تفسير سورة النحل

زاد المسير
تفسير سورة سورة النحل من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة النحل

فصل في نزولها


روى مجاهد، وعطية، وابن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها مكية، وكذلك روي عن الحسن، وعكرمة، وعطاء : أنها مكية كلها وقال ابن عباس في رواية : إنه نزل منها بعد قتل حمزة :﴿ وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [ النحل : ١٢٦ ]، وقال في رواية : هي مكية إلا ثلاثة آيات نزلن بالمدينة، وهي قوله :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ إلى قوله :﴿ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٩٥، ٩٧ ]. وقال الشعبي : كلها مكية إلى قوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ. . . ﴾ إلى آخر الآيات [ النحل : ١٢٦ - ١٢٨ ]. وقال قتادة : هي مكية إلا خمس آيات :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً. . . ﴾ الآيتين [ النحل : ٩٥، ٩٦ ]، ومن قوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ. . . ﴾ إلى آخرها [ النحل : ١٢٦ ]. وقال ابن السائب : هي مكية إلا خمس آيات :﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ. . . ﴾ الآية [ النحل : ٤١ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ. . . ﴾ الآية [ النحل : ١١٠ ] وقوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ. . . ﴾ إلى آخرها [ النحل : ١٢٦ ]. وقال مقاتل : مكية إلا سبع آيات، قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ. . . ﴾ الآية [ النحل : ١١٠ ]، وقوله :﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ. . . ﴾ الآية [ النحل : ١٠٦ ]، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ. . . ﴾ الآية [ النحل : ٤١ ]، وقوله :﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً. . . ﴾ الآية [ النحل : ١١٢ ]، وقوله :﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ﴾ إلى آخرها [ النحل : ١٢٦ ]. قال جابر بن زيد : أنزل من أول النحل أربعون آية بمكة وبقيتها بالمدينة. وروى حماد عن علي بن زيد قال : كان يقال لسورة النحل : سورة النعم ؛ يريد لكثرة تعداد النعم فيها.

سورة النّحل
(فصل في نزولها:) روى مجاهد، وعطيّة، وابن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها مكّيّة، وكذلك روي عن الحسن، وعكرمة، وعطاء: أنها مكّيّة كلّها. وقال ابن عباس في رواية: إنه نزل منها بعد قتل حمزة: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «١». وقال في رواية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة، وهي قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله: يَعْمَلُونَ «٢». وقال الشّعبيّ: كلّها مكيّة إلّا قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ... إلى آخر الآيات. وقال قتادة: هي مكّية إلّا خمس آيات: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا... الآيتين، ومن قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ... إلى آخرها. وقال ابن السّائب: هي مكيّة إلّا خمس آيات: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا «٣» الآية، وقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا «٤» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. وقال مقاتل:
مكيّة إلّا سبع آيات، قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، وقوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ «٥» الآية، وقوله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ الآية، وقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً «٦» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. قال جابر بن زيد: أنزل من أول النّحل أربعون آية بمكّة وبقيّتها بالمدينة. وروى حمّاد عن عليّ بن زيد قال: كان يقال لسورة النّحل: سورة النّعم، يريد لكثرة تعداد النّعم فيها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة.
(١) سورة النحل: ١٢٦. [.....]
(٢) سورة النحل: ٩٥- ٩٧.
(٣) سورة النحل: ٤١.
(٤) سورة النحل: ١١٠.
(٥) سورة النحل: ١٠٦.
(٦) سورة النحل: ١١٢.
548
(٨٥٥) سبب نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «١»، فقال الكفار بعضهم لبعض:
إن هذا يزعم أنَّ القيامة قد اقتربت، فأمْسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر، فلما رأوا أنَّه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئاً، فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «٢» فأشفقوا، وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدَّت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فأنزل الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع الناسُ رؤوسهم، فنزل: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا، قاله ابن عباس.
وفي قوله: أَتى ثلاثة أقوال: أحدها: أتى بمعنى: يأتي، كما يقال: أتاك الخير فأبشر، أي:
سيأتيك، قاله ابن قتيبة، وشاهده: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «٣»، وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «٤» ونحو ذلك.
والثاني: أتى بمعنى: قَرُب، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى. والثالث:
أن «أتى» للماضي، والمعنى: أتى بعض عذاب الله، وهو: الجدب الذي نزل بهم، والجوع. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فينزل بكم مستقبلاً كما نزل ماضياً، قاله ابن الأنباري.
وفي المراد ب «أمر الله» خمسة أقوال: أحدها: أنها الساعة، وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه، وبه قال ابن قتيبة. والثاني: خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، يعني: أن خروجه من أمارات الساعة. وقال ابن الأنباري: أتى أمر الله من أشراط الساعة، فلا تستعجلوا قيام الساعة. والثالث: أنه الأحكام والفرائض، قاله الضحاك «٥». والرابع: عذاب الله، ذكره ابن الأنباري.
والخامس: وعيد المشركين، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي: لا تطلبوه قبل حينه، سُبْحانَهُ أي: تنزيه له وبراءة من السوء عما يشركون به من الأصنام.
قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يُنْزِل» بإسكان النون وتخفيف الزاي.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: يُنَزِّلُ بالتشديد، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: «تُنزَّل» بالتاء مضمومة، وفتح الزاي مشددة. «الملائكة» رفع. قال ابن عباس: يريد
واه بمرة. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٥٧ عن ابن عباس بدون إسناد. والظاهر أنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري ٢١٤٤٨ عن ابن جريج مرسلا بنحوه، ومراسيل ابن جريج واهية، فالخبر لا شيء، وهو شبه موضوع.
__________
(١) سورة القمر: ١.
(٢) سورة الأنبياء: ١.
(٣) سورة الأعراف: ٤٤.
(٤) سورة المائدة: ١١٦.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٦٠: وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب في قوله أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي فرائضه وحدوده وقد ردّه ابن جرير فقال: لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض والشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا.
- وقال الطبري رحمه الله ٧/ ٥٥٧: وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فدل بذلك على تقريعه للمشركين، ووعيده لهم.
549
بالملائكة جبريل عليه السلام وحده. وفي المراد بالروح ستة أقوال «١» :
أحدها: الوحي، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه النبوَّة، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: تنزل الملائكة بأمره، رواه العوفي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: أن أمر الله كلَّه روح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة النفوس بالإِرشاد.
والرابع: أنه الرحمة، قاله الحسن، وقتادة. والخامس: أنه أرواح الخلق: لا ينزل ملك إِلا ومعه روح، قاله مجاهد. والسادس: أنه القرآن، قاله ابن زيد. فعلى هذا سماه روحاً، لأن الدين يحيا به، كما أن الروح تُحيي البدن.
وقال بعضهم: الباء في قوله: بِالرُّوحِ بمعنى: مع، فالتقدير: مع الروح، مِنْ أَمْرِهِ أي:
بأمره، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: الأنبياء، أَنْ أَنْذِرُوا قال الزجاج: والمعنى: أَنذِروا أهل الكفر والمعاصي أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا أي: مُروهم بتوحيدي، وقال غيره: أًنذروا بأنه لا إِله إِلا أنا، أي:
مروهم بالتوحيد مع تخويفهم إِن لم يُقِرُّوا.
[سورة النحل (١٦) : آية ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ قال المفسرون: أخذ أبيُّ بن خلف عظماً رميماً، فجعل يفتّه ويقول: يا محمّد كيف يبعث الله هذا بعد ما رُمّ؟ فنزلت فيه هذه الآية. والخصيم: المخاصم، والمبين: الظاهر الخصومه. والمعنى: أنه مخلوق من نطفة، وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأولة على آخرة، وأن من قدر على إِيجاده أولاً، يقدر على إِعادتة ثانيا؟! وفية تنبية على إِنعام الله عليه حين نقله من حال ضعف النطفة إِلى القوّة التي أمكنه معها الخصام.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥ الى ٧]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
قوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ الأنعام: الإِبل، البقر، والغنم.
قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ما استدفئ من أوبارها تتخذ ثياباً، وأخبية، وغير ذلك. روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالدفء: اللباس، وإِلى هذا المعنى ذهب الأكثرون. والثاني: أنه نسلها. روى عكرمة عن ابن عباس: فِيها دِفْءٌ قال: الدفء: نسل كل دابة، وذكر ابن السائب قال: يقال: الدفءُ أولادها، ومن لا يحمل من الصغار، وحكى ابن فارس اللغويّ عن الأمويّ، قال: الدفء عند العرب: نتاج الإِبل وألبانها.
قوله تعالى: وَمَنافِعُ أي: سوى الدفء من الجلود، والألبان، والنسل، والركوب، والعمل عليها، إِلى غير ذلك، وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني: من لحوم الأنعام.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٦١: يقول الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي الوحي كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ....
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي: زينة، حِينَ تُرِيحُونَ أي: حين تردُّونها إِلى مراحها، وهو المكان الذي تأوي إِليه، فترجع عِظَامَ الضُّرُوعِ والأَسْنِمَة، فيقال: هذا مال فلان، وَحِينَ تَسْرَحُونَ:
ترسلونها بالغداة إِلى مراعيها. فإن قيل: لم قدَّم الرَّواح وهو مؤخَّر؟ فالجواب: أنها في حال الرواح تكون أجمل لأنها قد رعت، وامتلأت ضروعها، وامتدّت أسنمتها.
قوله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الإِشارة بهذا إِلى ما يطيق الحمل منها، والأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر. وفي قوله تعالى: إِلى بَلَدٍ قولان: أحدهما: أنه عامّ في كل بلد يقصِدُه المسافر، وهو قول الأكثرين. والثاني: أن المراد به: مكة، قاله عكرمة، والأول أصح. والمعنى: أنها تحملكم إِلى كل بلد لو تكلفتم أنتم بلوغه لم تبلغوه إِلا بشِق الأنفس.
وفي معنى «شِق الأنفس» قولان: أحدهما: أنه المشقة، قاله الأكثرون. قال ابن قتيبة: يقال:
نحن بشِق من العيش، أي: بجهد.
(٨٥٦) وفي حديث أم زرع: «وجدني في أهل غُنَيْمَةٍ بِشِقّ».
والثاني: أن الشِّق: النِّصف، فكان الجهد ينقص من قوة الرجل ونفسه كأنه قد ذهب نصفه، ذكره الفراء.
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين مَنّ عليكم بالنعم التي فيها هذه المرافق.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)
قوله تعالى: وَالْخَيْلَ أي: وخلق الخيل وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً قال الزجاج:
المعنى: وخلقها زينة.
فصل: ويجوز أكل لحم الخيل، وإِنما لم يُذكَر في الآية، لأنه ليس هو المقصود، وإِنما معظم المقصود بها الركوب والزينة، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا تؤكل لحوم الخيل.
قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ذكر قوم من المفسرين: أن المراد به عجائب المخلوقات في السّماوات والأرض التي لم يُطَّلع عليها، مثل ما يروى: أن لله ملكاً من صفته كذا، وتحت العرش نهر من صفته كذا. وقال قوم: هو ما أعد الله لأهل الجنة فيها ولأهل النار. وقال أبو سليمان الدمشقي: في الناس مَن كره تفسير هذا الحرف. وقال الشعبي: هذا الحرف من أسرار القرآن.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩ الى ١٢]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
صحيح، هو قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري ٥١٨٩ ومسلم ٢٤٤٨، وأبو يعلى ٤٧٠١ والترمذي في «الشمائل» ٢٥١ وابن حبان ٧١٠٥ من حديث عائشة.
551
قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد: استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد: إِذا قصد بك ما تريد. قال الزجاج: المعنى: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إِليه بالحجج والبرهان. قوله تعالى: وَمِنْها جائِرٌ قال أبو عبيدة: السبيل لفظه لفظ الواحد، وهو في موضع الجميع، فكأنه قال: ومن السبل سبيل جائر. قال ابن الأنباري: لما ذكر السبيل، دلّ على السبل، فلذلك قال: وَمِنْها جائِرٌ، كما دل الحَدَثان على الحوادث في قول العبدي:
وَلاَ يَبْقَى عَلَى الحَدَثَانِ حَيّ فَهَلْ يَبْقَى عليهِنَّ السِّلامُ
أراد: فهل يبقى على الحوادث، والسِّلام: الصخور، قال: ويجوز أن يكون إِنما قال: (ومنها) لأن السبيل تؤنث وتذكَّر، فالمعنى: من السبيل جائر. وقال ابن قتيبة: المعنى: ومن الطُّرق جائر لا يهتدون فيه، والجائر: العادل عن القصد، قال ابن عباس: وَمِنْها جائِرٌ الأهواء المختلفة. وقال ابن المبارك: الأهواء والبدع.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وهو ما تشربونه، وَمِنْهُ شَجَرٌ ذكر ابن الأنباري في معناه قولين: أحدهما: ومنه سَقي شجر، وشرب شجر، فخلف المضافُ إِليه المضافَ، كقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «١». والثاني: أن المعنى: ومن جهة الماء شجر، ومن سقيه شجر، ومن ناحيته شجر، فحُذف الأول، وخلَفه الثاني، قال زهير:
لِمَنِ الدِّيارُ بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر «٢»
أي: من ممرِّ حجج. قال ابن قتيبة: والمراد بهذه الشجر: المرعى. وقال الزجاج: كل ما نبت على الأرض فهو شجر، قال الشاعر يصف الخيل:
يَعْلِفُهَا الَّلحْمَ إِذا عَزَّ الشَّجَرْ وَالخَيْلُ في إِطعَامها الَّلحْمَ ضَرَرْ
يعني: أنهم يسقون الخيل اللبن إِذا أجدبت الأرض. وتُسِيمُونَ بمعنى: تَرعَون، يقال:
سامت الإِبل فهي سائمة: إِذا رعت، وإِنما أخذ ذلك من السُّومة، وهي: العلامة، وتأويلها: أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات.
قوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وروى أبو بكر عن عاصم: «ننبت» بالنون. قال ابن عباس:
يريد الحبوب، وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله تعالى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ قال الأخفش: المعنى:
وجعلَ النجوم مسخراتٍ، فجاز إِضمار فعل غير الأول، لأن هذا المضمر في المعنى مثل المُظَهر، وقد تفعل العرب أَشدَّ من هذا، قال الراجز:
تَسْمَعُ في أجوافِهِنَّ صَرَدَا وفي اليَديْنِ جُسْأَةً وَبَدَدَا «٣»
المعنى: وترى في اليدين. والجُسأة: اليبس. والبَدَد: السَّعة. وقال غيره: قوله تعالى:
مُسَخَّراتٌ حال مؤكدة، لأن تسخيرها قد عرف بقوله تعالى: وَسَخَّرَ. وقرأ ابن عامر: «والشمس
(١) سورة البقرة: ٩٣.
(٢) في «القاموس»
: قنة الحجر: موضع قرب حومانة الدّرّاج.
(٣) في «اللسان» الصّرد: البرد، وقيل: شدّته. والجسأة: من جسأ فهو جاسئ: صلب وخشن. [.....]
552
والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ»، رفعاً كله، وروى حفص عن عاصم: بالنصب كالجمهور إِلاّ قوله تعالى: وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ فإنه رفعها.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٣ الى ١٦]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
قوله تعالى: وَما ذَرَأَ لَكُمْ أي: وسخر ما ذرأ لكم. وذرأ بمعنى: خلق. وسَخَّرَ الْبَحْرَ أي: ذلَّله للركوب والغوص فيه لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يعني: السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني: الدُّر، واللؤلؤ، والمرجان، وفي هذا دلالة على أن حالفاً لو حلف: لا يلبس حُلِيّاً، فلبس لؤلؤاً، أنه يحنث، وقال أبو حنيفة: لا يحنث. قوله تعالى: وَتَرَى الْفُلْكَ يعني:
السفن. وفي معنى مَواخِرَ قولان: أحدهما: جواري، قاله ابن عباس. قال اللغويون: يقال:
مخرت السفينة مَخْراً: إِذا شقت الماء في جريانها. والثاني: المواخر، يعني: المملوءة، قاله الحسن.
وفي قوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ قولان: أحدهما: بالركوب فيه للتجارة ابتغاء الربح من فضل الله؟! والثاني: بما تستخرجون من حليته، وتصيدون من حيتانه. قال ابن الأنباري: وفي دخول الواو في قوله تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وجهان: أحدهما: أنها معطوفة على لامٍ محذوفة تقديره: وترى الفلك مواخر فيه لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا. والثاني: أنها دخلت لفعل مضمر، تقديرهُ:
وفعل ذلك لكي تبتغوا.
قوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي: نصب فيها جبالاً ثوابت أَنْ تَمِيدَ أي: لئلاَّ تميد، وقال الزجاج: كراهة أن تميد، يقال: ماد الرجل يميد مَيْداً: إِذا أُدير به، وقال ابن قتيبة: الميد: الحركة والمَيْل، يقال: فلان يميد في مشيته، أي: يتكفَّأ. قوله تعالى: وَأَنْهاراً قال الزجاج: المعنى: وجعل فيها سُبُلاً، لأن معنى «ألقى» :«جعل»، فأمّا السّبل، فهي الطّرق، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا إِلى مقاصدكم. قوله تعالى: وَعَلاماتٍ فيها ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنها معالم الطّرق بالنهار، وبالنّجم هم يهتدون بالليل، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها النّجوم أيضا، منها ما يكون
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٥٧٢: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض، فكل علامة استدل بها الناس على طرقهم وفجاج سبلهم، فداخل في قوله وَعَلاماتٍ والطرق المسبولة: الموطوءة، علامة للناحية المقصودة، والجبال علامات يهتدى بهن إلى قصد السبيل، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، وإذ كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان. لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم.
علامة لا يُهتدى به، ومنها ما يُهتدى به، قاله مجاهد، وقتادة، والنخعي. والثالث: الجبال، قاله ابن السائب، ومقاتل. وفي المراد بالنجم أربعة أقوال: أحدها: أنه الثريّا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي، قاله السدي. والثاني: أنه الجَدْي، والفرقدان، قاله ابن السائب. والثالث: أنه الجدي وحده، لأنه أثبتُ النجومِ كلِّها في مركزه، ذكره الماوردي. والرابع: أنه اسم جنس، والمراد جميع النجوم، قاله الزجاج. وقرأ الحسن، والضحاك، وأبو المتوكل، ويحيى بن وثاب: «وبالنُّجْم» بضم النون وإِسكان الجيم، وقرأ الجحدري: «وبالنُّجُم» بضم النون والجيم، وقرأ مجاهد: «وبالنجوم» بواوٍ على الجمع.
وفي المراد بهذا الاهتداء قولان: أحدهما: الاهتداء إِلى القِبلة. والثاني: إِلى الطريق في السّفر.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٧ الى ١٩]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني: الأوثان، وإِنما عبَّر عنها ب «مَن» لأنهم نحلوها العقل والتمييز، أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني: المشركين، يقول: أفلا تتعظون كما اتعظ المؤمنون؟ قال الفراء: وإِنما جاز أن يقول: كَمَنْ لا يَخْلُقُ، لأنه ذُكر مع الخالق، كقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ «١»، والعرب تقول: اشتبه عليَّ الراكب وجملُه، فما أدري مَن ذا مِن ذا، لأنهم لما جمعوا بين الإِنسان وغيره صلحت «مَن» فيهما جميعا.
قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها قد فسّرناه في سورة إِبراهيم «٢».
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ أي: لِما كان منكم من تقصيركم في شكر نِعَمه رَحِيمٌ بكم إِذ لم يقطعها عنكم بتقصيركم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)، روى عبد الوارث، إِلا القزاز «يسرون» و «يعلنون» بالياء.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»، قرأ عاصم: يدعون، بالياء.
قوله تعالى: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ يعني: الأصنام. قال الفراء: ومعنى الأموات هاهنا: أنها لا روح فيها. قال الأخفش: وقوله: غَيْرُ أَحْياءٍ توكيد.
قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، «أيَّانَ» بمعنى: «متى». وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنها الأصنام، عبّر عنها كما يُعبّر عن الآدميين. قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها، فيتبرَّؤون من عبادتهم، ثم يُؤمر بالشياطين والذين كانوا يعبدونها إلى النار. الثاني: أنهم الكفار، لا يعلمون متى بعثهم، قاله مقاتل.
(١) سورة النور: ٤٥.
(٢) سورة إبراهيم: ٣٤.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٧]

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
قوله تعالى: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قد ذكرناه في سورة (البقرة) «١».
قوله تعالى: فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي: بالبعث والجزاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي: جاحدة لا تعرف التوحيد وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي: ممتنعون من قبول الحقّ.
قوله تعالى: لا جَرَمَ قد فسرناه في (هود) «٢». ومعنى الآية: أنَّه يجازيهم بسرِّهم وَعَلنهم، لأنه يعلمه. والمستكبرون: المتكبرون عن التوحيد والإِيمان. وقال مقاتل: (ما يُسرون) حين بَعثوا في كل طريق مَنْ يصدُّ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وما يعلنون) حين أظهروا العداوة لرسول الله. قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: المستكبرين ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمّد صلى الله عليه وسلم؟ قال الزّجّاج: «ماذا» بمعنى «ما الذي». وأَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مرفوعة على الجواب، كأنهم قالوا: الذي أُنزل: أساطيرُ الأولين، أي: الذي تذكرون أنتم أنه منزَّل أساطير الأولين. وقد شرحنا معنى الأساطير في سورة الأنعام «٣». قال مقاتل: الذين بعثهم الوليد بن المغيرة في طرق مكة يصدُّون الناس عن الإِيمان، ويقول بعضهم: إِن محمداً ساحر، ويقول بعضهم: شاعر، وقد شرحنا هذا المعنى في الحجر: في ذكر المقتسمين «٤».
قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ هذه لام العاقبة، وقد شرحناها في غير موضع، والأوزار:
الآثام، وإِنما قال: كاملة، لأنه لم يُكَفَّرْ منها شيء بما يُصيبهم من نكبة، أو بليَّة، كما يُكَفَّرُ عن المؤمن، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: أنهم أضلُّوهم بغير دليل، وإِنما حملوا من أوزار الأتباع، لأنهم كانوا رؤساء يقتدى بهم في الضلالة، وقد ذكر ابن الأنباري في «مِنْ» وجهين: أحدهما:
أنها للتبعيض، فهم يحملون ما شَرِكوهم فيه، فَأَمَّا مَا ركبه أولئك باختيارهم من غير تزيين هؤلاء، فلا يحملونه، فيصح معنى التبعيض. والثاني: أن «مِنْ» مُؤكِّدة، والمعنى: وأوزار الذين يضلونهم. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي: بئس ما حملوا على ظهورهم.
قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال المفسرون: يعني به: النمرود بن كنعان، وذلك أنه بنى صرحاً طويلاً، واختلفوا في طوله، فقال ابن عباس: خمسة آلاف ذراع، وقال مقاتل: كان طوله فرسخين، قالوا: ورام أن يصعد إِلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه. ومعنى «المكر» ها هنا: التّدبير
(١) سورة البقرة: ١٦٣.
(٢) سورة هود: ٢٢.
(٣) سورة الأنعام: ٢٥.
(٤) سورة الحجر: ٩٠.
الفاسد. وفي الهاء والميم من «قبلهم» قولان: أحدهما: أنها للمقتسمين على عقاب مكة، قاله ابن السائب. والثاني: لكفار مكة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي: من الأساس. قال المفسرون: أرسل الله ريحاً فألقت رأس الصرح في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي. قال السدي: لما سقط الصرح، تَبَلْبَلَتْ أَلْسُن الناس من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً، فلذلك سميت «بابل» «١»، وإِنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية، وهذا قول مردود، لأن التَّبَلْبُلَ يُوجب الاختلاط والتكلمَ بشيء غير مستقيم، فأما أن يوجب إِحداث لغة مضبوطة الحواشي، فباطل، وإِنما اللغات تعليم من الله تعالى. فإن قيل: إِذا كان الماكر واحداً، فكيف قال: «الذين» ولم يقل: «الذي» ؟، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه كان الماكر ملكاً له أتباع، فأدخلوا معه في الوصف. والثاني: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم:
خرجت إِلى البصرة على البغال، وإِنما خرج على بغل واحد. والثالث: أن «الذين» غير موقع على واحد معين، لكنه يراد به: قد مكر الجبارون الذين من قبلهم، فكان عاقبة مكرهم رجوع البلاء عليهم، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري. قال: وذكر بعض العلماء: أنه إِنما قال: «من فوقهم»، لينبه على أنهم كانوا تحته، إِذ لو لم يقل ذلك، لاحتمل أنهم لم يكونوا تحته، لأن العرب تقول: سقط علينا البيت، وخَرَّ علينا الحانوت، وتداعت علينا الدار، وليسوا تحت ذلك.
قوله تعالى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي: من حيث ظنوا أنهم آمنون فيه. قال السدي: أُخذوا من مأمنهم، وروى عطية عن ابن عباس قال: خَرَّ عليهم عذاب من السماء، وعامة المفسرين على ما حكيناه من أنه بنيان سقط. وقال ابن قتيبة: هذا مَثَل، والمعنى: أهلكهم الله، كما هلك من هُدِم مسكنه من أسفله، فخر عليه.
قوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي: يذلُّهم بالعذاب. وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، «شركائيَ الذين» بهمزة وفتح الياء، وقال البزِّيُّ عن ابن كثير: «شركايَ» مثل: هدايَ، والمعنى: أين شركائي على زعمكم؟ هلاّ دفعوا عنكم!. الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي: تخالفون المسلمين فتعبدونهم وهم يعبدون الله، وقرأ نافع: «تشاقُّونِ» بكسر النون، أراد: تشاقُّونني، فحذف النون الثانية، وأبقى الكسرة تدل عليها، والمعنى: كنتم تنازعونني فيهم، وتخالفون أمري لأجلهم.
قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم الملائكة، قاله ابن عباس.
والثاني: الحفظة من الملائكة، قاله مقاتل. والثالث: أَنهم المؤمنون.
فأمَّا «الخِزي» فقد شرحناه في مواضع «٢»، و «السّوء» ها هنا: العذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
(١) في «اللسان» بابل: موضع بالعراق، وقيل: موضع ينسب إليه السحر والخمر.
(٢) انظر تفسير آل عمران: ١٩٢.
قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قال عكرمة: هؤلاء قوم كانوا بمكة أقرُّوا بالإِسلام ولم يُهاجروا، فأخرجهم المشركون كرهاً إِلى بدر، فقتل بعضهم، وقد شرحنا هذا في سورة (النساء) «١». قوله تعالى: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ قال ابن قتيبة: انقادوا واستسلموا، والسَّلَم: الاستسلام. قال المفسّرون: وهذا عند الموت يتبرّؤون من الشّرك، وهو قولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وهو الشرك، فتردُّ عليهم الملائكة فتقول: «بلى». وقيل: هذا ردُّ خزنة جهنم عليهم بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الشرك والتكذيب. ثم يقال لهم: ادخلوا أبواب جهنم، وقد سبق تفسير ألفاظ الآية «٢».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
قوله تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ.
(٨٥٧) روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلاً إِلى عِقاب «٣» مكة أيام الحج على طريق الناس، ففرَّقوهم على كل عَقَبَةٍ أربعة رجال، ليصدّوا الناس عن رسول الله ﷺ وقالوا لهم: مَنْ أتاكم من الناس يسألُكم عن محمد فلْيقُلْ بعضُكم شاعِرٌ، وبَعْضُكم كاهِنٌ، وبَعْضُكم مجنون، وألاَّ ترَوْه ولا يراكم خَيْرٌ لكم، فإذا انتهوا إلينا صدّقناكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إِلى كل أربعة منهم أربعةً من المسلمين، فيهم عبد الله بن مسعود، فأُمِرُوا أن يكذِّبوهم، فكان الناس إِذا مرُّوا على المشركين، فقالوا ما قالوا، ردّ عليهم المسلمون، وقالوا: كذبوا، بل يدعو إِلى الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إِلى الخير، فيقولون: وما هذا الخير الذي يدعو إِليه؟ فيقولون:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ.
قوله تعالى: قالُوا خَيْراً أي: أنزل خيراً، ثم فسر ذلك الخير فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا قالوا: لا إِله إِلا الله، وأحسنوا العمل حَسَنَةٌ أي: كرامة من الله تعالى في الآخرة، وهي الجنة، وقيل: «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة» في الدنيا وهي ما رزقهم من خيرها وطاعته فيها، وَلَدارُ الْآخِرَةِ يعني: الجنة خَيْرٌ من الدنيا.
وفي قوله تعالى: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ قولان: أحدهما: أنها الجنة، قاله الجمهور. قال ابن الأنباري: في الكلام محذوف، تقديره: ولنعم دار المتقين الآخرةُ، غير أنه لمّا ذكرت أولا، عرف
لا أصل له، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، ليس له أصل، وتفردهما بهذا الخبر لا شيء، وهو مما لا أصل له.
__________
(١) سورة النساء: ٩٧.
(٢) انظر النساء: ٩٧، الحجر: ٤٤.
(٣) في «اللسان» العقاب: جمع عقبة، والعقبة: طريق في الجبل وعر.
معناها آخراً، ويجوز أن يكون المعنى: ولنعم دار المتقين جناتُ عَدْنٍ. والثاني: أنها الدنيا. قال الحسن: ولنعم دار المتقين الدنيا، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة.
قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ قد شرحناه في (براءة) «١».
قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وقرأ حمزة «يتوفاهم» بياء مع الإِمالة. وفي معنى طَيِّبِينَ خمسة أقوال: أحدها: مؤمنين. والثاني: طاهرين من الشرك. والثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم.
والرابع: طيبةٌ وفاتُهم سَهْلٌ خروجُ أرواحهم. والخامسة: طيبة أنفسهم بالموت، ثقة بالثواب. قوله تعالى: يَقُولُونَ يعني الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ، وفي أي وقت يكون هذا السلام؟ فيه قولان:
أحدهما: عند الموت. قال البراء بن عازب: يسلِّم عليه ملك الموت إِذا دخل عليه. وقال القرظي:
ويقول له: الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام، ويبشره بالجنة. والثاني: عند دخول الجنة. قال مقاتل:
هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة. يقولون: سلام عليكم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
وقرأ حمزة، والكسائي «يأتيهم» بالياء، وهذا تهديد للمشركين، وقد شرحناه في سورة البقرة «٢». وآخر سورة الأنعام «٣». وفي قوله تعالى: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
قولان: أحدهما: أمر الله فيهم، قاله ابن عباس. والثاني: العذاب في الدنيا، قاله مقاتل.
قوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يريد: كفار الأمم الماضية، كذّبوا كما كذّب هؤلاء.
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بإهلاكهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالشرك فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي: جزاؤها، قال ابن عباس: جزاء ما عملوا من الشرك، وَحاقَ بِهِمْ قد بيّناه في سورة الأنعام «٤»، والمعنى: أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: كفار مكة لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
(١) سورة التوبة: ٧٢.
(٢) سورة البقرة: ٢١٠. [.....]
(٣) عند الآية: ١٥٨.
(٤) عند الآية: ١٠.
يعني: الأصنام، أي: لو شاء ما أشركنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء من البَحِيرَة، والسائبة، والوصيلة، والحَامِ، والحرث، وذلك أنه لمّا نزل: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «١» قالوا هذا، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل الاعتقاد، وقيل: معنى كلامهم: لو لم يأمرنا بهذا ويُرِدْهُ منّا، لم نأته.
قوله تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أي: من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني: ليس عليهم إِلاّ التبليغ، فأما الهداية، فهي إِلى الله تعالى، وبيَّن ذلك بقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي: كما بعثناك في هؤلاء أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: وحِّدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو الشيطان فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أي: أرشده وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي: وجبت في سابق علم الله، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه إِنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإِضلال والهداية، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي: معتبرين بآثار الأمم المكذبة، ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي، فقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي: إِن تطلب هداهم بجهدك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، «لا يُهدَى» برفع الياء وفتح الدال، والمعنى: من أضله، فلا هادي له، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يَهْدِي» بفتح الياء وكسر الدال، ولم يختلفوا في «يُضِل» أنها بضم الياء وكسر الضاد، وهذه القراءة تحتمل معنيين، ذكرهما ابن الأنباري: أحداهما: لا يهدي من طَبَعَهُ ضَالاًّ، وخَلَقَهُ شقيّاً. والثاني: لا يهدي، أي: لا يهتدي من أضله، أي: مَنْ أضله الله لا يهتدي، فيكون معنى يهدي: يهتدي، تقول العرب: قد هدى فلان الطّريق، يريدون: اهتدى.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٢]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.
