: والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب.
211
(وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)، قال لحفصة أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي، فإياك أن تخبري أحداً بهذا "، قال الشوكاني رحمه الله: وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، بل فيه أن الحديث الذي أسره النبي هو هذا فعلى فرض أن له إسناداً يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة، وهي مقدمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه.
(فلما نبأت به) أخبرت به غيرها ظناً منها أن لا حرج في ذلك فهو باجتهاد منها، وهي مأجورة فيه، وذلك لأن الاجتهاد جائز في عصره ﷺ على الصحيح، كما في جمع الجوامع وأصل نبأ وأنبأ وخبر وأخبر وحدث أن تتعدى لاثنين إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في هذه الآية، فقوله: (فلما نبأت به) تعدى لاثنين حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، وقوله: (فلما نبأها به) ذكرهما، وقوله: (من أنبأك هذا)؟ ذكرهما وحذف الجار.
(وأظهره الله عليه) أي أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها على لسان جبريل (عرف بعضه) أي بعض ما أخبرت به وهو تحريم مارية أو العسل قرأ الجمهور: عرف مشدداً من التعريف، ومعناه عرف حفصة بعض الحديث، وأخبرها ببعض ما كان منها، وقرىء بالتخفيف أي عرف بعض الذي فعلته حفصة واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى لقوله: (وأعرض عن بعض) ولو كان مخففاً لقال في ضده: وأنكر بعضاً، والمعنى لم يعرفها إيّاه ولم يخبرها به تكرماً منه وحياء وحسن عشرة.
قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من
211
فعل الكرام، وقيل: أعرض عن تعريف بعض ذلك كرامة أن ينتشر في الناس وقيل: الذي أعرض عنه هو حديث مارية، وقيل: هو أن أباها وأبا بكر يكونان خليفتين بعده وللمفسرين ههنا خلط وخبط وكل جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول، وقد أوضحنا ذلك من قبل.
(فلما نبأها به) أي أخبرها بما أفشت من الحديث (قالت من أنبأك هذا)؟ أي من أخبرك به (قال نبأني العليم الخبير) أي أخبرني الذي لا تخفى عليه خافية
212
(إن تتوبا) الخطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما، وجواب الشرط محذوف أي أن تتوبا (إلى الله) فهو الواجب ودل على المحذوف قوله: (فقد صغت قلوبكما) أي زاغت وأثمت ومالت عن الواجب في مخالصة رسول الله ﷺ من حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ووجد منكما ما يوجب التوبة، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو إفشاء الحديث، وقيل: المعنى فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، وقال: (قلوبكما) ولم يقل قلباكما لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد، ومجموع المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد من تمام العلقة والنسبة بينهما.
(وإن تظاهرا عليه) قرأ الجمهور بحذف إحدى التاءين، وقرىء على الأصل، وقرىء تظهر بتشديد الظاء والهاء بدون ألف، وهي سبعية والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون، والمعنى وإن تعاضدا وتعاونا بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره وقيل: كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبي ﷺ في النفقة.
(فإن الله هو) ضمير متصل ضمير منفصل (مولاه) تعليل لجواب
212
الشرط المحذوف تقديره فلا يعدم ناصراً ولا معيناً، فإن الله يتولى نصره بذاته (و) كذلك (جبريل) أيضاً وليه (وصالح المؤمنين) أي من صلح من عباده المؤمنين وقيل: من بريء من النفاق، وقيل: الصحابة، وقيل: واحد أريد به الجمع وقيل: أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ قال بريدة: أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعن ابن مسعود مثله.
" وعن أبي أمامة مرفوعاً مثله " أخرجه الحاكم.
" وعن علي بسند ضعيف قال: هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ".
" وعن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب " أخرجه ابن مردويه.
