تفسير سورة يوسف

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية كلها، مائة وإحدى عشرة آية وعدد كلماتها ألف وتسعمائة وست وتسعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستة وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً ﴿ الرحمن ﴾ لجميع خلقه المبين لهم طريق الهدى ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بالإبعاد عن مواطن الردى.

وقوله تعالى :
﴿ الر ﴾ تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل سورة البقرة، وقرأ ورش بالإمالة بين بين، وأبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول هذه السورة فعن سعيد بن جبير أنه قال : لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلوه على قومه فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت هذه السورة، فتلاها عليهم فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني ﴾ [ الزمر، ٢٣ ] فقالوا : لو ذكرتنا فنزل :﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ [ الحديد ١٦ ]، وعن ابن عباس أنه قال : سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فنزلت هذه السورة، وقوله تعالى :﴿ تلك ﴾ إشارة إلى آيات هذه السورة، أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هي ﴿ آيات الكتاب ﴾، أي : القرآن ﴿ المبين ﴾، أي : المبين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام المظهر للحق من الباطل الذي ثبت فيه قصص الأوّلين والآخرين، وشرحت فيه أحوال المتقدّمين.
﴿ إنا أنزلناه ﴾، أي : الكتاب ﴿ قرآناً عربياً ﴾، أي : بلغة العرب لكي يعلموا معانيه ويفهموا ما فيه. روي أنّ علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين اسألوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها، والتقدير أنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآناً عربياً، وسمي بعض القرآن قرآناً ؛ لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض ﴿ لعلكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ تعقلون ﴾، أي : إرادة أن تفهموا أو تحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم ﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته ﴾ [ يوسف، ٤٤ ]. واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية ؟ فقال أبو عبيدة : من زعم أنّ في القرآن لساناً غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية ﴿ إنا أنزلناه قرآناً عربياً ﴾ وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن.
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص ﴾، أي : أحسن الاقتصاص ؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضاً، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة ؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والمعنى : أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم : يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها ﴿ بما ﴾، أي : بسبب ما ﴿ أوحينا ﴾، أي : بإيحائنا ﴿ إليك ﴾ يا محمد ﴿ هذا القرآن ﴾ الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله ﴿ وإن كنت من قبله ﴾، أي : إيحائنا إليك أو هذا القرآن ﴿ لمن الغافلين ﴾، أي : عن قصة يوسف وإخوته ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.
وقوله تعالى :﴿ إذ قال يوسف لأبيه ﴾ بدل من ﴿ أحسن القصص ﴾ أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل : عربي، وردّ بأنه لو كان عربياً لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال : الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » وقوله ﴿ يا أبت ﴾ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون ﴿ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ﴾ قال أهل التفسير : رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل : سبع عشرة، وقيل : سبع سنين ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب ؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعاً «للكشاف » عن جابر من أنّ يهودياً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي : ، أي : والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي : إنه موضوع، وقوله :﴿ رأيتهم لي ساجدين ﴾ استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار ؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له.
وقال بعضهم : إنه لما قال : إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر قيل له : كيف رأيت ؟ قال : رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون : يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا ؟ قال الرازي : فذكر قولاً مجملاً غير مبين. فإن قيل : قوله :﴿ رأيتهم ﴾ وقوله :﴿ ساجدين ﴾ لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات ؟ أجيب : بأنها لما وصفت بالسجود صارت كأنها تعقل وأخبر عنها كما أخبر عمن يعقل كما قال تعالى في صفة الأصنام :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ [ الأعراف، ١٩٨ ] وكما في قوله تعالى :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ﴾ [ النمل، ١٨ ]. فإن قيل : لم أفرد الشمس والقمر بالذكر مع أنهما من جملة الكواكب ؟ أجيب : بأنه أفردهما لفضلهما وشرفهما على سائر الكواكب كقوله تعالى :﴿ وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة، ٩٨ ] وهل المراد بالسجود نفس السجود حقيقة أو التواضع ؟ كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على الحقيقة قال أهل التفسير : إن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف عليه السلام فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر وذلك ليعقوب فلما رأى يوسف هذه الرؤيا، وكان تأويلها أن أبويه وإخوته يخضعون له، وخاف عليه حسدهم وبغيهم.
﴿ قال ﴾ له أبوه ﴿ يا بنيّ ﴾ بصيغة التصغير للشفقة أو لصغر سنه على ما تقدّم، وقرأ حفص في الوصل بفتح الياء، والباقون بالكسر والتشديد للجميع ﴿ لا تقصص رؤياك على إخوتك ﴾، أي : لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها ﴿ فيكيدوا لك كيدا ﴾، أي : فيحتالوا في هلاكك. فإن قيل : لم لم يقل فيكيدوك كما قال فكيدوني ؟ أجيب : بأنّ هذه اللام تأكيد للصلة كقوله :﴿ للرؤيا تعبرون ﴾ [ يوسف، ٤٣ ] وكقوله : نصحتك ونصحت لك، وشكوتك وشكوت لك. وقيل صلة كقوله :﴿ لربهم يرهبون ﴾ [ الأعراف، ١٥٤ ]. ﴿ إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين ﴾، أي : ظاهر العداوة كمل فعل بآدم وحوّاء فلا يألو جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد، وعن أبي قتادة قال : كنت أرأى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحبه فلا يحدّث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به وليتفل عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم و شرّها فإنها لا تضرّه ».
وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضرّه ». وعن أبي رزين العقيلي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوّة، وهي على رجل طائر ما لم يحدّث بها فإذا حدّث بها سقطت » قال : وأحسبه قال :«ولا يحدّث بها إلا لبيباً أو حبيباً » وإنما أضيفت الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيهما، ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها، فيستحب إذا رأى الشخص في منامه ما يحب أن يحدّث به من يحب، وإذا رأى ما يكره فلا يحدّث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها، وليتفل ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الآخر فإنها لا تضرّه، فإنّ الله تعالى جعل هذه الأسباب سبباً لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سبباً لوقاية المال. قال الحكماء : إنّ الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين، قالوا : والسبب فيه أن رحمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل، وأمّا الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدّماً على ظهوره بزمن طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حضور ذلك الخير أكثر وأتم، ولهذا لم تظهر رؤيا يوسف عليه السلام إلا بعد أربعين سنة، وهو قول أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة حتى اجتمع على أبويه وإخوته وخروا له ساجدين.
﴿ وكذلك ﴾، أي : وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس ﴿ يجتبيك ﴾، أي : يختارك ويصطفيك ﴿ ربك ﴾ بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله :﴿ ويعلمك ﴾ كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك ﴿ من ﴾، أي : بعض ﴿ تأويل الأحاديث ﴾ من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين، وكان يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية، والتأويل ما تؤل إليه عاقبة الأمر ﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ بالنبوّة. قال ابن عباس : لأنّ منصب النبوّة، أي : ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب، وكل الخلق دون درجة الأنبياء، فهذا من تمام النعمة عليهم ؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة، وقيل : يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى ﴿ وعلى آل يعقوب ﴾، أي : أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال : إني رأيت أحد عشر كوكباً وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضئ بعلمهم ودينهم أهل الأرض ؛ لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدي، وذلك يقتضي أن تكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً.
فإن قيل : كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام ؟ أجيب : بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه. ﴿ كما أتمها على أبويك ﴾ بالنبوّة والرسالة، وقيل : إتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلاً، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح. ﴿ من قبل ﴾، أي : من قبل هذا الزمان وقوله :﴿ إبراهيم وإسحاق ﴾ عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله :﴿ إن ربك عليم ﴾، أي : بليغ العلم ﴿ حكيم ﴾، أي : بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.
﴿ لقد كان في ﴾ خبر ﴿ يوسف وإخوته ﴾ وهم أحد عشر ؛ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وزبلون قال البقاعي : بزاي وباء موحدة ويشجر وأمّهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد له من سريتين إحداهما زلفى، والأخرى يلقم كذا قاله البغويّ. وقال الرازي : والأخرى بلهمة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالى ؛ قال البقاعي : بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقية ولام بعدها ياء، وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوّج بأختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وقيل : جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذٍ ﴿ آيات ﴾، أي : علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء ﴿ للسائلين ﴾ عن قصصهم.
قال الرازيّ : ولمن لم يسأل عنها وهو كقوله تعالى :﴿ في أربعة أيام سواء للسائلين ﴾ [ فصلت، ١٠ ] وقيل : آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنّ اليهود سألوه عن قصة يوسف، وقيل : سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة، فعجبوا منه فكان دلالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يجالس العلماء وأصحاب الأخبار، ولم يأخذ عنهم شيئاً، فدل ذلك على أنّ ما يأتي به وحي سماوي أوحاه الله تعالى إليه وعرفه به، وهذه السورة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف عليه السلام وما حقق الله تعالى فيها من حسد إخوته وما آل إليه أمره من الملك، ومنها ما اشتمل على حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر، وقرأ ابن كثير ﴿ آية ﴾ على التوحيد، والباقون على الجمع.
﴿ إذ ﴾، أي : واذكر إذ ﴿ قالوا ﴾، أي : بعض إخوة يوسف لبعض بعد أن بلغتهم الرؤيا وقالوا : ما يرضى أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ﴿ ليوسف وأخوه ﴾، أي : بنيامين ﴿ أحب إلى أبينا منا ﴾ اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أردوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وخبر المبتدأ أحب ووحد ؛ لأن أفعل يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرّف أو لم يضف، وقيل : اللام لام قسم تقديره والله ليوسف، وإنما قالوا : وأخوه وهم جميعاً إخوته ؛ لأنّ أمّهما كانت واحدة، والواو في قولهم :﴿ ونحن عصبة ﴾ واو الحال، أي : يفضلهما في المحبة علينا وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة أقوياء نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما، والعصبة والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل : إلى الأربعين سموا بذلك ؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب ﴿ إنّ أبانا لفي ضلال ﴾، أي : خطأ ﴿ مبين ﴾، أي : بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد ؛ لأنّا في البنوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي إنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما.
تنبيه : هاهنا سؤالات : الأوّل : إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه السلام على ذلك ؟ أجيب : بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيها ولا يلحقه في ذلك لوم.
الثاني : كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به ؟ وأجيب : بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد، ثم أنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سناً وأكثر نفعاً وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه : أحدها : أنّ أمّهما ماتت، ثانيها : أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده، ثالثها : أنه وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر.
الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع : أنّ قولهم :﴿ ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ﴾ محض حسد، والحسد من أمّهات الكبائر لاسيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمورٍ مذمومة منها قولهم :﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً ﴾.
﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً ﴾، أي : بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه، ومنها إلقاؤه في ذل العبودية، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة ؟ أجيب : بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل، والباقون بالكسر، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع، وقولهم :﴿ يخل لكم وجه أبيكم ﴾ جواب الأمر، أي : يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد، وقولهم :﴿ وتكونوا ﴾ مجزوم بالعطف على يخل لكم أو منصوب بإضمار أن ﴿ من بعده ﴾، أي : قتل يوسف أو طرحه ﴿ قوماً صالحين ﴾ بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
﴿ قال قائل منهم ﴾ هو يهوذا وكان أحسنهم رأياً فيه، وهو الذي قال :﴿ فلن أبرح الأرض ﴾ [ يوسف، ٨٠ ] وقيل : روبيل وكان أكبرهم سناً ﴿ لا تقتلوا يوسف وألقوه ﴾، أي : اطرحوه ﴿ في غيابت الجب ﴾، أي : في أسفله وظلمته، والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر قال القائل :
فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، واختلف في موضع ذلك الجب، فقال قتادة : هو ببيت المقدس وقال وهب : هو بأرض الأردن. وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد ﴿ يلتقطه ﴾، أي : يأخذه ﴿ بعض السيارة ﴾ جمع سيار، أي : المبالغ في السير، وذلك الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾، أي : ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك. ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل.
ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل ﴿ قالوا ﴾ إعمالاً للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب ؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه ﴿ يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و ﴾ الحال ﴿ إنا له لناصحون ﴾، أي : قائمون بمصلحته وحفظه.
تنبيه : اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الإشمام.
﴿ أرسله معنا غداً ﴾، أي : إلى الصحراء ﴿ نرتع ﴾، أي : نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير ﴿ ونلعب ﴾ روي أنه قيل لأبي عمرو : كيف يقولون نلعب وهم أنبياء ؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجابر :«فهلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك » وأيضاً كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم ﴿ إنا ذهبنا نستبق ﴾ وإنما سموه لعبا لأنه في صورته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما، والباقون بالياء، وسكن العين أبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وكسرها الباقون في الوصل، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفاً ووصلاً ﴿ وإنا له لحافظون ﴾، أي : بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالماً. قال أبو حيان : وانتصب ﴿ غداً ﴾ على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غداً غدو فحذفت الواو انتهى.
ثم إنّ يعقوب عليه السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل : ما حكاه الله تعالى عنه بقوله :﴿ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به ﴾، أي : ذهابكم به، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب ؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والثاني : قوله :﴿ وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ﴾ بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم به، وكان يعقوب عليه السلام رأى في النوم أنّ الذئب شدّ على يوسف فكان يحذره فمن أجل هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم العلة، وفي أمثال العرب البلاء موكل بالمنطق، والمراد به الجنس، وكانت أرضهم كثيرة الذئاب.
﴿ قالوا ﴾ مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله مؤكدين لتطييب خاطره دالين على القسم بلامه ﴿ لئن أكله الذئب ونحن ﴾، أي : والحال أنَّا ﴿ عصبة ﴾، أي : جماعة عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب، وأجابوا عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط بقولهم ﴿ إنّا إذاً ﴾، أي : إذا كان هذا ﴿ لخاسرون ﴾، أي : كاملون في الخسارة ؛ لأنا إذا ضيّعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً، وأعرضوا عن جواب الأول ؛ لأن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأوّل وهو شدّة حبه له، فلما سمعوا ذلك المعنى تغافلوا عنه وأقله أن يقولوا : ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم. وقرأ الذيب ورش والسوسي والكسائي بإبدال الهمزة ياء وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً لا وصلاً، والباقون بالهمزة وقفاً ووصلاً.
وقوله تعالى :﴿ فلما ذهبوا به ﴾ فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به ﴿ وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب ﴾، أي : وعزموا على إلقائه فيها ولا بدّ من تقدير جواب، وهو فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وهنا كذلك، قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار : إن إخوة يوسف قالوا له : ما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فتصيد وتستبق ؟ قال : بلى. قالوا : فاسأل أباك أن يرسلك معنا قال يوسف : أفعل، فدخلوا جميعاً على أبيهم وقالوا : يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب : ما تقول يا بنيّ ؟ قال : نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يكره مفارقته ويحب مرضاته، فأذن له فأرسله معهم، فلما خرجوا من عند أبيهم جعلوا يحملونه على رقابهم وأبوهم ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعلوا كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به يضربه فلم ير منهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه ويا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وجعل يبكي بكاء شديداً، فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره وأراد قتله فقال له : مهلاً يا أخي لا تقتلني فقال له : يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام الكاذبة قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له : اتق الله فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة ورقة، فقال يهوذا : يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه، فجاؤوا به على بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال : يا إِخوتاه ردّوا عليّ قميصي أستتر به في الجب فقالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال : إني لم أر شيئاً فألقوه فيها، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه، فمنعهم يهوذا من ذلك وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.
﴿ وأوحينا إليه ﴾ في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام في صغرهما، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها ﴿ لتنبئنهم ﴾، أي : لتخبرنهم بعد هذا اليوم ﴿ بأمرهم ﴾، أي : بصنعهم ﴿ هذا وهم لا يشعرون ﴾، أي : أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى :﴿ فعرفهم وهم له منكرون ﴾ [ يوسف، ٥٨ ] والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة، ويصير مستولياً عليهم، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره. روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم : أكله الذئب، وقيل : لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله، وقيل : إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى ﴿ وأوحينا إلى أمّ موسى ﴾ [ القصص، ٧ ] وقوله تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ [ النحل، ٦٨ ].