(٨٥٨) سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دَين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلَّم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإِنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ مفسر في المائدة «٢». وقوله: بَلى رَدٌّ عليهم، قال الفراء: والمعنى:
بَلى ليبعثنَّهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا.
قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال الزجاج: يجوز أن يكون متعلّقا بالبعث، فيكون
ضعيف. أخرجه الطبري ٢١٥٨٧ عن أبي العالية مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
__________
(١) الدهر: ٣٠.
(٢) عند الآية: ٥٣.
559
المعنى: بلى يَبعثهم فيبين لهم، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ليُبيِّنَ لهم. وللمفسرين في قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمُ قولان: أحدهما: أنهم جميع الناس، قاله قتادة. والثاني:
أنهم المشركون، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه.
قوله تعالى: أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ أي: فيما أقسموا عليه من نفي البعث. ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة «فيكونُ» رفعاً، وكذلك في كل القرآن. وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكونَ» نصباً. قال مكي بن إِبراهيم: من رفع، قطعه عمَّا قبله، والمعنى: فهو يكون، ومن نصب، عطفه على «يقول»، وهذا مثل قوله: وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وقد فسرناه في البقرة «١». فإن قيل: كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئاً؟. فالجواب: أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد عُوِينَ وشَوهِدَ.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(٨٥٩) أحدها: أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالٍ، وعمار، وصهيب، وخبَّاب بن الأرتِّ، وعايش وجبر مَولَيان لقريش، أخذهم أهل مكة فجعلوا يُعذِّبونهم، ليردُّوهم عن الإِسلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند.
والثالث: أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة. ومعنى (هاجروا في الله)، أي: في طلب رضاه وثوابه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بما نال المشركون منهم، لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفيها خمسة أقوال «٢» : أحدها: لنزلنّهم المدينة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والشعبي، وقتادة، فيكون المعنى: لَنُبَوِّئنَّهم داراً حسنة وبلدة حسنة. والثاني: لنرزقنَّهم في الدنيا الرزق الحسن، قاله مجاهد. والثالث: النصر على العدوِّ، قاله الضحاك. والرابع: أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن، وصار لأولادهم من الشرف، ذكره الماوردي، وقد روي معناه عن مجاهد، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً قال: لسان صادق. والخامس: أن المعنى: لنحسِنَنَّ إِليهم في الدنيا، قال بعض أهل المعاني: فتكون على هذه الأقوال «لنبوّئنهم»، على سبيل الاستعارة، إِلا على القول الأول.
قوله تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ قال ابن عباس: يعني: الجنة، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني:
أهل مكة. ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إِذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه،
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وتقدم الكلام على هذه الرواية مرارا، فهو لا شيء.
__________
(١) عند الآية: ١١٧.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٥٨٦: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال معنى لَنُبَوِّئَنَّهُمْ:
لنحلنهم ولنسكننهم، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به، ومنه قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ- يونس: ٩٣-.
560
قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثم يتلو هذه الآية. ثم إِن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال: الَّذِينَ صَبَرُوا أي: على دينهم، لم يتركوه لأِذَى نالهم، وهم في ذلك واثقون بربّهم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا.
(٨٦٠) قال المفسرون: لما أنكر مشركو قريش نبوّة محمّد ﷺ وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملَكاً! فنزلت هذه الآية.
والمعنى: أن الرسل كانوا مثلك آدميِّين، إِلا أنهم يُوحَى إِليهم. وقرأ حفص عن عاصم: «نوحي» بالنون وكسر الحاء. فَسْئَلُوا يا معشر المشركين أَهْلَ الذِّكْرِ وفيهم أربعة أقوال «١» : أحدها: أنهم أهل التوراة والإِنجيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أهل التوراة، قاله مجاهد. والثالث:
أهل القرآن، قاله ابن زيد. والرابع: العلماء بأخبار من سلف، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولاً من البشر. والثاني: لا تعلمون أن محمداً رسول الله. فعلى القول الأول، جائز أن يسأل مَن آمن برسول الله ومَن كفر، لأن أهل الكتاب والعلم بالسِّيَر متفقون على أن الأنبياء كلَّهم من البشر، وعلى الثاني إِنما يسأل مَنْ آمَنَ مِنْ أهل الكتاب.
وقد روي عن مجاهد فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ قال: عبد الله بن سلام، وعن قتادة، قال: سلمان الفارسي.
قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ في هذه «الباء» قولان: أحدهما: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالا أرسلناهم بالبيّنات. والزّبر: الكتاب. وقد شرحنا هذا في آل عمران «٢».
ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب نزول القرآن» ٥٦٢ من دون عزو لقائل، فهو لا أصل له من هذا الوجه. وأخرجه الطبري ٢١٦٠٢ من طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، بشر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ٢/ ٧٠٥: روى مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر: أهل الكتاب، وقاله مجاهد والأعمش، وقول عبد الرحمن بن زيد الذكر: القرآن، واستشهد بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ صحيح لكن ليس هو المراد هاهنا لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه، وكذا قول أبي جعفر الباقر: نحن أهل الذكر، ومراده: أن هذه الأمة أهل الذكر صحيح، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السابقة، وعلماء أهل بيت رسول الله ﷺ من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي: الحسن والحسين ومحمد ابن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم وعرف لكل ذي حق حقه، ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين.
(٢) عند الآية: ١٨٤.
قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وهو القرآن بإجماع المفسرين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ذلك فيعتبرون.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ قال المفسرون: أراد مشركي مكة. ومكرهم السيئات:
شركهم وتكذيبهم، وسمي ذلك مكراً، لأن المكر في اللغة: السعي بالفساد، وهذا استفهام إِنكار، ومعناه: ينبغي أن لا يأمَنوا العقوبة، وكان مجاهد يقول: عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان. قوله تعالى:
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: في أسفارهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: في منامهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: في ليلهم ونهارهم، قاله الضحاك وابن جريج ومقاتل. والرابع: أنه جميع ما يتقلَّبون فيه، قاله الزجاج. قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فيه قولان: أحدهما: على تنقُّص، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. قال ابن قتيبة:
التّخوّف: التّنقّص، ومثله التخوُّن. يقال: تخوفته الدهور وتخونته: إِذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي: التخوُّف: التنقُّص، بلغة أزد شنوءة. ثم في هذا التنقُّص ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه تنقّصٌ من أعمالهم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أخذُ واحد بعد واحد، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: تنقُّصُ أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم، قاله الزجاج. والثاني: أنه التخوف نفسه، ثم فيه قولان: أحدهما: يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز، قاله قتادة. والثاني:
أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى، قاله الضحاك. وقال الزجاج: يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها، فعلى هذا خوَّفهم قبل هلاكهم، فلم يتوبوا، فاستحقوا العذاب.
قوله تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ إِذ لم يعجِّل بالعقوبة، وأمهل للتوبة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: «أو لم يروا» بالياء وقرأ حمزة، والكسائي: «تروا» بالتاء، واختلف عن عاصم. قوله تعالى: إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أراد من شيء له ظل، من جبل، أو شجر، أو جسم قائم يَتَفَيَّؤُا قرأ الجماعة بالياء، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بالتاء ظِلالُهُ وهو جمع ظل، وإِنما جمع وهو مضاف إِلى واحد، لأنه واحدٌ يُراد به الكثرة، كقوله تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «١» قال ابن قتيبة: ومعنى يتفيَّأُ ظلاله: يدور ويرجع من جانب إِلى جانب، والفيء: الرجوع، ومنه قيل للظّلّ بالعشيّ: فيء، لأنه فاء عن المغرب إِلى المشرق، قال
(١) سورة الزخرف: ١٣.
562
المفسرون: إِذا طلعتْ الشمس وأنت متوجه إِلى القبلة، كان الظل قُدَّامك، فإذا ارتفعتْ كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإِذا دنتْ للغروب كان على يسارك، وإِنما وحّد اليمين، والمراد به: الجمع، إيجازاً في اللفظ، كقوله تعالى: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «١»، ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع، وقال الفراء: إِنما وحد اليمين، وجمع الشمائل، ولم يقل: الشمال، لأن كل ذلك جائز في اللغة، وأنشد:
الوَارِدُوْنَ وَتَيْم في ذَرَىَ سَبَأٍ قد عضّ أعناقَهُم جِلْدُ الجوامِيْسِ «٢»
ولم يقل: جلود، ومثله:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا فانَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيْصُ «٣»
وإِنما جاز التوحيد، لأن أكثر الكلام يواجَه به الواحد. وقال غيره: اليمين راجعة إِلى لفظٍ ما وهو واحد، والشمائل راجعة إِلى المعنى.
قوله تعالى: سُجَّداً لِلَّهِ قال ابن قتيبة: مستسلمة، منقادة، وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «٤». وفي قوله تعالى: وَهُمْ داخِرُونَ قولان: أحدهما: والكفار صاغرون. والثاني: وهذه الأشياء داخرة مجبولة على الطاعة، قال الأخفش: إِنما ذكر مَن ليس من الإِنس، لأنه لما وصفهم بالطاعة أشبهوا الإِنس في الفعل.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ الآية. الساجدون على ضربين: أحدهما: مَن يعقل، فسجوده عبادة. والثاني: مَن لا يعقل، فسجوده بيان أثر الصَّنعة فيه، والخضوع الذي يدل على أنه مخلوق، هذا قول جماعة من العلماء، واحتجوا في ذلك بقول الشاعر:
بِجَيْشٍ تضِلُّ البُلْق في حَجَراتِهِ تَرىَ الأُكْمَ فيه سُجَّداً لِلْحَوافِرِ «٥»
قال ابن قتيبة: حَجَرَاتُهُ، أي: جوانبه، يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأُكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت. فأما الشمس والقمر والنجوم، فألحقها جماعة بمن يعقل، فقال أبو العالية:
سجودها حقيقة، ما منها غارب إلّا خرّ ساجدا بين يدي الله عزّ وجلّ، ثم لا ينصرف حتى يُؤذَن له.
ويشهد لقول أبي العالية حديث أبي ذر قال:
(٨٦١) كنت مع رسول الله ﷺ في المسجد حين وجبت الشمس، فقال: «يا أبا ذرّ! تدري أين
صحيح. أخرجه البخاري ٣١٩٩ و ٤٨٠٢ و ٧٤٢٤، ومسلم ١٥٩، والترمذي ٢١٨٦ و ٣٢٢٧، والطيالسي ٦٤٠، وأحمد ٥/ ١٧٧، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ٣٩٢- ٣٩٣، والبغوي في «معالم التنزيل» ٤/ ١٢- ١٣. من طرق عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر مرفوعا، وسيأتي.
__________
(١) سورة القمر: ٤٥.
(٢) البيت لجرير كما في «ديوانه» ٣٢٥.
(٣) في «اللسان» الخمص والخمص والمخمصة: الجوع.
(٤) سورة الرعد: ١٥.
(٥) البيت لزيد الخيل كما في «الكامل» ٥٥١. وفي «اللسان» البلق: بلق الدابة وهو سواد وبياض، والبلق: مصدر الأبلق ارتفاع التحجيل إلى الفخذين. [.....]
563
ذهبت الشمس» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها عزّ وجلّ، فتستأذن في الرجوع، فيؤذَن لها، فكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جِئتِ، فترجع إِلى مطلعها فذلك مستقرها، ثم قرأ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها «١»، أخرجه البخاري ومسلم.
وأمّا النبات والشجر، فلا يخلو سجوده من أربعة أشياء. أحدها: أن يكون سجوداً لا نعلمه وهذا إِذا قلنا: إِن الله يُودِعه فهماً. والثاني: أنه تفيُّؤ ظلاله. والثالث: بيان الصنعة فيه. والرابع: الانقياد لما سُخِّر له.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ إِنما أخرج الملائكة من الدوابّ لخروجهم بالأجنحة عن صفة الدبيب.
وفي قوله: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قولان:
أحدهما: أنه من صفة الملائكة خاصة، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: أنه عام في جميع المذكورات، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وفي قوله: مِنْ فَوْقِهِمْ قولان، ذكرهما ابن الأنباري: أحدهما: أنه ثناءٌ على الله تعالى، وتعظيم لشأنه، وتلخيصه: يخافون ربهم عالياً رفيعاً عظيماً. والثاني: أنه حال، وتلخيصه: يخافون ربهم معظّمين له عالمين بعظيم سلطانه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.
(٨٦٢) سبب نزولها: أن رجلاً من المسلمين دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الزجاج: ذِكْر الاثنين توكيد، كما قال تعالى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ.
قوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً في المراد بالدِّين أربعة أقوال: أحدها: أنه الإِخلاص، قاله مجاهد. والثاني: العبادة، قاله سعيد بن جبير. والثالث: شهادة أن لا إِله إِلاّ الله، وإِقامة الحدود، والفرائض، قاله عكرمة. والرابع: الطاعة، قاله ابن قتيبة.
وفي معنى «واصباً» أربعة أقوال. أحدها: دائماً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد والثوري واللغويون. قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أَبْتَغِي الحمدَ القَليلَ بقاؤه يوما بذمّ الدّهر أجمع واصبا
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث.
- وقد ورد نحو هذا في آخر سورة الإسراء، وسيأتي.
__________
(١) سورة يس: ٣٨.
قال ابن قتيبة: معنى الكلام: أنه ليس من أحدٍ يُدَان له ويُطاع إِلاّ انقطع ذلك عنه بزوالٍ أو هَلَكةٍ، غيرَ الله عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له. والثاني: واجباً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث:
خالصاً، قاله الربيع بن أنس. والرابع: وله الدين موصباً، أي: متعباً، لأن الحق ثقيل، وهو كما تقول العرب: همٌّ ناصب، أي: مُنْصِبٌ، قال النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ
ذكره ابن الأنباري. قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى: له الدين، والطاعة، رضي العبد بما يُؤمَر به وسهل عليه، أو لم يسهل، فله الدين وإِن كان فيه الوصب. والوصب: شدّة التّعب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ قال الزجاج: المعنى: ما حل بكم من نعمة، من صحة في جسم، أو سَعَةٍ في رزق، أو متاعٍ من مال وولد فَمِنَ اللَّهِ وقرأ ابن أبي عبلة: «فَمَنُّ الله» بتشديد النون. قوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ قال ابن عباس: يريد الأسقام، والأمراض، والحاجة. قوله تعالى: فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ قال الزجاج: «تجأرون» : ترفعون أصواتكم إِليه بالاستغاثة، يقال: جأر يجأر جُؤاراً، والأصوات مبْنية على «فُعَالٍ» و «فَعِيل»، فأما «فُعَال» فنحو «الصُّرَاخ» و «الخُوَار»، وأما «الفَعِيل» فنحو «العويل» و «الزَّئير»، والفُعَال أكثر. قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ قال ابن عباس: يريد أهل النفاق. قال ابن السائب: يعني الكفار. قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ قال الزجاج: المعنى:
ليكفروا بأنّا أنعمنا عليهم، فجعلوا نِعَمَنا سبباً إِلى الكفر، وهو كقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ إلى قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ «١»، ويجوز أن يكون «ليكفروا»، أي: ليجحدوا نعمة الله في ذلك. قوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا تهدّد، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ يعني: الأوثان. وفي الذين لا يعلمون قولان: أحدهما: أنهم الجاعلون، وهم المشركون، والمعنى: لما لا يعلمون لها ضراً ولا نفعاً فمفعول العلم محذوف، وتقديره: ما قلنا، هذا قول مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الأصنام التي لا تعلم شيئاً، وليس لها حس ولا معرفة، وإِنما قال: يعلمون، لأنهم لمَّا نحلوها الفهم، أجراها مجرى مَنْ يعقل على زعمهم، قاله جماعة من أهل المعاني، قال المفسرون: وهؤلاء مشركو العرب جعلوا لأوثانهم جزءاً من أموالهم، كالبَحِيرَةِ والسائِبَةِ وغير ذلك مما شرحناه في الأنعام «٢».
(١) سورة يونس: ٨٨.
(٢) سورة الأنعام: ٣٩.
قوله تعالى: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ رجع عن الإِخبار عنهم إِلى الخطاب لهم، وهذا سؤال توبيخ.
قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ قال المفسرون: يعني: خزاعة وكنانة، زعموا أن الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أي: تنزه عما زعموا. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: البنين. قال أبو سليمان: المعنى:
ويتمنَّون لأنفسهم الذكور. قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أُخبر بأنه قد وُلد له بنت ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا قال الزجاج: أي: متغيِّراً تغيُّر مغتمٍّ، يقال لكل من لقي مكروهاً: قد اسود وجهه غَمّاً وحَزَناً. قوله تعالى: وَهُوَ كَظِيمٌ أي: يكظم شدة وَجْدِهِ، فلا يظهره، وقد شرحناه في سورة يوسف.
