تفسير سورة يوسف

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
تقدمة لتفسير سورة يوسف
رأينا أن نقدّم لك أيها القارئ صورة موجزة تبين لك حال هذا النبي الكريم والعبرة من ذكر قصته في القرآن العظيم، لتكون ذكرى للذاكرين، وسلوة للقارئين والسامعين.
يوسف الصديق : مثل كامل في عفّته :
يوسف عليه السلام آية خالدة على وجه الدهر، تتلى في صحائف الكون بكرة وعشيا، تفسّر طِيب نجاره وطهارة إزاره، وعفته في شبابه، وقوّته في دينه وإيثاره لآخرته على دنياه، وأفضل هداية تمثل للنساء والرجال المُثل العليا في العفة والصيانة التي لا تتم لأحد من البشر إلا بصدق الإيمان بالله ومراقبته له في السر والعلن.
وسورته مَنْقَبة عظمى له، آية بينة في إثبات عصمته، وأفضل مثل عملي يَقْتَدي به النساء فالرجال، فبتلاوتها يشعر القارئ لما للشهوة الخسيسة على النفس من سلطان ويسمع بإذنه تغلب الفضيلة في المؤمن على كل رذيلة، بقوة الإرادة ووازع الشرف والعصمة ؛ ففيها أحسن الأسوة للمؤمنين من الرجال والنساء، فيها قصة شاب كان من أجمل الناس صورة، وأكملهم بِنْية، يخلوا بامرأة ذات منْصِب وسلطان وهي سيدة له وهو عبدها، يحملها الافتتان بجماله على أن تُذِلّ نفسها له، تخون بعلها فتراوده عن نفسه- وقد جرت العادة حتى في طبقات الدنيا منزلة وتربية أن يكون النساء مطلوبات لا طالبات- فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعفته ما هو أفضل درس في الإيمان بالله والاعتصام بحبله المتين، وفي حفظه أمانة سيده الذي أحسن مثواه فيقول :﴿ إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ﴾ ( يوسف : ٢٣ ) فتشعر حينئذ بالذل والمهانة، والتفريط في الشرف والصيانة، وتحقير مقام السيادة والكرامة.
إلا أن فيها أعظم دليل صبره وحلمه وأمانته وعدله، وحكمته وعلمه، وعفوه وإحسانه، فكفى شاهدا على صبره أن إخوته حسدوه فألقَوْه في غيابة الجب وأخرجته السيارة وباعوه بيع العبيد، وكادت له امرأة العزيز فَزُجّ في السجن فصبر على أذى الإخوة وكيد امرأة العزيز ومكر النسوة، إذ علم ما في الفاحشة من مفاسد، وما في العدل والإحسان من منافع ومصالح، فآثر الأعلى على الأدنى فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الإثم، وكانت العاقبة أن نجّاه الله ورفع قدره، وأذل العزيز وامرأته، وأقرت المرأة والنسوة ببراءته، ومكّن له في الأرض وكانت عاقبته النصر، والملك والحكم، والعاقبة للمتقين، قال سبحانه :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ( ٥٦ ) ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ ( يوسف : ٥٦-٥٧ ).
وأما عدله وأمانته وعلمه وحكمته فقد ظهرت جليّا حين تولى الحكم في مصر أيام السبع السنين العجاف التي أكلت الحرث والنسل وكادت توقع البلاد في المجاعات، ثم الهلاك المحقق لولا حكمته وعدله بين الناس والسير بينهم بالسوية وعلى الصراط المستقيم بلا جَنف ولا ميل مع الهوى.
ما في قصص يوسف من عبرة :
إن في هذه القصة لعبرة أيّما عبرة لعِلْية القوم وساداتهم، رجالهم ونسائهم، مُجّانهم وأعفائهم، من نساء ورجال، فإن امرأة العزيز لم تكن من قبل غويّة ولا كانت في سيرتها غير عادية، لكنها ابتُليَت بحب هذا الشاب الفاتن الذي وضعه عزيز مصر في قصره، وخلّى بينه وبين أهله، فأذلت نفسها له، بمراودته عن نفسه فاستعصم وأبى وآثر مرضاة ربه، فشاع في مصر دورها وقصورها ذلها له، وإباؤه عليها كما قال تعالى سبحانه :﴿ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾ ( يوسف : ٣٠ ).
وقد ذكرنها بالوصف- امرأة العزيز- دون الاسم الصريح استعظاما لهذا الأمر منها، ولا سيما وزوجها عزيز مصر أو رئيس حكومتها، وقد طلبت الفاحشة من مملوكها وفتاها الذي هو في بيتها وتحت كَنَفَها، وذلك أقبح لوقوعها منها، وهي السيدة وهو المملوك وهو التابع وهي المتبوعة، وقد جرت العادة بأن نفوس النسوة تَعْزف عن مثل هذه الدناءة ولا ترضى لنفسها بهذه الذلة التي تشعر بالمساواة لا بالسيادة، وبالضعة لا بالعظمة ولله في خلقه شؤون.
وقد تضمن وصف النسوة لها بهذا الوصف أنها لم تقتصد في حبها ولا في طلبها.
أما الأولى فقولهن فيها :﴿ قد شغفها حبا ﴾ ( يوسف : ٣٠ ) أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها- الغشاء المحيط به- وغاض في سويدائه كما قال شاعرهم :
الله يعلم أن حبّك مني في سواد الفؤاد وسط الشغاف
وأما الثاني فقولهن :﴿ تراود فتاها عن نفسه ﴾.
فلما سمعت بهذا المكر القولي قابلتهن عليه بمكر فعليّ فقد جمعتهن وأخرجته عليهن، فلم يشعرن إلا وأحسن خلق الله قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك الحسن الفتّان، وفي أيديهن مُدىّ يقطعن بها مما يأكلنه فقطَّعن أيديهن وهن لا يشعرن بما فعلن مأخوذات بذلك الحسن كما جاء في قوله سبحانه ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ ( يوسف : ٣١-٣٢ ).
فلما هددته بالسجن والإذلال بعد أن هتك سِتْرها وكاشفت النسوة في أمرها وتواطأن معها على كيدها- آثر عليه السلام الاعتقال في السجن على ما يدعونه إليه من الفحش والخنا :﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ ( يوسف : ٣٣-٣٤ ).
وإنه ليستبين من هذا القصص أن امرأة العزيز كانت مالكة لقيادة زوجها الوزير الكبير، تصرفه كيف شاءت وشاء لها الهوى، إذ كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء الدنيا صغار الأنفس عبيد الشهوات.
قال في الكشاف عند ذكر ما رأوا من الشواهد الدالة على براءته : وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب، وكان مطواعا لها، وجملا ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه لإلحاق الصغار به كما أوعدته، وذلك لما أيست من طاعته وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها ا ه.
وإنا لنستخلص من هذه القصة الأمور التالية :
أن النقم قد تكون ذريعة لكثير من النعم، ففي بدء القصة أحداث كلها أتراح، أعقبتها نتائج كلها أفراح.
أن الإخوة لأب قد توجد بينهم ضغائن وأحقاد ربما تصل إلى تمني الموت أو الهلاك أو الجوائح التي تكون مصدر النكبات والمصايب.
أن العفة والأمانة والاستقامة تكون مصدر الخير والبركة لمن تحلى بها، والشواهد فيها واضحة، والعبرة منها ماثلة، لمن اعتبر وتدبر ونظر بعين الناقد البصير.
إن أسها ودعامتها هو خلوة الرجل بالمرأة ؛ فهي التي أثارت طبيعتها وأفضت بها إلى إشباع أنوثتها، والرجوع إلى هواها وغريزتها، ومن أجل هذا حرم الدين خلوة الرجل بالمرأة وسفرها بغير محرم، وفي الحديث :( ما اجتمع رجل وامرأة إلا والشيطان ثالثهما ).
وإنا لنرى في العصر الحاضر أن الداء الدويّ، والفساد الخلقي، الذي وصل إلى الغاية وكلنا نلمس آثاره، ونشاهد بلواه ما بلغ إلى ما نرى إلا باختلاط الرجال بالنساء في المراقص والملاهي، والاشتراك معهم في المفاسد والمعاصي كمعاقرة الخمور، ولعب القمار في أندية الخزي والعار، وسباحة النساء مع الرجال في الحمامات المشتركة.
وبعد فهل لهذه البلوى من يفرّج كربتها، وهل لهذا الليل من يزيل ظلامه، وهل لهذه الجراح من آس وهل لهذه الفوضى من علاج، ولهذه الطامة من يقوم بحمل عبئها عن الأمة ويكون فيه من الشجاعة ما يجعله يرفع الصوت عاليا بالنزوع عن تلك الغواية ويرد أمر المجتمع والحرص على آدابه إلى ما قرره الدين وسار عليه سلف المسلمين المتقين فيصلح أمره وتزهو الفضيلة وتنشأ نابتة جديدة تقوم على حراسة الدين في بلاد المسلمين ولله الأمر من قبل ومن بعد.
هدانا الله إلى سبيل الفلاح، وسدد خطانا إلى طريق النجاح، إنه نعم المولى ونعم النصير.
سورة يوسف عليه السلام
هي مكية، وآياتها إحدى عشر ومائة
والمناسبة بينها وبين سورة هود أنها متممة لما فيها من قصص الرسل والاستدلال بذلك على كون القرآن وحيا من عند الله دالا على رسالة محمد صلى الله عله وسلم خاتم النبيين، والفرق بين القصص فيها وفيما قبلها، أن السابق كان قصص الرسل مع أقوامهم في تبليغ الدعوة والمحاجة فيها وعاقبة من آمن منهم ومن كذبوهم لإنذار مشركي مكة ومن تبعهم من العرب.
وأما هذه السورة فهي قصة نبي ربي في غير قومه قبل النبوة وهو صغير السن حتى بلغ أشده واكتهل فنبئ وأرسل ودعا إلى دينه ثم تولى إرادة الملك لقطر عظيم فأحسن الإرادة والسياسة فيه وكان خير قدوة للناس في رسالته وفي جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة وتصريف أمورها على أحسن ما يصل إليه العقل البشري، ومن أعظم ذلك شأنه مع أبيه وإخوته وآل بيت النبوة، وكان من حكمة الله أن يجمعها في سورة واحدة، ومن ثم كانت أطول قصة في القرآن الكريم.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ١ ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون( ٢ ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ ( يوسف : ١-٣ ).
المعنى الجملي : جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ؛ ذلك أن موضوع الأولى قصص نبي تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان في جميعها خير أسوة، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد الله وإثبات الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.
وروي عن سعد بن أبي وقاص في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فيكون في ذلك ترويح لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات.
الإيضاح :
﴿ آلر ﴾ تقدم الكلام في هذا بما فيه الكفاية.
﴿ تلك آيات الكتاب المبين ﴾ أي آيات هذه السورة هي آيات الكتاب البين الظاهر بنفسه، والمُظْهر لما شاء الله من حقائق الدين وأحكام التشريع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين والمشرد إلى مصالح الدنيا وسبيل الوصول إلى سعادة الآخرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ١ ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون( ٢ ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ ( يوسف : ١-٣ ).
المعنى الجملي : جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ؛ ذلك أن موضوع الأولى قصص نبي تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان في جميعها خير أسوة، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد الله وإثبات الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.
وروي عن سعد بن أبي وقاص في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فيكون في ذلك ترويح لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات.
الإيضاح :
﴿ إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ﴾ أي إنا أنزلنا هذا الكتاب على النبي العربي، ليبين لكم بلغتكم العربية ما لم تكونوا تعلمونه من أحكام الدين وأنباء الرسل والحكمة في شؤون الاجتماع وأصول العمران وأدب السياسة، ولتعقلوا معانيه وتفهموا ما ترشد إليه من مطالب الرّوح ومدارك العقل وتزكية النفس وإصلاح حال الجماعات والأفراد بما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ١ ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون( ٢ ) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ ( يوسف : ١-٣ ).
المعنى الجملي : جاءت فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة يونس، خلا أن القرآن وصف هنا بالمبين وهناك بالحكيم ؛ ذلك أن موضوع الأولى قصص نبي تقلبت عليه صروف الزمان بين نحوس وسعود كان في جميعها خير أسوة، وموضوع الثانية أصول الدين من توحيد الله وإثبات الوحي والرسالة والبعث والجزاء، وهذه يناسبها الوصف بالحكمة.
وروي عن سعد بن أبي وقاص في سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غبر يتلو القرآن زمانا على أصحابه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فيكون في ذلك ترويح لنفوسنا وإحاطة بما يتضمنه من عبر وعظات.
الإيضاح :
﴿ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ﴾ أي نحن نقص عليك ونحدثك أحسن ما يُقَصُّ ويتحدث عنه موضوعا وفائدة، لما يتضمنه من العبر والحكم، بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن الكريم، إذ هي الغاية في بلاغتها وتأثيرها في النفس وحسن موضوعها، وقد كنت من قبل ذلك في زمرة الغافلين عنه من قومك الأميين الذين لا يخْطُر في بالهم التحديث بأخبار الأنبياء وأقوامهم وبيان ما كانوا عليه من دين وشرع كيعقوب وأولاده وهم في بداوتهم ولا ما كان فيه المصريون الذين جاء يوسف إليهم من حضارة وترف، ولا ما حدثه له في بعض بيوتات الطبقة الراقية، ولا حاله في سياسة الملك وإدارة شؤون الدولة وحسن تنظيمها.
﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( ٤ ) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( ٥ ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ﴾ ( يوسف : ٤-٦ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات الثلاث في قَصِّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصة لإخوته خيفة الحسد والكيد له، وفي تعبير تلك الرؤيا له، وما فيها من البشارة وحسن العقابة وأنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، وقد شُغِف أبوه بحبه وتعلّقه به أمله وكان ذلك بدءا لما جَدَّ له من أحداث ضر وبؤس، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين، ولم يذكر ذلك إلا في أواخر السورة، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص- الروايات- فتراهم يبدءون بذكر نبأ هام يشغل بال القارئ ويحيره في فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفيّ رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ في نهاية القصص.
تفسير المفردات : لأبيه : هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، روى أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم ). أحد عشر كوكبا : هم إخوته وكانوا أحد عشر نفرا. والشمس والقمر : أبوه وأمه، والسجود : من سجد البعير، إذا خفض رأسه لراكبه حين ركوبه، وكان من عادة الناس من تحية التعظيم بفلسطين ومصر وغيرهما الانحناء مبالغة في الخضوع والتعظيم، وقد استعمله القرآن في انقياد كل المخلوقات لإرادة الله وتسخيره، ولا يكون السجود عبادة إلا بالقصد والنية للتقرب إلى من يعتقد أن له عليه سلطانا غيبيا فوق سلطان الأسباب المعهودة.
الإيضاح :
﴿ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴾ أي قال يوسف لأبيه يعقوب إني رأيت في منامي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر لي سُجُّدا، وقد علم أبوه أن هذه رؤيا إلهام، لا أضغاث أحلام، تثيرها في النوم الهواجس والأفكار، وأن يوسف سيكون له شأن عظيم وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته ما سمعه ويفهموا ما فهمه، فيحسدوه ويكيدوا لإهلاكه، ومن ثم نهاه أن يقص عليهم رؤياه كما دل على ذلك قوله :﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ﴾.
﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( ٤ ) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( ٥ ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ﴾ ( يوسف : ٤-٦ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات الثلاث في قَصِّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصة لإخوته خيفة الحسد والكيد له، وفي تعبير تلك الرؤيا له، وما فيها من البشارة وحسن العقابة وأنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، وقد شُغِف أبوه بحبه وتعلّقه به أمله وكان ذلك بدءا لما جَدَّ له من أحداث ضر وبؤس، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين، ولم يذكر ذلك إلا في أواخر السورة، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص- الروايات- فتراهم يبدءون بذكر نبأ هام يشغل بال القارئ ويحيره في فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفيّ رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ في نهاية القصص.
تفسير المفردات :
وقص الرؤيا : الإخبار بها على وجه الدقة والإحاطة. وكاد له : إذا دبر الكيد لأجله لمضرّته أو لمنفعته كما قال ﴿ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ﴾ ( يوسف : ٧٦ ).
الإيضاح :
﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ﴾ أي لا تخبر إخوتك بما رأيت في منامك خفية أن يحسدوك فيحتالوا للإيقاع بك بتدبير يُحكّمونه بالتفكير والروية.
ثم بين السبب النفسي لهذا الكيد بقوله :
﴿ إن الشيطان للإنسان عدو مبين ﴾ أي إن الشيطان عدو لآدم وبنيه، قد أظهر لهم عداوته فاحذر أن يغري إخوتك بك بحسدهم لك إن أنت قصصت عليهم رؤياك، إذ من دأبه أن ينْزع بين الناس حين تعرض لهم داعية من هوى النفس ولا سيما الحسد الغريزي في فطرة البشر، وقد أرشد إلى هذا يوسف بقوله :﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ( ٤ ) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( ٥ ) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ﴾ ( يوسف : ٤-٦ ).
المعنى الجملي : هذه الآيات الثلاث في قَصِّ يوسف رؤياه على أبيه وهو صغير، وفيما أجابه به أبوه من منعه عن قصة لإخوته خيفة الحسد والكيد له، وفي تعبير تلك الرؤيا له، وما فيها من البشارة وحسن العقابة وأنه سيكون له شأن عند الله وعند الناس، وقد شُغِف أبوه بحبه وتعلّقه به أمله وكان ذلك بدءا لما جَدَّ له من أحداث ضر وبؤس، ثم عاقبة حميدة كانت ذكرى للذاكرين وعبرة للمتقين، ولم يذكر ذلك إلا في أواخر السورة، وقد احتذى هذا الأسلوب كثير ممن وضعوا كتب القصص- الروايات- فتراهم يبدءون بذكر نبأ هام يشغل بال القارئ ويحيره في فهم علله وأسبابه وما يزالون يتدرجون به من حال إلى حال ومن شرح معمّى وكشف خفيّ رويدا رويدا بأناة وحذق حتى يشرحوا ذلك النبأ في نهاية القصص.
تفسير المفردات :
والاجتباء : من جبيت الشيء : إذا حصّلته لنفسك. والتأويل : الإخبار بما يئول إليه الشيء في الوجود، سميت الرؤيا أحاديث باعتبار حكايتها والتحديث بها. والآل : أصلها أهل، وهو خاص بمن لهم شرف وخطر في الناس كآل النبي صلى الله عليه وسلم وآل الملك.
الإيضاح :
﴿ وكذلك يجتبيك ربك ﴾ أي وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر سجّدا لك، يجتبيك لنفسه ويصطفيك على آلك وغيرهم بفيض إلهي يكملك به بأنواع من المكرمات بلا سعي منك فتكون من المخلصين من عباده.
﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾ أي ويعلمك من علمه اللّدني تأويل الرؤيا وتعبيرها أي تفسيرها بالعبارة والإخبار بما تؤول إليه في الوجود كما حكى الله قول يوسف لأبيه :﴿ هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
وتعليم الله تعالى يوسف التأويل : إعطاؤه إلهاما وكشفا لما يراد، أو فراسة خاصة فيها، أو علما أعم من ذلك كما يدل عليه قوله لصحابي السجن :﴿ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ ( يوسف : ٣٧ ).
﴿ ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ﴾ أي ويتم نعمته عليك باجتبائه إياك واصطفائك بالنبوة والرسالة والملك، وعلى أبيك وإخوتك وذريتهم وبإخراجهم من البدو وتبوئهم مقاما كريما في مصر ثم في تسلسل النبوة في أسباطهم حينا من الدهر.
﴿ كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق ﴾ أي كما أتم النعمة من قبل هذا العهد على جدك وجد أبيك، وقدم إبراهيم لأنه الأشرف منهما والعرب وغيرها تفعل ذلك وقد كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم يا ابن عبد المطلب.
وقد قال يعقوب ذلك لما كان يعلمه من وعد الله لإبراهيم باصطفاء آله وجعل النبوة والكتاب في ذريته، وما علمه من رؤيا يوسف وأنه الحلقة الأولى في السلسلة النبوية التي ستكون من بعده من أبنائه.
﴿ إن ربك عليم حكيم ﴾ أي إن ربك عليم بمن يصطفيه ومن هو أهل للفضل والنعمة فيسخر له الأسباب التي تبلغ به الغاية إلى ما يريده له، حكيم في تدبيره فيفعل ما يشاء جريا على سنن علمه وحكمته.
وخلاصة ما تقدم : إن يعقوب عليه السلام فهم من هذه الرؤيا فهما جُمْلياّ كل ما بشر له ابنه يوسف الرائي لها، وأما كيد إخوته له إذا قصتها عليهم فقد استنبطه من طبع البشر وعداوة الشيطان له، ثم قفّى على ذلك ببشارته بما تدل عليه الرؤيا من اجتباء ربه ومن تأويل الأحاديث وهو الذي سيكون وسيلة بينه وبين الناس في رفعة قدره وعلوّ مقامه وإتمام نعمته عليه بالنبوة والرسالة كما كان ذلك لأبويه من قبله.
﴿ *لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ( ٧ ) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ( ٨ ) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( ٩ ) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ( يوسف : ٧-١٠ ).
المعنى الجملي : صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما في وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالا على رسالة من أُنْزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاء فيه لا يدري منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة :﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ ( آل عمران : ٤٤ ) وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له :﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
الإيضاح :
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ﴾ أي لقد كان في قصة يوسف وإخوته لأبيه عِبَر أيما عبر دالة على قدرة الله وعظيم حكمته وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده، وتربيته لهم، للسائلين عنها الراغبين في معرفة الحقائق والاعتبار بها، فإنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها.
تأمل : تر أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه لما ألقَوْه في غيابة الجب، ولو لم يلقوه فيها لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بصادق فراسته أمانته وصدقه لما أمّنه على بيته ورزقه وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم منها لما ظهرت نزاهته ولو لما تفشل في كيدها وكيد صويحباتها لما أُلْقي في السجن، ولو لما يُسْجن ما عرفه ساقي ملك مصر وعرف صدقه في تعبير الرؤيا وإرشاد ملك مصر إليه فآمن به وجعله على خزائن الأرض، لو لما يتبوأ هذا المنْصِب ما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهله أجمعين من الجوع والمخْمصة ويأتي بهم إلى مصر فيشاركوه فيما ناله من عز وبَذَخ ورخاء عيش ونعيم عظيم، وما من مبدأ من هذه المبادئ إلا كان ظاهره شرا مستطيرا، ثم انتهى إلى عاقبة كانت خيرا وفوزا مبينا.
فتلك ضروب من آيات الله في القصة لمن يريد أن يسأل عن أحداثها الحسية الظاهرة وعلومها الباطنة كعلم يعقوب بتأويل رؤيا يوسف وعلمه بكذبهم في دعوى أكل الذئب له، ومن شمه لريح يوسف منذ فصلت العير من أرض مصر ذاهبة إلى أرض كنعان، ومن رؤية برهان ربه، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع الملك، ومن علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمي بقي كثيرا من السنين.
﴿ *لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ( ٧ ) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ( ٨ ) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( ٩ ) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ( يوسف : ٧-١٠ ).
المعنى الجملي : صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما في وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالا على رسالة من أُنْزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاء فيه لا يدري منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة :﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ ( آل عمران : ٤٤ ) وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له :﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
الإيضاح :
﴿ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ﴾ أي إن في شأنهم لعبرة حين قالوا : ليوسف وأخوه شقيقه بنيامين أحب إلى أبينا منا فهو يفضّلُهما علينا بمزيد محبة على صغرهما وقليل نفعهما، ونحن رجال أشداء أقوياء نقوم بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والكفاية.
﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ أي إن أبانا لقد أخطأ في إيثاره يوسف وأخاه من أمه علينا بالمحبة، وهو قد ضل طريق العدل والمساواة ضلالا بيّنا لا يخفى على أحد، فكيف يفضّل غلامين ضعيفين لا يقومان له بخدمة نافعة على العصبة أولى القوة والكسب والحماية عن الذمار.
وفي الآية من العبرة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم واجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى.
﴿ *لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ( ٧ ) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ( ٨ ) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( ٩ ) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ( يوسف : ٧-١٠ ).
