ﰡ
﴿الر﴾ أنا الله الرَّحمن ﴿تلك﴾ هذه ﴿آيات الكتاب المبين﴾ للحلال والحرام والأحكام يعني: القرآن
﴿إنا أنزلناه﴾ يعني: الكتاب ﴿قرآنا عربيا﴾ بلغة العرب ﴿لعلكم تعقلون﴾ كي تفهموا
﴿نحن نقصُّ عليك أحسن القصص﴾ نبيِّن لك أحسن البيان ﴿بما أوحينا﴾ بإيماننا ﴿إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ وما كنتَ من قبل أن يُوحى إليك إلاَّ من الغافلين
﴿إذ قال﴾ اذكر إِذْ قَالَ ﴿يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ﴾ الآية رأى يوسف عليه السَّلام هذه الرُّؤيا فلمَّا قصَّها على أبيه أشفق عليه من حسد إخوته له فقال:
﴿يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فيكيدوا لك كيداً﴾ يحتالوا في هلاكك لأنهم لا يعلمون تأويلها
﴿وكذلك﴾ ومثل ما رأيت ﴿يجتبيك ربك﴾ يصطفيك ويختارك ﴿ويعلمك من تأويل الأحاديث﴾ تعبير الأحلام ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بالنبُّوَّة ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾ يعني: المُختَصِّين منهم بالنُّبوَّة ﴿عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ حيث يضع النبوَّة ﴿حَكِيمٌ﴾ في خلقه
﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ أَيْ: في خبرهم وقصصهم ﴿آيات﴾ عبرٌ وعجائبُ ﴿للسائلين﴾ الذين سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فأخبرهم بها وهو غافلٌ عنها لم يقرأ كتاباً فكان في ذلك أوضح دلالةٍ على صدقه
﴿إذ قالوا﴾ يعني: إخوة يوسف: ﴿ليوسفُ وأخوه﴾ لأبيه وأُمِّه ﴿أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة﴾ جماعةٌ ﴿إنَّ أبانا لفي ضلالٍ مبين﴾ ضلَّ بإيثاره يوسف وأخاه علينا ضلالٍ: خطأ
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ في أرضٍ يبعد فيها عن أبيه ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبيكم﴾ يُقبل بكليته عليكم ﴿وتكونوا من بعده قوماً صالحين﴾ تُحدثوا توبةً بعد ذلك يقبلها الله سبحانه منكم
﴿قال قائل منهم﴾ وهو يهوذا أكبر إخوته: ﴿لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب﴾ في موضعٍ مظلمٍ من البئر لا يلحقه نظر النَّاظرين ﴿يلتقطه بعض السيارة﴾ مارَّة الطَّريق ﴿إن كنتم فاعلين﴾ ما قصدتم من التًّفريق بينه وبين أبيه فلمَّا تآمروا بينهم ذلك وعزموا على طرحه في البئر
﴿قَالُوا﴾ لأبيهم ﴿مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يوسف﴾ لِمَ تخافنا عليه؟ ﴿وإنا له لناصحون﴾ في الرَّحمة والبرِّ والشَّفقة
﴿أرسله معنا غداً﴾ إلى الصحراء ﴿يرتع ويلعب﴾ نسعى وننشط ﴿وإنا له لحافظون﴾ من كلِّ ما تخافه عليه
﴿قال إني ليحزنني أن تذهبوا به﴾ ذهابكم به يحززني لأنَّه يفارقني فلا أراه ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب﴾ وذلك أنَّ أرضهم كانت مذأبة ﴿وأنتم عنه غافلون﴾ مشتغلون برعيتكم
﴿قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة﴾ جماعةٌ بحضرته ﴿إنا إذاً لخاسرون﴾ لعاجزون
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابة الجب﴾ وعزموا على ذلك أوحينا إلى يوسف في البئر تقويةً لقلبه: لتصدقنَّ رؤياك ولَتُخبِرِنَّ إخوتك بصنيعهم هذا بعد هذا اليوم ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ بأنَّك يوسف في وقت إخبارك إياهم
﴿وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾
﴿قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق﴾ نشتدُّ ونعدو ليتبيَّن أيُّنا أسرع عَدْواً ﴿وَتَرَكْنَا يوسف عند متاعنا﴾ ثيابنا ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ بمصدِّق لنا ﴿ولو كنَّا صادقين﴾ في كلِّ الأشياء لأنَّك اتَّهمتنا في هذه القصَّة
﴿وجاؤوا على قميصه بدم كذب﴾ لأنَّه لم يكن دمه إنَّما كان دم سخلةٍ ﴿قال﴾ يعقوب عليه السَّلام: ﴿بل﴾ أَيْ: ليس كما تقولون ﴿سوَّلت لكم﴾ زيَّنت لكم ﴿أنفسكم﴾ في شأنه ﴿أمْراً﴾ غير ما تصفون ﴿فصبر﴾ أَيْ: فشأني صبرٌ ﴿جميل﴾ وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى ما تصفون﴾ أَيْ: به أستعين في مكابدة هذا الأمر