(والملائكة) على تكاثر عددهم (بعد ذلك) أي بعد نصر الله والمذكورين (ظهير) أي أعوان يظاهرونه، قال أبو علي الفارسي: قد جاء فعيل للكثرة كقوله: (ولا يسأل حميم حميماً)، قال الواحدي: وهذا من الواحد الذي يؤدي عن معنى الجمع كقوله: (وحسن أولئك رفيقاً) وقد تقرر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع، وإنما عدل عن عطف المفرد إلى عطف الجملة ليؤذن بالفرق فإن نصرة الله هي النصرة في الحقيقة، وأنه تعالى إنما ضم إليها المظاهرة بجبريل وبصالح المؤمنين وبالملائكة للتتميم، تطبيباً لقلوب المؤمنين، وتوقيراً للنبي الرسول وإظهاراً للآيات البينات، كما في يوم بدر وحنين. قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
213
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
214
(عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ) بالتخفيف والتشديد سبعيتان، أي يعطيه بدلكن (أزواجاً خيراً) أي أفضل (منكن) وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، وهو كقوله: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم) فإنه إخبار عن القدرة، وتخويف لهم، والممتنع بمقتضى الآية إنما هو تطليق الكل، فلا ينافي أنه طلق واحدة، وأنها لم تبدل، لأن التبديل إنما هو للكل، وإنما هو مرتب على تطليق الكل، وفي الخطيب قيل: كل (عسى) في القرآن واجب الوقوع إلا هذه الآية، وقيل: هي من الواجب أيضاًً، ولكن الله علمه بشرط وهو التطليق للكل، ولم يطلقهن وفي الكرخي، قال ابن عرفة: عسى هنا للتخويف لا للوجوب.
ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله: (مسلمات) أي قائمات بفرائض الإسلام إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص وقال سعيد بن جبير
214
مسلمات أي مخلصات مقرات، وقيل: معناه مسلمات لأمر الله ورسوله (مؤمنات) أي مصدقات بالله وملائكته وكتبه ورسله، والقدر خيره وشره (قانتات) مطيعات لله، والقنوت الطاعة، وقيل: مصليات بالليل، وقيل: داعيات، وقيل: طائعات.
(تائبات) يعني كثيرات التوبة من الذنوب، تاركات لها، راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله ﷺ عن الهفوات والزلات (عابدات) لله متذللات له قال الحسن وسعيد بن جبير: كثيرات العبادة (سائحات) أي صائمات قاله ابن عباس، وقال زيد بن أسلم والحسن: مهاجرات، وليس في أمة محمد ﷺ سياحة إلا الهجرة، قال ابن قتيبة والفراء وغيرهما: وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه، وقيل: المعنى ذاهبات في طاعة الله من ساح الماء إذا ذهب، وأصل السياحة الجولان في الأرض، وقيل: يسحن معه حيث ساح وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة.
(ثيبات وأبكاراً) أي بعضهن كذا وبعضهن كذا ووسط بينهما العاطف لتنافيهما دون سائر الصفات. والثيبات جمع ثيب لا ينقاس، لأنه اسم جنس مؤنث ووزنها فيعل من ثاب يثوب أي رجع، وهي المرأة التي قد تزوجت ثم ثابت عن زوجها فعادت كما كانت غير ذات زوج، وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها وهذا صح: لأنه ليس كل ثيب تعود إلى زوجها، والأبكار جمع بكر وهي العذراء سميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت عليها، عن بريدة في الآية قال: وعد الله نبيه ﷺ في هذه الآية أن يزوجه بالثيب آسية امرأة فرعون وبالبكر مريم بنت عمران. ولا يقال: أي مدح في كونهن ثيبات لأن الثيب قد تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلاً، وأسرع حبلاً غالباً، والبكر تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة وملاعبة غالباً،
215
(يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم) بفعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه أي اجعلوا لها وقاية بالتأسي به ﷺ في ترك المعاصي،
215
وفعل الطاعات (وأهليكم) من النساء والولدان، وكل من يدخل في هذا الاسم بأمرهم بطاعة الله، ونهيهم عن معاصيه، وبأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم نصحاً وتأديباً.
(ناراً وقودها الناس والحجارة) أي ناراً عظيمة، تتوقد بالناس الكفار والحجارة، كالأصنام منها، كما يتوقد قد غيرها بالحطب، وقيل: الكبريت لأنه أشد الأشياء حراً وأسرع إيقاداً، وقد تقدم بيان هذا في سورة البقرة، قال مقاتل بن سليمان: قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة وقال قتادة ومجاهد. قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم، قال ابن جرير: فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب، ومن هذا قوله: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)، وقوله: (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وعن علي بن أبي طالب في الآية قال: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، وعن ابن عباس قال: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار، وعنه قال: أدبوا أهليكم.