قوله تعالى: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ قال المفسرون: وهذا صنيع مشركي العرب، كان أحدُهم إِذا ضرب امرأتَه المخاضُ، توارى إِلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً سُرَّ به، وإِن كانت أنثى، لم يظهر أياماً يُدَبِّر كيف يصنع في أمرها، وهو قوله: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ فالهاء ترجع إِلى ما في قوله: ما بُشِّرَ بِهِ، والهُون في كلام العرب: الهوان. وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة، والجحدري: «على هوان»، والدس: إِخفاء الشيء في الشيء، وكانوا يدفنون البنت وهي حية أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ إِذْ جعلوا لله البنات اللاتي محلُّهن منهم هذا، ونسبوه إلى الولد، وجعلوا لأنفسهم البنين.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٠]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
قوله تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أي: صفة السَّوْء من احتياجهم إِلى الولد، وكراهتهم للإناث، خوف الفقر والعار وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي: الصفة العليا من تنزُّهه وبراءته عن الولد.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ أي: بشركهم ومعاصيهم، كلما وُجد شيء منهم أو خذوا به ما تَرَكَ عَلَيْها يعني: الأرض، وهذه كناية عن غير مذكور، غير أنه مفهوم، لأن الدوابّ إِنما هي على الأرض. وفي قوله: مِنْ دَابَّةٍ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عنى جميع ما يدبُّ على وجه الأرض، قاله ابن مسعود. قال قتادة: وقد فعل ذلك في زمن نوح عليه السلام، وقال السدي: المعنى:
لأقحط المطر فلم تبق دابة إِلا هلكت، وإِلى نحوه ذهب مقاتل، والثاني: أنه أراد من الناس خاصة، قاله ابن جريج. والثالث: من الإِنس والجن، قاله ابن السائب، وهو اختيار الزجاج.
قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو منتهى آجالهم، وباقي الآية قد تقدم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ المعنى: ويحكمون له بما يكرهونه لأنفسهم، وهو البنات، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي: تقول الكذب، وقرأ أبو العالية، والنخعي، وابن أبي عبلة:
«الكُذُب» بضم الكاف والذال. ثم فسر ذلِك الكذب بقوله: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها البنون، قاله مجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنها الجزاء الحسن من الله تعالى، قاله الزجاج. والثالث: أنها الجنة، وذلك أنه لما وعد الله المؤمنين الجنة، قال المشركون: إِن كان ما تقولونه حقاً، لندخلَنَّها قبلكم، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: لا جَرَمَ قد شرحناها فيما مضى «١». وقال الزجاج: «لا» ردٌ لقولهم، والمعنى:
ليس ذلك كما وصفوا «جرم» أنَّ لهم النار، المعنى: جرم فعلهم، أي: كسب فعلهم هذا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ وفيه أربعة أوجه، قرأ الأكثرون: «مُفْرَطون» بسكون الفاء وتخفيف الراء وفتحها، وفي معناها قولان: أحدهما: مُتْرَكون، قاله ابن عباس. وقال الفراء: منسيُّون في النار. والثاني: مُعْجَّلون، قاله ابن عباس أيضاً. وقال ابن قتيبة: مُعْجَّلون إِلى النار. قال الزجاج: معنى «الفرط» في اللغة:
المتقدم، فمعنى «مفرطون» : مقدَّمون إِلى النار، ومَنْ فسرها «مُتْرَكون» فهو كذلك أيضاً، أي: قد جُعلوا مقدَّمين إِلى العذاب أبداً، متروكين فيه. وقرأ نافع، ومحبوب عن أبي عمرو، وقتيبة عن الكسائي «مُفْرِطون» بسكون الفاء وكسر الراء وتخفيفها، قال الزجاج: ومعناها: أنهم أفرطوا في معصية الله. وقرأ أبو جعفر وابن أبي عبلة «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء وتشديد الراء وكسرها، قال الزجاج: ومعناها: أنهم فرَّطوا في الدنيا فلم يعملوا فيها للآخرة، وتصديق هذه القراءة: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «٢»، وروى الوليد بن مسلم عن ابن عامر «مُفَرَّطُون» بفتح الفاء والراء وتشديدها، قال الزجاج: وتفسيرها كتفسير القراءة الأولى، فالمفرَّط والمفرَط بمعنى واحد.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
قوله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ قال المفسرون: هذه تعزية للنبي ﷺ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الخبيثة حتى عصَوا وكذَّبوا، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ فيه قولان: أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن السائب، ومقاتل، كأنهما أرادا: فهو وليهم يوم تكون لهم النار. والثاني: أنه الدنيا، فالمعنى:
فهو مواليهم في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ يعني: الكفار الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: ما خالفوا فيه المؤمنين من التوحيد والبعث والجزاء، فالمعنى: أنزلناه بياناً لما وقع فيه الاختلاف.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني: المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي: بعد يُبْسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي: يعتبرون.
(١) انظر ما تقدم عند سورة هود: ٢٢.
(٢) سورة الزمر: ٥٦.
567
قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وحمزة، والكسائي:
«نُسقيكم» بضم النون، ومثله في (المؤمنين) «١». وقرأ نافع، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم: «نَسقيكم» بفتح النون فيهما. وقرأ أبو جعفر: «تَسْقِيكم» بتاء مفتوحة، وكذلك في (المؤمنين) وقد سبق بيان الأنعام، وذكرنا معنى «العبرة» في آل عمران «٢»، والفرق بين «سقى» و «أسقى» في (الحجر) «٣». فأما قوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ فقال الفراء: النَّعَم والأنعام شيء واحد، وهما جمعان، فرجع التذكير إِلى معنى «النَّعَم» إِذ كان يؤدي عن الأنعام، أنشدني بعضهم.
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ «٤» فرجع إِلى اللبن، لأن اللبن والألبان في معنى قال: وقال الكسائيّ: أراد: نسقيكم ممّا في بطون ما ذكرنا، وهو صواب، أنشدني بعضهم:
مِثْلَ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُه «٥» وقال المبرِّد: هذا فاشٍ في القرآن، كقوله للشّمس: هذا رَبِّي «٦» يعني: هذا الشيء الطالع وكذلك: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ثم قال: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «٧» ولم يقل: «جاءت» لأن المعنى: جاء الشيء الذي ذكرنا، وقال أبو عبيدة: الهاء في «بطونه» للبعض، والمعنى: نُسقيكم مما في بطون البعض الذي له لبن، لأنه ليس لكل الأنعام لبن، وقال ابن قتيبة: ذهب بقوله: «مما في بطونه» إِلى النَّعَم، والنَّعَم تذكَّر وتؤنَّث. والفَرْث: ما في الكرش، والمعنى: أن اللبن كان طعاماً، فخلص من ذلك الطعام دم، وبقي فرث في الكرش، وخلص من ذلك الدم لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ أي: سهلاً في الشرب لا يشجى به شاربه، ولا يَغصّ. وقال بعضهم: سائغاً، أي: لا تعافه النفس وإِن كان قد خرج من بين فرث ودم، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: إِذا استقر العَلَف في الكَرش طحنه فصار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لَبَنَاً، والكبد مسلَّطة على هذه الأصناف الثلاثة، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث في الكرش.
قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تقدير الكلام: ولكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سَكَرا. والعرب تضمر «ما» كقوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ «٨» أي: ما ثَمَّ. والكناية في «منه» عائدة على «ما» المضمرة. وقال الأخفش: إِنما لم يقل: منهما، لأنه أضمر الشيء، كأنه قال: ومنها شيء تتخذون منه سَكَراً. وفي المراد بالسَّكر ثلاثة أقوال «٩» : أحدها: أنه الخمر، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والحسن وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإبراهيم، وابن أبي ليلى، والزّجّاج، وابن قتيبة. وروى
(١) سورة المؤمنون: ٢١.
(٢) سورة آل عمران: ١٣.
(٣) سورة الحجر: ٢٢.
(٤) ذكره في «اللسان» مادة «كتد»، ونسبه إلى ثعلب. وصدره: بال سهيل في الفضيخ ففسد.
(٥) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «نعم»، ولم ينسبه لقائل.
(٦) سورة الأنعام: ٧٨.
(٧) سورة النمل: ٣٥- ٣٦.
(٨) سورة الإنسان: ٢٠.
(٩) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦١١- ٦١٢: السّكر هو كل ما كان حلالا شربه، كالنبيذ الحلال والخل والرطب، وهذا التأويل هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السكر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طعم من الطعام. والثالث: السّكون، والرابع: المصدر من قولهم: سكر فلان يسكر سكرا وسكرا وسكرا، فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يسكر من الشراب حراما بما قد دللنا عليه في كتابنا «لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام» وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السّكر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نزل بلسانه القرآن هو كل ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنزيل دليل على أنه منسوخ أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أنّ معنى السّكر في هذا الموضع: هو كل ما حل شربه مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج أن يكون معناه السّكر نفسه، إذ كان السكر ليس مما يتخذ من النخل والكرم ومن أن يكون بمعنى السكون. [.....]
568
عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال: السَّكَرُ: ما حرِّم من ثمرتها، وقال هؤلاء المفسرون: وهذه الآية نزلت إِذْ كانت الخمرة مباحة، ثم نسخ ذلك بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ «١»، وممن ذكر أنها منسوخة، سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، والنخعي. والثاني: أن السَّكَر: الخَلّ، بلغة الحبشة، رواه العَوفي عن ابن عباس. وقال الضحاك: هو الخل، بلغة اليمن. والثالث: أن «السَّكَر» الطُّعْم، يقال: هذا له سَكَر، أي:
طُعْم، وأنشدوا:
جَعَلْتَ عَيْبَ الأَكْرَمِيْن سَكَرا «٢»
قاله أبو عبيدة. فعلى هذين القولين، الآية محكمة. فأما الرزق الحسن، فهو ما أُحِلَّ منهما، كالتمر، والعنب، والزبيب، والخل، ونحو ذلك.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ في هذا الوحي قولان: أحدهما: أنه إِلهام، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه أمر، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى ابن مجاهد عن أبيه قال: أَرسل إِليها. والنحل: زنابير العسل، واحدتها نحلة، و «يَعرِشون» يجعلونه عريشاً، وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم «يَعْرُشُون» بضم الراء، وهما لغتان، يقال: «يعرِش» و «يعرش» مثل «يعكف» و «يعكف» ثم فيه قولان: أحدهما: ما يعرشون من الكروم، قاله ابن زيد.
والثاني: أنها سقوف البيوت، قاله الفراء، وقال ابن قتيبة: كل شيء عُرِش، من كرم، أو نبات، أو سقف، فهو عَرْش، ومعروش. وقيل: المراد ب «مما يعرشون» : مما يبنون لهم من الأماكن التي تلقي فيها العسل، ولولا التسخير، ما كانت تأوي إِليها.
قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ قال ابن قتيبة: أي: من الثّمرات، و «كلّ» ها هنا ليست على العموم، ومثله قوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «٣». قال الزّجّاج: فهي تأكل الحامض، والمرّ، وما لا يوصف
(١) سورة المائدة: ٩٠.
(٢) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «سكر»، ولم ينسبه لقائل، وعنده «أعراض الكرام» بدل «عيب الأكرمين».
أي جعلت ذمّهم طعما لك.
(٣) سورة الأحقاف: ٢٥.
طعمه، فيحيل الله عزّ وجلّ من ذلك عسلاً.
قوله تعالى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ السُّبُل: الطُّرُق، وهي التي يطلب فيها الرّعي. و «الذلل» جمع ذَلول. وفي الموصوف بها قولان: أحدهما: أنها السُّبُل، فالمعنى: اسلكي السُّبُل مُذَلَّلَةً لكِ، فلا يتوعَّر عليها مكان سلكته، وهذا قول مجاهد، واختيار الزجاج. والثاني: أنها النحل، فالمعنى، إنك مذلّلة بالتّسخير لبني آدم، وهذا قول قتادة، واختيار ابن قتيبة. قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني:
العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قال ابن عباس: منه أحمر، وأبيض، وأصفر. قال الزجاج: يخرج من بطونها، إِلاَّ أنها تلقيه من أفواهها، وإِنما قال: من بطونها، لأن استحالة الأطعمة لا تكون إِلاَّ في البطن، فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم.
قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ في هاء الكناية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى العسل، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، واختلفوا هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه عامّ في كل مرض. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء. وقال قتادة: فيه شفاء للناس من الأدواء.
(٨٦٣) وقد روى أبو سعيد الخدري قال: جاء رجل إِلى رسول الله ﷺ فقال: إِن أخي استطلق بطنُه، فقال: «اسقه عسلاً» فسقاه، ثم أتى فقال: قد سقيتُه فلم يزده إِلاَّ استطلاقاً، قال: «اسقه عسلاً»، فذكر الحديث... إِلى أن قال: فَشُفِيَ، إِما في الثالثة، وإِما في الرابعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» أخرجه البخاري، ومسلم.
ويعني بقوله: «صدق الله» : هذه الآية. والثاني: فيه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، قاله السدي. والصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب. قال ابن الأنباري: الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء، ويدخل في الأدوية، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى، فقد وافق الأكثرين، وهذا كقول العرب:
الماء حياة كل شيء، وقد نرى من يقتله الماء، وإِنما الكلام على الأغلب.
والثاني: أن الهاء ترجع إِلى الاعتبار. والشفاء: بمعنى الهدى، قاله الضحاك.
والثالث: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله مجاهد.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ أي: أوجدكم ولم تكونوا شيئاً ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو أردؤه، وأَدْوَنُه، وهي حالة الهرم. وفي مقداره من السنين ثلاثة أقوال: أحدها: خمس وسبعون سنة، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: تسعون سنة، قاله قتادة.
والثالث: ثمانون سنة، قاله قطرب.
قوله تعالى: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً قال الفراء: لكي لا يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقال
صحيح. أخرجه البخاري ٥٧١٦ و ٥٦٨٤، ومسلم ٢٢١٧، والترمذي ٢٠٨٣ وأحمد ٣/ ١٩ و ٩٢، وأبو يعلى ١٢٦١، والبغوي في «شرح السنة» ٣١٢٥. من حديث أبي سعيد الخدري.
ابن قتيبة: أي: حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً، لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى: أن منكم من يَكْبُرُ حتى يذهب عقله خَرَفاً، فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً، ليريَكم من قدرته، كما قَدِر على إِماتته وإِحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إِلى الجهل. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: ليس هذا في المسلمين، المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إِلاَّ كرامة عند الله، وعقلاً، ومعرفة. وقال عكرمة:
من قرأ القرآن، لم يُردّ إِلى أرذل العمر.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ يعني: فضل السادة على المماليك فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعني: السادة بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فعبرت «ما» عن «مَنْ» لأنه موضع إِبهام، تقول: ما في الدار؟ فيقول المخاطب: رجلان أو ثلاثة، ومعنى الآية: أن المولى لا يردّ على ما ملكت يمينه من مالِه حتى يكون المولى والمملوك في المال سواءً، وهو مَثَل ضربه الله تعالى للمشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء له، والأصنامَ ملكاً له، يقول: إِذا لم يكن عبيدُكم معكم في المُلك سواءً، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء، وترضَون لي ما تأنفون لأنفسكم منه؟! وروى العوفي عن ابن عباس، قال:
لم يكونوا أشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله تعالى.
قوله تعالى: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرأ أبو بكر عن عاصم: «تَجحدون» بالتاء. وفي هذه النعمة قولان: أحدهما: حُجته وهدايته. والثاني: فضله ورزقه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني النساء، وفي معنى «من أنفسكم» قولان:
أحدهما: أنه خلَق آدم، ثم خلَق زوجته منه، قاله قتادة. والثاني: «من أنفسكم»، أي: من جنسكم من بني آدم، قاله ابن زيد. وفي الحَفَدَة خمسة أقوال: أحدها: أنهم الأصهار، أختان الرجل على بناته، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، ومجاهد في رواية، وسعيد بن جبير، والنخعي، وأنشدوا من ذلك:
ولو أنَّ نَفْسِي طاوعتني لأَصْبَحَتْ لها حَفَدٌ مِمَّا يُعدُّ كثيرُ «١»
ولكنَّها نَفْسٌ عَلَيَّ أبِيَّةٌ عَيُوفٌ لأصهار اللئِام قذورُ
والثاني: أنهم الخدم، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية الحسن، وطاوس وعكرمة في رواية الضحاك، وهذا القول يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يراد بالخدم: الأولاد، فيكون
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «حفد». ولم ينسبه لقائل.