المعنى الجملي : صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما في وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالا على رسالة من أُنْزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاء فيه لا يدري منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة :﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ ( آل عمران : ٤٤ ) وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له :﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
الإيضاح :
﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ﴾ أي قال إخوة يوسف بعضهم لبعض : اقتلوا يوسف حتى لا يكون لأبيه أمل في لقائه، أو انبذوه في أرض بعيدة عن العمران بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه إن هو سلم من الهلاك.
﴿ يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ﴾ أي يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف فيكن كل توجهه إليكم وكل إقباله عليكم، بعد أن تخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم في عطفه وحبه وتكونوا من بعد قتله قوما صالحين تائبين إلى الله مصلحين لأعمالكم بما يكَفّر إثمها مع عدم التصدي لمثلها، وبذا يرضى عنكم أبوكم ويرضى عنكم ربكم.
﴿ *لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ( ٧ ) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ( ٨ ) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ( ٩ ) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ ( يوسف : ٧-١٠ ).
المعنى الجملي : صدّر سبحانه هذا القصص بمقدمتين : أولاهما في وصف القرآن وكونه تنزيلا من عند الله دالا على رسالة من أُنْزل عليه وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان من قبله غافلا عما جاء فيه لا يدري منه شيئا. ثانيتهما رؤيا يوسف وما فهمه منها أبوه فهما جمليّا وبنى عليه تحذيره وإنذاره وما يستهدف له من كيد إخوته ثم تبشيره بحسن العاقبة، ثم بنى على الأولى قوله بعد تمام القصة :﴿ ذلك من أنباء الغيب ﴾ ( آل عمران : ٤٤ ) وبنى على الثانية قوله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له :﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ﴾ ( يوسف : ١٠٠ ).
الإيضاح :
﴿ قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ﴾ الجب : البئر غير المبنية بالحجارة وغيابته : ما يغيب عن رؤية البصر من قعره، والسيارة : جماعة المسافرين الذين يسيرون في الأرض من مكان إلى آخر للتجارة أو غيرها.
أي قال قائل منهم وهو روبين : لا تقتلوا يوسف وألقوه في قعر البئر حيث يغيب خبره فيلتقطه بعض المسافرين ويأخذوه إلى حيث ساروا في الأقطار البعيدة، وبذا يتم لكم ما تريدون، وهو إبعاده عن أبيه إن كنتم فاعلين ما هو المقصد لكم بالذات، إذ لا شك أن قتله لا يعنيكم لذاته، فعلام تُسْخطون خالقكم باقتراف جريمة القتل والغرض يتم بدونها ؛ وجاء في سفر التكوين من التوراة أن روبين مكر بهم إذ كان يريد إخراجه من الجب وإرجاعه إلى أبيه فإنهم وضعوه في بئر لا ماء فيها، فمرت بها سيارة من التجار العرب مسافرة إلى مصر، فاقترح عليهم يهوذا إخراجه وبيعه لهم، إذ لا فائدة لهم من قتله وهو من لحمهم ودمهم ففعلوا.
﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( ١١ ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ١٢ ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣ ) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾ ( يوسف : ١١-١٤ ).
المعنى الجملي : هذا بيان جيء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم، وفيه إيماء أنه كان يخافهم عليه، ولولا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم في غاية المحبة والشفقة له.
تفسير المفردات :
الناصح : المشفق المحب للخير.
الإيضاح :
﴿ قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون ﴾ أي قالوا له : لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به ونخلص النصح له ؟ وكانوا قد شعروا منه بهذا بعد ما كان من رؤيا يوسف، وربما علموا بهذا منه.
﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( ١١ ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ١٢ ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣ ) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾ ( يوسف : ١١-١٤ ).
المعنى الجملي : هذا بيان جيء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم، وفيه إيماء أنه كان يخافهم عليه، ولولا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم في غاية المحبة والشفقة له.
تفسير المفردات :
والرّتع : الاتساع في الملاذ، والمراد باللعب لعب المسابقة والانتضال بالسهام ونحوهما مما يُتَدرّب به لمقاتلة الأعداء وتعليم فنون الحرب.
الإيضاح :
﴿ أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ﴾ أي أرسله معنا غداة غد حين نخرج كعادتنا إلى المرعى في الصحراء يشاركنا في الرياضة والأنس والسرور وأكل الفواكه والبقول وغيرهما مما يطيب، وقد كان أكثر لعب أهل البادية السباق والصراع والرمي بالعصي والسهام إن وجدت، وإنا لحافظوه من كل أذى يصيبه.
﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( ١١ ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ١٢ ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣ ) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾ ( يوسف : ١١-١٤ ).
المعنى الجملي : هذا بيان جيء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم، وفيه إيماء أنه كان يخافهم عليه، ولولا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم في غاية المحبة والشفقة له.
تفسير المفردات :
والحزن : ألم النفس من فقد محبوب أو وقوع مكروه. والخوف : ألم النفس من توقع مكروه قبل وقوعه.
الإيضاح :
﴿ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ﴾ أي قال مجيبا لهم : إني ليحزنني ويقض عليّ مضجعي أن تذهبوا به معكم إلى الصحراء خيفة أن يأكله الذئب وأنتم لا تشعرون به، لاشتغالكم عن مراقبته وحفظه بلعبكم، ولعله لو لم يذكر هذا لهم لما خطر ببالهم أن يقع، ولكن شدة الحذر والاحتياط هو الذي جعله يقول ذلك.
﴿ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ( ١١ ) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( ١٢ ) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ( ١٣ ) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾ ( يوسف : ١١-١٤ ).
المعنى الجملي : هذا بيان جيء به لبيان ما كادوا به أباهم بعد أن ائتمروا بيوسف ليرسله معهم، وفيه إيماء أنه كان يخافهم عليه، ولولا ذلك ما قال لهم تلك المقالة التي أظهروا فيها أنهم في غاية المحبة والشفقة له.
تفسير المفردات :
والعصبة : الجماعة التي تُعْصب بها الأمور، وتُكْفى بآرائها الخطوب. وخاسرون : ضعفاء عاجزون أو هالكون لا غناء عندهم ولا نفع.
الإيضاح :
﴿ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ﴾ أي قالوا له والله لئن اختطفه منا الذئب في الصحراء ونحن جماعة شديدة البأس تُكْفَى بنا الخطوب وتُدْفع مهمات الأمور- إنا إذا لهالكون ولا غناء عندنا ولا نفع ولا ينبغي أن يُعْتدّ بنا ويُرْكن إلينا.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ١٥ ) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ( ١٦ ) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( ١٧ ) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾( يوسف : ١٥- ١٨ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل.
تفسير المفردات : أجمعوا : أي عزموا عزما لا تردد فيه. وأوحينا إليه : أي ألهمناه كما في قوله :﴿ وأوحينا إلى أم موسى ﴾ ( القصص : ٧ ).
الإيضاح :
﴿ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ﴾ أي فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له وقد عزموا عزما إجماعيا لا تردد فيه على إلقائه في غيابة الجب، نفذوا ذلك وحينئذ أوحينا إليه وحيا إلهاميا تطييبا لقلبه وتثبيتا لنفسه : لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجا، ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم، ويرفع درجتك، وستخبرهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بأنك يوسف.
وفي هذا إيماء إلى أنه سيخْلُص من هذه المحنة ويصيرون تحت سلطانه وقهره.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ١٥ ) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ( ١٦ ) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( ١٧ ) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾( يوسف : ١٥- ١٨ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل.
تفسير المفردات :
والعشاء : من الغروب على العتمة : أي حين يخالط سواد الليل بقية بياض النهار.
الإيضاح :
﴿ وجاؤوا أباهم عشاء يبكون* قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ﴾ أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سوادُ الليل بياض النهار- حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له : إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق نترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها، إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي يُرْهق القُوَى فأكله الذئب، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صُراخه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ؟ ولك العذر في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في ذلك الأمر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ١٥ ) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ( ١٦ ) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( ١٧ ) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾( يوسف : ١٥- ١٨ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل.

تفسير المفردات :

والعشاء : من الغروب على العتمة : أي حين يخالط سواد الليل بقية بياض النهار.

الإيضاح :

﴿ وجاؤوا أباهم عشاء يبكون* قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ﴾ أي جاءوه وقت العشاء حين خالط سوادُ الليل بياض النهار- حال كونهم يبكون ليقنعوه بما يريدون قائلين له : إنا ذهبنا من موضع اجتماعنا نتسابق نترامى بالنبال، وتركنا يوسف عند ثيابنا وأزوادنا ليحفظها، إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا الذي يُرْهق القُوَى فأكله الذئب، إذ بعدنا عنه ولم نسمع استغاثته ولا صُراخه، ونحن نعلم أنك لا تصدقنا ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ؟ ولك العذر في هذا لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في ذلك الأمر.


تفسير المفردات :
والاستباق : تكلف السبق في العَدْو أو الرمي. والمتاع : فضل الثياب وماعون الطعام والشراب. ومؤمن : أي مصدق.
﴿ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( ١٥ ) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ( ١٦ ) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( ١٧ ) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾( يوسف : ١٥- ١٨ ).
المعنى الجملي : جاءت هذه الآيات الأربع لبيان ما اعتزموا عليه ونفذوه بالفعل وما اعتذروا به لأبيهم من كذب، وما قابلهم به من تكذيب وصبر واستعانة بالله عز وجل.
تفسير المفردات :
وسولت : زينت وسهّلت. والصبر الجميل : ما لا شكوى فيه إلى الخلق. على ما تصفون : أي من هذه المصيبة وعظيم الرَزْء.
الإيضاح :
﴿ وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾ أي إنهم جاءوا بقميصه مُلَطّخا ظاهره بدم غير دم يوسف، وهم يدّعون أنه دمه، ليشهد بصدقهم، فكان دليلا على كذبهم، ومن ثم قال :﴿ على قميصه ﴾ ليستبين للقارئ والسامع أنه موضوعا وضعا متكلفا، إذ لو كان من افتراس الذئب لتمزّق القميص، وتغلغل الدم في كل قطعة منه، ومن أجل هذا كله لم يصدقهم وقال : هيهات، ليس الأمر كما تدعون، بل سولت لكم أنفسكم الأمّارة بالسوء أمرا نُكْرا وزيّنتْه في قلوبكم فطوعته لكم حتى اقترفتموه، وسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يُفرّجه الله بعونه ولطفه، وإني أستعين به على أن يكفيني شر ما تصفون من الكذب.
﴿ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ١٩ ) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ ( يوسف : ١٩-٢٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن إخوة يوسف أجمعوا أمرهم على إلقائه في غيابة الجب ونفّذوا ذلك، ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة بمجيء قافلة من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر وباعوه في مصر بثمن بخس.
تفسير المفردات :
السيارة : الرفقة تسير معا. والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم. وأسروه : أي أخفوه من الناس. والبضاعة : القطعة من المال يفرز للاتجار به.
الإيضاح :
﴿ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون ﴾ أي وجاءت ذلك المكان قافلة تسير من مدين إلى مصر فأرسلوا واردهم الذي يجلب لهم الماء للاستسقاء فأرسل دلوه ودلاّه في ذلك الجب فتعلق به يوسف، ولما خرج ورآه قال مبشرا جماعته السيارة : يا بشرى هذا غلام أي آن وقت البشرى فاحضري، كما يقال يا أسفا ويا حسرتا إذا وقع ما هو سبب لذلك فاستبشرت به السيارة وأخفَوْه من الناس، لئلا يدّعيه أحد من أهل ذلك المكان لأجل أن يكون بضاعة لهم من جملة تجارتهم، والله عليم بما يعمله هؤلاء السيارة وما يعمله إخوة يوسف، فلكل منهم مقصد خاص في يوسف، فالسيارة يدّعون بالباطل أنه عبد لهم فيتجرون به، وإخوة يوسف يريدون إخفائه عن أبيه ويدّعون أن الذئب قد أكله، وذلك كيد بالباطل ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه، وليرى إخوة يوسف ويوسف وأبوه قدرته تعالى على تنفيذ ما أراد.
وفي هذا تذكير من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتسلية له على ما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فكأنه يقول له : اصبر على ما نالك في الله، فإني قادر على تغيير ذلك، كما قدرت على تغيير ما لقى يوسف من إخوته، وسيصير أمرك إلى العلوّ عليهم كما صار أمر يوسف مع إخوته إذ صار سيدهم.
﴿ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( ١٩ ) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ ( يوسف : ١٩-٢٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه أن إخوة يوسف أجمعوا أمرهم على إلقائه في غيابة الجب ونفّذوا ذلك، ذكر هنا طريق خلاصه من تلك المحنة بمجيء قافلة من التجار ذاهبة إلى مصر، فأخرجوه من البئر وباعوه في مصر بثمن بخس.
تفسير المفردات :
وشرى الشيء : باعه واشتراه : ابتاعه. والبخس : الناقص والمعيب كما قال :﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] والمراد هنا الحرام أو الظلم لأنه بيع حر.
الإيضاح :
﴿ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ﴾ أي وباعه السيارة في مصر بثمن قليل ناقص عن ثمن مثله من الدراهم القليلة التي تعد عدّا ولا توزن وزنا، وكانوا لا يزنون إلا ما بلغ من الأوقية ( أربعين درهما ) فما فوقها ويعدون ما دونها، ومن ثم يعبرون عن القليل بالمعدود، وفي سفر التكوين من التوراة إن إخوته قرروا بيعه للإسماعيليين أي للعرب، وقد أخرجه من الجب جماعة من أهل مدين وباعوه لهم، وكان الذين باعوه من الراغبين عنه الذين يبغون الخلاص منه، لئلا يظهر من يطالبهم به لأنه حر، والثمن لم يكن مقصودا لهم حين بيعه ومن ثم قنعوا بالبخس منه.
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٢١ ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٢١-٢٢ ).
المعنى الجملي : هاتان الآيتان مبدأ قصص يوسف في بيت العزيز الذي اشتراه، وفيهما بيان تمكين الله له وتعليمه تأويل الأحاديث وإيتائه حكما وعلما وشهادة من الله له بأنه من زمرة المحسنين.
تفسير المفردات : المثوى : مكان الثواء والإقامة. مكنا ليوسف : أي جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر. من تأويل الأحاديث : أي بعض تعبير الرؤيا التي عُمْدَتُها رؤيا الملك وصاحبي السجن. وغالب على أمره : أي لا يُمْنع عما يشاء ولا ينازَع فيما يريد.
الإيضاح :
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ﴾ لم يبين الكتاب الكريم اسم الذي اشتراه في مصر ولا منْصَبه ولا اسم امرأته، لأن ذلك لا يهم في العبرة من القصة ولا يزيد في العظة، ولكن لقبه النسوة فيما يأتي بالعزيز، وهو اللقب الذي لقب به يوسف بعد أن تولى إدارة الملك في مصر، والظاهر أنه لقب أكبر وزراء الملك، وفي سفر التكوين أنه كان رئيس الشرط وحامية الملك، وناظر السجون، وأن اسمه فوطيفار وقد تفرس هذا الوزير فيه أصدق الفراسة، إذا وصّى امرأته بإكرام مثواه أي بحسن معاملته في كل شؤونه حتى يكون كواحد منهم ولا يكون كالعبيد والخدم.
وخلاصة ما قال : أحسني تعهده، وانظري فيما يقتضيه إكرام الضيف على أبلغ وجه وأتمه.
وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته ﴿ أكرمي مثواه ﴾ والمرأة التي قالت لأبيها ﴿ يا أبت استأجره ﴾( القصص : ٢٦ ) الآية وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ثم بين علة إكرامه برجائه فيه وعظيم أمله في جليل مساعدته فقال :
﴿ عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ﴾ أي علّة أن ينفعنا في أمورنا الخاصة إذا تدرّب فيها وعرف مواردها ومصادرها أو شؤون الدولة العامة لما يلوح عليه من مخايل الذكاء والنجابة، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد فيكون قُرة عين لنا ووارثا لمالنا ومجدنا، إذا تم رشده ونَضِج عقله.
وفي الآية إيماء إلى شيئين :
إن العزيز كان عقيما.
إنه كان صادق الفراسة ثابت الفكر، فقد استدل من كمال خَلْقِه وخُلُقِه على أن حسن عشرته وكرم وفادته وشرف تربيته مما يُكْمل استعداده الفطري، فالتجارب دلت على أنه لا يفسد الأخلاق شيء أكثر مما تفسدها البيئة الفاسدة وسوء القدوة.
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي وعلى ذلك النحو من التدبير جعلنا ليوسف مكانة عالية في أرض مصر كان مبدؤها عطف العزيز عليه ورجاءه فيه، فوقع له في بيته ثم في السجن من الأحداث ما كان سببا في اتصاله بساقي الملك ثم بالملك نفسه.
﴿ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ﴾ أي ولنعلمه بعض تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، مما ينتهي إلى غاية التمكين لدى الملك، حتى ليقول له :﴿ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾ ( يوسف : ٥٥ ) ويقول له الملك :﴿ إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ ( يوسف : ٥٤ ).
﴿ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي والله غالب على كل أمر يريده، فلا يُغْلب على شيء منه، بل يقع كما أراد ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ ( يس : ٨٢ ) فما حدث من إخوة يوسف له وما فعله مسترقّوه وبائعوه وما وصّى به الذي اشتراه امرأته من إكرام مثواه، وما وقع له مع هذه المرأة من الأحداث ومن دخوله السجن- قد كان من الأسباب التي أراد الله تعالى له بها التمكين في الأرض، ولكن أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها كما زعم إخوة يوسف أنه لو أبعد يوسف عنهم خلا لهم وجه أبيهم وكانوا من بعده قوما صالحين، وقوله :﴿ أكثر الناس ﴾، إيماء إلى أن الأقل يعلمون ذلك كيعقوب عليه السلام، فإنه يعلم أن الله غالب على أمره، فها هي ذي أقواله السابقة واللاحقة صريحة في ذلك، ولكن علمه إجمالي لا تفصيلي، إذ لا يحيط بما تخبئه الأقدار.
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( ٢١ ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٢١-٢٢ ).
المعنى الجملي : هاتان الآيتان مبدأ قصص يوسف في بيت العزيز الذي اشتراه، وفيهما بيان تمكين الله له وتعليمه تأويل الأحاديث وإيتائه حكما وعلما وشهادة من الله له بأنه من زمرة المحسنين.
تفسير المفردات :
وأشده : هو رشده وكمال قوته باستكمال نموه الجسماني والعقلي، حكما : أي حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق، وعلما بحقائق الأشياء.
الإيضاح :
وبعد أن بيّن سبحانه أن إخوة يوسف أساءوا إليه وصبر على تلك الشدائد حتى مكن الله له في أرض مصر، بين هنا أنه آتاه الحكم والعلم حين استكمال سن الشباب وبلوغ الأشد، وأن ذلك جزاء منه سبحانه على إحسانه في سيرته فقال عز اسمه :
﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ﴾ أي ولما بلغ سن رشده وكمال قوته باستكمال نموه البدني والعقلي، وهبناه حكما صحيحا فيما يعرض له من مهامّ الأمور، ومشكلات الحوادث، مقرونا بالحق والصواب، وعلما لدينا وفكريا بما ينبغي أن تسير عليه الأمور.
وقدر الأطباء هذه السن بخمس وعشرين سنة، وقد أثبت علماء الاجتماع أن الاستعداد الإنساني يظهر رويدا رويدا حتى إذا ما بلغ المرأة خمسا وثلاثين سنة وقف عند هذا الحد ولم يظهر فيه شيء جديد غير ما ظهر من بدء سن التمييز إلى هذه السن ولهذا قال ابن عباس إنها ثلاث وثلاثون سنة.
﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ أي ومثل ذلك الجزاء العظيم نجازي به المتحلين بصفة الإحسان الذين لم يدنسوا أنفسهم بسيئات الأعمال، فنؤتيهم نصيبا من الحكم بالحق والعدل، وعلما يظهره القول الفصل، إذ يكون لذلك الإحسان تأثير في صفاء عقولهم، وجودة أفهامهم، وفقِهِم لحقائق الأشياء غير ما يستفيدون بالكسب، من غيرهم، ولا يتهيأ مثل ذلك للمسيئين في أعمالهم المتبعين لأهوائهم وطاعة شهواتهم.
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤ ) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( ٢٣-٢٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأة بإكرام مثواه، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه في الأرض- ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العُدة لذلك فغلقت الأبواب ؛ فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.
تفسير المفردات :
راودته على الأمر مراودة : طلبت منه فعله مع المخادعة، فالمراوِد يتلطف في طلبه تلطف المخادع ويحرص عليه، وقال الراغب : المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد منه غير ما يريد كما قال إخوة يوسف﴿ سنراود عنه أباه ﴾ ( يوسف : ٦١ ) أي نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل بنيامين معنا. وهيت لك : بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي هلم أقبل وبادر، وقد روى أنها لغة عرب حوران، واختيرت لأنها أخص ما يؤدي المراد مع النزاهة الكاملة. ومعاذ الله : أي أعوذ وأتحصن بالله من أن من الجاهلين الفاسقين.
الإيضاح :
﴿ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ﴾ أي وخادعت امرأة العزيز يوسف عن نفسه وراوغته، ليريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته وإرادة ربه، والله غالب على أمره، قال في الكشاف : كأن المعنى خادعته عن نفسه، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها ا ه.
﴿ وغلقت الأبواب ﴾ أي وأحكمت إغلاق باب المخدع الذي كانا فيه وباب البهو الذي يكون أمام الغرف في بيوت العظماء وباب الدار الخارجي وربما كان هناك غيرها.
﴿ وقالت هيت لك ﴾ أي وقالت هَلُمّ أقْبِل، وزيدت كلمة ﴿ لك ﴾ لبيان المخاطب كما يقولون : سقيا لك ورعيا لك. وهذا الأسلوب هو الغاية في الاحتشام في التعبير، وقد يكون هناك ما زادته من إغراء وتهييج مما تقتضيه الحال. وما نقل من الإسرائيليات عنها وعنه من الوقاحة فكذب، فمثل هذا لا يعلم إلا من الله أو من الرواية الصحيحة عنها أو عنه، ولا يستطيع أحد أن يدّعي ذلك.
﴿ قال معاذ الله ﴾ أي أعوذ بالله عز وجل وألتجئ إليه مما تريدين مني فهو يعيذني أن أكون من الجاهلين كما سيأتي من قوله :﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ﴾ ( يوسف : ٣٣ ).
﴿ إنه ربي أحسن مثواي ﴾ أي إنه سيدي المالك لرقبتي، قد أحسن معاملتي في إقامتي عندك وأوصاك بإكرام مثواي، فلا أجزيه بالإحسان إساءة وأخونه في أهله، ثم علل ما صنع بقوله :
﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ أي إنه تعالى لا يفلح الظالمين لأنفسهم والظالمين للناس بخيانة وتعدّ على الأعراض لا في الدنيا ببلوغ الإمامة والرياسة ولا في الآخرة بالوصول إلى رضوان الله تعالى ودخول جنات النعيم.
وفي هذا إيماء على الاعتزاز بربه، والأمانة لسيده، والتعريض بخيانة امرأته، واحتقارها بما أضرم نار الغيظ في صدرها. /خ٢٥
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤ ) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( ٢٣-٢٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأة بإكرام مثواه، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه في الأرض- ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العُدة لذلك فغلقت الأبواب ؛ فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.
تفسير المفردات :
وهمت به : أي همت لتبطش به لعصيانه أمرها، وهمّ بها : ليقهرها في الدفع عما أرادته ويرد عنفها بمثله. وبرهان ربه : إما النبوة التي تلي الحكم والعلم اللذين آتاه الله إياهما بعد بلوغ الأشد، وإما مراقبة الله تعالى ورؤية ربه متجليا له ناظرا إليه كما جاء في الحديث في تفسير الإحسان ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) والمخلصون : هم الذين اجتباهم الله واختارهم لطاعته.
الإيضاح :
﴿ ولقد همّت به ﴾ أي ولقد همت بأن تبطش به، إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهي سيدته وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه، وكلما ألحّت عليه ازداد عتوّا واستكبارا، معتزا عليها بالديانة والأمانة، والترفع عن الخيانة، وحفظ شرف سيده وهو سيدها، ولا علاج لهاذ إلا تذليله بالانتقام، وهذا ما شرعت في تنفيذه أو كادت بأن همت بالتنكيل به.