﴿ و ﴾ لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل الذي فعلوه إلا الاعتذار ﴿ جاؤوا أباهم ﴾ دون يوسف ﴿ عشاءً ﴾ في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضدّ ما جاؤوا به من الاعتذار وقد قيل : لا تطلب الحاجة في الليل فإنّ الحياء في العينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار ﴿ يبكون ﴾ والبكاء جريان الدمع من العين، والآية تدل على أنه لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع، روي أنّ امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق فعند ذلك فزع يعقوب عليه السلام فقال : هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا. قال : فما فعل يوسف ؟.
﴿ { قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق ﴾ قال الزجاج : يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :«لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر » يعني بالنضل الرمي، وقيل : العدو لنتبين أينا أسرع عدواً ﴿ وتركنا يوسف ﴾ أخانا ﴿ عند متاعنا ﴾، أي : ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحو ذلك ﴿ فأكله ﴾، أي : فتسبب عن انفراده أن أكله ﴿ الذئب وما ﴾، أي : والحال أنك ما ﴿ أنت بمؤمن ﴾، أي : بمصدّق لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة ﴿ لنا ولو كنا صادقين ﴾ في هذه القصة لمحبة يوسف عندك فكيف وأنت تسيء الظنّ بنا ؟ وقيل : لا تصدّقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.
﴿ و ﴾ لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة ﴿ جاؤوا على قميصه ﴾، أي : يوسف عليه السلام ﴿ بدم كذب ﴾ قال الفراء : ، أي : مكذوب فيه إلا أنه وصفه بالمصدر على تقدير ذي كذب أو مكذوب أطلق على المصدر مبالغة ؛ لأنه غير مطابق للواقع ؛ لأنهم ادّعوا أنه دم يوسف عليه السلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوا القميص بذلك الدم. قال القاضي : ولعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم إذ يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بدّ في المعصية من أن يقترن بها الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الاتهام أقوى فلما شاهد يعقوب عليه السلام القميص صحيحاً علم كذبهم، روي أنّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص منهم، وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قميصه.
تنبيه : على قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل : وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحماله، ولا يصح أن يكون حالاً متقدّمة ؛ لأنّ حال المجرور لا يتقدّم عليه. قال الشعبي : قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك أنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال :﴿ إن كان قميصه قد من قبل ﴾ [ يوسف، ٢٦ ] ولما أتي بقميصه إلى يعقوب وألقي على وجهه ارتدّ بصيراً.
ثم ذكر تعالى أنّ إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم ﴿ قال ﴾ يعقوب عليه السلام ﴿ بل سوّلت ﴾، أي : زينت ﴿ لكم أنفسكم أمراً ﴾ ففعلتموه به، واختلف في السبب الذي عرف به كونهم كاذبين على وجوه : الأوّل : أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. الثاني : كان عالماً بأنه حيّ ؛ لأنه عليه السلام قال ليوسف :﴿ وكذلك يجتبيك ربك ﴾ [ يوسف، ٦ ] وذلك دليل على كذبهم في ذلك القول، الثالث : أنه لما رأى قميصه صحيحاً قال : كذبتم لو أكله الذئب لخرق ثوبه، وقيل : إنه لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله، اللصوص فقال : كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم وقوله :﴿ فصبرٌ جميلٌ ﴾ مرفوع بالابتداء لكونه موصوفاً، وخبره محذوف والتقدير : فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب : معناه فصبري صبر جميل. وقال الفراء : فهو صبر جميل. وعن الحسن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل ؟ فقال :«صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر كما قال يعقوب ﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ ». وقال مجاهد : فصبر جميل من غير جزع. وقال الثوري : إنّ من الصبر أن لا تحدّث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك. وروي أنّ يعقوب عليه السلام كان قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له : ما هذا ؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني ؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك أنها قالت : والله لئن حلفت لا تصدّقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل.
وقوله :﴿ فصبر جميل ﴾ يدل على أنّ الصبر على قسمين قد يكون جميلاً، وقد يكون غير جميل، فالصبر الجميل أن ينكشف له أنّ هذا البلاء، من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلي يمنعه من الاشتغال بالشكاية من البلاء ولذلك قيل : المحبة التامّة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء ؛ لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب و الخط و موصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل وأمّا الصبر لا للرضا بقضاء الله تعالى بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً. فإن قيل : الصبر على قضاء الله تعالى واجب، وأمّا الصبر على ظلم الظالمين فغير واجب، بل الواجب إزالته لاسيما في الضرر العائد إلى الغير، فلم صبر يعقوب على ذلك ولم يبالغ في البحث مع شدّة رغبته في حضور يوسف ونهاية حبه له وكان من بيت عظيم شريف وكان الناس يعرفونه ويعتقدون فيه ؟.
أجيب : بأنه يحتمل أن يكون منع من الطلب بوحي تشديداً للمحنة عليه زيادةً في أجره، أو أنه لو بالغ في البحث لربما أقدموا على إيذائه ولم يمكنوه من الطلب والفحص فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال :﴿ والله المستعان ﴾، أي : المطلوب منه العون ﴿ على ما تصفون ﴾، أي : تذكرون من أمر يوسف، والمعنى أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى ؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله :﴿ فصبر جميل ﴾ يجري مجرى قوله :﴿ إياك نعبد ﴾ [ الفاتحة، ٤ ] وقوله :﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ يجري مجرى قوله :﴿ وإياك نستعين ﴾ [ الفاتحة، ٥ ].
ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى :﴿ وجاءت سيارة ﴾ وهم القوم المسافرون سموا بذلك ؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران، أي : لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحاً فعذب حين ألقي يوسف فيه، فلما نزلوا أرسلوا رجلاً يقال له : مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى :﴿ فأرسلوا واردهم ﴾، أي : الذي يريد الماء ليستقي منه، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء ﴿ فأدلى ﴾، أي : أرسل ﴿ دلوه ﴾ في البئر يقال : أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها، والدلو معروف والجمع الدلاء فلما أرسلها تعلق بالحبل يوسف عليه السلام فلما خرج فإذا هو بغلام أحسن ما يكون قال صلى الله عليه وسلم «أعطي يوسف شطر الحسن ». ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، وكانت جدّته قد أعطيت سدس الحسن قال ابن إسحاق : ذهب يوسف وأمّه بثلثي الحسن. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرّة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله وصوّره قبل أن يصيب الخطيئة، فلما رآه مالك بن ذعر ﴿ قال يا بشرى هذا غلام ﴾ نادى البشرى بشارة لنفسه، كأنّه قال تعالى فهذا أوانك.
وعن الأعمش أنه قال : دعا امرأة اسمها بشرى فقال : يا بشرى. وعن السدي أنّ المدلي نادى صاحبه وكان اسمه بشرى فقال : يا بشرى. كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي، فإنهم قرؤوا بحذف الياء بعد الألف، والباقون بإثبات الياء. وقيل : ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك. وروي أنّ جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها واختلف في ضمير ﴿ وأسرّوه بضاعة ﴾ إلى من يعود ؟ وفيه قولان :
الأوّل : أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه بالجب، وذلك أنهم قالوا : إن قلنا للسيارة : التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول : إنّ أهلاً لنا جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.
والثاني : ونقل عن ابن عباس أنه قال : وأسرّوه يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم فلم يجده في البئر فأخبر إخوته فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا : هذا عبد لنا أبق منا وتابعهم يوسف على ذلك ؛ لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. قال الرازي : والأوّل أولى ؛ لأنّ قوله ﴿ وأسرّوه بضاعة ﴾ يدل على أنّ المراد أنهم أسرّوه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
تنبيه : البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته. قال الزجاج : وبضاعة منصوب على الحال كأنه قال : وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة ولما جعل تعالى هذا البلاء سبباً لوصوله إلى مصر، ثم صارت وقائعه إلى أن صار ملكاً بمصر، وحصل ذلك الذي رآه في النوم، فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيّره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال تعالى :﴿ والله عليم ﴾، أي : بالغ العلم ﴿ بما يعملون ﴾، أي : لم يخف عليه ما فعلوه بيوسف وأبيهم.
﴿ وشروه ﴾، أي : باعوه إذ قد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال : شريت الشيء بمعنى بعته وإنما حمل هذا الشراء على البيع ؛ لأنّ الضمير في ﴿ شروه ﴾ وفي ﴿ كانوا فيه من الزاهدين ﴾ يرجع إلى شيء واحد، وذلك أنّ إخوته زهدوا فيه فباعوه، وقيل : إنّ الضمير يعود إلى مالك بن ذعر وأصحابه، وعلى هذا يكون لفظ الشراء على بابه.
وقال محمد بن إسحاق : ربك أعلم أَإِخوته باعوه أم السيارة، واختلفوا في معنى قوله تعالى :﴿ بثمن بخس ﴾ فقال الضحاك : ، أي : حرام، لأنّ ثمن الحرّ حرام وسمي الحرام بخساً ؛ لأنه مبخوس البركة. وقال ابن مسعود : أي : زيوف، وقال عكرمة : أي : بثمن قليل، ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ دراهم معدودة ﴾ لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عداً، فإذا بلغتها وهي أوقية وزنوها، واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس : كانت عشرين درهماً فاقتسموها درهمين درهمين، وعلى هذا لم يأخذ أخوه بنيامين شقيقه منها شيئاً، وقال مجاهد : كانت اثنتين وعشرين درهماً. وقال عكرمة : أربعين درهماً. ﴿ وكانوا ﴾، أي : إخوته ﴿ فيه ﴾، أي : يوسف ﴿ من الزاهدين ﴾ لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى، ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال : زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله القلة، يقال : رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وقيل : كانوا في الثمن من الزاهدين ؛ لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه. وقيل : الضمير في ﴿ كانوا ﴾ للسيارة ؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه لا جرم باعوه بأوكس الأثمان.
روي في الأخبار أنّ مالك بن ذعر انطلق هو وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون : استوثقوا منه ؛ لأنه آبق فذهبوا به حتى أتوا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير أو اطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله تعالى العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى :﴿ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ﴾ [ غافر، ٣٤ ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين.
وقال وهب بن منبه : قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهباً وزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً، وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره حينئذ سبع عشرة سنة، وقيل : ثلاث عشرة سنة، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى :﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته ﴾ واسمها زليخا وقيل : راعيل ﴿ أكرمي مثواه ﴾ قال الرازي : اعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فاللائق بالعاقل أن يحترز من ذكرها انتهى. ولكن البغوي ذكرها وتبعه على ذلك جماعة من المفسرين واللام في امرأته متعلقة بقال لا باشتراه، والمثوى موضع الإقامة، أي : اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي : حسناً مرضياً بدليل قول يوسف :﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾ والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكية حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ساكنة في كنفنا.
قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال : سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال :﴿ عسى أن ينفعنا ﴾، أي : يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه ﴿ أو نتخذه ولدا ﴾، أي : نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد.
قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته :﴿ أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا ﴾، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى :﴿ استأجره ﴾، وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. ﴿ وكذلك ﴾، أي : وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز ﴿ مكنا ليوسف في الأرض ﴾، أي : أرض مصر. قال البقاعي : التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة، وقوله تعالى :﴿ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ﴾، أي : تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنّا، أي : لنمكنه أو الواو زائدة ﴿ والله غالب على أمره ﴾، أي : الأمر الذي يريده ؛ لأنه تعالى فعال لما يريد، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله، فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب الله أمره حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه السلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره ﴿ ولكنّ أكثر الناس ﴾ وهم الكفار ﴿ لا يعلمون ﴾ أنّ الأمر كله بيد الله تعالى، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله، وأنّ قضاء الله تعالى غالب.
ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه في الأرض اتبعه الأمر بتمام النعمة عليه بقوله تعالى :﴿ ولما بلغ أشدّه ﴾، أي : منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب : بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال : بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي : بلغ ثلاثين سنة، وقال الضحاك : عشرين سنة. وقال الكلبي : الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين، وقيل : أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء : إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. ﴿ آتيناه حكما ﴾، أي : حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكماً بين الناس ﴿ وعلماً ﴾، أي : علم تأويل الأحاديث، وقيل : المراد بالحكم النبوّة والرسالة.
وتقدّم أنّ قوله تعالى :﴿ وأوحينا ﴾ أنه وحي حقيقة. قال الرازي : فلا يبعد أن يقال : إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ﴿ وكذلك ﴾، أي : ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به ﴿ نجزي المحسنين ﴾ قال ابن عباس : يعني المؤمنين، وعنه أيضاً يعني المهتدين، وقال الضحاك : يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه السلام. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى :﴿ وراودته التي هو في بيتها ﴾، أي : امرأة العزيز راودت يوسف ﴿ عن نفسه ﴾ لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه، ويقال : إنّ زوجها كان عاجزاً، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها ﴿ وغلقت الأبواب ﴾، أي : أطبقتها وكانت سبعة، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لاسيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد ﴿ وقالت ﴾ له ﴿ هيت ﴾ أي تهيأت وتصنعت ﴿ لك ﴾ خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي : هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه، ومعناه : هلم في قول جميع أهل اللغة، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء، والباقون بالفتح قرأ وهشام بعد الهاء بهمزة ساكنة، والباقون بياء ساكنة، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها، والباقون بالفتح ﴿ قال ﴾ لها يوسف عليه السلام ﴿ معاذ الله ﴾، أي : أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه ﴿ إنه ﴾، أي : الذي اشتراني ﴿ ربي ﴾، أي : سيدي ﴿ أحسن مثواي ﴾، أي : أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل : إنه أي : الله ربي أحسن مثواي، أي : آواني ومن بلاء الجب أنجاني ﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾، أي : إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون.
﴿ ولقد همت به وهم بها ﴾، أي : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهمَّ بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهمّ قسمان : همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز، فالعبد مأخوذ به، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله عز وجل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ».
قال في «الكشاف » : ويجوز أن يريد بقوله :﴿ وهم بها ﴾ شارف أن يهم بها كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه ﴿ لولا أن رأى ﴾، أي : بعين قلبه ﴿ برهان ربه ﴾، أي : الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي : لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه عليه السلام مع أنه الذي تدلّ عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء وأنّ السجن أحب إليه من ذلك مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ الآية من مطلق الإرادة ومع ما يتحتم من تقدير ما ذكر بعد لولا في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدّر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى :﴿ إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ﴾ [ القصص، ١٠ ]، أي : لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك من تفسيرهم بها بأن حل الهيمان وجلس بها مجلس المجامع وبأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، ومن تفسير البرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمعه ثالثاً أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته، وقيل : ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله، وقيل : كل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولداً إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنا قعد لا ريش له، وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها :﴿ وإنّ عليكم لحافظين ١٠ كراماً كاتبين ﴾ [ الانفطار، ١٠، ١١ ] فلم ينصرف ثم رأى فيها :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ﴾ [ الإسراء، ٣٢ ] فلم ينته ثم رأى فيها ﴿ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ﴾ [ البقرة، ٢٨١ ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يدرك الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيز. وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي أن يرانا، فقال يوسف : استحيت مما لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من السميع العليم بذات الصدور، فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أنّ هذه الأقوال التي وردت عنهم إذا جمعت تناقضت وتكاذبت. قال الزمخشريّ : وهذا ونحوه ممن يورده أهل الجبر والحشو الذين دينهم بهت لله وأنبيائه فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبيّ من أنبياء الله تعالى فيما ذكروه وأهل العدل والتوحيد. ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل وأطال في ردّ ذلك، وكذا فعل الرازي.
وقيل : وهمّ بها، أي : بزجرها ووعظها. وقيل : همّ بها، أي : غمه امتناعه منها. وقيل : همّ بها، أي : نظر إليها وقيل : همّ بضربها ودفعها. وقيل : هذا كله قبل نبوّته، وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف عليه السلام ميل شهوة حتى نبأه الله تعالى فألقى عليه هيبة النبوّة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه ﴿ كذلك ﴾، أي : مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر ﴿ لنصرف عنه السوء ﴾، أي : الهمّ بالزنا وغيره ﴿ والفحشاء ﴾ أي : الزنا وغيره، وقيل : السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة، والفحشاء هي الزنا، فكأنه قيل : لم فعل به هذا ؟ فقيل :﴿ إنه من عبادنا ﴾، أي : الذين عظمناهم ﴿ المخلصين ﴾، أي : في عبادتنا الذين هم خير صرف لا يخالطهم غش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام بعد الخاء، والباقون بالفتح.