571
المعنى: أن الأولاد يَخدمون. قال ابن قتيبة: الحفدة: الخدم والأعوان، فالمعنى: هم بنون، وهم خدم. وأصل الحَفْد: مداركة الخطو والإِسراع في المشي، وإِنما يفعل الخدم هذا، فقيل لهم: حَفَدَة.
ومنه يقال في دعاء الوتر:
(٨٦٤) «وإِليك نسعى ونَحفِد».
والثاني: أن يراد بالخدم: المماليك، فيكون معنى الآية: وجعل لكم من أزواجكم بنين، وجعل لكم حفدة من غير الأزواج، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنهم بنوا امرأة الرجل من غيره، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والرابع: أنهم ولد الولد، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس:
أنهم: كبار الأولاد، والبنون: صغارهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. قال مقاتل: وكانوا في الجاهلية تخدمهم أولادهم. قال الزجاج: وحقيقة هذا الكلام أن الله تعالى جعل من الأزواج بنين، ومن يعاون على ما يُحتاج إِليه بسرعة وطاعة.
قوله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قال ابن عباس: يريد: من أنواع الثمار والحبوب والحيوان.
قوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الأصنام، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الشريك والصاحبة والولد، فالمعنى: يصدِّقون أن لله ذلك؟! قاله عطاء. والثالث: أنه الشيطان، أمرهم بتحريم البحيرة والسائبة، فصدَّقوا.
وفي المراد ب «نعمة الله» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التوحيد، قاله ابن عباس. والثاني: القرآن، والرسول. والثالث: الحلال الذي أحلَّه الله لهم.
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً وفي المشار إِليه قولان:
أحدهما: أنها الأصنام، قاله قتادة. والثاني: الملائكة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: مِنَ السَّماواتِ يعني: المطر، ومن «الأرض» النبات والثمر. قوله تعالى: شَيْئاً قال الأخفش: جعل «شيئاً» بدلاً من الرزق، والمعنى: لا يملكون رزقاً قليلا ولا كثيرا وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي لا يقدرون على شيء. قال الفراء: وإِنما قال في أول الكلام «يملك» وفي آخره «يستطيعون»، لأن «ما» في مذهب: جمعٌ لآلهتهم، فوحَّد «يملك» على لفظ «ما» وتوحيدها، وجمع في «يستطيعون» على المعنى، كقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «١».
قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي: لا تشبِّهوه بخَلْقه، لأنه لا يُشْبِه شيئاً، ولا يُشبِهه شيء، فالمعنى: لا تجعلوا له شريكا. وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أربعة أقوال:
ضعيف. أخرجه البيهقي ٢/ ٢١٠ عن خالد بن أبي عمران مرسلا مرفوعا، فهو ضعيف. وهو بعض حديث.
وأخرجه البيهقي ٢/ ٢١٠، ٢١١ عن عمر موقوفا، وقال الزيلعي في «نصب الراية» ٢/ ١٣٥: روى هذا الدعاء أبو داود في مراسيله عن خالد بن أبي عمران أن جبريل علمه للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مرسل جيد الإسناد رجاله ثقات إلا أنه لم يذكر أنه في وتر أو في غير وتر. وانظر «تلخيص الحبير» ٢/ ٢٤.
__________
(١) سورة يونس: ٤٢.
572
أحدها: يعلم ضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك، قاله ابن السائب. والثاني: يعلم أنه ليس له شريك، وأنتم لا تعلمون أنه ليس له شريك، قاله مقاتل. والثالث: يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه. والرابع: يعلم ما كان ويكون، وأنتم لا تعلمون قدر عظَمته حين أشركتم به ونسبتموه إِلى العجز عن بعث خلقه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي: بيَّنَ شَبَهاً فيه بيان المقصود، وفيه قولان:
أحدهما: انه مَثَلٌ للمؤمن والكافر. فالذي لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو الكافر، لأنه لا خير عنده، وصاحب الرّزق هو المؤمن، لما عنده من الخير هذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه مَثَل ضربه الله تعالى لنفسه وللأوثان، لأنه مالكُ كل شيء، وهي لا تملك شيئاً، هذا قول مجاهد، والسدي.
وذُكر في التفسير أن هذا المثل ضُرب بِقوم كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم قولان:
أحدهما: أن المملوك: أبو الجوار، وصاحب الرّزق الحسن: سيّده هشام بن عمرو، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال مقاتل: المملوك: أبو الحواجر «١». والثاني: أن المملوك: أبو جهل بن هشام، وصاحب الرزق الحسن: أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قاله ابن جريج.
فأما قوله: هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل: يستويان، لأن المراد: الجنس. وقال ابن الأنباري: لفظ «مَنْ» لفظ توحيد، ومعناها معنى الجمع، ولم يقع المَثَل بعبد معيَّن، ومالك معين، لكن عُنِيَ بهما جماعةُ عبيد، وقومٌ مالكون، فلما فارق من تأويل الجمع، جمع عائدها لذلك.
وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي: هو المستحق للحمد، لأنه المنعم، ولا نعمة للأصنام، بَلْ أَكْثَرُهُمْ يعني المشركين لا يَعْلَمُونَ أن الحمد لله. قال العلماء: وصف أكثرهم بذلك، والمراد: جميعهم.
قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قد فسرنا «البكم» في سورة البقرة «٢».
ومعنى لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ أي: من الكلام، لأنه لا يَفْهَم ولا يُفهَم عنه. وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ قال ابن قتيبة: أي: ثِقل على وليِّه وقرابته. وفيمن أُريد بهذا المَثَل أربعة أقوال «٣» : أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالكافر هو الأبكم، والذي يأمر بالعدل هو المؤمن، رواه العوفي عن ابن
(١) في «الدر المنثور» ٤/ ٢٣٥: أبو الجوزاء.
(٢) البقرة عند الآية: ١٨.
(٣) رجح الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٧/ ٦٢٤: القول الثالث.
عباس. والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، هو الذي يأمر بالعدل، وفي مولى له كان يكره الإِسلام وينهى عثمان عن النَّفقة في سبيل الله، وهو الأبكم، رواه إِبراهيم بن يعلى بن مُنْيَة عن ابن عباس.
والثالث: أنه مثل ضربه الله تعالى لنفسه، وللوثن. فالوثن: هو الأبكم، والله تعالى: هو الآمر بالعدل، وهذا قول مجاهد، وقتادة، وابن السائب، ومقاتل. والرابع: أن المراد بالأبكم: أُبيُّ بن خلف، وبالذي يأمر بالعدل: حمزة، وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون، قاله عطاء. فيخرج على هذه الأقوال في معنى مولاه» قولان: أحدهما: أنه مولىً حقيقة، إِذا قلنا: إِنه رجل من الناس. والثاني: أنه بمعنى الولي، إِذا قلنا: إِنه الصنم، فالمعنى: وهو ثِقل على وليِّه الذي يخدمه ويزيِّنه.
ويخرج في معنى «أينما يوجهه» قولان: إِن قلنا: إِنه رجل، فالمعنى: أينما يرسله. والتوجيه:
الإِرسال في وجه من الطريق. وإن قلنا: إنه الصّم، ففي معنى الكلام قولان: أحدهما: أينما يدعوه، لا يجيبه، قاله مقاتل. والثاني: أينما توجَّه تأميله إِيّاه ورجاه له، لا يأتِه ذلك بخير، فحذف التأميل، وخلفه الصنم، كقوله: ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «١» أي: على ألسنة رسلك. وقرأ البزي عن ابن محيصن «أينما تُوَجِهْهُ» بالتاء على الخطاب. فأما قوله: لا يَأْتِ بِخَيْرٍ فان قلنا: هو رجل، فانما كان كذلك، لأنه لا يفهم ما يقال له، ولاَ يُفْهَمُ عنه، إِما لكفره وجحوده، أو لِبَكَمٍ به. وإِن قلنا: إِنه الصنم، فلكونه جماداً.
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي: هذا الأبكم وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي: ومن هو قادر على التكلم، ناطق بالحقّ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد ذكرناه في آخر (هود) «٢»، وسبب نزول هذه الآية أن كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فنزلت هذه، قاله مقاتل.
وقال ابن السائب: المراد بالغيب هاهنا: قيام الساعة.
قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ يعني: القيامة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ واللمح: النظر بسرعة، والمعنى: إِن القيامة في سرعة قيامها وبعث الخلائق، كلمح العين، لأن الله تعالى يقول: كُنْ فَيَكُونُ «٣»، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ قال مقاتل: بل هو أسرع. وقال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه يصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٨]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرأ حمزة «إِمِّهاتِكم» بكسر الألف والميم، وقرأ الكسائي بكسر الإِلف وفتح الميم، والباقون بضم الألف وفتح الميم، وكذلك في النور «٤» والزمر «٥»
(١) سورة آل عمران: ١٩٤.
(٢) سورة هود: ١٢٣.
(٣) سورة البقرة: ١١٧.
(٤) سورة النور: ٦١.
(٥) سورة الزمر: ٦.
والنجم «١»، ولا خلاف بينهم في الابتداء بضم الهمزة.
قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لفظه لفظ الواحد، والمراد به الجميع، وقد بيَّنَّا علة ذلك في أول البقرة «٢» والأفئدة: جمع فؤاد. قال الزجاج: مثل غراب وأغربة، ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد، لم يقل فيه: «فئدان» مثل غُراب وغِربان. وقال أبو عبيدة: وإِنما جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم. غير أن العرب تقدِّم وتؤخِّر، وأنشد:
ضَخْمٌ تُعَلَّقُ أَشْنَاقُ الدِّيَات بِه إِذا المئون أُمِرَّتْ فَوْقَهُ حَمَلا «٣»
الشَّنَق: ما بين الفريضتين. والمئون أعظم من الشَّنَق، فبدأ بالأقل قبل الأعظم.
قال المفسرون: ومقصود الآية: أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالاً بالأشياء، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إِلى العلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٩]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
قوله تعالى: مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ قال الزجاج: هو الهواء البعيد من الأرض.
قوله تعالى: ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فيه قولان: أحدهما: ما يمسكهنَّ عند قبض أجنحتهن وبسطِها أن يَقَعْنَ على الأرض إِلا الله، قاله الأكثرون. والثاني: ما يُمسكهنَّ أن يرسِلن الحجارة على شرار هذه الأمة، كما فُعِلَ بغيرهم، إلّا الله، قاله ابن السّائب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٠ الى ٨٣]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً أي: موضعا تسكنون فيه، وفي المساكن المتَّخَذة من الحجر والمدر تستر العورات والحُرَم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم تَسْتَخِفُّونَها أي: يخفُّ عليكم حملها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ظَعَنِكُم» بفتح العين. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بتسكين العين، وهما لغتان، كالشَّعَر والشَّعْر، والنَّهَرِ والنَّهْرِ، والمعنى: إِذا سافرتم، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي: لا تثقل عليكم في الحالين وَمِنْ أَصْوافِها يعني:
الضأن وَأَوْبارِها يعني: الإِبل وَأَشْعارِها يعني: المعز أَثاثاً قال الفراء: الأثاث: المتاع، لا
(١) سورة النجم: ٣٢. [.....]
(٢) سورة البقرة: ٧.
(٣) البيت للأخطل كما في «ديوانه» ١٤٣، وذكره في «اللسان» مادة «شنق» وعنده «قرم» بدل «ضخم».
575
واحد له، كما أن المتاع لا واحد له. والعرب تقول: جمع المتاع أمتعه، ولو جمعت الأثاث، لقلت:
ثلاثة أئثّة، وأثث: مثل أعثّة وعثث لا غير. وقال ابن قتيبة: الأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية.
قال أبو زيد: واحد الأثاث: أثاثة. وقال الزجاج: يقال: قد أثَّ يَأَث أَثّاً: إِذا صار ذا أثاث. وروي عن الخليل أنه قال: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إِلى بعض، ومنه: شَعَر أثيث.
فأما قوله: وَمَتاعاً فقيل: إِنما جمع بينة وبين الأثاث، لاختلاف اللفظين. وفي قوله: إِلى حِينٍ قولان: أحدهما: أنه الموت، والمعنى: ينتفعون به إِلى حين الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أنه إِلى حين البلى، فالمعنى: إِلى أن يَبلى ذلك الشيء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي: ما يقيكم حر الشمس، وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه ظلال الغمام، قاله ابن عباس. والثاني: ظلال البيوت، قاله ابن السائب. والثالث: ظلال الشجر، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: ظلال الشجر والجبال، قاله ابن قتيبة. والخامس: انه كل شيء له ظل من حائط وسقف وشجر وجبل وغير ذلك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي: ما يكنّكم من الحرِّ والبرد، وهي الغيران والأسراب. وواحد الأكنان «كِنّ»، وكل شيء وقى شيئاً وستره فهو «كِنّ». وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ وهي القُمُص تَقِيكُمُ الْحَرَّ ولم يقل: البرد، لأنّ ما وقى من الحر، وقى من البرد. وأنشد:
وَمَا أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً أُريدُ الخير أيهما يَلَيْنِي «١»
وقال الزجاج: إِنما خص الحرَّ لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناةً له من البرد. وهذا مذهب عطاء الخراساني.
قوله تعالى: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يريد الدروع التي يتَّقون بها شدّة الطعن والضرب في الحرب. قوله تعالى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء، يتم نعمته عليكم في الدنيا لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ والخطاب لأهل مكة، وكان أكثرهم حينئذٍ كفاراً، ولو قيل:
إِنه خطاب للمسلمين، فالمعنى: لعلكم تدومون على الإِسلام وتقومون بحقه. وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو رجاء: «لعلكم تَسلَمون» بفتح التاء واللام، على معنى: لعلكم إِذا لبستم الدروع تَسلَمون من الجراح في الحرب.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإِيمان فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السّيف.
قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وفي هذه النعمة قولان «٢» :
أحدهما: أنها المساكن نعم الله عزّ وجلّ عليهم في الدنيا. وفي إِنكارها ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم يقولون: هذه ورثناها عن آبائنا. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نِعَم الله المساكن، والأنعام، وسرابيل الثياب، والحديد، يعرفه كفار قريش، ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا
(١) البيت للمثقب العبدي وتقدم في الجزء الأول.
(٢) رجح الطبري رحمه الله القول الثاني ٧/ ٦٣٠.
576
ورثناه عنهم، وهذا عن مجاهد. والثاني: أنهم يقولون: لولا فلان، لكان كذا، فهذا إِنكارهم، قاله عون بن عبد الله. والثالث: يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون: هذه بشفاعة آلهتنا، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة.
والثاني: أنّ المراد بالنّعمة ها هنا: محمّد ﷺ يعرفون أنه نبيٌّ ثم يكذِّبونه، وهذا مروي عن مجاهد، والسدي، والزجاج.
قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ قال الحسن: وجميعهم كفار، فذكر الأكثر، والمراد به الجميع.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني: يوم القيامة، وشاهد كلِّ أُمةٍ نبيّها يشهد عليها بتصديقها وتكذيبها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إِلى ما أمر الله به لأن الآخرة ليست بدار تكليف.
قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا الْعَذابَ يعني: النار فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخَّرون ولا يمهلون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه، فيقول المشركون: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي: نعبد من دونك.
فان قيل: فهذا معلوم عند الله تعالى، فما فائدة قولهم: «هؤلاء شركاؤنا» ؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم لما كتموا الشرك في قولهم: واللهِ ما كنا مشركين، عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم، وإِنطاق جوارحهم، فقالوا عند معاينة آلهتهم: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا أي: قد أقررنا بعد الجحد، وصدَّقنا بعد الكذب، التماساً للرحمة، وفراراً من الغضب، وكأنَّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنْب، لا على وجه إِعلام من لا يعلم.
والثاني: أنهم لما عاينوا عِظَم غضب الله تعالى قالوا: هؤلاء شركاؤنا، تقديرَ أن يعود عليهم من هذا القول روح، وأن تلزم الأصنام إِجرامهم، أو بعض ذنوبهم إِذْ كانوا يدَّعون لها العقل والتمييز، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم.