﴿ وهمّ بها ﴾ لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته.
﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ أي ولكنه رأى من ربه في سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها.
والخلاصة إن الفارق بين همها وهمه، أنها أرادت الانتقام منه شفاء لغيظها إذا فشلت فيما تريد، وأهينت بعتوه واستكباره وإبائه لما أرادت، وأراد هو الاستعداد للدفاع عن نفسه، وهمّ بها حين رأى أمارة وثوبها عليه، فكان موقفهما موقف المواثبة والاستعداد للمضاربة، ولكنه رأى من برهان ربه وعصمته ما لم تر مثله إذ ألهمه أن الفرار من هذا الموقف هو الخير الذي به تتم حكمته فيما أعده له، فاستبقا باب الدار وكان من أمرهما ما يأتي بيانه فيما بعد، هذا خلاصة رأي نقله ابن جرير وأيده الفخر الرازي وأبو بكر الباقلاني.
ويرى غيرهم من المفسرين أن المعنى أنها همت بفعل الفاحشة ولم يكن لها معارض ولا ممانع، وهمّ هو بمثل ذلك، ولولا أن رأى برهان ربه لاقترفها.
وقد فنّده بعض العلماء لوجوه :
( ١ ) إن الهم لا يكون إلا بفعل للهامّ، والوقاع ليس من أفعال المرأة حتى تهم به، وإنما نصيبها منه قبوله ممن يطلبه منها بتمكينه منه.
( ٢ ) إن يوسف لم يطلب منها هذا الفعل حتى يسمى قبولها لطلبه ورضاها بتمكينه همّا لها، فالآيات قبل هذه وبعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله ومقدماته.
( ٣ ) إنه لو وقع ذلك لوجب أن يقال : ولقد هم بها وهمت به، لأن الهم الأول هو المقدم بالطبع وهو الهم الحقيقي والهم الثاني متوقف عليه.
( ٤ ) إنه قد علم من هذه القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما ومصرّة عليه، فلا يصح أن يقال إنها همت به، إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، بل الأنسب في معنى الهمّ هو ما فسرناه به أوّلا، وذلك لإرادة تأديبه بالضرب.
وقد رووا هنا أخبارا من الإسرائيليات عن تهتك المرأة وتبذلها مما لا يقع مثله من أوقح الفساق الذين تجردوا من جلابيب الحياء فضلا عمن ابْتُلي بالمعصية أول مرة من سليمي الفطرة الذين لم تغلبهم ثورة الشهوة الجامحة على حيائهم الفطري وحيائهم من نظر ربهم إليهم.
﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ أي جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف عنه دواعي ما أرادت به من السوء وما راودته عليه قبله من الفحشاء- بعصمة منا تحول دون تأثير دواعيهما الطبيعية في نفسه، حتى لا يخرج من جماعة المحسنين إلى جماعة الظالمين الذين ذمهم وشهد هو في رده عليها بأنهم لا يفلحون، وقال : لنصرف عنه السوء والفحشاء، ولم يقل لنصرفه عن السوء والفحشاء، لأنه لم يعزم عليها بل لم يتوجه إليهما فيصرف عنهما.
﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾ أي إنه من جماعة المخلصين وهم آباؤه الذين أخلصهم بهم وصفاهم من الشوائب وقال فيهم :﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ( ٤٥ ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار( ٤٦ ) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾ ( ص : ٤٥-٤٧ ). /خ٢٥
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ( ٢٤ ) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ( ٢٣-٢٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه وصية العزيز لامرأة بإكرام مثواه، وعلل ذلك بحسن الرجاء فيه ثم بين عنايته سبحانه به وتمهيد سبل كماله بتمكينه في الأرض- ذكر هنا مراودة امرأته له ونظرها إليه بغير العين التي نظر بها زوجها إليه وأرادت منه غير ما أراده هو وما أراد الله من فوقهما وأعدت العُدة لذلك فغلقت الأبواب ؛ فهرب منها إلى باب المخدع فقدّت قميصه من خلف ووجدا زوجها بالباب الخارجي فبادرت إلى اتهامه بالسوء إلى أن استبانت براءته.
تفسير المفردات :
واستبقا لبابا : أي تسابقا إلى الباب وقصد كل منهما سبق الآخر إليه، فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج. وقدّت قميصه من دبر : أي قطعته طولا من خلف. وألفيا : أي وجدا.
الإيضاح :
﴿ واستبقا الباب ﴾ أي تسابقا إلى الباب ففر يوسف من أمامها هاربا إليه طالبا النجاة منها مرجحا الفرار على الدفاع الذي لا تعرف عاقبته، وتبعته هي تبغي إرجاعه حتى لا يفلت من يدها، وهي لا تدري إذا هو خرج إلى أين يذهب، ولا ماذا يقول ولا ما يفعل ؟ لكنها أدركته.
﴿ وقدت قميصه من دبر ﴾ أي جذبته من ردائه وشدت قميصه فانقدّ.
﴿ وألفيا سيدها لدى الباب ﴾ أي وجدا زوجها عند الباب، وقد كان النساء في مصر يلقبن الزوج بالسيد، ولم يقل سيدهما لأن استرقاق يوسف غير شرعي، وهذا كلام ربه العليم بأمره، لا كلام من استرقّه.
﴿ قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ﴾ أي وحينئذ خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها، وقالت لزوجها متنصلة من جُرمها وقاذفة يوسف : ما جزاء من أراد بأهلك شيئا يسوءك صغيرا كان أو كبيرا إلا سجن يعاقب به، أو عذاب مؤلم موجع يؤدبه ويلزمه الطاعة.
قال الرازي : وفي هذا القول ضروب من الحيل :
إيهام زوجها أن يوسف قد اعتدى عليها بما يسوءها ويسوءه.
إنها لم تصرح بجرمه حتى لا يشتد غضبه ويقسو في عقابه. كأن يبيعه أو يُقْصِيه عن الدار، وذلك غير ما تريد.
إنها هددت يوسف وأنذرته بما يعلم منه أن أمره بيدها ليخضع لها ويطيعها.
إنها قالت : إلا أن يسجن والمراد منه أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخويف فحسب، أما الحبس الدائم فكان يقال فيه : يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون حين هدد موسى قال :﴿ قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ﴾ ( الشعراء : ٢٩ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وجملة القول في هذا : أن يوسف عليه السلام كان قوي الإرادة لا يمكّن غيره أن يحتال عليه ويصرفه عن رأيه ويجعله خاضعا له، ومن ثم لم تستطع امرأة العزيز أن تحوّل إرادته إلى ما تريد بمراودتها، ولا عجب في ذلك فهو في وراثته الفطرية والمكتسبة ومقام النبوة عن آبائه الأكرمين، وما اختصه به ربه من تربيته والعناية به ؛ وما شهد له به من العرفان والإحسان والاصطفاء، وما صرف عنه من دواعي السوء والفحشاء- في مكان مكين وحرز حصين من أن تتطلع نفسه إلى اجتراح السيئات، وارتكاب المنكرات، فكل ما صوّروه به من الصور البشعة الدالة على الميل إلى الفجور إنما هو من فعل زنادقة اليهود، ليُلْبسوا على المسلمين دينهم، ويشوّهوا به تفسير كلام ربهم ولا يغرّنك إسناد تلك الروايات إلى بعض الصحابة والتابعين فهي موضوعة عليهم، ولا ينبغي أن يعتدّ بها، لأن نصوص الدين تنْبِذها، إلى أنه من علم الغيب في قصة لم يُعلم الله ورسوله غير ما قصه عليه في هذه السورة، وكفى بهذا دلالة على وضعها.
تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف :
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( ٢٦ ) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( ٢٧ ) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ ( يوسف : ٢٦-٢٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف بإرادة السوء منها- ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.
الإيضاح :
﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾ أي هي طلبتني فامتنعتُ وفررت كما ترى، وقد قال هذه المقالة وهتك سترها خوفا على النفس والعرض، ولا شك أن هذه حال تحتاج إلى بحث وتشاور وأخذ ورد لم يبينه لنا الكتاب الكريم وإن كان لا بد أن يحصل حتما ما هو مقتضى العادة والعقل، لأن المقصد من القصة بيان نزاهة يوسف وفضائله لتكون عبرة لغيره.
وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه :
إن يوسف كان مولى لها، وفي مجرى العادة أن المولى لا يجرؤ أن يتسلط على سيدته ويتشدد إلى مثل هذا.
إنهم رأوا يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، ومن يطلب امرأته لا يخرج على هذا النحو.
إنهم رأوا الزينة قد بدت على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجه يوسف.
إنهم لم يشاهدوا من أخلاق يوسف في تلك الحِقْبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة أو يقوي الظن عليه بأنه هو الطالب لا الهارب.
وقد أظهر الله لبراءته ما يقوّي تلك الدلائل الكثيرة التي تظاهرت على أن بدء الفتنة كانت منها لا منه وأنها هي المذنبة لا هو وذلك ما أشار إليه بقوله :
﴿ وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ﴾ أي وحكم ابن عمّ لها مستدلا بما ذكر، وكان عاقلا حصيف الرأي فقال : قد سمعنا جَلَبة وضوضاء ورأينا شق القميص إلا أنا لا ندري أيّكُما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فصدقت في دعواها أنه أراد بها سوءا، إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقدّ قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان، وهو من الكاذبين في دعواه أنها راودته فامتنع وفرّ هاربا فتبعته وجذبته تريد إرجاعه، وإن كان قميصه قدّ من الخلف فكذبت في دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها، وهو من الصادقين في قوله أنه فرّ هاربا منها.
روي أن هذا الشاهد كان صبيا في المهد وأيدوه بما نقل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيج، وعيسى ابن مريم ) وما روي عن أبي هريرة قال :( عيسى ابن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا في المهد ) وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، الأول قد ضعفّه رجال الحديث، إلا أنه لو نطق الطفل بهذا لكان قوله كافيا في تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص، لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه في المهد من الدلائل اليقينية، وأيضا لو كان كذلك لما كان هناك داع إلى قوله : من أهلها الذين ينفي التحامل عليها ويمنع إرادة الضر بها، وأيضا فإن لفظ ( الشاهد ) لا يقع عرفا إلا على من تقدمت معرفته لما يشهد وإحاطته به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف :
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( ٢٦ ) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( ٢٧ ) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ ( يوسف : ٢٦-٢٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف بإرادة السوء منها- ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.

الإيضاح :

﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾ أي هي طلبتني فامتنعتُ وفررت كما ترى، وقد قال هذه المقالة وهتك سترها خوفا على النفس والعرض، ولا شك أن هذه حال تحتاج إلى بحث وتشاور وأخذ ورد لم يبينه لنا الكتاب الكريم وإن كان لا بد أن يحصل حتما ما هو مقتضى العادة والعقل، لأن المقصد من القصة بيان نزاهة يوسف وفضائله لتكون عبرة لغيره.
وكانت الأمارات دالة على صدق يوسف لوجوه :
إن يوسف كان مولى لها، وفي مجرى العادة أن المولى لا يجرؤ أن يتسلط على سيدته ويتشدد إلى مثل هذا.
إنهم رأوا يوسف يعدو عدوا شديدا ليخرج، ومن يطلب امرأته لا يخرج على هذا النحو.
إنهم رأوا الزينة قد بدت على وجه المرأة، ولم يكن لها من أثر على وجه يوسف.
إنهم لم يشاهدوا من أخلاق يوسف في تلك الحِقْبة الطويلة ما يؤيد مثل هذه التهمة أو يقوي الظن عليه بأنه هو الطالب لا الهارب.
وقد أظهر الله لبراءته ما يقوّي تلك الدلائل الكثيرة التي تظاهرت على أن بدء الفتنة كانت منها لا منه وأنها هي المذنبة لا هو وذلك ما أشار إليه بقوله :
﴿ وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين* وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ﴾ أي وحكم ابن عمّ لها مستدلا بما ذكر، وكان عاقلا حصيف الرأي فقال : قد سمعنا جَلَبة وضوضاء ورأينا شق القميص إلا أنا لا ندري أيّكُما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فصدقت في دعواها أنه أراد بها سوءا، إذ الذي يقبله العقل أنه لما وثب عليها أخذت بتلابيبه فجاذبها فانقدّ قميصه وهما يتنازعان ويتصارعان، وهو من الكاذبين في دعواه أنها راودته فامتنع وفرّ هاربا فتبعته وجذبته تريد إرجاعه، وإن كان قميصه قدّ من الخلف فكذبت في دعواها أنه هجم عليها يريد ضربها، وهو من الصادقين في قوله أنه فرّ هاربا منها.
روي أن هذا الشاهد كان صبيا في المهد وأيدوه بما نقل عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيج، وعيسى ابن مريم ) وما روي عن أبي هريرة قال :( عيسى ابن مريم وصاحب يوسف وصاحب جريج تكلموا في المهد ) وهذا موقوف لا يصلح الاحتجاج به، الأول قد ضعفّه رجال الحديث، إلا أنه لو نطق الطفل بهذا لكان قوله كافيا في تفنيد زعمها دون حاجة إلى الاستدلال بتمزيق القميص، لأنه من الدلائل الظنية، وكلامه في المهد من الدلائل اليقينية، وأيضا لو كان كذلك لما كان هناك داع إلى قوله : من أهلها الذين ينفي التحامل عليها ويمنع إرادة الضر بها، وأيضا فإن لفظ ( الشاهد ) لا يقع عرفا إلا على من تقدمت معرفته لما يشهد وإحاطته به.

تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف :
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( ٢٦ ) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( ٢٧ ) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ ( يوسف : ٢٦-٢٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف بإرادة السوء منها- ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.
الإيضاح :
﴿ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ﴾ أي فلما نظر إلى القميص ورأى الشق من الخلف أيقن بصدق قوله واعتقد كذبها، وقال : إن هذا محاولة للتنصل من جُرْمها باتهامها له بضروب الكيد المعروفة عن النساء، فهو سنة عامة فيهن، فهن يجتهدن في التبري من خطاياهن ما وجدن إلى ذلك سبيلا، وكيد النساء عظيم لا قِبَل للرجال به، ولا يفطنون لحيلهن حتى يدفعوها قدر المستطاع، ولا شك أن هذه شهادة من قريب لها لا يتهم بالتحامل عليها ولا بظلمها وتجريحها برميها بما هي منه براء.
تحقيق زوجها وحكم قريبها وظهور براءة يوسف :
﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( ٢٦ ) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ( ٢٧ ) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾ ( يوسف : ٢٦-٢٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر في الآيات السابقة مخادعتها ليوسف عن نفسه وتغليقها الأبواب وهربه منها إلى الباب وجذبها لقميصه ورؤية سيدها لذلك الحادث واتهامها ليوسف بإرادة السوء منها- ذكر هنا تبرئة يوسف لنفسه وحكم قريبها في القضية بعد بحث وتشاور بين زوجها وأهلها، ثم علم الزوج ببراءة يوسف وثبوت خطيئتها.
الإيضاح :
﴿ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ﴾ أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذا الكيد الذي حصل ولا تتحدث به، كي لا ينتشر أمره بين الناس ولا تخف من تهديدها وكيدها لك، وأنت أيتها المرأة توبي إلى ربك، واستغفري لذنبك، إنك كنت من زمرة المجرمين الذين يتعمدون ارتكاب الخطايا ويجترحون السيئات وهم مصرّون عليها.
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات : فتاها : عبدها ورقيقها. والشغاف : الغلاف المحيط بالقلب ويقال شَغَفْتُ فلانا إذا أصبت شغاف قلبه، كما يقال : كبدته إذا أصبت كبده. والضلال : الحَيْدة عن طريق الرشد وسنن العقل.
الإيضاح :
﴿ وقال نسوة في المدينة ﴾ لم يشر الكتاب الكريم إلى عددهن ولا إلى صفاتهن، لأن العبرة ليست في حاجة إلى ذلك، والذي يقتضيه العرف ومجرى العادة أنه عمل جماعة قليلة من بيوتات كبار الدولة يعهد منهن في العرف أن يأتمرن ويتفقن على الاشتراك في مثل هذا المكر، إذ نساء البيوت الدنيا أو الوسطى لا تتجه أنظارهن إلى الإنكار على امرأة العزيز كبير وزراء الدولة، ولا إلى مشاركتها في سلب عشيقها ولا إلى التمتع بجماله الساحر، وحادث مثل هذا جدير بأن ينتقل من بيت إلى بيت بوساطة الخدم، ويكون الشغل الشاغل للنساء في مجالسهن الخاصة وسمرهن في البيوت.
وخلاصته :
﴿ امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ﴾ وهذا كلام يقال للإنكار والتعجب من حصوله لوجوه عدة :
إنها امرأة العزيز الأكبر في الدولة، ولها المنزلة السامية بين نساء العظماء.
إن الذي تراوده عن نفسه هو فتاها ورقيقها.
إنها قد بلغ بها الأمر أن جادت بعفتها فكانت هي المراوِدة والطالبة لا المراوَدة المطلوبة.
إنها قد شاع ذكرها في المدينة لم ينثن عزمها عما تريد، بل لا تزال مُجِدّة في نيل مرغوبها، والحصول على مطلوبها، كما يفيد ذلك قولهن ﴿ تراود ﴾ وهو فعل يدل على الاستمرار في الطلب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم :
﴿ قد شغفها حبا ﴾ أي قد شق حبُّه شِغاف قلبها أي غلافه المحيط به وغاص في سويدائه، فملك عليها أمرها، فلا تبالي بما يكون من عاقبة تهتكها، ولا بما يصير إليه حالها.
ثم زادوا ذلك تأكيدا بقولهم :
﴿ إنا لنراها في ضلال مبين ﴾ أي إنا لنعلم أنها غائصة في مهاوي الضلالة البينة البعيدة عن طريق الهدي والرشاد، ولم يكن قولهن هذا إنكارا للمنكر، ولا كرها للرذيلة، ولا نصرا للفضيلة، بل قلنه مكرا وحيلة، ليصل الحديث إليها، فيحملها ذلك على دعوتهن، والرؤية بأبصارهن ما يكون فيه معذرة لها فيما فعلت. وذلك منهن مكر لا رأي، وقد وصلن إلى ما أردن كما قال تعالى :﴿ فلما سمعت بمكرهن ﴾.
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات :
بمكرهن : أي بقولهن، وسمي ذلك مكرا لأنهن كن يردن إغضابها كي تَعْرِض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته. وأعتدت : أعدّت وهيأت. والمتكأ : ما يُجلس عليه من كراسي وأرائك. وأكبرنه : أعظمنه ودهشن من جماله الرائع. وقطّعن أيديهن : أي جرحنها. حاش لله : أي تنزيها لله أن يكون هذا المخلوق العجيب من جنس البشر.
الإيضاح :
﴿ فلما سمعت بمكرهن ﴾ أي فلما سمعت مقالتهن التي يردن بها إغضابها حتى تريهن يوسف إبداء لمعذرتها فينلن ما يبغين من رؤيته، وقد كان من المتوقع أن تسمع ذلك، لما أعتيد بين الخدم من التواصل والتزاور، وهن ما قلنه إلا لتسمعه، فإن لم يتم لهن ما أردن احتلن في إيصاله، وقد كان ما أردن كما قال :
﴿ أرسلت إليهن واعتدت لهن متكأ وأتت كل واحدة منهن سكينا ﴾ أي مكرت بهن كما مكرن بها، ودعتهن إلى الطعام في دارها، وهيأت لهن ما يتكئن عليه من كراسي وأرائك كما هو المعروف في بيوت العظماء، وكان ذلك في حجرة المائدة، وأعطت كل واحدة منهم سكينا، لتقطع بها ما تأكل من لحم وفاكهة.
﴿ وقالت اخرج عليهن ﴾ أي وأمرته بالخروج عليهن، وفي هذا إيماء إلى أنه كان في حجرة في داخل حجرة المائدة التي كن فيها محجوبا عنهن، وقد تعمدت إتماما للحيلة والمكر بهن أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه علما منها بما يكون لهذه المفاجأة من الدهشة، وقد تم لها ما أرادت كما يشير إلى ذلك قوله :
﴿ فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ﴾ أي فخرج عليهن فلما رأينه أعظمنه ودَهْشن لذلك الجمال البارع وذُهِلْن فقطّعن أيديهن بدلا من تقطيع ما يأكلن ذهولا عما يعملن أي فجرحنها بما في أيديهن من السكاكين، لفرط دهشتهن وخروج حركات الجوارح عن منهاج الاختيار، حتى لم يشعرن بما عملن، ولا ألمن لما نالهن من أذى، واستعمال القطع بمعنى الجرح كثير في كلامهم فيقولون كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، يريدون فأخطأتها فجرحت يدي حتى كدت أقطعها.
﴿ وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ﴾ أي وقلن هذا على نهج التعجب والتنزيه لله تعالى أن يكون هذا الشخص الذي لم يعهد مثاله في جماله ولا في عفته من النوع الإنساني، إن هو إلا ملك تمثل في تلك الصورة البديعة التي تخلب الألباب وتدهش الأبصار.
روي عن زيد بن أسلم من مفسري السلف : أعطتهن أُتْرُجنا- ثمر من نوع الليمون الحامض كبير مستطيل يؤكل بعد إزالة قشرته- وعسلا فكن يحززن بالسكين ويأكلنه بالعسل، فلما قيل له : اخرج عليهن خرج، فلما رأينه أعظمنه وتهيمنّ به حتى جعلن يحززن أيديهن بالسكين وفيها الترنج ولا يعقلن ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الأترنج، قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن حاش لله ما هذا بشرا، أي ما هكذا يكون البشر، ما هذا إلا ملك كريم.
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات :
واستعصم : استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشؤوا عليها. الصاغرين : أي الأذلة المقهورين.
الإيضاح :
﴿ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ﴾ أي حينئذ قالت لهن : إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما فعلتن بأيديكن، وما قلتن بألسنتكن، فذلكن هو الذي لمتنّني فيه، وأسرفتن في لومي وتعنيفي، وقلتن فيما قلتن، فما يوسف بالعبد العبراني، أو المملوك الكنعاني، ولا بالخادم الصعلوك الذي شغف مولاته حبا وغراما، وراودته عن نفسه ضلالا منها وهُياما، بل هو ملك تجلّى في صورة إنسان، فماذا أنتن قائلات في أمري، وهو المالك لسمعي وبصري، وإني لأراه بشرا سويا، إنسيا لا جنيا، وجسدا لا ملكا روحانيا، فأتصبّاه بكل ما أملك من كلام عذب، فلا يصبو إليّ، ولا يُظْهر نحوي عطفا، ولا يرفع إليّ طرفا.
﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾ أي ولقد راودته عن نفسه فامتنع عما أرادته منه، واستمسك بعروة العصمة التي ورثها عمن نشئوا عليها، ولا عجب فإنّ نظره إلى الله لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا.
﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ﴾ أي ولئن لم يفعل ما آمره به مستقبلا كما لم يفعله ماضيا : ليسجنن وليكونن من الأذلة المقهورين، فإن زوجي لا يخالف لي رغبة، ولا يعصيني في أمر : وسيعاقبه بما أريد، ويلقيه في غيابات السجون، ويجعله كغيره من العبيد بعد إكرام مثواه وجعله كولده.
وفي ذلك إيماء إلى أنها ستشدد العقوبة عليه أكثر مما توعدت به أوّلا، فهناك أنذرته بسجن قد يكون على أخف صورة وأقلها، وعذاب بأهون أنواعه وألطفها كحبس في حجرة الدار، أو لطمة على خديه تزيل منها الاحمرار، وهنا أنذرته بسجن مؤكد وذل وصغار تأباه الأنفس الكريمة كنفس يوسف عليه السلام فأشقُّ الأعمال أهون على كرام الناس من الهوان والصغار.
وفي هذا التهديد من ثقتها بسلطانها على زوجها مع علمه بأمرها واستعظامه لكيدها، ما كان من حقه أن يجعل يوسف يخاف من تنفيذ إرادتها ويثبت لديه عدم غيرته عليها كما هو الحال لدى كثير من العظماء المترفين العاجزين عن إحصان أزواجهن والمحرومين من نعمة الأولاد منهن.
