تفسير سورة الأحزاب

الدر المصون
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ وبعده بقليلٍ: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ [الأحزاب: ٩] قرأهما أبو عمروٍ بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطابِ، وهما واضحتان: أمَّا الغَيْبَةُ في الأولِ فلقولِه «الكافرين» و «المنافقين»، وأمَّا الخطابُ فلقولِه: ﴿يا أَيُّهَا النبي﴾ لأنَّ المرادَ هو وأمتُه، أو خوطب بالجمع تعظيماً، كقولِه:
٣٦٧٥ - فإنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ ...............
وجَوَّز الشيخُ أَنْ يكونَ التفاتاً، يعني عن الغائبين الكافرين والمنافقين. وهو بعيدٌ. وأمَّا الغَيْبَةُ في الثاني فلقولِه: ﴿إِذْ جَآءَتْكُمْ﴾ [الأحزاب: ٩]. وأمَّا الخطابُ فلقولِه: ﴿ياأيها الذين آمَنُوا﴾ [الأحزاب: ٩].
قوله: ﴿اللائي﴾ : قرأ الكوفيون وابن عامر بياءٍ ساكنةٍ بعد همزةٍ مكسورةٍ. وهذا هو الأصلُ في هذه اللفظةِ لأنه جمعُ «التي» معنًى. وأبو عمروٍ والبزيُّ «اللاَّيْ» بياءٍ ساكنةٍ وصلاً بعد ألفٍ مَحْضَةٍ في أحدِ وجهَيْهما. ولهما وجهٌ آخرُ سيأتي.
ووجهُ هذه القراءةِ أنهما حَذَفا الياءَ بعد الهمزةِ تخفيفاً، ثم أبدلا الهمزةَ ياءً، وسَكَّناها لصيرورتِها ياءً مكسوراً ما قبلها كياءِ القاضي والغازِي، إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس، وإنما القياسُ جَعْلُ الهمزةِ بينَ بينَ. قال أبو علي: «لا يُقْدَمُ على مثلِ هذا البدلِ إلاَّ أَنْ يُسْمَعَ». قلت: قال أبو عمروٍ ابن العلاء: «إنها لغةُ قريشٍ التي أُمِر الناسُ أَنْ يَقْرَؤوا بها». وقال بعضهم: لم يُبْدِلوا وإنما كتبوا فعبَّر عنهم القُرَّاء بالإِبدال. وليس بشيء.
وقال أبو علي وغيره: «إظهارُ أبي عمرو» اللايْ يَئِسْنَ «يدلُّ على أنه يُسَهِّلُ ولم يُبْدِلْ» وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ البدلَ عارضٌ. فلذلك لم يُدْغِمْ. وقرآ - هما أيضاً - وورشٌ بهمزةٍ مُسَهَّلة بينَ بينَ. وهذا الذي زعم بعضُهم أنه لم يَصِحَّ عنهم غيرُه وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، وإذا وقفوا سكَّنوا الهمزةَ، ومتى سَكَّنوها استحالَ تسهيلُها بينَ بينَ لزوالِ حركتِها/ فتُقْلَبُ ياءً لوقوعِها ساكنةً بعد كسرةٍ، وليس مِنْ مذهبِهم تخفيفُها فتُقَرَّ همزةً.
وقرأ قنبل وورشٌ بهمزةٍ مكسورةٍ دونَ ياءٍ، حَذَفا الياءَ واجتَزَآ عنها
92
بالكسرةِ. وهذا الخلافُ بعينِه جارٍ في المجادلة أيضاً والطلاق.
قوله: «تُظاهِرون» قرأ عاصمٌ «تُظاهِرون» بضم التاء وكسر الهاءِ بعد ألفٍ، مضارعَ ظاهَرَ. وابنُ عامرٍ «تَظَّاهرون» بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارعَ تَظاهَر. والأصل «تتظاهرون» بتاءَيْن فأدغم. والأخوان كذلك، إلاَّ أنهما خَفَّفا الظاءَ. والأصل أيضاً بتاءَيْن. إلاَّ أنهما حَذَفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو: إمَّا الإِدغامُ، وإمَّا الحَذْفُ. وقد تقدَّم تحقيقُه في نحو: «يَذَّكَّرْ» و «تَذَكَّرُون» مثقلاً ومخففاً. وتقدَّم نحوُه في البقرة أيضاً.
والباقون «تَظَّهَّرون» بفتح التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاء والهاء دونَ ألفٍ. والأصل: تَتَظَهَّرُوْن بتاءَيْن فأدغَم نحو: «تَذَكَّرون». وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتِهِم هنا في قوله: ﴿يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [المجادلة: ٣] إلاَّ الأخَوَيْن، فإنَّهما خالَفا أصلهما هنا فقرآ في المجادلة بتشديدِ الظاءِ كقراءةِ ابنِ عامر. والظِّهارُ مشتقٌّ من الظَّهْرِ. وأصلُه أن يقولَ الرجلُ لامرأتِه: «أنتِ علي كظهرِ أمي»، وإنما لم يَقْرأ الأخَوان بالتخفيفِ في المجادلة لعدم المسوِّغِ له وهو الحذفُ؛ لأنَّ الحذفَ إنما كان لاجتماع مِثْلَيْن وهما التاءان، وفي المجادِلة ياءٌ من تحتُ
93
وتاءٌ من فوقُ، فلم يجتمعْ مِثْلان فلا حَذْفَ، فاضْطُرَّ إلى الإِدغام.
هذا ما قُرِئ به متواتراً.
وقرأ ابنُ وثَّاب «تُظْهِرُون» بضم التاء وسكون الظاء وكسرِ الهاء مضارعَ أَظْهَرَ. وعنه أيضاً «تَظَهَّرُون» بفتح التاء والظاءِ مخففةً، وتشديدِ الهاء، والأصل: تَتَظَهَّرون، مضارعَ تَظَهَّر مشدداً فحذف إحدى التاءين. وقرأ الحسن «تُظَهِّرون» بضمِّ التاء وفتح الظاءِ مخففةً وتشديد الهاء مكسورةً مضارعَ ظَهَّر مشدداً. وعن أبي عمروٍ «تَظْهَرُون» بفتحِ التاء والهاء وسكونِ الظاءِ مضارعَ «ظهر» مخففاً. وقرأ أُبَي - وهي في مصحفِه كذلك - تَتَظَهَّرون بتاءَيْن. فهذه تسعُ قراءات: أربعٌ متواترةٌ، وخمسٌ شاذةٌ. وأَخْذُ هذه الأفعالِ مِنْ لفظِ الظَّهْر كأَخْذِ لَبَّى من التَّلْبية، وتأَفَّفَ مِنْ أُفٍّ. وإنما عُدِّي ب «مِنْ» لأنه ضُمِّن معنى التباعد. كأنه قيل: يتباعَدُون مِنْ نسائِهم بسببِ الظِّهار كما تقدَّم في تعديةِ الإِيلاء ب «مِنْ» في البقرة.
قوله: «ذلكمْ قولُكم» مبتدأٌ وخبرٌ أي: دعاؤكُم الأدعياءَ أبناءً مجردُ قولِ لسانٍ مِنْ غيرِ حقيقةٍ. والأَدْعياءُ: جمعُ دَعِيّ بمعنى مَدْعُوّ فَعيل بمعنى مَفْعول. وأصلُه دَعِيْوٌ فأُدْغم ولكن جَمْعَه على أَدْعِياء غيرُ مَقيس؛ لأنَّ أَفْعِلاء إنما يكونُ جمعاً لفَعيل المعتلِّ اللامِ إذا كان بمعنى فاعِل نحو: تقِيّ وأَتْقِياء، وغَنيّ
94
وأغنياء، وهذا وإنْ كان فَعيلاً معتلَّ اللام إلاَّ أنه بمعنى مَفْعول، فكان قياسُ جمعِه على فَعْلَى كقتيل وقَتْلَى وجريح وجَرْحى. ونظيرُ هذا في الشذوذِ قولُهم: أَسير وأُسَراء، والقياس أَسْرَى، وقد سُمِع فيه الأصل.
95
قوله: ﴿هُوَ أَقْسَطُ﴾ : أي: دعاؤُهم لآبائهم، فأضمرَ المصدرَ لدلالةِ فعلِه عليه كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨].
قوله: ﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها مجرورةُ المحلِّ عطفاً على «ما» قبلها المجرورةِ ب «في»، والتقديرُ: ولكنَّ الجُناحَ فيما تعمَّدت. والثاني: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ. تقديرُه: تُؤَاخَذُون به، أو عليكم فيه الجُناحُ. ونحوُه.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ : أي: مثلُ أمِّهاتهم في الحكمِ. ويجوزُ أن يُتناسى التشبيهُ، ويُجْعلون أمَّهاتِهم مبالغةً.
قوله: «بعضُهم» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بدلاً من «أُوْلُو». والثاني: أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ.
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «أَوْلَى» ؛ لأنَّ أَفْعَلَ التفضيلِ يعملُ في الظرفِ. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في «أَوْلَى» والعاملُ فيها «أَوْلَى» لأنها شبيهةٌ بالظرفِ. / ولا جائزٌ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «أُوْلُو» للفَصْلِ بالخبرِ، ولأنَّه لا عامِلَ فيها.
قوله: «من المؤمنين» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها «مِنْ» الجارَّةُ للمفضولِ كهي في «زيدٌ أفضلُ من عمروٍ» المعنى: وأُولو الأرحامِ أَوْلَى بالإِرثِ من المؤمنين والمهاجرين الأجانب. والثاني: أنَها للبيانِ جيْءَ بها بياناً
95
لأُوْلي الأرحامِ، فتتعلَّق بمحذوف أي: أعني. والمعنى: وأُولوا الأرحام من المؤمنين أَوْلَى بالإِرث مِن الأجانب.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تفعلوا﴾ هذا استثناءٌ مِنْ غيرِ الجنس، وهو مستثنىً مِنْ معنى الكلامِ وفحواه، إذ التقديرُ: أُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعض في الإِرث وغيرِه، لكن إذا فَعَلْتُمْ مع غيرِهم مِنْ أوليائِكم خيراً كان لكم ذلك. وعُدِّي «تَفْعَلوا» ب «إلى» لتضمُّنِه معنى تَدْخُلوا.
96
قوله ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا﴾ : يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكر. أي: واذْكُرْ إذ أَخَذْنا. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ «في الكتاب» فيعملَ فيه «مَسْطُوراً» أي: كان هذا الحكمُ مَسْطوراً في الكتاب ووقتِ أَخْذِنا.
قوله: «ميثاقاً غليظاً» هو الأولُ، وإنما كُرِّر لزيادةِ صفتِه وإيذاناً بتوكيده.
قوله: ﴿لِّيَسْأَلَ﴾ : فيها وجهان، أحدُهما: أنها لامُ كي أي: أَخَذْنا ميثاقَهم ليَسْأل المؤمنين عن صدقهم، والكافرين عن تكذيبهم، فاستغنى عن الثانِي بذِكْر مُسَبِّبه وهو قولُه: «وأَعدَّ». والثاني: أنها للعاقبة أي: أَخَذَ الميثاقَ على الأنبياء ليصيرَ الأمرُ إلى كذا. ومفعولُ «صدقِهم» محذوفٌ أي: صِدْقِهم عهدَهم. ويجوز أن يكون «صِدْقِهم» في معنى «تَصْديقهم»، ومفعولُه محذوفٌ أيضاً أي: عن تصديقِهم الأنبياءَ.
قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين» ؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ
96
إلى دينه لإِثابة المؤمنين وأعَدَّ للكافرين. وقيل: إنه قد حَذَفَ من الثاني ما أثبت مقابلَه في الأول، ومن الأولِ ما أثبتَ مقابلَه في الثاني. والتقدير: ليسألَ الصادقينِ عن صِدْقِهم فأثابهم، ويَسْألَ الكافرين عَمَّا أجابوا به رُسُلَهم، وأعَدَّ لهم عذاباً أليماً.
97
قوله: ﴿إِذْ جَآءَتْكُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب «نعمةَ» أي: النعمة الواقعة في ذلك الوقتِ. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكروا على أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «نعمة» بدلَ اشتمال.
قوله: ﴿إِذْ جَآءُوكُمْ﴾ : بدلٌ من «إذ» الأولى. وقرأ الحسنُ «الجَنود» بفتح الجيم. والعامَّةُ بضمِّها. و «جنوداً» عطفٌ على «ريحاً». و «لم تَرَوْها» صفةٌ لهم. ورُوِي عن أبي عمرو وأبي بكرة «لم يَرَوْها» بياءِ الغَيْبة.