قال الرازي : فوروده باسم الفاعل دل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدلّ على أنّ الله تعالى استخلصه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا اللفظين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وهذا مع قول إبليس :﴿ لأغوينهم أجمعين ٣٩ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ [ الحجر : ٣٩، ٤٠ ] شهادة من إبليس أنّ يوسف عليه السلام بريء من الهمّ فمن نسبه إلى الهمّ إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، قال : ولعلهم يقولون كنا في أوّل الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا وفجرنا عليه في السفاهة كما قال الجزوري :
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغة في الامتناع بالجدّ في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال :﴿ واستبقا الباب ﴾، أي : أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فكل منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه قد كان سبقها بقوّة الرجولية وقوّة الداعية إلى الفرار إلى الله تعالى، ولكن عاقه إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه وهو ما كان من ورائه خوف فواته فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها ففتحه فأراد الخروج فمنعته ﴿ و ﴾ لم تزل تنازعه حتى ﴿ قدّت ﴾، أي : شقت ﴿ قميصه ﴾ وكان القدّ ﴿ من دبر ﴾، أي : الناحية من الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها ﴿ وألفيا ﴾، أي : وجدا ﴿ سيدها ﴾، أي : زوجها قطفير وهو العزيز تقول المرأة لبعلها : سيدي ولم يقل : سيدهما ؛ لأنّ ملك يوسف لم يصح فلم يكن سيداً له على الحقيقة ﴿ لدى ﴾، أي : عند ﴿ الباب ﴾ جالساً مع ابن عمّ المرأة. فإن قيل : كيف وحد الباب وقد جمعه في قوله :﴿ وغلقت الأبواب ﴾ ؟ أجيب :. بأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب الأحبار : أنّ يوسف لما هرب جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب فلما رأت المرأة ابن عمها هابته وخافت التهمة فسابقت يوسف بالقول و﴿ قالت ﴾ لزوجها ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾، أي : فاحشة زنا أو غيره، ثم خافت عليه أن يقتل وذلك لشدّة حبها له فقالت :﴿ إلا أن يسجن ﴾، أي : يحبس في السجن ويمنع التصرّف ﴿ أو عذاب أليم ﴾، أي : مؤلم بأن يضرب بالسياط ونحوها، وإنما بدأت بالسجن قبل العذاب ؛ لأنّ المحب لا يشتهي إيلام المحبوب، وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة، بل يقال : يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون هكذا قال في حق موسى عليه السلام في قوله :﴿ لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ﴾ [ الشعراء، ٢٩ ].
فلما سمع يوسف عليه السلام مقالتها ﴿ قال ﴾ مبرئاً نفسه ﴿ هي ﴾ بضمير الغيبة لاستحيائه بمواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب ﴿ راودتني عن نفسي ﴾، أي : طلبت مني الفاحشة فأبيت وفررت منها، وذلك أنّ يوسف عليه السلام ما كان يريد أن يذكر ذلك القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كان فيه وهو أنهما عند الباب ولو كان الطلب منه لما كان إلا في محلها الذي تجلس فيه وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه، وأيضاً هو عبد لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحال، وأيضاً أنّ المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، وأما يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى.
ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة، ويدل على أنه بريء من الريب وأنّ المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى :﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾، أي : وحكم حاكم من أهل المرأة، واختلفوا في هذا الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك : كان صبياً في المهد أنطقه الله تعالى كرامة ليوسف عليه السلام.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«تكلم في المهد أربعة وهم صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب » رواه الإمام أحمد، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ؛ عيسى بن مريم وصاحب جريج وصبيّ كان يرضع أمّه فمرّ راكب حسن الهيئة فقالت أمّه : اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله » وبهذا الاعتبار صاروا خمسة وزاد الثعلبي سادساً وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام وزاد غيره على ذلك، ولعل الحصر فيما ذكر في الحديث كان قبل العلم بالزيادة فلا تناقض وأوصلهم السيوطي إلى أحد عشر ونظمهم فقال :
تكلم في المهد النبي محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمّة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم
وقالت طائفة عظيمة من المفسرين : إنها كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال : قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدّام صاحبه ولكن ﴿ إن كان قميصه قدّ من قبل ﴾، أي : من قدام ﴿ فصدقت وهو من الكاذبين ﴾.
﴿ وإن كان قميصه قد من دبر ﴾، أي : من خلف ﴿ فكذبت وهو من الصادقين ﴾ لأنه لولا إدباره منها وإقبالها عليه لما وقع ذلك.
فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة كما قال تعالى :﴿ فلما رأى ﴾، أي : سيدها ﴿ قميصه ﴾، أي : يوسف عليه السلام ﴿ قدّمن دبر قال ﴾ لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها مؤكداً لأجل إنكارها ﴿ إنه ﴾، أي : هذا القذف له ﴿ من كيدكن ﴾ معشر النساء، والكيد طلب الإنسان بما يكره ﴿ إن كيدكن عظيم ﴾ والعظيم ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى. فإن قيل : كيف وصف كيد النساء بالعظم مع قوله تعالى :﴿ وخلق الإنسان ضعيفاً ﴾ [ النساء، ٢٨ ] وهلا كان مكر الرجال أقوى من مكر النساء ؟ أجيب : بأنّ الإنسان ضعيف بالنسبة لخلق ما هو أعظم منه كخلق السماوات والأرض وبأن كيدهنّ أدق من كيد الرجال وألطف وأخفى ؛ لأنّ الشيطان عليهنّ لنقصهنّ أقدر ومكرهنّ في هذا الباب أعظم من كيد جميع البشر ؛ لأنّ لهنّ من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب ؛ ولأنّ كيدهنّ في هذا الباب يورث العار ما لا يورثه كيد الرجال.
ولما ظهر للقوم براءة يوسف من ذلك الفعل المنكر حكى تعالى أنه قال :﴿ يوسف ﴾، أي : يا يوسف ﴿ أعرض ﴾، أي : انصرف بكليتك مجاوزاً ﴿ عن هذا ﴾ الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع وينشر بين الناس، ثم التفت إلى المرأة وقال لها :﴿ واستغفري لذنبك ﴾، أي : توبي إلى الله تعالى مما رميتي يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها ﴿ إنك كنت من الخاطئين ﴾، أي : الآثمين.
قال أبو بكر الأصم : إنّ ذلك الزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار، وقيل : إنّ القائل المذكور هو الشاهد. فإن قيل : كيف قال من الخاطئين بلفظ التذكير ؟ أجيب : بأنه قال ذلك تغليباً للذكور على الإناث أو أن المراد أنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى ذلك العرق الخبيث فيك، ثم شاع الخبر واشتهر.
﴿ وقال نسوة ﴾، أي : وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً : امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب، والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي، ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث وقوله :﴿ في المدينة ﴾، أي : مدينة مصر ظرف، أي : أشعن الحكاية في مصر أو صفة نسوة، وقيل : مدينة عين شمس. ﴿ امرأت العزيز ﴾ وإنما أضفنها إلى زوجها إرادة لإشاعة الخبر، لأنّ النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار أميل ويردن قطفير والعزيز الملك بلسان العرب ورسم امرأة بالتاء المجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء، وأما الوصل فهو بالتاء للجميع ﴿ تراود فتاها ﴾، أي : عبدها الكنعاني، يقال : فتاي وفتاتي، أي : عبدي وجاريتي ﴿ عن نفسه ﴾، أي : تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها ﴿ قد شغفها حباً ﴾، أي : شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها، وحباً نصب على التمييز، وقيل : جلدة رقيقة يقال لها : لسان القلب قال النابغة :
وقد حال همّ دون ذلك والج مكان انشغاف تبتغيه الأصابع
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الشين، والباقون بالإدغام ﴿ إنا لنراها ﴾، أي : نعلم أمرها علماً هو كالرؤية ﴿ في ضلال ﴾، أي : خطأ ﴿ مبين ﴾، أي : بين ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر بسبب حبها إياه.
﴿ فلما سمعت ﴾ زليخا ﴿ بمكرهنّ ﴾، أي : قولهن وإنما سمي ذلك مكراً لوجوه :
الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام، والنظر إلى وجهه ؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ.
الثاني : أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكراً.
الثالث : أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر ﴿ أرسلت إليهنّ ﴾ تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب : اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس ﴿ وأعتدت ﴾، أي : أعددت ﴿ لهنَّ متكأً ﴾، أي : طعاماً يقطع بالسكين، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً ؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل :
فظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئاً. وقال صلى الله عليه وسلم :«لا آكل متكئاً » وقيل : إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام ﴿ وآتت ﴾، أي : أعطت ﴿ كل واحدة منهنَّ سكيناً ﴾، أي : لتأكل بها، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين ﴿ وقالت ﴾ زليخا ليوسف عليه السلام ﴿ اخرج عليهنّ ﴾، أي : النسوة، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم ﴿ فلما رأينه ﴾، أي : النسوة ﴿ أكبرنه ﴾، أي : أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة : كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر » ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال : إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل : أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل : أمنين قال الكميت :
ولما رأته الخيل من رأس شاهق صهلن وأمنين المنيّ المدفقا
وقال الرازي : إنما أكبرنه ؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ ﴿ وقطعنّ أيديهنّ ﴾، أي : جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب : مات جماعة منهنّ ﴿ وقلن حاش لله ﴾، أي : تنزيهاً، له الرسم بغير ألف بعد الشين.
وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً ﴿ ما هذا ﴾، أي : يوسف عليه السلام ﴿ بشراً ﴾ وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى ﴿ ما هنّ أمّهاتهم ﴾ [ المجادلة، ٢ ] ﴿ إن ﴾، أي : ما ﴿ هذا إلا ملك كريم ﴾، أي : على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
﴿ قالت ﴾، أي : زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته ﴿ فذلكن ﴾، أي : فهذا هو ﴿ الذي لمتنني فيه ﴾، أي : في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت :﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾، أي : فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك ؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت :﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ﴾، أي : وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه ﴿ ليسجنن ﴾، أي : ليعاقبن بالحبس ﴿ وليكونا من الصاغرين ﴾، أي : الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف : أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك.
﴿ قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ﴾ وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظراً إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل : إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعاً ؟ أجيب : بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل : إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له :«سألت الله البلاء فاسأله العافية » رواه الترمذي ﴿ وإلا ﴾، أي : وإن لم ﴿ تصرف عني كيدهنّ ﴾، أي : فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة ﴿ أصب ﴾، أي : أمل ﴿ إليهنّ ﴾ يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه ﴿ وأكن ﴾، أي : أصر ﴿ من الجاهلين ﴾، أي : من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى :﴿ فاستجاب له ربه ﴾.
﴿ فاستجاب له ربه ﴾، أي : فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء ؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل :
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاك من تعرّضه الثناء
﴿ فصرف عنه كيدهن ﴾، أي : فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان ﴿ إنه هو السميع ﴾، أي : لدعاء الملتجئين إليه ﴿ العليم ﴾، أي : للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.
﴿ ثم بدا ﴾، أي : ظهر ﴿ لهم ﴾، أي : العزيز وأصحابه ﴿ من بعد ما رأوا الآيات ﴾، أي : الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ ﴿ ليسجننه حتى ﴾، أي : إلى ﴿ حين ﴾ ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه : في فاعل بدا أربعة أوجه : أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي : ظهر لهم حبسه. والثاني : أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي : بدا لهم بداء. والثالث : أنه مضمر يدل عليه السياق، أي : بدا لهم رأي. والرابع : أنه محذوف وليسجننه قائم مقامه، أي : بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلاً ؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل : الحبس هنا خمس سنين، وقيل : سبع سنين.
وقال مقاتل بن سليمان : حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي : والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجوناً مدّة طويلة لقوله تعالى :﴿ وادّكر بعد أمة ﴾ [ يوسف، ٤٥ ] وعن عكرمة قال : قال رجل ذو رأي للعزيز : متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن.
﴿ ودخل معه السجن فتيان ﴾ وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي : لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز : لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز : كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام : دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله : إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود : وما رأيا شيئاً وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم : بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف : قصا عليّ ما رأيتما ﴿ قال أحدهما ﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿ إني أراني أعصر خمراً ﴾. فإني قيل : كيف يعقل عصر الخمر ؟ أجيب : عن ذلك بثلاثة أقوال :
أحدها : أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي : العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف.
الثاني : إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول : فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً.
الثالث : قال أبو صالح : أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك : نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال : إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه ﴿ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه ﴾ وذلك أنه قال : رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الطعام وسباع الطير تنهش منه ﴿ نبئنا ﴾، أي : أخبرنا ﴿ بتأويله ﴾، أي : بتفسيره ﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾، أي : في علم التفسير ؛ لأنه متى عبر لم يخطئ كما قال :﴿ وعلمتني من تأويل الأحاديث ﴾ [ يوسف، ١٠١ ] وقيل : في أمر الدين ؛ لأنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة، فإنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كله، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور، وقيل : في حق الشركاء والأصحاب ؛ لأنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم، وإذا ضاق على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئاً، قيل : إنه لما دخل السجن وجد قوماً اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول : اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف بن صفيّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن : والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا : لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما.
﴿ قال ﴾ معرضاً عن سؤالهما أخذاً في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد ﴿ لا يأتيكما طعام ترزقانه ﴾، أي : في منامكما ﴿ إلا نبأتكما بتأويله ﴾، أي : في اليقظة ﴿ قبل أن يأتيكما ﴾ تأويله، وقيل : أراد به في اليقظة، يقول : لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليه السلام حيث قال :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ [ آل عمران، ٤٩ ] فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم ؟ فقال : ما أنا بكاهن ﴿ ذلكما ﴾، أي : هذا التأويل والإخبار بالمغيبات ﴿ مما علمني ربي ﴾ وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله ﴿ إني تركت ملة ﴾، أي : دين ﴿ قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد.
ولما ادعى يوسف عليه السلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله :﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل.
فإن قيل : إنه كان نبياً فكيف قال : اتبعت ملة آبائي، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه ؟ أجيب : بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير، أو لعله كان رسولاً من عند الله تعالى إلا أنه كان نبي على شريعة إبراهيم عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء آبائي، والباقون بالفتح ﴿ ما كان ﴾، أي : ما صح ﴿ لنا ﴾ معشر الأنبياء ﴿ أن نشرك بالله من شيء ﴾ لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى :﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد ﴾ [ مريم، ٣٥ ] وإنما قال : من شيء لأنّ ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله : من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله ﴿ ذلك ﴾، أي : التوحيد ﴿ من فضل الله علينا ﴾ بالوحي ﴿ وعلى الناس ﴾، أي : سائرهم ببعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه ﴿ ولكنّ أكثر الناس ﴾، أي : المبعوث إليهم ﴿ لا يشكرون ﴾ هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم ؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره.
ثم دعاهم إلى الإيمان فقال :﴿ يا صاحبي السجن ﴾، أي : يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة : أصحاب الجنة، ولسكان النار : أصحاب النار ﴿ أأرباب ﴾، أي : آلهة ﴿ متفرقون ﴾، أي : متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك ﴿ خير ﴾، أي : أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة ﴿ أم الله الواحد القهار ﴾، أي : المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في ﴿ أأرباب ﴾ من القراءات ما في ﴿ أأنذرتهم ﴾ وقد مرّ.
فإن قيل : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال : إنها خير أم الله ؟ أجيب : بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم بين عجز الأصنام فقال :﴿ ما تعبدون ﴾ وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة ؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله :﴿ من دونه ﴾، أي : الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك ﴿ إلا أسماء ﴾ وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله ﴿ سميتموها ﴾، أي : ذوات أوجدتم لها أسماء ﴿ أنتم ﴾ سميتموها آلهة وأرباباً، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها ﴿ وآباؤكم ﴾ من قبلكم سموها كذلك ﴿ ما أنزل الله بها ﴾، أي : بعبادتها ﴿ من سلطان ﴾، أي : حجة وبرهان ﴿ إن الحكم ﴾، أي : ما الحكم ﴿ إلا لله ﴾، أي : المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة ﴿ أمر ﴾ وهو النافذ الأمر المطاع الحكم ﴿ أن لا تعبدوا إلا إياه ﴾ ؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديراً بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهاً على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال :﴿ ذلك ﴾، أي : الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه ﴿ الدين القيم ﴾، أي : المستقيم الذي لا عوج فيه ﴿ ولكنَّ أكثر الناس ﴾ وهم الكفار ﴿ لا يعلمون ﴾ ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون.
ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال :﴿ يا صاحبي السجن ﴾، أي : الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال :﴿ أمّا أحدكما ﴾ وهو صاحب شراب الملك ﴿ فيسقي ربه ﴾، أي : سيده ﴿ خمراً ﴾ على عادته، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه ﴿ وأمّا الآخر ﴾ وهو صاحب طعام الملك ﴿ فيصلب ﴾ والسلال الثلاثة ثلاثة أيام، ويدعو به الملك فيصلبه ﴿ فتأكل الطير من رأسه ﴾ هذا تأويل رؤياه، قال ابن مسعود : فلما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا : ما رأينا شيئاً إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف عليه السلام ﴿ قضي ﴾، أي : تم ﴿ الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾، أي : تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط.
﴿ وقال ﴾ يوسف عليه السلام ﴿ للذي ظنّ ﴾، أي : علم وتحقق، فالظنّ بمعنى العلم ؛ لأنه قاله عن وحي لقوله ﴿ قضي الأمر ﴾ ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي، فهو حينئذ على بابه ﴿ أنه ناجٍ منهما ﴾ وهو الساقي ﴿ اذكرني عند ربك ﴾، أي : سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله :﴿ أأرباب متفرقون ﴾ فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليه السلام، واختلف في ضمير ﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه ﴾ على قولين :
أحدهما : أنه يعود إلى الساقي، وهو قول جماعة من المفسرين، أي : فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا : لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.
والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أنه يرجع إلى يوسف عليه السلام. وقال الرازي : إنه الحق، أي : أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت له عليه السلام، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فهذا وإن كان جائزاً لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، فلهذا صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليه السلام كان مبرأً مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
فإن قيل : كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه ؟ أجيب : بأنّ ذلك إنما كان شغل خاطر، وأمّا النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه، واختلف في قدر البضع في قوله تعالى :﴿ فلبث في السجن بضع سنين ﴾ فقال مجاهد : ما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن عباس : ما دون العشرة. وقال البغوي : وأكثر المفسرين أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين، فجملته اثنتا عشرة سنة، وقال وهب : أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي :﴿ اذكرني عند ربك ﴾، قيل له : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف وقال : يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمة، قال الحسن : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث » ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا بلاء فزعنا إلى الناس، ذكره الثعلبي مرسلاً وبغير سند. وقال الحسن أيضاً : دخل جبريل على يوسف عليهما السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له : يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين. فقال له جبريل : يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك : أما استحييت مني واستشفعت للآدميين فوعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف : وهو في ذلك عني راض ؟ قال : نعم. قال : إذاً لا أبالي. وقال كعب : قال جبريل ليوسف : إنّ الله تعالى يقول لك : من خلقك ؟ قال : الله. قال : فمن علمك تأويل الرؤيا ؟ قال : الله. قال : فمن حببك إلى أبيك ؟ قال : الله. قال : فمن أنجاك من كرب البئر ؟ قال : الله تعالى. قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء ؟ قال : الله. قال : فكيف استشفعت بآدمي مثلك ؟ !.
قال محمد بن عمر الرازيّ في تفسيره : والذي جربته من أوّل عمري إلى آخره أنّ الإنسان كلما عوّل في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سبباً للبلاء والمحنة والشدّة والرزية، وإذا عول على الله تعالى ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرّت لي من أوّل عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت إلى السابع والخمسين، فعند ذلك استقرّ قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه.
ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الأكبر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة، كما قال تعالى :
﴿ وقال الملك إني أرى ﴾، أي : رأيت عبر بالمضارع حكاية للحال لشدّة ما هاله من ذلك ﴿ سبع بقرات سمان ﴾، أي : خرجن من نهر يابس، والسمن زيادة البدن من الشحم واللحم وسمان جمع سمينة، ويجمع سمين أيضاً عليه يقال : رجال سمان ونساء سمان كما يقال : رجال كرام ونساء كرام ﴿ يأكلهنّ ﴾، أي : يبتلعهنّ ﴿ سبع ﴾، أي : من البقر ﴿ عجاف ﴾ جمع عجفاء، أي : مهازيل خرجن من ذلك النهر.
تنبيه : جمع عجفاء على عجاف، والقياس عجف نحو حمراء وحمر حملاً له على سمان ؛ لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض ﴿ و ﴾ إني أرى ﴿ سبع سنبلات خضر ﴾، أي : قد انعقد حبها ﴿ و ﴾ إني أرى سبع سنبلات ﴿ أخر يابسات ﴾، أي : قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها وإنما استغنى عن بيان حالها بما نص من حال البقرات، والسنبلة نبات كالقصبة فيها جملة حبوب منتظمة، فكأنه قيل : فكان ماذا ؟ فقيل : قال الملك بعد أن جمع السحرة والكهنة والمعبرين ﴿ يا أيها الملأ ﴾، أي : الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مآثرهم ﴿ أفتوني في رؤياي ﴾، أي : أخبروني بتأويلها ﴿ إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾، أي : إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا فاعبروها.
تنبيه : اللام في ﴿ للرؤيا ﴾ مزيدة فلا تعلق لها بشيء، وزيدت لتقدّم المعمول تقويةً للعامل كما زيدت إذا كان العامل فرعاً كقوله تعالى :﴿ فعال لما يريد ﴾ [ البروج، ١٦ ] ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة، وقيل : ضمن تعبرون معنى ما يتعدّى باللام تقديره : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وقيل : متعلقة بمحذوف على أنها للبيان كقوله تعالى :﴿ وكانوا فيه من الزاهدين ﴾ [ يوسف، ٢٠ ] تقديره : أعني فيه، وكذلك هذا تقديره : أعني للرؤيا، وعلى هذا يكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها، وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم فكأنه قيل : فما قالوا ؟.
فقيل :﴿ قالوا ﴾ هذه الرؤيا ﴿ أضغاث ﴾، أي : أخلاط ﴿ أحلام ﴾ مختلطة مختلفة مشتبهة جمع ضغث بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهي قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، والأحلام جمع حلم بضم الحاء وإسكان اللام وضمها، وهو الرؤيا فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً لكونه من حديث النفس ووسوسة الشيطان لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها ؛ لأنّ الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحزين الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس، ثم قالوا :﴿ وما نحن ﴾، أي : بأجمعنا ﴿ بتأويل الأحلام ﴾، أي : المنامات الباطلة ﴿ بعالمين ﴾، أي : ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدّمة ثانية للعذر.
ولما سأل الملك عن هذه الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف عليه السلام ؛ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم كما قال تعالى :﴿ وقال الذي نجا ﴾، أي : خلص ﴿ منهما ﴾، أي : من صاحبي السجن وهو الشرابي إنّ في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في كل ما ذكر وما أخطأ في حرف، فكانت هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام، ولم يتذكر الشرابي إلا بعد طول المدّة كما قال تعالى :﴿ وادّكر ﴾ بالدال المهملة، أي : طلب الذكر بالذال المعجمة وزنه افتعل ﴿ بعد أمّة ﴾، أي : وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي : مدّة طويلة، والجملة اعتراض ومقول القول ﴿ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ﴾، أي : إلى يوسف عليه السلام فإنه أعلم الناس فأرسلوه إليه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولم يكن السجن بالمدينة فأتاه.
فقال الساقي المرسل إليه منادياً له نداء القرب تحبباً إليه :﴿ يوسف ﴾ وزاد في التحبب بقوله ﴿ أيها الصدّيق ﴾، أي : البليغ في الصدق والتصديق ؛ لأنه جرّب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وهذا يدل على أنّ من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال يعني اللفظ الذي ذكره الملك فقال :﴿ أفتنا ﴾، أي : اذكر لنا الحكم ﴿ في سبع بقرات سمان ﴾، أي : رآهنّ الملك ﴿ يأكلهنّ سبع ﴾ من البقر ﴿ عجاف و ﴾ في ﴿ سبع سنبلات ﴾ جمع سنبلة وهي مجمع الحب من الزرع ﴿ خضر و ﴾ في سبع ﴿ أخر ﴾ من السنابل ﴿ يابسات ﴾، أي : في رؤيا ذلك، ونعم ما فعل من ذكر السؤال بعين اللفظ، فإنّ نفس الرؤيا قد تختلف بحسب اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في ذلك العلم ثم قال :﴿ لعلي أرجع إلى الناس ﴾، أي : إلى الملك وجماعته بفتواك قبل مانع يمنعني ﴿ لعلهم يرجعون ﴾، أي : بتأويل هذه الرؤيا، وقيل : بمنزلتك في العلم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء، والباقون بالسكون.
﴿ قال ﴾ يوسف عليه السلام معبراً لتلك الرؤيا : أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، وأمّا البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله ﴿ تزرعون سبع سنين ﴾ وهو خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ [ البقرة، ٢٢٨ ] ﴿ والوالدات يرضعن ﴾ [ البقرة، ٢٣٣ ] وإنما خرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله :﴿ فذروه في سنبله ﴾ وقوله :﴿ دأباً ﴾ نصب على الحال، أي : دائبين، أي : سبع سنين متتابعة على عادتكم في الزراعة، والدأب العادة، وقيل : ازرعوا بجد واجتهاد، وهذا تأويل السبع السمان والسنبلات الخضر. وقرأ حفص بفتح الهمزة، وسكنها الباقون، وأبدلها السوسي ألفا وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً فقط. ﴿ فما حصدتم فذروه ﴾، أي : اتركوه ﴿ في سنبله ﴾ لئلا يفسد ولا يقع فيه السوس، وذلك أبقى له على طول الزمان ﴿ إلا قليلاً مما تأكلون ﴾، أي : ادرسوا قليلاً من الحنطة للأكل بقدر الحاجة.
أمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضاً، وهو وقت السنين المجدبة كما قال :﴿ ثم يأتي من بعد ذلك ﴾، أي : السبع المخصبات ﴿ سبع شداد ﴾، أي : مجدبات صعاب وهي تأويل السبع العجاف والسنبلات اليابسات ﴿ يأكلن ما قدّمتم لهنّ ﴾، أي : يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقاً بين المعبر وهو يأكلهنّ سبع عجاف والمعبر به وهو يأكلن ما قدّمتم لهنّ ﴿ إلا قليلاً مما تحصنون ﴾، أي : تحرزون وتدّخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع.
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك ﴾، أي : السبع المجدبات ﴿ عام فيه يغاث الناس ﴾، أي : يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل : ينقذون من قول العرب استغثت فأغاثني ﴿ وفيه يعصرون ﴾ من العنب خمراً، ومن الزيتون زيتاً، ومن السمسم دهناً، وأراد بذلك كثرة النعم والخير. وقال أبو عبيدة : ينجون من الكرب والشدّة والجدب. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ؛ لأنّ الكلام كله مع الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ردّاً إلى الناس. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه.
﴿ وقال الملك ﴾، أي : الذي العزيز في خدمته ﴿ ائتوني به ﴾ لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية ؟ فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك ﴿ فلما جاءه ﴾، أي : يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان ﴿ الرسول ﴾ بذلك وهو الساقي وقال له : أجب الملك ﴿ قال ﴾ له يوسف عليه السلام ﴿ ارجع إلى ربك ﴾، أي : سيدك الملك، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال :﴿ فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ ﴾ وإنما قال يوسف عليه السلام : فاسأله ما بال النسوة، ولم يقل : فاسأله أن يفتش عن حالهنّ ؛ لأنّ قوله : فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي : اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال : سله أن يفتش، أي : اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لاسيما الملوك.
وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته ؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة ». وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع لا أنه صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً، وقوله :«والله يغفر له » مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله :«إن كان لحليماً » إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل : هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ﴿ إنّ ربي ﴾، أي : الله ﴿ بكيدهنّ عليم ﴾ حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل : المراد بربي الملك، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ.
ولما قال يوسف عليه السلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه السلام فكأنه قيل : فما فعل الملك ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ للنسوة بعد أن جمعهنّ وامرأة العزيز معهنّ ﴿ ما خطبكنّ ﴾، أي : ما شأنكنّ العظيم وقوله :﴿ إذ راودتنّ ﴾، أي : خادعتنّ ﴿ يوسف عن نفسه ﴾ دليل على أنّ براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، وإنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها، وقيل : إنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهنّ فكأنه قيل فما قلن ؟ قيل :﴿ قلن حاش لله ﴾، أي : عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر ﴿ ما علمنا عليه ﴾، أي : يوسف عليه السلام وأغرقن في النفي فقلن ﴿ من سوء ﴾، أي : من خيانة في شيء من الأشياء، ولما أنّ يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال :﴿ ما بال النسوة اللاتي قطعنّ أيديهنّ ﴾ [ يوسف، ٥٠ ] فذكرهنّ ولم يذكر تلك المرأة البتة وعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عنها أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء فلذلك ﴿ قالت امرأت العزيز ﴾ مصرحة بحقيقة الحال ﴿ الآن حصحص الحق ﴾، أي : ظهر وتبين ﴿ أنا راودته ﴾، أي : خادعته ﴿ عن نفسه ﴾ وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدّم ﴿ وإنه لمن الصادقين ﴾، أي : الغريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ، وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين.
قال الرازي : رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصداقها في دعواها. فقالت المرأة : لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك.
ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال :﴿ ذلك ﴾، أي : الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق ﴿ ليعلم ﴾ العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علماً مؤكداً ﴿ أني لم أخنه ﴾، أي : في أهله ولا في غيرها ﴿ بالغيب ﴾، أي : والحال أنّ كلاً منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام، قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى :﴿ إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ﴾ [ النمل، ٣٤ ] هذا كلام بلقيس، ثم قال الله تعالى :﴿ وكذلك يفعلون ﴾ [ النمل، ٣٤ ] وقوله تعالى :﴿ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ﴾ [ آل عمران، ٩ ] كلام الداعي ثم قال الله تعالى :﴿ إنّ الله لا يخلف الميعاد ﴾ ثم ختم الكلام بقوله :﴿ وأنّ الله لا يهدي ﴾، أي : يسدّد وينجح بوجه من الوجوه ﴿ كيد الخائنين ﴾، أي : ولو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه.
وقيل : إنه كلام امرأة العزيز، والمعنى : أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته، أي : لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت :﴿ وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت، وإنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه. واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليه السلام من وجوه كثير :
الأوّل : قولها :﴿ أنا راودته عن نفسه ﴾.
والثاني : قولها :﴿ وإنه لمن الصادقين ﴾ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ [ يوسف، ٢٦ ].
والثالث : قول يوسف عليه السلام :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليه السلام : ولا حين هممت. قال الرازي : وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، أي : وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن.
ورابعها : أنّ إقدامه على قوله ﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء ؟ فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية.
واختلفوا في تفسير قوله :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ لأنّ ذلك يختلف باختلاف ما قبله ؛ لأنّ قوله :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ إن كان من كلام يوسف عليه السلام، وقد مرّ أنه قول الأكثرين فهو أيضاً كلامه، وإن كان من كلام المرأة، فهذا أيضاً كلامها، فعلى الأوّل قد تمسك به الحشوية، وقالوا : إنه عليه السلام لما قال :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ قال له جبريل : ولا حين حللت تكة سراويلك فعند ذلك قال يوسف عليه السلام ﴿ وما أبرئ نفسي ﴾. ﴿ إنّ النفس لأمّارة بالسوء ﴾، أي : بالزنا ﴿ إلا ما رحم ﴾، أي : عصم منه ﴿ ربي إنّ ربي غفور ﴾، أي : للهم الذي هممته ﴿ رحيم ﴾، أي : لو فعلته لتاب عليّ، وهذا ضعيف كما قاله الرازي لما تقدّم أنّ الآية المتقدّمة برهان قاطع على براءته من الذنب، وإنما قال ذلك عليه السلام ؛ لأنه لما قال :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقد قال تعالى :﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ [ النجم، ٣٢ ] فاستدرك ذلك على نفسه بقوله :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ والمعنى : وما أزكي نفسي ﴿ إنّ النفس لأمارة بالسوء ﴾ ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
وعلى الثاني أنها لما قالت :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ قالت :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ من الخيانة مطلقاً، فإني قد خنته حي أحلت الذنب عليه وقلت :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن ﴾ وأودعته في الحبس، كأنها أرادت الاعتذار مما كان.