وربما تكون مبالغتها في تهديده بمحضر من هؤلاء النسوة لما في قلبها منه من غُل وجوى بظهور كذبها وصدقه، وتصميمه على عصيان أمرها، ولتُظْهِر ليوسف أنها ليست في أمرها على خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل، ولينصحنه في موافقتها وبرشده إلى الخلاص من عذابها.
يالله ! إن هذا لموقف يهدُّ الجبال الراسيات، وتدبير لا قِبَل لأشد العزائم على احتماله، فامرأة ماكرة هتكت سترها، وكاشفت نسوة بلدها بما تُسِر وتعلن من أمرها، ونسوة تواطأن معها على الكيد له كما كادت له من قبل بمراودته عن نفسه، ولا سبيل إلى دفع هذه الضراء، وإبعاد نتلك اللأواء، إلا بمعونة من ربه، وحفظه من نزغات الشيطان وكلاءة الرحمن، ومن ثم جرى على لسانه ما أكنه جناحه :﴿ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾.
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات :
وأصبُ إليهن : أمِلْ إلى موافقتهن على أهوائهن. والجاهلين : أي السفهاء الذين يرتكبون القبائح.
الإيضاح :
﴿ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾ أي قال ربي أنت العليم بالسر والنجوى، والقدير على كَشف تلك البلوى : إن السجن الذي هُددت به والمكث في بيئة المجرمين على شظف العيش ورقة الحال- أحب إلى نفسي مما يدعو إليه أولئك النسوة من الاستمتاع بهن في ترف القصور، والاشتغال بحبهن عن حبك وبقربهن عن قربك.
وفي قوله :﴿ مما يدعونني إليه ﴾ إيماء إلى أنهن خوفنه مخالفتها، وزيّن له مطاوعتها فقلن له : أطع مولاتك وأنلها ما تهوي، لتُكفى شرها، وتأمن عقوبتها.
﴿ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ﴾ أي وإن لم تبعد عني شراك كيدهن وتُثبِّتني على ما أنا عليه من العصمة، أمل إلى موافقتهن على أهوائهن وأقع في شباك صيدهن وأرتع في حمأة غوايتهن، وقد لجأ يوسف إلى ألطاف ربه، وسلك سبيل المرسلين من قبله في فزعهم إلى مولاهم لينيلهم الخيرات، ويبعد عنهم الشرور والموبقات، وإظهارهم أن لا طاقة لهم إلا بمعونته سبحانه مبالغة في استدعاء لطفه وعظيم كرمه ومنّه.
﴿ وأكن من الجاهلين ﴾ أي من السفهاء الذين تستخفهم الأهواء والشهوات، فيجنحون إلى ارتكاب الموبقات واجتراح السيئات، فمن يعش بين هؤلاء النسوة الماكرات المترفات لا مَهْرَب له من الجهل إلا أن تعصمه بما فوق الأسباب والسنن العادية.
وفي هذا إيماء إلى أنه ما صبا إليهن، ولا أحب أن يعيش معهن، بل سأل ربه أن يديم له ما عوده من كشف السوء عنه في قوله :﴿ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ ( يوسف : ٢٤ ).
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات :
فاستجاب له : أي أجاب دعاءه.
الإيضاح :
﴿ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ﴾ أي فأجاب له ربه دعاءه الذي تضمنه قوله :﴿ وإلا تصرف عني كيدهن ﴾ الخ فصرف عنه كيدهن وعصمه من الجهل والسفه بإتباع أهوائهن.
﴿ إنه هو السميع العليم ﴾ أي إنه هو السميع لدعاء من تضرع إليه وأخلص الدعاء له، العليم بصدق إيمانهم وبما يصلح أحوالهم.
وفي هذا إرشاد إلى أن ربه حرسه بعنايته في جميع أطواره وشؤونه، ورباه أكمل تربية وما خلاّه ونفسه في أهون أموره.
حديث النسوة في المدينة ومكر امرأة العزيز بهن :
﴿ *وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٣٠ ) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( ٣١ ) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ( ٣٢ ) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٣ ) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٣٤ ) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ ( يوسف : ٣٠-٣٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه تحقيق زوجها في الحادث وحكم أحد أقاربها بما رأى، وقد استبان منه براءة يوسف، ذكر هنا أن الأمر قد استفاض في بيوت نساء الوزراء والكبراء فأحببن أن يمكرن بها، لتريهن هذا الشاب الذي فتنها جماله، وأذلها عفافه وكماله، حتى راودته عن نفسه وهو فتاها، ودعته إلى نفسها فردها وأباها خشية لله وحفظا لأمانة السيد المحسن إليه أن يخونه في أعز شيء لديه، عله بعد هذا يصبو إليهن ويجذبه جمالهن ويكون له فيهن رأي غير ما رآه فيها، فإنه قد ألف جمالها قبل أن يبلغ الأشد، وكان ينظر إليها نظرة العبد إلى سيدته أو الولد إلى والدته.
تفسير المفردات :
وبدا : ظهر. والآيات : هي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام. والحين : وقت من الزمن غير محدود.
الإيضاح :
﴿ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ﴾ أي ثم ظهر للعزيز وامرأته ومن يهمه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها- من الرأي ما لم يكن ظاهرا لهم من قبل- بعد أن رأوا من الآيات ما اختبروه بأنفسهم وشهدوه بأعينهم، مما يدل على أن يوسف لم يكن إنسانا كالذين عرفوا في أخلاقه وعفته واحتقاره للشهوات واللذات التي يتمتع بها من سكان القصور، وفي إيمانه بأن ربه لك يتركه بل يكلؤه بعين عنايته، ويحرسه بوافر رعايته، وقد استبان لهم ذلك من وجوه :
إن افتنان سيدته في مراودته وجذبها خلسات نظره لم تؤثر في ميل قلبه إليها، بل ظل مُعْرضا عنها متجاهلا لها حتى إذا ما صارحته بما تريد استعاذ بربه ورب آبائه، وعيّرها بالخيانة لزوجها.
إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها. ولم يمنعه إلا ما رأى في دخيلة نفسه من برهان ربه الذي يدل على أن ربه صارف عنه السوء والفحشاء.
إنها حين اتهمته بالتعدي عليها شهد شاهد من أهلها أنها كاذبة في اتهامها إياه وهو صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه بدلالة القميص على ذلك.
كل هذا أثبت لهم أن بقاءه في هذه الدار بين ربتها وصديقاتها مثار فتنة لا تدرك غايتها، وأن الحكمة هو تنفيذ رأيها الأول بسجنه لإخفاء ذكره وكف ألسنة الناس عنها في أمره، وأقسموا ليسجننه حتى حين دون تقيد بزمن معين ليروا ماذا يكون فيه من تأثير السجن وحديث الناس عنه.
وفي تنفيذ هذا العزم دلالة على ما كان لهذه المرأة الماكرة من سلطان على زوجها تقوده كيف شاءت، حتى فقد الغَيْرة عليها، فهو يجري وراء هواها، ويستجلب رضاها، حتى أنساه ذلك ما رأى من الآيات وعمل برأيها في سجنه لإلحاق الهوان والصغار به حين أيست من طاعته وطمعت في أن يذلله السجن لأمرها ويقف به عند مشيئتها.
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٣٦ ) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ٣٧ ) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ ( يوسف : ٣٦-٣٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن في يوسف ما قلن من وصف جماله، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها، ثم حماية الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته أهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة في المدينة.
ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتي له من طعام وشراب ونحو ذلك، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
الإيضاح :
﴿ ودخل معه السجن فتيان ﴾ أي فسجنوه ودخل معه فتيان مملوكان من غلمان ملك مصر أحدهما خبازه والآخر ساقيه- لخيانة نسبت إليهما كانت ستؤدي بحياته، وبعد أن استقر بيوسف المقام في السجن- سأله من فيه من عمله فقال إني أعبر الرؤى، فقال أحد الفتيين لصاحبه تعال فلنجرّبه وكان من شأنهما معه ما قصه الله علينا بقوله :
﴿ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ﴾ أي قال صاحب شرابه : إني رأيت في المنام أني أعصر خمرا أي عنبا ليكون خمرا، إذ الخمر لا يُعْصَر، وقيل إن عرب غسان وعمّان يسمون العنب خمرا.
روي أنه قال رأيت حُبْلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد فكنت أعصرها وأسقي الملك.
﴿ وقال الآخر أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ﴾ أي وقال الآخر وهو الخباز، وقد روي أنه قال : رأيت أني أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه.
﴿ نبئنا بتأويله ﴾ أي قال كل واحد منهما : نبئني بتأويل ما رأيت أي بتفسيره الذي يئول إليه في الخارج إذا كان حقا لا أضغاث أحلام.
ثم بينا له ثقتهما به فقالا :
﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ أي الذين يحسنون تأويل الرؤيا، وما قالا هذا إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما جعله كعبة قصادهم وقبلة استفتائهم.
وقد يكون المعنى : إنا نراك من الذين يحسنون بمقتضى غريزتهم، ويريدون الخير للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة لهم.
وقد وجد يوسف عليه السلام من ثقة السائلين بعلمه وفضله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤياهما ما جعله يحدثهما بما هو المهم عنده وهو دعوتهما وجميع من في السجن إلى توحيد الله، ولكنه جعل في صدر كلامه ما يطمئنهم على الثقة بصدقه، وذلك بإظهار ما منّ الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب، وأقرب ذلك إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم، ومن ثم جعله بدء الحديث معهم كما حكى سبحانه عنه.
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٣٦ ) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ٣٧ ) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ ( يوسف : ٣٦-٣٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن في يوسف ما قلن من وصف جماله، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها، ثم حماية الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته أهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة في المدينة.
ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتي له من طعام وشراب ونحو ذلك، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
الإيضاح :
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ﴾ أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهي إليه بعد وصوله إليكما، روي أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعاما مسموما يقتلونهم به، وأن يوسف أراد هذا من كلامه.
وفي ذلك إيماء إلى أنه أوتي علم الغيب، وهذا يجري مجرى قول عيسى عليه السلام :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ ( آل عمران : ٤٩ ).
ومن هذا يعلم أن وحي الرسالة جاءه وهو في السجن، وبذلك تحقق قوله :﴿ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾ ( يوسف : ٣٣ ) كما أن وحي الإلهام جاءه حين إلقائه في غيابة الجب كما تقدم ذكره، وكأنه سبحانه جعل في كل محنة منحة، وفي كل ما ظاهره أنه بلاء نعمة.
﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ أي ذلكما الذي أنبأتكما به بعض ما علمني ربي بوحي منه إليّ لا بكهانة ولا عِرافة ولا ما يشبه ذلك من تعليم بشري يلتبس به الحق بالباطل ويشتبه فيه الصواب بالخطأ.
﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون ﴾ القوم هنا الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هو بينهم فقد كانوا يعبدون آلهة منه الشمس ويسمونها رع، ومنها عجلهم أبيس، ومنها فراعنهم، وكان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم، ومعنى تركها : أنه ترك دخولها وإتباع أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها، وفي تلك لفت لأنظارهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها.
والمعنى : إني برئت من ملة من لا يصدق بالله ولا يقر بوحدانيته وأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما.
﴿ وهم بالآخرة هم كافرون ﴾ أي وهم يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ إنهم كانوا يصورون حياة الآخرة على صور مبتدعة، منها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة ويرجع إليهم الحكم والسلطان كما كانوا في الدنيا، ومن ثم كانوا يضعون معهم في مقابرهم جواهرهم وحيلهم، ويبنون الأهرام لحفظ جثثهم وما معهم، ولهم معتقدات أخرى في تلك الحياة لا تشاكل ما جاء عنها على ألسنة الرسل عليهم السلام.
﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٣٦ ) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( ٣٧ ) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ ( يوسف : ٣٦-٣٨ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه مكر النسوة بامرأة العزيز لتريهن يوسف، ثم مكر امرأة العزيز بهن حتى قطّعن أيديهن وقلن في يوسف ما قلن من وصف جماله، ثم إظهار امرأة العزيز المعذرة لنفسها فيما فعلت، وعزمها على سجنه إن لم يكن مطواعا لها، ثم حماية الله له من كيدها بعد دعائه إياه، ثم تدبير مؤامرة بين العزيز وامرأته أهلها على إدخاله السجن مع كل ما رأوا من الآيات حتى ينسى الناس هذا الحديث وتسكن تلك الثائرة في المدينة.
ذكر هنا تنفيذهم لما عزموا عليه من إدخالهم إياه السجن، وما كان من لطف الله به إذ أتاه من علم تعبير الرؤيا ما يستطيع به أن يعبر لكل حالم عما يراه، ويخبر كل أحد عما يسأله عنه مما لم يكن حاضرا لديه وما سيأتي له من طعام وشراب ونحو ذلك، ثم ذكر قول يوسف إن هذا كله نعمة من نعم الإيمان بالله عليه وعلى آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
الإيضاح :
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ أي واتبعت ملة آبائي الذين دَعَوْا إلى التوحيد الخالص وهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وفي ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال.
ثم بين أساس الملة التي ورثها عن أولئك الآباء الكرام فكانت يقينا له بقوله :
﴿ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ﴾ أي لا ينبغي لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله فنتخذه ربا مدبرا معه ولا إلها معبودا من الملائكة أو البشر كالفراعنة، فضلا عما دونهما من البقر كالعجل أبيس أو من الشمس والقمر، أو ما يتخذ من التماثيل والصور لهذه الآلهة.
﴿ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ﴾ أي عدم الإشراك من فضل الله علينا، إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده في ربوبيته وألوهيته، بوحيه وآياته في الأنفس والأفاق، وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوة، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرق الغواية والضلال.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ نعم الله عليهم، فيشكرون به أربابا وآلهة من خلقه، يذلون أنفسهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم.
﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( ٣٩ ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ( يوسف : ٣٩-٤٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبطل يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سلف، وذكر أنه قد اتبع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وبين أن هذا فضل من الله ومنة عليهم وعلى الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالق لهذه النعم فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به أحدا- دعاهما هنا إلى التوحيد الخالص وأيده بالبرهان الذي لا يجد العقل محيصا من التسليم به والإقرار بصحته فقال :﴿ يا صاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾.
الإيضاح :
﴿ يا صاحبي السجن ﴾ أي يا صاحبيّ في السجن، وناداهما بعنوان الصحبة في هذه الدار التي هي دار الأشجان وموضع الهموم والأحزان، وفيها تصفو المودة وتخلص النصيحة ليَصْغَيَا إلى مقاله، ويقبلا على استماع ما يُلْقي إليهما به، فالآذان حينئذ مرهفة، والقلوب قد انصرفت عن الدنيا ولذاتها، وتفرغت لعالم آخر غير ما يشغل الناس من زِبْرج هذه الحياة وزخرفها.
﴿ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ﴾ هذا استفهام لتقرير ما يذكر بعده وتوكيده، والمراد بالتفرق التفرق في الذوات والصفات المعنوية التي ينعتونهم بها، والصفات الحسية التي يصورها لهم بها الكهنة والرؤساء من رسوم منقوشة، وتماثيل منصوبة، في المعابد والهياكل، والقهار : الغالب على أمره الذي لا يغلبه أحد.
والمعنى : أأرباب كثيرون هذا شأنهم في التفرق والانقسام، وما يقتضيه ذلك من التنازع والاختلاف في الأعمال والتدبير الذي يفسد النظام- خير لكما ولغيركما فيما تطلبون من كشف الضر وجلب النفع وكل ما تحتاجون فيه إلى المعونة من عالم الغيب، أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ينازَع لا يعارض في تصرفه وتدبيره، وله القدرة التامة والإرادة العامة، وهو المسخر لجميع القوى والنواميس الظاهرة التي تقوم بها نظم العوالم السماوية والأرضية من نور وهواء وماء، والغائبة عنا كالملائكة والشياطين مما كان الجهل بحقيقتها هو سبب عبادتها والقول بربوبيتها ؟ ولا شك أن الجواب عن هذا مما لا يختلف فيه عاقل، فلا خير في تفرق المعبودات التي لا تستطيع ضُرّا في الأرض والسماوات.
﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( ٣٩ ) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ( يوسف : ٣٩-٤٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن أبطل يوسف عليه السلام ما هما عليه من الشرك فيما سلف، وذكر أنه قد اتبع ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وبين أن هذا فضل من الله ومنة عليهم وعلى الناس، وكثير من الناس لا يشكرون الخالق لهذه النعم فيعبدوه وحده دون أن يشركوا به أحدا- دعاهما هنا إلى التوحيد الخالص وأيده بالبرهان الذي لا يجد العقل محيصا من التسليم به والإقرار بصحته فقال :﴿ يا صاحبي السجن أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾.
الإيضاح :
ثم بين لهما أن ما يعبدونه ويسمونه آلهة إنما هي جَعْل منهم، وتسمية من تلقاء أنفسهم، تلقاها خلف عن سلف، ليس لها مستند من العقل ولا الوحي السماوي فقال :
﴿ ما تعبدون من دونه إلا الأسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل بها من سلطان ﴾ أي ما تعبدون من دون الواحد القهار إلا أسماء لمسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم من قبلكم ونحلتموها صفات الربوبية وأعمالها، وما هي بأرباب تَخْلُق وترزُق، وتضر وتنفع، ما أنزل الله حجة وبرهانا على أحد من رسله بتسميتها أربابا، حتى يقال إنكم تتبعونها تعبدا له وحده وطاعة لرسله.
والخلاصة : إنها تسمية لا دليل عليها من نقل سماوي فتكون أصلا من أصول الإيمان، ولا دليل عليها من عقل فتكون من نتاج الحجة والبرهان.
﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ أي ما الحكم الحق في الربوبية والعبادة إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله ولا يمكن بشرا أن يحكم فيه بهواه ورأيه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، وهذه قاعدة اتفقت عليها الأديان، دون اختلاف في الأمكنة والأزمان.
ثم بين ما حكم به الله فقال :
﴿ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ أي أمر ألا تعبدوا غيره ولا تدعوا سواه، فله وحده اركعوا واسجدوا. وإليه وحده توجهوا حنفاء غير مشركين به شيئا من ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك الحاكمين، ولا شمس وقمر ولا نجم ولا شجر، ولا حيوان كالعجل أبيس لدى المصريين.
فالمؤمن الصادق الإيمان لا يَذِل ولا يخْزَى لأحد غير الله مما خلق، بدعاء ولا استغاثة ولا طلب فرج من ضيق، لإيمانه بأنه هو الرب المدبر لكل شيء، وأن كل ما سواه فهو خاضع لسلطانه، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القُوى، فإليه وحده الملجأ في كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب، وإليه المصير في الجزاء على الأعمال يوم يقوم الحساب.
﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي إن تخصيصه بالعبادة هو الدين الحق لا عِوَج فيه، والذي دعا إليه جميع الرسل، ودلّت عليه براهين العقل والنقل.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن ذلك هو الدين الحق الذي لا اعوجاج فيه، لا ما ساروا عليه تبعا لآبائهم الوثنيين من الاعتقاد بأرباب متفرقين.
وقد خَفِيتْ هذه الحقيقة على كثير ممن يدعون إتباع القرآن، فتراهم يتوجهون إلى غير الله من الأولياء والصلحاء إذا مسهم الضر، ويدعونهم خاشعين متذللين، ويسمونهم شفعاء ووسائل عند الله، وما هذا إلا مثلُ فِعْل من قبلهم من المشركين، فليس لهم من صفات الربوبية أدنى حظ، ولا من صفات الألوهية أقل نصيب.
وبعد أن بين لهما الحق في مسألة التوحيد وعبادة الله وحده شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه فقال :
تأويل يوسف عليه السلام رؤيا صاحبي السجن ووصيته للناجي منهما :
﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ( ٤١ ) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٤١-٤٢ ).
الإيضاح :
﴿ يا صاحبي السجن أما أحدكما ﴾ وهو الساقي الذي رأى أنه يعْصِر خمرا، ولم يعيّنُه ثقة بدلالة الحال، ورعاية لحسن الصحبة.
﴿ فيسقي ربه خمرا ﴾ أي فيسقي سيده ومالك رقبته، وقد روي أن يوسف قال له في تعبير رؤياه : ما أحسن ما رأيت، أما الكرمة فهي الملك وحسنها حسن حالك عنده، وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى عملك.
﴿ وأما الآخر ﴾ وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه.
﴿ فيصلب فتأكل الطير من رأسه ﴾ أي الطير الكواسر كالحِدَأة والرّخَمة ونحوهما روي أنه عليه السلام قال له : ما رأيت من السلال الثلاث، فثلاثة أيام تمر ثم تُخْرَج فتُصْلب.
﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ الاستفتاء في اللغة : السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه : أي إن الأمر الذي يهمكما ويشكل عليكما وتستفتياني فيه قد بُتَّ فيه وانتهى حكمه.
وهذه الفتوى من يوسف عليه السلام زائدة على تعبير رؤياهما داخلة في باب المكاشفة والإنباء عن الغيب، قالها لهما ليثقا بقوله، ويعلما أنه إنما قالها بوحي من ربه، وأن الملك قد حكم في أمرهما بما قاله.
الإيضاح :
﴿ وقال للذي ظن أنه ناج منهما ﴾ وهو الذي أوّل له رؤياه بأنه يسقي ربه خمرا، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية، وقد يكون هذا بناء على وحي فيكون الظن بمعنى اليقين وهو كثير في القرآن الكريم كما قال :﴿ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ﴾ ( البقرة : ٤٦ ) وقال :﴿ إني ظننت أني ملاق حسابيه ﴾ ( الحاقة : ٢٠ ).
﴿ اذكرني عند ربك ﴾ أي اذكرني لدى سيدك الملك بما رأيت مني وما سمعت وعلمت من أمري، علّه ينصفني ممن ظلمني ويخرجني من ضائقة السجن، ومما هو جدير أن يذكره به دعوته إياهم إلى التوحيد وتأويله للرؤيا، وإنباؤهم بكل ما يأتيهم من طعام وشراب وغيرهما قبل إتيانه وفتياه التي أفتى بها.
﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه ﴾ أي فأنسى الشيطان ذلك الساقي الناجي تذكر إخبار ربه أي أن يذكر يوسف للملك.
﴿ فلبث في السجن بضع سنين ﴾ منسيا مظلوما، والبضع من ثلاث إلى تسع، وأكثر ما يطلق على السبع وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
السمان : واحدها سمين وسمينة. والعجاف : واحدها عجفاء أي هزيلة ضعيفة. والسنابل : واحدها سنبلة وهي ما يكون فيها الحب. واليابس من السنبل : ما آن حصاده، وعبرت الرؤيا : وعبّرتها- بالتخفيف والتشديد- فسرتها ببيان المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي كمن يعْبُر النهر بالانتقال من ضفّة إلى أخرى، والأضغاث : واحدها ضِغْث وهو الحُزمة من النبات.
الإيضاح :
﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ﴾ أي أني رأيت فيما يرى النائم جلية كأني أراها الآن، سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأيت سبع سنبلات خضر قد انعقد حَبّها، وسبعا آخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة والعلماء وقال :
﴿ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾ أي عبّروها لي وبيّنوا حكمها وما تؤول إليه، إن كنتم تعبرون الرؤى وتبينون المعنى الحقيقي المراد من المعنى المثالي، فيكون حالكم حال من يعبر النهر من ضفة إلى أخرى.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
والأحلام : واحده حلم بضمتين وبالتسكين للتخفيف : ما يرى في النوم، وهو قد يكون واضح المعنى كالأفكار التي تكون في اليقظة، وقد يكون مهَوَّشا مضطربا فهو يُشبّه بالتضاغيث كأنه مؤلف من حِزَم مختلفة من العيدان والحشائش التي لا تناسب بينها.
الإيضاح :
﴿ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ أي قالوا هذه رؤيا من نوع أضغاث الأحلام : أي الأحلام المختلطة من خواطر وأخيلة يتصورها الدماغ في النوم فلا تؤمىء إلى معنى معيّن مقصود، وما نحن بأولى علم بتأويل مثل هذه الأحلام المضطربة، بل نحن نعلم غيرها من الأحلام المفهومة المعقولة.
وقد يكون مرادهم نفي العلم بجنس الأحلام لأنها مما لا يعلم أو مما لا يكون له معنى تدل عليه تلك الصور المتخيلة في النوم كما هو رأي الماديين الآن.
