جل هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة، وما كان من مواقف المنافقين فيه، وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشاد حوله، وفيها أكبر مجموعة لأسماء الله الحسنى. والمرجع أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف.
والمفسرون وكتاب السيرة متفقون١ على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة، ومتفقون٢ كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدنية حسب النزول يجعلونها الخامسة عشر، ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران، ثم يجعلونها بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر، وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما، بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة، وبدلا من أن يجعلوا الحشر بعد آل عمران جعلوا الممتحنة غلطا٣.
ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين ؛ لأنه قائم على واقع قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخل بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجل روايات الترتيب معا، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة، ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين، والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر، ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة ؛ لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول.
هذا، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره٤ ؛ لأنها نزلت في صدد وقعتهم.
٢ المصدر نفسه..
٣ أنظر كتابنا "سيرة الرسول" ج ٢ ص ٩، و "الإتقان" ج ١ص ١٠ـ ١٢..
٤ أنظر تفسيرها في تفسير البغوي وابن كثير والخازن..
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم :
الآية الأولى من المطالع التي تكررت في عدة سور مدنية كمقدمة تمهيدية لما بعدها وقد جاءت هنا كذلك. أما مطلع سورة الأعلى فليس من هذه المطالع ؛ لأنه أمر بالتسبيح.
وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي :
١ـ إن الله الذي يسبح له ما في السموات وما في الأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من مواطنهم لأول الحشر، في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك، وكان المخرجون يظنون أن حصونهم مانعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه، وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خرجوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول.
٢ ـ لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفي بإخراجهم وجلائهم، مع أنهم مستحقون لعذاب أشد في الدنيا، ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة، وحادث إجلاء بني النضير :
والمفسرون وكتاب السيرة١ متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذي كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما يسر الله لهم، بحيث لو لم يكن تيسيره لما تم لهم ما تم. ولم تأت للسرد القصصي وهو شأن سائر حوادث الجهاد في القرآن، ولما كانت الآيات التالية لها، وقد احتوت تشريع تخصيص الفيء جميعه لبيت مال المسلمين والفئات المحتاجة بأسلوب قوي حاسم، فمن السائغ أن يقال : إن هذه الآيات قد جاءت بأسلوبها الذي جاءت به لتبرير ذلك التشريع.
ويتضمن هتاف الآيات ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار ﴾ بشرى ربانية تمد المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظرف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يحتل الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شردوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها. فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا، ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم، وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن، ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزق وتخاذل وتهاون، وكل هذا مما مكن عدوهم وأنصاره من بلادهم، ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها.
أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير٢ هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع بعض أصحابه إلى حي بني النضير ليستعين بهم على دية قتيل كان بين قومه وبين النبي، وبين قومه وبين بني النضير في الوقت نفسه حلف وعهد وجوار جريا على التقاليد الجارية، فتظاهروا بالاستعداد لتلبية طلبه، وقالوا لبعضهم : إنكم لن تجدوا فرصة أحسن من هذه الفرصة لاغتياله، وأخذوا يدبرون طريقة لذلك، فارتاب النبي في حركتهم فانسحب بسلام، وأرسل إليهم في اليوم التالي إنذارا بالجلاء في ظرف عشرة أيام على أن يأخذوا أموالهم المنقولة، ويقيموا وكلاء على أراضيهم وبساتينهم. وكانوا حلفاء لقوم كبير المنافقين عبد الله بن أبي فاستشاروهم فحرضوهم على الرفض ووعدوهم بالنصر فاغتروا ورفضوا، فحاصرهم النبي وضيق عليهم وأمر بقطع بعض نخيلهم إرغاما وإرهابا، ولم يجد المنافقون من حلفائهم وفاء بما وعدهم به من النصر، فاستولى الرعب عليهم ورضوا بالجلاء بشروط أشد من الأولى بسبب تمردهم وعنادهم، وهي تسليم سلاحهم وتنازلهم عن أراضيهم وبساتينهم وحمل منقولاتهم فقط.
وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم ؛ حيث يتسق ذلك مع الروايات التي أوجزناها.
ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون ؛ حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم، وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها، وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم، سالمة لهم أموالهم، وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام، ومنهم من ذهب إلى خبير فأقام مع يهودها، ومن هؤلاء زعماؤهم الذي تزعموا يهود خبير، وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها ؛ لئلا ينتفع بها المسلمون، فجاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة﴿ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ على ما رواه المفسرون.
ومما روته الروايات كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة﴿ لأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾٣ فقيل : إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج ؟ فقال لهم : إلى أول الحشر في الشام، وقيل : إن معناها ( هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول، ويعقبه حشر ثان وهو ما تم في زمن عمر بن الخطاب ) وقيل : إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعد لقتالهم. ولعل التأويل الأخير هو الأوجه ؛ لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين، وهو المتسق مع روح الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد، وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال.
وجملة ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ واسعة المدى والشمول، وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن، وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا، فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة، ويشبب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الواقعة٤.
الآية الأولى من المطالع التي تكررت في عدة سور مدنية كمقدمة تمهيدية لما بعدها وقد جاءت هنا كذلك. أما مطلع سورة الأعلى فليس من هذه المطالع ؛ لأنه أمر بالتسبيح.
وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي :
١ـ إن الله الذي يسبح له ما في السموات وما في الأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من مواطنهم لأول الحشر، في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك، وكان المخرجون يظنون أن حصونهم مانعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه، وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خرجوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول.
٢ ـ لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفي بإخراجهم وجلائهم، مع أنهم مستحقون لعذاب أشد في الدنيا، ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة، وحادث إجلاء بني النضير :
والمفسرون وكتاب السيرة١ متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذي كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة.
وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما يسر الله لهم، بحيث لو لم يكن تيسيره لما تم لهم ما تم. ولم تأت للسرد القصصي وهو شأن سائر حوادث الجهاد في القرآن، ولما كانت الآيات التالية لها، وقد احتوت تشريع تخصيص الفيء جميعه لبيت مال المسلمين والفئات المحتاجة بأسلوب قوي حاسم، فمن السائغ أن يقال : إن هذه الآيات قد جاءت بأسلوبها الذي جاءت به لتبرير ذلك التشريع.
ويتضمن هتاف الآيات ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَار ﴾ بشرى ربانية تمد المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظرف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث يحتل الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شردوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها. فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا، ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم، وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين، ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن، ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزق وتخاذل وتهاون، وكل هذا مما مكن عدوهم وأنصاره من بلادهم، ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها.
أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير٢ هي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع بعض أصحابه إلى حي بني النضير ليستعين بهم على دية قتيل كان بين قومه وبين النبي، وبين قومه وبين بني النضير في الوقت نفسه حلف وعهد وجوار جريا على التقاليد الجارية، فتظاهروا بالاستعداد لتلبية طلبه، وقالوا لبعضهم : إنكم لن تجدوا فرصة أحسن من هذه الفرصة لاغتياله، وأخذوا يدبرون طريقة لذلك، فارتاب النبي في حركتهم فانسحب بسلام، وأرسل إليهم في اليوم التالي إنذارا بالجلاء في ظرف عشرة أيام على أن يأخذوا أموالهم المنقولة، ويقيموا وكلاء على أراضيهم وبساتينهم. وكانوا حلفاء لقوم كبير المنافقين عبد الله بن أبي فاستشاروهم فحرضوهم على الرفض ووعدوهم بالنصر فاغتروا ورفضوا، فحاصرهم النبي وضيق عليهم وأمر بقطع بعض نخيلهم إرغاما وإرهابا، ولم يجد المنافقون من حلفائهم وفاء بما وعدهم به من النصر، فاستولى الرعب عليهم ورضوا بالجلاء بشروط أشد من الأولى بسبب تمردهم وعنادهم، وهي تسليم سلاحهم وتنازلهم عن أراضيهم وبساتينهم وحمل منقولاتهم فقط.
وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم ؛ حيث يتسق ذلك مع الروايات التي أوجزناها.
ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون ؛ حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم، وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها، وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم، سالمة لهم أموالهم، وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام، ومنهم من ذهب إلى خبير فأقام مع يهودها، ومن هؤلاء زعماؤهم الذي تزعموا يهود خبير، وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها ؛ لئلا ينتفع بها المسلمون، فجاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة﴿ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ على ما رواه المفسرون.
ومما روته الروايات كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة﴿ لأَوَّلِ الْحَشْرِ ﴾٣ فقيل : إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج ؟ فقال لهم : إلى أول الحشر في الشام، وقيل : إن معناها ( هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول، ويعقبه حشر ثان وهو ما تم في زمن عمر بن الخطاب ) وقيل : إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعد لقتالهم. ولعل التأويل الأخير هو الأوجه ؛ لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين، وهو المتسق مع روح الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد، وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال.
وجملة ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ واسعة المدى والشمول، وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن، وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا، فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة، ويشبب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الواقعة٤.
الخطاب في الآية موجه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله، وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم.
والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيروا النبي بتقطيعه النخل، وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعيير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبت النبي والمسلمين وللرد على اليهود والمنافقين، وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم.
( ٢ ) أوجفتم : هيأتم، ومعنى جملة﴿ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ﴾لم تسيروا مسيرة تحتاج إلى خيل وركاب ولم تقاسوا حربا ولا مشقة في سبيل ما أفاء الله عليكم.
( ٣ ) كيلا يكون دولة بين الأغنياء : لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصح أن يتداوله الأغنياء.
تضمنت هذه الآيات :
١ ـ مقدمة تبريرية لتشريع الفيء، فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله، ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.
٢ ـ تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين : فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.
٣- تدعيما لهذا التشريع : فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا، وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره، فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة، والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.
تعليق على الآية :
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ... ﴾ الخ، والآية التالية لها وتشريع الفيء.
وقد روى المفسرون١ أن بعض المسلمين طالبوا النبي بقسمة أملاك وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين ؛ لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي يتضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.
وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلف المسلمين نفقة ومشقة ؛ ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة، وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.
وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى ؛ لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.
والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [ ٤١ ] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا، فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.
تعليق على جملة :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾، مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها، ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( ٨٠ ) ﴾ بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [ ٣١ و ٣٢ ] والنساء [ ٥٩ و ٦٨ ] والنور [ ٥٢ ] والأحزاب [ ٧١ ] والفتح [ ١٧ ]. والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلا بما هو صالح وخير وعن النهي إلا بما هو ضارّ وباطل.
وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم على بعض على ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه، فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرا أو يؤيده نصا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه، من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )٢. وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )٣. والأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.
وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبت فيما ينسب إليه من ذلك، ولقد يسر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج الخ... الخ... وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.
تعليق على جملة :
﴿ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾.
هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس، وإن من حق السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة ؛ حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين )٤. وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حد اليقين بأنه رتب المرتبات لمختلف فئات المسلمين، وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء٥. مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه.
تضمنت هذه الآيات :
١ ـ مقدمة تبريرية لتشريع الفيء، فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله، ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة، وقد مكن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.
٢ ـ تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين : فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.
٣- تدعيما لهذا التشريع : فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا، وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره، فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة، والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.
تعليق على الآية :
﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ... ﴾ الخ، والآية التالية لها وتشريع الفيء.
وقد روى المفسرون١ أن بعض المسلمين طالبوا النبي بقسمة أملاك وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين ؛ لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى الله عليه وسلم.
والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي يتضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.
وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلف المسلمين نفقة ومشقة ؛ ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة، وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.
وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى ؛ لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.
والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [ ٤١ ] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا، فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.
تعليق على جملة :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾، مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها، ثم لتوطيد سلطة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ( ٨٠ ) ﴾ بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [ ٣١ و ٣٢ ] والنساء [ ٥٩ و ٦٨ ] والنور [ ٥٢ ] والأحزاب [ ٧١ ] والفتح [ ١٧ ]. والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزّ وجل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلا بما هو صالح وخير وعن النهي إلا بما هو ضارّ وباطل.
وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم على بعض على ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه، فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرا أو يؤيده نصا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه، من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال :( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )٢. وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )٣. والأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.
وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبت فيما ينسب إليه من ذلك، ولقد يسر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق، وتوضيح ما فيه غموض، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج الخ... الخ... وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.
تعليق على جملة :
﴿ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾.
هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس، وإن من حق السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة ؛ حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين )٤. وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حد اليقين بأنه رتب المرتبات لمختلف فئات المسلمين، وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء٥. مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه.
( ٢ ) ﴿ لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ﴾ : الجمهور على أن الضمير في الكلمتين الأوليين عائد إلى الأنصار وفي كلمة﴿ أوتوا ﴾ عائد إلى المهاجرين. ومعنى الجملة لا يشعر الأنصار بحسد أو غيرة مما أوتي المهاجرون.
( ٣ ) ﴿ يؤثرون على أنفسهم ﴾ : من الإيثار أي يؤثرون الغير على أنفسهم.
( ٤ ) خصاصة : فاقة وحاجة.
تعليق على الآية :
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ٨ ) ﴾.
والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة. وتبدو أنها بيان توضيحي للمستحقين للفيء من الفقراء ؛ حيث شمل أولا الفقراء المهاجرين الذين اضطروا إلى الخروج من ديارهم والتخلي عن أموالهم فيها ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة دينه ورسوله. وثانيا فقراء الأنصار الذين آمنوا برسالة النبي في دار الهجرة قبل أن يأتي إليها المهاجرون ورحبوا بالذين هاجروا إليهم وأحبوهم والذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة ولا يحسدون المهاجرين على ما أوتوا ولا يغارون منهم ؛ حيث أثبتوا أن الله قد وقاهم من الشح وهيأ لهم بذلك سبيل الفلاح. وثالثا فقراء المسلمين الذين آمنوا بعد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واندمجوا فيهم وكانوا يدعون الله بأن يغفر لهم وإخوانهم السابقين عليهم بالإيمان وبأن لا يجعل في قلوبهم غلا ولا حسدا نحوهم وهو الرءوف بعباده الذي يشملهم بسابغ رحمته.
ولقد روى المفسرون١ ما يفيد أن المهاجرين كانوا فقراء لا أرض ولا مورد لهم وكانوا عالة على الأنصار فلما فتح الله على النبي ويسر له أموال بني النضير شاور الأنصار واسترضاهم في النزول عن حقهم فيها حتى يقسمها على المهاجرين فيكفوهم مئونتهم، وأن الأنصار رضوا بذلك عن طيب خاطر ولم يشعروا بحسد ولا غيرة مما اعتزمه النبي من توزيع الفيء على المهاجرين عدا الذين في قلوبهم مرض ونفاق. وأن النبي قسم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة رجال فقراء منهم. وأن الآيات بسبيل تأييد ما فعله النبي إلهاما، والثناء على الأنصار الذين تنازلوا عن حقهم.
ونحن في حيرة من هذه الروايات التي رواها معظم المفسرين عزوا إلى ابن عباس ؛ لأننا نراها متناقضة مع تقرير الآيات السابقة التي شرعت جميع الفيء للمصالح العامة والمحتاجين ؛ لأنه تيسر بدون إيجاف خيل وركاب فلم يستحق فيه المسلمون استحقاقا ملزما كاستحقاقهم في الغنائم التي يحوزون عليها بعد قتال وإيجاف خيل وركاب ومنعت قسمته على المسلمين الميسورين. بل وتتناقض مع روح الآيات نفسها التي جاءت مطلقة وبعضها معطوف على بعض ؛ بحيث تبدو بأسلوب قوي أنها أرادت فقراء الفئات الثلاث معا أي السابقين من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا بعدهم واندمجوا فيهم.