واختلف في قوله :﴿ وقال الملك ﴾ فمنهم من قال : هو العزيز، ومنهم من قال : هو الريان الذي هو الملك الأكبر. قال الرازي : وهذا هو الأظهر لوجهين :
الأوّل : أنّ قول يوسف ﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ يدل عليه.
الثاني : قوله ﴿ أستخلصه لنفسي ﴾ يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى. وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه السلام، ولو كان الكل من كلامها لاستغني بالضمير، ولم يحتج إلى إبرازه ﴿ ائتوني به استخلصه لنفسي ﴾، أي : أجعله خالصاً لي دون شريك. قال ابن عباس : فأتاه الرسول فقال له : ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثياباً جدداً، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، واغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم أتى الملك فلما رآه غلاماً حدثاً فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة ؟ ثم أقعده قدّامه وقال له : لا تخف وألبسه طوقاً من ذهب وثياباً من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وروي أنّ جبريل عليه السلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال : قل : اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً، وارزقني من حيث لا أحتسب، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه بالعربية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان آبائي، قال وهب : كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليه السلام وزاد بالعربية والعبرانية ﴿ فلما كلمه ﴾، أي : كلم الملك يوسف عليه السلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال : إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً، فأجابه بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك.
﴿ قال ﴾ له ﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾، أي : ذو مكانة وأمانة على أمرنا فما ترى أيها الصديق ؟ ﴿ قال ﴾ أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنين المجدبة بعنا الغلال فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل ؟ فقال يوسف :﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾.
﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض أرض مصر، أي : خزائن أرضك مصر، وقال الربيع بن أنس : أي : خرج مصر ودخله.
وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :«رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك ». قال الرازي : وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه. ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى، ثم قال :﴿ إني حفيظ عليم ﴾، أي : ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل : كاتب وحاسب. فإن قيل : لم طلب يوسف عليه السلام الإمارة والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة :«لا تسأل الإمارة ». ولم طلب الإمارة من سلطان كافر، ولم لم يصبر مدّة، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى :﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ [ النجم، ٣٢ ] ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى :﴿ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً ٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾ [ الكهف : ٢٣، ٢٤ ] فهذه سبعة أسئلة ؟.
أجيب عنها : بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان. وإنما كان ذلك واجباً عليه لوجوه :
الأوّل : أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان.
والثاني : أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق.
والثالث : أن السعي أيضاً في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول، فكان مكلفاً عليه السلام برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما مدح نفسه ؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، وأيضاً مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى ﴿ فلا تزكوا أنفسكم ﴾ [ النجم، ٣٢ ] المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿ هو أعلم بمن اتقى ﴾ [ النجم، ٣٢ ] أمّا إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه، وإنما ترك الاستثناء ؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي، فلهذا المعنى ترك الاستثناء.
ولما سأل يوسف عليه السلام ما تقدم قال معلماً بأنه قد أجيب بتنجيز الله تعالى له :﴿ وكذلك ﴾، أي : كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن ﴿ مكنا ليوسف في الأرض ﴾، أي : أرض مصر ﴿ يتبوّأ ﴾، أي : ينزل ﴿ منها حيث يشاء ﴾ بعد الضيق والحبس قال ابن عباس وغيره : ولما انقضت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوجه وجعل خاتم الملك في إصبعه وقلده سيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشاً، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشدّ به ملكك، وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وأمره أن يخرج فخرج لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق : قال ابن زيد : وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما كنت تريدين ؟ قالت : أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عليه السلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدواب في السنة الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة، ثم بأولادهم في السنة السادسة، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبداً له، فقال الناس : ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق عبيداً له، فلما سمع ذلك قال : إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع أحداً ممن يطلب الطعام أكثر من حمل بعير ؛ لئلا يضيق الطعام على الباقين هذا ملخص ما قاله البغوي والزمخشري وغيرهما.
قال الرازي : والله أعلم بحقيقة الحال وروي أنّ يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : إن شبعت نسيت الجائع، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غداءه نصف النهار. أراد بذلك أن يذيق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين قال البغوي : فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار.
قال الله تعالى :﴿ نصيب ﴾، أي : نخص ﴿ برحمتنا من نشاء ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ بل نؤتيهم أجورهم عاجلاً ؛ وآجلاً لأنّ إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى فالإضاعة ممتنعة.
﴿ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ الشرك والفواحش، قال الرازي : وهذا تنصيص من الله تعالى على أنّ يوسف عليه السلام كان في الزمان السابق من المتقين وليس هاهنا زمان سابق يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله تعالى فيه :﴿ ولقد همت به وهمّ بها ﴾ فكان هذا من الله تعالى شهادة بأنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله :﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ شهادة من الله تعالى على أنه كان من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأنّ يوسف كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول : إنه كان من المذنبين ولا شك أن من لم يقبل قول الله تعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين.
ولما اشتدّ القحط وعظم البلاء عم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام وأرض كنعان، وقصد الناس مصر من كل مكان للميرة، فجعل يوسف عليه السلام لا يعطي أحداً أكثر من حمل بعير وإن كان عظيماً تقسيطاً بين الناس. وتزاحم الناس عليه، ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدّة، فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه فذلك قوله تعالى :﴿ وجاء إخوة يوسف ﴾ وكانوا عشرة وكان منزلهم بالعربات من أرض فلسطين ثغور الشأم وكانوا أهل إبل وشياه، فدعاهم أبوهم يعقوب عليه السلام، وقال : بلغني أن بمصر ملكاً صالحاً يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون من الطعام.
وهاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين، فقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو بتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق. ولما أمرهم أبوهم بذلك خرجوا حتى قدموا مصر ﴿ فدخلوا عليه فعرفهم ﴾ قال ابن عباس : بأوّل نظرة إليهم عرفهم. وقال الحسن : لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه. ﴿ وهم له منكرون ﴾، أي : لم يعرفوه وذلك لوجوه : الأوّل : أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بواسطة، الثاني : أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً، ثم أنهم رأوه بعد وفور اللحية وكبر الجثة، قال ابن عباس : وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه، وقال عطاء : إنما لم يعرفوه ؛ لأنه كان على سرير الملك، وكان بزيّ ملوك مصر عليه ثياب حرير، وفي عنقه طوق ذهب.
ثم إنّ يوسف عليه السلام أمر بإنزالهم وإكرامهم وكانت عادته أن لا يزيد أحداً على حمل بعير، وكانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال كما قال تعالى :﴿ ولما جهزهم بجهازهم ﴾، أي : وفاهم كيلهم. والجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها، فقالوا : إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنّ أباهم لأجل سنه وشدّة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم في خدمة أبيه ولا بدّ لهما أيضاً من حملين آخرين من الطعام، فلما ذكروا ذلك قال يوسف عليه السلام : فهذا يدل على أنّ حب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب ؛ لأنكم أنتم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل ذلك على أنه أعجوبة في العقل والأدب فجيئوني به حتى أراه كما قال تعالى حكاية عنه :﴿ قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ﴾، أي : الذي خلفتموه عنده.
وقيل : إنه لما نظر إليهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : اخبروني من أنتم وما أمركم ؟ فإني أنكرت شأنكم قالوا : قوم من أرض الشأم أصابنا ما أصاب الناس، فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم لتنظروا إلى عورة بلادنا ؟ قالوا : لا والله لسنا بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق، يقال له يعقوب نبيّ من أنبياء الله تعالى، قال : وكم كنتم ؟ قالوا : كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، وكان من أحبنا إلى أبينا قال : فكم أنتم هاهنا ؟ قالوا : عشرة. قال : وأين الابن الآخر ؟ قالوا : عند أبينا ؛ لأنه أخو الذي هلك وأبوه مبتلى به. قال : فمن يعلم أن الذي تقولون حق ؟ قالوا : أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد. فقال يوسف عليه السلام : فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. فقالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه. قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده، ثم إنه قال لهم :﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل ﴾، أي : أتمه ولا أبخس منه شيئاً، وقرأ نافع بفتح الياء من أني، والباقون بالسكون، وأما الياء من ﴿ أوفي ﴾ فجميع القراء يثبتونها في الوقف لثباتها في الرسم، وحذفوها في الوصل لالتقاء الساكنين ﴿ وأنا خير المنزلين ﴾، أي : المضيفين فإنه كان قد أحسن ضيافتهم مدّة إقامتهم عنده. قال الرازي : وهذا يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم عيون وجواسيس، ولو شافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم :﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ﴾ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم : أنتم عيون وجواسيس مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة ؛ لأنّ البهتان لا يليق بحال الصديق.
ثم قال عليه السلام :﴿ فإن لم تأتوني به ﴾، أي : بأخيكم ﴿ فلا كيل ﴾، أي : فلا ميرة ﴿ لكم عندي ﴾ ولم يمنعهم من غيره ﴿ ولا تقربون ﴾ نهي أو عطف على محل فلا كيل لكم، أي : تحرموا ولا تقربوا مني ولا تدخلوا دياري، فجمع لهم عليه السلام بين الترغيب والترهيب فالترغيب في قوله الأوّل، والترهيب في قوله الثاني ؛ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، ومع ذلك لم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل : فما قالوا ؟.
فقيل :﴿ قالوا سنراود ﴾، أي : بوعد لا خلف فيه حين نصل ﴿ عنه أباه ﴾، أي : سنكمله فيه وننازعه الكلام ونحتال فيه ونتلطف في ذلك ولا ندع جهداً ﴿ وإنا لفاعلون ﴾ ما أمرتنا به والتزمناه.
﴿ و ﴾ لما أرغبهم وأرهبهم في شأن أخيه ﴿ قال لفتيته ﴾، أي : غلمانه الكيالين جمع فتى، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بألف بعد الياء المثناة تحت وبعد الألف نون مكسورة، والباقون بالياء المثناة تحت ثم بتاء مثناة فوق مكسورة. ﴿ اجعلوا بضاعتهم ﴾، أي : التي أتوا بها ثمن الميرة وكانت دراهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها كانت النعال والأدم ﴿ في رحالهم ﴾ جمع رحل أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام ﴿ لعلهم يعرفونها ﴾، أي : بضاعتهم ﴿ إذا انقلبوا ﴾، أي : رجعوا ﴿ إلى أهلهم ﴾ وفتحوا أوعيتهم ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ إلينا.
واختلف في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه السلام بضاعتهم في رحالهم على أوجه :
الأوّل : أنه أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدّة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
الثاني : أراد أن يعرّف أباه انه أكرمهم وطلبهم لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
الثالث : مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا يطلب زيادة الثمن.
والرابع : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه عيب ولا منة.
الخامس : قال الفراء : إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد أنبياء فيرجعون ليعرفوا السبب فيه، ويردوا الملك إلى مالكه.
السادس : أراد به التوسعة على أبيه ؛ لأنّ الزمان كان زمان القحط.
السابع : رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ومن إخوته على شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم.
الثامن : خاف أن لا يكون عند أبيه من المال ما يرجعون به مرّة أخرى.
التاسع : أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كرم من يوسف عليه السلام وسخاء، فيبعثهم ذلك إلى العود إليه والحرص على معاملته عليه السلام.
﴿ فلما رجعوا ﴾، أي : إخوة يوسف عليه السلام ﴿ إلى أبيهم قالوا يا أبانا ﴾ إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا إكرامه، فقال يعقوب عليه السلام : إذا رجعتم إلى ملك مصر فأقرؤوه مني السلام وقولوا له : إنّ أبانا يدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم : أين شمعون ؟ قالوا : ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة وقولهم :﴿ منع منا الكيل ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم لما طلبوا الطعام لأخيهم الغائب عند أبيهم منعوا منه.
والثاني : أنهم منعوا الكيل في المستقبل، وهو قول يوسف عليه السلام :﴿ فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ﴾ ويدل لهما قولهم :﴿ فأرسل معنا أخانا ﴾ بنيامين ﴿ نكتل ﴾ فإنّ حمزة والكسائي قرآه بالياء، أي : يكتل لنفسه، وهذا يدل للقول الأوّل، والباقون بالنون، أي : نكتل نحن وإياه، وهذا يدل للقول الثاني ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ عن أن يناله مكروه حتى نردّه إليك،
فلما قالوا ليعقوب عليه السلام هذه المقالة﴿ قال ﴾ لهم ﴿ هل آمنكم ﴾، أي : أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه بما يسوءني تأميناً مستقبلاً ﴿ عليه ﴾، أي : بنيامين ﴿ إلا كما أمنتكم ﴾، أي : في الماضي ﴿ على أخيه ﴾ يوسف عليه السلام ﴿ من قبل ﴾ فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردّوه إليّ، والأمن اطمئنان القلب إلى سلامة النفس، فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله تعالى ﴿ فالله ﴾ المحيط علماً وقدرة ﴿ خيرٌ حافظاً ﴾ منكم ومن كل أحد، ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وألف بعدها وكسر الفاء، والباقون بكسر الحاء وسكون الفاء، وهو منصوب على التمييز في القراءتين، وتحتمل الأولى النصب على الحال اللازمة ﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾، أي : أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه فلا يجمع عليّ مصيبتين.
﴿ ولما ﴾ أرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة ﴿ فتحوا متاعهم ﴾، أي : أوعيتهم التي حملوها من مصر ﴿ وجدوا بضاعتهم ﴾، أي : ما كان معهم من كنعان لشراء القوت ﴿ ردّت إليهم ﴾ والوجدان ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل : ما قالوا ؟ فقيل :﴿ قالوا ﴾، أي : لأبيهم عليه السلام ﴿ يا أبانا ما ﴾ استفهامية، أي : أي شيء ﴿ نبغي ﴾، أي : نريد، جميع القراء أثبتوا الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم، فكأنه قال لهم : ما الخبر ؟ فقالوا بياناً لذلك ؟ وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم :﴿ هذه بضاعتنا ردّت إلينا ﴾ هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا وردّ علينا متاعنا.
ولما كان التقدير ونرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا ﴿ ونمير أهلنا ﴾، أي : نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه، والميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد ﴿ ونحفظ أخانا ﴾ فلا يصيبه شيء مما تخشى عليه تأكيداً للوعد بحفظه ﴿ ونزداد كيل بعير ﴾ لأخينا ﴿ ذلك كيل يسير ﴾، أي : سهل على الملك لسخائه وحرصه على البذل، وقيل : قصير المدّة ليس سبيل مثله أن تطول مدّته بحسب الحبس والتأخير، وقيل قليل فابعث أخانا حتى نبدل تلك القلة كثرة، فكأنه قيل : ما قال لهم ؟.
فقيل :﴿ قال ﴾ يعقوب عليه السلام :﴿ لن أرسله ﴾، أي : بنيامين كائناً ﴿ معكم ﴾، أي : في وقت من الأوقات ﴿ حتى تؤتوني موثقاً ﴾، أي : عهدا مؤكداً ﴿ من الله ﴾ قرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأبو عمرو بإثبات الياء وقفاً لا وصلاً، وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً، وقوله ﴿ لتأتنني ﴾، أي : كلكم ﴿ به ﴾ أي : تحلفوا بالله لتأتنني به من الإتيان، وهو المجيء في كل حال جواب القسم، أو المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به ﴿ إلا ﴾، أي : في حال ﴿ أن يحاط ﴾، أي : تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب لا طاقة لكم بها ﴿ بكم ﴾ فتهلكوا من عند آخركم كل ذلك زيادة في التوثيق بما حصل له من المصيبة بيوسف عليه السلام، وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله تعالى، وهذا من باب اعقلها وتوكل، فأجابوه إلى ذلك كما قال تعالى ﴿ فلما آتوه موثقهم ﴾ بذلك ﴿ قال الله على ما نقول ﴾ نحن وأنتم ﴿ وكيل ﴾، أي : شهيد، وأرسله معهم بعد ذلك.
فإن قيل : لم أرسله معهم وقد شاهد منهم ما شاهد في يوسف عليه السلام ؟ أجيب : بأن ذلك لوجوه : أحدها : أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، الثاني : أنه كان شاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، الثالث : لعل الله أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
﴿ و ﴾ لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ يا بني لا تدخلوا ﴾ إذا قدمتم إلى مصر ﴿ من باب واحد ﴾ من أبوابها ﴿ وادخلوا من أبواب ﴾ واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً بقوله :﴿ متفرّقة ﴾، أي : تفرّقا كثيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين، وهي من قدر الله تعالى.