قوله: «الحَناجرَ» جمع حَنْجَرة وهي رأسُ الغَلْصَمَة، والغَلْصَمَةُ مُنتهى الحُلْقوم، والحُلْقُوْمُ مَجْرى الطعامِ والشرابِ. وقيل: الحُلْقُوم مَجْرى النَّفَس، والمَرِي: مَجْرى الطعام والشراب وهو تحت الحُلْقوم. وقال الراغب: «رأسُ الغَلْصَمَة من خارج».
97
وقوله: «الظنونا» قرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر بإثبات ألفٍ بعد نون «الظُّنونا» ولامِ «الرسول» في قوله: ﴿وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ [الأحزاب: ٦٦] ولام «السَّبيل» في قوله: ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: ٦٧] وَصْلاً ووَقْفاً موافقةً للرسمِ؛ لأنهنَّ رُسِمْنَ في المصحف كذلك. وأيضاً فإنَّ هذه الألفَ تُشْبه هاءَ السكتِ لبيانِ الحركة، وهاءُ السكتِ تَثْبُتُ وقفاً، للحاجة إليها. وقد ثَبَتَتْ وصلاً إجراءً للوصل مُجْرى الوقف كما تقدَّم في البقرة والأنعام. فكذلك هذه الألفُ. وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ بحَذْفِها في الحالَيْن؛ لأنها لا أصلَ لها. وقولُهم: «أُجْرِيَتْ الفواصلُ مُجْرى القوافي» غيرُ مُعْتَدٍّ به؛ لأنَّ القوافي يَلزَمُ الوقفُ عليها غالباً، والفواصلُ لا يَلْزَمُ ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها. والباقون بإثباتِها وَقْفاً وحَذْفِها وَصْلاً إجراءً للفواصلُ مُجْرى القوافي في ثبوتِ ألفِ الإِطلاق كقولِه:
٣٦٧٦ - اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا
وقوله:
٣٦٧٧ - أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا
ولأنها كهاءِ السكت، وهي تَثْبُتُ وقفاً وتُخَفَّفُ وصلاً. قلت: كذا يقولون
98
تشبيهاً للفواصلِ بالقوافي، وأنا لا أحب هذه العبارةَ فإنها مُنْكَرَة لفظاً ولا خلافَ في قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ [الأحزاب: ٤] أنه بغيرِ ألفٍ في الحالين.
قوله: «هنالك» منصوبٌ ب «ابْتُلِيَ» وقيل: ب «تَظُنُّون». واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما: أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي: في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني: أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك:
٣٦٧٨ - وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
قوله: «وزُلْزِلُوا» قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى. وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً. ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ، كقولهم: «مِنْتِن» بكسرِ الميم، والأصل ضمُّها.
قوله: «زِلْزالاً» مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي.
99
وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو: زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو: صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل.
100
قوله :" هنالك " منصوبٌ ب " ابْتُلِيَ " وقيل : ب " تَظُنُّون ". واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما : أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي : في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني : أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك :
وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
قوله :" وزُلْزِلُوا " قرأ العامَّةُ بضمِّ الزاي الأولى وكسرِ الثانية على أصل ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ورَوَى غيرُ واحدٍ عن أبي عمروٍ كَسْرَ الأولى. وروى الزمخشريُّ عنه إشمامَها كسراً. ووجهُ هذه القراءةِ أَنْ يكونَ أتبعَ الزايَ الأولى للثانيةِ في الكسرِ، ولم يَعْتَدَّ بالساكنِ لكونِه غيرَ حصينٍ، كقولهم :" مِنْتِن " بكسرِ الميم، والأصل ضمُّها.
قوله :" زِلْزالاً " مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي. وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو : زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو : صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل.
قوله: ﴿ياأهل يَثْرِبَ﴾ : يثرب اسمُ المدينةِ. وامتناعُ صَرْفها إمَّا: للعلميةِ والوزنِ، أو للعلميَّةِ والتأنيثِ، وأمَّا «يَتْرَب» بالتاء المثناة وفتح الراء فموضعٌ آخرُ قال:
٣٦٧٩ -....................... مواعيدَ عُرْقوبٍ أخاه بيَتْرَبِ
قوله: ﴿لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ قرأ حفصٌ بضم الميم، ونافع وابن عامر بضم ميمِه أيضاً في الدخان في قوله: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ﴾ [الدخان: ٥١] ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه بالفتح وهو ﴿وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الدخان: ٢٦] والباقون بفتح الميم في الموضعين. والضمُّ والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله: ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً﴾ [مريم: ٧٣]
100
قوله: «عَوْرَةٌ» أي: ذاتُ عَوْرة. وقيل: منكشِفةٌ للسارقِ. قال الشاعر:
٣٦٨٠ - له الشَّدَّةُ الأُوْلى إذا القِرْنُ أَعْورا... وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وآخرون «عَوِرة» بكسرِ الواو، وكذلك ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ وهي اسمُ فاعلٍ يُقال: عَوِر المنزلُ يَعْوَر عَوْراً وعَوْرَة فهو عَوِر وبيوتٌ عَوْرَةٌ. قال ابن جني: «تصحيحُ الواوِ شاذٌ» يعني حيث تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ألفاً. وفيه نظرٌ لأنَّ شرطَ ذاك في الاسم الجاري على الفعلِ أَنْ يَعْتَلَّ فِعْلُه نحو: مَقام ومَقال. وأمَّا هذا ففعلُه صحيحٌ نحوَ: عَوِر. وإنما صَحَّ الفعلُ وإنْ كان فيه مُقْتضى الإِعلال لِمَدْرَكٍ آخرَ: وهو أنه في معنى ما لا يُعَلُّ وهو أَعْوَر ولذلك لم يُتَعَجَّبْ مِنْ عَوِر وبابه. وأَعْوَرَ المنزلُ: بَدَتْ عَوْرَتُه، وأَعْوَرَ الفارسُ: بدا منه خَلَلٌ للضربِ. قال الشاعر:
101
قوله: ﴿مِّنْ أَقْطَارِهَا﴾ : الأَقْطار جمع قُطْر بضمِّ
101
القاف، وهي الناحيةُ. وفيه لغةٌ: قُتْر وأَقْتار بالتاء. والقُطْر: الجانب أيضاً. ومنه قَطَرْتُه أي: أَلْقَيْتُه على قُطْرِه فَتَقَطَّر أي: وقع عليه. قال الشاعر:
٣٦٨١ - متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيتِ مُعْوِراً ولاَ الضيفَ مَسْجوراً ولا الجارَ مُرْسَلاً
٣٦٨٢ - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ما قَطَّر الفارسَ إلاَّ أنا
وفي المَثَل «الانفضاض يقطر الحلب» تفسيرُه: أنَّ القومَ إذا انَفَضُّوا أي: فَني زادُهم احتاجوا إلى حَلْبِ الإِبلِ. وسُمِّي القَطْرا قَطْراً لسقوطِه.
قوله: «ثم سُئِلوا» قرأ مجاهد «سُوْيِلُوا» بواوٍ ساكنة ثم ياءٍ مكسورةٍ كقُوتلوا. حكى أبو زيد هما يَتَساوَلان بالواو. والحسنُ «سُوْلُوا» بواوٍ ساكنةٍ فقط، فاحتملت وجهين، [أحدهما] : أَنْ يكونَ أصلُها سُئِلوا كالعامَّةِ ثم خُفِّفَتِ الكسرةُ فسَكَنَتْ، كقولِهم في «ضَرِب» بالكسر: ضَرْب بالسكون فَسَكَنت الهمزةُ بعد ضمة فقُلِبت واواً نحو: بُوْس في بُؤْس. والثاني: أن تكونَ مِنْ لغة الواو. ونُقل عن أبي عمرو أنه قرأ «سِيْلُوا» بياءٍ ساكنةٍ بعد كسرةٍ نحو: مِيْلُوا.
قوله: «لأَتَوْها» قرأ نافعٌ وابن كثيرِ بالقصر بمعنى لَجأْؤُوْها
102
وغَشِيُوها. والباقون بالمدِّ بمعنى: لأَعْطَوْها. ومفعولُه الثاني محذوفٌ تقديره: لآتَوْها السَّائلين. والمعنى: ولو دَخَلْتَ البيوتَ أو المدينة مِنْ جميع نواحيها، ثم سُئِل أهلُها الفتنةَ لم يمتنعوا من إعطائِها. وقراءةُ المَدِّ تَسْتَلْزِمُ قراءةَ القصرِ من غيرِ عكسٍ بهذا المعنى الخاص.
قوله: «إلاَّ يَسِيراً» أي: إلاَّ تَلَبُّثاً أو إلاَّ زماناً يسيراً. وكذلك قولُه: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: ١٦] أي: إلا تَمَتُّعاً أو إلاَّ زماناً قليلاً.
103
قوله: ﴿لاَ يُوَلُّونَ﴾ : جوابٌ لقولِه «عاهَدوا» لأنَّه في معنى أَقْسَموا. وجاء على حكايةِ اللفظ فجاء بلفظِ الغَيْبة/ ولو جاء على حكايةِ المعنى لقيل: لا يُوَلِّي. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي: لا يُوَلُّون العَدُوَّ الأدبارَ. وقال أبو البقاء: «ويُقرأ بتشديد النون وحَذْفِ الواوِ على تأكيدِ جواب القسم». قلت: ولا أظنُّ هذا إلاَّ غلطاً منه، وذلك أنه: إمَّا أَنْ يُقْرأ مع ذلك ب «لا» النافية أو بلامِ التأكيد. الأولُ لا يجوزُ؛ لأنَّ المضارع المنفيَّ ب «لا» لا يؤكَّد بالنون إلاَّ ما نَدَر، مِمَّا لا يُقاس عليه. والثاني فاسدُ المعنى.
قوله: ﴿إِن فَرَرْتُمْ﴾ : جوابُه محذوفٌ لدلالةِ النفيِ قبلَه عليه، أو متقدِّمٌ عند مَنْ يرى ذلك.
قوله: ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ﴾ «إذن» جوابٌ وجزاءٌ. ولمَّا وقعَتْ بعد عاطفٍ جاءَتْ على الأكثر، وهو عدمُ إعمالِها، ولم يَشِذَّ هنا ما شَذَّ في الإِسراء فلم
103
يُقْرأ بالنصب. والعامَّةُ على الخطاب في «تُمَتَّعون». وقُرِئ بالغَيْبة.
104
قوله: ﴿مَن ذَا الذي﴾ : قد تقدَّم في البقرة. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: كيف جُعِلَتِ الرحمةُ قرينةَ السوءِ في العِصْمة، ولا عِصْمَةَ إلاَّ من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكم رحمةً، فاختصر الكلامَ وأجري مُجْرى قولِه:
٣٦٨٣ -........................... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً
أو حُمِلَ الثاني على الأول، لِما في العِصْمة من معنى المَنْع»
. قال الشيخ: «أمَّا الوجهُ الأولُ ففيه حَذْفُ جملةٍ لا ضرورةَ تَدْعو إلى حَذْفِها، والثاني هو الوجهُ، لا سيما إذا قُدِّر مضافٌ محذوفٌ أي: يَمْنَعُكم مِنْ مراد الله» قلت: وأين الثاني مِن الأول ولو كان معه حَذْفُ جُمَلٍ؟
قوله: ﴿هَلُمَّ﴾ : قد تقدَّم الكلامُ فيه آخرَ الأنعام. وهو هنا لازمٌ وهناك متعدٍّ لنصبِه مفعولَه وهو «شُهداءَكم» بمعنى: أَحْضِروهم
104
وههنا بمعنى احْضَروا وتعالَوْا، وكلامُ الزمخشريِّ هنا مُؤْذِنٌ بأنه متعدٍّ أيضاً، وحُذِفَ مفعولُه فإنه قال: وَهلمُّوا إلينا أي: قَرِّبوا أنفسَكم إلينا قال: وهي صوتٌ سُمِّي به فعلٌ متعدٍّ مثل: أحضِرْ وقََرِّب. وفي تسميته إياه صَوْتاً نظرٌ؛ إذ أسماءُ الأصواتِ محصورةٌ ليس هذا منها.