وكل ما يمكن احتماله فيما نرى وفيه توفيق بين روح الآيات وخطوط الرواية أن تكون ما آلت إليه حالة المهاجرين الاقتصادية من ضيق وحرج قد ألهمت النبي صلى الله عليه وسلم بقصر الفيء الذي تيسر بدون إيجاف وحرب على المصالح العامة والفقراء المساكين واليتامى وأبناء السبيل وذي القربى دون الأغنياء ولم يكن من المهاجرين أغنياء، وإنما كان من الأنصار وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطب هؤلاء فأظهر المخلصون وهم الأكثرية العظمى منهم الرضاء دون اعتراض وحساسية مما كان جعلهم يستحقون التنويه العظيم الذي احتوته الآية. وظلّ الذين في قلوبهم مرض منهم يشغبون وينتقدون فاقتضت حكمة التنزيل تأييد النبي بهذه الآيات والتي قبلها لتكون حاسمة للأمر وتشريعية مطلقة لأمثال الفيء فيما بعد. ولعل ما ذكرته الروايات من إعطاء النبي فقراء من الأنصار نصيبا من هذا الفيء قرينة أو دليل على ذلك.
ولقد روى الإمام أبو يوسف والإمام أبو عبيد : أن المسلمين الذين فتحوا العراق طلبوا من عمر بن الخطاب أن يقسم أرض السواد العراقي عليهم فأبى وقال لهم : إنه لجميع فقراء المسلمين في جميع أجيال حقا في ذلك استنادا إلى هذه الآيات، وأبقاها كذلك يؤخذ ريعها من مستأجريها ويوزع على الفقراء المسلمين ؛ حيث يمكن القول على ضوء هذه الرواية الواردة في أقدم كتابين وصلا إلينا لإمامين مشهورين أن عمر رضي الله عنه اعتبر الآيات توضيحا للمستحقين للفيء من فقراء المسلمين على اختلافهم، سواء أكانوا من المهاجرين أم من الأنصار الأولين أم من الذين آمنوا بعد الرعيل الأول من هؤلاء وأولئك. ثم اعتبرها مستمرة الحكم بالنسبة لجميع أجيال المسلمين في مستقبل الأيام. وصيغة الآيات وعطف بعضها على بعض ومجيئها بعد ذكر مصارف الفيء وخاصة الفئات المحتاجة من المسلمين مما يدعم هذا الاعتبار.
ونقف إزاء تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ لنقول : إنه صورة من ما كان يفهم كبار أصحاب رسول الله من التوجهات القرآنية. وإنه عمل فريد رائع في بابه فيه تدشين لما يمكن أن يسمى أملاك الدولة التي ترصد على فقراء المسلمين تطبيقا عمليا لتشريع مساعدة هؤلاء الفقراء التي جعلت من نظام الدولة الإسلامية على ما تلهمه الآيات، وعلى ما شرحناه في سياق شرحنا آيات خمس الغنائم والزكاة في سورتي الأنفال والمزمل.
ويتبادر لنا أن عمر رضي الله عنه اعتبر فقراء المسلمين من الفئات الثلاث بمثابة ( مساكين ) في معنى الكلمة الذي جاء شرحها في حديث نبوي رواه الشيخان عن أبي هريرة " ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ". ويتبادر لنا كذلك أن عمر رضي الله عنه لا بد من أنه لحظ جمع مصارف الفيء، وكان ينفق من إيراد السواد العراقي عليها حسب ما تقتضيه المصلحة، وأن ما روي إنما كان لتطبيق مدى الآية وعدم توزيع الأرض على الفاتحين وإبقائها بمثابة الفيء والمصارفة والله تعالى أعلم. والمستفاد مما ذكره أبو عبيد أيضا : أن عمر رضي الله عنه سلك في أرض الشام المفتوحة ما سلكه في أرض العراق.