﴿وجاءت سيارة﴾ رفقةٌ تسير للسَّفر ﴿فأرسلوا واردهم﴾ وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم ﴿فَأَدْلَى دلوه﴾ أرسلها في البئر فتشبت يوسف عليه السَّلام بالرِّشاء فأخبره الوارد فلمَّا رآه ﴿قال يا بشرى﴾ أَيْ: يا فرحتا ﴿هذا غلام وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ أسرَّه الوارد ومَنْ كان معه من التُّجار من غيرهم وقالوا: هذه بضاعةٌ استبضعها بعض أهل الماء ﴿والله عليم بما يعملون﴾ بيوسف فلمَّا علم إخوته ذلك أتوهم وقالوا: هذا عبدٌ آبقٌ منَّا فقالوا لهم: فبيعوناه فباعوه منهم وذلك قوله: ﴿وشروه بثمن بخسٍ﴾ حرامٍ لأنَّ ثمن الحُرِّ حرامٌ ﴿دراهم معدودة﴾ باثنين وعشرين درهماً ﴿وكانوا﴾ يعني: إخوته ﴿فيه﴾ في يوسف ﴿من الزاهدين﴾ لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه
﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ من الزاهدين﴾
﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته﴾ وهو العزيز صاحب ملك مصر: ﴿أكرمي مثواه﴾ أحسني إليه طول مقامه عندنا ﴿عسى أن ينفعنا﴾ أَيْ: يكفينا - إذا بلغ وفهم الأمور - بعض شؤوننا ﴿أو نتخذه ولداً﴾ وكان حصوراً لا يولد له ﴿وكذلك﴾ وكما نجَّيناه من القتل والبئر ﴿مكَّنا ليوسف في الأرض﴾ يعني: أرض مصر حتى بلغ ما بلغ ﴿ولنعلمه من تأويل الأحاديث﴾ فعلنا ذلك تصديقاً لقوله ﴿ويُعلِّمك مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ على ما أراد من قضائه لا يغلب غالبٌ على أمره ولا يُبطل إرادته منازعٌ ﴿ولكنَّ أكثر الناس﴾ هم المشركون ومَنْ لا يؤمن بالقدر ﴿لا يعلمون﴾ أَنَّ قدرة الله غالبةٌ ومشيئته نافذةٌ
﴿ولما بلغ أشده﴾ ثلاثين سنةً ﴿آتيناه حكماً وعلماً﴾ عقلاً وفهماً ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف ﴿نجزي المحسنين﴾ الصَّابرين على النوائب كما يوسف عليه السَّلام
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ يعني: امرأة العزيز طلبت منه أن يُواقعها ﴿وغلقت الأبواب﴾ أَيْ: أغلقتها ﴿وقالت هيت لك﴾ أَيْ: هلمَّ وتعال ﴿قال مَعَاذَ الله﴾ أعوذ بالله أن أفعل هذا ﴿إِنَّهُ رَبِّي﴾ إنَّ الذي اشتراني هو سيِّدي ﴿أحسن مثواي﴾ أنعم عليَّ بإكرامي فلا أخونه في حرمته ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ لا يسعد الزُّناة
﴿ولقد همت به وهمَّ بها﴾ طمعت فيه وطمع فيها ﴿لولا أن رأى برهان ربِّه﴾ وهو أنَّه مُثِّل له يعقوب عليه السَّلام عاضَّاً على أصابعه يقول: أتعمل عمل الفجَّار وأنت مكتوبٌ في الأنبياء فاستحيا منه وجواب لولا محذوف على معنى: لولا أن لاأى برهان ربِّه لأمضى ما همَّ به ﴿كذلك﴾ أَيْ: أريناه البرهان ﴿لنصرف عنه السوء﴾ وهو حيانة صاحبه ﴿والفحشاء﴾ ركوب الفاحشة ﴿إنَّه من عبادنا المخلصين﴾ الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه
﴿واستبقا الباب﴾ وذلك أنَّ يوسف عليه السَّلام لمَّا رأى البرهان قام مُبادراً إلى الباب واتَّبعته المرأة تبغي التَّشبُّث به فلم تصل إلاَّ إلى دُبر قميصه فقدَّته ووجدا زوج المرأة عند الباب فحضرها في الوقت كيدٌ فأوهمت زوجها أنَّ الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف فـ ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ تريد الزِّنا ﴿إلاَّ أن يسجن﴾ يحبس في الحبس ﴿أو عذاب أليم﴾ بالضَّرب فلمَّا قالت ذلك غضب يوسف و ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ وحكم حاكمٌ وبيَّن مبيِّنٌ ﴿من أهلها﴾ وهو ابنُ عمِّ المرأة فقال: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهو من الكاذبين﴾
﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
﴿فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ﴾ من حكم الشَّاهد وبيانِه ما يُوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصَّادق فلمَّا رأى زوج المرأة قميص يوسف قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴿قال إنَّه من كيدكنَّ﴾ أَيْ: قولِك: ﴿ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً﴾ الآية
﴿يوسف﴾ يا يوسف ﴿أعرض عن هذا﴾ اترك هذا الأمر فلا تذكره ﴿واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين﴾ الآثمين ثمَّ شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدَّثت بذلك النِّساء وخضن فيه وهو قوله:
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ غلامها ﴿عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ قد دخل حبُّه في شغاف قلبها وهو موضع الدَّم الذي يكون داخل القلب ﴿إنا لنراها في ضلالٍ﴾ عن طريق الرُّشد بحبِّها إيَّاه