وقد ورد شرعنا بذلك ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«العين حق ». وفي رواية عن أحمد «يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم ». وفي رواية لمسلم :«العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ». وفي رواية عن جابر :«إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر »، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول :«أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة ». ويقول :«هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق » صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر النبيين، وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النهار فوجدته شديد الوجع، ثم عدت إليه في آخر النهار فرأيته معافى فقال :«إنّ جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك، قال فأفقت » وفي رواية أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً فقالت أسماء : يا رسول الله، إنّ العين إليهم سريعة فاسترق لهم من العين ؟ فقال لها :«نعم ». وفي رواية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أمّ سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين. فقال :«أما تسترقون له من العين ». وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين ».
ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام ﴿ وما أغني ﴾، أي : أدفع ﴿ عنكم ﴾ بقولي ذلك ﴿ من الله من شيء ﴾ قدره عليكم، وإنما ذلك شفقة، ومن مزيدة للتأكيد، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لا يدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى، فقوله عليه السلام :﴿ لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾ إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى. ولما قصر الأمر كله إليه تعالى وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ وحده الذي ليس الحكم إلا له ﴿ عليه ﴾، أي : على الله وحده ﴿ توكلت ﴾، أي : جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعل ﴿ وعليه ﴾ وحده ﴿ فليتوكل المتوكلون ﴾، أي : الثابتون في باب التوكل، فإنّ ذلك من أعظم الواجبات من فعله فاز ومن أغفله خاب، وقد ثبت بالبرهان أن لا حكم إلا لله، فلزم القطع بأنّ حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى، وذلك يوجب أن لا توكل إلا على الله تعالى، فهذا مقام شريف عال.
والشيخ أبو حامد الغزالي أكثر في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتب «إحياء علوم الدين » فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.
ولما قال يعقوب عليه السلام :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ صدّقه الله تعالى في ذلك فقال :
﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ﴾، أي : متفرّقين ﴿ ما كان ﴾ ذلك التفرّق ﴿ يغني عنهم من الله ﴾، أي : من قضائه وأغرق في النفي فقال :﴿ من شيء ﴾، أي : مما قضاه عليهم كما تقدّم من قول يعقوب عليه السلام فسرّقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام. وقوله تعالى :﴿ إلا حاجة ﴾ استثناء منقطع، أي : لكن حاجة ﴿ في نفس يعقوب ﴾ وهي الوصول إلى ما أمر به شفقة عليهم ﴿ قضاها ﴾ يعقوب عليه السلام وأبرزها من نفسه إلى أولاده فعملوا فيها بمراده فاغنى عنهم الخلاص من عقوق أبيهم فقط ﴿ وإنه ﴾، أي : يعقوب عليه السلام مع أمره لبنيه بذلك ﴿ لذو علم ﴾، أي : معرفة بالحكمين حكم التكليف وحكم التقدير واطلاع على الكونين عظيم ﴿ لما علمناه ﴾ بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ ولم يغتر بتدبيره. ولما كان قد يظنّ أنّ كل أحد يكون كذلك، أي : يعلم ما علمه نفى ذلك سبحانه وتعالى بقوله جل شأنه ﴿ ولكنّ أكثر الناس ﴾، أي : لأجل ما نالهم من الاضطراب ﴿ لا يعلمون ﴾، أي : ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفراغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكليف لهم به ومن أحوال الدنيا ومقابلة فطرهم القويمة السليمة بردّها إلى ما تدعوهم إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون طب لمخلوق.
ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه السلام. فقال :﴿ ولما دخلوا ﴾، أي : أخوة يوسف عليه السلام ﴿ على يوسف ﴾ في القدمة الثانية بأخيهم بنيامين قالوا : هذا أخونا فقال : أحسنتم واحتسبتم وستجدون خير ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم منزلهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً أجلسني معه، فقال يوسف : لقد صار أخوكم هذا وحيداً فأجلسه معه على مائدته، وصار يؤاكله فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي كما قال تعالى﴿ آوى ﴾ أي : ضم ﴿ إليه أخاه ﴾ فبات معه وجعل يوسف يضمه إليه ويشمه ثم قال له : ما اسمك ؟ فقال : بنيامين، قال : وما بنيامين ؟ قال : المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمّه. قال : وما اسم أمّك ؟ قال : راحيل بنت لاوي. قال : فهل لك من ولد ؟ قال : نعم عشرة بنين. ولما رأى تأسفه لأخ له هلك، قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك ؟ فقال : ومن يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه ﴿ وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس ﴾، أي : لا تحزن ﴿ بما كانوا يعملون ﴾، أي : بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا فلا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي قد أقدموا عليها، وقد جمعنا الله تعالى على خير ولا تعلمهم بشيء من ذلك.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، ومدّ بعد النون من أنا قبل الهمزة المفتوحة نافع، والباقون بالقصر.
ثم أنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله :﴿ فلما جهزهم ﴾، أي : اعجل جهازهم وأحسنه ﴿ بجهازهم جعل ﴾ بنفسه أو بمأذونه ﴿ السقاية ﴾، أي : المشربة التي كان يشرب بها ﴿ في رحل أخيه ﴾، أي : وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى. قال ابن عباس : كانت من زبرجد. وقال ابن إسحاق : كانت من فضة وقيل : من ذهب. وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، وجعلها يوسف عليه السلام مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها.
قال الرازي : هذا بعيد ؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعاً، وقيل : كانت الدواب تسقى بها، قال : وهذا أيضاً بعيد ؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، وقال : والأصوب أن يقال : كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا، والسقاية والصواع واحد، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً، وقيل : حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم ﴿ ثم أذن ﴾، أي : أعلن فيهم بالنداء ﴿ مؤذن ﴾ قائلاً برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة ﴿ أيتها العير ﴾، أي : القافلة، قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. قال : وقول من قال العير الإبل خاصة باطل، فقوله :﴿ أيتها العير ﴾، أي : أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي. قال الفراء : كانوا أصحاب إبل. وقال مجاهد : كانت العير حميراً.
وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف فقط، والباقون بالقصر. ﴿ إنكم لسارقون ﴾ فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله. فإن قيل : هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أو ما كان بأمره ؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليه السلام مع علو منصبه أن يبهت أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً ؟ وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة ؟ أجيب : بأجوبة :
الأوّل : أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال لست أفارقك قال : لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك. قال : رضيت بذلك، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام ؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنباً.
الثاني :﴿ إنكم لسارقون ﴾ يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة من الكذب.
الثالث : أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذباً.
الرابع : ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليه السلام. قال الرازي : والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم ؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها.
ولما وصل إليهم الرسول قال لهم : ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم ؟ قالوا : بلى، وما ذاك ؟ قالوا : سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى :
﴿ قالوا و ﴾ الحال أنهم قد ﴿ أقبلوا عليهم ﴾، أي : على جماعة الملك المنادي وغيره ﴿ ماذا ﴾، أي : ما الذي ﴿ تفقدون ﴾ مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود.
﴿ قالوا نفقد ﴾ وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم ﴿ صواع الملك ﴾ والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. ﴿ ولمن جاء به حمل بعير ﴾، أي : من الطعام، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضاً، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية، والجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران ﴿ وأنا به زعيم ﴾ قال مجاهد : هذا الزعيم هو الذي أذن، والزعيم الكفيل، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :«الزعيم غارم ».
وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا، هل يكون شرعاً لنا ؟ في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل : كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئاً ؟ أجيب : بأنهم لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان.
﴿ قالوا ﴾، أي : أخوة يوسف عليه السلام ﴿ تالله ﴾ التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم، والواو بدل من الباء، فهي فرع الفرع، فلذلك ضعفت عن التصريف في الأسماء، فلا تدخل إلا على الجلالة الكريمة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت : تالرحمن لم يجز، أي : والله ﴿ لقد علمتم ﴾ أي : بما جرّبتم من أمانتنا قبل هذا في كون مجيئنا ﴿ ما جئنا ﴾ وأكدوا النفي باللام فقالوا ﴿ لنفسد ﴾، أي : نوقع الفساد ﴿ في الأرض ﴾، أي : أرض مصر ﴿ و ﴾ لقد علمتم ﴿ ما كنا ﴾، أي : بوجه من الوجوه ﴿ سارقين ﴾، أي : موصوفين بهذا الوصف قطعاً. فإن قيل : من أين علموا ذلك ؟ أجيب : بأنّ ذلك يعلم مما رأوا من أحوالهم، وقيل : لأنهم ردّوا البضاعة التي جعلت في رحالهم، قالوا : فلوا كنا سارقين ما رددناها، وقيل : قالوا ذلك ؛ لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كي لا تتناول شيئاً من حروث الناس.
﴿ قالوا ﴾، أي : أصحاب يوسف عليه السلام المنادي ومن معه ﴿ فما جزاؤه ﴾، أي : السارق، وقيل : الصواع ﴿ إن كنتم كاذبين ﴾ في قولكم : ما كنا سارقين ووجد فيكم، والجزاء مقابلة العمل بما يستحق من خير وشر.
﴿ قالوا ﴾ وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم ﴿ جزاؤه من وجد في رحله ﴾ ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة، ثم أكدوا ذلك بقولهم :﴿ فهو جزاؤه ﴾ قال ابن عباس : كان ذلك الزمان كل سارق بسرقته فلذلك قالوا ذلك، أي : فالسارق جزاؤه أن يسلم بسرقته إلى المسروق منه فيسترق سنّة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق و يغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم ﴿ كذلك ﴾، أي : الجزاء ﴿ نجزي الظالمين ﴾ بالسرقة، قال أصحاب يوسف : فلا بد من تفتيش رحالكم، فردوهم إلى يوسف عليه السلام فأمر بتفتيشها بين يديه.
﴿ فبدأ بأوعيتهم ﴾ ففتشها ﴿ قبل وعاء أخيه ﴾ لئلا يتهم فلم يجد فيها شيئاً ﴿ ثم ﴾، أي : بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك ﴿ استخرجها ﴾، أي : السقاية أو الصاع ؛ لأنه يذكر ويؤنث ﴿ من وعاء أخيه ﴾ فلما خرج الصاع من وعاء بنيامين نكس أخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون : له إيش الذي صنعت فضحتنا وسوّدت وجوهنا يا ابن راحيل مازال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصاع. فقال بنيامين : بل بنو راحيل مازال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية إنّ الذي وضع هذا الصاع في رحلي هو الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذ بنيامين رقيقاً.
وقيل : إنّ المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصاع من رحله فأخذوه برقبته وردّوه إلى يوسف عليه السلام.
تنبيه : هاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء، والباقون بالتحقيق.
﴿ كذلك ﴾، أي : مثل ذلك الكيد ﴿ كدنا ليوسف ﴾ خاصة بأنّ علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه السلام في الابتداء، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام :﴿ فيكيدوا لك كيداً ﴾ [ يوسف، ٥ ] والكيد من الخلق الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق، فالمراد من هذا الكيد هو أنّ الله تعالى ألقى في قلب إخوته بأن حكموا أنّ جزاء السارق هو أن يسترق. لا جرم لما ظهر الصاع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه. ولما كان الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهو في حق الله تعالى محال حمل على الغاية، ونهايته هنا إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محال على هذا المعنى، وقيل : المراد بالكيد هاهنا إنّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله تعالى نصره وقوّاه وأعلى أمره وقوله تعالى :﴿ ما كان ﴾، أي : يوسف ﴿ ليأخذ أخاه في دين الملك ﴾، أي : حكمه بيان للكيد ؛ لأنّ جزاءه كان عنده الضرب وتغريم مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد، وقوله تعالى :﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع تقديره : ولكن بمشيئة الله أخذه في دين الملك، وهو دين آل يعقوب عليه السلام إنّ الاسترقاق جزاء السارق.
والثاني : أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم :﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾، أي : بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته ولكنه عمم ؛ لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات ؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى :﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين.
﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾ قال ابن عباس : فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم ؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم منهم. قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم ؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه.
ولما حصل لإخوة يوسف من إخراج الصواع من رحل بنيامين ما حصل، فكأنه قيل : فما كان فعلهم عند ذلك ؟.
فقيل :﴿ قالوا ﴾ تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم ﴿ إن يسرق ﴾ ولم يجزموا بسرقته لعلمهم بأمانته وظنهم أنّ الصواع دس في رحله وهو لا يشعر كما دست بضاعتهم في رحالهم، وكان قد قال لهم ذلك ﴿ فقد سرق أخ له من قبل ﴾، أي : يوسف وكان غرضهم من ذلك أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة ؛ لأنهما من أمّ أخرى، واختلفوا في التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال، فقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً. وقال مجاهد : جاءه سائل فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل، وقال وهب : كان يخبئ الطعام من مائدة يعقوب للفقراء، وقال سعيد بن جبير : كان جدّه أبو أمّه كافراً يعبد الوثن وأمرته أمّه أن يسرق تلك الأوثان ويكسرها، فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة. وقال محمد بن إسحاق : إنّ يوسف عليه السلام كان عند عمته ابنة إسحاق، وكانت تحبه حباً شديداً، فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي معها منطقة لأبيها إسحاق عليه السلام، وكانوا يتبركون بها، فشدّتها على وسط يوسف عليه السلام من تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر، ثم قالت : إنه سرقها، وكان علمهم أنّ من سرق يسترق فقال يعقوب عليه السلام : إن كان قد فعل ذلك فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت، فتوصلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها.
قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل : إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي : وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. ﴿ فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها ﴾، أي : يظهرها ﴿ لهم ﴾ والضمير للكلمة التي هي قوله :﴿ قال ﴾، أي : في نفسه ﴿ أنتم شرّ مكاناً ﴾، أي : من يوسف وأخيه، أي : لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل : الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم :﴿ فقد سرق أخ له من قبل ﴾ وعلى هذا يكون المعنى : فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه ﴿ والله أعلم ﴾ منكم ﴿ بما تصفون ﴾، أي : تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير : إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال : إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين : أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال : إنّ صاعي غضبان وهو يقول : كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت ؟ قالوا : فغضب روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الإخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته : كم عدد الأسواق بمصر ؟ قالوا : عشرة. فقال : اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل : لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير : قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به، فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته : من مسني منكم ؟ قالوا : لم يصبك منا أحد. فقال روبيل : إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف : من يعقوب ؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال : أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
و﴿ قالوا يا أيها العزيز ﴾ فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم ﴿ إن له ﴾، أي : هذا الذي وجد الصواع في رحله ﴿ أباً شيخاً كبيراً ﴾، أي : في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه ﴿ فخذ أحدنا مكانه ﴾ وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه ﴿ إنا نراك ﴾، أي : نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه ﴿ من المحسنين ﴾، أي : العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل : فما أجابهم ؟.
قيل :﴿ قال معاذ الله ﴾ هو نصب على المصدر، وحذف فعله وأضيف إلى المفعول، أي : نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً من ﴿ أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ﴾ ولم يقل : سرق متاعنا ؛ لأنه لم يفعل في الصواع فعل السارق، ولم يقع منه قبل ذلك ما يصح إطلاق الوصف عليه، ثم علله بقوله ﴿ إنا إذاً ﴾، أي : إذا أخذنا أحداً مكانه ﴿ لظالمون ﴾، أي : عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم،
ولما استيأسهم بما قال عن إطلاق بنيامين حكى الله تعالى ما تم لهم من الرأي فقال :﴿ فلما ﴾ دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات ﴿ استيأسوا ﴾، أي : أيسوا ﴿ منه ﴾ لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله ﴿ خلصوا ﴾، أي : انفردوا عن غيرهم حال كونهم ﴿ نجياً ﴾ وهو مصدر يصلح للواحد وغيره، أي : ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، فكأنه قيل : فما قالوا ؟ فقيل :﴿ قال كبيرهم ﴾ في السنّ وهو روبيل، وقيل : في الفضل والعلم وهو يهوذا، وقيل : شمعون وكان له الرياسة على إخوته ﴿ ألم تعلموا ﴾ مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتدّ توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم ﴿ أن أباكم ﴾، أي : الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه ﴿ قد أخذ عليكم ﴾، أي : قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر ﴿ موثقاً ﴾، أي : عهداً وثيقاً ﴿ من الله ﴾ في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه ؛ لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته، وقوله ﴿ ومن قبل ما فرطتم ﴾ في هذه الآية وجوه : أظهرها أن ما مزيدة فيتعلق الظرف بالفعل بعدها والتقدير : ومن قبل هذا فرطتم، أي : قصرتم في حق يوسف وشأنه، وزيادة ما كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره، وقيل : أنها مصدرية في محل رفع بالابتداء والخبر هو قوله :﴿ في يوسف ﴾، أي : وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، وقيل : غير ذلك ولا نطيل بذكره إذ في هذا القدر كفاية ﴿ فلن أبرح ﴾، أي : أفارق ﴿ الأرض ﴾، أي : أرض مصر ﴿ حتى يأذن لي أبي ﴾، أي : بالعود إليه ﴿ أو يحكم الله لي ﴾ بخلاص أخي ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾، أي : أعدلهم، فإن قيل : هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف عليه السلام أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجدان أبيه عليه وشدة غمه وفيه ما فيه من العقوق وإيذاء الناس من غير ذنب لاسيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عنده بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد ؟ أجيب : بأجوبة كثيرة للعلماء، وأحسنها أنه إنما فعل ذلك بأمر من الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله تعالى بذلك ليزيد بلاء يعقوب عليه السلام، فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه، ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم، والله أعلم بأحوال عباده.