قوله تعالى: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي: أجابوهم وقالوا لهم: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ قال الفراء:
ردت عليهم آلهتهم قولهم. وقال أبو عبيدة: «فألقوا»، أي: قالوا لهم. يقال: ألقيت إِلى فلان كذا، أي: قلت له. قال العلماء: كذَّبوهم في عبادتهم إِياهم، وذلك أن الأصنام كانت جماداً لا تعرف
عابديها فظهرت فضيحتهم يومئذٍ إِذْ عبدوا مَن لم يعلم بعبادتهم وذلك كقوله: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «١».
قوله تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ المعنى: أنهم استسلموا له. وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون، قاله الأكثرون. ثم في معنى استسلامهم قولان: أحدهما: أنهم استسلموا له بالإِقرار بتوحيده وربوبيته. والثاني: أنهم استسلموا لعذابه. والثاني: أنهم المشركون والأصنام كلُّهم.
قال الكلبي: والمعنى: أنهم استسلموا لله منقادين لحُكمه.
قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فيه قولان: أحدهما: بَطَل قولهم أنها تشفع لهم.
والثاني: ذهب عنهم ما زيَّن لهم الشّيطان أنّ لله شريكا وولدا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن عباس: منعوا النَّاس من طاعة الله والإِيمان بمحمد. قوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ إِنما نكَّر العذاب الأول، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم، وعرَّف العذاب الثاني، لأنه العذاب الذي يعذَّب به أكثر أهل النار، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل: نعوذ بالله من النار، وقد قيل: إِنما زِيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم، بصدِّهم عن سبيل الله. وفي صفة هذا العذاب الذي زِيدوا أربعة أقوال: أحدها: أنها عقارب كأمثال النخل الطوال، رواه مسروق عن ابن مسعود. والثاني: أنها حيَّات كأمثال الفِيَلَة، وعقارب كأمثال البغال، رواه زرٌّ عن ابن مسعود. والثالث: أنها خمسة أنهار من صُفْر «٢» مُذَابٍ تسيل من تحت العرش يعذَّبون بها، ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، قاله ابن عباس. والرابع: أنه الزمهرير، ذكره ابن الأنباري. قال الزّجّاج: يخرجون من حرّ الزمهرير، فيتبادرون من شدة برده إِلى النار.
قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم قومه، قاله ابن عباس. والثاني: أُمَّته قاله مقاتل. وتمّ الكلام ها هنا. ثم قال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً قال الزجاج: التبيان: اسم في معنى البيان. فأما قوله تعالى: لِكُلِّ شَيْءٍ فقال العلماء بالمعاني: يعني:
لكل شيء من أمور الدين، إِما بالنص عليه، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم، مثل بيان رسول الله ﷺ أو إجماع المسلمين.
(١) سورة مريم: ٨٣.
(٢) في «اللسان» : الصّفر: النحاس الجيد وقيل: ضرب من النحاس.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه شهادة أن لا إِله إِلا الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه الحق، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه استواء السريرة والعلانية في العمل لله تعالى، قاله سفيان بن عيينة. والرابع: أنه القضاء بالحق، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان: العدل في كلام العرب: الإِنصاف، وأعظمُ الإِنصاف: الاعتراف للمنعِم بنعمته. وفي المراد بالإِحسان خمسة أقوال «١» : أحدها: أنه أداء الفرائض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: العفو. رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الإِخلاص، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن تعبد الله كأنك تراه، رواه عطاء عن ابن عباس. والخامس: أن تكون السريرة أحسن من العلانية، قاله سفيان بن عيينة.
فأما قوله تعالى: وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فالمراد به: صلة الأرحام.
وفي الفحشاء قولان: أحدهما: أنها الزنا، قاله ابن عباس. والثاني: المعاصي، قاله مقاتل.
وفي (المنكر) أربعة أقوال: أحدها: أنه الشرك، قاله مقاتل. والثاني: أنه ما لا يُعرَف في شريعة ولا سُنَّة. والثالث: أنه ما وعد الله عليه النار، ذكرهما ابن السائب. والرابع: أن تكون علانية الإِنسان أحسن من سريرته، قاله سفيان بن عيينة.
فأما (البغي) فقال ابن عباس: هو الظلم، وقد سبق شرحه في مواضع.
قوله تعالى: يَعِظُكُمْ قال ابن عباس: يؤدِّبكم، وقد ذكرنا معنى الوعظ في سورة النساء «٢».
وتَذَكَّرُونَ بمعنى: تتَّعظون. قال ابن مسعود: هذه الآية أجمع آية في القرآن لخير أو لشر. وقال الحسن: والله ما ترك العدلُ والاحسانُ شيئاً من طاعة الله إِلاَّ جمعاه، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي شيئاً من معصية الله إِلاّ جمعوه.
قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين «٣» : أحدهما: أنها نزلت في
(١) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» : الإحسان مصدر أحسن يحسن إحسانا، ويقال على معنيين، أحدهما: متعد بنفسه كقولك: أحسنت كذا، أي حسّنته وكملته، وهو منقول بالهمزة من حسن الشيء، وثانيهما: متعد بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينتفع به.
قلت: وهو في الآية مراد بالمعنيين معا، فإنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى أن الطائر في سجنك والسنّور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك، وهو تعالى غني عن إحسانهم ومنه الإحسان والنعم والفضل والمنن.
(٢) سورة النساء: ٥٨.
(٣) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦٣٦: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين، بعقود تكون بينهم بحق، مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نزلت في الذين بايعوا رسول الله ﷺ بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين، وكثرة عدد المشركين، وأن تكون نزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم. وجائز أن تكون في غير ذلك، ولا خبر تثبت به الحجة أنها نزلت في شيء من ذلك دون شيء، ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أي ذلك عني بها، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه، وأن الآية كانت قد نزلت لسبب من الأسباب، ويكون الحكم بها عاما في كل ما كان بمعنى السبب الذي نزلت فيه.
579
حلف أهل الجاهلية، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به، هو الذي يحسن فعله، فاذا عاهد العبد عليه، وجب الوفاء به، والوعد من العهد وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أي: بعد تغليظها وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، ووكدت الشيء توكيداً، لغة أهل الحجاز. فأما أهل نجد، فيقولون: أكدته تأكيداً. وقال الزجاج: يقال: وكَّدت الأمر، وأكّدت، لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها. قوله تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي: بالوفاء وذلك أن من حلف بالله، فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه. وللمفسرين في معنى «كفيلا» ثلاثة أقوال: أحدها:
شهيداً، قاله سعيد بن جبير. والثاني: وكيلا، قاله مجاهد. والثالث: حفيظاً مراعياً لعقدكم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها قال مجاهد: هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إِحداهن حبلها، ثم تنفشه، ثم تخلطه بالصوف فتغزله. وقال مقاتل: هي امرأة من قريش تسمى «رَيْطة» بنت عمرو بن كعب، كانت إِذا غزلت، نقضته. وقال ابن السائب: اسمها «رَائطة» وقال ابن الأنباري:
اسمها «رَيطة» بنت عمرو المرِّيّة، ولقبها الجعراء، وهي من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين، فعرفوها بوصفها، ولم يكن لها نظير في فعلها ذلك، كانت متناهية الحمق، تغزِلُ الغزل من القطن أو الصوف فتُحكِمُه، ثم تأمر جاريتها بتقطيعه. وقال بعضهم: كانت تغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، فضربها الله مثلا لناقضي العهد. و «نقضت»، بمعنى: تنقض، كقوله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «١» بمعنى: وينادي. وفي المراد بالغَزْل قولان: أحدهما: أنه الغَزْل المعروف، سواء كان من قطن أو صوف أو شعر، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه الحَبْل، قاله مجاهد. وقوله: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ قال قتادة: من بعد إِبرام، وقوله: أَنْكاثاً أي: أنقاضاً. قال ابن قتيبة: الأنكاث: ما نُقض من غَزْل الشَّعْر وغيره. وواحدها: نِكْث. يقول: لا تؤكدوا على أنفسكم الأَيمان والعهود، ثم تنقضوا ذلك وتحنثوا فيه، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت، ثم نقضت ذلك النسج، فجعلته أنكاثاً.
قوله تعالى: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: دغلاً، ومكراً، وخديعة، وكل شيء دخله عيب، فهو مدخول، وفيه دَخَلٌ.
قوله تعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ قال ابن قتيبة: لأن تكون أمة، هِيَ أَرْبى أي: هي أغنى مِنْ أُمَّةٍ وقال الزجاج: المعنى: بأن تكون أمة هي أكثر، يقال: ربا الشيء يربو: إِذا كثر. قال ابن الأنباري: قال اللغويون: «أربى» : أَزْيَد عدداً. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم
(١) سورة الأعراف: ٤٤.
580
وأعزَّ، فينقضون حِلف هؤلاء ويحالفون أولئك، فنُهوا عن ذلك! وقال الفراء: المعنى: لا تغدِروا بقوم لقلَّتِهم وكثرتكم، أو قِلَّتكم وكثرتهم وقد غرَّرتموهم بالأَيمان.
قوله تعالى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى الكثرة، قاله سعيد بن جبير، وابن السائب، ومقاتل، فيكون المعنى: إِنما يختبركم الله بالكثرة، فاذا كان بين قومين عهد فكثر أحدهما، فلا ينبغي أن يفسخ الذي بينه وبين الأقلِّ. فان قيل: إِذا كنى عن الكثرة، فهلاّ قيل بها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري. بأن الكثرة ليس تأنيثها حقيقياً، فحملت على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على معنى الصياح. والثاني: أنها ترجع إِلى العهد، فانَّه لدلالة الأَيمان عليه، يجرى مجرى المظهر، ذكره ابن الأنباري. والثالث: أنها ترجع إِلى الأمر بالوفاء، ذكره بعض المفسرين.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قد فسرناه في آخر هود «١».
قوله تعالى: وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ صريح في تكذيب القَدَرية، حيث أضاف الإِضلال والهداية إليه، وعلّقهما بمشيئته.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا هذا استئناف للنهي عن أيمان الخديعة. فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها قال أبو عبيدة: هذا مَثَل يقال لكل مبتَلَىً بعد عافية، أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلّت به قَدَمه. قال مقاتل: ناقض العهد يَزِلُّ في دينه كما تَزِلُّ قَدم الرَّجُل بعد الاستقامة. قال المفسرون: وهذا نهي للذين بايعوا رسول الله ﷺ على الإِسلام ونصرة الدين عن نقض العهد، ويدلّ عليه قوله تعالى:
وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعني: العقوبة بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يريد أنهم إِذا نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدَّوا الناس عن الإِسلام، فاستحقُّوا العذاب.
وقوله تعالى: وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعني: في الآخرة. ثم أكد ذلك بقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا.
(٨٦٥) قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رجُلين اختصما إِلى رسول الله ﷺ في أرض، يقال لأحدهما: «عِيدان بن أشوع» وهو صاحب الأرض، وللآخر: «امرؤ القيس» وهو المدعى عليه، فهمّ امرؤ القيس أن يحلف، فأخّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وتقدم أن هذا إسناد ساقط، وتقدم في سورة النساء بسياق آخر صحيح، فالخبر بذكر نزول هذه الآية، ليس له أصل.
__________
(١) عند الآية: ١١٨.
وذكر أبو بكر الخطيب أن اسم صاحب الأرض «ربيعة بن عبْدان»، وقيل: «عَيدان»، بفتح العين وياء معجمة باثنتين. ومعنى الآية: لا تنقضوا عهودكم، تطلبون بنقضها عَرَضاً يسيراً من الدنيا، إنّ ما عند الله من الثواب على الوفاء هو خير لكم من العاجل. ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ أي: يفنى وَما عِنْدَ اللَّهِ في الآخرة باقٍ وقف بالياء ابن كثير في رواية عنه، ولا خلاف في حذفها في الوصل. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ولَيَجْزِيَنَّ» بالياء. وقرأ ابن كثير، وعاصم «ولَنَجْزِيَنَّ» بالنون. ولم يختلفوا في وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ أنها بالنون، ومعنى هذه الآية:
وليَجْزِيَنَّ الذين صبروا على أمره أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون في الدنيا، ويتجاوز عن سيئاتهم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن امرأ القيس المتقدِّم ذكره أقرّ بالحقّ الذي كان هَمَّ أن يحلف عليه، فنزلت فيه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً، وهو إِقراره بالحق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن ناساً من أهل التّوراة وأهل الإِنجيل وأهل الأوثان جلسوا فتفاضلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح.
قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً اختلفوا أين تكون هذه الحياة الطيبة على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس. ثم فيها للمفسرين تسعة أقوال «١» : أحدها: أنها القناعة، قاله علي عليه السلام، وابن عباس في رواية، والحسن في رواية، ووهب بن منبه. والثاني:
أنها الرزق الحلال، رواه أبو مالك عن ابن عباس. وقال الضحاك: يأكل حلالاً ويلبس حلالاً.
والثالث: أنها السعادة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنها الطاعة، قاله عكرمة.
والخامس: أنها رزق يوم بيوم، قاله قتادة. والسادس: أنها الرزق الطيِّب، والعمل الصالح، قاله إِسماعيل بن أبي خالد. والسابع: أنها حلاوة الطاعة، قاله أبو بكر الوراق. والثامن: العافية والكفاية.
والتاسع: الرضى بالقضاء، ذكرهما الماوردي. والثاني: أنها في الآخرة، قاله الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، وذلك إِنما يكون في الجنة. والثالث: أنها في القبر، رواه أبو غسّان عن شريك.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٢]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦٤٣: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه، ولم يعظم فيها نصبه، ولم يتكدر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها، وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها.
582
قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: فاذا أردتَ القراءة فاستعذ، ومثله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ «١» وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «٢» وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً «٣». ومثله في الكلام: إذا أكلت، فقل بسم الله، هذا قول عامة العلماء واللغويين. والثاني: أنه على ظاهره، وأن الاستعاذة بعد القراءة، روي عن أبي هريرة، وداود «٤».
والثالث: أنه من المقدَّم والمؤخَّر، فالمعنى: فاذا استعذت بالله فاقرأ، قاله أبو حاتم السجستاني، والأول أصح.

فصل: والاستعاذة عند القراءة سُنَّةٌ في الصلاة وغيرها. وفي صفتها عن أحمد روايتان:


إحداهما: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها أبو بكر المروزي.
والثانية: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، إِن الله هو السميع العليم، رواها حنبل. وقد بيَّنَّا معنى «أعوذ» في أول الكتاب، وشرحنا اشتقاق الشيطان في البقرة «٥» والرجيم في آل عمران «٦».
قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا في المراد بالسلطان قولان «٧» : أحدهما: أنه التسلُّط. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ليس له عليهم سلطان بحال، لأن الله صرف سلطانه عنهم بقوله:
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «٨». والثاني: ليس له عليهم سلطان، لاستعاذتهم منه. والثالث: ليس له قُدْرة على أن يحملهم على ذَنْب لا يُغْفَر. والثاني: أنه الحُجَّة.
فالمعنى: ليس له حُجَّة على ما يدعوهم إِليه من المعاصي، قاله مجاهد. فأما قوله: يَتَوَلَّوْنَهُ معناه:
يطيعونه. وفي هاء الكناية في قوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله مجاهد، والضحاك. والثاني: أنها ترجع إِلى الشيطان، فالمعنى: الذين هم من أجله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالماً، أي: من أجلك، هذا قول ابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: المعنى: والذين هم باشراكهم إِبليسَ في العبادة، مشركون بالله تعالى.
قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ.
(٨٦٦) سبب نزولها أن الله تعالى كان ينزِّل الآية، فيُعمَل بها مدة، ثم ينسخها، فقال كفار قريش: والله ما محمد إِلاَّ يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، ويأتيهم غداً بما هو أهون عليهم منه،
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٦٥، دون عزو لقائل. والخبر باطل لا أصل له، وهل علم كفار قريش بالناسخ والمنسوخ أيضا؟!!
__________
(١) سورة المائدة: ٦.
(٢) سورة الأحزاب: ٥٣. [.....]
(٣) سورة المجادلة: ١٢.
(٤) داود هو ابن علي الظاهري.
(٥) عند الآية: ١٤.
(٦) عند الآية: ٣٦.
(٧) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦٤٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إِنه ليس له سلطان على الذين امنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
(٨) سورة الحجر: ٤٢.
583
فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والمعنى: إِذا نسخنا آية بآية، إِما نسخ الحكم والتلاوة، أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من ناسخٍ ومنسوخ، وتشديد وتخفيف، فهو عليم بالمصلحة في ذلك قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي: كاذب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيه قولان:
أحدهما: لا يعلمون أنّ الله أنزله. والثاني: لا يعلمون فائدة النسخ.
قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ يعني: القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبريل. وقد شرحنا هذا الاسم في البقرة «١». وقوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ أي: من كلامه بِالْحَقِّ أي: بالأمر الصحيح لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا بما فيه من البيّنات فيزدادوا يقينا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يعني: قريشاً إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أي: آدمي، وما هو من عند الله. وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال:
(٨٦٧) أحدها: أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له: يعيش، يقرأ التوراة، فقالوا: منه يتعلم محمد، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عكرمة في رواية: كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي، وكان رومياً.
(٨٦٨) والثاني: أنه فتى كان بمكة يسمى بلعام وكان نصرانياً أعجمياً، وكان رسول الله ﷺ يعلِّمه، فلما رأى المشركون دخوله إِليه وخروجه، قالوا ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً.
(٨٦٩) والثالث: أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيملى عليه «سميع عليم» فيكتب هو «عزيز حكيم» أو نحو هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي ذلك كتبت فهو كذلك»، فافتتن، وقال: إِن محمداً يَكِل ذلك إِليَّ فأكتب ما شئت، روي عن سعيد بن المسيب.
(٨٧٠) والرابع: أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له: جابر، وكان جابر يأتي
مرسل. أخرجه الطبري ٢١٩٣٤ عن عكرمة مرسلا، وورد من مرسل قتادة برقم ٢١٩٣٥. وعزاه المصنف لعكرمة عن ابن عباس أيضا، ولم أره عن ابن عباس من طريقة عكرمة. وانظر ما بعده.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢١٩٣٣ من حديث ابن عباس، وضعّفه السيوطي في «الدر» ٤/ ٢٤٧.
- وعلّته مسلم بن كيسان أبو عبد الله الملائي، فقد ضعفه الجمهور.
أخرجه الطبري ٢١٩٤٣ عن سعيد بن المسيب مرسلا. والمشهور في هذا السياق ما يأتي في مطلع سورة «المؤمنون».
هو مرسل، وانظر ما يأتي.
__________
(١) سورة البقرة: ٨٧.
584
رسول الله ﷺ فيتعلم منه، فقال المشركون: إِنما يتعلم محمد من هذا، قاله سعيد بن جبير.
(٨٧١) والخامس: أنهم عَنوا سلمان الفارسي، قاله الضحاك وفيه بُعْدٌ من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة، وهذه الآية مكية.
(٨٧٢) والسادس: أنهم عَنَوا به رجلا حدّادا كان يقال له: يحنّس النَّصراني، قاله ابن زيد.
(٨٧٣) والسابع: أنهم عَنَوا به غلاماً لعامر بن الحضرمي، وكان يهودياً أعجمياً، واسمه «يسار»، ويكنى أبا فُكَيهة، قاله مقاتل. وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا، إِلاَّ أنه لم يقل: إِنه كان يهودياً.
(٨٧٤) والثامن: أنهم عَنَوا غلاماً أعجمياً اسمه عايش، وكان مملوكاً لحويطب، وكان قد أسلم، قاله الفراء، والزجاج.
(٨٧٥) والتاسع: أنهما رجلان، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التمر، يقال لأحدهما: «يسار» وللآخر «جبر» وكانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن الإِنجيل، فربّما مرّ بهما النبيّ ﷺ وهما يقرآن، فيقف يستمع، فقال المشركون: إِنما يتعلم منهما. قال ابن الأنباري فعلى هذا القول، يكون البشر واقعاً على اثنين، والبشر من أسماء الأجناس، يعبّر عن اثنين، كما يعبر «أحد» عن الاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث.
قوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «يُلحِدون» بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ حمزة والكسائي: «يَلحَدون» بفتح الياء والحاء. فأما القراءة الأولى، فقال ابن قتيبة: «يُلحدون» أي: يميلون إِليه، ويزعمون أنه يعلِّمه، وأصل الإِلحاد المَيْل. وقال الفراء: «يُلحِدون» بضم الياء: يعترضون، ومنه قوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي: باعتراض، و «يلحدون» بفتح الياء: يميلون. وقال الزجاج: يَلَحدون إِليه، أي: يُميلون القول فيه أنه أعجمي. قال ابن قتيبة: لا يكاد عوام الناس يفرِّقون بين العجمي والأعجمي، والعربيّ والأعرابي، فالأعجمي: الذي لا يُفصح وإِن كان نازلا بالبادية، والعجمي: منسوب إِلى العجم وإِن كان فصيحاً والأعرابي: هو البدوي، والعربي: منسوب إِلى العرب وإِن لم يكن بدوياً. قوله تعالى:
وَهذا لِسانٌ يعني: القرآن، عَرَبِيٌّ قال الزجاج: أي: أن صاحبه يتكلم بالعربية. قوله تعالى:
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي: الذين إِذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلّا
باطل. أخرجه الطبري ٢١٩٤١ عن الضحاك مرسلا، فهذه علة، وله علّة ثانية، فيه راو لم يسم، وله علة ثالثة، وهي كون السورة مكية، وسلمان كان في المدينة. وكذا ضعف هذا القول ابن كثير في «التفسير».
هذا معضل، وابن زيد واسمه عبد الرحمن ضعيف متروك إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟!
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم.
عزاه المصنف للفراء والزجاج، ولم أر من أسنده.
مرسل. أخرجه الطبري ٢١٩٣٨ و ٢١٩٣٩ و ٢١٩٤٠ والواحدي في «الأسباب» ٥٦٦ عن عبد الله بن مسلم الحضرمي مرسلا، فهو ضعيف. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢١٩٤٢.
- الخلاصة: هذه الروايات جميعا ضعيفة، لا يحتج بشيء منها بمفرده. لكن تعدد هذه الروايات مع اختلاف مخارجها يدل على صحة أصل هذه الأخبار مع ضعف تعيين ذاك الرجل الذي يقصده المشركون في ذلك.
585
الله، كذَّبوا بها، وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ أي: أن الكذب نعت لازم لهم، وعادة من عاداتهم، وهذا ردَّ عليهم إِذ قالوا: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ «١». وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب، لأنه خصّ به من لا يؤمن.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ. قال مقاتل:
(٨٧٦) نزلت في عبد الله بن سعد بن أَبي سرح القرشي، ومِقْيَس بن صُبابة، وعبد الله بن أنس بن خَطَل، وطعمة بن أُبيرِق، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الفاكه المخزومي.
فأما قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فاختلفوا فيمن نزل على أربعة أقوال:
(٨٧٧) أحدها: أنه نزل في عمار بن ياسر، أخذه المشركون فعذَّبوه، فأعطاهم ما أرادوا بلسانه، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
(٨٧٨) والثاني: أنه لما نزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى آخر الآيتين اللتين
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إن أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر باطل، وقد تفرّد به.
حسن، أخرجه الطبري ٢١٩٤٤ عن ابن عباس في قوله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ... إلى آخر الآية، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي لقي من قريش والذي قال. فأنزل الله تعالى ذكره عذره مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ.... إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» ١/ ١٤٠ عن مجاهد مرسلا.
وله شاهد عند الحاكم ٢/ ٣٥٧، وعبد الرزاق في تفسيره ١٥٠٩، والطبري ٢١٩٤٦ من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه. وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، مع أن مداره على محمد بن عمار بن ياسر، وهو مقبول، ولم يرو له الشيخان، لكن أصل الخبر محفوظ، فقد أخرجه الطبري ٢١٩٤٧ عن أبي مالك مرسلا. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري ٢١٩٤٤. الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، وله شواهد أخرى أوردها السيوطي في «الدر» ٤/ ٢٤٩.
حسن. أخرجه الطبري ٢١٩٥٣ بإسناد حسن عن ابن عباس. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٢١٩٥٢. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢١٩٥٠ و ٢١٩٥١.
__________
(١) سورة النحل: ١٠١.
586
في سورة النساء «١»، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إِلىَ من كان بمكة، فخرج ناس ممن أقرَّ بالإِسلام، فاتَّبعهم المشركون، فأدركوهم، فأكرهوهم حتى أعطوا الفتنة، فنزل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
(٨٧٩) والثالث: أنه نزل في عياش بن أبي ربيعة، كان قد هاجر فحلفت أُمُّه ألاَّ تستظل ولا تشبع من طعام حتى يرجع، فرجع إِليها، فأكرهه المشركون حتى أعطاهم بعض ما يريدون، قاله ابن سيرين.
(٨٨٠) والرابع: أنه نزل في جبر، غلام ابن الحضرمي، كان يهودياً فأسلم، فضربه سيِّده حتى رجع إِلى اليهودية، قاله مقاتل.
وأما قوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فقال مقاتل: هم النفر المسَمَّوْن في أول الآية.
فأما التفسير، فاختلف النحاة في قوله: مَنْ كَفَرَ وقوله: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ فقال الكوفيون:
جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، فقال البصريون: بل قوله: مَنْ كَفَرَ مرفوع بالرد على الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون خبرُ مَنْ كَفَرَ محذوفاً، لوضوح معناه، تقديره: من كفر بالله، فالله عليه غضبان.
قوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي: ساكن إِليه راضٍ به. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً قال قتادة: من أتاه بايثار واختيار. وقال ابن قتيبة: من فتح له صدره بالقبول. وقال أبو عبيدة: المعنى:
من تابعته نفسه، وانبسط إِلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب: وجاء قوله:
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ على معنى الجميع، لأن «مَنْ» تقع على الجميع.
فصل: الإِكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها. وفي الإِكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان «٢» :
إِحداهما: أنه يخاف على نفسه أو على بعض أعضائه التلف إِن لم يفعل ما أُمر به. والثانية: أن التخويف لا يكون إِكراها حتى يُنَال بعذاب. وإذا ثبت جواز «التَّقِيَة» فالأفضل ألاَّ يفعل، نص عليه أحمد، في أسير خُيِّر بين القتل وشرب الخمر، فقال: إِن صبر على القتل فله الشرف، وإِن لم يصبر، فله الرخصة، فظاهر هذا، الجوازُ. وروى عنه الأثرم أنه سئل عن التَّقيَّة في شرب الخمر فقال: إنما
عزاه السيوطي في «الدر» ٤/ ٥٤٩ لابن أبي حاتم عن ابن سيرين لكن ذكره مختصرا، وهو غير صحيح، وما قبله هو الراجح، وكذا حديث عمار، هو أشهر وأصح حديث في الباب.
باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) سورة النساء: ٩٦- ٩٧.
(٢) في «المغني» ١٢/ ٢٩٢- ٢٩٤: من أكره على الكفر، فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي. وقد قال النبي عليه السلام: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يثبت حكمه. لكن من الأفضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خبّاب عن رسول الله ﷺ قال: «إن كان الرّجل من قبلكم ليحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بمنشار، فيوضع على شق رأسه، ويشقّ باثنين، ما يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه».
587
التقية في القول. فظاهر هذا أنه لا يجوز له ذلك. فأما إِذا أُكره على الزنا، لم يجز له الفعل، ولم يصح إِكراهه، نص عليه أحمد. فان أُكره على الطلاق، لم يقع طلاقه، نص عليه أحمد، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يقع.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا في المشار إِليه بذلك قولان:
أحدهما: أنه الغضب والعذاب، قاله مقاتل.
والثاني: أنه شرح الصدر للكفر. و «استحبُّوا» بمعنى: أحبوا الدنيا واختاروها على الآخرة.
قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ أي: وبأن الله لا يريد هدايتهم. وما بعد هذا قد سبق شرحه «١» إِلى قوله: وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ففيه قولان:
أحدهما: الغافلون عما يراد بهم، قاله ابن عباس. والثاني: عن الآخرة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لا جَرَمَ قد شرحناها في هود «٢». وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(٨٨١) أحدها: أنها نزلت فيمن كان يفتن بمكّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(٨٨٢) والثاني: أن قوماً من المسلمين خرجوا للهجرة، فلحقهم المشركون فأعطَوهم الفتنة، فنزل فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ «٣» فكتب المسلمون إِليهم بذلك، فخرجوا، وأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(٨٨٣) والثالث: أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان الشيطان قد أزلَّه حتى لحق بالكفار، فأمر به رسول الله ﷺ أن يُقتَل يوم الفتح، فاستجار له عثمان بن عفّان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وفيه بُعد، لأن المشار إِليه وإِن كان قد عاد إِلى الإِسلام، فان الهجرة انقطعت بالفتح.
والرابع: أنها نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن أَسيد الثقفي، قاله مقاتل.
فأما قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا فقرأ الأكثرون: «فُتنوا» بضم الفاء وكسر التاء، على معنى:
من بعد ما فتنهم المشركون عن دينهم. قال ابن عباس: فُتنوا بمعنى: عُذِّبوا. وقرأ عبد الله بن عامر:
تقدم قبل قليل، ويدل عليه ما بعده.
أخرجه الطبري ٢١٩٥٣ من رواية عكرمة عن ابن عباس بنحوه، وتقدم قبل قليل.
أخرجه الطبري ٢١٩٥٥ عن عكرمة والحسن مرسلا، وهو ضعيف بذكر نزول الآية فيه، وأما استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه فصحيح، ولعله يأتي.
__________
(١) انظر سورة البقرة: ٧، والنساء: ١٥٥، والمائدة: ٦٧.
(٢) سورة هود: ٢٢.
(٣) العنكبوت: ١٠.
588
«فَتَنوا» بفتح الفاء والتاء، على معنى: من بعد ما فتنوا الناس عن دين الله، يشير إِلى من أسلم من المشركين. وقال أبو علي: من بعد ما فَتنوا أنفسهم باظهار ما أظهروا للتقية، لأن الرخصة لم تكن نزلت بعدُ. قوله تعالى: ثُمَّ جاهَدُوا أي: قاتلوا مع رسول الله ﷺ وَصَبَرُوا على الدين والجهاد.
إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها في المكنيِّ عنها أربعة أقوال: أحدها: الفتنة، وهو مذهب مقاتل. والثاني:
الفَعلة التي فعلوها، قاله الزجاج. والثالث: المجاهدة، والمهاجرة، والصبر. والرابع: المهاجرة.
ذكرهما واللَّذَين قبلهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي قال الزجاج: هو منصوب على أحد شيئين، إِما على معنى: إِن ربك لغفور يوم تأتي، وإِما على معنى: اذكر يوم تأتي. ومعنى تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي: عنها. والمراد: أن كل إِنسان يجادل عن نفسه. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لكعب الأحبار: يا كعب خوِّفنا، فقال: إِن لجهنم زفرةً ما يبقى ملَك مقرَّب ولا نبيّ مرسل إِلاَّ وقع جاثياً على ركبتيه، حتى إِن إِبراهيم خليل الرحمن ليدلي بالخلة فيقول: يا رب أنا خليلك إِبراهيم، لا أسألك إِلاَّ نفسي، وإِن تصديق ذلك في كتاب الله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. وقد شرحنا معنى «الجدال» في هود «١».
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً في هذه القرية قولان:
أحدهما: أنها مكة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والجمهور، وهو الصحيح.
والثاني: أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع حتى كانوا يأكلون ما يقاعدون، قاله الحسن. فأما ما يروى عن حفصة أنها قالت: هي المدينة، فذلك على سبيل التمثيل، لا على وجه التفسير، وبيانه: ما روى سليم بن عتر «٢»، قال: صدرنا من الحج مع حفصة، وعثمان محصور بالمدينة، فرأت راكبين فسألتهما عنه، فقالا: قُتِل، فقالت: والذي نفسي بيده إنها للقرية، تعني المدينة التي قال الله تعالى في كتابه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، تعني حفصة: أنها كانت على قانون الاستقامة في أيّام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ عند قتل عثمان رضي الله عنه. ومعنى كانَتْ آمِنَةً أي: ذات أمْنٍ يأمن فيها أهلها أن يُغَارَ عليهم، مُطْمَئِنَّةً أي: ساكنة بأهلها لا يحتاجون إِلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق. وقد شرحنا معنى الرغد في البقرة «٣».
وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: يجلَب إِليها من كل بلد وذلك كلُّه بدعوة إِبراهيم عليه السلام، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ بتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي واحد الأنعم قولان: أحدهما: أن واحدها «نُعْمٌ» قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: «نِعْمة» قاله الزجاج: قال ابن قتيبة: ليس قول من
(١) سورة هود: ٣٢. [.....]