105
قوله: ﴿أَشِحَّةً﴾ : العامَّةُ على نصبه. وفيه وجهان، أحدهما، أنَّه منصوبٌ على الشتم. والثاني: على الحال. وفي العاملِ فيه أوجهٌ، أحدها: «ولا يأتون» قاله الزجاج. الثاني: «هلمَّ إلينا». قاله الطبري. الثالث: يُعَوِّقُون مضمراً. قاله الفراء. الرابع: المُعَوِّقين. الخامس: «القائلين». ورُدَّ هذان الوجهان الأخيران: بأنَّ فيهما الفصلَ بين أبعاضِ الصلة بأجنبي. وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنَّ الفاصلَ بين أبعاضِ الصلةِ مِنْ متعلَّقاتها. وإنما يظهر الردُّ على الوجه الرابعِ لأنه قد عُطِفَ على الموصولِ قبل تمامِ صلتِه فتأمَّلْه فإنه حَسَنٌ. وأمَّا «ولا يأتُون» فمعترِضٌ، والمعترضُ لا يمنعُ من ذلك.
وقرأ ابن أبي عبلة «أَشِحَّةٌ» بالرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم أَشِحَّةٌ. وأشحَّة جَمْعُ شَحيح، وهو جمعٌ لا ينقاس؛ إذ قياسُ فَعِيل الوصفِ الذي عينُه ولامُه مِنْ وادٍ واحدِ أن يُجْمَعَ على أفْعِلاء نحو: خليل وأَخِلاَّء، وظَنين وأَظِنَّاء وضَنين وأَضِنَّاء. وقد سُمِعَ أشِحَّاء، وهو القياس. والشُّحُّ: البخل. وقد تقدَّم في آل عمران.
105
قوله: «يَنْظُرون» في محلِّ حالٍ مِنْ مفعول «رَأَيْتَهم» لأن الرؤيةَ بَصَرية.
قوله: «تَدُورُ» إمَّا حالٌ ثانية، وإمَّا حالٌ مِنْ «يَنْظُرون».
قوله: «كالذي يُغْشَى» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً مِنْ «أعينُهم» أي: تدورُ أعينُهم حالَ كونِها مُشْبِهَةً عينَ الذي يُغْشى عليه من الموتِ. الثاني: أنه نعتُ مصدرٍ مقدَّرٍ لقوله «يَنْظُرون» تقديرُه: ينظرون إليك نَظَراً مثلَ نَظَرِ الذي يُغْشى عليه من الموت، ويُؤَيَّدُهُ الآيةُ الأخرى «يَنْظُرون إليك نَظَرَ المَغْشِيِّ عليه من الموت». الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ مقدَّرٍ أيضاً ل «تدورُ» أي: دَوَراناً مثلَ دَوَرانِ عَيْنِ الذي. وهو على الوجهين مصدرٌ تشبيهيٌّ.
قوله: «سَلَقوكم» يقال: سَلَقه أي: اجترأ عليه في خِطابه، وخاطبه مُخاطبةً بليغةً. وأصلُه البَسْط ومنه: سَلَقَ امرأتَه أي: بَسَطَها وجامَعَها. قال مسيلمةُ لسجاح لعنهما الله تعالى: /
٣٦٨٤ - ألا هُبِّي إلى المضجَعْ... فإنْ شِئْتِ سَلَقْنَاك... وإن شِئْتِ على أربعْ
والسَّليقَةُ: الطبيعةُ المتأتِّيَةُ. والسَّلِيقُ: المَطمئنُّ من الأرض. وخطيبٌ مِسْلاق وسَلاَّق. ويقال بالصاد قال الشاعر:
106
٣٦٨٥ - فَصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقَةً وصُداءٍ أَلْحَقَتْهُمْ بالثَّلَلْ
و «أشحةً» نصب على الحال مِنْ فاعلِ «سَلَقُوكم». وابن أبي عبلة على ما تقدَّم في أختها.
107
قوله: ﴿يَحْسَبُونَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً أي: هم من الخوفِ بحيث إنهم لا يُصَدِّقُوْن أن الأحزابَ قد ذهبوا عنهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ أحدِ الضمائر المتقدمةِ إذا صَحَّ المعنى بذلك، ولو بَعُدَ العاملُ، كذا قال أبو البقاء.
قوله: «بادُوْن» هذه قراءةُ العامَّةِ جمعُ بادٍ. وهو المُقيم بالباديةِ. وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وابن يعمر «بُدَّى» بضم الباءِ وتشديدِ الدالِ مقصوراً كغازٍ وغُزَّى، وسارٍ وسُرَّى. وليس بقياسٍ. وإنما قياسُه في التكسير «بُداة» كقُضاة وقاضٍ. ولكنْ حُمِلَ على الصحيح كقولِهم: «ضُرَّب». ورُوِي عن ابن عباس أيضاً قراءةٌ ثانيةٌ «بَدِيْ» بزنةِ عَدِي، وثالثةٌ «بَدَوْا» فعلاً ماضياً.
قوله: «يَسْألون» يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعِل «يَحْسَبُون». والعامَّةُ على سكونِ السين بعدها همزةٌ. ونَقَل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى السينِ كقولِه: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١]. وهذه ليسَتْ بالمشهورةِ عنهما، ولعلها نُقِلَتْ عنهما شاذَّةً، وإنما
107
هي معروفةٌ بالحَسَنِ والأعمش. وقرأ زيد بن علي والجحدري وقتادة والحسن «يَسَّاءَلُون» بتشديدِ السين والأصلُ: يتساءَلون فأدغم أي: يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً.
108
قوله: ﴿أُسْوَةٌ﴾ : قرأ عاصم بضمِّ الهمزة حيث وقعَتْ هذه اللفظةُ. والباقون بالكسر. وهما لغتان كالعِدْوَة والعُدْوَة، والقِدوة والقُدْوَة.
والأُسْوة بمعنى الاقتداء. وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المصدرِ وهو الائْتِساء، فالأُسْوَةُ من الائتساء كالقُدْوة من الاقتداء. وائْتَسَى فلانٌ بفلانٍ أي اقتدى به. و «أسوةٌ» اسمُ «كان». وفي الخبرِ وجهان، أحدهما: هو «لكم» فيجوزُ في الجارِّ الآخرِ وجوهٌ: التعلُّقُ بما يتعلَّقُ به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «أُسْوَة»، إذ لو تأخَّر لكان صفةً، أو ب «كان» على مذهبِ مَنْ يراه. والثاني: أنَّ الخبرَ هو ﴿فِي رَسُولِ الله﴾، و «لكم» على ما تَقَدَّم في ﴿فِي رَسُولِ الله﴾، أو تتعلَّقُ بمحذوفٍ على التبيين أي: أَعْني لكم.
قوله: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ من الكافِ في «لكم»، قاله الزمخشري. وقد منعه أبو البقاء. وتابعه الشيخُ. قال أبو البقاء: «وقيل: هو بدلٌ مِنْ ضمير المخاطبِ بإعادةِ الجارِّ. ومَنَعَ منه
108
الأكثرون؛ لأنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبْدَلُ مِنْه». وقال الشيخُ: «قال الزمخشريُّ: بدلٌ من» لكم «كقولِه: ﴿لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ [الأعراف: ٧٥] قال:» ولا يجوزُ على مذهب جمهورِ البصريين أن يُبْدَلَ من ضميرِ المتكلم ولا من ضمير المخاطب بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ، وهما لعينٍ واحدةٍ. وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش. وأنشد:
٣٦٨٦ - بكم قُرَيْشٍ كُفِيْنا كلَّ مُعْضِلَةٍ وأَمَّ نَهْجَ الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا
قلت: لا نُسَلِّمُ أنَّ هذا بدلُ شيءٍ مِنْ شيءٍ وهما لعينٍ واحدة، بل بدلُ بعضٍ مِنْ كل باعتبارِ الواقع؛ لأنَّ الخطابَ في قولِه «لكم» أَعَمُّ مِنْ ﴿مَن كَانَ يَرْجُو الله﴾ وغيرِه، ثم خَصَّصَ ذلك العمومَ لأنَّ المتأسِّيَ به عليه السلام في الواقعِ إنما هم المؤمنون. ويَدُلُّك على ما قلتُه ظاهرُ تشبيهِ الزمخشريِّ هذه الآيةَ بآيةِ الأعراف، وآيةُ الأعرافِ البدلُ فيها بدلُ كل مِنْ كل. ويُجاب: بأنَّه إنما قَصَد التشبيهَ في مجردِ إعادةِ العاملِ.
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «حَسَنةٌ». الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بنفس «حَسَنة» قالهما أبو البقاء. ومَنَعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «أُسْوَة» قال: «لأنها قد وُصِفَتْ». و «كثيراً» أي: ذِكْراً كثيراً.
109
قوله: ﴿وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ﴾ : مِنْ تكريرِ الظاهرِ تعظيماً كقوله:
109
٣٦٨٧ - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ...............................
ولأنه لو أعادَهما مُضْمَرَيْنِ لجَمَعَ بين اسمِ الباري تعالى واسمِ رسولِه في لفظةٍ واحدةٍ، فكان يُقال: وصدقا، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد كَرِه ذلك، / وردَّ على مَنْ قاله حيث قال: «مَنْ يطعِ اللَّهَ ورسولَه فقد رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهما فقد غَوى». وقال له: «بِئْسَ خطيبُ القومِ أنت. قل: ومن يَعْصِ اللَّهَ ورسولَه» قصداً إلى تعظيمِ اللَّهِ. وقيل: إنما رَدَّ عليه لأنه وقف على «يَعْصِهما». وعلى الأولِ استشكل بعضُهم قولَه [عليه السلام] :«حتى يكونَ اللَّهَ ورسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سِواهما» فقد جَمَعَ بينهما في ضميرٍ واحدٍ. وأُجيبَ: بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أعرفُ بقَدْرِ اللَّهِ تعالى مِنَّا فليس لنا أَنْ نقولَ كما يقول.
قوله: «وما زادَهُمْ» فاعلُ «زادهم» ضميرُ الوَعْدِ أي: وما زادهم وَعْدُ اللَّهِ أو الصدقُ. وقال مكي: «ضميرُ النظر؛ لأنَّ قولَه:» لَمَّا رأى «بمعنى: لَمَّا نظر». وقال أيضاً: «وقيل: ضمير الرؤية. وإنما ذُكِّر لأن تأنيثها غيرُ حقيقي» ولم يَذْكُرْ غيرَهما. وهذا عجيبٌ منه؛ حيث حَجَّر واسعاً مع الغُنْيَةِ عنه.
وقرأ ابنُ أبي عبلة «وما زادُوهم» بضمير الجمع. ويعود للأحزابِ؛
110
لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أخبرهم أنَّ الأحزابَ تَأْتيهم بعد عشرٍ أو تسعٍ.
111
قوله: ﴿صَدَقُواْ﴾ :«صَدَقَ» يتعدَّى لاثنين لثانيهما بحرفِ الجرِّ، ويجوز حَذْفُه. ومنه المثل: «صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ» أي في سِنِّ. والآيةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مِنْ هذا، والأولُ محذوفٌ أي: صدقوا الله فيما عاهدوا اللَّهَ عليه. ويجوز أَنْ يتعدَّى لواحدٍ كقولك: صَدَقني زيدٌ وكَذَبني عمرو أي: قال لي الصدقَ، وقال لي الكذبَ. ويكون المعاهَدُ عليه مصدوقاً مجازاً. كأنهم قالوا للشيءِ المُعاهَد عليه: لنُوفِيَنَّ بك وقد فعلوا. و «ما» بمعنى الذي؛ ولذلك عاد عليها الضميرُ في عليه. وقال مكي: «ما» في موضعِ نصبٍ ب صَدَقوا. وهي والفعلُ مصدرٌ تقديرُه: صَدَقوا العهدَ أي: وَفَوْا به «وهذا يَرُدُّه عَوْدُ الضميرِ. إلاَّ أنَّ الأخفشَ وابنَ السراج يذهبان إلى اسميةِ» ما «المصدريةِ.
قوله:»
قضى نَحْبَه «النَّحْبُ: ما التزمه الإِنسانُ، واعتقد الوفاءُ به.
قال:
111
وقال آخر:
٣٦٨٨ - عَشِيَّةَ فَرَّ الحارِثيُّون بعدَما قضى نَحْبَه في مُلْتَقَى القومِ هَوْبَرُ
٣٦٨٩ - بطَخْفَةَ جالَدْنا الملوكَ وخَيْلُنا عَشيَّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ على نَحْبِ
أي: على أَمْرٍ عظيمٍ؛ ولهذا يُقال: نَحَبَ فلانٌ أي: نَذَرَ نَذْراً التزمه، ويُعَبَّر به عن الموتِ كقولِهم:» قَضَى أجله «لَمَّا كان الموتُ لا بُدَّ منه جُعِل كالشيءِ الملتَزمِ. والنَّحِيْبُ: البكاءُ معه صَوْتٌ. والنُّحاب: السُّعالُ.