وقد كان حديث الملك في رؤياه مع كهنته وعلمائه ورجال دولته مذكرا للذي نجا من الفتيين بيوسف وحسن تعبيره للرؤى بعد أن مضى على ذلك ردَح من الزمان كما يشير إلى هذا ما بعده.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
واذكر : تذكر أصله : اذتكر.
الإيضاح :
﴿ وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني ﴾ أي إنّ عجز الملأ كان فرصة سانحة للذي نجا من الفتيين أن يخبر الملك بأن في الحبس رجلا صالحا عالما كثير الطاعة، خبيرا بتأويل الرؤى، فإن أنت أذنت لي مضيت إليه وجئتك بالجواب وكان ذلك الفتى تذكر بعد مدة من الزمن وصية يوسف له بأن يذكره عند سيده الملك فأنساه الشيطان ذلك، فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجزوا عنه وقال :﴿ يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ﴾.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
الإيضاح :
﴿ يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ﴾ أي يا يوسف البالغ غاية الكمال بصدقك في أقوالك وأفعالك وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، أفتنا في ذلك المنام الذي رآه الملك، وإني لأرجو أن يحقق الله أملك بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بفضلك وعلمك.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
والدأب : استمرار الشيء على حال واحدة، يقولون هو دائب بفعل كذا إذ استمر في فعله. فذروه : أي اتركوه وادخروه. والشداد : الصعاب التي تشتد على الناس.
الإيضاح :
﴿ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ﴾ أي قال يوسف للملك وملئه مبينا لهم ما يجب عليهم أن يعملوه لتلافي ما تدل عليه الرؤيا من الخطر على البلاد وأهلها قبل وقوع تأويلها، من زراعة القمح سبع سنين متوالية بلا انقطاع ثم بادخار ما يحصد منه في كل زرعة في سنابله على طريق تحفظه من السوس بتسرب الرطوبة إليه حتى يكون القمح لغذاء الناس والتبن للدواب حين الحاجة إليه، إلا قليلا من ذلك تأكلونه في كل سنة مع الاقتصاد والاكتفاء بما يسد الحاجة ويكفي دفع المخمصة، وهذه السنون السبع هي تأويل البقرات السبع السمان. أما السنبلات الخضر فعلى حقيقتها في كون كل سنبلة تأويلا لزرع سنة.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
وتحصنون : أي تُحْرزون وتدخرون للبذر.
الإيضاح :
﴿ ثم يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ﴾ أي ثم تأتي بعد ذلك سبع سنين كلهن جدب وقحط، يأكل أهلها كل ما ادخرتم في تلك السنين لأجلهم، إلا قليلا مما تخزنون وتدخرون للبذر، ونسبة الأكل إلى السنين هو ما جرت به عادتهم فيقولون أكلت هذه السنة كل شيء ولم تبق لنا خفا ولا حافرا ولا سَبَدا ولا لَبَدَا : أي لا شعرا ولا صوفا.
فهذا تأويل البقرات السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان، وللسنبلات اليابسات.
رؤيا مصر وتأويل يوسف عليه السلام لها :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ( ٤٣ ) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ( ٤٤ ) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ( ٤٥ ) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ( ٤٦ ) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ( ٤٧ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ( ٤٨ ) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ ( يوسف : ٤٣-٤٩ ).
المعنى الجملي : ذكر المؤرخون أن ملك مصر في عهد يوسف كان من ملوك العرب الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس " وأنه قد رأى رؤيا عجز الكهنة والعلماء ورجال الدولة عن تأويلها، وقالوا أضغاث أحلام، وكان من هذا أن لجأوا إلى يوسف في تأويل الرؤيا، وبه تم اتصاله بالملك وتعيينه وزيرا له.
تفسير المفردات :
وأغاثه : أعانه ونجاه، وغوّث الرجل : قال : واغوثاه. واستغاث ربه : استنصره وسأله الغوث. ويعصرون : أي ما من شأنه أن يُعْصر كالزيت من الزيتون والشيرج من السمسم، والأشربة من القصب والنخيل والعنب.
الإيضاح :
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ﴾ أي ثم يعقبهم بعد تلك الشدائد عام فيه يغاث الناس : أي يغيثهم الله من تلك الشدة أتم إغاثة ويعينهم بجميع أنواع المعونة، فتُغِلُّ البلاد، وتكثر المحصولات بجميع أنواعها ويعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمن ونحوها من الفواكه.
وخلاصة ذلك : إن العام يكون عام خصب وإقبال، ويكون للناس فيه ما يبغون من النعمة والإتراف، والإنباء بهذا العام زائد على تأويل الرؤيا ولم يعرفه يوسف على التخصيص والتفصيل إلا بوحي من الله عز وجل.
طلب الملك ليوسف وتريثه في الإجابة حتى يحقق حادثة النسوة :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ( ٥٠ ) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٥١ ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٥٠-٥٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه، إذ ليس الخَبَر كالخُبر وليس السماع كالمشاهدة، وذلك هو الرأي والحزم.
الإيضاح :
﴿ وقال الملك ائتوني به ﴾ كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه.
﴿ فلما جاءه الرسول ﴾ وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
﴿ قال ارجع إلى ربك فسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ البال : هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به : أي ارجع على سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذا لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
﴿ إن ربي بكيدهن عليم ﴾ أي إنه تعالى هو العالم بخفِيّات الأمور، وهو الذي صرف عني كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور :
جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقي الشدائد جدير بأن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر، وقد ورد في الصحيحين مرفوعا :( ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي )، وفي رواية أحمد :( لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر ).
عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يُزَنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، إنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
طلب الملك ليوسف وتريثه في الإجابة حتى يحقق حادثة النسوة :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ( ٥٠ ) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٥١ ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٥٠-٥٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه، إذ ليس الخَبَر كالخُبر وليس السماع كالمشاهدة، وذلك هو الرأي والحزم.
الإيضاح :
﴿ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ﴾ الخطب : الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم :﴿ قال فما خطبكم أيها المرسلون ﴾ ( الحجر : ٥٧ ) وقوم موسى :﴿ فما خطبك يا سامري ﴾ ( طه : ٩٥ ) أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف : إنه لا يخْرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة جمعهن وسألهن : ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه : هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
﴿ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ﴾ أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوءه لا قليلا ولا كثيرا.
﴿ قالت امرأة العزيز ﴾.. الآن حصحص : ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأي من بلغهم- موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفي، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
﴿ أنا راودته عن نفسه ﴾ لا أنه راودني، بل استعصم وأعرض عني.
﴿ وإنه لمن الصادقين ﴾ في قوله حين افتريت عليه : هي راودتني عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، ولم يَعْرض لشأنها.
وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
طلب الملك ليوسف وتريثه في الإجابة حتى يحقق حادثة النسوة :
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ( ٥٠ ) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( ٥١ ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ ( يوسف : ٥٠-٥٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن رجع الرسول إلى الملك وملئه وأبلغهم ما قاله يوسف عليه السلام، فهموا منه سعة علمه وحسن تدبيره لدى ذلك الخطب الجلل الذي سيحل بالبلاد، فطلب الملك رؤيته ليتحقق بنفسه صدق ما فهمه من كلامه، إذ ليس الخَبَر كالخُبر وليس السماع كالمشاهدة، وذلك هو الرأي والحزم.
الإيضاح :
﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم أني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهاأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأ الله وفضح مكرنا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
وعلى الجملة : فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
نسألك سبحانك الهداية والتوفيق، وأن تسدد خطانا إلى أقوم طريق، بمنك وكرمك وجزيل معونتك، إنك نعم المولى ونعم النصير.
وصل ربنا على محمد وآله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وقد كان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثمان بقين من صفر من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف هجرية.
الجزء الثالث عشر
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ﴾ [ يوسف : ٥٣ ].
المعنى الجملي : هذه الآية الكريمة من تتمة إقرار امرأة العزيز كما اختاره أبو حيان في البحر، ويؤيده عطفه على ما قبله، وقد جعلت أول الجزء الثالث عشر، لأن تقسيم القرآن إلى الأجزاء الثلاثين قد لوحظ فيه مقادير الكلم العددي دون المعاني.
الإيضاح :﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ أي وما أبرئ نفسي من دعوى عدم خيانتي إياه بالغيب بعد أن وجهت إليه اقتراف الذنب وقلت :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ﴾ [ يوسف : ٢٥ ]، وأودعته السجن وعرف الناس خاصتهم وعامتهم ذلك، وكأنها بذلك تريد التنصّل مما كان.
﴿ إن النفس لأمارة بالسوء ﴾ أي إن النفس البشرية لكثيرة الأمر بعمل السوء، لما فيها من دواعي الشهوات الجسمية والأهواء النفسية، بما ركب فيها من القوى والآلات لتحصيل اللذات، وما يوسوس الشيطان ويزيّنه لها من النزغات، ومن ذلك أن حرّضت زوجي على سجن يوسف وقد كان ذلك مما يسوءه، فالعفيف النزيه لا يرضى أن يزنّ بالريبة كما يسوء زوجي، إذ لا يرضى أن يكون عرضه مضغة للأفواه، وحديث الناس في أنديتهم وأسمارهم.
﴿ إلا ما رحم ربي ﴾ أي إلا نفسا رحمها ربي فصرف عنها السوء والفحشاء بعصمته كنفس يوسف عليه السلام.
ثم عللت ما سلف بقولها :
﴿ إن ربي غفور رحيم ﴾ أي إن ربي عظيم المغفرة، فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها، إذ ركب فيها الشهوات الجسمية والأهواء النفسية.
تولية يوسف رئيسا لحكومة مصر وما وقع لإخوته معه حينئذ :
﴿ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك لدينا مكين أمين ٥٤ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ﴾[ يوسف : ٥٤ -٥٥ ].
المعنى الجملي : بعد انتهاء التحقيق في أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى بما اشترط لمجيئه، فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة في السجن، ومن علمه وفهمه في تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته في مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا، كما تشير إلى ذلك الآيتان.
الإيضاح :﴿ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ﴾ أي وقال الملك أحضروه من السجن إليّ بعد أن وفيت له بما طلب أجعله خالصا لي وموضع ثقتي، فلا يشاركه أحد في إدارة ملكي ولا تكون وساطة بينه وبيني. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم، قال ابن عباس : إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن، والبس ثيابا جددا، وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رآه غلاما حدثا، فقال أيعلم هذا رؤياي ولم يعلمها السحرة والكهنة ؟ وأقعده قدامه، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر : إن يوسف خليفة الملك.
﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ﴾ أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية، ومنزلة عالية، وأمانة تامة، فأنت غير منازع في تصرفك، ولا متهم في أمانتك.
وفي هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه، وآدابه وجميع شمائله، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم.
والظاهر : أن الملك كلمه كلمة مشافهة بدون ترجمان، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر، ومن محادثته صاحبيه في السجن.
وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية المصرية والعبرانية والسريانية، وكان ملوك مصر وكبراء حكامها في ذلك العهد من أولئك العرب وهم الذين يسمون بالرعاة " الهكسوس ".
ويقول المؤرخون : إن ملك مصر في ذلك العهد كان يسمى الوليد بن الريان.
المعنى الجملي : بعد انتهاء التحقيق في أمر النسوة وظهور براءة يوسف من كل سوء، طلب الملك إحضاره إليه من السجن بعد أن وفّى بما اشترط لمجيئه، فلما جاءه وسمع كلامه فهم من فحوى حديثه، ومن أمانته على مال العزيز وعرضه وحسن تصرفه، ومن سيرته الحسنة في السجن، ومن علمه وفهمه في تأويله للرؤيا، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته في مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا، كما تشير إلى ذلك الآيتان.
الإيضاح :﴿ قال اجعلني على خزائن الأرض ﴾ الخزائن : واحدها خزانة وهي ما تخزن فيه غلات الأرض ونحوها، أي قال ولّني خزائن أرضك كلها، واجعلني مشرفا عليها، لأنقذ البلاد من مجاعة مقبلة عليها تهلك الحرث والنسل.
ثم ذكر سبب طلبه فقال :
﴿ إني حفيظ عليم ﴾ أي إني شديد الحفظ لما يخزن فيها، فلا يضيع منه شيء، أو يوضع في غير موضعه، عليم بوجوه تصريفه وحسن الانتفاع به.
وقد طلب إدارة الأمور المالية، لأن سياسة الملك وتنمية العمران وإقامة العدل فيه تتوقف عليها، وقد كان مضطرا إلى تزكية نفسه في ذلك حتى يثق به الملك ويركن إليه في تولية هذه المهام.
وما أضاع كثيرا من الممالك الشرقية في القرون الأخيرة إلا الجهل والتقصير في النظام المالي وتدبير الثروة وحفظها في الدولة والأمة.
روي أن الملك لما كلمه وقص عليه رؤياه وعبرها له، قال ما ترى أيها الصديق ؟ قال تزرع في سني الخصب زرعا كثيرا وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فانه أبقى له، ويكون القصب علفا للدواب، فإذا جاءت السنون العجاف بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه ؟ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
الإيضاح :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ٥٦ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ [ يوسف : ٥٦ -٥٧ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينا أمينا وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدراية والإحكام.
ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه وجعله وزيرا في دولته يتصرف في شؤونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه، وذلك جار على سنن الله في خلقه، فلن ينال الرياسات العليا، والمناصب الرفيعة، إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرا على ضبط الأعمال وإقامة النظام وحسن السياسة والكياسة في تصريف الأمور.
الإيضاح :﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ﴾ أي ومثل هذا التمكين الذي سلف ذكر أسبابه ومقدماته، فقد ذكرنا أن إخوة يوسف لو لم يحسدوه ما ألقوه في غيابة الجب، ولو لم يلقوه لما وصل إلى عزيز مصر، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمنه على بيته وماله وأهله، ولو لم تراوده امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحباتها ما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر، ولو لم يسجن لما عرفه ساقي الملك وعرف علمه وفضله وصدقه في تعبير الرؤيا، ولو لم يعرف ذلك منه الساقي ما عرفه ملك مصر ولم يجعله على خزائن الأرض، فما من حلقة من هذه السلسلة إلا كانت متممة لما بعدها، وبإذن الله كانت سببا للوصول إلى ما يليها، فكلها في بدايتها كانت شرا وخسرا، وفي عاقبتها فوزا ونصرا مبينا، ومهدت للتمكين لدى ملك مصر.
فكما مكن له في ذلك مكن له في أرض مصر، وقد جيء به مملوكا فأصبح مالكا ذا نفوذ وأمر ونهي لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره، وصار الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه فيما يرى بما أعده الله تعالى له من تحلية بالصبر واحتمال الشدائد، والأمانة والعفة وحسن التصرف والتدبير للأمور.
﴿ نصيب برحمتنا من نشاء ﴾ أي نخص برحمتنا من إعطاء الملك والرياسة والغنى والصحة ونحوها من نشاء من عبادنا، بمقتضى ما وضعنا من السنن في الأسباب الكسبية مع موافقتها للأحداث الكونية، ومراعاة النظم الاجتماعية، والفضائل الخلقية.
﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ أي ولا نضيع أجر من أحسنوا في أعمالهم بشكران هذه النعم، بل نأجرهم عليها سعادة وهناءة، وقد بذلنا تلك النعم لمن يطلبها متى أتى الأمور من أبوابها، وسار على مقتضى السنن التي وضعناها.
أما من يسيئون التصرف فيها فتصيبهم المنغصات، وتتوالى عليهم المكدرات، فالمسرفون لا يلبثون أن ينالهم الفقر والعدم، والظالمون يثيرون أضغان المظلومين، وذوو الخيلاء والبطر يكونون محتقرين، وقلما يصيب المحسنين الشاكرين من ذلك شيء وإن نالهم منه شيء يكن هيّنا عليهم وهم عليه صبر.
وفي الآية إيماء إلى أنه ما أضاع صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز بل كان جزاؤه ما مكن له في الأرض ولدى ملك مصر.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه إجابة الملك له بأنه أصبح لديه مكينا أمينا وطلب يوسف منه أن يجعله على خزائن الأرض يصرفها بحسب ما يرى من التدبير والنظام والدراية والإحكام.
ذكر هنا أنه أجابه إلى مطلبه وجعله وزيرا في دولته يتصرف في شؤونها لحسن تدبيره وثاقب رأيه، وذلك جار على سنن الله في خلقه، فلن ينال الرياسات العليا، والمناصب الرفيعة، إلا من يؤتيه الله من المواهب ما يجعله قادرا على ضبط الأعمال وإقامة النظام وحسن السياسة والكياسة في تصريف الأمور.
الإيضاح :﴿ ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ أي أن أجر الآخرة هو نعيمها يكون للمؤمنين المتقين، وهو خير لهم من أجر الدنيا لأهلها وإن بلغوا سلطان الملك، فإن ما أعده لأولئك ليتضاءل أمامه كل ما فيه من مال وجاه وزينة، ولا شبهة في أن من يجمعون بين السعادتين يكون فضل الله عليهم أعظم، إذا هم أعطوا حقها من الشكر وقاموا بما يجب عليهم نحو خالقهم من طاعته وترك معصيته.
روى الشيخان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال فقراء المهاجرين للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور – واحدها دثر بالفتح : المال الكثير – بالدرجات العلى والنعيم المقيم، قال :" ما ذاك ؟ " قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون كما نتصدق ويعتقون ولا نعتق، قال صلى الله عليه وسلم :" أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلكم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله قال :" تسبحون وتكبرون وتحمدون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة " قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ".
الإيضاح :﴿ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ٥٨ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ٥٩ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ٦٠ قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون ٦١ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ﴾[ يوسف : ٥٨ -٦٢ ].
تفسير المفردات : المعرفة والعرفان : معرفة الشيء بتفكر في أثره، وضده الإنكار.
المعنى الجملي : جاء في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولي الوزارة طفق يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سني الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولاسيما أقربها إليها وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد وفضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم فنفذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم.
الإيضاح :﴿ وجاء إخوة يوسف ﴾ ممتارين حين أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر، وكان قد حل بآل يعقوب ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم يا بني قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه واشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر.
﴿ فدخلوا عليه ﴾ وهو مجلس ولايته، لأن أمر الميرة وشراء الغلال كان بيده ورهن أمره.
﴿ فعرفهم ﴾ حين دخلوا عليه بلا تردد، إذ كان عددهم وشكلهم وزيهم لا يزال عالقا بخياله لنشوئه بينهم ولاسيما ما قاساه منهم في آخر عهده بهم، وربما كان عمال يوسف وعبيده قد سألوهم عن أمرهم قبل أن يدخلوهم عليه وأخبروه بأوصافهم والبيئة التي رحلوا منها.
﴿ وهم له منكرون ﴾ لنسيانهم له بطول العهد، وتغير شكله بدخوله في سن الكهولة ولما كان عليه من عظمة الملك وزيّه وشارته، وما كان من حاجتهم إلى بره وعطفه.
فكل أولئك مما يحول دون التثبت من معارف وجهه، ولاسيما أنهم كانوا يظنون أنه قد هلك أو طوحت به طوائح الأيام، ولو كانوا قد فطنوا لبعض ملامحه وتذكروه بها لربما عدوه مما يتشابه فيه بعض الناس ببعض العادات، وبخاصة أنه لم يكن يدور بخلدهم أن أخاهم قد وصل إلى ذلك المركز السامي.
تفسير المفردات :
وجهزهم : أي أوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله. وجهاز السفر : أهبته وما يحتاج إليه في قطع المسافة، ومثله جهاز الميت والعروس – بالكسر والفتح وبهما قرئ – أوفى الشيء : جعله وافيا تاما، المنزلين : أي المضيفين للضيوف.
المعنى الجملي : جاء في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولي الوزارة طفق يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سني الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولاسيما أقربها إليها وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد وفضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم فنفذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم.
الإيضاح :﴿ ولما جهزهم بجهازهم ﴾ أي ولما أوقر ركائبهم لأجله من الميرة والطعام وجهزهم بما سوى ذلك من الزاد وبما يحتاج إليه المسافرون عادة على قدر طاقتهم وبيئتهم.
﴿ قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ﴾ هو شقيقه بنيامين، وسبب ذلك : أن يوسف ما كان يعطي لأحد إلا حمل بعير، وقد كان إخوته عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، وإن أباهم لتقدم السن به وشدة حزنه لا يستطيع الحضور، وإن أخاهم بقي في خدمة أبيه، ولا بد لهما من شيء من الطعام فجهز لهما بعيرين آخرين، وقال لهم جيئوني بأخيكم لأراه.
وفي سفر التكوين أنه كان استنبأهم عن أنفسهم متنكرا لهم، إذ عرفهم ولم يعرفوه واتهمهم بأنهم جواسيس جاؤوا ليروا عورة البلاد، فأنكروا ذلك وأخبروه خبرهم، فقالوا : نحن عبيدك اثنا عشر أخا ونحن بنور رجل واحد في أرض كنعان، وهذا الصغير عند أبينا اليوم، والواحد مفقود، فقال لهم يوسف، ذلك ما كلمتكم به قائلا، جواسيس أنتم، بهذا تمتحنون، وحياة فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجيء أخيكم الصغير إلى هنا. فدعوا رهينا عندي وأتوني بأخيكم من أبيكم، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلفوه عنده. ثم أمر يوسف أن تملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد إلى عدله وأن يعطوا زادا للطريق، ففعل لهم هكذا اه.
﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل ﴾ أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم.
﴿ وأنا خير المنزلين ﴾ أي وأنا على هذا خير المضيفين لضيوفه، فقد أحسن ضيافتهم وجهزهم بالزاد الكافي لهم مدة سفرهم ومن هذا يعلم أن رواية اتهامهم بالتجسس ضعيفة على كونها لا تليق بمن دون الصديق النبي وهو يعلم بطلانها، إلا أن تكون ذريعة لغرض صحيح كاتهامهم بالسرقة.
المعنى الجملي : جاء في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولي الوزارة طفق يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سني الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولاسيما أقربها إليها وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد وفضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم فنفذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم.
الإيضاح :﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ﴾ أي فإذا عدتم تمتارون لأهلكم ولم يكن معكم منعتم من الكيل في بلادي فضلا عن إيفائه وإكماله الذي كان لكم بأمري.
﴿ ولا تقربوني ﴾ أي ولا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة.
وفي ذلك إيماء إلى أنهم كانوا على نيّة الامتيار مرة بعد أخرى، وأن ذلك كان معلوما له عليه السلام، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي، وإلا فالبرّ كان يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه، ولعل الله أراد تكميل أجر يعقوب في محنته، وهو الفعال لما يريد في خلقه.
تفسير المفردات : نراود : أي نخادع ونستميل برفق. لفاعلون : أي لقادرون على ذلك.
المعنى الجملي : جاء في سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام حين ولي الوزارة طفق يعد العدة ويأخذ الأهبة لتنفيذ التدابير التي يقي بها البلاد من خطر المجاعة التي جاءت في تأويل رؤياه للملك، وكان من ذلك أن بنى الأهراء العظيمة وخزن فيها الحبوب التي استكثر منها مدة سني الخصب السبع الأولى، فلما جاءت السبع الشداد وعم القحط مصر وغيرها من الأقطار القريبة منها ولاسيما أقربها إليها وهي فلسطين من بلاد الشام، واشتهر لدى أهلها ما فعله يوسف في مصر من حسن التدبير حتى كثرت فيها الغلال وأصبح يبيع ما زاد على حاجة أهلها للأقطار المجاورة لها أمر يعقوب عليه السلام أولاده أن يرحلوا إلى مصر ويأخذوا معهم ما يوجد في بلادهم من بضاعة ونقد وفضة ويشتروا به قمحا لأن المجاعة أوشكت أن تقضي عليهم فنفذوا ما أراد وكان بينهم وبين يوسف ما قصه الله علينا في كتابه الكريم.
الإيضاح :﴿ قالوا سنراود عنه أباه ﴾ أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده ونحوله عن إرادته في إبقائه عنده إلى إرادتنا وإرادتك، ونقنعه بإرساله معنا كما تحب.