﴿فلما سمعت﴾ امرأة العزيز ﴿بمكرهن﴾ مقالتهن وشميت مكراً لأنهنَّ قصدْنَ بهذه الماقلة أن تُريهنَّ يوسف ليقوم لها العذر في حبِّه إذا رأين جماله وكنَّ مشتهين ذلك لأنَّ يوسف وُصف لهنَّ بالجمال ﴿أرسلت إليهن﴾ تدعوهنَّ ﴿وأعتدت﴾ وأعدَّت ﴿لهن متكئا﴾ طعاماً يقطع بالسِّكين قيل: هو الأترج ﴿وآتت﴾ وناولت ﴿كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت﴾ ليوسف: ﴿اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن ﴿وقطعن أيديهنَّ﴾ حَززْنَها بالسَّكاكين ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف ﴿وَقُلْنَ حاشَ لِلَّه﴾ بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً ﴿إنْ هذا﴾ ما هذا ﴿إلاَّ ملك كريم﴾ فلمَّا رأت امرأة العزيز ذلك قالت:
﴿فذلكنَّ الذي لُمْتُنَّنِي فيه﴾ في حبِّه والشَّغف فيه ثم أقرَّّت عندهنَّ بما فعلت فقالت: ﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾ فامتنع وأبى وتوعَّدته بالسِّجن فقالت: ﴿ولئن لم يفعل﴾ الآية فأمرنه بطاعتها وقلن له: إنَّك الظَّالم وهي المظلومة فقال يوسف:
﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ من معصيتك ﴿وإلاَّ تصرف عني كيدهنَّ﴾ كيد جميع النِّساء ﴿أصبُ إليهنَّ﴾ أمل إليهنَّ ﴿وأكن من الجاهلين﴾ المذنبين
﴿فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهنَّ﴾ حتى لم يقع في شيءٍ ممَّا يطالبنه به ﴿إنَّه هو السميع﴾ لدعائه ﴿العليم﴾ بما يخاف من الإثم
﴿ثم بدا لهم﴾ للعزيز وأصحابه ﴿من بعد ما رأوا الآيات﴾ آيات براءة يوسف ﴿ليسجننه حتى حين﴾ وذلك أنَّ المرأة قالت: إنَّ هذا العبد فضحني في النَّاس يُخبرهم أنِّي راودته عن نفسه فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة فذلك قوله: ﴿حتى حين﴾ أَيْ: إلى انقطاع اللائمة
﴿ودخل معه السجن فتيان﴾ غلامان للملك الأكبر رُفع إليه أنَّ صاحب طعامه يريد أن يَسُمَّه وصاحب شرابه مَالأَهُ على ذلك فأدخلهما السِّجن ورأيا يوسف يُعبِّر الرُّؤيا فقالا: لنجرِّب هذا العبد العبرانيّ فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئاً وهو قوله ﴿قال أحدهما﴾ وهو السَّاقي: ﴿إني أراني أعصر خمراً﴾ أَيْ: عنباً وقال صاحب الطَّعام: ﴿إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً﴾ رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي خبزاً ﴿تأكل الطير منه﴾ فإذا سباعُ الطير يَنْهَشْنَ منه ﴿نبئنا بتأويله﴾ أَيْ: خبرنا بتفسير الرُّؤيا ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ تُؤثر الإِحسان وتأتي جميل الأفعال فعدلَ يوسف عليه السَّلام عن جواب مسألتهما ودَلَّهما أولاً على أنَّه عالمٌ بتفسير الرُّؤيا فقال:
﴿لا يأتيكما طعام ترزقانه﴾ تأكلان منه في منامكما ﴿إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ في اليقظة ﴿قبل أن يأتيكما﴾ التَّأويل ﴿ذلكما مما علمني ربّي﴾ أَيْ: لست أخبركما على جهة التَّكهُّن والتَّنجُّم إنَّما ذلك بوحي من الله عز وجل وعلمٍ ثمَّ أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية وقوله:
﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شيء﴾ يريد: إن الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به ﴿ذَلِكَ مِنْ فضل الله علينا﴾ أَيْ: اتِّباعنا للإيمان يتوفيق الله تعالى وتفضُّله علينا ﴿وعلى الناس﴾ وعلى مَنْ عصمه الله من الشِّرك حتى اتَّبع دينه ﴿ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون﴾ نعمة الله بتوحيده والإِيمان برسله ثمَّ دعاهما إلى الإِيمان فقال:
﴿يا صاحبي السجن﴾ يعني: يا ساكنيه: ﴿أأرباب متفرِّقون﴾ يعني: الأصنام ﴿خَيْرٌ﴾ أعظم في صفة المدح ﴿أَمِ اللَّهُ الواحد القهار﴾ الذي يقهر كلَّ شيءٍ
﴿ما تعبدون من دونه﴾ أنتما ومَنْ على مثل حالكما من دون الله ﴿إلاَّ أسماءً﴾ لا معانيَ وراءها ﴿سميتموها أنتم﴾ ﴿إن الحكم إلاَّ لله﴾ ما الفضل بالأمر والنَّهي إلاَّ لله ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القيم﴾ المستقيم ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ مل للمطيعين من الثَّواب وللعاصين من العقاب ثمَّ ذكر تأويل رؤياهما بقوله:
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رأسه﴾ فقالا: ما رأينا شيئاً فقال: ﴿قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان﴾ يعني: سيقع بكما ما عبَّرت لكما صدقْتُما أم كذبتما