هذا، ووصف الفئات الثلاث المخلصة في حدّ ذاته وصف قوي محبب وجدير بالتأمل والإجلال ويدل على ما كان من قوة إخلاص السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لدين الله ورسوله وتحملهم معظم التضحيات في سبيلهما، فاستحقوا ثناء الله العظيم في هذه الآيات وفي آية التوبة هذه ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ١٠٠ ) ﴾ كما استحقوا ثناء رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة وردت في الكتب الخمسة. منها حديث رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه :" أصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " ٢. وحديث آخر رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه :" الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " ٣. وحديث رواه الأربعة عن أبي سعيد جاء فيه " لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه " ٤ وحديث رواه الترمذي عن بريدة جاء فيه :" ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة " ٥ وحديث رواه الشيخان عن البراء جاء فيه :" الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " ٦. وحديث رواه الشيخان عن أنس جاء فيه :" آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " ٧. وحديث رواه الشيخان عن أنس أيضا جاء فيه يخاطب امرأة من الأنصار :" والذي نفسي بيده إنكم لأحب الناس إليّ، ثلاث مرات " ٨. وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه :" لو أنّ الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " ٩ وحديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم جاء فيه :" اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار " ١٠.
وهذه الأحاديث خلاف أحاديث كثيرة في عدد كبير بأعيانهم من المهاجرين والأنصار.
ونقول استطرادا : أولا : إن كلمة ( صحابي ) مع أنها تطلق من قبل المسلمين على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فإن كلمة ( أصحابي ) في هذه الأحاديث تدلّ في مقامها على أن المقصود منهم : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته رضي الله عنهم. وثانيا : إن اسم ( المهاجر ) يطلق على من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط ؛ لأن هناك حديثا نبويا جاء فيه :" لا هجرة بعد الفتح " وإن المهاجرين أنواع، نوع هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي إلى المدينة ثم جاؤوا منها إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة في ظروف هجرة النبي إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة بعد مدة ما وقبل فتح مكة وظلّ أثناء هذه المدة مشركا. وإن كلمة ( السابقين الأولين ) بالنسبة للمهاجرين تطلق على النوعين الأولين فقط. وثالثا : إن الأنصار أيضا أنواع، نوع آمن قبل هجرة النبي إلى المدينة وهم الذين ذكروا في الآية الثانية التي نحن في صددها. ونوع آمنوا بعد هجرته. وإن كلمة ( السابقين الأولين ) بالنسبة للأنصار تطلق على النوع الأول فقط.
هذا، ولقد روى الشيخان والترمذي كسبب لنزول جملة﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ عن أبي هريرة قال :" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئا فقال : ألا رجل يضيّفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله فقال لامرأته : ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا. قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله فقال : لقد عجب الله أو ضحك الله عز وجلّ من فلان وفلانة فأنزل الله الجملة " ١١. والجملة جزء من آية والآية جزء من سياق. وكل ما يمكن أن يكون أن النبي تلا الآية حينما فعل الأنصاري وامرأته ما فعلاه فالتبس الأم
( ٢ ) بأسهم بينهم شديد : عداوتهم فيما بينهم شديدة.
( ٣ ) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى : تظنهم في ظاهرهم متحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرقة.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
( ٥ ) بأسهم بينهم شديد : عداوتهم فيما بينهم شديدة.
( ٦ ) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى : تظنهم في ظاهرهم متحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرقة.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية :
﴿ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ... ﴾ الخ، وما بعدها لغاية الآية [ ١٧ ].
في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :
١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا، وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولوا الأدبار ولما انتصروا، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثم يتخلى عنه قائلا له : إني بريء منك إني أخاف الله، وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.
٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قراهم المحصنة، أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة، وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون، وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.
والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة، وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية، ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.
ولقد قلنا قبل : إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبيّ ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه، وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشد مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.
أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [ ١٥ ] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر : إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر١. والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير﴿ قبلهم ﴾ العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود، ولأن المشركين عادوا فكروا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.
وقد قال بعض المفسرين : إن جملة﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ إنها في صدد اليهود والمنافقين معا٢. وقال بعضهم : هي في صدد اليهود فقط٣. وهذا هو الأوجه فيما نرى ؛ ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.
وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [ ٨٤ ـ ٨٥ ] من سورة البقرة، وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة، وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم، ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.
والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة، فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان ؛ لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخروا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة ؛ لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.
ولقد ساق المفسرون٤ قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسهبة البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [ ١٦ ] خلاصتها : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزين له مواقعتها، ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له : إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له، وحينئذ قال له : إني بريء منك إني أخاف الله.
وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ... ﴾ الخ والآية التالية لها.
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتفكير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوفقهم إلى ما ينجي أنفسهم، فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه :" أنه جاء رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة فصلى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ١ ) ﴾، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ وقال هو تصدق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوم كومان من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله ثم قال : من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات، ويوجه الناس بها نحو الخير والبرّ، ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ... ﴾ الخ والآية التالية لها.
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتفكير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوفقهم إلى ما ينجي أنفسهم، فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه :" أنه جاء رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة فصلى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ١ ) ﴾، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ وقال هو تصدق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوم كومان من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله ثم قال : من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات، ويوجه الناس بها نحو الخير والبرّ، ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ... ﴾ الخ والآية التالية لها.
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتفكير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوفقهم إلى ما ينجي أنفسهم، فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة.
ولقد روى ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه :" أنه جاء رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة فصلى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ١ ) ﴾، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ وقال هو تصدق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوم كومان من طعام وثياب، فتهلل وجه رسول الله ثم قال : من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ". حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات، ويوجه الناس بها نحو الخير والبرّ، ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.
تعليق على الآية :
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾والآيتين التاليتين لها :
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا، والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المتقدس المنزه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كل شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبه الله تعالى إليه الناس لعلهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤيدونه له.
وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.
تعليق على الآية :
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾والآيتين التاليتين لها :
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا، والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المتقدس المنزه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كل شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبه الله تعالى إليه الناس لعلهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤيدونه له.
وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.
( ٢ ) السلام : المرجو للأمن والسلام.
( ٣ ) المؤمن : واهب الأمن والطمأنينة. وقرئت ( المؤمن ) بمعنى المعتمد الذي يركن إليه ويؤمن له.
( ٤ ) المهيمن : المراقب والمسيطر على عباده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ٢١ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ٢٢ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ( ١ ) السَّلَامُ( ٢ ) الْمُؤْمِنُ( ٣ ) الْمُهَيْمِنُ ( ٤ ) الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٢٣ ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ( ٥ ) الْبَارِئُ ( ٦ ) الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٤ ) ﴾ [ ٢١ ٢٤ ].
تعليق على الآية :
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾والآيتين التاليتين لها :
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا، والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المتقدس المنزه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كل شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبه الله تعالى إليه الناس لعلهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤيدونه له.
وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.
( ٦ ) البارئ : قيل إن معناها الموجد لما يخلقه من العدم أو المنشئ له أو المميز لأنواعه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( ٢١ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ٢٢ ) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ( ١ ) السَّلَامُ( ٢ ) الْمُؤْمِنُ( ٣ ) الْمُهَيْمِنُ ( ٤ ) الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٢٣ ) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ( ٥ ) الْبَارِئُ ( ٦ ) الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٤ ) ﴾ [ ٢١ ٢٤ ].
تعليق على الآية :
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾والآيتين التاليتين لها :
لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا، والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته، المتقدس المنزه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كل شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبه الله تعالى إليه الناس لعلهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤيدونه له.
وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، الذين حذرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.