(٢) في المطبوع «عنز» والمثبت عن «التاريخ الكبير» ٢/ ٢/ ١٢٥ للبخاري.
(٣) سورة البقرة: ٣٥- ٥٨.
قال: هو جمع «نعمة» بشيء، لأن «فِعْلَةَ» لا تجمع على «أفْعُلٍ»، وإِنما هو جمع «نُعْمٍ»، يقال: يوم نُعْمٌ، ويوم بُؤْسٌ، ويجمع «أَنْعُماً»، و «أَبْؤُساً».
قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ وروى عبيد بن عقيل، وعبد الوارث عن أبي عمرو: «والخوفَ» بنصب الفاء. وأصل الذَّوق إِنما هو بالفم، وهذا استعارة منه، وقد شرحنا هذا المعنى في آل عمران «١». وإِنما ذكر اللباس هاهنا تجوُّزاً، لما يظهر عليهم من أثر الجوع والخوف، فهو كقوله: وَلِباسُ التَّقْوى «٢» وذلك لما يظهر على المتَّقي من أثر التقوى. قال المفسرون: عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام المحترقة. فأما الخوف، فهو خوفهم من رسول الله ﷺ ومن سراياه التي كان يبعثها حولهم. والكلام في هذه الآية خرج على القرية، والمراد أهلها، ولذلك قال: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني به: بتكذيبهم لرسول الله ﷺ وإِخراجهم إِياه وما همُّوا به من قتله.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٣]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني: محمّدا ﷺ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وفيه قولان: أحدهما: أنه الجوع، قاله ابن عباس. والثاني: القتل ببدر، قاله مجاهد. قال ابن السائب: وَهُمْ ظالِمُونَ أي: كافرون.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في المخاطَبين بهذا قولان:
أحدهما: أنهم المسلمون، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنهم أهل مكة المشركون، لما اشتدت مجاعتهم، كلَّم رؤساؤُهم رسولَ الله ﷺ فقالوا:
إِن كنتَ عاديتَ الرجال، فما بال النساء والصّبيان؟! فأذن رسول الله ﷺ للناس أن يحملوا الطعام إِليهم، حكاه الثعلبي، وذكر نحوه الفراء. وهذه الآية والتي تليها مفسّرتان في البقرة «٣».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ قال ابن الأنباري: اللام في «لِما» بمعنى من أجل، وتلخيص الكلام: ولا تقولوا: هذه الميتة حلال، وهذه البَحيرة حرام، من أجل كذبكم، وإِقدامكم على الوصف، والتخرُّص «٤» لما لا أصل له، فجرت اللام ها هنا مجراها في قوله:
(١) سورة آل عمران: ١٠٦- ١٨٥.
(٢) سورة الأعراف: ٢٦.
(٣) سورة البقرة: ١٧٢- ١٧٣.
(٤) في «اللسان» التخرّص: من خرص أي كذب، وتخرّص فلان على الباطل واخترصه أي افتعله.
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «١» أي: وإِنه من أجل حب الخير لبخيل، و «ما» بمعنى المصدر، والكذب منصوب ب «تصف»، والتّخليص: لا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب. وقرأ ابن أبي عبلة: «الكُذُبَ»، قال ابن القاسم: هو نعت الألسنة، وهو جمع كذوب. قال المفسرون: والمعنى: أن تحليلكم وتحريمكم ليس له معنىً إِلاَّ الكذب. والإِشارة بقوله: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ إِلى ما كانوا يُحلُّون ويحرِّمون، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وذلك أنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إِلى الله تعالى، ويقولون: هو أمرنا بهذا.
وقوله تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: متاعهم بهذا الذي فعلوه قليل.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني به ما ذكر في الأنعام «٢» وهو قوله:
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريمنا ما حرَّمنا عليهم، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالبغي والمعاصي.
قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ قد شرحناه في سورة النساء «٣»، وشرحنا في البقرة «٤» التوبة والاصلاح، وذكرنا معنى قوله: مِنْ بَعْدِها آنفا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وفلان علاَّمة، ونسَّابة، ويقصدون بهذا التأنيث قصد التناهي في المعنى الذي يصفونه، والعرب قد توقع الأسماء المبهَمة على الجماعة، وعلى الواحد، كقوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ «٥»، وإِنما ناداه جبريل وحده.
وللمفسرين في المراد بالأمّة ها هنا ثلاثة أقوال «٦» : أحدها: أن الأُمَّة: الذي يعلِّم الخير، قاله ابن مسعود، والفراء، وابن قتيبة. والثاني: أنه المؤمن وحده في زمانه، روى هذا المعنى الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: أنه الإِمام الذي يُقتدَى به، قاله قتادة، ومقاتل، وأبو عبيدة، وهو في معنى القول الأول. فأما القانت فقال ابن مسعود: هو المطيع، وقد شرحنا «القنوت» في البقرة «٧» وكذلك الحنيف «٨».
قوله تعالى: وَلَمْ يَكُ قال الزجاج: أصلها: لم يكن، وإِنما حذفت النون عند سيبويه، لكثرة
(١) سورة العاديات: ٨.
(٢) سورة الأنعام: ١٢٦.
(٣) سورة النساء: ١٧.
(٤) سورة البقرة: ١٦٠.
(٥) سورة آل عمران: ٣٩.
(٦) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٧٢٩: الأمة: هو الإمام الذي يقتدى به.
(٧) سورة البقرة: ١١٦- ٢٣٨.
(٨) سورة البقرة: ١٣٥. [.....]
استعمال هذا الحرف، وذكر الجلّة من البصريين أنها إِنما احتملت الحذف، لأنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، وأنها عبارة عن كل ما يمضي من الأفعال وما يستأنف، وأنها قد أشبهت حروف اللين، وأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غُنَّة تخرج من الأنف، فلذلك احتملت الحذف.
قوله تعالى: شاكِراً لِأَنْعُمِهِ انتصب بدلاً من قوله: أُمَّةً قانِتاً وقد ذكرنا واحد الأنعم آنفاً، وشرحنا معنى «الاجتباء» في (الأنعام) «١». قال مقاتل: والمراد بالصّراط المستقيم ها هنا: الإِسلام.
قوله تعالى: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً فيها ستة أقوال «٢» : أحدها: أنها الذِّكْر الحسن، قاله ابن عباس. والثاني: النبوَّة، قاله الحسن. والثالث: لسان صدق، قاله مجاهد. والرابع: اجتماع المِلَل على ولايته، فكلهم يتولّونه ويرضَونه، قاله قتادة. والخامس: أنها الصلاة عليه مقرونة بالصّلاة على محمّد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل بن حيان. والسادس: الأولاد الأبرار على الكِبَر، حكاه الثعلبي. وباقي الآية مفسر في البقرة «٣».
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ملَّتُه: دينُه. وفيما أُمر باتباعه من ذلك قولان:
أحدهما: أنه أُمر باتباعه في جميع ملته، إِلا ما أُمر بتركه، وهذا هو الظاهر. والثاني: اتباعه في التبرُّؤ من الأوثان، والتدين بالإِسلام، قاله أبو جعفر الطبري. وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع المفضول، لأن رسولنا أفضلُ الرسل، وإِنما أمر باتّباعه، لسبقه إلى القول بالحقّ.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
قوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي: إِنما فرض تعظيمه وتحريمه، وقرأ الحسن، وأبو حياة:
«إِنما جَعَل» بفتح الجيم والعين، «السبتَ» بنصب التاء عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ والهاء ترجع إِلى السبت. وفي معنى اختلافهم فيه قولان: أحدهما: أن موسى قال لهم: تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه في يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئاً من صنيعكم، فأبَوا أن يقبلوا ذلك، وقالوا: لا نبتغي إِلاَّ اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل ذلك عليهم، وشدِّد عليهم فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: لما أمرهم موسى بيوم الجمعة، قالوا: نتفرغ يوم السبت، فان الله لم يخلق فيه شيئاً، فقال: إِنما أُمرت بيوم الجمعة، فقال أحبارهم: انتهوا إِلى أمر نبيّكم، فأبوا،
(١) سورة الأنعام: ٨٧.
(٢) قال الإمام الطبري ٧/ ٦٦١ في ذلك: وآتينا إبراهيم على قنوته لله وشكره له على نعمه، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرا حسنا، وثناء جميلا باقيا على الأيام. وقال ابن كثير ٢/ ٧٣٠: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، أي:
جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة.
(٣) سورة البقرة: ١٣٠.
فذلك اختلافهم، فلما رأى موسى حرصهم على السبت، أمرهم به، فاستحلوا فيه المعاصي. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: رأى موسى رجلاً يحمل قصباً يوم السبت، فضرب عنقه، وعكفت عليه الطير أربعين صباحاً. وذكر ابن قتيبة في (مختلف الحديث) : أن الله تعالى بعث موسى بالسبت، ونسخ السبت بالمسيح. والثاني: أنّ بعضهم استحلّه، وبعضهم حرّمه، قاله قتادة.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ قال ابن عباس: نزلت مع الآية التي بعدها، وسنذكر هناك السبب. فأما السبيل، فقال مقاتل: هو دين الإِسلام. وفي المراد بِالْحِكْمَةِ ثلاثة أقوال «١» : أحدها:
أنها القرآن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الفقه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث:
النبوَّة، ذكره الزجاج. وفي وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قولان «٢» : أحدهما: مواعظ القرآن، قاله أبو صالح عن ابن عباس «٣». والثاني: الأدب الجميل الذي يعرفونه، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى:
وَجادِلْهُمْ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم أهل مكّة، قاله أبو صالح. والثاني: أهل الكتاب، قاله مقاتل. وفي قوله: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثلاثة أقوال: أحدها: جادلهم بالقرآن. والثاني: ب «لا آله إِلاّ الله»، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: جادلهم غير فظٍّ ولا غليظ، وأَلِنْ لهم جانبك، قاله الزجاج. وقال بعض علماء التفسير: وهذا منسوخ بآية السيف «٤». قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ المعنى: هو أعلم بالفريقين، فهو يأمرك فيهما بما فيه الصلاح.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ في سبب نزولها قولان:
(٨٨٤) أحدهما: أن رسول الله ﷺ أشرف على حمزة، فرآه صريعاً، فلم ير شيئا كان أوجع لقلبه
عجزه ضعيف. أخرجه البزار ١٧٩٥ من حديث أبي هريرة، وقال: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠١٠٤: فيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف. اهـ. وقد ضعفه ابن كثير أيضا ٢/ ٧٣٢، والوهن فقط في ذكر نزول جبريل، ونزول الآية، ولفظ: «وكفر عن يمينه»، وأما صدره فهو حسن، وله شاهد من حديث أنس، أخرجه ابن سعد ٣/ ١/ ٨ والدارقطني ٤/ ١١٦، وفيه عبد العزيز بن عمران ضعيف.
__________
(١) قال الإمام الطبري ٧/ ٦٦٣: بِالْحِكْمَةِ يقول: بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي نزله عليك.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٧٣١: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس يذكرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى.
(٣) هذا ما اختاره الطبري رحمه الله ٧/ ٦٦٣.
(٤) هذا ما قاله ابن كثير رحمه الله ٢/ ٧٣١.
593
منه، فقال: «والله لأمثلن بسبعين منهم»، فنزل جبريل، والنبيّ ﷺ واقف، بقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إِلى آخرها، فصبر رسول الله وكفَّر عن يمينه، قاله أبو هريرة.
(٨٨٥) وقال ابن عباس: رأى رسول الله ﷺ حمزة قد شُق بطنه، وجُدِعت أذناه، فقال: «لولا أن تحزن النساء أو تكون سنَّة بعدي لتركته حتَّى يبعثه الله من بطون السباع والطير ولأقتلنَّ مكانه سبعين رجلا منهم»، فنزل قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إِلى قوله: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.
(٨٨٦) وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ رسول الله ﷺ قال يومئذٍ: «لَئِن ظفرتُ بقاتل حمزة لأمثلنَّ به مثلة تتحدث بها العرب»، وكانت هند وآخرون معها قد مثّلوا به، فنزلت هذه الآية.
(٨٨٧) والثاني: أنه أصيب من الأنصار يوم أُحدٍ أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، ومثَّلوا بقتلاهم، فقالت الأنصار: لَئِن أصبنا منهم يوماً من الدهر، لنزيدنَّ على عِدَّتهم مرتين، فنزلت هذه الآية، قاله أُبيُّ بن كعب.
(٨٨٨) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن المسلمين قالوا: لَئِن أمكننا الله منهم لنمثِّلنَّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت هذه الآية، يقول: إِن كنتم فاعلين، فمثِّلوا بالأموات، كما مثَّلوا بأمواتكم.
قال ابن الأنباري: وإِنما سمّى فعل المشركين معاقبة وهم ابتدءوا بالمثلة، ليزدوج اللفظان، فيخف على اللسان، كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «١».
فصل: واختلف العلماء، هل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ على قولين «٢» : أحدهما: أنها نزلت قبل (براءة) فأمر رسول الله ﷺ أن يقاتل من قاتله، ولا يبدأ بالقتال، ثم نسخ ذلك، وأمر بالجهاد، قاله
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٧٣ بدون إسناد، وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٣/ ١٠، والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٢٨٧، والواحدي ٥٧٠ و ٥٧٢ من حديث ابن عباس، بإسناد ضعيف جدا، فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، متهم بسرقة الحديث كما في «التقريب»، وقيس بن الربيع تغير لما كبر.
وأيضا هذا إسناد منقطع بين الحكم ومقسم، كما في «تهذيب التهذيب» ٢/ ٣٧٣. وانظر ما قبله.
عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، وانظر ما تقدم.
جيد، أخرجه الترمذي ٣١٢٩، وأحمد ٥/ ١٣٥، والحاكم ٢/ ٣٥٩- ٣٥٨، والنسائي في «التفسير» ٢٩٩، وابن حبان ٤٨٧، من حديث أبي بن كعب. وإسناده حسن لأجل الربيع بن أنس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري ٢١٩٩٦ و ٢١٩٩٧ عن الشعبي مرسلا. وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار، أخرجه الطبري ٢١٩٩٨. وآخر من مرسل قتادة برقم ٢١٩٩٩. وآخر من مرسل ابن جريح برقم ٢٢٠٠٠. فهذه المراسيل تشهد للموصول المتقدم، وترقى به إلى درجة الجودة. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٣٩٦ بتخريجي.
باطل بهذا اللفظ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وتقدم مرارا أنه إسناد ساقط.
__________
(١) سورة الشورى: ٤٠.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦٦٦: وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قبل غيرهم من حق من مال أو نفس، الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره، وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجها صحيحا مفهوما.
594
ابن عباس، والضحاك، فعلى هذا يكون المعنى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن القتال، ثم نسخ هذا بقوله:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١». والثاني: أنها محكمة، وإِنما نزلت فيمن ظُلِم ظُلامة، فلا يحلُّ له أن ينال من ظالمه أكثر مما ناله الظالم منه، قاله مجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن سيرين، والثوري، وعلى هذا يكون المعنى: ولئن صبرتم عن المثلة، لا عن القتال.
قوله تعالى: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي: بتوفيقه ومعونته. وهذا أمر بالعزيمة.
وفي قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قولان «٢» : أحدهما: على كفار مكة إِن لم يُسلموا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ولا تحزن على قتلى أُحُد، فانهم أفضَوا إِلى رحمة الله، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. قوله تعالى: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ قرأ الأكثرون بنصب الضاد، وقرأ ابن كثير: «في ضيق» بكسر الضّاد ها هنا وفي (النمل) «٣». قال الفراء: الضَيق بفتح الضاد: ما ضاق عنه صدرك، والضيّق: ما يكون في الذي يضيق ويتسع، مثل الدار والثوب وأشباه ذلك. وقال ابن قتيبة: الضَّيْق:
تخفيف ضَيِّق، مثل: هَيْن ولَيْن. وهو، إِذا كان على هذا التأويل: صفة، كأنه قال: لا تك في أمر ضَيِّقٍ من مكرهم. قال: ويقال: مكان ضَيْق وضِيق، بمعنى واحد، كما يقال: رَطْلٌ ورِطْلٌ، وهذا أعجب إِليَّ. فأما مكرهم المذكور ها هنا، فقال أبو صالح عن ابن عباس: فعلهم وعملهم. قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ما نهاهم عنه، وأحسنوا فيما أمرهم به، بالعون والنصر.
(١) سورة التوبة: ٥.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٧/ ٦٦٦: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة.
(٣) سورة النمل: ٧٠.
595
Icon