﴿وقال﴾ يوسف ﴿للذي ظنَّ﴾ علم ﴿إنَّه ناج منهما﴾ وهو السَّاقي: ﴿اذكرني عند ربك﴾ عند الملك صاحبك وقل له: إنَّ في السِّجن غلاماً محبوساً ظلماً ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ ربه﴾ أنسى الشَّيطان يوسف الاستغاثة بربِّه وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك فعوقب بأن ﴿لبث في السجن بضع سنين﴾ سبع سنين فلمَّا دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا وهو قوله:
﴿وقال الملك إني أرى﴾ الآية فلمَّا استفتاهم فيها
﴿قالوا أضغاث أحلام﴾ أحلامٌ مختلطةٌ لا تأويل لها عندنا ﴿وما نحن بتأويل الأحلام بعالمي﴾ أقرُّوا بالعجز عن تأويلها
﴿وقال الذي نجا منهما﴾ وهو السَّاقي ﴿وادَّكر بعد أمةٍ﴾ وتذكَّر أمر يوسف بعد حين من الدَّهر: ﴿أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون﴾ فأُرسل فأتى يوسف فقال:
﴿يوسفُ﴾ أَيْ: يا يوسف ﴿أيها الصديق﴾ الكثير الصِّدق وقوله ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾ يعني: أصحاب الملك ﴿لعلهم يعلمون﴾ تأويل رؤيا الملك من جهتك
﴿قال تزرعون﴾ أَيْ: ازرعوا ﴿سبع سنين دأباً﴾ متتابعةً وهذه السَّبع تأويل البقرات السِّمان ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ ممَّا زرعتم ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾ لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد ﴿إلا قليلاً ممًّا تأكلون﴾ فإنَّكم تدوسونه
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ مُجدباتٌ صعابٌ وهذه تأويل البقرات العجاف ﴿يأكلن﴾ يُفنين ويُذهبن ﴿مَا قدَّمتم لهن﴾ من الحَبِّ ﴿إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون﴾ تحرزون وتدَّخرون
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يغاث الناس وفيه يعصرون﴾ يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن ومن العنب الخمر ومن الزَّيتون الزَّيت فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ فقال:
﴿ائتوني﴾ بالذي عبَّر رؤياي فجاء الرَّسول يوسف وقال: أجب الملك فقال للرسول: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ يعني: الملك ﴿فاسأله﴾ أن يسأل ﴿ما بال النسوة﴾ ما حالهنَّ وشأنهنَّ ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ وهو قولها: ﴿ولقد راودته عن نفسه فاستعصم﴾ فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حبس ظلما وأنه برئ ممَّا قُذِف به فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك ﴿إن ربي بكيدهنَّ﴾ ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي ﴿عليم﴾ فدعا الملك النسوة فقال:
﴿ما خطبكنَّ﴾ ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ ﴿إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه﴾ جمعهنَّ في المراودة لأنه يعلم مَنْ كانت المُراوِدة ﴿قلن حاشَ لله﴾ بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ من زنا فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت: ﴿الآن حصحص الحق﴾ أَيْ: بان ووضح وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في قوله: ﴿هي راودتني عن نفسي﴾
﴿ذلك﴾ أَيْ: ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك ﴿ليعلم﴾ وزير الملك ـ وهو الذي اشتراه ـ ﴿إني لم أخنه﴾ في زوجته ﴿بالغيب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ لا يرشد مَنْ خان أمانته أَيْ: إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عز وجل فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ قال جبريل عليه السَّلام: ولا حين هممت بها يوسف فقال:
﴿وما أبرئ نفسي﴾ وما أُزكِّي نفسي ﴿إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء﴾ بالقبيح وما لا يحبُّ الله ﴿إلاَّ ما﴾ مَنْ ﴿رحم ربي﴾ فعصمه
﴿وقال الملك ائتوني به﴾ بيوسف ﴿أستخلصه لنفسي﴾ أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ ﴿فلمَّا كلَّمه﴾ يوسف ﴿قال إنك اليوم لدينا مكين﴾ وجيهٌ ذو مكانةٍ ﴿أمين﴾ قد عرفنا أمانتك وبراءتك ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً فأجابه يوسف بذلك فقال له: ما ترى أن تصنع؟ قال: تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك فقال: مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه؟ فقال يوسف:
﴿قال اجعلني على خزائن الأرض﴾ على حفظها وأراد بالأرض أرض مصر ﴿إني حفيظٌ عليمٌ﴾ كاتبٌ حاسبٌ
﴿وكذلك﴾ وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن ﴿مكنَّا ليوسف﴾ أقدرناه على ما يريد ﴿في الأرض﴾ أرض مصر ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ هذا تفسير التَّمكين في الأرض ﴿نصيب برحمتنا مَنْ نشاء﴾ أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي ﴿وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثواب المُوحِّدين
﴿ولأجر الآخرة خير﴾ الآية أَيْ: ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين والمعنى: إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس فأصاب إخوة يوسف المجاعة فأتوه مُمتارين فذلك قوله:
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ له منكرون﴾ لأنهم رأوه على زيِّ الملوك وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف وقيل: لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ
﴿ولما جهزهم بجهازهم﴾ يعني: حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً ﴿قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم﴾ يعني: بنيامين وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه وقالوا: خلَّفنا أحدنا عند أبينا فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي مِنْ أَبِيكُمْ ﴿أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ أُتمُّه من غير بخسٍ ﴿وأنا خير المنزلين﴾ وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله:
﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ﴾
﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾ نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا ﴿وإنا لفاعلون﴾ ما وعدناك من المراودة
﴿وقال﴾ يوسف ﴿لفتيانه﴾ لغلمانه: ﴿اجعلوا بضاعتهم﴾ التي أتوا بها لثمن الميرة وكانت دراهم ﴿في رحالهم﴾ أو عيتهم ﴿لعلَّهم يعرفونها﴾ عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها ﴿إذا انقلبوا إلى أهلهم﴾ وفتحوا أوعيتهم ﴿لعلهم يرجعون﴾ عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها
﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا منع منّا الكيل﴾ حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا يعنون قوله: ﴿فلا كيل لكم عندي ولا تقربون﴾ ﴿فأرسل معنا أخانا نكتل﴾ نأخذ كيلنا
﴿قال هل آمنكم عليه﴾ الآية يقول: لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف يريد: إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن فإنَّهم خانوه فهو - وإن أَمِنَهم في هذا - خاف خيانتهم أيضاً ثمَّ قال: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾
﴿ولما فتحوا متاعهم﴾ ما حملوه من مصر ﴿وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا ما نبغي﴾ منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر ﴿هذه بضاعتنا ردت إلينا﴾ فنتصرَّف بها ﴿ونميرُ أهلنا﴾ نجلب إليهم الطَّعام ﴿ونزداد كيل بعير﴾ نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير ﴿ذلك كيلٌ يسير﴾ متيسر على من يكبل لنا لسخائه
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا من الله﴾ حتى تحلفوا بالله ﴿لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم﴾ إلا أن تموتوا كلُّكم ﴿فلما آتَوْهُ موثقهم﴾ عهدهم ويمينهم ﴿قال﴾ يعقوب عليه السَّلام: ﴿الله على ما نقول وكيل﴾ شهيد فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال:
﴿يا بني لا تدخلوا﴾ مصر ﴿مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ متفرقة﴾ خاف عليهم العين فأمرهم بالتَّفرقة ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ يعني: إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر
﴿ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم﴾ وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شيء﴾ ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه ﴿إلاَّ حاجةً﴾ لكن حاجةً يعني: إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم ﴿وإنه لذو علم لما علمناه﴾ لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه ﴿قال إني أنا أخوك﴾ اعترف له بالنِّسب وقال: لا تخبرهم بما ألقيت إليك ﴿فلا تبتئس﴾ فلا تحزن ولا تغتم ﴿بما كانوا يعملون﴾ من الحسد لنا وصرف وجه أبينا عنا