112
قوله: ﴿لِّيَجْزِيَ الله﴾ : في اللام وجهان، أحدهما: أنها لامُ العلة. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ. وفي ما تتعلَّقُ به أوجهٌ: إمَّا ب «صَدَقوا»، وإمَّا ب «زادهم»، وإما ب «ما بَدَّلُوا» وعلى هذا قال الزمخشري: «جُعِل المنافقون كأنهم قَصَدوا عاقبةَ السوءِ، وأرادُوها بتبديلهم، كما قَصَدَ الصادقون عاقبةَ الصدقِ بوفائِهم؛ لأنَّ كلا الفريقَيْنِ مَسُوقٌ إلى عاقبتِه من الثوابِ والعقاب، فكأنَّهما اسْتَوَيا في طلبهما والسَّعْيِ لتحصيلهما».
قوله: «إنْ شاءَ» جوابُه مقدَّرٌ. وكذلك مفعول «شاء». أي: إنْ شاءَ تعذيبَهم عَذَّبهم. فإنْ قيل: عذابُهم مُتَحَتِّمٌ فكيف يَصِحُّ تعليقُه على المشيئةِ وهو قد شاءَ تعذيبَهم إذا ماتوا على النفاق؟ فأجاب ابنُ عطية: بأنَّ تعذيبَ المنافقين ثمرةُ إدامتِهم الإِقامةَ على النفاقِ إلى موتِهم، والتوبةُ موازِيَةٌ لتلك الإِقامةِ، وثمرةُ التوبةِ تَرْكُهم دونَ عذاب فهما درجتان: إقامةٌ على نفاقٍ، أو توبةٌ منه، وعنهما ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. فذكر تعالى على جهةِ الإِيجازِ
112
واحدةً من هاتين، وواحدةً مِنْ هاتين ودَلَّ ما ذكر على ما تَرَكَ ذِكْرَه. ويَدُلُّ على أنَّ معنى قولِه: «لِيُعَذِّب» ليُديمَ على النفاقِ قولُه: «إن شاء» ومعادلتُه بالتوبةِ وحرفِ أو «.
قال الشيخ:»
وكأنَّ ما ذَكَر يَؤُوْلُ إلى أنَّ التقديرَ: ليُقيموا على النفاقِ فيموتُوا عليه إنْ شاء فيُعَذِّبَهم، أو يتوبَ عليهم فيرحمَهم. فحذف سببَ التعذيبِ وأثبت المسبَّب وهو التعذيبُ، وأثبت سببَ الرحمةِ والغفرانِ وحَذَفَ المُسَبَّبَ وهو الرحمةُ والغُفْران «.
113
قوله: ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ سببيةً، وهو الذي عَبَّر عنه أبو البقاء بالمفعولِ أي: إنها مُعَدِّية. والثاني: أَنْ تكونَ للمصاحبة، فتكونَ حالاً أي/ مُغيظين.
قوله: ﴿لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ حالٌ ثانيةٌ أو حالٌ من الحال الأولى فهي متداخِلَةٌ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الضمير المجرور بالإِضافة. وجَوَّز الزمخشري فيها أَنْ تكونَ بياناً للحالِ الأولى أو مستأنفةً. ولا يظهر البيانُ إلاَّ على البدل، والاستئنافُ بعيد.
قوله: ﴿وَأَنزَلَ الذين﴾ : أي وأنزل اللَّهُ. و ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ بيانٌ للموصولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوز أن يكونَ حالاً. و «مِنْ صَياصِيْهم» متعلِّقٌ ب «أَنْزل» و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والصَّياصِي جمعُ «صِيْصِيَة» وهي الحصونُ. ويقال لكل ما يُمتنع به ويُتَحَصَّن: صِيْصيَة. ومنه قيل لقَرْنِ
113
الثور ولشوكة الديك: صِيْصِيَة. والصَّياصِي أيضاً: شَوْك الحاكَةِ ويُتَّخَذُ مِنْ حديد قال دُرَيْد بن الصِّمَّة:
٣٦٩٠ -.............................. كوَقْعِ الصَّياصِيْ في النسيجِ المُمَدَّدِ
قوله: «فريقاً تَقْتُلون» «فريقاً» منصوبٌ بما بعده. وكذلك «فريقاً» منصوب بما قبله. والجملةُ مبيِّنَةٌ ومقررةٌ لقَذْفِ الله الرعبَ في قلوبهم. والعامَّةُ على الخطابِ في الفعلين. وابن ذكوان في روايةٍ بالغَيْبةِ فيهما. واليمانيُّ بالغَيْبة في الأول فقط. وأبو حيوة «تَأْسرون» بضم السين.
قوله: «لم تَطؤُوْها» الجملةُ صفةٌ ل «أرضاً». والعامَّةُ على همزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ مضارعَ وَطِئ. وزيد بن علي «تَطُوْها» بواوٍ بعد طاءٍ مفتوحةٍ. ووجهُها: أنها أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً على غيرِ قياسٍ كقولِه:
114
٣٦٩١ - إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها ............................
فلمَّا أَسْنده للواو التقى ساكنان فَحُذِف أولهما نحو: لم يَرَوْها. وهذا أحسنُ مِنْ أَنْ تقول: ثم أجرى الألفَ المبدَلةَ مِنْ الهمزةِ مُجْرَى الألفِ المتأصِّلةِ فَحَذَفها جزماً؛ لأنَّ الأحسنَ هناك أَنْ لا تُحْذَفَ اعتداداً بأصلها. واستشهد بعضُهم على الحَذْفِ بقولِ زهير:
115
قوله :" لم تَطؤُوْها " الجملةُ صفةٌ ل " أرضاً ". والعامَّةُ على همزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ مضارعَ وَطِئ. وزيد بن علي " تَطُوْها " بواوٍ بعد طاءٍ مفتوحةٍ. ووجهُها : أنها أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً على غيرِ قياسٍ كقولِه :
إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلمَّا أَسْنده للواو التقى ساكنان فَحُذِف أولهما نحو : لم يَرَوْها. وهذا أحسنُ مِنْ أَنْ تقول : ثم أجرى الألفَ المبدَلةَ مِنْ الهمزةِ مُجْرَى الألفِ المتأصِّلةِ فَحَذَفها جزماً ؛ لأنَّ الأحسنَ هناك أَنْ لا تُحْذَفَ اعتداداً بأصلها. واستشهد بعضُهم على الحَذْفِ بقولِ زهير :
جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه *** سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ
قوله: ﴿أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ : العامَّةُ على جَزْمِهِما. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه مجزومٌ على جواب الشرط. وما بين الشرط وجوابِه معترضٌ، ولا يَضُرُّ دخولُ الفاءِ على جملة الاعتراضِ. ومثلُه في دخول الفاء قولُه:
٣٦٩٢ - جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ
٣٦٩٣ - واعلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُه أَنْ سَوْفَ يَأْتيْ كلُّ ما قُدِرا
يريد: واعلَمْ أَنْ سوفَ يأتي. والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: «فَتَعالَيْنَ، وأُمَتِّعْكن» جوابٌ لهذا الأمرِ.
115
وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ» بتخفيف التاء من أَمْتَعَه. وقرأ حميد الخزاز «أُمَتِّعُكُن وأُسَرِّحْكُن» بالرفع فيهما على الاستئنافِ. و «سَراحاً» قائمٌ مقامَ التَّسْريحِ.
116
قوله: ﴿مَن يَأْتِ مِنكُنَّ﴾ : العامَّةُ على «يَأْتِ» بالياء من تحتُ حَمْلاً على لفظ «مَنْ». وزيد بن علي والجحدري ويعقوب بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على معناها؛ لأنه تَرَشَّح بقولِه: «منكُنَّ»، و «منكنَّ» حالٌ من فاعل «يَأْتِ». وتقدَّم القراءةُ في «مُبَينة» بالنسبة لكسرِ الياء وفتحها في النساء.
قوله: «يُضاعَفْ» قرأ أبو عمرو «يُضَعَّفْ» بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحةً على البناء للمفعول. «العذابُ» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نُضَعِّفْ» بنونِ العظمةِ، وتشديد العين مكسورةً، على البناءِ للفاعل. قوله: العذابَ «بالنصب على المفعول به. وقرأ الباقون» يُضاعَفْ «من المفاعلة مبنياً للمفعول.» العذابُ «بالرفعِ لقيامِه مَقامَ الفاعل. وقد تقدَّم توجيهُ التضعيف والمضاعَفة في سورة البقرة فأغنى عن إعادتِه.
قوله: ﴿وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ﴾ : قرأ الأخَوان «ويَعْمَلْ ويُؤْتِ» بالياء مِنْ تحتُ فيهما. والباقون «وتَعْمل» بالتاء من فوق. «نُؤْتِها» بالنون. فأمَّا الياءُ في «ويَعْمَلْ» فلأجل الحَمْلِ على لفظ «مَنْ» وهو الأصلُ. والتاءُ مِنْ فوقُ على معناها؛ إذ المرادُ بها مؤنثٌ، وتَرَشَّح هذا بتقدُّمِ لفظِ المؤنث وهو «مِنْكُنَّ» ومثلُه قولُه:
٣٦٩٤ - وإنَّ مِن النِّسْوان مَنْ هي روضةٌ .........................
لَمَّا تقدَّم قولُه: «مِن النسوانِ» تَرَجَّح المعنى فَحَمَل عليه. وأمَّا «يُؤْتِها» بالياءِ مِنْ تحتُ فالضمير لله تعالى لتقدُّمِه في «لله ورسوله». وبالنون فهي نونُ العظمة. وفيه انتقالٌ من الغَيْبة إلى التكلُّم.
وقرأ الجحدريُّ ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر وشيبةُ «تَقْنُتْ» بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على المعنى وكذلك «وتَعْمَل». وقال أبو البقاء: «إنَّ بعضَهم قرأ» ومَنْ تَقْنُتْ «بالتأنيث حَمْلاً على المعنى و» يَعْمَلْ «بالتذكير حملاً على اللفظ». قال: «فقال بعض النحويين: هذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التذكيرَ أصلٌ فلا يُجْعَلُ تَبَعاً للتأنيث. وما عَلَّلوه به قد جاء مثلُه في القرآن. قال تعالى: ﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ » [الأنعام: ١٣٩].
قوله: ﴿كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء﴾ : قال الزمخشري: «
117
أَحَد» في الأصل بمعنى وَحَد. وهو الواحد، ثم وُضِع في النفي العام مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ وما وراءَه. والمعنى: لَسْتُنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعات النساء أي: إذا تَقَصَّيْتَ جماعةَ النساءِ واحدةً واحدةً لم توجَدْ منهنَّ جماعةٌ واحدة تُساويكُنَّ في الفضل والسابقةِ. ومنه قوله: ﴿والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢] يريد بين جماعة واحدةٍ منهم تسويةً بين جميعِهم في أنهم على الحقِّ المُبين. قال الشيخ: «أمَّا قوله» أحد «في الأصل بمعنى وَحَد وهو الواحد فصحيح. وأمَّا قولُه:» وُضِع «إلى قوله:» وما وراءه «فليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الذي يُسْتعمل في النفي العامِّ مدلولُه غيرُ مدلولِ واحد؛ لأنَّ واحداً ينطلقُ على كلِّ شيءٍ اتصفَ بالوحدةِ، وأحداً المستعمل في النفي العامِّ مختصٌ بمَنْ يَعْقِل. وذكر النحويون أنَّ مادتَه همزة وحاء ودال، ومادة» أحد «بمعنى واحد: واو وحاء ودال، فقد اختلفا مادةً ومدلولاً. وأمَّا قولُه: لَسْتُنَّ كجماعة واحدة، فقد قُلنا: إن معناه ليسَتْ كلُّ واحدةٍ منكنَّ. فهو حَكَمَ على كلِّ واحدة لا على المجموع من حيث هو مجموعٌ. وأمَّا ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ١٥٢] فاحتمل أَنْ يكونَ الذي يُستعمل في النفي العام؛ ولذلك جاء في سِياقِ النفي فعَمَّ. وصلَحَت البَيْنِيَّة للعموم. ويحتمل أَنْ يكونَ» أحد «بمعنى واحد، وحُذِفَ معطوف، أي: بين أحدٍ وأحدٍ.
118
كما قال:
٣٦٩٥ - فما كان بينَ الخيرِ لو جاء سالماً أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قَلائِلُ
أي: بين الخير وبيني». انتهى. قلت: أمَّا قولُه فإنهما مختلفان مدلولاً ومادة فَمُسَلَّمٌ. ولكن الزمخشريَّ لم يجعلْ أحداً الذي أصله واحد بمعنى أَحَد المختصِّ بالنفي، ولا يمنع أن أحداً الذي أصلُه واحد أن يقعَ في سياقِ النفيِ. وإنما الفارقُ بينهما: أنَّ الذي همزتُه أصلٌ لا يُستعمل إلاَّ في النفي كأخواته من عَرِيْب وكَتِيْع ووابِر وتامِر. والذي أصله واحد يجوز أن يُستعمل إثباتاً ونفياً. والفرقُ أيضاً بينهما: أنَّ المختصَّ بالنفي جامدٌ، وهذا وصْفٌ. وأيضاً المختصُّ بالنفي مختصٌّ بالعقلاء وهذا لا يختصُّ. وأمَّا معنى النفي فإنه ظاهرٌ على ما قاله الزمخشريُّ من الحكم على المجموعِ، ولكنَّ المعنى على ما قاله الشيخ أوضحُ وإن كان خلافَ الظاهر.
قوله: «إنِ اتَّقَيْتُنَّ» في جوابه وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: إنْ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كأحدٍ. فالشرط قيدٌ في نفي أَنْ يُشَبَّهْنَ بأحدٍ من النساء. الثاني: أنَّ جوابَه قولُه: «فلا تَخْضَعْنَ» والتقوى على بابها. وجَوَّزَ الشيخُ على هذا أن يكونَ اتَّقى بمعنى استقبل أي: استَقْبَلْتُنَّ أحداً
119
فلا تَلِنَّ له القولَ.
واتقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللغة. وأنشد:
٣٦٩٦ - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه فتناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ
أي: واستقبَلَتْنا باليد. قال: «ويكون هذا المعنى أبلغَ في مدحِهنَّ إذ لم يُعَلِّقْ فضيلتَهنَّ على التقوى ولا على نَهْيه عن الخضوع بها؛ إذ هنَّ مُتَّقِياتٌ لله تعالى في أنفسهنَّ. والتعليقُ يقتضي ظاهرُه أنهنَّ لَسْنَ متحلِّياتٍ بالتقوى».
قلت: هذا خروجٌ عن الظاهرِ من غير ضرورةٍ. وأمَّا البيتُ فالاتِّقاءُ أيضاً على بابِه/ أي صانَتْ وجهَها بيدِها عنا.
قوله: «فَيَطْمَعَ» العامَّةُ على نصبه جواباً للنهي. والأعرج بالجزم فيكسِرُ العينَ لالتقاءِ الساكنين. ورُوي عنه وعن أبي السَّمَّال وابن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم. وهذا شاذٌّ؛ حيث تَوافَقَ الماضي والمضارعُ في حَرَكةٍ. ورُوي عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضمِّ الياء وكسرِ الميم مِنْ أطمع. وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً عائداً على الخضوعُ المريضَ القلبِ. ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلاً، ومفعوله محذوف أي: فيُطْمِع المريضُ نفسَه.
قوله: «وَقَرْنَ» قرأ نافع وعاصم بفتح القاف. والباقون بكسرها. فأمَّا
120
الفتحُ فمِنْ وجهين، أحدهما: أنه أمرٌ من قَرِرْتُ - بكسرِ الراءِ الأولى - في المكان أَقَرُّ به بالفتح. فاجتمع راءان في اقْرَرْنَ، فحُذِفت الثانيةُ تخفيفاً ونُقِلَتْ حركةُ الراء الأولى إلى القاف، فحُذفت همزةُ الوصلِ استغناءً عنها فصار قَرْن. ووزنُه على هذا: فَعْن؛ فإنَّ المحذوفَ هو اللامُ لأنه حَصَلَ به الثقلُ. وقيل: المحذوفُ الراءُ الأولى؛ لأنه لَمّا نُقِلَتْ حركتُها بقيَتْ ساكنةً، وبعدها أخرى ساكنةٌ فحُذِفَتِ الأولى لالتقاءِ الساكنين، ووزنُه على هذا: فَلْنَ؛ فإنَّ المحذوفَ هو العين. وقال أبو علي: «أُبْدِلت الراءُ الأولى ياءً ونُقِلَتْ حركتُها إلى القاف، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ لالتقائِهما». فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في توجيهِ أنها أمرٌ مِنْ قَرِرْت بالمكان.
والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع. ومنه «القارَةُ» لاجتماعِها، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل: قَرْنَ كخَفْنَ. ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن.
إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين، أحدهما: قال أبو حاتم: يقال: قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح، فكيف يُقرأ «وَقَرْنَ» بالفتح؟ والجوابُ عن هذا: أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ، حكاه أبو عبيد. وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم.
الثاني: سَلَّمْنا أنه يُقال: قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح، وأنَّ
121
الأمرَ منه اقْرَرْنَ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم «ظَلْتُ» وبابِه؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين: التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط.
والجوابُ: أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ.
ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ، وإنْ كانت أثقلَ نحو: اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ: غُضْنَ. لكنَّ السماعَ خلافُه. قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: ٣١]. على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال: «إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى» أو تقولُ: إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع. وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع.
وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما: أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي، والكسرِ في المضارع، وهي اللغةُ الفصيحةُ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً: إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى، أو إبدالُها ياءً، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ. ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار.
والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي: ثبتَ واستقرَّ. ومنه الوَقارُ. وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي «قِرْن» وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء. ووزنُه على هذا عِلْنَ. وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً.
122
قوله: «تَبَرُّجَ الجاهليةِ» مصدرٌ تشبيهيٌّ أي: مثلَ تبرُّجِ. والتبرُّجُ: الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم. وقرأ البزي «ولا تَّبَرَّجْنَ» بإدغامِ التاء في التاء. والباقون بحذفِ إحداهما. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في «ولا تَيَمَّموا».
قوله: «أهلَ البيتِ» فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم. وسُمِعَ «بك اللَّهَ نرجو الفضلَ» والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها:
٣٦٩٧ - نحن بناتِ طارِقْ نَمْشِي على النمارِقْ
[وقوله] :
٣٦٩٨ - نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ
«نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف» «نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث» أو على المدح أي: أمدحُ أهلَ البيتِ.
123
قوله :" وَقَرْنَ " قرأ نافع وعاصم بفتح القاف. والباقون بكسرها. فأمَّا الفتحُ فمِنْ وجهين، أحدهما : أنه أمرٌ من قَرِرْتُ - بكسرِ الراءِ الأولى - في المكان أَقَرُّ به بالفتح. فاجتمع راءان في اقْرَرْنَ، فحُذِفت الثانيةُ تخفيفاً، ونُقِلَتْ حركةُ الراء الأولى إلى القاف، فحُذفت همزةُ الوصلِ استغناءً عنها فصار قَرْن. ووزنُه على هذا : فَعْن ؛ فإنَّ المحذوفَ هو اللامُ لأنه حَصَلَ به الثقلُ. وقيل : المحذوفُ الراءُ الأولى ؛ لأنه لَمّا نُقِلَتْ حركتُها بقيَتْ ساكنةً، وبعدها أخرى ساكنةٌ فحُذِفَتِ الأولى لالتقاءِ الساكنين، ووزنُه على هذا : فَلْنَ ؛ فإنَّ المحذوفَ هو العين. وقال أبو علي :" أُبْدِلت الراءُ الأولى ياءً ونُقِلَتْ حركتُها إلى القاف، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الياءُ لالتقائِهما ". فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في توجيهِ أنها أمرٌ مِنْ قَرِرْت بالمكان.
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع. ومنه " القارَةُ " لاجتماعِها، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل : قَرْنَ كخَفْنَ. ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن.
إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين، أحدهما : قال أبو حاتم : يقال : قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح، فكيف يُقرأ " وَقَرْنَ " بالفتح ؟ والجوابُ عن هذا : أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ، حكاه أبو عبيد. وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم.
الثاني : سَلَّمْنا أنه يُقال : قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح، وأنَّ الأمرَ منه اقْرَرْنَ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم " ظَلْتُ " وبابِه ؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين : التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط.
والجوابُ : أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ.
ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ، وإنْ كانت أثقلَ نحو : اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ : غُضْنَ. لكنَّ السماعَ خلافُه. قال تعالى :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]. على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال :" إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى " أو تقولُ : إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع. وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع.
وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما : أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي، والكسرِ في المضارع، وهي اللغةُ الفصيحةُ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً : إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى، أو إبدالُها ياءً، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ. ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار.
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي : ثبتَ واستقرَّ. ومنه الوَقارُ. وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي " قِرْن " وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء. ووزنُه على هذا عِلْنَ. وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً.
قوله :" تَبَرُّجَ الجاهليةِ " مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : مثلَ تبرُّجِ. والتبرُّجُ : الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم. وقرأ البزي " ولا تَّبَرَّجْنَ " بإدغامِ التاء في التاء. والباقون بحذفِ إحداهما. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في " ولا تَيَمَّموا ".
قوله :" أهلَ البيتِ " فيه أوجه : النداء والاختصاص، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم. وسُمِعَ " بك اللَّهَ نرجو الفضلَ " والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها :
نحن بناتِ طارِقْ *** نَمْشِي على النمارِقْ
[ وقوله ] :
نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ *** الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ
" نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف " " نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث " أو على المدح أي : أمدحُ أهلَ البيتِ.
قوله: ﴿مِنْ آيَاتِ الله﴾ : بيانٌ للموصول فيتعلَّقُ ب أعني. ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الموصول، وإمَّا من عائده المقدر فيتعلقُ بمحذوفٍ أيضاً.
قوله: ﴿والحافظات﴾ : حُذِفَ مفعولُه لتقدُّم ما يَدُلُّ عليه. والتقديرُ: والحافظاتِها. وكذلك «والذاكراتِ». وحَسَّن الحذفَ رؤوسُ الفواصِلِ وغَلَّبَ المذكرَ على المؤنثِ في «لهم» ولم يَقُلْ «ولَهُنَّ».
قوله: ﴿أَن يَكُونَ﴾ : هو اسمُ كان. والخبرُ الجارُّ متقدمٌ. وقوله: ﴿إِذَا قَضَى الله﴾ يجوزُ أن يكونَ مَحْضَ ظَرْفٍ معمولُه الاستقرار الذي تَعَلَّق به الخبرُ أي: وما كان مستقِرّاً لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ وقتَ قضاءِ اللَّهِ كَوْنُ خِيَرَةٍ، وأَنْ تكونَ شرطيةً، ويكونُ جوابُها مقدراً مدلولاً عليه بالنفيِ المتقدمِ.
وقرأ الكوفيون وهشام «يكونَ» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ «الخِيَرَة» مجازيُّ التأنيثِ، وللفصلِ أيضاً. والباقون بالتاء من فوقُ مراعاةً للفظِها. وقد تقدَّم أنَّ الخِيَرَةَ مصدرُ تَخَيَّر كالطِّيَرَة مِنْ تَطَيَّر. ونَقَل عيسى بن سليمان أنه قُرِئَ «الخِيْرَة». بسكون الياء. و «مِنْ أمرِهم» حالٌ من «الخِيَرة» وقيل: «من» بمعنى في. وجَمَعَ الضمير في «أمرِهم» وما بعده؛ لأنَّ المرادَ بالمؤمن والمؤمنة الجنسُ. وغلَّب المذكرَ على المؤنث. وقال الزمخشري: «كان مِنْ حَقِّ
124
الضميرِ أن يُوَحَّد كما تقول: ما جاءني مِنْ رجلٍ ولا امرأة، إلاَّ كان مِنْ شأنه كذا». قال الشيخ: «وليس بصحيحٍ؛ لأنَّ العطفَ بالواوِ فلا يجوزُ ذلك إلاَّ بتأويلِ الحَذْفِ».
125
قوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ﴾ : نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أن «على» في مثلِ هذا التركيبِ اسمٌ. قال: «لئلا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميرِه المتصلِ في غير باب ظنَّ وفي لفظتَيْ: فَقَد وعَدِم. وجعل مِنْ ذلك:
٣٦٩٩ - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها
وكذلك حَكَم على»
عَنْ «في قولِه:
٣٧٠٠ - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ ............................
وقد تقدَّم لك ذلك مشبعاً في النحل في قوله: ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل: ٥٧]
125
وفي قوله: ﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ﴾ [مريم: ٢٥] ﴿واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ﴾ [القصص: ٣٢].
قوله:» وتُخْفي «فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْسِكْ «أي: وإذ تجمعُ بين قولك كذا وإخفاءِ كذا، وخشيةِ الناس. قاله الزمخشري. الثاني: أنها واوُ الحالِ أي: تقول كذا في هذه الحالةِ. قاله الزمخشري أيضاً. وفيه نظرٌ من حيث إنه مضارعٌ مثبتٌ فكيف تباشِرُه الواوُ؟ وتخريجُه كتخريجِ» قمتُ وأَصُكُّ عينَه «أعني على إضمارِ مبتدأ. الثالث: أنه مستأنفٌ. قاله الحوفي. وقوله: ﴿والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ قد تقدَّم مثلُه في براءة.
قوله:»
وَطَراً «مفعولُ» قَضَى «. والوَطَرُ: الشَّهْوَةُ والمحبةُ، قاله المبرد. وأنشد:
٣٧٠١ - وكيف ثَوائي بالمدينةِ بعدَما قَضَى وَطَراً منها جميلُ بنُ مَعْمَرِ
وقال أبو عبيدة:»
الوَطَرُ: الأَرَبُ والحاجةُ «. وأنشد للضُّبَيْعِ الفزاري:
126
وقرأ العامَّةُ» زوَّجْناكها «. وقرأ عليٌّ وابناه الحسنان رضي الله عنهم وأرضاهم» زَوَّجْتُكَها «بتاءِ المتكلم.
و»
لِكَيْلا «متعلقٌ ب» زَوَّجْناكها «وهي هنا ناصبةٌ فقط لدخولِ الجارِّ عليها. واتصل الضميران بالفعلِ لاختلافِهما رتبةً.
127
قوله: ﴿سُنَّةَ الله﴾ : منصوبٌ على المصدر ك ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨] / و ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢] أو اسمٌ وُضِع مَوْضِعَ المصدرِ، أو منصوبٌ ب جَعَل. أو بالإِغراءِ أي: فعليه سنةَ الله. قاله ابن عطية. ورَدَّه الشيخ بأنَّ عاملَ الإِغراءِ لا يُحْذَفُ، وبأنَّ فيه إغراءَ الغائبِ. وما وَرَدَ منه مؤولٌ على ندورِه نحو: «عليه رجلاً لَيْسَني». قلت: وقد وَرَدَ قولُه عليه السلام «وإلاَّ فعليه بالصوم»، فقيل: هو إغراء. وقيل ليس به، وإنما هو مبتدأٌ وخبرٌ، والباءُ زائدةٌ في المبتدأ. وهو تخريجٌ فاسدُ المعنى؛ لأن الصومَ ليس واجباً على ذلك.
قوله: ﴿الذين يُبَلِّغُونَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للذين خَلَوْا، وأَنْ يكونَ مقطوعاً عنه رفعاً ونصباً على إضمارِ «هم» أو أعني أو أمدحُ.
قوله: ﴿ولكن رَّسُولَ الله﴾ : العامَّةُ على تخفيف «لكن» ونصبِ رسول. ونصبُه: إمَّا على إضمارِ «كان» لدلالة «كان» السابقة عليها أي: ولكن كان، وإمَّا بالعطفِ على «أبا أَحَدٍ».
والأولُ أليقُ لأنَّ «لكن» ليست عاطفةً لأجلِ الواو، فالأليقُ بها أن تدخلَ على الجملِ كمثل التي لَيَستْ بعاطفةٍ.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بتشديدها؛ على أنَّ «رسولَ الله» اسمُها، وخبرُها محذوفٌ للدلالةِ أي: ولكن رسولَ الله هو أي: محمدٌ. وحَذْفُ خبرها شائعٌ. وأُنْشِد:
٣٧٠٢ - ودَّعَنا قبلَ أَنْ نُوَدِّعَهْ لَمَّا قضى مِنْ شبابِنا وَطَراً
٣٧٠٧ - فلو كنتَ ضَبِّيَّاً عَرَفْتَ قَرابتي ولكنَّ زَنْجِيَّاً عظيمَ المَشافِرِ
أي: أنت. وهذا البيت يَرْوُوْنه أيضاً: ولكنَّ زَنْجيٌّ بالرفع شاهداً على حَذْفِ اسمِها أي: ولكنك.
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع «رسولُ» على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: هو. أو بالعكس أي: ولكن هو رسول كقوله:
٣٧٠٤ - ولَسْتُ الشاعرَ السَّفسافَ فيهمْ ولكنْ مِدْرَهُ الحربُ العَوانِ
أي: ولكن أنا مِدْرَهُ.
128
قوله: «وخاتم» قرأ عاصمٌ بفتح التاء، والباقون بكسرِها. فالفتح اسمٌ للآلةِ التي يُخْتَمُ بها كالطابَع والقالَبِ لما يُطْبَعُ به ويُقْلَبُ فيه، هذا هو المشهور. وذكر أبو البقاء فيه أوجهاً أُخَرَ منها: أنه في معنى المصدرِ قال: «كذا ذُكِرَ في بعض الأعاريب». قلت: وهو غَلَطٌ مَحْضٌ كيف وهو يُحْوِجُ إلى تجوُّزٍ وإضمار؟ ولو حُكِي هذا في «خاتِم» بالكسر لكان أقربَ؛ لأنه قد يجيء المصدرُ على فاعِل وفاعِلة. وسيأتي ذلك قريباً. ومنها: أنه اسمٌ بمعنى آخِر. ومنها: أنه فعلٌ ماضٍ مثل قاتَلَ فيكون «النبيين» مفعولاً به قلت: ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله «خَتَم النبيين».
والكسرُ على أنه اسمُ فاعلٍ، ويؤيِّده قراءةُ عبد الله المتقدمة. وقال بعضُهم: هو بمعنى المفتوح، يعني بمعنى آخرهم.
129
قوله: ﴿وَمَلاَئِكَتُهُ﴾ : إمَّا عطفٌ على فاعل «يُصَلِّي» وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن التأكيد بالضمير. وهذا عند مَنْ يرى الاشتراكَ أو القَدْرَ المشترك أو المجازَ، لأنَّ صلاةَ الله تعالى غيرُ صلاتِهم، وإمَّا مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي: وملائكتُه يُصَلُّون. وهذا عند مَنْ يرى شيئاً ممَّا تقدَّم جائزاً إلاَّ أن فيه بحثاً: وهو أنهم نَصُّوا على أنه إذا اختلفَ مَدْلولا الخبرَيْن فلا يجوزُ حَذْفُ أحدِهما لدلالةِ الآخرِ عليه، وإن كان بلفظٍ واحدٍ فلا تقول: «زيد ضاربٌ وعمروٌ» يعني: وعمروٌ ضاربٌ في الأرض أي: مسافرٌ.
قوله: ﴿تَحِيَّتُهُمْ﴾ : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعوله، وأن يكون مضافاً لفاعلِه، ومفعولِه، على معنى: أنَّ بعضَهم يُحَيِّي
129
بعضاً. فيَصِحُّ أَنْ يكونَ الضميرُ للفاعلِ والمفعول باعتبارَيْن، لا أنه يكون فاعلاً ومفعولاً مِنْ وجهٍ واحدٍ كقول مَنْ قال: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] إنه مضافٌ للفاعلِ والمفعولِ.
130
قوله: ﴿شَاهِداً﴾ : حالٌ مقدرةٌ أو مقارِنةٌ لقُرْبِ الزمان.
قوله: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ : حالٌ أي: مُلْتَبِساً بتسهيله ولا يريدُ حقيقةَ الإِذنِ لأنه مستفادٌ مِنْ «أَرْسلْناك».
قوله: «وسِراجاً» يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على ما تقدم: إمَّا على التشبيه وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا سِراج. وجَوَّزَ الفراء أَنْ يكونَ الأصلُ: وتالياً سِراجاً. ويعني بالسِّراج القرآنَ. وعلى هذا فيكونُ مِنْ عطفِ الصفات وهي لذاتٍ واحدة: لأنَّ التاليَ هو المُرْسَل. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يُعْطَفَ على مفعول «أَرْسَلْنَاك» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السِّراجَ هو القرآنُ، ولا يُوْصَفُ بالإِرسال بل الإِنزال، إلاَّ أنْ يُقالَ: إنه حُمِلَ على المعنى، كقوله:
٣٧٠ - ٥- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ................................
وأيضاً فيُغْتَفر في الثواني ما لا يُغْتفر في الأوائل.
قوله: ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «أذاهم» مضافاً
130
لمفعوله أي: اتْرُكْ أذاك لهم أي: عقابَك إياهم، وأن يكون مضافاً لفاعلِه أي: اتركْ ما آذَوْك به فلا تؤاخِذْهم حتى تؤمرَ.
131
قوله: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ : إنْ قيل: ما الفائدةُ بالإِتيان ب «ثم»، وحُكْمُ مَنْ طُلِّقَتْ على الفورِ بعد العَقْد كذلك؟ / فالجوابُ: أنه جَرَى على الغالب. وقال الزمخشري: «نَفْيُ التوهُّم عَمَّن عسى يَتَوَهَّمُ تفاوُتَ الحُكْمِ بين أَنْ يُطَلِّقَها قريبة العهدِ بالنكاح، وبين أن يَبْعَدَ عهدُها بالنكاح وتتراخى بها المدةُ في حيالةِ الزوجِ ثم يُطَلِّقها». قال الشيخ «واستعمل عَسَى صلةً ل» مَنْ «وهو لا يجوز». قلتُ: يُخَرَّجُ قولُه على ما خُرِّجَ عليه قولُ الشاعر:
٣٧٠٦ - وإني لَرامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التي لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواها أَزورها
وهو إضمارُ القول.
قوله: «تَعْتَدُّوْنَها» صفةٌ ل «عِدَّة» و «تَعْتَدُّونها» تَفْتَعِلُونها: إمَّا مِن العَدَدِ، وإمَّا مِن الاعتدادِ أي: تَحْتَسِبُونها أو تَسْتَوْفون عَدَدَها مِنْ قولِك: عَدَّ الدراهمَ فاعتدَّها. أي: استوفى عَدَدها نحو: كِلْتُه فاكتاله، ووَزَنْتُه فاتَّزَنَه. وقرأ
131
ابن كثير في روايةٍ وأهلُ مكةَ بتخفيف الدال. وفيها وجهان، أحدهما: أنها من الاعتدادِ، وإنما كَرِهوا تضعيفَه فَخَفَّفوه. قاله الرازي قال: «ولو كانَ من الاعتداءِ الذي هو الظلمُ لَضَعُفَ؛ لأنَّ الاعتداءَ يتعدَّى ب على». قيل: ويجوز أَنْ يكونَ من الاعتداء وحَذَفَ حرفَ الجرِّ أي: تَعتَدُون عليها أي: على العِدَّة مجازاً ثم تَعْتَدُوْنها كقوله:
٣٧٠٧ - تَحِنُّ فَتُبْدِيْ ما بها مِنْ صَبابةٍ وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضاني
أي: لقضى عليَّ. قال الزمخشري: «وقُرِئ» تَعْتَدُونها «مخففاً أي: تعتدون فيها. كقوله:
٣٧٠٨ - ويومٍ شَهِدْناه................... ................................
البيت. والمرادُ بالاعتداءِ ما في قولِه: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ﴾ [البقرة: ٢٣١] يعني: أنه حَذَفَ الحرفَ كما حَذَفَ في قولِه:
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامِراً قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ
وقيل: معنى تَعْتَدُونها أي: تَعْتَدُوْن عليهنَّ فيها. وقد أنكر ابنُ عطية القراءةَ عن ابن كثير وقال:»
غَلِطَ ابنُ ابي بَزَّة عنه «وليس كما قال. والثاني:
132
أنها من العُدْوان والاعتداء، وقد تقدَّم شَرْحُه، واعتراضُ أبي الفضل عليه: بأنه كان ينبغي أَنْ يتعَدَّى ب» على «، وتقدَّم جوابُه. وقرأ الحسن» تَعْدُّونها «بسكون العين وتشديدِ الدالِ، وهو جمعٌ بين ساكنَيْن على غيرِ حَدَّيْهما.
133
قوله: ﴿مِمَّآ أَفَآءَ﴾ : بيانٌ لِما مَلَكَتْ وليس هذا قَيْداً، بل لو ملكَتْ يمينُه بالشراء كان الحكمُ كذا، وإنما خَرَجَ مَخَرَجَ الغالِب.
قوله: «وامرأةً» العامَّةُ على النصب. وفيه وجهان، أحدهما: أنها عطفٌ على مفعولِ «أَحْلَلْنا» أي: وأَحْلَلْنا لك امرأةً موصوفةً بهذين الشرطين. قال أبو البقاء: «وقد رَدَّ هذا قومٌ وقالوا:» أَحْلَلْنا «ماضٍ و» إنْ وَهَبَتْ «وهو صفةُ المرأة مستقبلٌ، فأَحْلَلْنا في موضع جوابِه، وجوابُ الشرط لا يكونُ ماضياً في المعنى» قال: «وهذا ليس بصحيحٍ لأنَّ معنى الإِحلالِ ههنا الإِعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك كما تقول: أَبَحْتُ لك أَنْ تُكلِّمَ فلاناً إنْ سَلَّم عليك». الثاني: أنه ينتصِبُ بمقدرٍ تقديرُه: ويُحِلُّ لك امرأةً.
قوله: «إنْ وَهَبَتْ... إنْ أرادَ» هذا من اعتراضِ الشرط على الشرطِ، والثاني هو قيدٌ في الأولِ، ولذلك نُعْرِبه حالاً، لأنَّ الحالَ قيدٌ. ولهذا اشترط الفقهاءُ أن يتقدَّمَ الثاني على الأولِ في الوجود. فلو قال: «إنْ أكلْتِ إنْ ركبْتِ فأنتِ طالقٌ» فلا بُدَّ أنْ يتقدَّم الركوبُ على الأكلِ. وهذا لِتَتَحَقَّقَ الحاليةُ والتقييدُ كما ذكرْتُ لك؛ إذ لو لم يتقدَّمْ لخلا جزءٌ من الأكل غيرُ مقيدٍ بركوبٍ، فلهذا اشترطُوا تقدُّمَ الثاني. وقد مضى تحقيقُ هذا، وأنَّه بشرطِ أَنْ لا تكونَ ثَمَّ قرينةٌ تمنعُ من تقدُّمِ الثاني على الأولِ. كقولك: «إنْ تَزَوَّجْتُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدي حُرٌّ» لا يُتَصَوَّرُ هنا تقديمُ الطلاق على التزويج.
133
إلاَّ أني قد عَرَضَ لي إشكالٌ على ما قاله الفقهاء بهذه الآية: وذلك أن الشرطَ الثاني هنا لا يمكُنُ تقدُّمُه في الوجودِ بالنسبةِ إلى الحكمِ الخاص بالنبي صلَّى الله عليه وسلَّم، لا أنه لا يمكن عقلاً. وذلك أن المفسِّرين فَسَّروا قولَه تعالى: «إنْ أرادَ» بمعنى قبِلَ الهِبَةَ؛ لأنَّ بالقبول منه عليه السلام يَتِمُّ نكاحُه وهذا لا يُتَصَوَّرُ تقدُّمه على الهِبة؛ إذ القبولُ متأخرٌ. وأيضاً فإنَّ القصةَ كانَتْ على ما ذَكَرْتُه مِنْ تأخُّر إرادتِه عن هِبَتِها، وهو مذكورٌ في التفسيرِ. والشيخ لَمَّا جاء إلى ههنا جعلَ الشرطَ الثاني متقدِماً على الأول على القاعدة العامةِ ولم يَسْتَشْكِلْ شيئاً مِمَّا ذكرته. وقد عَرَضْتُ هذا الإِشكالَ على جماعةٍ من أعيان زمانِنا فاعترفوا به، ولم يَظْهر عنه جوابٌ، إلاَّ ما/ قَدَّمْتُه مِنْ أنه ثَمَّ قرينةٌ مانعةٌ من ذلك كما مثَّلْتُ لك آنفاً.
وأبو حيوةَ «وامرأة» بالرفع على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: أَحْلَلْناها لك أيضاً. وفي قوله: ﴿إِنْ أَرَادَ النبي﴾ التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة بلفظِ الظاهر تنبيهاً على أنَّ سببَ ذلك النبوَّةُ، ثم رَجَعَ إلى الخطاب فقال: خالصةً لك.
وقرأ أُبَيُّ والحسنُ وعيسى «أَنْ» بالفتح وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «امرأة» بدلُ اشتمالٍ، قاله أبو البقاء. كأنه قيل: وأَحْلَلْنا لك هِبَةَ
134
المرأةِ نفسَها لك. الثاني: أنَّه على حَذْفِ لامِ العلَّة أي: لأَنْ وهبت. وزيدُ بن علي «إذ وَهَبَتْ» وفيه معنى العِلِّيَّة.
قوله: «خالصةً» العامَّةُ على النصبِ. وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ «وَهَبَتْ». أي: حالَ كونِها خالصةً لك دونَ غيرك. الثاني: أنها حالٌ من «امرأةٌ» لأنها وُصِفَتْ فتخصَّصَتْ وهو بمعنى الأول. وإليه ذهب الزجَّاج. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ مقدرٍ أي: هِبةً خالصةً. فنصبَها بوَهَبَتْ. الرابع: أنها مصدرٌ مؤكدٌ ك ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢]. قال الزمخشري: «والفاعلُ والفاعلةُ في المصادر غيرُ عزيزَيْن كالخارِج والقاعِد والكاذِبة والعافِية». يريد بالخارج ما في قولِ الفرزدق:
٣٧٠٩ -............................. ولا خارِجاً مِنْ فِيَّ زُوْرُ كَلامِ
وبالقاعدِ ما في قولهم «أقاعِداً وقد سار الرَّكْبُ» وبالكاذبة ما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾. وقد أنكر الشيخُ عليه قولَه «غير عزيزَيْن»
135
وقال: «بل هما عزيزان، وما وَرَدَ متأوَّلٌ». وقُرِئ «خالِصَةٌ» بالرفع. فإنْ كانَتْ «خالصةً» حالاً قُدِّرَ المبتدأُ «هي» أي: المرأةُ الواهبةُ. وإن كانَتْ مصدراً قُدِّر: فتلك الحالةُ خالصة. وَ «لك» على البيان أي: أعني لك نحو: سَقْياً لك.
قوله: «لكيلا» متعلِّقٌ ب «خالصةً» وما بينهما اعتراضٌ و «مِنْ دون» متعلِّقٌ ب «خالصةً» كما تقول: خَلَصَ مِنْ كذا.
136
قوله: ﴿وَمَنِ ابتغيت﴾ : يجوزُ في «مَنْ» وجهان. أحدهما: أنها شرطيةٌ في محلِّ نصبٍ بما بعدها.
وقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ جوابُها. والمعنى: مَنْ طَلَبْتَها من النسوةِ اللاتي عَزَلْتَهُنَّ فليس عليك في ذلك جُناحٌ. الثاني: أَنْ تكونَ مبتدأةً. والعائدُ محذوفٌ. وعلى هذا فيجوزُ في «مَنْ» أَنْ تكونَ موصولةً، وأنْ تكونَ شرطيةً و ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ خبرٌ أو جوابٌ أي: والتي ابتَغَيْتَها. ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ راجعٍ إلى اسم الشرط من الجوابِ أي: في ابتغائِها وطَلَبها. وقيل: في الكلامِ حذفُ معطوفٍ تقديرُه: ومَنِ ابتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ومَنْ لم تَعْزِلْ سواءٌ لا جُناح عليك كما تقول: مَنْ لَقِيَكَ مِمَّن لم يَلْقَك جميعُهم لك شاكرٌ. تريد: مَنْ لَقِيَكَ ومَنْ لم يَلْقَكَ. وهذا فيه إلغازٌ.
قوله: «ذلك» أي: التفويضُ إلى مَشيئتِك أقربُ إلى قرَّة أعينِهنَّ.
والعامَّةُ «تَقَرَّ» مبنياً للفاعل مُسْنداً ل «أَعْيُنُهُنَّ». وابنُ محيصن «تُقِرَّ» مِنْ أَقَرَّ رباعياً. وفاعلُه ضمير المخاطب. «أعينَهُنَّ» نصبٌ على المفعولِ به.
136
وقُرِئ «تُقَرَّ» مبنياً للمفعول. «أعينهُنَّ» رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعل. وقد تَقَدَّم معنى «قُرَّة العين» في مريم.
قوله: «كلُّهن» العامةُ على رفعِه توكيداً لفاعلِ «يَرْضَيْن». وأبو أناس بالنصب توكيداً لمفعولِ «آتيتهُنَّ».
137
قوله: ﴿لاَّ يَحِلُّ﴾ : قرأ أبو عمرٍو «تَحِلُّ» بالتأنيث اعتباراً باللفظ. والباقون بالياء؛ لأنه جنسٌ وللفصل أيضاً.
قوله: «مِنْ بَعْدُ» أي: مِنْ بعدِ اللاتي نَصَصْنا لك على إحْلالِهِنَّ. وقد تقدَّم. وقيل: مِنْ بعدِ إباحةِ النساءِ المسلماتِ دونَ الكتابيات.
قوله: «مِنْ أزواجٍ» مفعولٌ به. و «مِنْ» مزيدةٌ فيه لاستغراق الجنس.
قوله: «ولو أعجبكَ» كقولِه: «أَعْطُوا السائل ولو على فَرَس» أي: في كل حال، ولو على هذه الحالِ المنافية.
قوله: «إلاَّ ما مَلَكَتْ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستثنى من «النساء»، فيجوز فيه وجهان: النصبُ على أصل الاستثناء، والرفعُ على البدل. وهو المختار. الثاني: أنه مستثنى من أزواج. قاله أبو البقاء. فيجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ
137
نصبٍ على أصل الاستثناء، وأنْ يكونَ/ في موضع جَرّ بدلاً مِنْ «هنَّ» على اللفظِ، وأن يكونَ في موضع نصبٍ بدلاً مِنْ «هُنَّ» على المحلِّ.
وقال ابن عطية: «إنْ كانَتْ» ما «مصدريةً فهي في موضعِ نصبٍ لأنه مِنْ غير الجنس. وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك: والتقديرُ: إلاَّ مِلْك اليمين. ومِلْك بمعنى مَمْلوك». انتهى. وإذا كان بمعنى مَمْلوك صار من الجنس، وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً. على أنه على تقدير انقطاعه لا يَتَحَتَّمُ نصبُه بل يجوزُ عند تميم الرفعُ بدلاً، والنصبُ على الأصلِ كالمتصل، بشرط صحةِ توجُّهِ العاملِ إليه كما حَقَّقْتُه غيرَ مرة. وهذا يمكنُ توجُّهُ العاملِ إليهِ ولكنَّ اللغةَ المشهورةَ لغةُ الحجازِ: وهو لزومُ النصبِ في المنقطعِ مطلقاً كما ذكره أبو محمدٍ آنفاً.
138
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنها في موضعِ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: إلاَّ مَصْحوبين بالإِذن. الثاني: أنها على إسقاطِ باءِ السببِ تقديرُه: إلاَّ بسببِ الإِذنِ لكم كقولِه: فاخْرُجْ به أي بسببه. الثالث: أنه منصوبٌ على الظرف. قال الزمخشري: «إلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ: في معنى الظرف تقديره: إلاَّ وقتَ أَنْ يُؤْذَنَ لكم. و» غيرَ ناظرين «حالٌ مِنْ» لا تَدْخُلوا «، وقع الاستثناء على الحالِ والوقتِ معاً، كأنه قيل: لا تَدْخُلوا بيوتَ النبيِّ إلاَّ وقتَ الإِذن، ولا تَدْخُلوا إلاَّ غير ناظرين إناه».
وردَّ الشيخُ الأولَ: بأنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنَّ «أنْ» المصدريةَ لا تقعُ
138
موقعَ الظرفِ. لا يجوز: «آتيكَ أَنْ يصيحَ الديك» وإن جاز ذلك في المصدرِ الصريح نحو: آتيك صياحَ الديك. ورَدَّ الثاني: بأنه لا يقعُ بعد «إلاَّ» في الاستثناء إلاَّ المستثنى أو المستثنى منه أو صفتُه. ولا يجوز في ما عدا هذا عند الجمهور. وأجاز ذلك الكسائيُّ والأخفش. وأجازا «ما قام القومُ إلاَّ يومَ الجمعة ضاحِكِين».
و «إلى طعامٍ» متعلقٌ ب «يُؤْذَنَ» ؛ لأنه بمعنى: إلاَّ أن تُدْعَوا إلى طعام. وقرأ العامةُ «غيرَ ناظرين» بالنصب على الحال كما تقدم، فعند الزمخشري ومَنْ تابعه: العاملُ فيه «يُؤْذَنَ» وعند غيرِهم العاملُ فيه مقدرٌ تقديره: ادْخُلوا غيرَ ناظرين. وقرأ ابن أبي عبلة «غيرِ» بالجرِّ صفةً ل طعام. واستضعفها الناسُ مِنْ أجل عدمِ بروزِ الضميرِ لجريانِه على غيرِ مَنْ هُو له، فكان مِنْ حقِّه أَنْ يُقال: غيرَ ناظرين إناه أنتم. وهذا رأيُ البصريين. والكوفيون يُجيزون ذلك إن لم يُلْبَسْ كهذه الآيةِ. وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ وفروعُها وما قيل فيها. وهل ذلك مختصٌّ بالاسمِ أو يَجْري في الفعل؟ خلافٌ مشهور قَلَّ مَنْ يَضْبِطُه.
وقرأ العامَّةُ «إناه» مفرداً أي: نُضْجَه. يقال: أَنَى الطعام إنىً نحو: قَلاه قِلىً. وقرأ الأعمشُ «آناءه» جمعاً على أفْعال فأُبْدِلَتْ الهمزةُ الثانية ألفاً، والياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، فصار في اللفظ كآناء من قوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠] وإن كان المعنى مختلفاً.
139
قوله: «ولاَ مُسْتَأْنِسِين» يجوز أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على «غيرَ» أي: لا تَدْخُلوها غيرَ ناظرين ولا مستأنِسين. وقيل: هذا معطوفٌ على حالٍ مقدرة أي: لا تدخُلوا هاجمين ولا مستأنِسين، وأنْ يَكونَ مجروراً عطفاً [على] «ناظرين» أي: غيرَ ناظرين وغيرَ مُسْتَأْنسين.
قوله: «لحديثٍ» يُحتمل أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: مستأنسين لأجل أَنْ يُحَدِّثَ بعضُكم بعضاً، وأن تكونَ المقوِّيةَ للعامل لأنه فرعٌ أي: ولا مُسْتأنسين حديثَ أهلِ البيت أو غيرِهم.
قوله: «إنَّ ذلكم» أي: إنَّ انتظارَكم واستئناسَكم فأُشير إليهما إشارةَ الواحدِ كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. أي: إنَّ المذكور. وقُرئ «لا يَسْتَحِي» بياءٍ واحدةٍ، والأخرى محذوفةٌ. واخْتُلِفَ فيها: هل هي الأولى أو الثانية؟ وتقدَّم ذلك في البقرة، وأنها روايةٌ عن ابن كثير. وهي لغةُ تميمٍ. يقولون: اسْتَحى يَسْتَحي، مثل: اسْتَقَى يَسْتقي. وأنشدْتُ عليه هناك ما سُمِع فيه.
قوله: «أَنْ تُؤْذُوا» هي اسمُ كان. و «لكم» الخبرُ. و ﴿وَلاَ أَن تنكحوا﴾ عطفٌ على اسم كان. و «أبداً» ظرف.
140
[قوله] :﴿واتقين﴾ : عطف على محذوفٍ أي: امْتَثِلْن ما أُمِرْتُنَّ به واتَّقين.
قوله: ﴿وَمَلاَئِكَتَهُ﴾ : العامَّة على النصبِ نَسَقاً على اسم «إنَّ». و «يُصَلُّون» هل هو خبرٌ عن الله وملائكتِه، أو عن الملائكةِ فقط، وخبرُ الجلالةِ محذوفٌ لتغايُرِ الصَّلاتَيْن؟ خلافٌ تقدَّم قريباً. وقرأ ابنُ عباسٍ ورُوِيَتْ عن أبي عمروٍ «وملائكتُه» رفعاً، فيُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» عند بعضهم/ وأَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ، وهو مذهبُ البصريين. وقد تقدَّم فيه بحثٌ نحو: «زيدٌ ضاربٌ وعمرٌو» أي ضاربٌ في الأرض.
قوله: ﴿يُؤْذُونَ الله﴾ : فيه أوجهٌ أي: يقولون فيه ما صورتُه أذىً، وإنْ كان سبحانه وتعالى لا يَلْحَقُه ضررُ ذلك حيث وصفُوْه بما لا يَليقُ بجلالِه: مِنِ اتِّخاذِ الأَنْداد، ونسبةِ الولد والزوجة إليه؛ وأَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: أولياءَ الله. وقيل: أتى بالجلالةِ تعظيماً، والمرادُ: يُؤْذُون رسولي كقولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠].
قوله: ﴿فَقَدِ احتملوا﴾ : خبرُ «والذين». ودخلتِ الفاءُ لشِبْهِ الموصولِ بالشرط.
قوله: ﴿يُدْنِينَ﴾ : كقوله: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ... يُقِيمُواْ﴾ [إبراهيم: ٣١] و «مِنْ» للتبعيض.
141
قوله: «ذلك أَدْنَى» أي: إدناءُ الجلابيبِ أقربُ إلى عِرْفانهنَّ فعَدَمِ أذاهنَّ.
142
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ : أي: إلاَّ زماناً قليلاً، أو إلاَّ جِواراً قليلاً. وقيل: «قليلاً» نصبٌ على الحال مِنْ فاعل «يُجاوِرونك» أي: إلاَّ أَقِلاَّءَ أَذِلاَّء بمعنى: قليلين. وقيل: «قليلاً» منصوبٌ على الاستثناء أي: لا يُجاوِرُكَ إلاَّ القليلُ منهم على أذلِّ حالٍ وأقلِّه.
قوله: ﴿مَّلْعُونِينَ﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «يُجاوِرونك» قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء. قال ابن عطية: «لأنه بمعنى يَنْتَفُوْن منها ملعونين». وقال الزمخشري: «دَخَلَ حرفُ الاستثناء على الحالِ والظرفِ معاً كما مَرَّ في قوله: ﴿إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ﴾ [الأحزاب: ٥٣]. قلت: وقد تقدَّم بحثُ الشيخِ معه وهو عائدٌ هنا. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ ينتَصِبَ على الشتمِ. وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» قليلاً «على أنه حال كما تقدَّم تقريرُه. ويجوزُ أَنْ يكونَ» مَلْعونين «نعتاً ل» قليلاً «على أنه منصوبٌ على الاستثناءِ مِنْ واو» يُجاوِرُوْنَك «كما تقدَّم تقريرُه. أي: لا يُجاورُك منهم أحدٌ إلاَّ قليلاً ملعوناً. ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب» أُخِذُوا «الذي هو جوابُ الشرطِ. وهذا
142
عند الكسائيِّ والفراء فإنهما يُجيزان تقديمَ معمولِ الجواب على أداةِ الشرط نحو:» خيراً إْن تَأْتِني تُصِبْ «.
وقد منع الزمخشريُّ ذلك فقال:»
ولا يَصِحُّ أنْ ينتصِبَ ب «أُخِذُوا» لأنَّ ما بعد كلمة الشرطِ لا يَعْمل فيما قبلَها «. وهذا منه مَشْيٌ على الجادَّةِ. وقوله:» ما بعد كلمةِ الشرط «يشملُ فعلَ الشرطِ والجوابِ. فأمَّا الجوابُ فتقدَّم حكمُه، وأمَّا الشرطُ فأجاز الكسائيُّ أيضاً تقديمَ معمولِه على الأداة نحو:» زيداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ «. فتلخَّص في المسألة ثلاثةُ مذاهبَ: المَنعُ مطلقاً، الجوازُ مطلقاً، التفصيلُ: يجوز تقديمُه معمولاً للجواب، ولا يجوزُ تقديمُه معمولاً للشرط، وهو رأيُ الفرَّاء.
قوله:»
وقُتِّلوا «العامَّةُ على التشديد. وقُرِئ بالتخفيف. وهذه يَرُدُّها مجيءُ المصدرِ على التَّفْعيل إلاَّ أَنْ يُقالَ: جاء على غيرِ صَدْرِه. وقوله:» سُنَّةُ اللَّهِ «قد تقدَّم نظيرها.
143
قوله: ﴿لَعَلَّ الساعة﴾ : الظاهرُ أنَّ «لعلَّ» تُعَلِّق كما يُعَلِّق التمني. و «قريباً» خبرُ كان على حَذْفِ موصوفٍ أي: شيئاً قريباً. وقيل: التقديرُ: قيامَ الساعة، فرُوْعِيَتِ الساعةُ في تأنيث «تكون»، ورُوْعي المضافُ
143
المحذوفُ في تذكير «قريباً». وقيل: قريباً كَثُر استعمالُه استعمالَ الظروفِ فهو هنا ظرفٌ في موضعِ الخبر.
144
قوله: ﴿فِيهَآ﴾ : أي: في السَّعير لأنها مؤنثة، أو لأنه في معنى جهنم. و «لا يَجِدُون» حالٌ ثانية أو مِنْ «خالدين».
قوله: ﴿يَوْمَ﴾ : معمول ل «خالدين»، أو ل «يَجدون»، أو ل «نصيراً» أو ل «اذْكُرْ»، أو ل «يقولون» بعده. وقرأ العامَّةُ «تُقَلَّبُ» مبنياً للمفعول. «وجوهُهم» رفعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وقرأ الحسن وعيسى والرؤاسي «تَقَلَّبُ» بفتح التاء أي: تتقلَّب. «وجوهُهم» فاعلٌ به. أبو حيوةَ «نُقَلِّبُ» بالنون أي نحن. «وجوهَهم» بالنصب. وعيسى البصرة «تُقَلِّبُ» بضمِّ التاءِ وكسرِ اللام أي: تُقَلِّبُ السَّعيرُ أو الملائكةُ. «وجوهَهم» بالنصب على المفعول به. «يقولون» حالٌ و «يا لَيْتَنا» مَحْكِيٌّ.
قوله: ﴿سَادَتَنَا﴾ : قرأه ابنُ عامر في آخرين بالجمع بالألف والتاء. والباقون «سادَتنا» على أنه جمعُ تكسير غيرُ مجموعٍ بألفٍ وتاء. ثمَّ «سادة» يجوز أن يكونَ جمعاً لسَيِّد، ولكنْ لا ينقاسُ؛ لأنَّ فَيْعِلاً لا يُجْمع على فَعَلَة، وسادَة فَعَلَة؛ إذ الأصلُ سَوَدَة. ويجوزُ أنْ يكونَ جمعاً لسائدِ نحو: فاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة وهو أقربُ إلى القياس/ ممَّا قبله، وابنُ عامرٍ جمع هذا ثانياً بالألفِ والتاء، وهو غيرُ مقيسٍ أيضاً نحو: بيُوتات وجِمالات.
وقرأ «كبيراً» بالباءِ الموحَّدة عاصمٌ. والباقون بالمثلثة، وتقدَّم معناهما في البقرة.
قوله: ﴿عِندَ الله﴾ : العامَّةُ على «عند» الظرفية المجازية. وابن مسعود والأعمشُ وأبو حيوةَ «عَبْداً» من العبودية، «لله» جارٌّ ومجرورٌ وهي حسنةٌ. قال ابن خالويه: «صَلَّيْتُ خلفَ ابن شنبوذ في رمضانَ فسمعتُه يقرأ بقراءةِ ابنِ مسعود هذه». قلت: وكان - رحمه اللَّهُ - مُولعاً بنَقْلِ الشاذِّ، وحكايتُه مع ابن مُقْلة الوزيرِ وابن مجاهدٍ في ذلك مشهورةٌ. و «ما» في «ممَّا قالُوا» : إمَّا مصدريةٌ، وإمَّا بمعنى الذي.
وقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا﴾ : إمَّا حقيقةٌ، وإما تمثيلٌ وتخييلٌ.
وقوله: «فَأَبَيْنَ» أتى بضميرِ هذه كضميرِ الإِناث؛ لأنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوز فيه ذلك، وإنْ كان مذكراً، وإنما ذكَرْتُه لئلا يُتَوَهَّم أنه قد غَلَّبَ المؤنثَ وهو «السماوات» على المذكر وهو «الجبالُ».
قوله: ﴿لِّيُعَذِّبَ﴾ : متعلِّقٌ بقولِه «وحَمَلها» فقيل: هي لامُ الصيرورةِ لأنه لم يَحْملها لذلك. وقيل: لامُ العلةِ على المجاز؛ لَمَّا كانت نتيجةُ حَمْلِه ذلك جُعِلَتْ كالعلَّة الباعثةِ. ورَفَعَ الأعمشُ «ويتوبُ» استئنافاً.
Icon