(عليها ملائكة) أي على النار خزنة من الملائكة يولون أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية (غلاظ) على أهل النار (شداد) عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم من غضبه، وحبب إليهم تعذيب خلقه، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال، وقيل: الغلاظ ضخام الأجسام والشداد الأقوياء، وقيل: المراد غلاظ القلوب شداد الأبدان، من غلظ القلب أي قسوته، لا من غلظ الجسم ولا من غلظ القول.
" عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف، ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحناً من لدن قرنه إلى قدمه " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد.
216
(لا يعصون الله ما أمرهم) أي لا يخالفونه في أمره وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا يعصون الله الذي أمرهم به، أو مصدرية أي لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف، أو على تقدير نزع الخافض، أي لا يعصون الله في أمره (ويفعلون ما يؤمرون) به أي يؤدونه في وقته من غير تراخ، لا يؤخرونه عنه ولا يقدمونه، وليست الجملتان في معنى واحد إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه، وقيل: الثانية تأكيد للأولى، وبه قال المحلي لأن مفادها هو مفادها، وقيل: الأولى فيما مضى، والثانية فيما يستقبل، وصرح بهذا البيضاوي، والآية تخويف للمؤمنين عن الارتداد، وللمنافقين المؤمنين بألسنتهم دون قلوبهم.
217
(يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييساً لهم وقطعاً لأطماعهم، لأنه يوم الجزاء، وقد فات زمان الاعتذار، وصار الأمر إلى ما صار (إنما تجزون ما كنتم تعملون) من الأعمال في الدنيا، ومثل هذا قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)
(يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً) قرأ الجمهور بفتح النون على الوصف للتوبة أي توبة بالغة في النصح، وقرىء بضمها أي توبة نصح لأنفسكم، ويجوز أن يكون جمع ناصح
وأن يكون مصدراً، تنصح صاحبها بترك العود إلى ما ناب عنه، وصفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب، وترك المعاودة له.
قال قتادة: التوبة النَّصوح الصادقة، وقيل: الخالصة، وقال الحسن: التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره، وقال الكلبي: التوبة النصوح الندم بالقلب والاستغفار باللسان والإقلاع بالبدن، والاطمئنان على أن لا يعود وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، وعن
217
النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح قال: أن يتوب الرجل من العمل السيء، ثم لا يعود إليه أبداً، وروي عن معاذ مرفوعاً هي أن لا يحتاج بعدها إلى توبة أخرى.
" وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود إليه أبداً (١) أخرجه أحمد وابن مردويه والبيهقي، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، والصحيح الموقوف كما أخرجه موقوفاً عليه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي وابن المنذر.
" وعن ابن مسعود قال: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، وهو في القرآن، ثم قرأ هذه الآية " (٢) أخرجه الحاكم وصححه.
وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة، وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال، وفي كل الأزمان، واختلف في معناها، وذكروا في تفسيرها ثلاثة وعشرين قولاً متقاربة المعنى لا يسعها هذا الموضع، وملاك الأمر فيها أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وهي واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها، وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب، من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي الذي لم يتب منه هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
وقد أخرج مسلم:
_________
(١) رواه أحمد.
(٢) رواه الحاكم.
218
" عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة (١).
" وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " (٢) أخرجه البخاري، وأخرجا:
" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض الفلاة "، الحديث.
" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ قال: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم.
" وعن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أخرجه الترمذي وحسنه.
(عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم) بسبب تلك التوبة (جنات تجري من تحتها الأنهار) معطوف على يكفر منصوب بناصبه، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرىء بالجزم عطفاً على محل عيسى، كأنه قال توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، وعسى وإن كان أصلها للإطماع فهي من الله واجبة تفضلاً وتكرماً لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وليس واجباً
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه البخاري.
219
عقلياً (يوم) أي يدخلكم يوم (لا يخزي الله النبي) أو منصوب باذكر (والذين آمنوا معه) أي صاحبوه في وصف الإيمان معطوف على النبي، وقيل: الموصول مبتدأ وخبره قوله: (نورهم يسعى بين أيديهم) يسعى (بأيمانهم) والأول أولى، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم.
وقد تقدم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط والمراد بأيمانهم جهاتهم كلها والتقييد بالأمام والإيمان لا ينفي أن لهم نوراً على شمائلهم، بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه، لأنهم إما من السابقين فيمشون فيما هو أمامهم، وإما من أهل اليمين فيمشون فيما هو عن أيمانهم، عن ابن عباس في الآية قال: ليس أحد من الموحدين لا يعطي نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفىء نوره، وما من مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، قال ابن مسعود: يمرون على صراط على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه ذكره السيوطي في البدور السافرة.
(يقولون) خبر ثان أو حال: (ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) هذا دعاء المؤمنين حين إطفاء الله نور المنافقين كما تقدم بيانه وتفصيله.
220
(يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف والرمح (والمنافقين) بالحجة والوعظ البليغ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في سورة براءة (واغلظ عليهم) بالانتهار والزجر، والمقت والبغض، أي شدد عليهم في الدعوة والخطاب والقتال والمحاجة باللسان، واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع، ولا تعاملهم باللين، وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود (ومأواهم جهنم) أي مصير الكفار والمنافقين إليها (وبئس الصير) أي المرجع الذي يرجعون إليه.
220
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)
221
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قد تقدم غير مرة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة تعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة، أي جعل الله مثلاً لحال هؤلاء الكفار في أنهم يعاقبون لكفرهم، وأنه لا يغني أحد عن أحد (امرأة نوح) واسمها واهلة، وقيل: والهة (وامرأة لوط) واسمها واعلة، وقيل: والعة، وهذا هو المفعول الأول، (ومثلاً) المفعول الثاني حسبما قدمنا تحقيقه، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له وإيضاح لمعناه، وترسم (امرأت) في هذه المواضع الثلاثة (وابنت) بالتاء المجرورة، ويوقف عليهم بالهاء والتاء.
(كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) وهما نوح ولوط عليهما السلام، أي كانتا في عصمة نكاحهما، وهذه جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يؤت بضميرهما فيقال: تحتهما لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة وفي ذلك مبالغة في المعنى المقصود وهو أن الإنسان لا ينفعه عادة إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى (فَخَانَتَاهُمَا) أي فوقعت منهما الخيانة لهما.
" قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط "، ورواه ابن عساكر مرفوعاً.
221
" عنه قال: مازنتا، أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط، فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما ".
وقال عكرمة والضحاك: بالكفر، وقد وقعت الأدلة الإجماعية على أنها ما زنت امرأة نبي قط، وقيل: كانت خيانتهما النفاق وقيل: خانتاهما بالنميمة.
(فلم يغنيا عنهما من الله شيئاًً) أي فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئاًً من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله، ونبوتهما شيئاًً من الدفع، وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة (وقيل) أي ويقال لهما في الآخرة أو عند موتهما:
(ادخلا النار مع الداخلين) لها من أهل الكفر والمعاصي، وقال يحيى ابن سلام: ضرب الله مثلاً للذين كفروا يحذر به عائشة، وحفصة من المخالفة لرسول الله ﷺ حين تظاهرتا عليه، وما أحسن ما قال، فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله ﷺ يرشد أتم إرشاد ويلوح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئاًً، وقد عصمهما الله سبحانه عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
222
(وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون) هي آسية بنت مزاحم قيل: إنها إسرائيلية وإنها عمة موسى، وقيل: إنها ابنة عم فرعون، وإنها من العمالقة، وكانت ذات فراسة صادقة آمنت بموسى عليه السلام فعذّبها فرعون بالأوتاد الأربعة، والكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله، أي جعل الله حال امرأة فرعون مثلاً لحال المؤمنين ترغيباً لهم في الثبات على الطاعة، والتمسك بالدين، والصبر في الشدة، وأن وصلة الكفر لا تضرهم، كما لم
222
تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم، وفيه دليل على أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان.
(إذ) ظرف لمثلاً أو لضرب (قالت رب ابن لي عندك) حال من ضمير المتكلم أو من (بيتاً) لتقدمه عليه وقوله: (في الجنة) بدل أو عطف بيان لقوله: عندك، أو متعلق بقوله: ابن، وقدم عندك هنا للإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، ومعناه بيتاً قريباً من رحمتك أو في أعلى درجات المقربين منك، أو في مكان لا يتصرف فيه إلا بإذنك وهو الجنة.
(ونجني من فرعون وعمله) أي من ذاته الخبيثة وشركه، وما يصدر عنه من أعمال الشر، وقال ابن عباس: عمله يعني جماعة، وعن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة، وعن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة اوتاد، وأضجعها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء فقال: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة إلى قوله: (ونجني من القوم الظالمين) ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته، وقبض الله روحها، قال الكلبي هم أهل مصر، وقال مقاتل: هم القبط، قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة، فهي تأكل وتشرب، وفيه دليل على أن الإستعاذة بالله والإلتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وديدن المؤمنين بيوم الدين.
223
(و) ضرب الله مثلاً للذين آمنوا (مريم ابن عمران) أي حالها وصفتها فمثل حال المؤمنين بامرأتين، كما مثل حال الكفار بامرأتين، وقيل: التقدير اذكر مريم والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامتي الدنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين (التي أحصنت) حفظت (فرجها) عن الفواحش وعن الرجال فلم يصل إليها رجل لا بنكاح ولا بزنا، والمحصنة العفيفة، وقد تقدم تفسير هذا في سورة
223
النساء، قال المفسرون: المراد بالفرج هنا الجيب لقوله: (فنفخنا فيه من روحنا) المخلوقة لنا، وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها أي طوق قميصها، فحملت بعيسى عقب النفخ، فالنفخ والحمل والوضع في ساعة واحدة، والإسناد في نفخنا مجازي، أي فأسند إلى الله من حيث أنه الخالق والموجد، وقيل المراد بالروح روح عيسى التي صار بها حياً فوصلت إلى فرجها بواسطة نفخ جبريل، وإضافة الروح إلى الله إضافة مخلوق لخالقه للتشريف.
(وصدقت بكلمات ربها) يعني بشرائعه التي شرعها الله لعباده، وقيل: المراد بالكلمات عيسى وقيل صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، قرأ الجمهور صدقت بالتشديد، وقرىء بالجمع والمراد على الأول الجنس، فيكون في معنى الجمع وهي الكتب المنزلة على الأنبياء كإبراهيم وموسى وابنها عيسى.
(وكانت من القانتين) قال قتادة من القوم المطيعين لربهم، وقال عطاء: من المصلين كانت تصلي بين المغرب والعشاء، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة، ولا كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه، وفيه إشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم، ومن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت رب ابن لي عندك الآية (١) أخرجه أحمد والطبراني والحاكم، وفي الصحيحين وغيرهما:
_________
(١) رواه أحمد.
224
" من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " (١).
_________
(١) رواه مسلم.
225
سورة الملك
وتسمى سورة تبارك والواقية والمنجية، وتدعى في التوراة (١)، المانعة، وهي ثلاثون آية، وهي مكية قال القرطبي: في قول الجميع، وعن ابن عباس قال: نزلت بمكة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له تبارك الذي بيده الملك " (٢)، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن الضريس والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب والترمذي وقال: هذا حديث حسن.
وعن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " سورة في القرآن خاصمت عن صحابها حتى أدخلته الجنة: تبارك " الآية أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه والضياء في المختارة.
وعن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي - ﷺ -
_________
(١) كيف ورد ذكرها في التوراة لا ندري؟؟ سامح الله المؤلف.
(٢) رواه أحمد؛ المسند وأصحاب السنن الأربعة بسند حسن.
227
خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي - ﷺ - فأخبره فقال رسول الله - ﷺ -: " هي المانعة هي المنجية من عذاب القبر " أخرجه الحاكم وابن مردويه وابن نصر والبيهقي في الدلائل والترمذي وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " تبارك هي المانعة من عذاب القبر " (١) أخرجه ابن مردويه والنسائي وصححه الحاكم.
وعن رافع بن خديج وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله - ﷺ - يقول: أنزلت عليّ سورة تبارك وهي ثلاثون آية جملة واحدة وهي المانعة في القبور " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به، قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن ينجيه الله من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله - ﷺ -: " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي " أخرجه عبد بن حميد في مسنده والطبراني والحاكم وابن مردويه.
_________
(١) ذكره السيوطي في الدر ٦/ ٢٤٦ من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو ضعيف.
228

بسم الله الرحمن الرحيم

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (٥)
229
Icon