﴿فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية﴾ وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر ﴿في رحل أخيه﴾ بنيامين ﴿ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ﴾ نادى منادٍ ﴿أيتها العير﴾ الرُّفقة ﴿إنكم لسارقون﴾
﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ ؟
﴿قالوا نفقد صواع الملك﴾ يعني: السِّقاية ﴿ولمن جاء به حمل بعير﴾ أَيْ: من الطَّعام ﴿وأنا به زعيم﴾ كفيل
﴿قالوا تالله لقد علمتم﴾ حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً ولا يرزأون شيئاً لأحد
﴿قالوا فما جزاؤه﴾ أَيْ: ما جزاء السَّارق ﴿إن كنتم كاذبين﴾ في قولكم: ما كنا سارقين
﴿قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله﴾ وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته فلذلك قَالُوا: جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أَيْ: جزاء السَّرق مَنْ وجد في رحله المسروق ﴿فهو جزاؤه﴾ أَيْ: فالسَّرق جزاء السَّارق ﴿كذلك نجزي الظالمين﴾ أَيْ: إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم
﴿فبدأ﴾ يوسف ﴿بأوعيتهم﴾ وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ ﴿قبل وعاء أخيه﴾ نفياً للتُّهمة ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا﴾ يعني: السِّقاية ﴿مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كذلك كدنا﴾ ألهمنا ﴿ليوسف﴾ أي: ألهمناه مثل ذلك الكيد حتى ضممنا أخاه إليه ﴿ما كان ليأخذ أخاه﴾ ويستوجب ضمَّه إليه ﴿في دين الملك﴾ في حكمه وسيرته وعادته ﴿إلاَّ﴾ بمشيئة الله تعالى وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً حتى وجد السَّبيل إلى ذلك وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق ﴿نرفع درجات مَنْ نشاء﴾ بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء ﴿وفوق كلِّ ذي علم عليم﴾ يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين
﴿قالوا﴾ ليوسف ﴿إن يسرق﴾ الصُّواع ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ يعنون: يوسف عليه السَّلام وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم فيتصدَّق به في المجاعة حتى فطن به إخوته ﴿فأسرَّها يوسف في نفسه﴾ أَيْ: أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا ﴿ولم يُبدها لهم﴾ وهو أنَّه قال في نفسه: ﴿أنتم شرٌّ مكاناً﴾ عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ﴿والله أعلم بما تصفون﴾ أَيْ: قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ
﴿قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً﴾ في السِّنِّ ﴿فخذ أحدنا مكانه﴾ واحداً منَّا تستعبده بدله ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون﴾
﴿فلما استيأسوا﴾ يئسوا ﴿منه خلصوا نجياً﴾ انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم ﴿قال كبيرهم﴾ وهو روبيل وكان أكبرهم سنَّاً: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ موثقاً من الله﴾ في خفظ الأخ وردِّه إليه ﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يوسف﴾ ما زائدة أَيْ: قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه ﴿فلن أبرح الأرض﴾ لن أخرج من أرض مصر ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لي أبي﴾ يبعث إليَّ أنَْ آتيه ﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ يقضي في أمري شيئاً ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ أعدلهم وقال لإخوته:
﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابنك سرق﴾ يعنون في ظاهر الأمر ﴿وما شهدنا إلاَّ بما علمنا﴾ لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين﴾ ما كنا نحفظه إذا غاب عنا
﴿واسأل القرية التي كنَّا فيها﴾ أَيْ: أهل مصر ﴿والعير التي أقبلنا فيها﴾ يريد: أهل الرُّفقة فلمَّا رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السَّلام قالوا له هذا فقال:
﴿بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً﴾ زيَّنته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة فعاد من ذلك شرٌّ وضررٌ