﴿ وإنا لفاعلون ﴾ ذلك لا محالة ولا نتوانى فيه.
تفسير المفردات : لفتيانه : أي غلمانه الكيالين. بضاعتهم : أي التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما. والبضاعة : المال الذي يستعمل للتجارة. والرحال : واحدها رحل : وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه متاع الراكب وغيره. وانقلبوا : أي رجعوا.
الإيضاح :﴿ وقال لفتيانه ﴾ أي غلمانه الكيالين.
﴿ اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ﴾ أي اجعلوا بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام، وكانت نعالا وجلودا، في أمتعتهم من حيث لا يشعرون.
﴿ لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم ﴾ أي لكي يعرفوا لنا حقّ إكرامهم بإعادتها إليهم وجعل ما أعطيناهم من الغلة مجانا بلا ثمن، إذا هم رجعوا إلى أهلهم وفتحوا متاعهم فوجدوها فيه.
ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم بقوله :
﴿ لعلهم يرجعون ﴾ إلينا طمعا في برنا، فإن العوز إلى القوت من أقوى الدواعي إلى الرجوع.
الإيضاح :﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون ٦٣ قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ﴾ [ يوسف : ٦٣ -٦٤ ].
الإيضاح :﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل ﴾ أي قالوا حين رجوعهم إلى أبيهم : إن عزيز مصر أصدر أمره بمنع الكيل لنا في المستقبل إن لم نحضر معنا أخانا بنيامين فقال :﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ﴾ [ يوسف : ٦٠ ].
﴿ فأرسل معنا أخانا نكتل ﴾ من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا ونكون قد وفينا له بما شرط علينا، والعرب تقول كلت له الطعام إذا أعطيته، واكتلت منه وعليه إذا أخذت منه أو توليت الكيل بنفسك.
﴿ وإنا له لحافظون ﴾ في ذهابه وإيابه، فلا يناله مكروه تخافه، وكأنهم كانوا يعتقدون أن أباهم لا بد أن يرفض إجابتهم خوفا عليه من أن يحدث له مثل ما حدث ليوسف بدافع الحسد من قبل، فكان جوابه لهم ما حكى الله سبحانه عنه.
الإيضاح :﴿ قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ﴾ أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل، تغيّبونه عني وتحولون بيني وبينه، وقد قلتم مثل هذا الكلام في يوسف إذ ضمنتم حفظه وقلتم ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ ثم خنتم في عهدكم وكذبتم فأضعتم يوسف، فأنتم لا يوثق لكم بوعد، ولا يطمأن منكم إلى عهد، فما أشبه الليلة بالبارحة.
﴿ فالله خير حافظا ﴾ أي فأنا أتوكل على الله في حفظ بنيامين لا على حفظكم.
﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يبتليني بفقده، كما ابتلاني من قبل بفقد أخيه يوسف، فرحمته واسعة، وفضله عظيم.
وهذا كما ترى، فيه ميل منه إلى الإذن والإرسال، لما رأى من شدة الحاجة إلى ذلك، ولأنه لم ير فيما بينهم وبين بنيامين من الحقد والحسد مثل ما شاهد بينهم وبين يوسف، وفيه من التوكل على الله ما لا خفاء فيه.
الإيضاح :﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ٦٥ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ﴾ [ يوسف : ٦٥ -٦٦ ].
تفسير المفردات : تفسير المفردات : المتاع : ما ينتفع به والمراد هنا وعاء الطعام. والبضاعة : ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام. ونمير أهلنا : أي نجلب لهم الميرة بالكسر، وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد. كيل بعير : أي حمل جمل، فكيل بمعنى مكيل. ويسير : أي قليل لا يكثر على سخائه كما جاء في قوله :﴿ وما تلبثوا بها إلا يسيرا ﴾ [ الأحزاب : ١٤ ] أو سهل لا عسر فيه كما في قوله :﴿ وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ ِ[ النساء : ٣٠ ].
الإيضاح :﴿ ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ﴾ أي ولما فتحوا أوعية طعامهم وجدوا فيها ما كانوا أعطوه من بضاعة ونقد ثمنا لما اشتروه من الطعام، إذ أن يوسف أمر فتيانه أن يضعوها في رحالهم وهم لا يعلمون ذلك.
﴿ قالوا يا أبانا ما نبغي ﴾ أي ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الذي يوجب علينا امتثال أمره ومراجعته في الحوائج، وقد كانوا حدثوا أباهم بذلك على ما روي أنهم قالوا له إنا قدمنا على خير رجل وقد أنزلنا خير منزل وأكرم وفادتنا ولو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته.
ثم أكدوا صدق كلامهم بقولهم :
﴿ هذه بضاعتنا ردت إلينا ﴾ أي إن ما نقول في وصفه، ومزيد إحسانه ولطفه لنا من شواهد الحال ما هو دليل عليه، فهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلا منه بعد أن أثقل كواهلنا بعظيم مننه وجميل عطفه.
وهم بهذا يؤمنون إلى أن ذلك كاف في وجوب امتثال أمره والالتجاء إليه طلبا للمزيد من فضله، فكل ما جئنا به على غلائه وعظم قيمته هو هبة منه وتفضل علينا.
﴿ ونمير أهلنا ﴾ أي فنحن ننتفع ببضاعتنا ونمير أهلنا بما نجلبه لهم من الميرة من مصر بلا ثمن.
﴿ ونحفظ أخانا ﴾ بعنايتنا جميعا به، على أننا لا نخشى شيئا من المخاوف التي تغلبنا عليه.
﴿ ونزداد كيل بعير ﴾ أي ونزيد على ما نأخذ لأنفسنا حمل جمل يكال لأخينا، لأن يوسف كان يكيل لكل رجل حمل بعير اقتصادا في الطعام، فإذا حضر بنيامين زاد حملا له.
﴿ ذلك كيل يسير ﴾ أي إن حمل البعير كيل سهل لا عسر فيه على ذلك المحسن الجواد، أو هو قليل لا يكثر على سخائه وجوده ولا يشق عليه.
تفسير المفردات : والموثق : العهد الموثق. إلا أن يحاط بكم : أي إلا أن تغلبوا على أمركم، أو إلا أن تهلكوا، فإن من يحيط به العدو يهلك غالبا. وكيل : أي مطلع رقيب، فان الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه.
الإيضاح :﴿ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله ﴾ أي لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدا موثقا بتأكيده بإشهاد الله عليه بالقسم به.
﴿ لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ﴾ أي حتى تحلفوا بالله لترجعنّ به على كل حال تعرض لكم، إلا أن تهلكوا فيكون ذلك عندي عذرا على نحو ما جاء في قوله :
﴿ وأحيط بثمره ﴾ [ الكهف : ٤٢ ] وقوله :﴿ وظنوا أنهم أحيط بهم ﴾ [ يونس : ٢٢ ] وقد يكون المعنى : إلا أن تغلبوا على أمركم وتقهروا فلا تقدرون على الرجوع.
﴿ فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل ﴾ أي فلما أعطوه العهد الموثق الذي اشترطه عليهم، قال : الله شهيد على ما قاله واشترطه، وعلى ما أجابوه به : أي إنه سبحانه رقيب عليه وأمره موكول إليه، فهو الذي يوفق للوفاء بالوعد والصدق فيما أعطوه من عهد.
الإيضاح :﴿ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ٦٧ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ [ يوسف : ٦٧ -٦٨ ].
الإيضاح :﴿ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾ أي وقال لهم يا بني لا تدخلوا على هذا الوزير الكريم من باب واحد من أبواب الوصول إليه، بل ادخلوا عليه متفرقين من أبواب متعددة، لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم في نفسه وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقه يدخل عليه مع طائفته، إذ لا يعلم هذا إذا دخلوا عليه كلهم جماعة واحدة.
وقد يكون المراد : لا تدخلوا عليه مجتمعين فيحسدكم الحاسدون أو يكيد لكم الكائدون، فإذا حل بكم مكروه خشيت أن يصيبكم جميعا.
﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ أي وما أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا، إذ لا يغني حذر من قدر، وهو لا يريد إلغاء الحذر بتاتا، فإنه تعالى أمر به وقال ﴿ وخذوا حذركم ﴾ [ النساء : ١٠٢ ] بل يريد أن هذا التدبير إنما هو تشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذن الله تعالى، وأن ذلك ليس بدافع للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه.
﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ أي ما الحكم في تدبير العالم ونظم الأسباب والمسببات إلا لله وحده.
﴿ عليه توكلت ﴾ أي عليه دون غيره، ودون حولي وقوتي اعتمدت في كل ما آتي وأذر.
وفي هذا إيماء إلى أن الأخذ في الأسباب ومراعاة إتباعها لا ينافي التوكل، وقد جاء في الخبر " اعقلها وتوكل ".
﴿ وعليه فليتوكل المتوكلون ﴾ لا على أمثالهم من المخلوقين ولا على أنفسهم.
فعلى كل مؤمن أن يتخذ لكل أمر يقدم على عمله العدة، ويهيئ من الأسباب ما يوصل إليه على قدر طاقته، ثم بعد ذلك يكل أمر النجاح فيه إلى الله ويطلب منه التوفيق والمعونة في إنجازه، فقد يكون من الأسباب ما يخفى عليه أو ما لا تصل إليه يده.
الإيضاح :﴿ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ﴾ وهي الأبواب المتفرقة.
﴿ وما كان يغني عنهم من الله من شيء ﴾ أي ما كان دخولهم على هذا النهج يدفع عنهم شيئا من المكروه الذي يحول دون رجوعهم ببنيامين، ونسبتهم إلى السرقة، وتضاعف المصيبة على يعقوب.
﴿ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها ﴾ أي إن يعقوب كان عليما بأن الحذر لا يغني من القدر، ولكن كانت هناك حاجة تدور بخلده، ما أراد أن يكاشف بها أحدا منهم وهي وراء الأسباب العادية في الاحتياط بسلامة بنيامين والعودة به، قضاها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها، وهي خوفه عليهم من العين ومن أن ينالهم مكروه من قبل ذلك.
﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ أي وإنه لذو علم خاص به وبأمثاله من الأنبياء، لما أعطيناه من علم الوحي وتأويل الرؤيا الصادقة، واعتقاده أن الإنسان يجب عليه في كل أمر يحاوله أن يتخذ له من الأسباب ما يصل به إلى غرضه ويبلغ به إلى غايته، ثم يتوكل بعد ذلك على الله في تسخير ما لم يصل إليه علمه مما لا تتم المقاصد بدونه.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن الواجب الجمع بين أخذ العدة والسعي في تحقيق الأسباب الصحيحة الموصلة إلى المراد، وبين الاتكال على الله وهو ما فعله يعقوب عليه السلام، ولا يكفي تحقق الأسباب وحدها للحصول عليه.
الإيضاح :﴿ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ٦٩ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ٧٠ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ٧١ قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ٧٢ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ٧٣ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ٧٤ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين ٧٥ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ﴾ [ يوسف : ٦٩ -٧٦ ].
تفسير المفردات : آوى إليه : أي ضم إليه. والابتئاس : اجتلاب البؤس والشقاء.
الإيضاح :﴿ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه ﴾ أي ولما دخلوا عليه في مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها.
﴿ قال إني أنا أخوك ﴾ يوسف الذي فقدتموه صغيرا.
﴿ فلا تبتئس بما كانوا يعملون ﴾ أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لي ولك.
روي أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم : أحسنتم وأصبتم، وستجدون أجر ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف : بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله، وقال : أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا – حجرة - وهذا لا ثاني له فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له :﴿ إني أنا أخوك ﴾ الخ.
تفسير المفردات : والسقاية – بالكسر- وعاء يسقى به، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية ١/١٢ من الإردب المصري، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك. وأذن مؤذن : أي نادى مناد، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن. والعير : الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها.
الإيضاح :﴿ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ﴾ أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه.
وفي قوله :﴿ جعل السقاية ﴾ إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته.
﴿ ثم أذن مؤذن ﴾ أي وقد افتقد فتيانه السقاية، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود في كل زمان ومكان قائلا :
﴿ أيتها العير إنكم لسارقون ﴾ أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.
الإيضاح :﴿ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون ﴾ أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه : أي شيء تفقدون، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه ؟
تفسير المفردات : زعيم : كفيل أجعله جزاء لمن يجيء به،
الإيضاح :﴿ قالوا نفقد صواع الملك ﴾ أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك.
﴿ ولمن جاء به حمل بعير ﴾ أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح، وفي هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير.
﴿ وأنا به زعيم ﴾ أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير، أجعله حلوانا لمن يجيء به، سواء أكان مفقودا أم جاء به غير سارقه.
الإيضاح :﴿ قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ﴾ أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا في امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي وردت إلينا مع غيرها، أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس.
الإيضاح :﴿ قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين ﴾ أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين في جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة ؟
الإيضاح :﴿ قالوا جزاؤه من وجد في رحله ﴾ أي جزاؤه أخذ من وجد في رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله :
﴿ فهو جزاؤه ﴾ تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حقّ الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا، وقد كان الحكم في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة ﴿ كذلك نجزي الظالمين ﴾ أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزي الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسارق.
وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
تفسير المفردات : الكيد : التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدي إلى باطنه المراد منه. ودين الملك : شرعه الذي يدين الله تعالى به.
الإيضاح :﴿ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ﴾ أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
﴿ ثم استخرجها من وعاء أخيه ﴾ أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
﴿ كذلك كدنا ليوسف ﴾ أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفيّ كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا في يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفي هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.
ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله :
﴿ ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ﴾ أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال :
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ أي نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والإيمان ونريه وجوه الصواب في بلوغ المراد، كما رفعنا درجات يوسف على إخوته في كل شيء. وفي هذا إيماء إلى أن العلم أشرف المقامات، وأعلى الدرجات.
﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾ أي وفوق كل عالم من هو أوسع إحاطة منه وأرفع درجة، إلى أن يصل الأمر إلى من أحاط بكل شيء علما وهو فوق كل ذي علم عليم.
وخلاصة ذلك : إن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف كان أعلم منهم.
﴿ * قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون ٧٧ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ٧٨ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون ﴾ [ يوسف : ٧٧ -٧٩ ].
الإيضاح :﴿ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾ أي قال إخوة يوسف، إن يسرق بنيامين فقد سرق أخوه من قبل، فالسرقة جاءت وراثة من أمهما إذ هما لا ينفردان منا إلا بها. وفي قولهم هذا إيماء إلى أن الحسد لا يزال كامنا في قلوبهم، لاختلاف الأمهات، ولمزيد محبة الأب لهما.
وأصح ما قيل في سرقة يوسف ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا قال : سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة إسحاق إذ كانوا يتوارثونها بالكبر، وكان يعقوب حين ولد له يوسف عليه السلام قد حضنته عمته فكان معها، فلم يحب أحد شيئا من الأشياء كحبها إياه حتى إذا ترعرع ووقعت نفس يعقوب عليه السلام عليه فأتاها فقال : يا أخية سلمي إليّ يوسف، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة قالت : فوالله ما أنا بتاركته فدعه عندي أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسليني عنه، فلما خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق عليه السلام فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها ؟ فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام، فقالت : والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها : أنت وذاك إن كان فعل فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت.
وهذا هو الذي عناه إخوته بقولهم ﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾ وهذه الروايات لا يوثق بها كما لا يدل شيء منها إلى سرقة حقيقية.
﴿ فأسرها يوسف في نفسه ﴾ أي فأضمر مقالتهم في نفسه ولم يجبهم عنها.
﴿ ولم يبدها لهم ﴾ أي ولم يؤاخذهم بها لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما.
ثم فسر ما أسره بقوله :
﴿ أنتم شر مكانا ﴾ أي قال في نفسه : أنتم شر في مكانتكم ومنزلتكم ممن تعرضون به أو تفترون عليه، إذ أنكم سرقتم من أبيكم أحب أولاده إليه وعرضتموه للهلاك، والرق، وقلتم لأبيكم قد أكله الذئب الخ.
﴿ والله أعلم بما تصفون ﴾ أي والله أعلم منكم بما تصفون به، لأنه سبحانه هو العليم بحقائق الأشياء، فيعلم كيف كانت سرقة الذي سرقته عليه.
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق لهم أخاه بنيامين فيرجعوا به إلى أبيهم، لأنه قد أخذ عليهم الميثاق بأن يردوه إليه.
الإيضاح :﴿ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ﴾ طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالته التي يتعلل بها عن شقيقه الهالك، أو هو كبير القدر جدير بالرعاية كما علمت مما سلف من قصصه ومن تعلقه به.
﴿ فخذ أحدنا مكانه ﴾ أي بدله فلسنا عنده بمنزلته في المحبة والشفقة عنده.
ثم عللوا رجاءهم في إجابته بقولهم :
﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ إلينا في ميرتنا وضيافتنا وتجهيزنا، فأتم إحسانك، فما الإنعام إلا بالإتمام، أو المعنى إن من عادتك الإحسان مطلقا، فاجر على عادتك ولا تغيرها، فنحن أحقّ الناس بذلك.
فأجابهم عن مقالتهم :
﴿ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ﴾ أي حاش لله أن نأخذ إلا من وجدنا الصواع عنده، لأنا قد أخذنا بفتواكم ﴿ من وجد في رحله فهو جزاؤه ﴾ فلا يسوغ لنا أن نخلّ بموجبها.
ولم يقل إلا من سرق متاعنا اتقاء للكذب، لأنه يعلم أنه ليس بسارق.
﴿ إنا إذا لظالمون ﴾ أي إنا إذا أخذنا غيره لظالمون من وجهين : مخالفة شرعكم ونصّ فتواكم، ومخالفة شريعة الملك.
الإيضاح :﴿ فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ٨٠ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ٨١ واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ٨٢ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا انه هو العليم الحكيم ٨٣ وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ﴾ [ يوسف : ٨٠ -٨٤ ].
تفسير المفردات : استيأسوا : أي يئسوا يأسا كاملا. خلصوا : انفردوا عن الناس. نجيا : أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم. كبيرهم : أي في الرأي والعقل وهو يهوذا. وموثقا : أي عهدا يوثق به وهو حلفكم بالله. فرطتم : قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه. أبرح : أفارق. أمرا : أي كيدا آخر.
الإيضاح :﴿ فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ﴾ أي فلما استحكم اليأس في أنفسهم من قبول العزيز لشفاعتهم واستعطافهم بعد أن أقام الحجة عليهم بشرعهم وفتواهم وأنه إن فعل غيره يكون ظالما بمقتضى شريعتهم وشريعة ملك مصر اعتزلوا الناس ولم يخلطوا أحدا، وانفردوا للمناجاة والتشاور في أمرهم.
وخلاصة ذلك : أن أولئك الإخوة العشرة بعد أن انتهى كبيرهم من استعطاف العزيز وعدم جدوى ما فعل، غادر كل منهم رحله وانضم بعضهم إلى بعض وأدنى رأسه من رأسه وأرهفوا آذانهم للنجوى.
﴿ قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ﴾ أي قال كبيرهم عقلا ورأيا وهو يهوذا، ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهد الله وميثاقه لتردّنه إليه إلا أن يحاط بكم، وقد رأيتم كيف تعذر ذلك عليكم.
﴿ ومن قبل ما فرطتم في يوسف ﴾ أي ومن قبل هذا قد قصرتم في حفظ يوسف بعد وعدكم المؤكد بحفظه، وكيف أن أباكم قد قاسى من أجله من الحزن ما قاسى.
﴿ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي ﴾ أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي بتركها والرجوع إليه وبنيامين فيها، أو يحكم الله لي بأمر من عنده مما هو غيب في علمه، كأن يترك العزيز لي أخي بإلهام منه تعالى أو بسبب آخر.
﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ لأنه لا يحكم إلا بما هو الحق والعدل، وهو المسخر للأسباب والمقدر للأقدار.
ثم أمرهم أن يقولوا لأبيهم ما يزيلون به التّهمة عن أنفسهم قال :
﴿ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ﴾ صواع الملك فاسترقه وزيره العزيز القائم بالأمر في مصر عملا بشريعتنا، إذ نحن أنبأناه بها بعد أن استنبأنا إياها.
﴿ وما شهدنا إلا بما علمنا ﴾ أي وما شهدنا عليه بالسرقة بسماع أو إشاعة أو تهمة بل ما شهدنا إلا بما علمنا، إذ رأينا الصواع قد استخرج من متاعه.
﴿ وما كنا للغيب حافظين ﴾ فنعلم أن سيسرق حين أعطيناك المواثيق، ولو كنا نعلم ذلك لما آتيناك العهد الموثق علينا.
تفسير المفردات : القرية : اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس وللناس جميعا، ويستعمل في كل واحد منهما قاله الراغب.
الإيضاح :﴿ واسأل القرية التي كنا فيها ﴾ أي واسأل أهل القرية التي كنا نمتار فيها وهي مصر، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة حتى لو سئلوا لشهدوا.
﴿ والعير التي أقبلنا فيها ﴾ أي واسأل أصحاب العير الذين كانوا يمتارون معنا.
ثم أكدوا صدق مقالتهم بقولهم :
﴿ وإنا لصادقون ﴾ فيما أخبرناك به، سواء أسألت غيرنا أم لا تسأل، إذ أن من عادتنا الصدق فلا نخبرك إلا به ولا نظنك في مرية من هذا. وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر أبيهم فقال : قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
وبعد أن انتهى تعالى من سرد مقال كبيرهم عاد إلى ذكر أبيهم فقال :
تفسير المفردات : تولى : أعرض. والأسف : أشد الحزن والحسرة على ما فات. كظيم : أي مملوء غيظا على أولاده ممسك له في قلبه.
الإيضاح :﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾ أي فرجع الإخوة إلى أبيهم وقالوا له ما لقنهم كبيرهم فلم يصدقهم فيما قالوا، بل قال لهم : بل زينت لكم أنفسكم كيدا آخر فنبذتموه، ومما يقوّي ذلك عندي أنكم لقنتم هذا الرجل حكم شريعتنا وأفتيتموه به، وليس ذلك من شريعته.
﴿ فصبر جميل ﴾ أي فحالي على ما نالني من فقده صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، بل أشكوا إلى الله وحده وأعلق رجائي به.
﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ﴾ أي أطلب من الله أن يرجع إليّ يوسف وبنيامين والأخ الثالث الباقي بمصر، وقد كان لديه إلهام بأن يوسف لم يمت وإن غاب عنه خبره.
﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾ أي إنه العليم بوحدتي وفقدهم والحزن عليهم، وله فينا حكمة بالغة، وهو الحكيم في أفعاله فيبتلي ويرفع البلاء على مقتضى سننه وحكمته في تدبير خلقه، وقد جرت سنته أن الشدة إذا تناهت جعل وراءها فرجا، والمصيبة إذا عظمت جعل بعدها المخلص منها ؛ كما قال :﴿ فإن مع العسر يسرا ٥ إن مع العسر يسرا ﴾ [ الشرح : ٥ -٦ ].
الإيضاح :﴿ وتولى عنهم ﴾ أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به.
﴿ وقال يا أسفا على يوسف ﴾ أي يا حزني ويا حسرتي عليه أقبلي فهذا وقتك والحال مقتضية لك، فقد كنت انتظر أن يأتوني من مصر ببشرى لقاء يوسف، فخاب أملي وحلّ محله ذهاب ابني المسلّي عنه، ولم يشرك معه بنيامين بالأسف عليه، لأن مكان حبّ يوسف والرجاء فيه قد ملأ سويداء القلب وزواياه، ومحل غيره دون ذلك.
﴿ وابيضت عيناه من الحزن ﴾ أي أصابتهما غشاوة بيضاء غطت على البصر مع بقاء العصب الذي يدرك المبصرات سليما معافى، قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا : البياض المصحوب بضياع البصر غالبا معناه " الجلوكوما " والمعروف عند الاختصاصيين في أمراض العيون أن أهم سبب لها هو التغيرات في الأوعية الشعرية نتيجة لأسباب كثيرة، من أهمها الانفعالات العصبية – كما يحدث في زيادة ضغط الدم- لاسيما الحزن " الدكتور ملر " اه.
﴿ فهو كظيم ﴾ أي مملوء غيظا على أولاده، يردّد حزنه في جوفه ولا يتكلم بسوء، والحزن عرض طبيعي للنفس ولا يذمّ شرعا إلا إذا بلغ بصاحبه أن يقول أو يفعل ما لا يرضي الله تعالى، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم وقد جعلت عيناه تذرفان فقال له عبد الرحمان بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ :" يا ابن عوف إنها رحمة " ثم أتبعها بأخرى فقال :" إن العين تدمع وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " رواه الشيخان وغيرهما.
وفي التفسير بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن داود عليه السلام قال : يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني لهم رابعا، فأوحى الله إليه أن : يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر. وتلك بلية لم تنلك، وان إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذ منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن، وتلك بلية لم تنلك " قال الحافظ ابن كثير : وهذا حديث مرسل وفيه نكارة، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح اه.
الإيضاح :﴿ قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ٨٥ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ٨٦ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ [ يوسف : ٨٥ -٨٧ ].
تفسير المفردات : تفتأ : أي لا تفتأ بمعنى لا تزال. والحرض : المرض المشفي على الهلاك، من الهالكين : أي الميتين.
الإيضاح :﴿ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ﴾ أي قال ولد يعقوب الذين جاؤوا من مصر حين قال ﴿ يا أسفي على يوسف ﴾ [ يوسف : ٨٤ ] : تالله لا تزال تذكر يوسف وتلهج به حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم.
وخلاصة ذلك : إنك الآن في بلاء شديد، ونخاف أن يحصل لك ما هو أكثر وأقوى منه، وهم يريدون بذلك منعه من البكاء والأسف.
فأجابهم والتمس لنفسه معذرة على الحزن :﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
تفسير المفردات : البث في الأصل : إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب، ثم استعمل في إظهار ما انطوت عليه النفس من الغم أو السر.
الإيضاح :﴿ قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ أي لا تلوموني وأنا لم أشك إليكم ولا إلى أحد من الخلق حزني الذي أمضّني كتمانه، فأفشيته بهذه الكلمة ﴿ يا أسفي على يوسف ﴾ بل شكوت ذلك إلى الله وحده.
﴿ وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ أي وأنا أعلم في ابتلائي بفراقه مع حسن عاقبته ما لا تعلمون، فأعلم أنه حي يرزق، وأن الله يجتبيه ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وأنتم تظنون أن يوسف قد هلك، وأن بنيامين قد سرق فاسترقّ، وتحسبون أني بحزني ساخط على قضاء الله في شيء أمضاه ولا مرد له، وأنا أعلم أن لهذا أجلا هو بالغه، وإني لأرى البلاء ينزل عليكم من كل جانب بذنوبكم وبتفريطكم في يوسف من قبل، وبأخيه الذي كان يسليني عنه من بعده.
وعن ابن عباس في تفسير الآية : أنا أعلم أن رؤيا يوسف حقّ أنني سأسجد له.
تفسير المفردات : وتحسسوا : أي تعرفوا أخبار يوسف بحواسكم من سمع وبصر. والرّوح : التنفس، يقال أراح الإنسان إذا تنفس، ثم استعمل للفرج والتنفيس من الكرب.
الإيضاح :﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ﴾ أي اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبارهما بحواسكم من سمع وبصر حتى تكونوا على يقين من أمرهما.
﴿ ولا تيأسوا من روح الله ﴾ أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه عن النفس هذا الكرب، بما ترتاح إليه الروح، ويطمئن به القلب.
﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ بقدرته وسعة رحمته ويجهلون ما لله في عباده من حكم بالغة ولطف خفي، فإذا لم يصلوا إلى ما يبتغون من كشف ضر أو جلب خير بخعوا أنفسهم – انتحروا- همّا وحزنا.
أما المؤمن حقا فلا تقنطه المصايب ولا الشدائد من رحمة ربه وتفريجه لكربه، ومن ثم قال ابن عباس : إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.
الإيضاح :﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ٨٨ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ٨٩ قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ٩٠ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ٩١ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ٩٢ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ﴾ [ يوسف : ٨٨ ٩٣ ].
تفسير المفردات : الضر : أي ضر المجاعة من الهزال والضعف. والمزجاة : الرديئة التي يدفعها التجار من أزجى الشيء وزجاه : إذا دفعه برفق كما قال :﴿ ألم تر أن الله يزجى سحابا ﴾ [ النور : ٤٣ ].
الإيضاح :﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ﴾ أي بعد أن قبلوا وصية أبيهم حين قال لهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، وعادوا إلى مصر دخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له : يا أيها العزيز أصابنا الهزال والضعف لما نحن فيه من المجاعة وكثرة العيال وقلة الطعام وقد شكوا إليه رقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة وغير ذلك مما يرقق القلب مع أن مقصدهم التحسس من يوسف وأخيه ليروا تأثير الشكوى فيه، فإن رق قلبه لهم ذكروا ما يريدون وإلا سكتوا، وقد كان أبوهم يرجح أنه هو يوسف فأرادوا أن يروا تأثير هذا الاستعطاف فيه.
﴿ وجئنا ببضاعة مزجاة ﴾ أي ببضاعة رديئة يحتقرها التجار ويدفعونها احتقارا لها.
﴿ فأوف لنا الكيل ﴾ أي فأتمه كما تعودنا من جميل رعايتك وإحسانك.
﴿ وتصدق علينا ﴾ بما تزيده على حقنا ببضاعتنا بعد أن تغمض عن رداءتها.
﴿ إن الله يجزي المتصدقين ﴾ فيخلف ما ينفقون ويضاعف الأجر لهم.
وقد بالغوا في الضراعة والتذلل، لما كانوا يرون من تأثير ذلك في ملامح وجهه، وجرس صوته، ومغالبة دمعه.
ثم بعد أن ذكر طريق تحسسهم ذكر ردّ يوسف عليهم.
الإيضاح :﴿ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ﴾ أي قال ما أعظم ما فعلتم بيوسف من قبل وبأخيه بنيامين من بعد على قرب العهد، ما أقبح ما أقدمتم عليه، كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت، وهل تعرف من خالفت.
﴿ إذ أنتم جاهلون ﴾ قبح ما فعلتموه في حكم شرعكم، وحقوق بر الوالدين وما يجب من رحمة القرابة والرحم.
وخلاصة ذلك : إنكم كنتم في حال يغلب عليكم فيها الجهل بهذه الحقوق، وبعاقبة البغي والعقوق.
وقد يكون المراد من الجهل الطيش والنزق وإتباع الهوى وطاعة الحسد والأثرة.
وقد قال لهم هذه المقالة تمهيدا لتعريفهم بنفسه، إذ آن أن يصارحهم به بعد أن بلغ الكتاب أجله، وبلغت به وبهم الأقدار غايتها، ولم يبق بعد هذا إلا التصريح، وتأويل رؤياه التي كانت السبب في كل ما حدث من تلك الأفاعيل.
وقد ذكّر يوسف إخوته بذنوبهم تذكيرا مجملا قبل أن يتعرف إليهم بذكر العذر وهو الجهل بقبح الذنب في ذاته وبسوء عاقبته لتمكن نزغ الشيطان من أنفسهم الأمارة بالسوء، وقد ذكرهم بطريق سؤال العارف المتجاهل على طريق التقرير لا التقريع والتوبيخ كما يدل عليه نفي التثريب والدعاء بالمغفرة.
قال صاحب الكشاف في تفسير الآية : أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب ﴿ قال هل علمتم ﴾ قبح ﴿ ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ﴾ لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه ؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم في الدين لا معاتبة وتثريبا، إيثارا لحق الله على حقّ نفسه في ذلك المقال الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها، والله حصا عقولهم ما أوزنها وأرجحها اه.
وكان سؤاله إياهم عما فعلوا بيوسف وأخيه وهو سؤال العارف بأمرهم فيه من البداءة إلى النهاية مصداقا لما أوحاه الله إليه حين ألقوه في غيابة الجب من قوله :﴿ وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ﴾ [ يوسف : ١٥ ] إذ يبعد أن يعرف هذا سواه، فأرادوا أن يتثبتوا من ذلك ويستيقنوا به، فوجهوا إليه سؤالا هو سؤال المتعجب المستغرب لما يسمع.
تفسير المفردات : وآثرك : أي اختارك وفضلك. والخاطئ : هو الذي يأتي بالخطيئة عمدا. والمخطئ : من إذا أراد الصواب صار إلى غيره. والخطء : الذنب. وخطّأته : قلت له أخطأت.
الإيضاح :﴿ قالوا أئنك لأنت يوسف ﴾ أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه.
﴿ قال أنا يوسف ﴾ الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجب، ثم صرت إلى ما ترون.
﴿ وهذا أخي ﴾ الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون.
﴿ قد من الله علينا ﴾ فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلّصنا مما ابتلينا به.
وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخي لا أخوكم.
تنبيه : فإن قيل لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون في ذلك السرور كل السرور له ؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيم في كتابه " الإغاثة الكبرى " قال رحمه الله : لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله في الغايات العظيمة الحميدة، إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابا من المحن والبلايا والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام.
فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ [ البقرة : ٢١٦ ] وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب.
وبالجملة فالغايات الحميدة في خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة في خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره والنار وحفها بالشهوات اه.
﴿ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ أي أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو : من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإنه الله لا يضيع أجره في الدنيا ثم يؤتيه أجره في الآخرة.
وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى.
الإيضاح :﴿ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ﴾ أي قال إخوة يوسف له : لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل.
﴿ وإن كنا لخاطئين ﴾ أي وما كنا في صنيعنا بك وتفريقنا بينك وبين أخيك إلا متعمدين للخطيئة، ولا عذر لنا فيها عند الله ولا عند الناس.
وبعد أن قدموا له المعذرة أجابهم بالصفح عما فعلوا.
تفسير المفردات : ولا تثريب : أي لا لوم ولا تأنيب وثرّب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه.
الإيضاح :﴿ قال لا تثريب عليكم اليوم ﴾ أي لا لوم ولا تعنيف عليكم في هذا اليوم الذي هو مظنّته، ولكن لكم عندي الصفح والعفو. وهو إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده أولى.
وقال السيد المرتضى : إن كلمة " اليوم " موضوعة موضع الزمان كله كقوله :
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
كأنه أريد بعد اليوم اه.
﴿ يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ﴾ أي يعفو الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ويستره عليكم، وهو أرحم الراحمين لمن أقلع عن ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته.
وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم بالآية يوم فتح مكة حين طاف بالبيت وصلى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب وقال :" ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : نظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال :" وأنا أقول كما قال أخي يوسف ﴿ قال لا تثريب عليكم اليوم ﴾ "، فخرجوا كأنما نشروا من القبور. أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي عن أبي هريرة.
تفسير المفردات : ويأت بصيرا : أي يصر بصيرا في الحال، أو يأت إليّ وهو بصير.
الإيضاح : روي أن يوسف عليه السلام لما عرف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا : ذهب بصره فعند ذلك أعطاهم قميصه وقال :
﴿ اذهبوا بقميصي هذا ﴾ الذي على بدني أو بيدي.
﴿ فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ﴾ أي ألقوه على وجهه حين وصولكم إليه دون تأخير يصر بصيرا، وقد علم هذا إما بوحي من الله، وإما لأنه علم أن أباه ما أصابه ما أصابه إلا من كثرة البكاء وضيق النفس فإذا ألقي عليه قميصه شرح صدره وسر أعظم السرور، وقوي بصره وزالت منه هذه الغشاوة التي رانت عليه، والقوانين الطبية تؤيد هذا كما سيأتي بعد.
﴿ وأتوني بأهلكم أجمعين ﴾ من الرجال والنساء والذراري وغيرهم، وقد روي أن أهله كانوا سبعين رجلا وامرأة وولدا.
﴿ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ٩٤ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ٩٥ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ٩٦ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ٩٧ قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ﴾ [ يوسف : ٩٤ -٩٨ ].
تفسير المفردات : يقال فصل عن البلد : إذا انفصل وجاوز حيطانه، وتفندون : أي تنسبوني إلى الفند، وهو فساد الرأي وضعف العقل والخرف من الكبر.
الإيضاح :﴿ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ﴾ أي ولما انفصلت عير بني يعقوب عن حدود مصر قافلة إلى أرض الشام، قال أبوهم لمن حضره من حفدته ومن غيرهم : إني لأشم رائحة يوسف كما عرفتها في صغره، لولا أن تنسبوني إلى ضعف الرأي وفساد العقل وخرف الكبر، لصدقتموني في أني أجد رائحته حقيقة، وأنه حي قد قرب موعد لقائه وبالتمتع برؤيته.
وروي عن ابن عباس أنه لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف، قال ﴿ إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ﴾ فوجد ريحه من ثمانية أيام، وفي رواية من ثمانين فرسخا، والمراد من مسافات بعيدة جدا.
تفسير المفردات : في ضلالك : أي في خطئك أو في إفراطك في حبه والإصرار على اللهج به.
الإيضاح :﴿ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾ أي قال حاضرو مجلسه : تالله إنك لفي خطئك الذي طال أمده باعتقادك أن يوسف حي يرجى لقاؤه وقد قرب.
ولا غرو فللخليّ أن يقول في الشجيّ ما شاء، فأذنه عن العذل صماء :
سلوتي عنكم احتمال بعيد وافتضاحي بكم ضلال قديم
كل من يدعي المحبة فيكم ثم يخشى الملام فهو مليم
قال قتادة في تفسيرها :﴿ تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾ أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلوه اه، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها له.
تفسير المفردات : وارتد : أي رجع.
الإيضاح :﴿ فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا ﴾ أي فلما جاء البشير وهو ابنه يهوذا الذي يحمل القميص من يوسف، وهو الذي حمل إليه قميصه الملطخ بالدم الكذب ليمحو السيئة بالحسنة، ألقاه على وجه يعقوب فعاد من فوره بصيرا كما كان، بل قد قيل إنه عادت إليه سائر قواه، وليس ذلك بعجيب ولا منكر، فكثير ما شفى السرور من الأمراض وجدد قوى الأبدان والأرواح، والتجارب وقوانين الطب شاهد صدق على صحة ذلك. قال الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا : لا تتحسن أعراض مرض " الجولكوما " أو شدة توتر العين أو تقف شدته إلا بالعلاج، ومنه العمليات الجراحية ولكن سيدنا يعقوب بوضع القميص على وجهه هو معجزة من المعجزات الخارجة عن قدرة الإنسان، وليس المهم هو القميص أو وضعه على وجهه، فقد كان ذلك لتسهيل وقع المعجزة على الحاضرين فحسب، ولكن المهم هو طريقة الشفاء وهي إرادة الله المنحصرة في كن فيكون وهي خارجة عن كل السنن الطبيعية التي أمر الإنسان أن يتعلمها، فعظمة المعجزة ليست في النتيجة فحسب ولكن في طريق الشفاء وما أعظم القرآن الذي وصف حالة مرضية خاصة وبين سببها، ولم يكن يعلم العالم شيئا عن هذا المرض في ذلك الوقت ولا بعده بزمن طويل اه.
وقد أجاب يعقوب من لاموه بما كان عليه من علم قطعي من ربه بصدق ما يقول :
﴿ قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ أي قال لهم ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله : إني أعلم بوحي الله لا من خطرات الأوهام ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام، وقد ذكرهم الآن إذ عاد بما كان قد قاله لهم حين ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.
نبذة في تعليل شم يعقوب رائحة يوسف :
أثبت العلم حديثا أن الريح تحمل الغبار وما فيه من قارة إلى أخرى، فتحمله من إفريقية مثلا إلى أوروبا وهي مسافة أبعد مما بين مصر وأرض كنعان من بلاد الشام وهي بلا شك تحمل رائحة ما له منها رائحة، ولكن الغريب شم البشر لها من المسافات البعيدة، والإنسان إذا قيس بغيره من الوحوش والحشرات كان أضعف منها شما، فالكلب ذو حاسة قوية في الشم حتى ليدرّبه الآن رجال الشرطة ويستخدمونه في حوادث الإجرام من قتل وسرقة لإثبات التهمة على المجرمين، فيأتون بالكلب المعلّم فيشمّ المجرم ويخرجه من بين أشخاص كثيرين، ويرى ذلك رجال القانون دليلا قويا على إثبات الجريمة على من يرشد إليه، بل دليلا قاطعا في بعض الدول.
والروائح منها القوي والضعيف، ومن أضعفها رائحة جسم الإنسان وعرقه وما يصيب ثوبه منها، ولكن ما نحن فيه من خوارق العادات ومن خواص عالم الغيب لا من السنن العادية والحوادث التي تتكرر من البشر.
وقد دلت الآية على أن يعقوب عليه السلام أخبر أنه وجد رائحة يوسف لما فصلت العير من أرض مصر، فعلينا أن نؤمن به لأنه معصوم من الكذب، وقد تبين صدقه بعد وليس بالواجب علينا أن نعرف كنهه أو نصل إلى معرفة سببه، ولكن إذا نحن قلنا إنه لشدة تفكره في أمر ولده وتذكره لرائحته حين كان يضمه ويشمّه، شعر بتلك الرائحة قد عادت له سيرتها الأولى، لم يكن ذلك مجانبا للصواب ولا معارضا للعقل ولا ناقضا لما يثبته العلم، أو قلنا بأنا نتقبل هذا بدون تعليل ولا تصوير لكيفية ذلك لم نبعد، عن العقل ولا عن العلم، إذ لا خلاف بين العلماء في أن ما يجهله الباحثون أضعاف ما يعرفونه.
وعلى الجملة فعلينا التسليم بما أخبر به دون حاجة للبحث في كنهه أو صفته ما دام ذلك داخلا في حيز الإمكان.
الإيضاح :﴿ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ﴾ أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير : يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة، عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.
الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي :
﴿ قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ﴾ وعدهم بالاستغفار لهم في مستأنف الزمان، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.
والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة :
( ١ ) إن حال أبيهم معهم حال المربي المرشد للمذنب، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هين لديه حتى يعجل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
( ٢ ) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.
( ٣ ) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها، فلا يمحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.
فلا يحسن بعدئذ من المربي الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبث في الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.
( ٤ ) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسيء ضعيف لديه، عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم في ذلك أحسن الأسوة، وفي هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا في وجل مما سيحل بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا في قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:الإيضاح :﴿ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ﴾ أي قال أولاده وكانوا قد وصلوا إثر البشير : يا أبانا اسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا التي اجترحناها من عقوقك وإيذاء أخوينا، إنا كنا متعمدين لهذه الخطيئة، عاصين لله، ظانين أن نكون بعدها قوما صالحين.
الآن اعترفوا بذنوبهم كما اعترفوا ليوسف من قبل، لكن يوسف بادر إلى الاستغفار لهم وهم لم يطلبوه منه، وعليك أن تسمع جواب أبيهم الآتي :
﴿ قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ﴾ وعدهم بالاستغفار لهم في مستأنف الزمان، وعلل هذا بأن ربه واسع المغفرة والرحمة، لا ينقطع رجاء المؤمن فيها وإن ظلم وأساء.
والفارق بين جواب يعقوب وجواب يوسف من وجوه كثيرة اقتضتها الحكمة :
( ١ ) إن حال أبيهم معهم حال المربي المرشد للمذنب، لا حال المنتقم الذي يخشى أذاه وليس من حسن التربية ولا من طرق التهذيب أن يريهم أن ذنبهم هين لديه حتى يعجل بإجابة مطلبهم بالاستغفار لهم.
( ٢ ) إن ذنبهم لم يكن موجها إليه مباشرة، بل موجه إلى يوسف وأخيه، ثم إليه بالتبع واللزوم، إلى أنه ليس من العدل أن يستغفر لهم إلا بعد أن يعلم حالهم مع يوسف وأخيه، ولم يكن يعقوب قد علم بعفو يوسف عنهم واستغفاره لهم.
( ٣ ) إن هذا ذنب كبير وإثم عظيم طال عليه الأمد، وحدثت منه أضرار نفسية وخلقية وأعمال كان لها خطرها، فلا يمحى إلا بتوبة نصوح تجتث الجذور التي علقت بالأنفس، والأرجاس التي باضت وأفرخت فيها.
فلا يحسن بعدئذ من المربي الحكيم أن يسارع إلى الاستغفار لمقترفها عقب طلبه حتى كأنها من هينات الأمور التي تغفر ببادرة من الندم، ومن ثم تلبث في الاستغفار لهم إلى أجل، ليعلمهم عظيم جرمهم، ويعلمهم بأنه سوف يتوجه إلى ربه ويطلب لهم الغفران منه بفضله ورحمته.
( ٤ ) إن حال يوسف معهم كان حال القادر بل المالك القاهر مع مسيء ضعيف لديه، عظم جرمه عليه، فلم يشأ أن يكون الغفران بشفاعته ودعائه، فآمنهم من خوف الانتقام تعجيلا للسرور بالنعمة الجديدة التي جعل الله أمرها بين يديه، وليروا ويرى الناس فضل العفو عند القدرة، وليكون لهم في ذلك أحسن الأسوة، وفي هذا من ضروب التربية أكبر العظة، ولو أخر المغفرة لكانوا في وجل مما سيحل بهم، ولخافوا شر الانتقام، فكانوا في قلق دائم وتبلبل بال واضطراب نفس، فكان توجسهم له عذابا فوق العذاب الذي هم فيه، ولكن شاءت رحمته بهم أن يجعل السرور عاما والحياة الجديدة حافلة بالاطمئنان وقرة العين، وهكذا شاءت الأقدار وشاء الله أن يكون ذلك وهو العليم الحكيم.

تأويل رؤيا يوسف من قبل :
﴿ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء اله آمنين ٩٩ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رأياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ﴾ [ يوسف : ٩٩ -١٠٠ ].
تفسير المفردات : آوى إليه أبويه : أي ضمنهما إليه واعتنقهما.
المعنى الجملي : بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم، وأمر الملك أمراء وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبي الله يعقوب عليه السلام.
الإيضاح :﴿ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ﴾ في العبارة حذف وإيجاز يفهم من سياق الكلام والمعنى، تفصيله : بعد أن ذهب إخوة يوسف إلى أبيهم وأخبروه بمكانة يوسف في مصر وأنه الحاكم المفوض المستقل في أمرها، أبلغوه أنه يدعوهم كلهم للإقامة معه فيها والتمتع بحضارتها فرحلوا حتى بلغوها، ولما دخلوا على يوسف وكان قد استقبلهم في الطريق في جمع حافل احتفاء بهم ضم إليه أبويه واعتنقهما.
وظاهر الآية يدل على أمه لا تزال حية ورجحه ابن جرير، وقال جمع من المفسرين إن المراد بأبويه أبوه وخالته، لأن أمه قد ماتت قبل ذلك فتزوج أبوه خالته.
﴿ وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ﴾ أي وقال لهم ادخلوا بلاد مصر إن شاء الله آمنين على أنفسكم وأنعامكم من الجوع والهلاك، فإن سني القحط كانت لا تزال باقية، وذكر المشيئة في كلامه للتبرؤ من مشيئته وحوله وقوته إلى مشيئة الله الذي سخر ذلك لهم وسخر ملك مصر وأهلها له ثم لهم، وهذا من شأن المؤمنين ولاسيما الأنبياء والصديقون.
وفي سفر التكوين من التوراة أن يوسف عليه السلام عرف نفسه إلى إخوته عقب مجيئهم ببنيامين شقيقه وأرسلهم لاستحضار أبويه وأهلهم، فجاؤوا فأقطعهم أرض جاسان –إقليم الشرقية الآن- وأرسل إليهم العربات لتحملهم، وأحمال الغداء والثياب على الحمير، فلما وصلوا إليها شد يوسف على مركبته وصعد ليلاقي إسرائيل أباه في جاسان، فلما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا، ثم استأذنهم ليذهب إلى فرعون ويخبره بمجيئهم ومكانهم ليقرّهم عليه، لأنهم رعاة وأرض جاسان خصبة ففعل، ثم أخذ وفدا منهم لمقابلة فرعون وأدخل أباه عليه فبارك فرعون.
ومن هذا يتبين أن هذا اللقاء كان هو الأول لهم، وبعد لقاء فرعون قال لهم ادخلوا مصر ثم عاد بهم إلى قصره الخاص.
تفسير المفردات : ورفع أبويه : أي أصعدهما. والعرش : كرسي تدبير الملك لا كل سرير يجلس عليه الملك. وخروا له سجدا : أي أهوى أبواه وإخوته إلى الأرض وخروا له سجدا. تأويل رؤياي : أي مآلها وعاقبتها. وأصل النزغ : نخس الرائض الفرس بالمهماز لإزعاجه للجري، ثم قيل نزغه الشيطان كأنه نخسه ليحثه على المعاصي. نزغ بين الناس : أفسد بينهم بالحث على الشر.
المعنى الجملي : بعد أن أخبر فيما سلف أن يوسف قال لإخوته ائتوني بأهلكم أجمعين أخبر هنا أنهم رحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف بقرب مجيئهم خرج للقائهم، وأمر الملك أمراء وأكابر دولته بالخروج معه للقاء نبي الله يعقوب عليه السلام.
﴿ ورفع أبويه على العرش ﴾ أي أصعد أبويه إلى السرير الذي كان يجلس عليه لتدبير أمر الملك تكرمة لهما فوق ما فعله بالإخوة.
﴿ وخروا له سجدا ﴾ أي أهوى أبواه وإخوته وخروا له سجودا، وكان ذلك تحية الملوك والعظماء في عهدهم، ومن ثم سجد يعقوب لأخيه عيسو حين تلاقيا بعد تفرق.
والسجود ليس عبادة بذاته، وإنما يكون كذلك بالنية والتزام الصفة الشرعية فيه.
﴿ وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل ﴾ أي هذا السجود منكما ومن إخوتي الأحد عشر هو المآل والعاقبة التي آلت إليها رؤياي التي رأيتها من قبل في صغري ﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴾ [ يوسف : ٤ ].
﴿ وقد جعلها ربي حقا ﴾ أي قد جعلها ربي حقيقة واقعة واستبان أنها لم تكن أضغاث أحلام، فالكواكب الأحد عشر مثال إخوتي الأحد عشر، وأنت وأمي مثال الشمس والقمر، ولا بدع في ذلك فهذه الأسرة هي التي حفظ الله بها ذرية إسحاق بن إبراهيم لتنشر دين التوحيد بين العالمين فكانت خير أسر البشر جميعا.
﴿ وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ﴾ أي وقد أحسن بي ربي إذ أخرجني من السجن وسما بي إلى العرش الملك، وجاء بكم من البادية حيث كنتم تعيشون في شظف العيش وخشونته، ونقلكم إلى الحضر حيث تعيشون في نعم الاجتماع ونشر الدين الحق، وتتعاونون على ترقي العلوم والصناعات. ولم يذكر له إخراجه من الجب لوجوه :
( ١ ) إنه ذكر آخر المحن المتصلة بنهاية النعم.
( ٢ ) إنه لو ذكر حادث الجب لكان في ذلك تثريب لإخوته وقد قال ﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ [ يوسف : ٩٢ ].
( ٣ ) إنه بعد خروجه منه صار عبدا لا ملكا.
( ٤ ) إنه بعد خروجه منه وقع في مضارة تهمة المرأة التي بسببها دخل السجن. وعلى الجملة فالنعم الكاملة إنما حصلت بعد خروجه من السجن.
﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾ أي من بعد أن أفسد الشيطان ما بيني وبين إخوتي من عاطفة الأخوة، وقطع ما بيننا من وشيجة الرحم، وهيج الحسد والشر.
﴿ إن ربي لطيف لما يشاء ﴾ أي إن ربي عالم بدقائق الأمور رفيق بعباده، فينفذ ما يشاء في خلقه بحكمته البالغة، فمن ذا الذي كان يدور بخلده أن الإلقاء في الجب يعقبه الرق، ويتلو الرق فتنة العشق، ومن أجله يزج في غيابات السجن، ومن ذا إلى السيادة والملك.
﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾ أي إنه هو العليم بمصالح عباده، فلا تخفى عليه مبادئ الأمور، وغايتها، الحكيم الذي يفعل الأمور على وجه الحكمة والمصلحة، فيجازي الذين أحسنوا بالحسنى، ويجعل العاقبة للمتقين.
وبعد أن حمد يوسف ربه على لطفه في مشيئته وعلمه وحكمته تلا ذلك بالدعاء فقال :
طلب يوسف من ربه حسن الخاتمة :
﴿ * رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ﴾ [ يوسف : ١٠١ ].
الإيضاح :﴿ ربي قد آتيتني من الملك ﴾ أي قال يوسف بعدما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط له من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكن له في الأرض : رب قد آتيتني ملك مصر وجعلتني متصرفا فيها بالفعل وإن كان لغيري بالاسم، ولم يكن لي فيها حاسد ولا باغ إذ أجريت الأمور على سنن العدل ووفق الحكمة والسداد.
﴿ وعلمتني من تأويل الأحاديث ﴾ أي وعلمتني ما أعبر به عن مآل الحوادث ومصداق الرؤيا الصحيحة فتقع كما قلت وأخبرت.
﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ أي مبدعهما وخالقهما.
﴿ أنت وليي في الدنيا والآخرة ﴾ أي أنت متولي أموري ومتكفل بها، أو أنت موال لي وناصري على من عاداني وأرادني بسوء، وإن نعمك لتغمرني في الدنيا، وسأتمتع بها بفضلك ورحمتك في الآخرة، ولا حول لي في شيء منهما ولا قوة.
﴿ توفني مسلما ﴾ أي اقبضني إليك مسلما، وأتم لي وصية آبائي وأجدادي. ﴿ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾ [ البقرة : ١٣٢ ].
﴿ وألحقني بالصالحين ﴾ أي وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك، واحشرني في زمرتهم، وهذا الدعاء بمعنى ما جاء في سورة الفاتحة :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ٦ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ |الفاتحة : ٦ -٧| أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
في ذكر هذا القصص إثبات لنبوة محمد عليه السلام :
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ١٠٢ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ١٠٣ وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾ [ يوسف : ١٠٢ -١٠٤ ].
الإيضاح :﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ أي إن نبأ يوسف ووالده يعقوب وإخوته وكيف مكن ليوسف في الأرض وجعل له عاقبة والنصر، وآتاه الملك والحكمة، فساس ملكا عظيما وأحسن. إدارته وتنظيمه وكان خير قدوة للناس في جميع ما دخل فيه من أطوار الحياة، بعد أن أرادوا به السوء والهلاك حين عزموا أن يجعلوه في غيابة الجب كل ذلك من أخبار الغيب الذي لم تشاهده ولم تره، ولكنا نوحيه إليك لنثبت به فؤادك، فتصبر على ما نالك من الأذى من قومك، ولتعلم أن من قبلك من الرسل لما صبروا على ما نالهم في سبيل الله، وأعرضوا عن الجاهلين فازوا بالظفر وأيدوا بالنصر وغلبوا أعداءهم.
ثم أقام الدليل على كونه من الغيب بقوله :
﴿ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ أي وما كنت حاضرا عندهم ولا مشاهدا حين صحت عزائمهم على أن يلقوا يوسف في غيابة الجب، يبغون بذلك هلاكه والخلاص منه، وهذا كقوله تعالى بعد سياق موسى :﴿ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ﴾ [ القصص : ٤٦ ] الآية، وقوله في هذه القصة ﴿ وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ﴾ |القصص : ٤٥| الآية.
وخلاصة هذا : إن الله أطلع رسوله على أنباء ما سبق، ليكون فيها عبرة للناس في دينهم ودنياهم، ومع هذا ما آمن أكثرهم، ومن ثم قال :
الإيضاح :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ أي وما أكثر مشركي قومك ولو حرصت على أن يؤمنوا بك ويتّبعوا ما جئتهم به من عند ربك بمصدقيك ولا متّبعيك.
قال الرازي : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا ذكر هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت، فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية، وكأنه إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في قوله :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ].
الإيضاح :﴿ وما تسألهم عليه من أجر ﴾ أي وما تسأل هؤلاء الذين ينكرون نبوتك على ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لربك وطاعته وترك عبادة الأصنام والأوثان من أجر وجزاء منهم، بل ثوابك وأجر عملك على الله.
والخلاصة : إنك لا تسألهم على ذلك مالا ولا منفعة فيقولوا إنما تريد بدعائك إيانا إلى إتباعك أن ننزل لك عن أموالنا إذا سألتنا عن ذلك، فحالك حال من سبقك من الرسل، فهم لم يسألوا أقوامهم أجرا على التبليغ والهدى، والقرآن ملئ بنحو هذا كما في سورتي هود والشعراء وغيرهما.
وإذا كنت لا تسألهم على ذلك أجرا فقد كان حقا عليهم أن يعلموا إنك إنما تدعوهم إليه إتباعا لأمر ربك ونصيحة منك لهم.
﴿ إن هو إلا ذكر للعالمين ﴾ أي هذا أرسلك به ربك تذكير وموعظة لإرشاد العالمين كافة لا لهم خاصة، وبه يهتدون وينجون في الدنيا والآخرة.
وفي الآية إيماء إلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
غفلتهم عن التأمل في الآيات :
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ١٠٥ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ١٠٦ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ﴾ [ يوسف : ١٠٥ -١٠٧ ].
تفسير المفردات : وكأين : بمعنى كثير. والآية هنا : الدليل الذي يرشد إلى وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته. يمرون عليها : يشاهدونها. معرضون : أي لا يعتبرون بها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون في الدلائل على نبوتك ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم، فأكثرهم في غفلة من التفكر وفي آيات الله دلائل توحيده وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
الإيضاح :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾ أي وكم في السماوات والأرض من آيات دالة على توحيد الله وكمال علمه وقدرته من شمس وقمر ونجوم وجبال وبحار ونباتات وأشجار، يمر عليها أكثر الناس وهم غافلون عما فيها من عبرة ودلالة على توحيد ربها، وأن الألوهية لا تكون إلا بالواحد القهار الذي خلقها وخلق كل شيء فأحسن تدبيره.
وعلى الجملة فما في السماوات والأرض من عجائب وأسرار وإتقان وإبداع ليدلّ أتم الدلالة على العلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة التامة.
والذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض وهم غافلون عن خالقهما، ذاهلون عن ذكره يمتّعون عقولهم بلذة العلم، ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عزّ وجل، إذ الفكر وحده إن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فطوبى لمن جمع بين الأمرين فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ونجوا من عذاب النار في الآخرة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون في الدلائل على نبوتك ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم، فأكثرهم في غفلة من التفكر وفي آيات الله دلائل توحيده وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
الإيضاح :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ﴾ أي وما يقر هؤلاء بأن الله هو الخالق كما قال :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] إلا وهم مشركون به في عبادتهم سواه من الأوثان والأصنام ومن زعمهم أن له ولدا، تعالى عما يقولون.
قال ابن عباس : هم أهل مكة آمنوا وأشركوا وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهذا هو الشرك الأعظم، إذ يعبد مع الله غيره، وفي صحيح مسلم : أنهم كانوا إذا قالوا لبيك لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد، قد " أي حسب لا تزيدوا على هذا، وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت يا رسول الله : أي الذنب أعظم ؟ قال :" أن تجعل لله ندّا وهو خلقك ".
ومن درس تاريخ الأمم الماضية والحاضرة عرف كيف طرأ الشرك على الأمم، وسرى في عبادتهم سريان السم في الدّسم.
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان : وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور منهم، أن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء لها والإقسام على الله بها مع أن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل ويحجّ إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر هذا عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من تجديد التوحيد وألا يعبد إلا الله اه.
أما التوسل إلى الله بصالحي عباده كقولهم : اللهم بجاه فلان عندك أو بحق فلان أو بحرمته أسألك أن تفعل كذا فلم ينقل عن أحد من سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، وما أخرجه الطبراني من حديث فاطمة بنت أسد من قوله :( بحق نبيك والأنبياء من قبلي ) فقد طعن فيه رجال الحديث، على أنه ليس فيه إلا الدعاء بحق النبيين فحسب، وهو ما فضلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة وما وعدهم به من التمكين والنصر، على أن حقوق الرسل وصلاح الصالحين ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء ولا رابطة تربطها بإجابة سؤاله.
تفسير المفردات : والغاشية : العقوبة تغشاهم وتعمهم. بغتة : فجأة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن أكثر الناس لا يؤمنون مهما حرصت على إيمانهم ولا يتأملون في الدلائل على نبوتك ذكر هنا أن هذا ليس ببدع منهم، فأكثرهم في غفلة من التفكر وفي آيات الله دلائل توحيده وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
الإيضاح :﴿ أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون ﴾ أي أفأمن هؤلاء الذين يؤمنون بالله ربهم ويشركون به في عبادته غيره، إن تأتيهم عقوبة تغشاهم وتغمرهم، أو تأتيهم الساعة فجأة حيث لا يتوقعون، وهم مقيمون على شركهم، وكفرهم بربهم، فيخلدهم في نار جهنم.
والآية كقوله :﴿ أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ٤٥ أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين ٤٦ أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم ﴾ [ النحل : ٤٥ -٤٧ ]، وقوله :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ٩٧ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ٩٨ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ [ الأعراف : ٩٧ -٩٩ ].
وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته –الناقة ذات الدر- فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته – لقمته - إلى فيه فلا يطعمها " والمراد من كل هذا أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معايشهم فلا يشعرون إلا وقد أتتهم.
والحكمة في إبهام وقتها : إن الفائدة لا تتم إلا بذلك، ليخشى أهل كل زمان إتيانها في هذا الوقت، فيحملهم الخوف على مراقبة الله تعالى في أعمالهم فيلتزموا الحق ويتحروا الخير ويتقوا الشرور والمعاصي.
طريق النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى التوحيد :
﴿ قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ١٠٨ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون ﴾ [ يوسف : ١٠٨ -١٠٩ ].
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما في السماوات والأرض من آيات، ولا يعتبرون بما فيها من علامات، تدل على أن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده يدعو بها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان.
الإيضاح :﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ أي قل أيها الرسول : هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الأوثان والأصنام هي سنتي ومنهاجي، وأنا على يقين مما أدعو إليه ولدي الحجة والبرهان على ما أقول، وكذلك يدعو إليها من اتبعني وآمن بي وصدقني.
والآية كقوله :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ [ النحل : ١٢٥ ].
﴿ وسبحان الله ﴾ أي وأنزه الله وأعظمه من أن يكون له شريك في ملكه، أو أن يكون هناك معبود سواه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا :﴿ تسبح السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ﴾[ الإسراء : ٤٤ ].
﴿ وما أنا من المشركين ﴾ أي وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني.
وفي قوله :﴿ على بصيرة ﴾ إيماء إلى أن هذا الدين الحنيف لا يطلب التسليم بنظرياته ومعتقداته بحكاياتها فحسب، ولكنه دين حجة وبرهان، فقد ذكر مذاهب المخالفين وكرّ عليها بالحجة، وخاطب العقل، واستنهض الفكر، وعرض نظام الأكوان، وما فيها من الإحكام والإتقان، على أنظار العقول وطالبها بالإمعان فيها، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه ودعا إليه.
نقل البغوي عن ابن عباس في تفسير قوله :﴿ ومن اتبعني ﴾ يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة، وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمان، وعن ابن مسعود : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على إثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
وقد كان من شبه منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكا كما حكى عنهم سبحانه :﴿ لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴾ [ فصلت : ١٤ ] فرد سبحانه عليهم بقوله :
المعنى الجملي : بعد أن أبان سبحانه أن أكثر الناس لا يفكرون فيما في السماوات والأرض من آيات، ولا يعتبرون بما فيها من علامات، تدل على أن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد أمر رسوله أن يخبر الناس أن طريقه هي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده يدعو بها هو ومن اتبعه على بصيرة وبرهان.
الإيضاح :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ﴾ فكيف عجبوا منك ولم يعجبوا ممن قبلك من الرسل.
ونظير هذا قوله :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] وقوله :﴿ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ﴾ [ الأنبياء : ٨ ] وقوله :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٩ ] الآية.
وهذه الشبهة ذكرت في كثير من السور كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء. وقال الحافظ ابن كثير : يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، وهذا قول الجمهور كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة، فالله لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع اه.
وفي قوله :﴿ من أهل القرى ﴾ أي من أهل الأمصار دون البوادي إيماء إلى أن سائر البلدان تتبعهم إذا آمنوا، ولأن أهل البادية أهل جفاء، يرشد إلى قوله عليه السلام " من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل ".
ثم أتبع ذلك بتأنيبهم وتهديدهم على تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ أي أفلم يسر هؤلاء المشركون من كفار قريش ممن يكذبونك ويجحدون نبوتك وينكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص العبادة له، فينظروا فيما وطئوا من البلاد من أوقعنا بهم من الأمم قبلهم كقوم لوط وصالح وسائر من عذبهم الله من الأمم، وما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا، وجحودهم بآياتنا، ويعتبروا بما حل بهم.
ثم رغّب في العمل للآخرة فقال :
﴿ ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ﴾ أي إن الدار الآخرة للذين آمنوا بالله ورسله واتقوا الشرك به وارتكاب الآثام والمعاصي، خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث المكذبين بالرسل والذين لا حظّ لهم من هذه الدنيا إلا التمتع بلذاتها.
فإن نعيمها البدني أكمل من نعيم الدنيا، لدوامه وثباته ولخلوه عن المنغّصات والآلام، فما بالك بنعيمها الروحي من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة، أما إنكم لو عقلتم ذلك لآمنتم.
ثم ذكر سبحانه تثبيتا لفؤاده عليه السلام أن العاقبة لرسله، وأن نصره تعالى ينزل عليهم حين ضيق الحال وانتظار الفرج كما قال :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] وقال :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ﴾ [ غافر : ٥١ ] وأن نصره يأتيهم إذا تمادى المبطلون في تكذيبهم فقال :
الفرج بعد الشدة :
﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ١١٠ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ [ يوسف : ١١٠ -١١١ ].
تفسير المفردات : الظن هنا : إما بمعنى اليقين وإما بمعنى الحسبان والتقدير. والبأس : العقاب.
الإيضاح :﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ﴾ أي وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى فدعوا من أرسلوا إليهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له فكذبوا بما جاؤوهم به، وردوا ما أتوا به من عند ربهم، حتى إذا يئس الرسل من إيمانهم، لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وظنّت الأمم أن الرسل الذين أرسلوا إليهم قد كذبوهم فيما كانوا اخبروهم عن الله من وعده لهم النصر عليهم جاءهم نصرنا.
وهذه سنة الله في الأمم، يرسل الرسل بالبينات ويؤيدهم بالمعجزات، حتى إذا أعرضوا عن الهداية، وعاندوا رسل ربهم، وامتدت مدة كيدهم وعدوانهم، واشتد البلاء على الرسل واستشعروا بالقنوط من تمادي التكذيب وتراخي النصر جاءهم نصر الله فجأة، وأخذ المكذبين العذاب بغتة، كالطوفان الذي أغرق قوم نوح، والريح التي أهلكت عادا قوم هود، والصيحة التي أخذت ثمود، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها كما قال :﴿ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ [ التوبة : ٧٠ ].
وفي هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حلّ لهم من العذاب ما حلّ بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال في سورة القمر :﴿ أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ﴾ [ القمر : ٤٣ ] وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وما بعدها من الغزوات، وأهلك الجاحدين المعاندين من قومه.
روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير وهو يسألها عن قول الله تعالى :﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ الآية، هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
وعن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وظنوا أنهم قد كذبوا – مخففة - أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة، ونحوه عن ابن عباس قال :" يئس الرسل أن يستجيبوا لهم وظنّ قومهم أن الرسل كذبوهم بما جاؤوهم به جاءهم نصرنا. ونحوه عن ابن مسعود قال : حفظت عن رسول الله في سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة اه.
﴿ فنجي من نشاء ﴾ أي فنجى الرسل ومن آمن بهم من أقوامهم، لأنهم بحسب ما وضع الله من تأثير الأعمال في طهارة النفوس وزكائها هم الذين يستحقون النجاة دون غيرهم كما قال :﴿ قد أفلح من زكاها ٩ وقد خاب من دساها ﴾ [ الشمس : ٩ -١٠ ].
﴿ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ أي ولا يمنع عقابنا وبطشنا عن القوم الذين أجرموا فكفروا بالله وكذبوا رسله، وما أتوهم به من عند ربهم.
وقد جرت سنة الله أن يبلّغ الرسل أقوامهم ويقيموا عليهم الحجة وينذرهم سوء عاقبة الكفر والتكذيب، فيؤمن المهتدون ويصرّ المعاندون، فينجي الله الرسل ومن آمن من أقوامهم ويهلك المكذبين.
ولا يخفى ما في الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
تفسير المفردات : والألباب : العقول واحدها لب، وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه. والعبرة : الحال التي يتوصل بها من قياس ما ليس بمشاهد بما هو بمشاهد.
الإيضاح :﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾ قص الخبر : حدث به على أصح الوجوه وأصدقها، من قولهم قص الأثر واقتصه إذا تتبّعه وأحاط به خبرا، أي لقد كان في قصص يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته عبرة لذوي العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، لأنهم هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي يدل عليها غوائلها ومقدماتها، أما الأغرار الغافلون فلا يستعملون عقولهم في النظر والاستدلالات، ومن ثم لا يفيدهم النصح.
وجهة الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إنجاء يوسف بعد إلقائه في غيابة الجب، وإعلاء أمره بعد وضعه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن بيع بالثمن البخس، والتمكين به في الأرض من بعد الإسار والحبس الطويل، وإعزازه على من قصده بالسوء من إخوته، وجمع شمله بأبويه وبهم بعد المدة الطويلة المدى، والمجيء بهم من الشقة البعيدة النائية إن الذي قدر على ذلك كله لقادر على إعزاز محمد صلى الله عليه وسلم كلمته، وإظهار دينه، فيخرجه من بين أظهركم، ثم يظهره عليكم، ويمكن له في البلاد، ويؤيده بالجند والرجال، والأتباع والأعوان، وإن مرت به الشدائد، وأتت دونه الأيام والحوادث.
﴿ ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ أي ما كان هذا القصص حديثا يختلق ويفترى، لأنه نوع أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء، فهو دليل ظاهر، وبرهان قاهر، على أنه جاء بطريق الوحي والتنزيل. ومن ثم قال ولكن تصديق الذي بين يديه أي من الكتب السماوية التي أنزلها الله قبله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور، أي تصديق ما عندهم من الحق فيها، لا كل الذي عندهم، فهو ليس بمصدق لما عمدهم من خرافات فاسدة، وأوهام باطلة، لأنه جاء لمحوها وإزالتها، لا لإثباتها وتصديقها.
﴿ وتفصيل كل شيء ﴾ من أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده، وبيان ما يجب له تعالى من صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص، وفيه قصص الأنبياء مع أقوامهم، لما فيها من عبر وعظات وسائر ما بالعباد إليه حاجة.
وعلى الجملة ففي القرآن تفصيل كل شيء يحتاج إليه في أمر الدين، وقد أسهب في موضع الإسهاب، وأوجز حيث يكفي الإيجاز، ففصّل الحق في العقائد بالحجج والدلائل، وفي الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام، بما به تصلح أمور البشر، وشؤون الاجتماع.
﴿ وهدى ﴾ أي هو هدى لمن تدبره، وأمعن في النظر فيه، وتلاه حقّ تلاوته، فهو مرشد إلى الحق وهاد إلى سبيل الرشاد وعمل الخير والصلاح، في الدين والدنيا.
﴿ ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي وهو رحمة عامة للمؤمنين الذين تنفذ فيهم شرائعه في دينهم ودنياهم.
والخاضعون لها من غير المؤمنين يكونون في ظلها آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم أحرارا في عقائدهم وعباداتهم، مساوين للمؤمنين في حقوقهم ومعاملاتهم، يعيشون في بيئة خالية من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتعبث بالفضائل.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، وأن يحشرنا في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. يوم تسود وجوه وتبيض وجوه وأن يجعل خواتيمنا خير الخواتيم في الدنيا والآخرة كما جعل خاتمة يوسف مع أبويه وإخوته كذلك.
Icon