ثم قال كبيرهم :﴿ ارجعوا إلى أبيكم ﴾ دوني ﴿ فقولوا ﴾ له، أي : متلطفين في خطابكم ﴿ يا أبانا ﴾ وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا ﴿ إن ابنك سرق ﴾ فإن قيل : كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي، فقال : الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟ أجيب : بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم ﴿ وما شهدنا ﴾ عليه ﴿ إلا بما علمنا ﴾ ظاهراً من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه، وأما قوله : وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم، فالفرق ظاهر ؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصاع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق، فشهدوا بناء على الظن ﴿ وما كنا للغيب ﴾، أي : ما غاب عنا حين أعطينا الموثق ﴿ حافظين ﴾، أي : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل، وحقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فلعل الصاع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا.
﴿ واسأل القرية ﴾، أي : أهلها على حذف المضاف، وهو مجاز مشهور، وقيل : إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال ﴿ التي كنا فيها ﴾ وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم، وقيل : هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر ﴿ و ﴾ اسأل ﴿ العير ﴾، أي : القافلة، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه السلام ﴿ التي أقبلنا فيها ﴾ والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة، أو هل أو غيرهما، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير، ولما كان ذلك بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم أكدوه بقولهم ﴿ وإنا ﴾، أي : والله إنا ﴿ لصادقون ﴾ في أقوالنا.
ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال كبيرهم فكأنه قيل : فما قال لهم ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ لهم ﴿ بل سوّلت ﴾، أي : زينت تزييناً فيه غي ﴿ لكم أنفسكم أمراً ﴾، أي : حدّثتكم بأمر ففعلتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته ﴿ فصبر جميل ﴾، أي : فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل صبري، أو أجمل، وقدم مثل ذلك في واقعة يوسف إلا أنه قال فيها :﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ [ يوسف، ١٨ ] وقال هنا ﴿ عسى الله أن يأتيني بهم ﴾، أي : بيوسف وشقيقه بنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر ﴿ جميعاً ﴾، أي : فلا يتخلف منهم أحد، وإنما قال يعقوب عليه السلام هذه المقالة ؛ لأنه لما طال حزنه واشتدّ بلاؤه ومحنته علم أن الله تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله تعالى وتفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه السلام، وأن الأمر يرجع إلى سلامة واجتماع، ثم علل هذا بقوله :﴿ إنه هو العليم ﴾، أي : البليغ العلم بما خفي عنا من ذلك فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد ﴿ الحكيم ﴾، أي : البليغ فيما يدبره ويقضيه.
﴿ و ﴾ لما ضاق قلب يعقوب عليه السلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين ﴿ تولى عنهم ﴾، أي : انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن ﴿ وقال يا أسفا ﴾، أي : يا أسفي ﴿ على يوسف ﴾، أي : تعال هذا أوانك، والأسف اشدّ الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث إنما هو مصيبتهما ؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جديداً جدّد حزنه على أخيه مالك :
فقالوا أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى والدكادك ؟
فقلت نعم إنّ الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته، وفي حديث رواه الطبراني «لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وقال ﴿ يا أسفا ﴾ ﴿ وابيضت عيناه ﴾، أي : انمحق سوادهما وبدل بياضاً ﴿ من الحزن ﴾، أي : من كثرة البكاء عليه، وقيل : عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقيل : ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكاً لطيفاً، وقيل : عمي، وقال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليه السلام. قيل : إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن، فقال : إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك، فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني، ولم أكن حزناً على أبي.
فإن قيل : هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليه السلام أجيب : بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة، ثم عظم بكاؤه، ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر ما لا ينبغي، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله :﴿ فهو كظيم ﴾، أي : مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ [ يوسف، ٨٦ ] فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية به، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليه السلام قال لجبريل عليه السلام : هل لك علم بيعقوب ؟ قال : نعم. قال : فكيف حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال : فهل له أجر ؟ قال : نعم أجر مئة شهيد، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضاً البكاء مباح فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال :«القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ». رواه الشيخان.
تنبيه : شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم، فاللسان كان مشغولاً بقوله : يا أسفا، والعين بالبكاء والبياض، والقلب بالغم الشديد، أي : الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم.
ولما وقع من يعقوب عليه السلام ذلك كأن قائلاً يقول : فما قال له أولاده ؟ فقيل :﴿ قالوا ﴾ له حنقاً من ذلك ﴿ تالله تفتؤ ﴾، أي : لا تفتأ، أي : لا تزال ﴿ تذكر يوسف ﴾ تفجعاً، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر :
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر، ورسمت تفتؤ بالواو ﴿ حتى ﴾ إلى أن ﴿ تكون حرضاً ﴾، أي : مشرفاً على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره ﴿ أو تكون من الهالكين ﴾، أي : الموتى.
فإن قيل : لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟ أجيب : بأنهم بنوا الأمر على الظاهر، قال أكثر المفسرين : قائل هذا الكلام هم أخوة يوسف، وقال بعضهم : ليس الأخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه.
ولما قالوا له ذلك فكأن قائلاً يقول : فما قال لهم ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ لهم ﴿ إنما أشكو بثي ﴾ والبث أشد الحزن سمي بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر ﴿ وحزني ﴾ مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته ﴿ إلى الله ﴾ المحيط بكل شيء علماً وقدرةً لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه ﴿ وأعلم من الله ﴾، أي : الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت ﴿ ما لا تعلمون ﴾ فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً : أحدها : أنّ ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف ؟ قال : لا يا نبي الله.
ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه من هاهنا ولذلك قال :﴿ يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا ﴾، أي : والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم، وقيل : التحسيس بالحاء يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس، والمعنى تحسسوا خبراً ﴿ من ﴾ أخبار ﴿ يوسف وأخيه ﴾، أي : اطلبوا خبرهما.
وثانيها : أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليه السلام صادقة ؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في حق يوسف عليه السلام، ورؤيا مثله لا تخطئ.
وثالثها : لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت، فلهذا بقي في القلق.
ورابعها : قال السدي : لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله وأقواله وأفعاله طمع في أن يكون هو يوسف وقال : بعيد أن يظهر في الكفار مثله، ثم تلطف ببنيه وقال لهم :﴿ ولا تيأسوا ﴾، أي : تقنطوا ﴿ من روح الله ﴾ قال ابن عباس : من رحمة الله. وقال قتادة : من فضل الله. وقال ابن زيد : من فرج الله. ﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾، أي : الغريقون في الكفر، قال ابن عباس : إنّ المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده على الرخاء، والكافر على الضدّ من ذلك، فإنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، وإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أنّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً.
وقرأ البزي بعد التاء من تيأسوا وبعد الياء من لا ييأس بألف وبعدها ياء مفتوحة بخلاف عنه، والباقون بهمزة مفتوحة قبلها ياء ساكنة. ولما قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك قبلوا منه هذه الوصية وعادوا إلى مصر.
﴿ فلما دخلوا عليه ﴾، أي : على يوسف عليه السلام ﴿ قالوا يا أيها العزيز ﴾ وكان العزيز لقباً لملك مصر يومئذ ﴿ مسنا وأهلنا ﴾، أي : من خلفناهم وراءنا ﴿ الضر ﴾، أي : لابسنا ملابسة نحسها ﴿ وجئنا ببضاعة ﴾ وقالوا ﴿ مزجاة ﴾ إمّا لنقصها أو لرداءتها أو لهما جميعاً. وقال الحسن : البضاعة المزجاة القليلة، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس : كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل : متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل : الأقط، وقيل : النعال والأدم وقيل : إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليه السلام، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس، ثم سببوا عن هذا الاعتذار ؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم :﴿ فأوف لنا الكيل ﴾، أي : شفقة علينا بسبب ضعفنا ﴿ وتصدّق ﴾، أي : تفضل ﴿ علينا ﴾ زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم :﴿ إنّ الله ﴾، أي : الذي له الكمال كله ﴿ يجزي المتصدّقين ﴾، أي : وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
فائدة : سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ؟ قال سفيان : ألم تسمع قوله :﴿ وتصدّق علينا. . ﴾ الآية يريد أن الصدقة كانت حلالاً لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلاً يقول : اللهم تصدّق عليّ قال : إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل : اللهم أعطني وتفضل عليّ.
فإن قيل : إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى ؟ أجيب : بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة، وذلك مما يرقق القلب فقالوا : نجربه في هذه الأمور، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق : ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا.
﴿ قال ﴾ لهم ﴿ هل علمتم ﴾ مقرّراً لهم بعد أن استأنسوا به، قال البقاعي : والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان ﴿ ما ﴾، أي : قبح الذي ﴿ فعلتم بيوسف ﴾، أي : أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه ﴿ وأخيه ﴾ في جعلكم أباه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجد الصاع في رحله : لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل، وإنما قال لهم ذلك نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريباً، وقيل : أعطوه كتاب يعقوب عليه السلام في تخليص بنيامين، وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه، فقال لهم ذلك وقوله ﴿ إذ أنتم جاهلون ﴾، أي : فاعلون فعلهم ؛ أو لأنهم كانوا حينئذ صبياناً طياشين تلويحاً إلى معرفته، فقد روي أنه لما قال هذا تبسم وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله منه من رآه ولو مرّة واحدة فعرفوه بذلك فلذلك ﴿ قالوا أئنك لأنت يوسف ﴾.
﴿ قالوا أئنك لأنت يوسف ﴾ استفهام تقرير، ولذلك حقق بأن واللام عليه، وقيل : عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم، وقيل : رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام، وقرأ ورش بغير ألف بينهما، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر، ولهشام وجه ثان وهو المدّ، وقيل : أنهم لم يعرفوه حتى ﴿ قال ﴾ لهم ﴿ أنا يوسف ﴾ وزادهم بقوله ﴿ وهذا أخي ﴾ بنيامين شقيقي، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتاً في أمره وليبني عليه قوله :﴿ قد منّ الله علينا ﴾ قال ابن عباس : بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون : بالجمع بيننا بعد التفرقة. ﴿ إنه من يتق ﴾، أي : المعاصي ﴿ ويصبر ﴾، أي : على البليات وأذى الناس وقال ابن عباس : يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقال مجاهد : يتقي المعصية ويصبر على السجن ﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ والمعنى أنه من يتق ويصبر، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفاً ووصلاً، واختلف المعربون في ذلك على وجهين : أجودهما : أنّ إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب وأنشدوا عليه قول قيس بن زهير :
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
وقول الآخر :
هجوت زبان ثم جئت معتذراً من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقول الآخر :
إذا العجوز غضبت فطلقي ولا ترضاها ولا تملق
والثاني : أنه مرفوع غير مجزوم ومن موصولة والفعل صلتها، فلذلك تمم بإثبات لامه وسكن ﴿ يصبر ﴾ لتوالي الحركات، وإن كانت في كلمتين، وقرأ الباقون بالحذف وقفاً ووصلاً.
ولما ذكر يوسف عليه السلام لإخوته أنّ الله تعالى منّ عليه، وأنه من يتق ويصبر فإنّ الله تعالى لا يضيعهم صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمرتبة.
ولذلك﴿ قالوا ﴾ مقسمين بقولهم :﴿ تالله ﴾، أي : الملك الأعظم ﴿ لقد آثرك ﴾، أي : اختارك ﴿ الله علينا ﴾ بالعلم والعقل والحلم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوته ما كانوا أنبياء ؛ لأنّ جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوّة كالعدم بالنسبة إليه، فلو شاركوه في منصب النبوّة لما قالوا ذلك، ثم قالوا :﴿ وإن كنا لخاطئين ﴾، أي : والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذلك أذلنا الله تعالى لك،
فكأنه قيل : ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إهانتهم له ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ لهم قول الكرام اقتداءً بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ﴿ لا تثريب ﴾، أي : لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك ﴿ عليكم اليوم ﴾ وإنما خصه بالذكر ؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله :﴿ يغفر الله ﴾، أي : الذي لا إله غيره ﴿ لكم ﴾، أي : ما فرط منكم، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبة، ورغبّهم في ذلك، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال :﴿ وهو ﴾ تعالى ﴿ أرحم الراحمين ﴾ لجميع العباد لاسيما التائب، فهو جدير بإدراك النعم.
روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي مما فرط منا، فقال : إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون : سبحان من بلغ عبداً بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليه السلام،
ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال : ما فعل أبي بعدي ؟ قالوا : ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال :﴿ اذهبوا بقميصي هذا ﴾ وهو قميص إبراهيم عليه السلام الذي لبسه حين ألقي في النار عرياناً فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص وألبسه إياه، ففي الوقت جاء جبريل عليه السلام وقال : أرسل ذلك القميص، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال : إذا وصلتم إلى أبي ﴿ فألقوه على وجه أبي يأت ﴾، أي : يصر ﴿ بصيراً ﴾، أي : يردّ إليه بصره كما كان، أو يأت إليّ حال كونه بصيراً ﴿ وأتوني ﴾، أي : أبي وأنتم ﴿ بأهلكم ﴾، أي : مصاحبين لكم ﴿ أجمعين ﴾ لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال : لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان، وبينهما ثمانون فرسخاً.
﴿ ولما فصلت العير ﴾ من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم ﴿ قال أبوهم ﴾ لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله :﴿ إني لأجد ريح يوسف ﴾ أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر، قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص.
قال أهل المعاني : إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى ﴿ أجد ريح يوسف ﴾ أشم وعبر بالوجود ؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم ﴿ لولا أن تفندون ﴾، أي : تنسبوني إلى الخرف.
قال أبو بكر الأنباري : أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في «الكشاف » : يقال : شيخ مفنّد ولا يقال : عجوز مفندة ؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل : التفنيد الإفساد يقال : فندت فلاناً إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم :
يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمر بمردود
ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك ﴿ قالوا ﴾، أي : الحاضرون عنده ﴿ تالله إنك لفي ضلالك ﴾، أي : حبك ﴿ القديم ﴾ ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف :﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ [ يوسف، ٨ ] وقال مقاتل : معنى الضلال هنا الشقاء، أي : شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن : إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب.
ثم أنهم عجلوا له بشيراً فأسرع قبل وصولهم بالقميص ﴿ فلما ﴾ وزيدت ﴿ أن ﴾ لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد ﴿ جاء البشير ﴾ وهو يهوذا بذلك القميص ﴿ ألقاه ﴾، أي : طرحه البشير ﴿ على وجهه ﴾، أي : يعقوب، وقيل : ألقاه يعقوب على وجه نفسه ﴿ فارتدّ ﴾، أي : رجع ﴿ بصيراً ﴾، أي : صيره الله بصيراً كما كان، كما يقال : طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك ﴿ قال ﴾ لبنيه ﴿ ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ : لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في : بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي : يا لطيفاً فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير : كيف تركت يوسف ؟ قال : تركته ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة
فعند ذلك ﴿ قالوا يا أبانا ﴾ منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع ﴿ استغفر ﴾، أي : اطلب من الله تعالى أن يغفر ﴿ لنا ذنوبنا ﴾، أي : التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة ﴿ إنا كنا خاطئين ﴾، أي : متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال صلى الله عليه وسلم :" إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ".
فكأنه قيل : فما قال لهم ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ لهم :﴿ سوف أستغفر ﴾، أي : أطلب أن يغفر ﴿ لكم ربي ﴾ الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك، واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون : أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر ؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة، وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة ؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة.
وقال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس : أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل : استغفر لهم في الحال، وقوله :﴿ سوف أستغفر لكم ﴾ معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
وعن الشعبي قال : أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي ﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾ كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا هذا فرعون مصر ؟ قال : لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقال الثوري : لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف : يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى :﴿ فلما دخلوا على يوسف آوى ﴾، أي : ضمّ ﴿ إليه أبويه ﴾ قال الحسن : أباه وأمّه وكانت حية إكراماً لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ : وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر.
فإن قيل : ما معنى دخولهم عليه قبل مصر ؟ أجيب : بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه ﴿ وقال ﴾ مكرماً ﴿ ادخلوا مصر ﴾، أي : البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال :﴿ إن شاء الله آمنين ﴾ من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
﴿ و ﴾ لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر ﴿ رفع أبويه ﴾، أي : أجلسهما معه ﴿ على العرش ﴾، أي : السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ ﴿ وخرّوا له ﴾، أي : انحنوا له أبواه وإخوته ﴿ سجداً ﴾، أي : سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر :
ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر ***
لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة العبادة، وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة، فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه خرّوا لله سجداً بين يدي يوسف عليه السلام، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف، ويدل عليه قوله تعالى ﴿ ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً ﴾ وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير، ثم سجدوا لله تعالى، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير ؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع.
فإن قيل : هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام ﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ﴾ والمراد منه قوله ﴿ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴾ [ يوسف، ٤ ] أي : رأيتهم ساجدين لأجلي، أي : أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال قال الرازيّ : وعندي أنّ هذا التأويل متعين ؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكراً لنعمة وجدانه، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليت إلى الكعبة. قال حسان :
ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
أليس أوّل من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالآثار والسنن
ثم استأنف يوسف عليه السلام فقال ﴿ قد جعلها ربي ﴾، أي : الذي رباني بما أوصلني إليها ﴿ حقاً ﴾، أي : مطابقة للواقع لتأويلها وتأويل ما أخبرتني به أنت، والتأويل تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام، وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنّ ما بين رؤياه وتأويلها أربعون سنة. وعن الحسن : أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة، فكان عمره وعشرين سنة ﴿ وقد أحسن ﴾، أي : أوقع إحسانه ﴿ بي ﴾ تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية أحسن بالباء أدل على القرب من التعدية بإلى، وإن كان أصل أحسن أن يتعدّى بإلى كما قال تعالى :﴿ وأحسن كما أحسن الله إليك ﴾ [ القصص، ٧٧ ] وقيل : ضمن معنى لطف فتعدّى بالباء كقوله تعالى :﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾ [ البقرة، ٨٣ ] وقال :﴿ إذ أخرجني من السجن ﴾ ولم يذكر إخراجه من الجب لوجوه : أوّلها : أنه قال لإخوته :﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ [ يوسف، ٩٢ ] ولو ذكر واقعة الجب لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جارياً مجرى الكرم.
ثانيها : أنه لما خرج من الجب لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً، وإنما صار ملكاً بعد إخراجه من السجن، فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً. ثالثها : أنه لما خرج من الجب وقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة ولما خرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته، فكان هذا أقرب إلى المنفعة مع أنّ اللفظ محتمل للجب أيضاً لكنه احتمال خفيّ، ولما كان يعقوب وولده بأرض كنعان وتحوّل إلى بدو قال ابن عباس : ومنه قدم على يوسف قال يوسف عليه السلام :﴿ وجاء بكم من البدو ﴾، أي : من أطراف بادية فلسطين وذلك من أكبر النعم، كما جاء في الحديث :«من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة » والبدو ضدّ الحاضرة، وهو من الظهور يقال : بدا يبدو إذا سكن في البادية، يروى عن عمر : إذا بدونا جفونا، أي : تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي : البدو بسط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه ﴿ من بعد أن نزغ ﴾، أي : أفسد ﴿ الشيطان ﴾ بسبب الحسد ﴿ بيني وبين إخوتي ﴾ وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده.
فإن قيل : إضافة يوسف عليه السلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة، ولو كان منه لأضافه إليه.
أجيب : بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز ؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة، قال تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء، ٢٢ ] فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ﴾ [ إبراهيم، ٢٢ ] ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليه السلام ﴿ إنّ ربي لطيف لما يشاء ﴾، أي : لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول ﴿ إنه هو العليم ﴾ بوجوه المصالح والتدابير ﴿ الحكيم ﴾، أي : الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليه السلام طاف بأبيه في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس قال : يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل ؟ قال : أمرني جبريل بذلك قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أقرب مني إليه، فسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب، قال : فهلا خفتني ؟ ولما حضر يعقوب عليه السلام الموت وصى يوسف عليه السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة. ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثاً وعشرين سنة.
ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال :﴿ رب قد آتيتني ﴾ وافتتح بقد ؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا ﴿ من الملك ﴾، أي : بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر ﴿ وعلمتني من ﴾، أي : بعض ﴿ تأويل الأحاديث ﴾ طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك ﴿ والله غالب على أمره ﴾ [ يوسف، ٢١ ] ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال :﴿ فاطر ﴾، أي : خالق ﴿ السماوات والأرض ﴾ ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء ﴿ أنت وليي ﴾، أي : الأقرب إليّ باطناً وظاهراً ﴿ في الدنيا والآخرة ﴾، أي : لا وليّ لي غيرك، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال :«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله :﴿ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض ﴾ ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله ﴿ توفني ﴾، أي : اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني ﴿ مسلماً ﴾ ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله :﴿ وألحقني بالصالحين ﴾ ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله :﴿ الذي خلقني فهو يهدين ﴾ [ الشعراء، ٧٨ ] فمن هاهنا إلى قوله :﴿ رب هب لي حكماً ﴾ ثناء على الله تعالى ثم قوله :﴿ رب هب لي حكماً ﴾ إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا.
تنبيه : اختلف في قوله ﴿ توفني مسلماً ﴾ هل هو طلب منه للوفاة أم لا ؟ فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء : يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة، واللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور :
أحدها : أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها : أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات.
وثالثها : أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات، ومنها : أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها : أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية، فإنه لا يمكن إبقاؤها، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ، بالأكل، فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية : وثانيها : أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم، ولا شك أنه شيء منفر، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضاً منفر، وثالثها : أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها، ورابعها : أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع، والجوع نقص وآفة، وخامسها : أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل : من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال.
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها : أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان، ومنها : أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له : صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال :﴿ توفني مسلماً وألحقني بالصالحين ﴾.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز ؟ أجيب : بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس وينشرح الصدر، وينفسح القلب في هذا الباب، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى. فإن قيل : إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية ؟ أجيب : بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء، وتصل بركته إلى جميعهم، قال عكرمة : دفن في الجانب، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب، وأجدب الجانب، الآخر، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام، وقد يسر الله تعالى
زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمائة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته.
ولما تمّ الذي كان من أمر يوسف عليه السلام وإخوته على الوجه الأحكم، والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه قال تعالى مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ذلك ﴾، أي : الذي ذكرته لك يا محمد من قصة يوسف عليه السلام وما جرى له مع إخوته، ثم صار إلى الملك بعد الرق ﴿ من أنباء الغيب ﴾، أي : أخبار ما غاب عنك ﴿ نوحيه إليك ﴾، أي : الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك ﴿ و ﴾ الحال إنك ﴿ ما كنت لديهم ﴾، أي : عند إخوة يوسف عليه السلام ﴿ إذ ﴾، أي : حين ﴿ أجمعوا أمرهم ﴾، أي : عزموا على أمر واحد، وهو إلقاء يوسف في الجب ﴿ وهم يمكرون ﴾، أي : يدبرون الأذى في الخفية بيوسف، والمعنى أنّ هذا النبأ غيب ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما طالع الكتب ولا تتلمذ لأحد، ولا كانت البلدة بلدة العلماء، وإتيانه صلى الله عليه وسلم بهذه القصة الطويلة على وجه لا يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال : إنه حاضر معهم لا بدّ وأن يكون معجزاً وقوله تعالى :﴿ وما كنت لديهم ﴾ ذكر على سبيل التهكم بهم ؛ لأنّ كل أحد يعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم.
ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري عن قصة يوسف عليه السلام، فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي مبينة هذا البيان الوافي فأمّل صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله عزاه الله تعالى بقوله :﴿ وما أكثر الناس ﴾، أي : أهل مكة ﴿ ولو حرصت ﴾ على إيمانهم ﴿ بمؤمنين ﴾ لعنادهم وتصميمهم على الكفر وكان ذلك إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في قوله تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص، ٥٦ ].
ثم نفى عنه التهمة بقوله تعالى :﴿ وما تسألهم عليه ﴾، أي : على تبليغ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك وأغرق في النفي فقال :﴿ من أجر ﴾ حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا : لولا أنزل عليه كنز ليستغن به عن سؤالنا، ثم نفى عن هذا الكتاب كل غرض دنيوي بقوله تعالى :﴿ إن هو إلا ذكر ﴾، أي : عظة من الله تعالى ﴿ للعالمين ﴾ عامّة.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عنهم أنهم لما تأمّلوا الآيات الدالة على توحيده تعالى بقوله تعالى :﴿ وكأين ﴾، أي : وكم ﴿ من آية ﴾ دالة على وحدانية الله تعالى ﴿ في السماوات ﴾ كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى ﴿ والأرض ﴾ من الجبال والشجر والدوابّ وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى ﴿ يمرّون عليها ﴾، أي : يشاهدونها ﴿ وهم عنها معرضون ﴾، أي : لا يتفكرون فيها فلا عجب إذا لم يتأمّلوا في الدلائل على نبوّتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرّون عليها ولا يلتفتون إليها.
ولما كان ربما قيل : كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أنّ الله تعالى فاعل تلك الآيات ؟ بين أنّ إشراكهم سقط لذلك بقوله تعالى :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله ﴾ حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق ﴿ إلا وهم مشركون ﴾ بعبادته الأصنام قال تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله ﴾ [ الزخرف، ٨٧ ] لكنهم كانوا يثبتون شريكاً في العبودية. وعن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يعنون الأصنام. وعنه أيضاً أنّ أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام : ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار : ربنا الله وحده لا شريك له.
ولما كان أكثر هؤلاء لا ينقادون إلا بالعذاب قال تعالى :﴿ أفأمنوا ﴾ إنكار فيه معنى التوبيخ والتهديد ﴿ أن تأتيهم ﴾ في الدنيا ﴿ غاشية ﴾، أي : نقمة تغشاهم وتشملهم ﴿ من عذاب الله ﴾، أي : الذي له الأمر كله كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم ﴿ أو تأتيهم الساعة بغتة ﴾، أي : فجأة وهم عنها في غاية الغفلة وقوله تعالى :﴿ وهم لا يشعرون ﴾، أي : بوقت إتيانها قبله كالتأكيد لقوله ﴿ بغتة ﴾.
ولما كان صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن الله تعالى أمره أن يأمرهم باتباعه بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً ﴿ هذه ﴾، أي : الدعوة إلى الله تعالى التي أدعو إليها ﴿ سبيلي ﴾، أي : طريقتي التي أدعو إليها الناس، وهي توحيد الله تعالى ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً ؛ لأنه الطريق المؤدّي إلى ثواب الجنة ﴿ أدعو إلى الله ﴾، أي : إلى توحيده والإيمان به ﴿ على بصيرة ﴾، أي : حجة واضحة وقوله ﴿ أنا ﴾ تأكيد للمستتر في أدعو على بصيرة ؛ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة وقوله :﴿ ومن اتبعني ﴾، أي : ممن آمن بي وصدق بما جاءني عطف عليه ؛ لأنّ كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدور وسعه إلى الله، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء أمناء الرسل على عباد الله » من حيث يحفظون ما يدعون إليه.
فائدة : جميع القراء يثبتون الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم ﴿ وسبحان ﴾، أي : وقل سبحان ﴿ الله ﴾ تنزيهاً له تعالى عما يشركون به ﴿ وما أنا من المشركين ﴾، أي : الذين اتخذوا مع الله ضدًّا وندًّا.
ولما قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم هلا بعث الله ملكاً ؟ قال تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك ﴾ إلى المكلفين ﴿ إلا رجالاً ﴾، أي : مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثاً كما قاله ابن عباس، ولا من الجنّ كما قاله الحسن، ﴿ يوحى إليهم ﴾، أي : بواسطة الملائكة مثل ما يوحي إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله، وكسرها الباقون ﴿ من أهل القرى ﴾، أي : من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي ؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي، ومكة أم القرى ؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك ؟ قال الحسن : لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى :﴿ أفلم يسيروا ﴾، أي : هؤلاء المشركون المكذبون ﴿ في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا.
ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ ولدار الآخرة ﴾، أي : ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة ﴿ خير ﴾ وهي الجنة ﴿ للذين اتقوا ﴾ الله من حياة مآلها الموت، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغداً من غير آلام ﴿ أفلا يعقلون ﴾ فيستعملون عقولهم فيتبعون الداعي إلى هذا السبيل الأقوم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة، والباقون بالياء على الغيبة لهم وللمشركين المكذبين.
وقوله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي : لا يغررهم تمادي أيامهم فإنّ من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا ومن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير وازع ﴿ وظنوا ﴾، أي : أيقن الرسل ﴿ أنهم قد كذبوا ﴾ بالتشديد كما قرأه غير حمزة وعاصم والكسائي تكذيباً لا إيمان بعده، وأمّا بالتخفيف كما قرأه هؤلاء فالمعنى أنّ الأمم ظنوا أنّ الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر عليهم ﴿ جاءهم نصرنا ﴾ لهم بخذلان أعدائهم ﴿ فنجي من نشاء ﴾، أي : النبيّ والمؤمنون، وقرأ ابن عامر وعاصم بنون مضمومة بعدها جيم مشدّدة وياء بعد الجيم مفتوحة، والباقون بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الجيم وسكون الياء ﴿ ولا يرد بأسنا ﴾، أي : عذابنا ﴿ عن القوم المجرمين ﴾، أي : المشركين ما نزل بهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه القصص وحث على الاعتبار بها بقوله :﴿ أفلم يسيروا ﴾ أتبعه بأنّ في أحاديثهم أعظم عبرة فقال حثا على تأملها والاستبصار بها :﴿ لقد كان في قصصهم ﴾، أي : يوسف وإخوته أو في قصص الرسل ﴿ عبرة ﴾، أي : عظة عظيمة ﴿ لأولي الألباب ﴾، أي : لذوي العقول المبرأة من شوائب الكدر ويعتبرون بها إلى ما يسعدهم ؛ لأنّ من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام لقادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن نبه تعالى على ذلك بتقدير سؤال فقال تعالى :﴿ ما كان حديثاً يفترى ﴾، أي : يختلق ؛ لأنّ الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه ؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما رأوه في التوراة من غير تفاوت كما يعلم من قوله تعالى :﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾، أي : من الكتب الإلهية المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف عليه السلام ﴿ و ﴾ زاد على ذلك بقوله ﴿ تفصيل ﴾، أي : تبيين ﴿ كل شيء ﴾، أي : يحتاج إليه من الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، وقيل : المراد تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته.
قال الواحدي : وعلى التفسيرين جميعاً فهو من العامّ الذي أريد به الخاص كقوله تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ [ الأعراف، ١٥٦ ]، أي : يجوز أن يدخل فيها وقوله تعالى :﴿ وأوتيت من كل شيء ﴾ [ النمل، ٢٣ ]. ﴿ وهدى ﴾ من الضلال ﴿ ورحمة ﴾ ينال بها خير الدارين ﴿ لقوم يؤمنون ﴾، أي : يصدّقون خصهم بالذكر ؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به كقوله تعالى :﴿ هدى للمتقين ﴾ فسبحان من أنزله معجزاً باهراً وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً.
Icon