﴿وتولى عنهم﴾ أعرض عن بنيه وتجدَّد وَجْدُه بيوسف ﴿وقال يا أسفى على يوسف﴾ يا طول حزني عليه ﴿وابيضت عيناه﴾ انقلبت إلى حال البياض فلم يبصر بهما ﴿من الحزن﴾ من البكاء ﴿فهو كظيم﴾ مغمومٌ مكروبٌ لا يُظهر حزنه بجزعٍ أو شكوى
﴿قالوا تالله تفتأ﴾ لا تزال ﴿تذكر يوسف﴾ لا تَفْتُر من ذكره ﴿حتى تكون حرضاً﴾ فاسداً دنفاً ﴿أو تكون من الهالكين﴾ الميِّتين والمعنى: لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بغمِّه فلمَّا أغلظوا له في القول
﴿قال إنما أشكو بثِّي﴾ ما بي من البثِّ وهو الهمُّ الذي تفضي به إلى صاحبك ﴿وحزني إلى الله﴾ لا إليكم ﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ وهو أنَّه علم أنَّ يوسف حيٌّ أخبره بذلك مَلَكُ الموت وقال له: اطلبه من هاهنا وأشار له إلى ناحية مصر ولذلك قال:
﴿يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف﴾ تَبَحَّثوا عنه ﴿ولا تَيْأَسُوا من روح الله﴾ من الفرج الذي يأتي به ﴿إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا القوم الكافرون﴾ يريد: إنَّ المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد والكافر ليس كذلك فخرجوا إلى مصر
﴿فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر﴾ أصابنا ومَنْ يختصُّ بنا الجوع ﴿وجئنا ببضاعة مزجاة﴾ ندافع بها الأيام ونتفوت وليس ممَّا يتشبَّع به وكانت دراهم زيوفاً ﴿فأوف لنا الكيل﴾ سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد ﴿وتصدَّق علينا﴾ بما بين القيمتين ﴿إن الله يجزي﴾ يتولَّى جزاء ﴿المتصدقين﴾ فلمَّا قالوا هذا أدركته الرِّقَّة ودمعت عيناه وقال توبيخاً لهم وتعظيما لما فعلوا:
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ بإدخال الغمِّ عليه بإفراده من يوسف ﴿إذ أنتم جاهلون﴾ آثمون بيعقوب أبيكم وقطع رحم أخيكم منكم ولمَّا قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب فقالوا:
﴿أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف﴾ الذي فعلتم به ما فعلتم ﴿وهذا﴾ المظلوم من جهتكم ﴿قد منَّ الله علينا﴾ بالجمع بيننا بعد ما فرَّقتم ﴿إنه مَن يتق﴾ الله ﴿ويصبر﴾ على المصائب ﴿فإنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ أجر مَنْ كان هذا حاله
﴿قالوا تالله لقد آثرك الله علينا﴾ فضَّلك الله علينا بالعقل والعلم والفضل الحسن ﴿وإنْ كنا لخاطئين﴾ آثمين في أمرك
﴿قال لا تثريب عليكم اليوم﴾ لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ثمَّ جعلهم في حلِّ وسأل لهم المغفرة فقال: ﴿يغفر الله لكم﴾ الآية ثمَّ سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال:
﴿اذهبوا بقميصي هذا﴾ وكان قد نزل به جبريل عليه السَّلام على إبراهيم عليه السَّلام لمَّا أُلقي في النَّار وكان فيه ريح الجنَّة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلاَّ صحَّ فذلك قوله: ﴿فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً﴾ يرجعْ ويَعُدْ بصيراً
﴿ولما فصلت العير﴾ خرجت من مصر مُتوجِّهةً إلى كنعان ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ لمن حضره: ﴿إني لأجد ريح يوسف﴾ وذلك أنَّه هاجت الرِّيح فحملت ريح القميص واتَّصلت بيعقوب فوجد ريح الجنَّة فعلم أنَّه ليس في الدُّنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص ﴿ولا أن تفندون﴾ تُسفِّهوني وتُجهِّلوني
﴿قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم﴾ شقائك القديم ممَّا تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النزاع إليه على عهده منك وكان عندهم أنَّه قد مات وقوله:
﴿فارتدَّ بصيراً﴾ أَيْ: عاد ورجع بصيرا وقوله:
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كنا خاطئين﴾
﴿سوف أستغفر لكم ربي﴾ أخَّر ذلك إلى السَّحَر ليكون أقرب إلى الإجابة وكان قد بعث يوسف عليه السًّلام مع البشير إلى يعقوب عليه السَّلام عُدَّة المسير إليه فتهيَّأ يعقوب وخرج مع أهله إليه فذلك قوله:
﴿فلما دخلوا على يوسف آوى إليه﴾ أَيْ: ضمَّ إليه ﴿أبويه﴾ أباه وخالته وكانت أمُّه قد ماتت ﴿وقال ادخلوا مصر﴾ وذلك أنَّه كان قد استقبلهم فقال لهم قبل دخول مصر: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلاَّ بجوازٍ من ملوكهم
﴿ورفع أبويه على العرش﴾ أجلسهما على السَّرير ﴿وخرُّوا له سجداً﴾ سجدوا ليوسف سجدة التَّحيَّة وهو الانحناء ﴿وقد أحسن بي﴾ إليَّ ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البدو﴾ وهو البسيط من الأرض وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواشٍ وبريَّة ﴿من بعد أن نزغ الشيطان﴾ أفسد ﴿بيني وبين إخوتي﴾ بالحسد ﴿إنَّ ربي لطيف لما يشاء﴾ عالم بدقائق الأمور ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بخلقه ﴿الحكيم﴾ فيهم بما شاء ثمَّ دعا ربَّه وشكره فقال:
﴿رب قد آتيتني من الملك﴾ ملك مصر ﴿وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ يريد: تفسير الأحلام ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ خالقهما ابتداءً ﴿توفني مسلماً﴾ اقبضني على الإِسلام ﴿وألحقني بالصالحين﴾ من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السَّلام يريد: ارفعني إلى درجاتهم
﴿ذلك﴾ الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك وهو قوله: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لديهم﴾ لدى إخوة يوسف ﴿إذ أجمعوا أمرهم﴾ عزموا على أَمْرَهُمْ ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾
﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين﴾ كان رسول الله ﷺ يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لمَّا سألوه عن قصَّة يوسف فشرحها لهم فخالفوا ظنَّه فقال الله: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت﴾ على إيمانهم ﴿بمؤمنين﴾ لأنَّك لا تهدي مَنْ أحببت لكنَّ الله يهدي مَنْ يشاء
﴿وما تسألهم عليه﴾ على القرآن ﴿من أجرٍ﴾ مالٍ يعطونك ﴿إِنْ هُوَ﴾ ما هو ﴿إِلا ذكر للعالمين﴾ تذكرةٌ لهم بما هو صلاحهم يريد: إنَّا أزحنا العلَّة في التَّكذيب حيث بعثناك مُبلِّغاً بلا أجرٍ غير أنَّه لا يؤمن إلا من شاء الله سبحانه وإنْ حرص النبيُّ ﷺ على ذلك
﴿وكأين﴾ وكم ﴿من آية﴾ دلالةٍ تدلُّ على التَّوحيد ﴿في السماوات والأرض﴾ من الشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال وغيرها ﴿يمرُّون عليها﴾ يتجاوزونها غير مُتفكِّرين ولا معتبرين فقال المشركون: فإنَّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء فقال: ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله﴾ في إقراره بأنَّ الله خلقه وخلق السماوات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الوثن
﴿أَفَأَمِنُوا﴾ يعني: المشركين ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عذاب الله﴾ عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم
﴿قل﴾ لهم ﴿هذه﴾ الطَّريقة التي أنا عليها ﴿سبيلي﴾ سنتي ومنهاجي ﴿أدعو إلى الله﴾ وتمَّ الكلام ثمَّ قال: ﴿على بصيرة أنا﴾ أَيْ: على دينٍ ويقينٍ ﴿ومن اتبعني﴾ يعني: أصحابه وكانوا على أحسن طريقة ﴿وسبحان الله﴾ أَيْ: وقل: سبحان الله تنزيهاً لله تعالى عمَّا أشركوا ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين اتَّخذوا مع الله ندا
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إليهم من أهل القرى﴾ يريد: لم نبعث قبلك نبيَّاً إلاَّ رجالاً غير امرأةٍ وكانوا من أهل الأمصار ولم نبعث من باديةٍ وهذا ردٌّ لإِنكارهم نبوَّته يريد: إنَّ الرُّسل من قبلك كانوا على مثل حالك ومَنْ قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم فأهلكناهم فذلك قوله: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا﴾ إلى مصارع الأمم المُكذِّبة فيعتبروا بهم ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ يعني: الجنَّة ﴿خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشِّرك في الدُّنيا ﴿أفلا تعقلون﴾ هذا حتى تُؤمنوا؟ !
﴿حتى إذا استيأس الرسل﴾ يئسوا من قومهم أن يؤمنوا ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كذبوا﴾ أيقنوا أنَّ قومهم قد كذَّبوهم ﴿جاءهم نصرنا فنجِّي مَنْ نشاء﴾ وهم المؤمنون أتباع الأنبياء ﴿ولا يردُّ بأسنا﴾ عذابنا
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ يعني: إخوة يوسف ﴿عبرة﴾ فكرةٌ وتدبُّرٌ ﴿لأولي الألباب﴾ وذلك أنَّ مَنْ قدر على إعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادرٌ على أن يعز محمد عليه السَّلام وينصره ﴿ما كان﴾ القرآن ﴿حديثاً يفترى﴾ يتقولَّه بشر ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب ﴿وتفصيل كل شيء﴾ يحتاج إليه من أمور الدِّين ﴿وهدىً﴾ وبياناً ﴿ورحمةً لقوم يؤمنون﴾ يصدِّقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم