تفسير سورة الحشر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ...} الآية.
قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلًا أتى النبي - ﷺ - فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله - ﷺ -: "من يضم أو يضيف هذا"؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله - ﷺ -، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاوين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: ضحك الله الليلة - أو عجيب - من فعالكما. فأنزل الله عز وجل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وأخرج ابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي: أن رجلًا من المسلمين... فذكر نحوه، وفيه أن الرجل الذي أضاف هو: ثابت بن قيس بن شماس. فنزلت فيه الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: إن جميع ما في السماوات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه، ويمجّده، إما (١) باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء، لا معقب لحكمه. والتسبيح معناه: تبعيد الله عن السوء، وتطهيره عما لا يليق بشأن ألوهيته. ويكون بالجنان واللسان والحال:
الأول: اعتقاد العبد بتعاليه عما لا يليق بالألوهية، وذلك لأن من معاني التفعيل الاعتقاد بشيء والحكم به؛ مثل: التوحيد، والتمجيد، والتعظيم؛ بمعنى: الاعتقاد بالوحدة، والمجد، والعظمة، والحكم بها.
والثاني: القول بما يدل على تعاليه؛ مثل: التكبير، والتهليل، والتأمين؛ بمعنى: أن يقول: الله أكبر، ولا إله إلا الله، وآمين. وهو المشهور عند الناس.
(١) روح البيان.
والثالث: دلالة المصنوعات على أن صانعها متصف بنعوت الجلال، مقدس عن الإمكان وما يتبعه.
وقال مجاهد: كل الأشياء تسبح لله، حيًّا كان أو جمادًا، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده. وهذا على الإطلاق. وأما بالنسبة إلى كل موجود: فالتسابيح مختلفة، فلكل موجود تسبيح مخصوص به من حيث ما يقتضيه نشأته، كما قال بعض الكبار. فإذا رأيت هؤلاء العوالم مشتغلين بالذكر الذي أنت عليه.. فكشفك خيالي غير صحيح لا حقيقي، وإنما ذلك خيالك أقيم لك في الموجودات، فإذا شهدت في هؤلاء تنوعات الأذكار.. فهو الكشف الصحيح، انتهى.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: ذو العزة القاهرة ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: ذو الحكمة الباهرة. وفي إيراد الوصفين بعد التسبيح إشارة إلى الباعث له والداعي إليه؛ لأن العزة أثر الجلال، والحكمة أثر الجمال، فله تعالى الاتصاف بصفات الكمال.
٢ - قال المفسرون (١): نزلت هذه السورة في بني النضير - وهم: طائفة من اليهود من ذرية هارون أخي موسى عليه السلام - وكان بنو النضير، وقريظة وبنو قينقاع في وسط أرض العرب من الحجاز وإن كانوا يهودًا، والسبب في ذلك: أن بني إسرائيل كانت تُغِير عليهم العماليق في أرض الحجاز، وكانت منازلهم: يثرب والجحفة إلى مكة، فشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه السلام، فوجه إليهم جيشًا وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحدًا، ففعلوا ذلك، وترك منهم ابن مَلِكٍ لهم كان غلامًا حسنًا، فرقوا له. ثم رجعوا إلى الشام وموسى قد مات، فقالت بنو إسرائيل: قد عصيتم وخالفتم فلا نؤويكم، فقالوا: نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها ونكون بها، فرجعوا إلى يثرب، فاستوطنوها وتناسلوا بها إلى أن نزل عليهم الأوس والخزرج بعد سيل العرم، فكانوا معهم إلى الإِسلام، فلما هاجر النبي - ﷺ -.. صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل ذلك رسول الله - ﷺ - منهم، فلما غزا رسول الله - ﷺ - بدرًا وظهر على المشركين.. قال بنو النضير: والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة، لا تُردُّ له راية. فلما غزا أُحدًا وهزم المسلمون.. ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله - ﷺ - وللمؤمنين، ونقضوا
(١) الخازن بتصرف.
95
العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - ﷺ -، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشًا، فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد - ﷺ -، ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش، وكعبُ بن الأشرف في الأربعين من اليهود المسجد الحرام، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي - ﷺ - بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة - بفتح الميم - الأنصاري، وكان أخا كعب من الرضاعة، فقتله غيلةً - أي: خدعة - وذلك أنه أتاه ليلًا فاستخرجه من ييته بقوله: إني أتيتك لأستقرض منك شيئًا من التمر، فخرج إليه فقتله، ورجع إلى النبي - ﷺ - فأخبره، ففرح النبي - ﷺ - به؛ لأنه أضعف قلوبهم، وسلب قوتهم، وإن النبي - ﷺ - قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح حَجَر على النبي - ﷺ - من الحصن، فعصمه الله سبحانه منهم، وأخبره بذلك جبريل عليه السلام.
فلما قتل كعب بن الأشرف.. أصبح رسول الله - ﷺ -، وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة، فلما سار إلهم النبي - ﷺ - وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد! واعية على إثر واعية، وباكية على إثر باكية، قال: "نعم". فقالوا: ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي - ﷺ -: "اخرجوا من المدينة"، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وأذَّنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين، فإن قاتلوكم.. فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم.. لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها، ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله - ﷺ - فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك.. آمنا كلنا. فخرج النبي - ﷺ - في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود، حتى كانوا في براز من الأرض، فقال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلًا من أصحابه، كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون؟ اخرج في ثلاثة من أصحابك،
96
ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فيسمعون منك، فإن آمنوا بك.. آمنا بك وصدقناك، فخرج رسول الله - ﷺ - في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر، وأرادوا الفتك برسول الله - ﷺ - فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها - وهو رجل مسلم من الأنصار - فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله - ﷺ -، فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي - ﷺ - فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم، فرجع النبي - ﷺ -، فلما كان من الغد صبحهم رسول الله - ﷺ - بالكتائب، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، فسألوا رسول الله - ﷺ - الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به، فقبلوا ذلك، فصالحم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة - وهي: السلاح - وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم. قال ابن عباس: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي - ﷺ - ما بقي. وقيل: أعطي كل ثلاثة نفر بعيرًا وسقاء، ففعلوا ذلك، وخرجوا من ديارهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حييّ بن أخطب؛ فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة.
فذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يعني: بني النضير ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾؛ أي: من بيوتهم التي كانت بالمدينة.
قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي - ﷺ - من أحد، وفتح قريظة مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان، انتهى. أي: أمر بإخراج أهل التوراة؛ يعني: بني النضير من ديارهم. جمع دار. والفرق بين الدار والبيت: أن الدار دار وإن زالت حوائطها، والبيت ليس ببيت بعدما انهدم جدرانها؛ لأن البيت اسم لمبنى مسقف، مدخله من جانب واحد بني للبيتوتة، سواء كان حيطانه أربعة أو ثلاثة. وهذا المعنى موجود في الضُّفَّة إلا أن مدخلها واسع، فيتناولها اسم البيت. والبيوت اسم أخص بالمسكن، والأبيات بالشِّعر.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ للتوقيت كاللام في قوله: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾، متعلقة بـ ﴿أَخْرَجَ﴾؛ أي: عند أول حشرهم وسوقهم إلى الشام، وفي "كشف الأسرار": اللام لام العلة؛ أي: أخرجوا من ديارهم ليكون حشرهم إلى
97
الشام أول الحشر، والحشر معناه: إخراج جمع من مكان إلى آخر، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، إذ كان انتقالهم من بلاد الشام إلى جانب المدينة عن اختيار منهم، وهم أول في أخرج به من جزيرة العرب إلى الشام، فعلى هذا الوجه ليس الأول مقابلًا للآخر.
وسميت جزيرة؛ لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات. قال الخليل بن أحمد: مبدأ الجزيرة من حفر أبي موسى، إلى اليمن في الطول، ومن رمل بِبِريش - وهو موضع بحذاء الإِحساء - إلى منقطع السماوة في العرض. والسماوة بالفتح: موضع بين الكوفة والشام. أو يقال: هذا أول حشرهم، وآخر حشرهم إجلاء عمر - رضي الله عنه - إياهم من خيبر إلى الشام، وذلك حين بلغه الخبر عن النبي - ﷺ -: "لا يبقين دينان في جزيرة العرب". وقيل: آخر الحشر: حشر جمع الناس يوم القيامة؛ لأن المحشر يكون بالشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام.. فليقرأ هذه الآية، فإن النبي - ﷺ - لما قال لهم: "اخرجوا".. قالوا: إلى أين؛ قال: "إلى أرض المحشر". قال ابن العربي: الحشر أوّل وأوسط وآخر. فالأول: إجلاء بني النضير، والأوسط: إجلاء أهل خيبر، والآخر: يوم القيامة، انتهى.
﴿مَا ظَنَنْتُمْ﴾ أيها المسلمون ﴿أَنْ يَخْرُجُوا﴾؛ أي (١): أن يخرج بنو النضير من ديارهم وبيوتهم بهذا الذل والهوان؛ بشدة بأسهم ووثاقة حصونهم؛ لأنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار ونخيل واسعة، وأهل عَدد كثيرة وعُدد وافرة. ﴿وَظَنُّوا﴾؛ أي: ظن بنو النضير ظنًا قويًا هو بمرتبة اليقين؛ لأن ﴿أَنْ﴾ لا تقع إلا بعد فعل اليقين أو ما نزل منزلته. ﴿أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ﴾ وحافظتهم ﴿حُصُونُهُمْ﴾ وقلاعهم ﴿مِنَ﴾ بأس ﴿اللَّهِ﴾ وعذابه وبطشه؛ أي: وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وقهره وبطشه. وقوله: ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿حُصُونُهُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ﴿أَنَّهُمْ﴾. وقدم الخبر وأسند الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم في عزة ومنعة لا يبالى بسببها، فتقديم المسند يفيد قصر المسند إليه على المسند. فإن معنى قائم زيد: أن زيدًا مقصور على القيام لا
(١) روح البيان.
98
يتجاوزه إلى القعود، وكذا معنى الآية: أن حصونهم ليس لها صفة غير المانعية، ويجوز أن يكون ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ خبر ﴿أَنَّهُمْ﴾، و ﴿حُصُونُهُمْ﴾ فاعل ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ لاعتماده على المبتدأ. ورجح الثاني أبو حيان، والأول أولى.
فإن قيل: ما المانع من جعل ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ مبتدأ ﴿حُصُونُهُمْ﴾ خبرًا، فإن كليهما معرفة؟
قلت: كون ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ نكرةً؛ لأن إضافتها غير مخصصة، وأن القصد إلى الإخبار عن الحصون.
﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: أتى بني النضير أمرُ الله وقدره المقدور لهم ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ ولم يظنوا ولم يخطر ببالهم؛ أي: أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو: أنه سبحانه أمر نبيه - ﷺ - بقتالهم وإجلائهم، وكانوا لا يظنون ذلك. وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه، قاله ابن جريج، والسدي، وأبو صالح؛ فإنّ قَتْلَهُ ممَّا أضعف قوتهم، وقيل شوكتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب. و ﴿الفاء﴾: إما للتعقيب إشارة إلى أن البأس لم يكن متراخيًا عن ظنهم، أو للسبب إشارة إلى أنهم إنما أخذوا بسبب إعجابهم بأنفسهم وقطعهم النظر إلى صدرة الله وقوَّته.
﴿وَقَذَفَ﴾؛ أي: ألقى الله سبحانه وتعالى، وأركز، وأثبت ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾؛ أي: في قلوب بني النضير ﴿الرُّعْبَ﴾؛ أي: الخوف الذي أرعبها وملأها، بحيث غير عقلهم، وأعجز أنفسهم، وشوش رأيهم، وفرق تدبيرهم؛ أي: ألقى في قلوبهم الخوف من المسلمين. والمراد (١) بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو: الذي ثبت في "الصحيح" من قوله - ﷺ -: "نصرت بالرعب مسيرة شهر".
وجملة قوله: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ﴾ مستأنفة لبيان حالهم عند الرعب أو في محل النصب على الحال؛ أي: يخربونها بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء.. حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها
(١) الشوكاني.
99
من داخل والمسلمون من خارج، ولينقلوا معهم بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل. ﴿وَ﴾ بـ ﴿أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ حيث كانوا يخربونها إزالة لمتحصنهم ومتمنعهم، وتوسيعًا لمجال القتال، وإضرارًا بهم، وإسناد هذا إليهم لما أنهم السبب فيه، فكأنهم كلفوهم إياه، وأمروهم به، وهذا كقوله - ﷺ -: "من أكبر الكبائر: أن يسب الرجل والديه"، فقالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ فقال: "يساب الرجل، فيسب أباه فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
وقال الضحَّاك وقتادة: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم.
وقال الزهري، وابن زيد، وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي - ﷺ - على أن لهم ما أقلت الإبل.. كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود، فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
وقال الزهري أيضًا: يخربون بيوتهم بنقض المعاهد، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة.
وقال أبو عمرو: بأيديهم بتركم لها، وبأيدي المؤمنين بإجلائهم عنها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يخْربون﴾ بالتخفيف. وقرأ الحسن، والسلمي، ونصر بن
عاصم، وأبو العالية، وأبو عمرو، وقتادة، والجحدري، ومجاهد، وأبو حيوة، وعيسى: ﴿يخرِّبون﴾ بالتشديد. والقراءاتان بمعنى واحد، إلا أن في التشديد معنى التكثير. وفيه إشارة إلى أن استناد الكفار إلى الحصون والأحجار والسلاح، وأن اعتماد المؤمنين على الله الملك الغفار؟ ولا شك أن من اعتمد على المأمن الحقيقي ظفر بمراده في دنياه وآخرته، وأن ما استند إلى ما سوى الله تعالى خسر خسرانًا مبينًا في تجارته.
﴿فَاعْتَبِرُوا﴾؛ أي: فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار. ﴿يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ والعقول والبصائر الكاملة، واتقوا مباشرة ما أدّاهم إليه من الكفر والمعاصي، وانتقلوا من حال الفريقين إلى حال
(١) البحر المحيط.
100
أنفسكم، فلا تعولوا على تعاضد الأسباب كبني النضير الذين اعتمدوا على حصونهم ونحوها، بل توكلوا على الله تعالى. وفي "عين المعاني": فاعتبروا بها خراب جميع الدنيا.
ومعنى الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي (١): هو الذي أجلى بني النضير من المدينة بقوته وعزته وعظيم سلطانه. وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب، لم يصبهم الذل قبلها؛ لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة: وآخر حشر لهم: إجلاء عمر - رضي الله عنه - لهم من خيبر إلى الشام.
ثم بيّن فضل الله على المؤمنين ونعمته عليهم في إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرًا، فقال: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾؛ أي: ما خطر لكم ذلك - أيها المؤمنون - ببال؛ لشدة بأسهم ومنعتهم، وقوة حصونهم، وكثرة عَددهم وعُددهم. وفي ذكر هذا تعظم النعمة؛ فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب.. كانت مكانتها في النفوس أعظم وكانت بها أشد سرورًا وابتهاجًا، والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين. وبذا قضى الله عليهم قضاءه الذي لا مرد له، وصدق الله ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
ثم ذكر ما جرأهم على مشاكسة النبي - ﷺ - وتأليب المشركين عليه، فقال: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء، فلا يستطيع جيش مهما أوتي من بأس أن يصل إليهم بأذى، فاطمأنوا إلى تلك القوة، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول - ﷺ - والمشركين طمعًا في القضاء عليه بعد أن أصبحت له الزعامة الدينية والسياسية في المدينة، وسيكون في ذلك القضاء عليهم لو صبروا، وقد غبروا وهم أصحاب السلطان فيها، لأنهم من وجه أهل كتاب، ومن وجه آخر أرباب النفوذ المالي فيها وأصحاب الثروة والجاه العريض.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾؛ أي: فجاءهم بأس الله وقدرته التي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال، وصدق
(١) المراغي.
101
فيهم ما قيل: قد يؤتى الحَذِرُ من مأمنه. فأجلاهم النبي - ﷺ - من المدينة، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالي الشام، وطائفة إلى خيبر، على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.
ثم بيّن أسباب هذا الاستسلام السريع والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العَدد والعُدَد فقال: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾؛ أي: بث في قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول الله - ﷺ - وأصحابه إليهم، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلًا، ومما كان له بالغ الأثر في هذا الخوف: قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة، وما رأوه من كذب وعد عبد الله بن أبي رأس المنافقين في نصرتهم وإرسال المدد إليهم وتغريره بهم، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول - ﷺ -. فهم قد أوقدوا نارًا كانوا هم حطب لهبها، وفتحوا ثغرة برؤوسهم قد سدوها، ووقعوا في حفرة هم الذين كانوا قد حفروها، فابتلعتهم لا إلى رجعة.
ثم بيَّن مدى ما لحقهم من الهلع والجزع، وكيف حاروا في الدفاع عن أنفسهم، فقال: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ...﴾ إلخ؛ أي: يخربون بيوتهم بأيديهم. ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجاز أفواه الأزقة، حتى لا يدخلها العدو، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد. جلائهم، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال في جهات أخرى؛ كالخشب والعمد والأبواب. ويخربها المؤمنون من خارج؛ ليدخلوها عليهم، ويزيلوا تحصنهم بها، وليتسع مجال القتال، ويكون في ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.
ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار، فقال: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾؛ أي: فاتعظوا يا ذوي البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهؤلاء، من أمور عظام وبلاء ما كان يخطر لهم ببال، وأسباب تحار في فهمها العقول، ولا يصل إلى عنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة. وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم في هذه المهالك، فالسعيد من وعظ بغيره وإياكم والغدر والاعتماد على غير الله، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.
٣ - ثم بيَّن أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر، فقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ﴾ وحكم في سابق علمه ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: على بني النضير
102
﴿الْجَلَاءَ﴾؛ أي: الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع. و ﴿لولا﴾ (١) امتناعية، وما بعدها مبتدأ محذوف الخبر. فإن ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المقدر؛ أي: ولولا أنه، و ﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾: خبرها، وجملة ﴿أنْ﴾ في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: ولولا كتاب الله عليهم الجلاء واقع في علمه أو في لوحه.. ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة إخوانهم من اليهود.
قال بعضهم: لما استحقوا بجرمهم العظيم قهرًا عظيمًا.. أخذوا بالجلاء الذي جعل عديلًا لقتل النفس؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ مع أن فيه احتمال إيمان بعضهم بعد مدة وإيمان من يتولد منهم.
وكان (٢) بنو النضير من الجيش الذين عصوا موسى عليه السلام في كونهم لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق، تركوه لجماله وعقله، وقال موسى عليه السلام: لا تستحيوا منهم أحدًا، فلما رجعوا إلى الشام.. وجدوا موسى عليه السلام قد مات، فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة، والله لا دخلتم علينا بلادنا. فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام؛ فإنه أجلى معظمهم من بلاد الشام إلى العراق، وكان الله قد كتب على بني إسرائيل جلاء، فنالهم هذا الجلاء على يد محمد - ﷺ -، ولولا ذلك.. لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا القوم عن منازلهم، وأجلاهم غيرهم. قيل: والفرق بين الجلاء والإخراج: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد. وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لجماعة ولواحد.
وقرأ الجمهور: ﴿الْجَلَاءَ﴾ ممدودًا، والحسن بن صالح، وأخوه عليّ بن صالح مقصورًا. وقرأ طلحة مهموزًا من غير ألف كـ ﴿النبأ﴾.
﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾؛ أي: إن نجوا من عذاب الدنيا.. لم ينجوا في
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
103
الآخرة. والجملة (١) مستأنفة غير متعلقة بجواب ﴿لولا﴾ إذ لو كانت معطوفة عليه.. لزم أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضًا؛ لأن ﴿لولا﴾ تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط، وإنما جيء به لبيان أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا بكتابة الجلاء.. لا نجاة لهم من عذاب الآخرة. يقول الفقير: لا يلزم من نجاتهم من عذاب الدنيا أن لا يكون جلاؤهم من قبيل العذاب، وإنما لم يكن منه بالنسبة إلى عذاب الاستئصال. والحكمة في جلائهم: أنهم قصدوا قتل النبي - ﷺ -، وقتله شر من ألف قتل، فأخذوا بالجلاء ليموتوا كل يوم ألف مرة؛ لأن انقطاع النفس عن مألوفاتها بمنزلة موتها، فجاء الجزاء من جنس العمل.
والمعنى (٢): أي ولولا أن الله قدر الجلاء من المدينة وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين.. لعذبهم في الدنيا بما هو أفظع منه، من قتل وأسر، كما فعل مع المشركين في وقعة بدر، وكما فعل مع بني قريظة في سنة خمس من الهجرة، كفاء غدرهم وخيانتهم، وتأليب المشركين على المؤمنين، والسعي في إطفاء نور الإِسلام حتى لا تقوم لهم قائمة، إلى ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ونكال وجحيم، حين تقوم الساعة وتجازى كل نفس بما كسبت.
٤ - ثم بيّن السبب فيما حل بهم، وذر علته بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما حاق بهم من الجلاء، وسيحيق من عذاب الآخرة. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: خالفوا أمرهما، وفعلوا ما فعلوا مما حكي عنهم من القبائح. والمشاقة: كون الإنسان في شق ومخالفه في شق آخر. ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ﴾ كائنًا من كان ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ له. فهو (٣) نفس الجواب بحذف العائد، أو تعليل للجزاء المحذوف؛ أي: يعاقبه الله، فإن الله شديد العقاب، فإذًا لهم عقاب شديد أيضًا لكونهم من المشاقين، وأيا ما كان، فالشرطية تحقيق للسببية بالطريق البرهانيّ. وفيه إشعار بأنّ المخالفة تقتضي المؤاخذة بقدر قوتها وضعفها، فليحذر المؤمنون من العصيان مطلقًا. واقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأنَّ مشاقته مشاقة لرسوله. وقيل: بينهما فوق، فإن مشاقة الله: الامتناع من امتثال المأمورات بإنكارها، كالامتناع من أداء الصلوات لجحدها، وكذا للزكاة والحج مثلًا. ومشاقة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
الرسول: المنازعة معه في حكمة أمره ونهيه، مثل أسرار الصلوات الخمس واختلاف أعدادها، واختلاف قراءتها جهرًا وسرًّا، ومثل: أسرار الزكاة واختلاف أحكامها، ومثل: أحكام الحج ومناسكه. ونحن أمرنا بمحضى الامتثال والانقياد، وما كلفنا بمعرفة أسرارها وحقائقها، والشعبي - ﷺ - مع كمال عرفانه وجلال برهانه يقول: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾، وقال: "نحن نحكم بالظواهر والله يعلم السرائر".
وقرأ الجمهور: ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ﴾ بالإدغام. وقرأ طلبة بن مصرف ومحمد بن السميع ﴿يشاقق﴾ بالإظهار، كالمتفق عليه في الأنفال.
والمعنى: أي إنه تعالى إنما فعل ذلك بهم، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد - ﷺ -، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ثم ذكر مآل من يعادي الله ورسوله، فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؛ أي: ومن يعاد الله فإن الله يعاقبه أشد العقاب، وينزل به الخزي والهوان في الدنيا، والنكال السرمدي في الآخرة.
٥ - ثم ذكر أن كل شيء بقضاء الله وقدره، فقال: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾: ﴿مَا﴾ شرطية، نصب بـ ﴿قَطَعْتُمْ﴾. واللينة: وزان فعلة، نظير حنطة، وهي: النخلة الكريمة الشجرة، بكونها قريبة من الأرض والطيبة الثمرة، ولا تختص بنوع من النخل دون نوع، كما قاله الراغب. وقيل: اللينة ضروب النخل كلها، ما خلا العجوة والبرنية، وهما أجود النخل.
والمعنى: أي شيء قطعتم من نخلة من نخيلهم بأنواعها ﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا﴾ الضمير لـ ﴿مَا﴾ وتأنيثه لتفسيره باللينة كما في قوله تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾. ﴿قَائِمَةً﴾: في حال من ضمير المفعول ﴿عَلَى أُصُولِهَا﴾ وسوقها كما كانت، من غير أن تتعرضوا لها بشيء من القطع. جمع أصل، وهو ما يتشعب منه الفرع. ﴿فـ﴾ ـذاك ﴿بإذن الله﴾ تعالى؛ أي: قطعُها وتركُها واقع بأمر الله لإرادته، فلا جناح عليكم فيه؛ فإن في كل من القطع والترك حكمة ومصلحة.
وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير -
105
وهم أهل كتاب -: يا محمد! ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على رسول الله - ﷺ -، ووجد المسلمون في أنفسهم شيئًا. فنزلت هذه الآية.
أي: أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله تعالى. فجعل أمر الرسول - ﷺ - أمر الله تعالى؛ لأنه ما ينطق عن الهوى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿قَائِمَةً﴾ أنث قائمة، والضمير في ﴿تَرَكْتُمُوهَا﴾ على معنى ﴿مَا﴾ وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي ﴿قومًا﴾ بفتحتين على وزن فعل، جمع قائم، وقرىء ﴿قائمًا﴾ اسم فاعل، فذكر على لفظ ﴿مَا﴾ وقرأ الجمهور ﴿عَلَى أُصُولِهَا﴾ بالجمع، وقرىء ﴿على﴾ أصلها بغير واو على الإفراد.
و ﴿اللام﴾: في قوله: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ علة لمحذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على علة محذوفة، والتقدير: أذن في قطعها ليسر المؤمنين ويعزهم، ويخزي الفاسقين، أي: وليذل اليهود الخارجين عن دائرة الإِسلام؛ لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف أحبوا، ويتصرفون فيها حسبما شاؤوا من القطع والترك.. يزدادون غيظًا ويتضاعفون حسرة.
وتخصيص (٢) اللينة بالقطع إن كانت من الألوان.. ليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية هما كرام النخل، وإن كانت هي الكرام.. ليكون غيظهم أشد.
ويقال: إن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة. والعتيق الفحل، وكانت العجوة أصل الإناث كلها. فلذا شق على اليهود قطعها، وظهر من هذا أن اللون هو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة. ومن أنواع التمر بالمدينة: الصيحاني. وفي "شرح مسلم" للنواوي: أنواع التمر مئة وعشرون. وفي "تاريخ المدينة الكبير" للسيد السمنودي: أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مئة، وبضعًا وثلاثين. ويوافقه قول بعضهم: اختبرناها فوجدنا أكثر مما ذكره النواوي، قال: ولعل ما زاد على ما ذكر حدث بعد ذلك، وأما أنواع التمر بغير
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
106
المدينة، كالمغرب.. فلا تكاد تنحصر. وكانت العجوة خير أموال بني النضير؛ لأنهم كانوا يقتاتونها، ولما قطعت العجوة.. شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل كما في "إنسان العيون".
واستدل بهذه الآية على جواز هدم ديار الكفرة، وقطع أشجارهم مثمرة كانت أو غير مثمرة، وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وعلى جواز الاجتهاد وعلى تصويب المجتهدين. والكلام فيه مبسوط في كتب الأصول.
والمعنى: وقد أذن الله في ذلك ليعز المؤمنين، وليخزي الفاسقين ويذلهم، ويزيد غيظهم، ويضاعف حسرتهم بنفاذ حكم أعدائهم في أعز أموالهم.
والخلاصة: أنكم بأمر الله قطعتم، ولم يكن ذلك فسادًا، بل نعمة من الله ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله ومخالفة أمره ونهيه.
٦ - ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم (١)، وتركوا أرباعهم وأموالهم.. طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر. فنزلت: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ...﴾. فبين أن أموالهم فيء لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة، إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشيًا، ولم يركب إلا رسول الله - ﷺ -.
وهذا شروع في (٢) بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل، وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع. و ﴿ما﴾ موصولة، وقوله: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ خبره. ويجوز جعلها شرطية، وقوله: ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ جوابًا. والفيء في الأصل بمعنى الرجوع، وأفاء: أعاد وأرجع فهو على أصل معناه هنا.
والمعنى: وما أعاده الله على رسوله ورده، وأرجع إليه من مالهم؛ أي: جعله عائدًا إليه، ففيه إشعار بأنه كان حقيقًا بأن يكون له - ﷺ -، وإنما وقع في أيديهم بغير حق، فرجعه الله إلى مستحقه؛ لأنه تعالى خلق الناس لعبادته، وخلق ما خلق ليتوسلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين، وهو - ﷺ - رأسهم ورئيسهم، وبه أطاع من أطاع، فكان أحق به. فالعود على هذا بمعنى: أن يتحول
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
107
الشيء إلى ما فارق عنه، وهو الأشهر. ويجوز أن يكون معناه: صيّره له، فالعود على هذا بمعنى: أن يتحول الشيء إلى ما فارق عنه، وإن لم يكن ذلك التحول مسبوقًا بالحصول له قبل. والحمل هنا على هذا المعنى لا يحوج إلى تكلف توجيه بخلاف الأول. وكلمة ﴿على﴾ تؤيد المعنى الثاني.
قال بعضهم: سمى ذلك المال فيئًا تشبيهًا له بالفيء، الذي والظل، تنبيهًا على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل. قال المطرزي في "المُغْرِب": الفرق بين الغنيمة، والفيء، والنفل: أن الغنيمة: ما نيل من أن الشرك عنوة والحرب قائمة، وحكمها: أن تخمس، وسائرها بعد الخمس للغانمين خاصة. والفيء: ما نيل منهم بعدما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، ومنه الجزية، ومال أهل الصلح والخراج من أموالهم. وحكمه؛ أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس. والنَّفَلُ - بالتحريك -: ما ينفلُه المغازي؛ أي: يعطاه زائدًا على سهمه؛ لكثرة نكايته في الأعداء، وكأن يقول الإِمام أو الأمير: من قتل قتيلًا.. فله سلبه، أو قال للسرية: ما أصبتم.. فلكم ربعه أو نصفه، ولا يخمس. وعلى الإِمام الوفاء به.
﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من بني النضير ﴿فَمَا﴾ نافية ﴿أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أجريتم على تحصيله وتغنمه من الوجيف، وهو سرعة السير. ﴿مِنْ خَيْلٍ﴾: ﴿مِنْ﴾ زائدة بعد النفي للتأكيد؛ أي: خيلًا. وهو جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، كما سيأتي. ﴿وَلَا رِكَابٍ﴾؛ أي: ولا ركابًا؛ أي: جملًا. والركاب هو: ما يركب من الإبل خاصة، كما أن الراكب عندهم راكبها لا غير. وأما راكب الفرس فإنهم يسمونه فارسًا، ولا واحد لها من لفظها، وإنما الواحد منها: راحلة.
والمعنى: أي وما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير (١)، فما قطعتم لها شقة بعيدة، ولا لقيتم مشقة شديدة، ولا قتالًا شديدًا، وذلك أنه كانت قرى بني النضير على ميلين من المدينة، وهي ساعة واحدة بحساب الساعات النجومية، فذهبوا إليها مشيًا، وما كان فيهم راكب إلا النبي - ﷺ -، وكان يركب حمارًا مخطومًا بليف أو جملًا، فافتتحها صلحًا من غير أن يجري بينهم مسايفة. كأنه قال:
(١) روح البيان.
108
وما أفاء الله على رسوله منهم، فما حصلتموه بكد اليمين وعرق الجبين.
والمعنى (١): أي ما صيره الله إلى رسوله من أموال بني النضير.. فهو لله ورسوله، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم؛ لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة، بل نزلوا على حكم الرسول فرقًا ورعبًا، ولهذا: يصرف في وجوه البرّ والمنافع العامة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى).
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه؛ أي: ولكن جرت سنة الله تعالى بأن ﴿يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ من أعدائه، ويقذف الرعب في قلوبهم، فيستسلمون لهم بلا قتال، ولا مصاولة، ما سلط محمدًا - ﷺ - على هؤلاء، فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب ولا مقاومة شدائد الحروب، فلا حق للمقاتلة في الفيء، بل يكون أمره مفوضًا إلى الرسول، يصرفه كيف شاء ولا يقسمه تقسيم الغنائم. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ شاءه ﴿قَدِيرٌ﴾ فيفعل ما يشاء كما يشاء، تارة على ما يعهد من السنن، وأخرى على غير ما يعهد منها، كما جرى لبني النضير من استسلامهم بلا قتال، على مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعُددهم من سلاح وكراع، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.
وبعد أن أتمّ الكلام في إجلاء بني النضير وفيئهم أعقبه بالكلام في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الكفار عامة،
٧ - فقال: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه ورده ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ - ﷺ - ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾؛ أي: من أموال الكفار أهل القرى. قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر وقرى عرينة، وينبع. وهذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان إفاءته على رسول الله - ﷺ - من غير أن يكون للمقاتلة فيه حق، ولذا لم يعطف عليه، كأنه لما قيل: ما أفاء على رسوله من أموال بني النضير
(١) المراغي.
109
شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، فلا يقسم قسمة الغنائم. قيل: فكيف يقسم؟ فقيل: ما أفاء الله.. إلخ. قال في "برهان القرآن": قوله: ﴿وَمَا أَفَاءَ﴾، وبعده ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾ بغير واو؛ لأن الأول معطوف على قوله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾، والثاني استئناف لبيان مصارف مطلق الفيء، وليس له به تعلق. وقول من قال: بدل من الأولى، مزيف عند أكثر المفسرين، انتهى. وإعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير والتأكيد. ووضع أهل القرى موضع قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من بني النضير؛ للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم، بل هو حكم عام على كل قرية يفتحها رسول الله - ﷺ - صلحًا، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.
والمعنى: ما رده الله سبحانه على رسوله من كفار أهل القرى، كقريظة، والنضير، وفدك، وخيبر، يصرف في وجوه البرّ والخير، ولا يقسم تقسيم الغنائم؛ أي: لا تعطى أربعة أخماسه للمقاتلة؛ لأن القتال ليس موجودًا في الفيء، بل يخمس الفيء كالغنائم أيضًا، ولكن يصرف أربعة أخماسه في مصالح المسلمين، من سد الثغور، وحفر الأنهار، وبناء القناطر، والمدارس والمساجد، يقدم الأهم فالأهم. وأما الخمس الباقي: فيخمس أيضًا، فتصرف أخماسه في المصارف المذكورة بقوله: ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾؛ أي: يصرف خمس الخمس لله وللرسول يأمران فيه بما أحبّا. وذكر الله للتشريف والتعظيم والتبرك. والمراد: يصرف هذا الخمس لرسول الله - ﷺ - ينفق منه أهل بيته قوت سنة، وما بقي في مصالح المسلمين من السلاح والكراع.
وقال الواحدي في تفسيره "الوجيز على القرآن العزيز": وكان الفيء يخمس خمسة أخماس، فكانت أربعة أخماسه لرسول الله - ﷺ - يفعل فيها ما يشاء، والخمس الباقي يقسم بين المذكورين في هذه الآية. فأما اليوم فما كان للنبي - ﷺ - من الفيء يصرف إلى أهل الثغور والمترصدين للقتال في أحد قولي الشافعي، انتهى.
والمراد: أن للرسول من الفيء خمس، والأربعة الأخماس، يعني: أن لهؤلاء الأصناف المذكورة هنا أربعة أخماس الخمس والباقي للرسول - ﷺ - في حياته، وهو أربعة أخماس الفيء وخمس الخمس، وبعده - ﷺ - أربعة أخماس الفيء للمرتزقة، وخمس الخمس لمصالحنا. اهـ. "شيخنا" انتهى من "الفتوحات".
110
﴿و﴾ يصرف الخمس الثاني ﴿لِذِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: لذوي قربى رسول الله - ﷺ - من مؤمني بني هاشم وبني المطلب، الفقراء منهم، قيل: ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم قد منعوا من الزكاة فجعل لهم حقًا في الفيء. وقال في "شرح الآثار" عن أبي حنيفة - رحمه الله -: أن الصدقات كلها جائزة على بني هاشم وبني المطلب، والحرمة عليهم كانت في عهد النبي - ﷺ - لوصول خمس الخمس إليهم، فلما سقط ذلك بموته - ﷺ -.. حلت لهم الصدقات. قال الطحاوي: وبالجواز نأخذ، كذا في "شرح الوقاية" لابن الملك. ﴿و﴾ يصرف الخمس الثالث لـ ﴿الْيَتَامَى﴾؛ أي: يتامى المسلمين؛ أي: أطفال المسلمين الذين هلكت آباؤهم وهم فقراء. جمع يتيم، وهو: صغير لا أب له، وإن كان له جد أو أمّ. ﴿و﴾ يصرف الخمس الرابع لـ ﴿الْمَسَاكِينِ﴾؛ أي: مساكين المسلمين ذوي الحاجة. ﴿و﴾ يصرف الخمس الخامس لـ ﴿ابْنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: للمسافر المنقطع عن ماله ووطنه، ولا يمكن له أن يصل إليه لبعد الشقّة، وانقطاع طرق المواصلات وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة لكنها الآن سهلة، وهي على أساليب شتى، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف في أي بلد على سطح الكرة الأرضية. ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.
ثم علل هذا التقسيم بقوله: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ﴾ الفيء، ﴿دُولَةً﴾: علة لمحذوف، تقديره: أي (١) جعل الله سبحانه الفيء قسمة لمن ذكر من الأصناف؛ لأجل أن لا يكون الفيء شيئًا متداولًا ﴿بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾؛ أي: شيئًا مخصوصًا بهم يكاثرون به أموالهم، لا يخرجونه إلى المستحقين، ولا يصرفونه للفقراء والمساكين يعيشون بها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿كَيْ لَا يَكُونَ﴾ بالياء التحتية. ﴿دُولَةً﴾ - بضم الدال ونصب التاء -؛ أي: كي لا يكون الفيء دولة. وقال الخطيب: وترسم ﴿كي﴾ هنا مفصولة من ﴿لا﴾ انتهى. وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، وهشام، والأعرج، وأبو حيوة ﴿تكون﴾ بالتاء الفوقية، و ﴿دَولة﴾ بفتح الدال ورفع التاء. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي، ﴿دولة﴾ بضمها وفتحها، لغتان بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة - بالفتح -: الذي يتداول من الأموال، وبالضم: الفعل.
(١) المراح (كذا في الأصل).
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
111
وكذا قال أبو عبيدة. وال الكسائي، وحذاق البصرة: الدَّولة - بالفتح - في المُلك - بضم الميم -؛ لأنها الفِعْلة في الدهر، وبالضم في الملك بكسرِ الميمِ. والضمير في ﴿تكون﴾ بالتأنيث مع نصب ﴿دولةً﴾ على معنى ﴿مَا﴾ إذ المراد به: الأموال، والمغانم. وذلك الضمير اسم ﴿تكون﴾. وكذلك من قرأ بالياء أعاد الضمير على لفظ؛ ﴿مَّا﴾ أي: يكون الفيء، وانتصب ﴿دُولَة﴾ على الخبر. ومن رفع ﴿دولةٌ﴾ فتكون تامة، و ﴿دولةٌ﴾ فاعل؛ و ﴿كَيْ لَا يَكُونَ﴾ تعليل لقوله: ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾. أي: فالفيء وحكمه لله وللرسول، يقسمه على ما أمره الله تعالى؛ كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون بها متداولًا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم، كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم، ويقولون: من عزّ بزّ.
والمعنى: كي لا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية، قاله أبو حيان. وعبارة "الخازن": وذلك أن الجاهلة كانوا إذا غنموا غنيمة، أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي بعد المرباع منها ما شاء، فجعله الله سبحانه لرسوله - ﷺ - يقسمه على ما أمره الله به. اهـ.
والمعنى (١): أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسمًا بين هؤلاء المذكورين لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم ويتكاثرون به، كما كان ذلك دأبهم في الجاهلية، ولا يصيب الفقراء من ذلك شيء.
ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال. أمرهم بالاقتداء برسوله - ﷺ -، فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾؛ أي: وما، أعطاكم - أيها المؤمنون - الرسولُ من أموال الفيء وغيره ﴿فَخُذُوهُ﴾ منه؛ فهو لكم حلال ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾؛ أي: عن أخذه ﴿فَانْتَهُوا﴾ عنه؛ أي: فابتعدوا عنه، ولا تطلبوه، ولا تقربوه، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى، كما قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
وقال ابن جريج (٢): ما آتاكم من طاعتي.. فافعلوه، وما نهاكم عنه من معصيتي.. فاجتنبوه.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
112
والحق: أن هذه الآية في كل شيء يأتي به رسول الله - ﷺ - من أمر أو نهي أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصًا، كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكل شيء أتانا به من الشرع.. فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها.
أخرج الشيخان، وأبو داوود، والترمذي في جماعة، عن ابن مسعود قال: (لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيّرات لخلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، كانت تقرأ القرآن، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - ﷺ - وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوْحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأته.. فقد وجدته، أما قرأت قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾؟. قالت: بلى، قال: فإنه - ﷺ - قد نهى عنه).
وعن أبي رافع: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدته في كتاب الله اتبعناه".
وروي في سبب نزول هذه الآية (١): أن قومًا من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة، وقالوا: لنا منها سهمنا. فنزل ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ...﴾ الآية. وهذا عام يدخل فيه قسمة ما أفاء الله والغنائم وغيرها، حتى أنه قد استدل بهذا العموم على تحريم الخمر، وحكم الواشمة والمستوشمة، وتحريم المخيط للمحرم.
ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرسول وترك ما نهاهم عنه.. أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالي بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. فـ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه، وخالف أمره، وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه. ورسوله ترجمان عما يريده لخير عباده
(١) البحر المحيط.
113
وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
٨ - وقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾ قيل (١): هو بدل من قوله: ﴿لذي القربى﴾ وما عطف عليه؛ أي: وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للفقراء المهاجرين. ولا يصح أن يكون بدلًا من ﴿فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ لئلا يلزم وصف الله تعالى والرسول بالفقر.
والمعنى عليه: أنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين: فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم، طلبًا لمرضاة الله، ونيلًا لثوابه، ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه.
وقيل: تقدير الكلام: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء المهاجرين.
وقيل (٢): متعلق بمحذوف، تقديره: تعجبوا من حال الفقراء المهاجرين، ويكون خطابًا لكل من يصلح منه التعجب والتأمل في حال المهاجرين، حيث تركوا أوطانهم، وأموالهم، وتحملوا الضيق والتغرب في حب النبي - ﷺ - والإِسلام. وفي هذا نوع تخويف ونوع توبيخ للكفار والمنافقين القاطنين بأوطانهم مع الأمن والسعة، ولم يؤمنوا، فليتهم اعتبروا بالمهاجرين.
ومعنى ﴿الْمُهَاجِرِينَ﴾؛ أي: الذين هاجروا وارتحلوا من أوطانهم إلى رسول الله - ﷺ - رغبة في الدّين ونصرة له. ومعنى ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾؛ أي: أخرجهم كفار مكة منها، واضطروهم إلى الخروج وكانوا مئة رجل. وقال قتادة: هؤلاء المهاجرون هم الذين تركوا الديار والأموال والأهلين حال كونهم ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ تعالى في الدنيا ﴿وَرِضْوَانًا﴾ منه في الآخرة؛ أي (٣): حال كونهم طالبين منه تعالى رزقًا في الدنيا ومرضاة في الآخرة. وصفوا أولًا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار، وقد أعاد ذلك ثانيًا بما يوجب تفخيم شأنهم، ويؤكده، فهو حال من واو ﴿أُخْرِجُوا﴾. وفي ذكر حالهم ترقّ من العالي إلى الأعلى، فإن رضوان الله أكبر من عطاء الدنيا.
﴿وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ عطف على ﴿يَبْتَغُونَ﴾، فهي حال مقدرة؛ أي: ناوين
(١) الشوكاني.
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
نصرة الله بإعلاء دينه، ونصرة رسوله ببذل وجودهم في طاعته أو مقارنة، فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة، وأي نصرة ﴿أُولَئِكَ﴾ المهاجرون الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة، وهو مبتدأ، وخبره ﴿هُمُ الصَّادِقُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الصدق الراسخون فيه، حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهورًا بينًا كأنّ الصدق مقصور عليهم لكمال آثاره.
أي: هؤلاء (١) هم الصادقون في إيمانهم؛ إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم وهي العزيزة على النفوس المحببة إلى القلوب.
بِلَادِيْ وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عَزِيزَةٌ وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوْا عَلَيَّ كِرَامُ
وتركوا الأموال، والمال شقيق الروح، وكثيرًا ما يقتل المرء في سبيل الذود عنه وانتزاعه من أيدي غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدِّين ورفعة شأنه، وذيوع ذكره. فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال وعظيم الخلال.
روي: أن رجلًا منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة في الشتاء، ماله دثار غيرها.! وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "بشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمس مئة سنة". أخرجه أبو داود.
٩ - ثم مدح سبحانه الأنصار، وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم على الفيء، إذ جعل للمهاجرين دونهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾؛ أي: لزموا دار الهجرة، وهي المدينة، ﴿و﴾ أخلصوا ﴿الْإِيمَانَ﴾ لله تعالي، مبتدأ خبره سيأتي. وهو كلام مستأنف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاص الفيء بهم أحسن رضا وأكمله. ويجوز نصبه على المدح.
(١) المراغي.
115
وجملة ﴿يُحِبُّونَ﴾ في محل النصب على الحال.
والأنصار (١): بنو الأوس والخزرج، ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نيت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قال في "القاموس": قحطان بن عامر بن شالخ أبو حيّ انتهى. وهو أصل العرب العرباء. ومن الأنصار: غسان، كشداد، ماء قرب الجحفة نزل عليه قوم من ولد الأزد، فشربوا منه، فنسبوا إليه. يقال: تبوأ المكان، إذا اتخذه منزلًا واستقر فيه. والدار هي المدينة، وتسمي قديمًا: يثرب، وحديثًا: طيبة وطابة.
ومعنى تبوئهم الدار والإيمان: أنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءة، وتمكنوا فيهما أشد تمكن، على تنزيل الحال منزلة المكان. وقيل: ضُمِّنَ التبوؤ معنى اللزوم. وقيل: تبؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، أو قبلوه، أو آثروه، كقول من قال:
عَلَّفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بَارِدًا
أي: وسقيتها ماء باردًا فاختصر الكلام، وقيل: غير ذلك.
يقول الفقير: لعل أصل الكلام: والذين تبؤوا دار الإيمان. فإن المدينة يقال لها: دار الإيمان لكونها مظهره ومأوى أصله، كما يقال لها: دار الهجرة. وإنما عدل إلى ما ذكر من صورة العطف تنصيصًا على إيمانهم، إذ مجرد التبوُّء لا يكفي في المدح.
﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل هجرة المهاجرين، فلا بدّ من تقدير مضاف، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل إيمان المهاجرين، بل منهم من آمن قبل الهجرة ومنهم من آمن بعدها. قال في "الإرشاد": يجوز أن يجعل اتخاذ الإيمان مباءة، ولزومه وإخلاصه عبارة عن إقامة كافة حقوقه، التي من جملتها إظهار عامة شعائره، وأحكامه، ولا ريب في تقدم الأنصار في ذلك على المهاجرين؛ لظهور عجزهم عن إظهار بعضها، لا عن إخلاصه قلبًا واعتقادًا؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.
جملة قوله: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ خبر (٢) عن الموصول؛ أي: يحبونهم
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
116
من حيث مهاجرتهم إليهم لمحبتهم الإيمان، ولأن الله وحبيبه أحباؤهم، وحبيب الحبيب حبيب. ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾؛ أي: ولا يجد الأنصار ﴿فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾؛ أي: وجدًا وحسدًا وغيظًا وحزازة ﴿مِمَّا أُوتُوا﴾؛ أي: مما أوتي المهاجرون دونهم، من الفيء وغيره بل طابت أنفسهم بذلك. وفي الكلام مضاف محذوف؛ أي: لا يجدون في صدورهم مس حاجة أو أثر حاجة، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إليه.. فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم النبي - ﷺ - بني النضير.. دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين، من إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبين المهاجرين، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم والمشاركة لكم في أموالكم. وإن أحببتم أعطيتهم ذلك وخرجوا من دياركم. فرضوا بقسمة ذلك في المهاجرين، وطابت أنفسهم.
﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾؛ أي: يقدمون المهاجرين، فالمفعول محذوف. والإيثار (١): تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا رغبة في حظوظ الآخرة. يقال: آثرته بكذا؛ أي: خصصته به. أي: ويقدم الأنصار المهاجرين ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ في كل شيء من أسباب المعاش، جودًا وكرمًا، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا منهم. والإيثار أيضًا: عطاؤك ما أنت تحتاج إليه. وفي الخبر: "لم يجتمع في الدنيا قوم إلا وفيهم أسخياء وبجلاء إلا في الأنصار، فإن كلهم أسخياء، ما فيهم من بخيل. ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾؛ أي: حاجة وخلة وفقر. مأخوذة من خصاص البيت، وهي: الفرج التي تكون فيه. شبه حالة الفقر والحاجة ببيت ذي فرج في الاشتمال على مواضع الحاجة. والخص: بيت من قصب وشجر. وجملة قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ في محل نصب على الحال.
وعن أنس رضي الله عنه: أنه قال: (أهدي لرجل من الأنصار رأس شاة، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له زاعمًا أنه أحوج إليه منه، فوجه جاره أيضًا إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداول ذلك الرأس سبعة بيوت إلى أن رجع إلى المجهود الأول).
(١) الشوكاني.
117
قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول: آه آه، فأشار إلى ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات". وهذا من قبيل الإيثار بالنفس، وهو فوق الإيثار بالمال.
وقال في "التكملة": والصحيح: أن الآية نزلت في أبي طلبة الأنصاري - رضي الله عنه - حين نزل برسول الله - ﷺ - ضيف، ولم يكن عنده ما يضيفه به، فقال: ألا رجلًا يضيف هذا رحمه الله، فقام أبو طلحة فانطلق به إلى رحله وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله - ﷺ -، فنوّمت الصبية وأطفات السراج، وجعل الضيف يأكل، وهما يُرِيان أنهما يأكلان معه ولا يفعلان، فنزلت الآية. وكانت قناعة السلف أوفر ونفوسهم أقنع وبركتهم أكثر، ونحن نؤثر أنفسنا على الغير، فإذا وضعت مائدة بين أيدينا.. يريد كل منا أن يأكل قبل الآخر، ويأخذ أكثر مما يأخذ الرفيق، ولذلك لم توجد بركة الطعام، وينفد سريعًا.
والمعنى: أي والذين سكنوا المدينة وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة وشيم جليلة تدل على كرم النفوس ونبل الطباع. فهم:
١ - يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم.
٢ - لا يطمحون إلى شيء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.
٣ - يقدمون ذوي الحاجة على أنفسهم، ويبدؤون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما، ويزوجها واحدًا من المهاجرين.
ثم بيّن سوء عاقبة الشح، فقال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ والوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره. والشُّح - بالضم والكسر -: بخل مع حرص، فيكون جامعًا بين ذميمتين من صفات النفس. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها مقتضية للحرص على المنع الذي هو البخل. وقيل: الشح أشد من البخل. قال مقاتل: شح نفسه،
118
حرص نفسه. وقال سعيد بن جبير: شح النفس: أخذ الحرام، ومنع الزكاة. وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئًا نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئًا أمره الله بأدائه.. فقد وفي شح نفسه. وقال طاووس: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح: أن يشح بما في أيدي الناس. وقال ابن عيينة: الشح: الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
والظاهر من الآية: أن الفلاح مترتب على عدم شح النفس بشيء من الأشياء التي يقبح الشح بها شرعًا، من زكاة أو صدقة أو صلة رحم أو نحو ذلك، كما تفيده إضافة الشح إلى النفس؛ أي: ومن يحفظ بتوفيق الله شحها وبخلها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
والإشارة بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إلى ﴿مَنْ﴾ باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: فأولئك المحفوظون من الشح هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه. والفلاح اسم لسعادة الدارين. والجملة (١) اعتراض وارد لمدح الأنصار، والثناء عليهم. فإن الفتوة هي الأوصاف المذكورة في حقهم، فلهم جلائل الصفات ودقائق الأحوال؛ ولذا قال - ﷺ -: "آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار". وقال - ﷺ -: "للهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿يُوقَ﴾ بسكون الواو وتخفيف القاف، من الوقاية. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بفتح الواو وتشديد القاف. وقرأ الجمهور ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ بضم الشين. وقرأ ابن عمر، وابن أبي عبلة بكسرها.
والمعنى (٣): أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به.. فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدًا".
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
119
وأخرج أحمد والبخاري في "الأدب" ومسلم والبيهقي، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله - ﷺ - قال: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
وروى الأموي عن ابن مسعود: (أن رجلًا أتاه، قال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ وأنا رجل شحيح، لا أكاد أخرج من يدي شيئًا، فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، وإنما الشح: أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل). ففرق بين الشح والبخل.
وليس المراد من تقوى الشح الجودُ بكل ما يملك؛ فقد روى أنس بن مالك: أن رسول الله - ﷺ - قال: "برىء من الشح من أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة".
١٠ - ثم لما فرغ سبحانه من الثناء على المهاجرين والأنصار.. ذكر ما ينبغي أن يقوله من جاء بعدهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾؛ أي: من بعد هجرة المهاجرين الأولين، ومن بعد قوة إيمان الأنصار، وهم: التابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة. وقيل: هم الذين هاجروا بعدما قوي الإِسلام. والظاهر: شمول الآية لمن جاء بعد السابقين من الصحابة المتأخر إسلامهم في عصر النبوة، ومن تبعهم من المسلمين بعد عصر النبوة إلى يوم القيامة؛ لأنه يصدق على الكل أنهم جاؤوا بعد المهاجرين الأولين والأنصار. والموصول (١) مبتدأ، وخبره ﴿يَقُولُونَ﴾، والجملة مسوقة لمدحهم بمحبتهم لمن تقدمهم من المؤمنين، ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان ويجوز أن يكون الموصول معطوفًا على قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ فيكون ﴿يَقُولُونَ﴾ في محل النصب على الحال، أو مستأنف. والمراد بالأخوة هنا: أخوة الدين، أمرهم الله أن يستغفروا لأنفسهم ولمن تقدمهم من المهاجرين والأنصار.
(١) روح البيان.
120
أي: والذين جاؤوا من بعدهم يدعون لهم قائلين: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ ما فرط منا ﴿وَلِإِخْوَانِنَا﴾؛ أي: في الدِّين، الذي هو أعزّ وأشرف عندهم من النسب. ﴿الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ وصفوهم بذلك اعترافًا بفضلهم. قدموا أنفسهم في طلب المغفرة لما في المشهور من أن العبد لا بد أن يكون مغفورًا له حتى يستجاب دعاؤه لغيره. وفيه حكم بعدم قَبول دعاء العاصين قبل أن يُغْفَرَ لهم، وليس كذلك كما دلت عليه الأخبار. فلعل الوجه: أن تقديم النفس كونها أقرب النفوس إليه مع أن في الاستغفار إقرارًا بالذنب، فالأحسن للعبد أن يرى أولًا ذنب نفسه، كذا في بعض التفاسير.
يقول الفقير: نفس المرء أقرب إليه من نفس غيره، فكل جلب أو دفع فهو إنما يطلبه أولًا لنفسه لإعطاء حق الأقدم، وأما غيره.. فهو بعده ومتأخر عنه. وأيضًا: إن ذنب نفسه مقطوع بالنسبة إليه، وأما ذنب غيره.. فمحتمل، فلعل الله قد غفر له وهو لا يدري. وأيضًا: تقديمهم في مثل هذا المقام لا يخلو عن سوء أدب وسوء ظن في حق السلف.
ويقال: إنما بدؤوا بأنفسهم؛ لقوله - ﷺ -: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". ويدعون لأنفسهم قائلين: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا﴾؛ أي: حقدًا وبغضًا وحسدًا. وقرىء: ﴿غمرًا﴾. ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله على الإطلاق، صحابة أو غيرهم. وفيه إشارة إلى أن الحقد على غيرهم جائز لغيرة الدِّين، وإن لم يكن الحسد جائزًا. أمرهم الله سبحانه (١). بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولًا أوليًّا؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم.. فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غلًّا لهم.. فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه، وخير أمة نبيه - ﷺ -، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به، والتوبة منه، والعياذ من ذلك كله بالله تعالى.
(١) الشوكاني.
121
والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء، والبغي، والظلم، والسرقة، وسائر أنواع الفجور.
ونحو الآية قوله تعالى في سورة براءة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك، كثير الرحمة لهم، فحقيق بأن تجيب دعاءنا، فأجب دعاءنا يا إلهنا ويا مالك أمرنا. وفي الآية (١) حث على الدعاء للصحابة وصفاء القلوب من بغض أحد منهم، ودليل على أن الترحم والاستغفار واجب على المؤمنين الآخرين للسابقين منهم، لا سيما لآبائهم ولمعلمهم أمور الدِّين. قالت عائشة رضي الله عنها: "أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم". وفي الحديث: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رجلًا وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ ثم قال: هؤلاء المهاجرون، أفمنهم أنت؛ قال: لا. ثم قرأ عليه: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، فأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ...﴾ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وفي تكرير: ﴿رَبَّنَا﴾ إظهار لكمال الضراعة. وفي الأثر: "من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا.. أنجاه الله مما يخاف".
الإعراب
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾.
﴿سَبَّحَ﴾: فعل ماضي، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، وقيل: ﴿اللام﴾: زائدة، ﴿مَا﴾ فاعل، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿الْحَكِيمُ﴾:
(١) روح البيان.
122
خبر ثان، والجملة في محل النصب حال من الجلالة، أو مستأنفة ﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿أَخْرَجَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿كَفَرُوا﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: حال من ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجَ﴾، ﴿لِأَوَّلِ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتوقيت، بمعنى: عند متعلق بـ ﴿أَخْرَجَ﴾ أيضًا، ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾: مجرور ومضاف إليه ﴿مَا﴾ نافية، ﴿ظَنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يَخْرُجُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع مدخولها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن، أي: ما ظننتم خروجهم. ﴿وَظَنُّوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ظنوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَا ظَنَنْتُمْ﴾، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿حُصُونُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر. ويجوز أن يكون ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ خبر ﴿أَنَّهُمْ﴾، ﴿حُصُونُهُمْ﴾: فاعل مانعتهم؛ لاعتماده على المخبر عنه. وجملة ﴿أَنْ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن؛ أي: وظنوا منع حصونهم من الله تعالى. و ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾.
﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢)﴾.
﴿فَأَتَاهُمُ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿أتاهم الله﴾: فعل ومفعول، وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ظنوا﴾، ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: متعلق بـ ﴿أتاهم﴾، وجملة ﴿لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿وَقَذَفَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، معطوف على ﴿فَأَتَاهُمُ﴾، ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿قذف﴾، ﴿الرُّعْبَ﴾: مفعول قذف ﴿يُخْرِبُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿قُلُوبِهِمُ﴾؛ لأن المضاف كان جزءًا من المضاف إليه، أو مستأنفة لبيان الرعب. ﴿بُيُوتَهُمْ﴾: مفعول به، ﴿بِأَيْدِيهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِبُونَ﴾، ﴿وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾: معطوف على ﴿أيديهم﴾. ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما فعل الله بهم وعقلتموه وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اعتبروا يا أولي الأبصار، ﴿اعتبروا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿يَا أُولِي﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أُولِي﴾: منادى مضاف
123
منصوب، وعلامة نصبه الياء المحذوفة لفظًا للتخلص من التقاء الساكنين؛ لأنه اسم جمع ملحق بجمع المذكر السالم. ﴿أولي﴾: مضاف ﴿الْأَبْصَارِ﴾: مضاف إليه، وجملة النداء جواب الطلب، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤)﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود، ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن ﴿كَتَبَ اللهُ﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِمُ﴾: جار ومجرور متعلقان بـ ﴿كَتَبَ﴾. ﴿الْجَلَاءَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿كَتَبَ﴾ في محل الرفع خبر لـ ﴿أن﴾ المخففة وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف، تقديره: ولولا كتاب الله الجلاء عليهم موجود ﴿لَعَذَّبَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿عَذَّبَهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على الله ﴿في الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ: عذب، والجملة الفعلية جواب ﴿لولا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة. ﴿وَلَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لهم﴾: خبر مقدم، ﴿في الْآخِرَةِ﴾: حال من ﴿عَذَابُ النَّارِ﴾، و ﴿عَذَابُ النَّارِ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية مستأنفة. ولا يجوز عطفها على ﴿عَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا﴾؛ لأن ذلك يقتضي أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضًا؛ لأن ﴿لولا﴾ تقتضي انتفاء الجزاء بحصول الشرط. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، ﴿أنهم﴾: ناصب واسمه، ﴿شَاقُّوا اللهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلك كائن بسبب مشاققتهم الله ورسوله. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع، مبتدأ، والخبر جملة فعل الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يُشَاقِّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿من﴾ الشرطية، ﴿اللهَ﴾: مفعول به، ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إن الله﴾: ناصب واسمه، ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبره. وجملة ﴿إنّ﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ على كونها
124
مستأنفة، ويجوز أن تجعل الفاء تعليلية للجواب المحذوف، تقديره: ومن يشاق الله يعاقب؛ لأن الله شديد العقاب.
﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (٥)﴾.
﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿قَطَعْتُمْ﴾، ﴿قَطَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿مِنْ لِينَةٍ﴾: حال من ﴿مَا﴾. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتقسيم ﴿تَرَكْتُمُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿قَطَعْتُمْ﴾، ﴿قَائِمَةً﴾: مفعول ثان لترك، أو حال من ضمير المفعول، ﴿عَلَى أُصُولِهَا﴾: متعلق بـ ﴿قَائِمَةً﴾، ﴿فَبِإِذْنِ اللهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَا﴾ الشرطية، ﴿بِإِذْنِ اللهِ﴾: متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فقطعها أو تركها كائن بإذن الله وإرادته. والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها جواب الشرط لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلِيُخْزِىَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على علة محذوفة متعلقة بعلول محذوف، تقديره: أذن الله في قطعها ليس المؤمنين، ويعزهم وليخزي الفاسقين. و ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يخزي﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿الْفَاسِقِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: أذن في قطعها لإعزاز المؤمنين وإخزاء الفاسقين، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور المقدر قبله على كونه تعليلًا لمحذوف.
﴿وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾؛ عاطفة أو استئنافية، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع، مبتدأ ﴿أَفَاءَ اللهُ﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وما أفاءه الله. ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أفاء﴾، ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من العائد المحذوف؛ أي: ما أفاءه الله على رسوله حال كونه من أموالهم، فهو على تقدير مضاف، أو متعلق بـ ﴿أَفَاءَ﴾ ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه المبتدأ
125
بالشرط، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَوْجَفْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَوْجَفْتُمْ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿خَيْلٍ﴾: مفعول به، ﴿وَلَا رِكَابٍ﴾: معطوف على ﴿خَيْلٍ﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببيّ، والتقدير: والذي أفاءه الله على رسوله منهم فغير مجيفين أنتم عليه خيلًا ولا ركابًا. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ أو مستأنفة، ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يُسَلِّطُ رُسُلَهُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لكنّ﴾، وجملة ﴿لكنّ﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾. ﴿عَلَى مَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُسَلِّطُ﴾. وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، و ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿أَفَاءَ اللَّهُ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، والعائد محذوف؛ أي: ما أفاءه الله. ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَفَاءَ﴾، ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾: حال من ﴿مَا﴾ أو من العائد المحذوف، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: حال كونه من أموال أهل القرى، ﴿فَلِلَّهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ، لشبه المبتدأ بالشرط، ﴿لله﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ أي: فكائن لله. والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لبيان مصارف الفيء. ﴿وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾: معطوفان على ﴿لله﴾، ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: معطوفات على ﴿ذي القربى﴾.
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٧)﴾.
﴿كَيْ﴾: حرف جر وتعليل بمعنى اللام، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد كي التعليلية، واسمها ضمير يعود على الفيء. ﴿دُولَةً﴾: خبر ﴿يَكُونَ﴾، ﴿بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿دُولَةً﴾، ﴿مِنْكُمْ﴾: حال من الأغنياء، وجملة ﴿يَكُونَ﴾: صلة أن المضمرة، (أن) مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿مَا﴾ التعليلية؛ أي: لعدم كونه دولة بين الأغنياء. والجار
126
والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر في قوله: ﴿فَلِلَّهِ﴾. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: اسم موصول منصوب المحل على الاشتغال بفعل محذوف يفسره المذكور بعده، تقديره: خذوا ما آتاكم الرسول. ﴿آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن ﴿آتى﴾ بمعنى أعطى، يتعدى إلى مفعولين؛ أي: وخذوا ما آتاكم الرسول إياه. والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾. ويجوز رفع ﴿ما﴾ على الابتداء، وجملة ﴿فَخُذُوهُ﴾ خبره. ﴿فَخُذُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لما في الموصول من شبه اسم الشرط، ﴿خذوه﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، أو في محل الرفع خبر لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾: معطوفة على ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾. فهو نظيره في الإعراب. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ فعل أمر، وفاعل ومفعول به. والجملة مستأنفة، أو معطوفة على قوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨)﴾.
﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾: جار ومجرور، بدل من قوله: ﴿لذي القربى﴾ على مذهب أبي حنيفة، ومقتضاه اشتراط الفقر في استحقاق ذي القربى. ومن جنح إلى مذهب الشافعي علقه بمحذوف تقديره: اعجبوا للفقراء، ومقتضاه عدم اشتراط الفقر، وأنّ الاستحقاق يكون بالقرابة، فيأخذ ذو القربى الفقير لقرابته، كما مر. وعلى هذا نهج السيوطي، وغيره. والمعنى: اعجبوا لهؤلاء المهاجرين حيث تركوا أوطانهم وأموالهم. ﴿الْمُهَاجِرِينَ﴾: نعت للفقراء، ﴿الَّذِينَ﴾: نعت ثان للفقراء، ﴿أُخْرِجُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول، ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أُخْرِجُوا﴾، ﴿وَأَمْوَالِهِمْ﴾: معطوف على ﴿دِيَارِهِمْ﴾، ﴿يَبْتَغُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿فَضْلًا﴾: مفعول به، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أو بمحذوف نعت لـ ﴿فَضْلًا﴾، ﴿وَرِضْوَانًا﴾: معطوف على ﴿فَضْلًا﴾، والجملة الفعلية حال من مرفوع ﴿أُخْرِجُوا﴾؛ أي: حال كونهم طالبين فضلًا ورضوانًا. ﴿وَيَنْصُرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَبْتَغُونَ﴾، ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، ﴿وَرَسُولَهُ﴾: معطوف عليه ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير
127
فصل، أو مبتدأ ثان، ﴿الصَّادِقُونَ﴾: خبر لـ ﴿أُولَئِكَ﴾ أو خبر لـ ﴿هُمُ﴾، والجملة خبر ﴿أُولَئِكَ﴾، وجملة ﴿أُولَئِكَ﴾ مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الذين﴾: مبتدأ، ﴿تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول به صلة الموصول، أو منصوب على المدح؛ أي: أمدح الذين تبؤوا الدار، أو في محل الجر معطوف على الفقراء، ﴿وَالْإِيمَانَ﴾: مفعول به لفعل محذوف، تقديره: وأخلصوا الإيمان، على حد قوله:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بِارِدًا
أي: سقيتها ماء باردًا، ويكون من عطف الجمل؛ لأن الإيمان لا يتخذ منزلًا، فاختصر الكلام. وقيل: هو على حذف مضاف؛ أي: والذين تبؤوا دار الهجرة ودار الإيمان. فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان وأقيم المضاف إليه مقامه، أو منصوب بـ ﴿تَبَوَّءُوا﴾ على تضمينه معنى لزموا، كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: حال من فاعل ﴿تَبَوَّءُوا﴾.
﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)﴾.
﴿يُحِبُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبر ﴿الَّذِينَ﴾، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿تَبَوَّءُوا﴾، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، ﴿هَاجَرَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به. والجملة صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة. ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوفة على ﴿يُحِبُّونَ﴾، ﴿وَلَا﴾: نافية، ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَجِدُونَ﴾، ﴿حَاجَةً﴾: مفعول به، ﴿مِمَّا﴾: نعت لحاجة، وجملة ﴿أُوتُوا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، والعائد محذوف؛ أي: مما أوتوه. ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُحِبُّونَ﴾، ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يؤثرون﴾، ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط مجرد عن معنى الشرط لا جواب لها، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿بِهِمْ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها، ﴿خَصَاصَةٌ﴾: اسمها مؤخر.
128
وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿يؤثرون﴾؛ أي: يؤثرون المهاجرين على أنفسهم حالة كون الخصاصة بهم. ويصح أن تكون ﴿الواو﴾ عاطفة على شرط محذوف، و ﴿لو﴾: حرف شرط على بابها، والتقدير: ويؤثرون على أنفسهم إن لم تكن بهم خصاصة، ولو كانت بهم خصاصة يؤثرونهم على أنفسهم. ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يُوقَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾: مفعول ثان، ومضاف إليه. ﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٠)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿جَاءُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءُوا﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: خبر الذين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء للتخفيف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿اغْفِرْ﴾: فعل دعاء سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، ﴿لَنَا﴾: متعلق بـ ﴿اغْفِرْ﴾، ﴿وَلِإِخْوَانِنَا﴾: معطوف على ﴿لَنَا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿إخواننا﴾، وجملة ﴿سَبَقُونَا﴾ صلة الموصول، ﴿بِالْإِيمَانِ﴾ متعلق بـ ﴿سَبَقُونَا﴾ ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: دعائية، سلوكًا مسلك الأدب مع البارىء سبحانه، ﴿تَجْعَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الدعائية، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿اغْفِرْ﴾، ﴿فِي قُلُوبِنَا﴾: متعلق بـ ﴿تَجْعَلْ﴾. وهو في موضع المفعول الثاني لـ ﴿تَجْعَلْ﴾، ﴿غِلًّا﴾: مفعوله الأول، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿غِلًّا﴾؛ لأنه مصدر بمعنى: بغضًا. وقيل: نعت لـ ﴿غِلًّا﴾. وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول.
129
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾، وكرره للتأكيد، ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب، واسمه، ﴿رَءُوفٌ﴾: خبره، ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾ وفي محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾ على كونها تعليلية للدعاء المذكور قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ والتسبيح: تبعيد الله عن السوء، وتنزيهه عما لا يليق بشأن ألوهيته، قولًا وفعلًا وقلبًا كما مر. ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: هم بنو النضير، بزنة: أمير، قبيلة عظيمة من اليهود كبني قريظة. ﴿لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ والحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر، أي: في أول حشرهم؛ أي: جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام. وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ﴾: جمع دار، وهو: المكان الذي حوط ودور به للنزول فيه وإن لم يكن مسقفًا بخلاف البيت، وهو اسم لمبنى مسقف مدخله من جانب واحد للبيتوتة فيه، كما مرّ في مبحث التفسير بيان الفرق بينهما ﴿حُصُونُهُمْ﴾: جمع حصن، وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة. وفي "الروح": الحصون: جمع حصن - بكسر فسكون - وهو كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه، والقلعة: الحصين الممتنع على الجبل. فالأول أعم من الثاني. ويقال: تحصن، إذا اتخذ الحصين مسكنًا، ثم تجوز به فقيل: درع حصينة؛ لكونها حصنًا للبدن، وفرس حصان؛ لكونه حصنًا لراكبه. ﴿مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من بأسه وعقابه. ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: جاءهم عذابه وبأسه. ﴿مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾؛ أي: من حيث لم يخطر لهم ببال؛ أي: من الجهة التي لم تخطر ببالهم، فالجهة هي المؤمنون، كانوا لا يخطر ببالهم أن الذل يأتيهم من جهة المؤمنين الضعفاء بالنسبة إليهم في ذلك الوقت. اهـ. "شيخنا".
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾؛ أي: أنزله فيها إنزالًا شديدًا، كأنه قد قذف الحجارة فيها. اهـ. "خطيب". وقَذْفُ الشيء: رميه بقوة. والمراد هنا: إثباته وركزه في قلوبهم، كما في "الكشاف"، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، لما أن قذف باللحم قذفًا، لاكتنازه وتداخل أجزائه. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدور،
130
فيغيّر العقل، ويعجز النفس، ويشوش الرأي.
﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ﴾ بالتشديد من التخريب، وبالتخفيف من الإخراب. والإخراب والتخريب بمعنى واحد يقال: خرب المكان خرابًا، وهو ضد العمارة. وقد أخربه وخربه؛ أي: أفسده بالنقض والهدم غير أن في التشديد مبالغة من حيث التكثير، لكثرة البيوت، وهو قراءة أبي عمرو. وفرق أبو عمرو بين الإخراب والتخريب، فقال: خرب - بالتشديد - بمعنى هدم ونقض وأفسد، وأخرب - بالهمزة - ترك الموضع. وقال - أي: أبو عمرو -: وإنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابًا بغير ساكن.
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾؛ أي: فاتعظوا بحالهم، ولا تغتروا، ولا تعتمدوا على غير الله. اهـ. "بيضاوي". والاعتبار: مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء. ولهذا سميت العبرة عبرة؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخد، وسمي علم التعبير؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع. ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينقل بواسطة عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره.. اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو: النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها؛ ليعرف بالنظر فيها شيء آخر. اهـ. "خطيب". ﴿الْأَبْصَارِ﴾: جمع بصر، يقال للجارحة: الناظرة، وللقوة التي فيها، ويقال للقلب المدركة: بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، كما في المفردات.
﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾. الجلاء: الخروج من الوطن والجولان في الأرض. يقال: أجليت القوم عن منازلهم؛ أي: أخرجتهم منها، وجلوا منها خرجوا. وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين:
١ - أن الأول لا يكون إلا لجماعة، والثاني يكون لواحد ولجماعة.
٢ - أو أن الأول ما كان مع الأهل والولد، والثاني يكون مع بقائهما. وفي "المختار": الجلاء - بالفتح والمد -: الأمر الجلي، تقول منه: جلا الخبر، يجلو جلاء، إذا وضح. والجلاء أيضًا: الخروج من البلد والإخراج أيضًا. وقد جلوا عن
131
أوطانهم، وجلاهم غيرهم. يتعدى، ويلزم. اهـ. وفي "المصباح": والفاعل من الثلاثي جال، مثل قاض، والجماعة جالية، ومنه قيل لأهل الذمة الذين أجلاهم عمر - رضي الله عنه - من جزيرة العرب: جالية. ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم، ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه فيقال: استعمل فلان على الجالية؛ أي: على أخذها من أهلها. والجمع: جوالي. اهـ.
قلت: ومن هذه المادة سمّت الجُبُوش الأرُميا بالجالّا، إخفاء لحسبهم ونسبهم ووطنهم، فالجالا: هم الذيبن أخرجوا من وطنهم وأسكنوا في وطن الغير بالجزية. ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾، ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ من المشاقة، وهو كون الإنسان في شق ومخالفه في شق آخر. ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾ واللينة فعلة، نحو: حنطة، من اللون، على أن أصلها لونة، فياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها، نحو: ديمة، قيمة. وتجمع على: ألوان، وهي ضروب النخل كلها. وقيل: من اللين، وتجمع على لين وأليان، وهي النخلة الكريمة الشجرة، لكونها قريبة من الأرض، والطيبة الثمرة. قال الراغب في "المفردات": اللين ضد الخشونة، ويستعمل ذلك في الأجسام، ثم يستعار للخُلق ولغيره من المعاني، فيقال: فلان لين وفلان خشن، وكل واحد منهما يمدح به طورًا، ويذم به طورًا، بحسب اختلاف المواضع والمقام. اهـ. وفي "الفتوحات": واللينة في معناها خلاف كثير، فقيل: هي النخلة مطلقًا، وقيل: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقيل: هي النخلة الكريمة، وقيل: هي العجوة، وقيل: هي أغصان الشجر للينها. وفي عين ﴿لِينَةٍ﴾ قولان:
أحدهما: أنها واو؛ لأنها من اللّون، وإنما قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، كديمة وقيمة.
والثاني: أنها ياء؛ لأنها من اللين، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس، كتمر وتمرة. وقد تكسر على ليان، وهو شاذ؛ لأن تكسير ما يفرق فيه بتاء التأنيث شاذ، كرطبة ورطب وأرطاب. اهـ. "سمين".
132
﴿عَلَى أُصُولِهَا﴾: جمع: أصل، وهو ما يتشعب منه الفرع. ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ أي: وليذلهم. يقال: خزي الرجل لحقه انكسار، إما من نفسه؛ وهو: الحياء المفرط ومصدره الخزاية، وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي. اهـ. "روح".
﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ﴾ قال المبرد: يقال: فاء يفيء إذا رجع، وأفاءه الله إليه؛ أي: رده وصيره إليه. والفيء لغة: الرجوع، وشرعًا: ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير. ﴿فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ﴾ يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفًا وجيفًا إذا أسرع، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع. وفي "القاموس": الوجيف: ضرب من سير الخيل والإبل. والخيل: جماعة الأفراس، لا واحد له، أو واحده خائل؛ لأنه يختال، والجمع: أخيال، وخيول، كما في "القاموس". وقال الراغب: الخيلاء: التكبر، من تخيل فضيلة تتراءى لنسان من نفسه. ومنها: تتأول لفظة الخيل لما قيل: إنه لا يركب أحد فرسًا إلا وجد في نفسه نخوة. وللخيل نوعان: عتيق وهجين:
فالعتيق: ما أبواه عربيان؛ سمي بذلك لعتقه من العيوب وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة، وسميت الكعبة بالبيت العتيق لسلامتها من عيب الرق؛ لأنه لم يملكها ملك قط.
والهجين: الذي أبوه عربي وأمه عجمية. والفرق: أن عظم البرذونة أعظم من عظم الفرس، وعظم الفرس أصلب وأثقل، والبرذونة أحمل من الفرس، والفرس أسرع منه، والعتيق بمنزلة الغزال، والبرذونة بمنزلة الشاة.
﴿وَلَا رِكَابٍ﴾ والركاب: ما يركب من الإبل خاصة، واحدتها راحلة، ولا واحد لها من لفظها. والعرب لا تطلق لفظ الراكب، إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسًا. قال في "المفردات": الركوب في الأصل: كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة والراكب اختص في التعارف بممتطي البعير، جمعه: ركب وركبان وركوب، واختص الركاب بالمركوب، انتهى.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ﴾؛ أي: على أعدائه من غير قتال، ولا مصاولة، بل بإلقاء الرعب في القلوب، فيكون الفيء للرسول يصرفه في مصارفه التي ستعلمها
133
بعد. ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾؛ أي: من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال. ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: لبني هاشم وبني المطلب، والقربى: مصدر سماعي، لقرب قربًا وقربى؛ أي: قرابة. ﴿وَالْيَتَامَى﴾: جمع يتيم. واليتم: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، وفي سائر الحيوانات من قبيل أمه.
﴿وَالْمَسَاكِينِ﴾: جمع مسكين، ويفتح ميمه، وهو من لا شيء له، أو له ما لا يكفيه. سمي بذلك؛ لأن الفقر أسكنه؛ أي: قلل حركته، وهو من السكون، فنونه أصلية لا نون جمع، ولذلك تجري عليه حركات الإعراب الثلاثة. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: المسافر البعيد عن ماله، وسمي به لملازمته له، كما تقول لِلُصِّ القاطع: ابن الطريق، وللمعمر: ابن الليالي، ولطير الماء: ابن الماء، وللغراب: ابن دأبة، بإضافة الابن إلى دأبة البعير؛ لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت، والدأبة: الجنب.
﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً﴾ بضم الدال وقرىء بفتحها، وهي: ما يدول للإنسان؛ أي: يدور، من الغنى، والجد والغلبة. قال المبرد: الدولة - بالضم -: الشيء الذي يتداوله القوم بينهم، يكون كذا مرة وكذا أخرى. والدولة - بالفتح -: انتقال حال سارة من قوم إلى قوم؛ أي: فالأول: اسم لما يتداول من المال والثانية: اسم لما ينتقل من الحال.
﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا﴾: النزول في المكان، ومنه: المباءة للمنزل. وأصل البواء: مساواة الأجزاء في المكان، خلاف النبو الذي هو منافاة الأجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابيًا بنازله، وبوأت له مكانًا: سويت. والمراد بالدار: المدينة. والمراد بالحاجة: الحسد والغيظ. ﴿أُوتُوا﴾؛ أي: أعطي المهاجرون دون الأنصار. ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾؛ أي: يقدمون ويفضلون. ﴿خَصَاصَةٌ﴾ والخصاصة: الحاجة، من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج، وكذا كل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع. ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾ والشح: اللؤم، وهو: أن تكون النفس كزة حريصة على المنع. قال شاعرهم:
يُمَارِسُ نَفْسًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً إِذَا هَمَّ بِالمَعْرُوْفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلًا
قال الراغب: البخل: المنع والشح: الحال النفسية التي تقتضي ذلك. وقيل: الشح: الحرص على المال. والفرق بينه وبين البخل: أن الشح غريزة، والبخل
134
المنع نفسه، فهو أعم؛ لأنه قد يوجد البخل ولا شح له، ولا ينعكس. وفي الصحاح: والشح: البخل مع حرص.
﴿وَلِإِخْوَانِنَا﴾ جمع أخ. وفي "المصباح": الأخ لامه محذوفة، وهي واو، وترد في التثنية على الأشهر، فيقال: أخوان. وفي لغة يستعمل منقوصًا، فيقال: أخان. وجمعه: إخوة وإخوان، بكسر الهمزة فيهما، وضمها لغة. وقيل: جمعه بالواو والنون، وعلى آخاء بوزن آباء أقل. والأنثى: أخت وجمعها: أخوات، وهو جمع مؤنث سالم. اهـ.
﴿غِلًّا﴾؛ أي: حقدًا، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام. اهـ. "خطيب". وفي: "المصباح": الحقد: الانطواء على العدواة والبغضاء، وحقد عليه: من باب ضرب. وفي لغة: من باب تعب، والجمع: أحقاد. وقال الراغب: الغل والغلول تدرع الخيانة والعداوة؛ لأن الغلالة اسم ما يلبس بين الشعار والدثار، وتستعار للدرع كما تستعار الدرع لها.
ملحقات بالآيات من بعض أحكام الصرف نسيناها أولًا
﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾: الياء فيه منقلبة عن الواو؛ لأن مفرده: دار، أصله دور، قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ بدليل تصغيره على دويرة، ثم حمل الجمع على المفرد في الإعلال، فأعل الواو بقلبه ياء لما وقع بعد كسرة وقبل ألف. ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾: فيه إعلال بالإبدال أصله: الجلاو، أبدلت الواو همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿فِي الدُّنْيَا﴾: الياء فيه مبدلة من ﴿واو﴾ إن قلنا: إنه من الدنو بمعنى القرب لقرب زوالها أو أصلية إن قلنا إنه من الدنيء؛ لدناءتها وخستها عند الله تعالى. ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أصله: شاققوا، سكنت القاف الأولى وأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: ﴿يُشَاقِّ﴾ أصله: يشاقق.
﴿أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا﴾: ﴿قَائِمَةً﴾: فيه إعلال بالإبدال، وأصله: قاومة، أبدلت الواو همزة حملًا للوصف في الإعلال على فعله قام، حيث أعل بقلب الواو ألفًا أصل قام قوم. ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ أصله: أفيأ، بوزن أفعل، نقلت حركة الياء إلى الفاء، لكنها قلبت ألفًا لتحركها في الأصل وفتح ما قبلها في الحال. ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾ فيه إعلالان؛ لأن أصله: أأتيكم، أبدلت الهمزة
135
الساكنة ألفًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أصله: نهيكم، بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿فَانْتَهُوا﴾ أصله: فانتهيوا، أمر من انتهى الخماسي، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت.. حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت الهاء لمناسبة الواو. ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ أصله: يبتغيون، بوزن يفتعلون، استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فلما سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الغين لمناسبة الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: طباق السلب في قوله: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ﴾. إن قلنا: إن ﴿مَانِعَتُهُمْ﴾ خبر مقدم، و ﴿حُصُونُهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ﴿أَنَّهُمْ﴾. فإن تقديم المسند على المسند إليه يفيد قصر المسند إليه على المسند، فإن معنى قولك: (قائم زيد) أن زيدًا مقصور على القيام لا يتجاوزه إلى القعود، وكذا معنى الآية أن حصونهم ليس لها صفة غير المانعية.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ وبين ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾؛ لأن القذف حقيقة في الرمي البعيد، فاستعير لإلقاء الرعب وإثباته في قلوبهم.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأن إسناد تخريب المؤمنين إليهم لما أنهم تسببوا في ذلك، فكأنهم كلفوهم إياه وأمروهم به.
ومنها: الطباق بين القطع والترك في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا
136
قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾؛ لأن فيه حذف المعطوف عليه؛ فإن أصل الكلام: ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾. وهو إعادة عين العبارة الأولى لزيادة التقرير.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾. فإن المراد: قرى بني النضير، ومقتضى السياق أن يقال: منهم، ولكنه أظهر للإشعار بشمول ما لعقاراتهم.
ومنها: الفصل في هذه الآية، أعني قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾. والفصل عند علماء المعاني: ترك عطف جملة على أخرى. وضده الوصل، وهو: عطف بعض الجمل على بعض. وهذا الباب أغمض أبواب علم المعاني، حتى قيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل. قال:
الْفَصْلُ تَرْكُ عَطْفِ جُمْلَةٍ أَتَت مِنْ بَعْدِ أُخْرَى عَكْسَ وَصْلٍ قَدْ ثَبَتْ
ولكل منهما مواضع نلخصها فيما يلي:
مواضع الفصل: يجب الفصل في خمسة مواضع:
١ - أن يكون بين الجملتين اتحاد تام، بأن تكون الثانية بدلًا من الأولى؛ كالآية التي نحن بصددها، أو بيانًا لها، نحو: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ﴾، أو مؤكدة لها، نحو: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾. ويقال في هذا الموضع: إن بين الجملتين كمال الاتصال.
٢ - أن يكون بين الجملتين تباين تام؛ بأن تختلفا خبرًا، وإنشاء، كقوله:
لَا تَسْأَلِ الْمَرْءَ عَنْ خَلَائِقِهِ فِي وَجْهِهِ شَاهِدٌ يُغْنِي عَنِ الْخَبَرِ
٣ - كون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى، كقوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾.
٤ - أن تسبق جملة بجملتين يصح عطفها على إحداهما لوجود المناسبة، وفي عطفها على الأخرى فساد، فيترك العطف دفعًا للوهم، كقوله:
137
وَتَظُنُّ سَلْمَى أنَّنِي أَبْغِيْ بِهَا بَدَلًا أَرَاهَا فِيْ الضَّلَالِ تَهِيْمُ
٥ - أن لا يقصد تشريك الجملتين في الحكم لقيام مانع، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)﴾ فجملة ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ لا يصح عطفها على ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ لاقتضائه أنه من مقولهم، ولا على جملة ﴿قَالُوا﴾ لاقتضائه أن استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوهم إلى شياطينهم.
وللوصل مواضع كثيرة أيضًا مذكورة في كتب المعاني، ليس هذا الكتاب موضعها، فراجعها إن أردت الخوض فيها.
ومنها: الترقي في ذكر حال المهاجرين من العالي إلى الأعلى في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾، فإن رضوان الله أكبر من عطاء الدنيا.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ لإفادة الحصر، فكأن الصدق مقصور عليهم لكمال آثار صدقهم.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾. شبه الإيمان المتمكن في نفوسهم بمنزل ومستقر للإنسان نزل فيه وتمكن منه حتى صار منزلًا له، وهو من لطيف الاستعارة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
138
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما ذكر ما حدث لبني النضير من الاستسلام خوفًا ورهبةً لما قذفه في قلوبهم من الرعب، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت.. أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ورفقته لأولئك اليهود، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم، ومحاربتهم رسول الله - ﷺ -، بما قصه الله علينا وفصله أتم تفصيل ليكون في ذلك عبرة لنا. وإنا لنشاهد كل يوم أن
(١) المراغي.
139
الناس يضل بعضهم بعضًا ويغوونهم ثم يتركونهم في حيرة من أمرهم، لا يجدون لهم مخلصًا مما وقعوا فيه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر المضلين من المنافقين، وبين أن ما يقولون غير ما يبطنون، وأن مثلهم كمثل الشيطان في الإغواء والإضلال، ثم أعقبه بذكر الضالين من بني النضير، وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلابة التي كانت عليهم وبالًا ونكالًا، وكان فيها سوء حالهم في دنياهم ودِينهم.. شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى، وأن يعملوا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم والنعيم المقيم، وأن لا ينسوا حقوق الله فيجعل الله الران على قلوبهم، فلا يقدموا لأنفسم ما به رشادهم وفلاحهم.
وقوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فرق المضلين من المنافقين والضالين من اليهود وغيرهم، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى استعدادًا ليوم القيامة.. ذكر هنا أن لهم مرشدًا عظيمًا، وإمامًا هاديًا؛ هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة؛ لما فيه من وعد ووعيد، وبشارة وإنذار، وحكم وأحكام، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلًا وفهمه وتدبر ما فيه.. لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف بكم أيها البشر لا تلين قلوبكم، ولا تخشع، ولا تتصدع من خشيته؟ وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟. وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما في السماوات والأرض، وينقادون لحكمه وأمره ونهيه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو نعيم عن ابن عباس، أنه قال: نزلت هذه الآيات في رهط من بني عوف، منهم: عبد الله بن أبي ابن سلول. ووديعة بن مالك وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم.. قاتلنا معكم، وإن أخرجتم.. خرجنا معكم، فتربصوا ذلك
140
من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله - ﷺ - أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، ففعل، فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعير فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام.
التفسير وأوجه القراءة
١١ - ولما فرغ سبحانه من ذكر الطبقات الثلاثة من المؤمنين.. ذكر ما جرى بين المنافقين واليهود من المقاولة الكاذبة والأحوال الفاسدة؛ لتعجيب المؤمنين من حالهم، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ والخطاب لرسول الله - ﷺ -، أو لكل من يصلح له؛ أي: ألم تنظر يا محمد، أو أيها المخاطب - ﴿إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾؛ أي: إلى أقوالهم الكاذبة، ومواعيدهم العاطلة، وأحوالهم الفاسدة، وهم: عبد الله بن أبيّ وأصحابه. وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ مستأنفة لبيان المتعجب منه. والتعبير (١) بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية أو للدلالة على الاستمرار. والمراد بإخوانهم: بنو النضير، وبأخوَّتهم: إما توافقهم في الكفر، فإن الكفر ملة واحدة وإن اختلفت أنواعه. و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ هي لام التبليغ وفي قوله: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ موطئة للقسم. وهي اللام الداخلة على حرف الشرط بعد تمام القسم ظاهرًا، أو مقدرًا ليؤذن أن الجواب له لا للشرط، وقد تدخل على غير الشرط.
والمعنى: يقولون لهم: والله لئن أخرجتم.. أيها الإخوان.. من داركم وقراركم قسرًا بإخراج محمد وأصحابه إياكم منها ﴿لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ ألبتة، ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم لتمام المحبة بيننا وبينكم. وهو جواب القسم، وكررت اللام للتأكيد، وجواب الشرط مضمر. ولما كان جواب القسم وجواب الشرط متماثلين.. اقتصر على جواب القسم، وأضمر جواب الشرط، وجعل المذكور جوابًا للقسم بسعة. وكذا قوله: ﴿لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾، وقوله: ﴿لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ كل واحد منهما جواب القسم؛ ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم، وحذف جواب الشرط
(١) روح البيان.
لدلالة جواب القسم عليه. ﴿وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ﴾؛ أي: في شأنكم. وهو (١) معطوف على جملة ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾، وكذا قوله: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ﴾. فمقولهم ثلاث جمل. ﴿أَحَدًا﴾ يمنعنا من الخروج معكم من محمد وأصحابه ﴿أَبَدًا﴾ وإن طال الزمان. وهو ظرف للنفي لا للمنفي، ونصبه على الظرفية، وهو (٢) لاستغراق المستقبل، كما أن الأزل لاستغراق الماضي. ولاستعمالهما في طول الزمانين جدًّا قد يضافان إلى جمعهما، فيقال: أبد الآباد وأزل الآزال، وأما السرمد: فلاستغراق الماضي والمستقبل، يعني: لاستمرار الوجود لا إلى نهاية في جانبهما.
ثم لما وعدوهم بالخروج معهم.. وعدوهم بالنصرة لهم، فقالوا: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ﴾؛ أي: قاتلكم محمد وأصحابه، حذفت منه اللام الموطئة. ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾؛ أي: لنعاوننكم على عدوكم، ولا نخذلكم. ثم كذبهم سبحانه، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان الفاجرة، من الخروج معهم والنصرة لهم.
١٢ - ثم لما أجمل كذبهم فيما وعدوا به.. فصّل ما كذبوا فيه، فقال: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا﴾ قهرًا وإذلالًا ﴿لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ﴾ وهذا مع ما بعده تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال بقوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾. ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ﴾ وكان الأمر كذلك، فإن ابن أبيّ وأصحابه أرسلوا إلى بني النضير، وذلك سرًا ثم أخلفوهم، يعني: أن ابن أبيّ أرسل إليهم: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصنكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان. فطمع بنو النضير فيما قاله اللعين، وهو جالس في بيته، حتى قال أحد سادات بني النضير - وهو سلّام بن مشكم - لحي بن أخطب الذي كان هو المتولي لأمر بني النضير: والله يا حيي! إن قول ابن أبيّ لباطل وليس بشيء، وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدًا، فيجلس في بيته ويتركك. فقال حيي: نأبى إلا عدواة محمد، وإلا قتاله. فقال سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا. فكان ما كان كما سبق في
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
142
أول السورة.
وفيه حجة بيّنة لصحة النبوة وإعجاز القرآن، أما الأول: فلأنه أخبر عما سيقع فوقع كما أخبر؛ وذلك لأن نزول الآية مقدم على الواقعة. وعليه يدل النظم، فإن كلمة ﴿إن﴾ للاستقبال. وأما الثاني: فمن حيث الإخبار عن الغيب.
﴿وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ على سبيل الفرض والتقدير؛ أي: لو قدر وجود نصرهم إياهم؛ لأن ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده. قال الزجاج: معناه: لو قصدوا نصر اليهود ﴿لَيُوَلُّنَّ﴾ المنافقون ﴿الْأَدْبَارَ﴾؛ أي: الأقفاء منهزمين فارين. جمع دبر، ودبر الشيء خلاف القُبل؛ أي: الخلف. وتولية الأدبار كناية عن الانهزام الملزوم لتولية الأدبار. ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾؛ أي: المنافقون بعد ذلك؛ أي: يهلكهم الله تعالى، ولا ينفعهم نفاقهم؛ لظهور كفرهم بنصرهم اليهود، أو لينهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين.
وفي الآية تنبيه على أن من عصى الله ورسوله وخالف الأمر.. فهو مقهور في الدنيا والآخرة وإن كان سلطانًا ذا منعة، وما يقع أحيانًا من الفرصة فاستدراج، وغايته إلى الخذلان.
والحاصل (١): أن المراد من قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا...﴾ إلخ.. تعجيب المخاطب من حال المحدث عنه، وأن أمره غاية في الغرابة، وموضع للدهشة والحيرة.
فهؤلاء قوم من منافقي المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون، منهم: عبد الله بن أبيّ وشيعته، رأوا رسول الله - ﷺ - يحاصر بني النضير ويقاتلهم، فأرسلوا إليهم يقولون لهم: إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا، ولا نسلمكم لمحمد أبدًا، فجدوا في قتالهم ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم، حتى إذا اشتد الحصار وأوغل المسلمون في ديارهم، وجدّوا في تحريق نخيلهم وهدم بيوتهم.. رأى بنو النضير أن تلك الوعود ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾. وأنهم بين أمرين:
(١) المراغي.
143
١ - الاستسلام، وقبول حكم محمد عليهم.
٢ - فناؤهم، وتخريب ديارهم.
وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم فاختاروا الدنية، وقبلوا الجلاء عن الديار، واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لم، ولا وعود، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان.
وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال.. كذبهم تفصيلًا ليزيد تعجيب المخاطب من حالهم، وليبين لهم مبلغ خبث طويتهم. وشدة جبنهم وفزعهم من القتال، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لاكتها ألسنتهم، وقلوبهم منها براء، فقال: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ...﴾ إلخ.
أي: والله! لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها.. لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج معهم من ديارهم ولئن قاتلهم محمد - ﷺ -.. لا ينصرونهم، ولئن نصروهم.. ليولن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه، هاربين منهم خاذلين لهم، ثم لا ينصر الله بني النضير.
وهذا إخبار بالغيب، ودليل من دلائل النبوة، ووجه من وجوه الإعجاز؛ فإنه قد كان الأمر كما أخبر الله قبل وقوعه.
والخلاصة: أن بني النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فما نصروهم. ولو كانوا قد نصروهم.. لتركوا النصرة، وانهزموا، وتركوا أولئك اليهود في أيدي الأعداء.
١٣ - ثم ذكر السبب في عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين في قتال فقال: ﴿لَأَنْتُمْ﴾ يا معشر المسلمين ﴿أَشَدُّ رَهْبَةً﴾؛ أي: مرهوبية ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾؛ أي: في قلوب المنافقين، أو في صدور اليهود، أو صدور الجميع ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من رهبة الله، بمعنى: مرهوبيته، والرهبة: مخافة مع تحزّن واضطراب وهي هنا مصدر من المبنيّ للمفعول، وهو رهب؛ أي: أشد مرهوبية. وذلك لأن ﴿أَنْتُمْ﴾ خطاب للمسلمين، والخوف ليس واقعًا منهم بل من المنافقين، فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين. وهذه الجملة في المعنى كالتعليل لقوله: ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾ كأنه قال: إنهم لا يقدرون على مقاتلتكم، لأنكم أشد رهبة... إلخ.
144
قال في "الكشاف": قوله: ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾ قال على نفاقهم؛ يعني: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله.
فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد.
قلت: معناه: أن رهبتهم في السرّ منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم، وكانوا يظهرون رهبة شديدة من الله.
يقول الفقير: إنما رهبوا من المؤمنين لظهور نور الله فيهم، فكما أن الظلمة تنفر من النور ولا تقاومه، فكذا أهل الظلمة ينفر من أهل النور ولا يقوم معه. ومرادنا بالظلمة: ظلمة الشرك، والكفر، والرياء والنفاق. وبالنور: نور التوحيد، والإيمان، والإخلاص، والتقوى. ولذلك قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، حيث إن الله تعالى أثبت معيته لأهل التقوى، فنصرهم على مخالفيهم.
ثم ذكر سبب الرهبة منهم من دون الله، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ شيئًا من الأشياء حتى يعلموا عظمة الله تعالى، فيخشوه حق خشيته، ولو كان لهم فقه.. لعلموا أن الله سبحانه هو الذي سلطكم عليهم، فهو أحق بالرهبة منه دونكم.
وفي "فتح الرحمن": ختمه هنا بـ ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾ وفيما بعد بـ ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ لأن الأول متصل بقوله: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: لأنهم يفقهون ظاهر الشيء بدون باطنه، والفقه: معرفة الظاهر والباطن، فناسب نفي الفقه عنهم. والثاني متصل بقوله: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...﴾ إلخ؛ أي: لو عقلوا.. لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا، فناسب نفي العقل عنهم، انتهى.
وفيه تنبيه على أن من علامات الفقه (١): أن يكون خوف العبد من الله أشد من خوفه من الغير، وتقبيح لحال أكثر الناس على ما ترى وتشاهد. وعنه - ﷺ -: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".
قال بعضهم: لا ينقص الكفيل من الرجال خوفهم من سبع أو ظالم أو نحو ذلك؛ لأن الجزع في النشأة الإنسانية أصلي، فالنفوس أبدًا مجبولة على الخوف،
(١) روح البيان.
145
ولذة الوجود بعد العدم لا يعدلها لذة، وتوهم العدم العيني له ألم شديد في النفوس، لا يعرف قدره إلا العلماء.
١٤ - ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم، فقال: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ﴾؛ أي: لا يقاتلكم أيها المسلمون اليهود والمنافقون، بمعنى: لا يقدرون على قتالكم، ولا يجترئون عليه. ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين متفقين في موطن من المواطن ﴿إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾: جمع قرية، وهي مجتمع الناس للتوطن ﴿مُحَصَّنَةٍ﴾؛ أي: محكمة بالدروب والخنادق، وما أشبه ذلك؛ كالسور. قال الراغب؛ أي: مجعولة بالإحكام، كالحصون. والدروب: جمع درب، وهو الباب الكبير. ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾؛ أي: من خلف حيطان، دون أن يحضروا لكم ويبارزوكم؛ أي: يشافهوكم بالمحاربة لفرط رهبتهم. جمع جدار، وهو كالحائط، إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار يقال اعتبارًا بالنتوّ والارتفاع؛ ولذا قيل: حيدر الشجر، إذا خرج ورقه، كأنه حمص، وجدر الصبي، إذا خرج جدريه، تشبيهًا بجدر الشجر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿جُدُرٍ﴾ بضمتين، جمع جدار. وأبو رجاء والحسن وابن وثاب بإسكان الدال تخفيفًا. ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير وكثير من المكيين ﴿جدار﴾ بالألف وكسر الجيم. وقرأ كثير من المكيين وهارون عن ابن كثير ﴿جَدْر﴾ بفتح الجيم وسكون الدال. وقال ابن عطية: ومعناه: أصل بنيان، كالسور ونحوه.
والمعنى (٢): أي إن هؤلاء اليهود والمنافقين قد ألقى الله الرعب في قلوبهم، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين؛ لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ، بل يقاتلونكم في قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.
ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف: التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب، فقال: ﴿بَأْسُهُمْ﴾؛ أي: قتالهم فيما ﴿بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾ إذا قاتلوا قومهم؛ أي: بعضهم غليظ فظّ على بعض وقلوبهم مختلفة ونياتهم متباينة. قال السدي: المراد: اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد.
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
146
وقال مجاهد: بأسهم بينهم شديد بالكلام والوعيد ليفعلن كذا.
والمعنى: أنهم إذا انفردوا.. نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، وإذا لاقوا عدوًا.. ذلوا وخضعوا وانهزموا. والأول أولى؛ لقوله تعالى فيما بعد: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ فإنه يدل على أن اجتماعهم إنما هو في الظاهر مع تخالف قلوبهم في الباطن.
وعبارة "الروح": قوله: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾: استئناف (١) سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم، فإن بأسهم وحربهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة إليكم بما قذف الله في قلوبهم من الرعب. وأيضًا: إن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب الله ورسوله.
قال في "كشف الأسرار": إذا أراد الله نصرة قوم.. استأسد أرنبهم، وإذا أراد الله قهر قوم.. استرنب أسدهم. اهـ.
وإن قيل: إن البأس شدة الحرب، فما الحاجة إلى الحكم عليه بـ ﴿شَدِيدٌ﴾؟
أجيب: بأنه أريد من البأس هنا مطلق الحرب، فأخبر بشدته لتصريح الشدة، أو أريد المبالغة في إثبات الشدة لبأسهم مبالغة في شدة بأس المؤمنين، لغلبته على بأسهم بتأييد الله ونصرته لهم عليهم.
والظرف متعلق بـ ﴿شَدِيدٌ﴾، والتقديم للحصر. ويجوز أن يكون متعلقًا بمقدر صفة أو حالًا؛ أي: بأسهم الواقع بينهم، أو واقعًا بينهم. فقولهم: الظرف الواقع بعد المعرفة يكون حالًا ألبتة، ليس بمرضي، فإن الأمرين جائزان، بل قد ترجح الصفة.
والمعنى: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾؛ أي: بعضهم لبعض عدو، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوًا لهم، وهم في تخاذل وانحلال، ومن ثم استكانوا وذلوا.
وفي هذا (٢): عبرة للمسلمين في كل زمان ومكان؛ فإن الدول الإِسلامية ما هدد كيانها وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادًا وجماعات وانفراط عقد وحدتها، ومن ثم طمع الأعداء في بلادهم، ودخلوها فاتحين، وأذاقوا أهلها كؤوس
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
147
الذل والهوان، وفرقوهم شذر مذر، وجعلوهم عبيدًا أذلاء في بلادهم، والتهموا ثرواتهم، ولم يبقوا لهم إلا النفاية وفتات الموائد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى الله أن يأتي بالفتح ونصر من عنده، فيستيقظ المسلمون من سباتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فيستعيدوا سابق مجدهم، وتدول الدولة لهم:
فيومٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ
ثم زاد ما سلف توكيدًا، فقال: ﴿تَحْسَبُهُمْ﴾ يا محمد، أو يا كلّ من يسمع ويعقل ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين متفقين، ذوي ألفة واتحاد ﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾؛ أي: والحال أن قلوبهم متفرقة لا ألفة بينها، وهم بخلاف من وصفهم الله بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾. جمع شتيت، كمرض ومريض، وهذا التخالف هو البأس السابق الذي بينهم الموصوف بالشدة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿شَتَّى﴾ بألف التأنيث، ومبشر بن عبيد منونًا، جعلها ألف الإلحاق وعبد الله ﴿وقلوبهم أشت﴾؛ أي: أشد تفرقًا. ومما ورد في استعمال ﴿شَتَّى﴾ في كلام العرب قول الشاعر:
إِلَى اللهِ أَشْكُوْ فِتْيَةً شَقّتِ الْعَصَا هِي الْيَوْمَ شَتّى وَهْيَ أَمْسِ جَمِيْعُ
والمعنى: أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين.. خلتهم متفقين وهو مختلفون غاية الاختلاف لما بينهم من إحن وعداوات. فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.
وفي هذا: تشجيع للمؤمنين على قتالهم، وحث للعزائم الصادقة على حربهم؛ فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه.. ازداد نشاطًا، وازدادت حميته، وكل ذلك من أسباب نصرته عليه.
تنبيه (٢): على أن اللائق بالمؤمن الاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، كما كان المؤمنون متفقين في عهد النبي - ﷺ -. ويقال: الاتفاق قوة، والافتراق هلكة، والعدو إبليس يظفر في الافتراق بمراده. قال سهل: أهل الحق مجتمعون أبدًا موافقون، وإن تفرقوا بالأبدان وتباينوا بالظواهر، وأهل الباطل متفرقون أبدًا وإن
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
148
اجتمعوا بالأبدان وتوافقوا بالظواهر؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿تَحْسَبُهُمْ...﴾ إلخ.
﴿ذَلِكَ﴾: أي ما ذكر من تشتت قلوبهم ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لا يعقلون شيئًا حتى يعرفوا الحق، ويتبعوه وتطمئن به قلوبهم، وتتحد به كلمتهم، ويرموا عن قوس واحدة، فيقعون في تنبيه الضلال، وتشتت قلوبهم حسب تشتت طرقه وتفرق فنونه، وتشتت القلوب يوهن قواهم؛ لأن صلاح القلب يؤدي إلى صلاح الجسد، وفساده إلى فساده. كما قالوا: كل إناء يترشح بما فيه.
واعلم (١): أن الله تعالى ذم الكفار في القرآن بكل من: عدم الفقه والعلم والعقل. قال الراغب: الفقه هو: التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. فهو أخصّ من العلم. والعلم: إدراك الشيء بحقيقته، وهو نظري وعملي، وأيضًا عقلي وسمعيّ. والعقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوى: عقل.
والمعنى (٢): أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء، وأنهم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة، ولا يعلمون أن الوحدة هي سر النجاح، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم، واختلف جمعهم، واستهان بهم عدوهم، ودارت عليهم الدائرة.
١٥ - ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع في الكافرين بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم، فقال: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثل اليهود من بني النضير كائن كمثل الذين من قبلهم؛ أي: صفتهم الغريبة وحالهم العجيبة، وهي ما وقع لهم من الإجلاء والذل كمثل وصفة وحال المشركين من أهل مكة فيما وقع لهم أيضًا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل.
وقوله: ﴿قَرِيبًا﴾: ظرف زمان متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾. ولك أن تعلقه بـ ﴿ذَاقُوا﴾ المذكور بعده. وعلقه الزمخشري بمضاف مقدر في الخبر؛ أي: كوجود وحصول ووقوع مثل أهل بدر قريبًا.
أي: مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل والمهانة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
كمثل أهل مكة فيما وقع لهم قريبًا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل، وليس قوله ببعيد.
﴿ذَاقُوا﴾؛ أي: ذاق الذين من قبلهم، وهذا بيان لمثل الذين من قبلهم؛ أي: ذاقوا في الدنيا ببدر ﴿وَبَالَ﴾؛ أي: عقوبة ﴿أَمْرِهِمْ﴾؛ أي: كفرهم، وهو عذاب القتل والأسر ببدر. وكانت غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول من السنة الرابعة، وكان ما بينهما نحو سنة ونصف. ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة؛ أي: للذين من قبلهم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: مؤلم لا يقادر قدره حيث يكون ما في الدنيا بالنسبة إليه كالذوق بالنسبة إلى الأكل. وفي "الفتوحات": والمقصود تشبيه حال اليهود، وهي ما حصل لهم في الدنيا من الوبال، وما سيحصل لهم في الآخرة من العذاب بحال المشركين في هذين الأمرين.
والخلاصة: أن حال هؤلاء كحال أولئك في الدنيا والآخرة، ولكن لا على أن حال كلهم كحالهم، بل حال بعضهم الذين هم اليهود كذلك.
١٦ - وأما حال المنافقين: فهو ما تعلق به قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾ فإنه خبر ثان (١) للمبتدأ المقدر، مبين لحالهم، متضمن لحال أخرى لليهود. وهي اغترارهم بمقالة المنافقين أولًا، وخيبتهم آخرًا. وقد أجمل في النظم الكريم؛ حيث أسند كل من الخبرين إلى المقدر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بِخصوصه، ثقة بأن السامع يرد كلًّا من المثلين إلى ما يماثله، كأنه قيل: مثل اليهود في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم، ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما حكي عنهم ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾، ﴿إِذْ قَالَ﴾؛ أي: الشيطان ﴿لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾. وقول الشيطان مجاز عن الإغواء والإغراء؛ أي: إذ أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور على المأمور به. ﴿فَلَمَّا كَفَرَ﴾ الإنسان المذكور إطاعة لإغوائه وتبعًا لأهوائه ﴿قَالَ﴾ الشيطان: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾؛ أي: بعيد عن عملك وأملك غير راض بكفرك وشركك.
(١) روح البيان.
150
قال العلماء: إن أريد بالإنسان الجنس فهذا التبرّي من الشيطان يكون يوم القيامة، كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. وهذه الجملة تعليل لبراءته من الإنسان بعد كفره، وإن أريد به أبو جهل.. على كون اللام للعهد.. فمعنى قوله: ﴿اكْفُرْ﴾: دم على الكفر، وقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ إلخ، عبارة عن قول إبليس له يوم بدر: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨)﴾. يعني: لما قاتلوا ورأى إبليس جبريل مع محمد عليهما السلام.. خافه، وتبرأ منهم، وانهزم. قال بعضهم: هذا من كذبات إبليس، وإنه لو خاف الله حقيقة وقال صدقًا.. لما استمر على ما أدى إلى الخوف بعد ذلك، كيف وقد طلب الإنظار إلى البعث للإغواء؟!.
وقال أبو الليث: قال ذلك على وجه الاستهزاء، ولا بعد أن يقول له: ليوقعه في الحسرة والحرقة، انتهى.
يقول الفقير: الظاهر أن الشيطان يستشعر في بعض المواد جلال الله تعالى وعظمته، فيخافه حذرًا من المؤاخذة العاجلة وإن كان منظرًا، ولا شك أن كل أحد يخاف السطوة الإلهية عند ظهور أماراتها، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. على أن نحو قاطع الطريق وقاتل النفس ربما فعل ما فعل، وهو خائف من الأخذ.
وقيل: المراد بالإنسان: هو عابد كان في بني إسرائيل، حمله الشيطان على الكفر فأطاعه. والجمهور على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه. وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنِّي﴾ بسكون الياء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتحها.
والمعنى: أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير النصرة إن قوتلوا أو الخروج معهم إن أخرجوا، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم
(١) الشوكاني.
151
وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم.. كمثل الشيطان الذي غر إنسانًا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله، واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته.. أسلمه وتبرأ منه، وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. إذا أنا نصرتك لئلا يشركني معك في العذاب.
والخلاصة: أن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم: ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾، ولما جد الجد واشتد الحصار والقتال.. تخلوا عنهم وأسلموا للهلكة، كمثل الشيطان إذ سول للإنسان الكفر والعصيان، فلما دخل فيه.. تبرأ منه وتنصل وقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾. ولا تجد مثلًا أشد وقعًا على النفوس، ولا أنكى جرحًا في القلوب من هذا المثل لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
١٧ - ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح له، فقال: ﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا﴾؛ أي: عاقبة الشيطان وذلك الإنسان. قرأ الجمهور بنصب ﴿عَاقِبَتَهُمَا﴾ على أنه خبر ﴿كان﴾ مقدم على اسمها، واسمها قوله: ﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ﴾. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم برفعه، على أنه اسم ﴿كَانَ﴾، والخبر ما بعده. وهو أوضح في المعنى.
والمعنى: فكان عاقبة الشيطان وذلك الإنسان الذي كفر أنهما صائران إلى النار حال كونهما ﴿خَالِدَيْنِ﴾؛ أي: ماكثين ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في النار مكثًا مؤبدًا لا يبرحان عنها. وهو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور. وقرأ الجمهور ﴿خَالِدَيْنِ﴾ بالياء نصبًا على الحال. وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش، وابن أبي عبلة ﴿خالدان﴾ بالألف رفعًا على أنه خبر ﴿أن﴾. والظرف لغو متعلق به. ﴿وَذَلِكَ﴾؛ أي: الخلود في النار ﴿جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ على الإطلاق دون هؤلاء خاصة.
والمعنى: أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه الخلود في النار أبدًا، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر، كيهود بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.
١٨ - ثم رجع سبحانه وتعالى إلى خطاب المؤمنين بالموعظة الحسنة، فقال:
152
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله، إيمانًا خالصًا، ويقينًا صادقًا ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: اتقوا عقاب الله في كل ما تأتون، وما تذرون، فتحرزوا عن العصيان بالطاعة، وتجنبوا عن الكفران بالشكر، وتوقوا عن النسيان بالذكر، واحذروا عن الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم بشهود أفعاله وصفاته في كل شيء.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله سبحانه، فافعلوا ما به أمر، واتركوا ما عنه نهى، وزجر، أو: اتقوا الله بفعل المأمورات، كما سيأتي مقابله.
﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ﴾؛ أي: ولتتفكر كل نفس - برة أو فاجرة - ولتبحث وتفتش ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾؛ أي: عما تقدمه ليوم القيامة من الأعمال الصالحة أو السيئة، فتختاره وتفعله؛ أي: لينظر أحدكم أي شيء يقدمه لنفسه من الأعمال، وليفكر فيه، وليحصله؛ أي: فليختر هل يقدم لها عملًا صالحًا ينجيها أو سيئًا يوبقها، فإن الدنيا دار الزراعة، والآخرة دار الحصاد، فلا تحصد في الآخرة إلا ما زرعته في الدنيا.
والمتبادر من معنى الغد أنه عبارة عن يوم بينك وبينه ليلة، ويطلق أيضًا على مطلق الزمان المستقبل كقوله:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِيْ غَدٍ عَمِي
وأطلق (١) هنا اسم الغد في قوله: ﴿لِغَدٍ﴾ على يوم القيامة تقريبًا له؛ كقوله: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ فكأنه لقربه شبه بما ليس بينك وبينه إلا ليلة واحدة، أو لأن الدنيا - أي: زمانها - كيوم والآخرة كغده، لاختصاص كل منهما بأحكام وأحوال متشابهة وتعقيب الثاني للأول، فلفظ الغد حينئذٍ استعارة كما سيأتي. وفائدة تنكير النفس: إفادة أن الأنفس الناظرة في معادها قليلة جدًا، كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وأين تلك النفس؟
يقول الفقير (٢): إنما كانت الآخرة كالغد لأن الناس في الدنيا نيام، ولا انتباه إلا عند الموت الذي هو مقدمة القيامة كما ورد به الخبر، فكلّ من الموت والقيامة كالصباح بالنسبة إلى الغافل، كما أن الغد صباح بالنسبة إلى النائم في الليل. ودل هذا على أن الدنيا ظلمانية والآخرة نورانية، انتهى.
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
153
وفائدة تنكير الغد تعظيمه، وتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا تعرف كل نفس كنه عظمته وغاية هوله، فالتنكير فيه للتعظيم، وفي النفس للتقليل أو للتعريض بغفلة كلهم عن هذا النظر الواجب. وأصله: غدو، حذفوا الواو بلا تعويض عنها كما سيأتي في مبحث التصريف.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلْتَنْظُرْ﴾ أمرًا، واللام ساكنة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن الحارث بكسرها. وروي ذلك عن حفص عن عاصم. وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي، ذكره في "البحر".
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى. كرره للتأكيد والاهتمام في شأن التقوى، وإشارة إلى أن اللائق بالعبد أن يكون كل أمره مسبوقًا بالتقوى ومختومًا بها. أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل كما سبق، والثاني في ترك المحارم، كما يؤذن به الوعيد بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عالم بما تعملونه من المعاصي، فيجازيكم عليها يوم الجزاء.
والتقوى هو: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك. وقال بعض الكبار: التقوى: وقاية النفس في الدنيا عن ترتب الضرر في الآخرة. فتقوى العامة عن ضرر الأفعال، وتقوى الخاصة عن ضرر الصفات، وتقوى أخص الخواص عن جميع ما سوى الله تعالى.
وفي الآية ترغيب في الأعمال الصالحة.
والمعنى (١): أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من توقع العذاب سكارى. واتقوا الله إنه خبير عليم بأحوالكم، لا يخفى عليه شيء من شؤونكم، فراقبوه في جليل أعمالكم، وحقيرها، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير، والقليل والكثير، ولا يفوته شيء من ذلك.
(١) المراغي.
154
١٩ - ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرًا وإنذارًا، فقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ قرأ الجمهور (١): ﴿لا تكونوا﴾ بتاء الخطاب، وأبو حيوة بياء الغيبة على سبيل الالتفات؛ أي: ولا تكونوا أيها المؤمنون ﴿كَالَّذِينَ﴾؛ أي: كاليهود والمنافقين. فالمراد بالموصول (٢): المعهودون بمعونة المقام، أو الجنس كائنًا من كان من الكفار، أمواتًا أو أحياء. ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ فيه حذف المضاف؛ أي: نسوا حقوقه تعالى، وما قدروه حق قدره، ولم يراعوا مواجب أموره ونواهيه حق رعايتها ﴿فَأَنْسَاهُمْ﴾ بسب ذلك ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: جعلهم ناسين لها، فلم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها، فالمضي على أصله. أو أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم، فالمضي باعتبار التحقق.
قال الراغب: النسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع، إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، أو عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. وكل نسيان من الإنسان ذمّه الله به.. فهو ما كان أصله من تعمد وما عذر فيه، نحو: ما روي عن النبي - ﷺ -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". فهو ما لم يكن سببه منه. فقدله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ هو ما كان سببه عن تعمد منهم وتركه على طريق الإهانة. وإذا نسب ذلك إلى الله.. فهو تركه إياهم استهانة بهم مجازاة لما تركوه، كما قال في "اللباب": قد يطلق النسيان على الترك ومنه: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ﴾؛ أي: تركوا طاعة الله ترك الناسي، فتركهم الله.
وقال بعض المفسرين: إن قيل: النسيان يكون بعد الذكر، وهو ضد الذِّكر، لأنه السهو الحاصل بعد حصول العِلم، فهل كان الكفار يذكرون حق الله ويعترفون بربوبيته حتى ينسوا بعد؟
أجيب: بأنهم اعترفوا وقالوا: بلى يوم الميثاق، ثم نسوا ذلك بعدما خلقوا، والمؤمنون اعترفوا بها بعد الخلق، كما اعترفوا قبله بهداية الله، وراعوا حقها قل أو كثر جلّ أو صغر، ثم إن قوله: ﴿وَلَا تَكُونُوا...﴾ إلخ، تنبيه على أن الإنسان بمعرفته لنفسه يعرف الله، فنسيانه هو من نسيانه لنفسه، كما قال في "فتح الرحمن": لفظ هذه الآية على أنه من عرف نفسه ولم ينسها.. عرف ربه. وقد قال علي رضي
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
الله عنه: (اعرف نفسك تعرف ربك). وقال سهل: معنى الآية: نسوا الله عند الذنوب فأنساهم الله أنفسهم عند الاعتذار وطلب التوبة.
والخلاصة (١): ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق الله التي أوجبها على عباده، فران على قلوبهم، وأنساهم العمل الصالح الذي ينجيهم من عقابه، فضلوا ضلالًا بعيدًا، فجازاهم بما هم له أهل وما هم له مستحقون جزاءً وفاقًا؛ لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها في المعاصي والآثام.
ومن ثم حكم عليهم بالهلاك، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الناسون المخذولون بالإنساء ﴿هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الكاملون في الفسوق والخروج عن طريق الطاعة، و ﴿هم﴾ للحصر، فأفاد أن فسقهم كان بحيث أن فسق الغير كأنه ليس بفسق بالنسبة إليه. فالمراد بهم هنا: الكافرون لكن على المؤمن الغافل عن رعاية حق ربوبية الله ومراعاة حظ نفسه من السعادة الأبدية والقربة إلى جنابه تعالى خوف شديد وخطر عظيم.
والمعنى (٢): أي أولئك هم الذين خرجوا عن طاعة الله تعالى فاستحقوا عقابه يوم القيامة، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩)﴾.
٢٠ - ثم وازن بين من يعمل الحسنات ومن يجترم السيئات، فقال: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ﴾ الذين نسوا الله، فاستحقوا الخلود في النار ﴿وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ الذين اتقوا الله، فاستحقوا الخلود في الجنة.
قال في "الإرشاد" (٣): لعل تقديم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانًا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ﴾ إلى غير ذلك من المواضع. وأما قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فلعل تقديم
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) أبو السعود.
156
الفاضل فيه لأن صلته ملكة والأعدام مسبوقة بملكاتها.
وقال بعضهم (١): قدم ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ لذكر الذين نسوا الله قبله، ولكثرة أهلها.
ولفظ ﴿النَّارِ﴾ باللام من أعلام جهنم، كالساعة للقيامة. ولذا كثيرًا ما تذكر في مقابلة الجنة، كما في هذا المقام. وجاء في الشعر:
الْجَنَّةُ الدَّارُ فَاعْلَمْ إِنْ عَمِلْتَ بِمَا يُرَضِي الإِلَهَ وَإِنِ فرّطْتَ فَالنَّارُ
هُمَا مَحَلَّانِ مَا لِلنَّاسِ غَيْرُهُمَا فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ مَاذَا أَنْتَ تَخْتَارُ
والصحبة في الأصل: اقتران الشيء بالشيء، في زمان ما، قل أو كثر. وبذلك يكون كل منهما صاحب الآخر. وإن كانت على المداومة والملازمة.. يكون كمال الصحبة، ويكون الصاحب المصاحب عرفًا، وقد يطلق على الطرفين حينئذٍ صاحب ومصاحب أيضًا. ومن ذلك يكنى عن الزوجة بالصاحبة. وقد يطلق الصاحب على المالك؛ لكثرة صحبته بمملوكه كما قيل له: الربّ؛ لوقوع تربية المالك على مملوكه، فيقال: صاحب المال كما يقال: رب المال. فإطلاق ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ و ﴿وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ على أهلهما إما باعتبار الصحبة الأبدية والاقتران الدائم، حتى لا يقال للعصاة المعذبين بالنار مقدار ما شاء الله تعالى: أصحاب النار. أو باعتبار الملك، مبالغة ورمزًا إلى أنهما جزاء لأهلهما، باعتبار كسبهما بأعمالهم الحسنة أو السيئة.
ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)﴾، وقوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾.
والمعنى (٢): أي لا يستوي الذين نسوا الله فاستحقوا الخلود في النار، والذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة.
ثم بين عدم استوائهما، فقال: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بكل مطلوب الناجون من كل مكروه. وهو استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بين الفريقين.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
157
فالفوز: الظفر مع حصول السلامة، فهم أهل الكرامة في الدارين. وأصحاب النار هم أهل الهوان فيهما.
وفي هذا تنبيه (١) للناس بأنهم لفرط غفلتهم ومحبتهم العاجلة واتباع الشهوات.. كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، وبين أصحابهما حتى احتاجوا إلى الإخبار بعدم الاستواء، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البرّ والتعطف، فكذا نبه الله تعالى الناس بتذكير سوء حال أهل النار وحسن حال أهل الجنة، على الاعتبار والاحتراز عن الغفلة، ورفع الرأس عن المعاصي، والتحاشي من عدم المبالاة. وروي عن النبي - ﷺ -: "إن أدنى أهل الجنة منزلة: من ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله: من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾: وقال - ﷺ -: "إن أهون أهل النار عذابًا، من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا".
٢١ - ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر أهل الجنة وأهل النار، وبين عدم استوائهم في شيء من الأشياء. ، ذكر تعظيم كتابه الكريم وأخبر عن جلالته وأنه حقيق بأن تخشع له القلوب وترق له الأفئدة، فقال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ﴾ العظيم الشأن المنزل عليكم أيها الناس، المنطوي على فنون القوارع أو المنزل عليك يا محمد، أو على محمد، بحسب الالتفات في الخطاب. ﴿عَلَى جَبَلٍ﴾ من الجبال، وهو كل وتد للأرض عظم وطال، كما سيأتي.
ثم إنه لا يلزم في الإشارة وجودُ جملة المشار إليه ذي الأبعاض المترتبة وجودًا، بل يكفي وجود بعض الإشارة حقيقة ووجود بعض آخر حكمًا. ويحتمل أن يكون المشار إليه هنا الآية السابقة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلخ. فإن لفظ القرآن كما يطلق على المجموع.. يطلق على البعض منه حقيقة، بالاشتراك، أو باللغة، أو مجازًا بالعلاقة، فيكون التذكير باعتبار تذكير المشار إليه.
(١) روح البيان.
158
﴿لَرَأَيْتَهُ﴾؛ أي: لرأيت ذلك الجبل - يا محمد، أو يا من يتأتى منه الرؤية - مع كونه علمًا في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه. ﴿خَاشِعًا﴾؛ أي: خاضعًا ذليلًا. وهو حال من الضمير المنصوب في قوله: ﴿لَرَأَيْتَهُ﴾؛ لأنه من الرؤية البصرية. ﴿مُتَصَدِّعًا﴾؛ أي: متشققًا ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ سبحانه وخوفه أن يعصيه فيعاقبه.
أي (١): من شأنه وعظمته، وجودة ألفاظه وقوة مبانيه، وبلاغته، واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض.. لرأيته - مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم - خاشعًا متصدعًا؛ أي: متشققًا من خشية الله سبحانه، حذرًا وخوفًا من أن لا يؤدّي ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى. وقرأ طلحة ﴿مصدعًا﴾ بإدغام التاء في الصاد.
والخلاصة (٢): لو ركب في الجبل عقل وشعور كما ركب فيكم أيها الناس، ثم أنزل عليه القرآن ووعد وأوعد حسب حالكم.. لخشع وخضع وتذلل وتصدع من خشية الله تعالى، حذرًا من أن لا يؤدّي حق الله تعالى، في تعظيم القرآن والامتثال لما فيه من أمره ونهيه، والكافر المنكر أقسى منه، ولذا لا يتأثر أصلًا. قال العلماء: وهذا بيان وتمثيل وتصوير لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، أريد به توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه.
ويدل على هذا قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾ إشارة إلى هذا المثل المذكور هنا وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل؛ أي: هذا القول الغريب في بيان عظمة القرآن ودناءة حال الإنسان وبيان صفتهما العجيبة، وسائر الأمثال الواقعة في القرآن. فإن لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر، ثم يستعار لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشأن، تشبيهًا له بالقول السائر في الغرابة؛ لأنه لا يخلو عن غرابة. ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾؛ أي: نبيّنها لهم ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ويتدبرون فيما يجب عليهم التفكر فيه، ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر. وفيه توبيخ وتقريع للكفار حيث لم يخشعوا للقرآن، ولا اتعظوا بمواعظه، ولا انزجروا بزواجره.
أي: نبينها لمصلحة التفكر ومنفعة التذكر. ولا يقتضي كون الفعل معللًا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
159
بالحكمة والمصلحة أن لكون معللًا بالغرض حتى تكون أفعاله تعالى معللة بالأغراض؛ إذ الغرض من الاحتياج والحكمة: اللطف بالمحتاج، وبينهما فرق.
فإن قلت (١): قال في سورة الزمر: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ بصيغة المضي والإخبار عن الماضي مع أنها مكية، وقال هنا: ﴿نَضْرِبُهَا﴾ بصيغة المضارع والاستقبال مع أن السورة مدنية.
قلت: لعل الأول من قبيل عد ما سيحقق مما حقق لتحققه بلا خلف، والثاني من قبيل التعبير عن الماضي بالمضارع؛ لإحضار الحال الماضية، أو لإرادة الاستمرار على الأحوال، بمعنى: أن شأننا أن نضرب الأمثال للناس.
وفي الحديث: "أعطوا أعينكم حظها من العبادة" قالوا: ما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال: "النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب. وعن الحسن البصري رحمه الله: من لم يكن كلامه حكمة.. فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكرًا.. فهو سهو، ومن لم يكن نظره عبرة.. فهو لهو. وعن أبي سليمان رحمه الله: الفكرة في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية، والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتحيي القلب. وكثيرًا ما ينشد سفيان بن عيينة، ويقول:
إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فِكْرةٌ فَفِي كُلّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةٌ
وعن بعضهم أنه قال: من عجز عن ثمانية.. فعليه بثمانية أخرى لينال فضلها. من أراد فضل صلاة الليل، وهو نائم.. فلا يعص بالنهار، ومن أراد فضل صيام التطوع وهو مفطر.. فليحفظ لسانه عما لا يعنيه، ومن أراد فضل العلماء.. فعليه بالتفكر، ومن أراد فضل المجاهدين والغزاة وهو قاعد في بيته.. فليجاهد الشيطان، ومن أراد فضل الصدقة وهو عاجز.. فليعلم الناس ما سمع من العلم، ومن أراد فضل الحجّ وهو عاجز.. فليلتزم الجمعة، ومن أراد فضل العابدين.. فليصلح بين الناس ولا يوقع العداوة، ومن أراد فضل الأبدال.. فليضع يده على صدره ويرضى لأخيه ما يرضى لنفسه.
(١) روح البيان.
160
واعلم (١): أن التفكر إما أن يكون في الخالق أو في الخلق:
والأول: إما في ذاته، أو في صفاته، أو في أفعاله. أما في ذاته.. فممنوع؛ لأنه لا يعرف الله إلا الله، إلا أن يكون التفكر في ذاته باعتبار عظمته وجلاله وكبريائه، من حيث وجوب الوجود ودوام البقاء، وامتناع الإمكان والفناء، والصمدية التي هي الاستغناء عن الكل. وأما في صفاته: فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع الأشياء، وإرادته بجميع الكائنات وسمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، ونحو ذلك. وأما في أفعاله: فهو فيها بحسب شمولها، وكثرتها، ومتانتها، ووقوعها على الوجه الأتم، كل يوم هو في شأن.
والثاني: إما أن يكون فيما كان من العلويات والسفليات، أو فيما سيكون من أهوال يوم القيامة وأحوال الآخرة إلى أبد الآباد.
والمعنى: أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن، وذكرناها في مواضعها التي ضربت لأجلها واقتضاها الحال، من نحو قوله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾، وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى...﴾ الآية.. جعلناها تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن الناس من وفقه الله واهتدى بها إلى سواء السبيل، وفاز بما يرضي ربه عنه، ومنهم من أعرض عنها وناى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وأدخله في سقر، وما أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر.
وقيل (٢): الخطاب في الآية للنبي - ﷺ - والمعنى عليه أي: لو أنزلنا هذا القرآن - يا محمد - على جبل لَمَا ثبت، ولتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، وقويناك عليه. فيكون على هذا من باب الامتنان على النبي - ﷺ -؛ لأن
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
161
الله سبحانه ثبته لما لا تثبت له الجبال الرواسي.
٢٢ - ثم أخبر سبحانه بربوبيته وعظمته، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود بحق في الوجود، هو الإله ﴿الَّذِي لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق في الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه. وفي هذا تقرير للتوحيد ودفع للشرك. هو سبحانه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾؛ أي: عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر. وقيل: عالم السرّ والعلانية، وقيل: عالم ما كان وما سيكون. وقيل: الآخرة والدنيا. وقدم الغيب على الشهادة لكونه متقدمًا وجودًا. وتعلق العلم القديم به من حيث كونه موجودًا. قال الراغب: ما غاب عن حواس الناس وأبصارهم وما شهدوه بهما.
واعلم (١): أن ما ورد من إسناد الغيب إلى الله فهو الغيب بالنسبة إلينا، لا بالنسبة إليه تعالى؛ لأنه لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا انتفى الغيب بالنسبة إليه تعالى.. انتفى العلم به أيضًا، وأيضًا لما سقطت جميع الغيب والإضافات في مرتبة الذات البحت والهوية الصرفة.. انتفت النسبة العلمية مطلقًا، فانتفى العلم بالغيب، فافهم.
﴿هُوَ﴾ سبحانه ﴿الرَّحْمَنُ﴾؛ أي: كثير الرحمة لعباده بجلائل النعم. ﴿الرَّحِيمُ﴾: كثير الرحمة لعباده بدقائق النِّعم.
كرر ﴿هوَ﴾ لأن له شأنًا شريفًا، ومقامًا منيفًا؛ لدلالته على التوحيد. من اشتغل به.. ملك، ومن أعرض عنه.. هلك. والله تعالى رحمته الدنيوية عامة لكل إنسي وجني، مؤمنًا كان أو كافرًا، على ما قال - ﷺ -: "أيها الناس! إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل الباطل، كونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها"، ولذلك يقال: يا رحمن الدنيا؛ لأن ما فيه زيادة حرف يراد به زيادة في المعنى. ورحمته الأخروية خاصة بالمؤمنين، ولذا يقال: يا رحيم الآخرة. فعلى هذا في معنى ﴿الرَّحْمَنُ﴾ زيادة باعتبار المنعم عليه، ونقصان باعتبار الأنواع والأفراد. وفي تخصيص هذين الاسمين المنبئين، عن وفور
(١) روح البيان.
162
رحمته في الدارين تنبيه على سبق رحمته، وتبشير للعاصين أن لا يقنطوا من رحمة الله، وتنشيط للمطيعين. بأنه يقبل القليل، ويعطي الجزيل.
وحظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون كثير الرحمة، بأن يرحم نفسه أولًا ظاهرًا وباطنًا، ثم يرحم غيره بتحصيل مراده وإرشاده والنظر إليه بعين الرحمة، كما قال بعضهم:
وَارْحَمْ بُنَيَّ جَمِيْعَ الْخَلْقِ كُلِّهِمِ وَانْظُرْ إِلِيْهِمْ بِعَيْنِ اللُّطْفِ وَالشَّفَقَهْ
وَقِّرْ كَبِيْرَهُمُ وَارْحَمْ صَغِيْرَهُمُ وَرَاعِ فِيْ كُلِّ خَلْقٍ حَقَّ مَنْ خَلَقَهْ
ومعنى الآية (١): أي إنه تعالى لا رب غيره، ولا إله في الوجود سواه، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك.. فهو باطل. وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
واعلم (٢): أن لفظ ﴿هُوَ﴾ في قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ في أصل وضعه كناية عن المفرد المذكر الغائب، وهي: كناية عن المفردة المؤنثة الغائبة. وكثيرًا ما يكنى به عمن لا يتصور فيه المذكورة والأنوثة، كما هو هاهنا، فإنه راجع إلى الله تعالى للعلم به. ولك أن تقول: هو: موضوع لمفرد ليس فيه تأنيث حقيقة وحكمًا، وهي: لمفرد يكون فيه ذلك. و ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، خبره لفظة ﴿اللَّهُ﴾؛ بمعنى: هو المعبود بالحق، المسمى بهذا الاسم الأعظم، الدال على جلال الذات وكمال الصفات، فلا يلزم أن يتحد المبتدأ أو الخبر بأن يكون التقدير: الله الله؛ إذ لا فائدة فيه. أو ﴿اللَّهُ﴾ بدل من ﴿هُوَ﴾، والموصول مع صلته خبر المبتدأ، أو ﴿هُوَ﴾ إشارة إلى الشأن، و ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ، و ﴿الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبره، والجملة خبر عن ضمير الشأن. و ﴿لَا﴾ في كلمة التوحيد لنفي أفراد الجنس على الشمول والاستغراق. و ﴿إِلَهَ﴾ مبني على الفتح بها، مرفوع المحل على الابتداء، والمراد به: جنس المعبود بالحق، لا مطلق جنس المعبود، حقًا أو باطلًا، وإلا.. فلا يصح في
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
163
نفسه؛ لتعدد الآلهة الباطلة، ولا يفيد التوحيد الحق. و ﴿إِلَّا هُوَ﴾ مرفوع على: البدلية في محل المنفي، أو من ضمير الخبر المقدر لـ ﴿لَا﴾ والخبر قد يقدر: موجود، فيتوهم أن التوحيد يكون باعتبار الوجود لا الإمكان، فإن نفي وجود إله غير الله لا يستلزم نفي إمكانه. وقد يقدر: ممكن، فيتوهم أن إثبات الإمكان لا يقتضي الوقوع، فكم من شيء ممكن لم يقع. وقد يقدر: لنا، فيتوهم أنه لا بد من مقدر، فيعود الكلام أيضًا.
والجواب: أنه إذا كان المراد بالإله المعبود بالحق كما ذكر.. فهو لا يكون إلا رب العالمين مستحقًا لعبادة المكلفين، فإذا نفيت الألوهية على هذا المعنى عن غيره تعالى، وأثبتت له سبحانه.. يندفع التوهم على التقادير كلها.
٢٣ - ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كرره للتأكيد والتقرير، ولإبراز الاعتناء بالتوحيد؛ لكونه حقيقًا بذلك. ﴿الْمَلِكُ﴾؛ أي: المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه، المالك لهم، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته. ﴿الْقُدُّوسُ﴾؛ أي: الطاهر عن كل عيب، المنزه عما لا يليق به. وقيل: هو الذي كثرت بركته، أو البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانًا ما.
وقرأ الجمهور (١): ﴿الْقُدُّوسُ﴾ بضم القاف. وقرأ أبو السمال، وأبو دينار الأعرابي بفتحها. وكان سيبويه يقول: سبوح قدوس بفتح أولهما، وحكى أبو حاتم عن يعقوب، أنه سمع عند الكسائي أعرابيًا فصيحًا يقرأ: القَدوس بفتح القاف. قال ثعلب: كل اسم على فعول.. فهو مفتوح الأول إلا السبوح، القدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان. وقال بعضهم: المفتوح قليل في الصفات كثير في الأسماء، مثل التنور والسمور والسفود وغيرها.
﴿السَّلَامُ﴾؛ أي: الذي سلم من كل النقائص، وكل آفة تلحق الخلق. فإن قلت (٢): على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق، فيكون كالتكرار، وذلك لا يليق بفصاحة القرآن؟.
قلت: الفرق بينهما: أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب
(١) البحر المحيط والشوكاني.
(٢) الخازن.
164
والنقائص، في الماضي والحاضر، والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل، فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليمًا. وقيل: السلام هو المسلم على عباده في الجنة، كما قال: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال الأكثر. وقيل: المسلم لعباده، وهو مصدر وصف به مبالغة.
﴿الْمُؤْمِنُ﴾؛ أي: الذي وهبَ لعباده الأمن من عذابه. وقيل: المصدق لرسله بإظهار المعجزات. وقيل: المصدق للمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، والمصدق للكافرين بما أوعدهم به من العذاب.. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه بقوله: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.
وقرأ الجمور (١): ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ بكسر الميم على صيغة اسم الفاعل من آمن؛ بمعنى: أمن. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين - وقيل: أبو جعفر المدائني -: بفتحها؛ بمعنى: المؤمن به، على الحذف. وقال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة؛ لأن معناه: أنه كان خائفًا فأمنه غيره.
﴿الْمُهَيْمِنُ﴾ قال ابن عباس: أي الشهيد على عباده بأعمالهم، الرقيب عليهم الذي لا يغيب عنه شيء. وقيل (٢): هو القائم على خلقه برزقه، وأنشد في معناه:
أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيّهِ مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِيْ الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ
يقال: هيمن يهيمن، فهو مهيمن إذا كان رقيبًا على الشيء. قال الواحدي: وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله: مؤيمن، بوزن مفيعل، من آمن يؤمن، فقلبت همزته هاء، فيكون بمعنى المؤمن. والأول أولى. وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى، هو أعلم بتأويله، وأنشدوا في معناه:
جَلَّ الْمُهَيْمِنُ عَنْ صِفَاتِ عَبِيْدِهِ وَلَقَدْ تَعَالَى عَنْ عُقُولِ أُوْلِي النُّهَى
رَامُوا بِزَعْمِهِمُ صِفَاتِ مَلِيْكِهِمْ وَالْوَصْفُ يَعْجَزُ عَنْ مَلِيْكٍ لَا يُرَى
﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: القاهر، وقيل: الغالب الذي لا يغالب، وقيل: القوي. ﴿الْجَبَّارُ﴾: قال ابن عباس: الجبار هو العظيم،
(١) البحر المحيط.
(٢) الخازن.
165
وجبروت الله: عظمته. فعلى هذا (١): هو صفة ذات. وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم أصلحته بعد الكسر، يعني: الذي يغني الففير ويجبر الكسير. فعلى هذا هو صفة فعل. وهو سبحانه وتعالى كذلك، يجبر كل كسير ويغني كل فقير، وقيل: هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد. قال الفراء: من أجبره على الأمر.. قهره، قال: ولم أسمع فعالًا من أفعل إلا في جبار من أجبر، ودراك من أدرك. وسئل بعضهم عن معنى الجبّار، فقال: هو القهار الذي إذا أراد أمرًا.. فعله، لا يحجزه عنه حاجز. وقيل: الجبار هو الذي لا ينال ولا يدانى. والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم. وكذلك ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾ في صفة الناس صفة ذم؛ لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر والعلو، وذلك نقص في حقه؛ لأنه ليس له كبر وعلو، بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر.. كان كذابًا في فعله، فكان مذمومًا في حق الناس. وأما المتكبر في صفة الله تعالى.. فهو صفة مدح؛ لأن له جميع صفات العلو والعظمة، ولهذا قال في آخر الآية: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: تنزيهًا له تعالى عما يشركون به أو عن إشراكهم، فكأنه قيل: إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصًا في حقه، أما الله تعالى.. فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء، فإن أظهر ذلك.. كان ضم كمال إلى كمال. قال ابن عباس: المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء. وقيل: هو الذي تكبر عن كل سوء. وقيل: هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله. وقيل: هو المتكبر عن ظلم عباده. وقيل: الكبر والكبرياء: الامتناع. وقيل: هو ذو الكبرياء. وهو الملك سبحان الله عما يشركون؛ أي: من ادعاء الكبر لأنفسهم.
ومعنى الآية (٢): أي هو الله سبحانه، المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، المنزه عن كل عيب ونقص، الذي أمن خلقه أن يظلمهم، وهو الرقيب عليهم كما قال: ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، وقال: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾. والذي عزّ على كل شيء فقهره، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته، فلا تليق الجبروتية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته، كما ورد في "الصحيح": "العظمة إزاري والكبرياء ردائي. فمن نازعني واحدًا منهما عذّبته". تنزه ربنا عما
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
166
يقوله المشركون من الصاحبة والولد، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
ومعنى ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ...﴾ إلخ (١): سبحوا الله تسبيحًا، ونزهوه تنزيهًا عما يشركه الكفار به من المخلوقات. فالله تعالى أورده لإظهار كمال كبريانه، أو للتعجب من إثبات الشريك بعدما عاينوا آثار اتصافه بجلال الكبرياء وكمال العظمة.
٢٤ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود بحق في الوجود، كرره اعتناء بشأن التوحيد كما مر. ﴿الْخَالِقُ﴾؛ أي: المقدر (٢) للأشياء على مقتضى حكمته ووفق مشيئته. فإن أصل معنى الخلق: التقدير، يقال: خلق النعل إذا قدرها وسواها بمقياس، وإن شاع في معنى الإيجاد على تقدير واستواء، سواء كان من مادة، كخلق الإنسان من نطفة ونحوه، أو من غير مادة؛ كخلق السماوات والأرض. وخاصية هذا الاسم: أن يذكر في جوف الليل ساعة فما فوقها فيتنور قلب ذاكره ووجهه.
﴿الْبَارِئُ﴾؛ أي: الموجد للأشياء بريئةً من التفاوت، فإن البرء: الإيجاد على وجه يكون الموجد بريئًا من التفاوت والنقصان، عما يقتضيه التقدير على الحكمة البالغة والمصلحة الكاملة. وخاصية هذا الاسم: أن يذكره سبعة أيام متوالية، كل يوم مئة مرة للسلامة من الآفات. قال السهروردي: يفتح لذاكره أبواب الغنى والعز والسلامة من الآفات.
﴿الْمُصَوِّرُ﴾؛ أي: الموجد لصور الأشياء وكيفياتها وأشكالها وألوانها كما أراد، كما يصور الأولاد في الأرحام، بالشكل واللون المخصوص. فإن معنى التصوير: تخصيص الخلق بالصور المتميزة، والأشكال المتعينة، والألوان المتفرقة.
قال الراغب: الصورة ما تتميز به الأعيان عن غيرها. وهي: إما محسوسة؛ كصورة الإنسان وألوانه، واما معقولة؛ كالعقل وغيره من المعاني، انتهى.
وقوله - ﷺ -: "إن الله خلق آدم على صورته" أي: على صورة آدم؛ أي: على
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
167
الصورة المختصة به، أراد بالصورة: ما خص الإنسان به من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه.
يقول الفقير: الضمير المجرور في صورته يرجع إلى الله سبحانه لا إلى آدم، والصورة الإلهية عبارة عن الصفات السبع المرتبة، وهي: الحياة والعلم، والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام. وآدم مظهر هذه الصفات بالفعل، بخلاف سائر الموجودات. وإضافته إلى الله على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه بل على سبيل التشريف له كقوله: بيت الله، وناقة الله وروح الله.
وحاصل ما في المقام: أن الخالق هنا المقدر على الحكمة الملائمة لنظام العالم والبارىء الموجد على ذلك التقدير، والمصور المبدع لصور الكائنات وأشكال المحدثات بحيث يترتب عليها خواصهم ويتم بها كمالهم. وبهذا ظهر وجه الترتيب بينها. واستلزام التصورِ البَرءَ، والبرء: الخلق، استلزام الموقوف للموقوف عليه، كما قال الإِمام الغزالي رحمه الله تعالى: قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة، وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع. ولا ينبغي أن يكون كذلك، بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى التقدير أولًا، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيًا، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثًا. والله سبحانه وتعالى خالق من حيث إنه مقدر وبارىء من حيث إنه مخترع موجد، ومصور من حيث إنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب. وهذا كالبناء مثلًا، فإنه محتاج إلى مقدر يقدر ما لا بد منه من الخشب واللبن ومساحة الأرض وعدد الشقق والغرف وطولها وعرضها. وهذا يتولاه المهندس، فيرسمه ويصوره، ثم يحتاج إلى بنّاء يتولى الأعمال التي عندها تحدث وتحصل أصول الأبنية، ثم يحتاج إلى مزيِّن ينقش ظاهره، ويزين صورته، فيتولاه غير البناء. هذه العادة في التقدير والبناء والتصوير، وليس كذلك في أفعال الله تعالى، بل هو المقدر والوجد والمزين، فهو الخالق البارىء المصور.
فقدم ذكر (١) الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة والتقدير متقدمة على تأثير القدرة، وقدم البارىء على المصور؛ لأن إيجاد الذات متقدم على إيجاد الصفات والألوان. وخاصية الاسم المصور: الإعانة على الصنائع العجيبة وظهور الثمار
(١) روح البيان.
168
ونحوها، حتى إن العاقر إذا ذكرته في كل يوم إحدى وعشرين مرة على صوم بعدَ الغروب وقبل الإفطار سبعة أيام.. زال عقمها، وتصور الولد في رحمها بإذن الله تعالى.
وقرأ عليٌّ وحاطب بن أبي بلتعة، والحسن وابن السميع (١): ﴿المصوَّر﴾ بفتح الواو ونصب الراء، على أنه مفعول به للبارىء، وأراد به جنس المصور؛ أي: الذي برأ المصور؛ أي: ميزه. وروي عن علي: فتح الواو وكسر الراء، على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، ونحو: الضارب الغلام.
﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾؛ أي: الأسماء الدالة على المعاني الحسنة والصفات الكاملة. و ﴿الْحُسْنَى﴾ صيغة تفضيل؛ لأنها تأنيث الأحسن؛ كالعليا، في تأنيث الأعلى. وتوصيف الأسماء بها للزيادة المطلقة، إذ لا نسبة لأسمائه إلى أسماء الغير، كما لا نسبة لذاته إلى ذوات الغير، وأسماء الله تعالى تسعة وتسعون على ما ورد في الحديث، كما سردها الترمذي في "صحيحه".
واعلم: أنه قال العلماء: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع. والمسمى: هو المعنى الموضع له، والتسمية: وضع اللفظ له أو إطلاقه عليه. وإطلاق الاسم على الله تعالى توقيفي عند البعض، بحيث لا يصح إطلاق شيء منه عليه تعالى إلا بعد أن كان واردًا في القرآن أو الحديث الصحيح. وقال آخرون: كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وشأنه.. فهو جائز الإطلاق، إلا.. فلا.
ومن أدلة الأولين (٢): أن الله عالم بلا مرية، فيقال له: عالم، وعليم، وعلام؛ لوروده في الشرع، ولا يقال له: عارف أو فقيه أو متيقن، إلى غير ذلك مما يفيد معنى العلم.
ومن أدلة الآخرين: أن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية والهندية والأرُمية وغيرها، مع أنها لم ترد في القرآن والحديث ولا في الأخبار، وأن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها عليه بتلك اللغة، ومنها: أن الله تعالى قال: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾. والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
169
الكمال ونعوت الجلال، فكل اسم دل على هذه المعاني.. كان اسمًا حسنًا، وأنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا كانت المعاني صحيحة.. كان المنع من إطلاق اللفظ المفيد غير لائق به تعالى.
والمعنى: أي هو الله الخالق لجميع الأشياء، المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها، كما قال: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾. وله الصفات التي وصف بها نفسه، لا يشركه فيها أحد سواه.
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾؛ أي: ينزهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع ما فيهما، إما بلسان المقال أو بلسان الحال. أي: ينطق بتنزهه تعالى تنزهًا ظاهرًا عن جميع النقائص، وقد مر الكلام على هذا التسبيح مرارًا كثيرًا. وجمهور المحققين على أنه تسبيح عبارة، وهو لا ينافي تسبيح الإشارة، وكذا العكس.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب لغيره الذي لا يغالبه مغالب. ﴿الْحَكِيمُ﴾ في كل ما دبره في الأمور التي يقضي بها، وإنما مدح الله سبحانه نفسه بهذه الصفات العظام تعليمًا لعباده المدح له بصفاته العلى بعد فهم معانيها ومعرفة استحقاقه بذلك، طلبًا لزيادة تقربهم إليه.
قال أبو الليث في "تفسيره": فإن قال قائل: قد قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فما الحكمة في أن الله تعالى نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه؟ قيل له: عن هذا السؤال جوابان:
أحدهما: أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص، وإذا كان ناقصًا.. لا يجوز له أن يمدح نفسه، والله تعالى تام الملك والقدرة فيستوجب بهما المدح، فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه.
والجواب الآخر: أن العبد وإن كان فيه خصال الخير، فتلك إفضال من الله تعالى وإحسان منه، ولم يكن ذلك بقوة العبد وقدرته؛ فلهذا لا يجوز أن يمدح نفسه، ونظير هذا: أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف، وقد منّ على عباده للمعنى الذي ذكر في المدح.
قال بعض الكبار: تزكية الإنسان لنفسه سم قاتل، وهي من باب شهادة الزور؛
170
لجهله بمقامه عند الله، إلا أن يترتب على ذلك مصلحة دينية.. فللإنسان ذلك، كما قال - ﷺ -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر"، أي: لا أفتخر عليكم بالسيادة، إنما الفخر بالعبودية، والفخر بالذات لا يكون إلا لله وحده، وأما الفخر في عباده.. فإنما للرتب، فيقال: صفة العلم أفضل من صفة الجهل، ونحو ذلك.
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التعجبي، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد أو على أي مخاطب، مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه: حذف حرف العلة، ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿تَرَ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما جرى بين المنافقين واليهود. والرؤية هنا نظرية تتعدى بإلى ﴿نَافَقُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿يقُولونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة لبيان المتعجب منه، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة القول وتجدده. ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿يقُولونَ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة ﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾ وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: حال من ﴿إخوانهم﴾، ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ إلى توده: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ﴾: مقول محكي لـ ﴿يقُولونَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم بصيغة اسم الفاعل؛ أي: مؤذنة وممهدة للقسم؛ لأنها آذنت بأن ما بعدها جواب للقسم لا جواب للشرط ومهدته له. ﴿إنْ﴾ حرف شرط جازم، ﴿أُخْرِجْتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم، جريًا على القاعدة المشهورة عندهم من أنه إذا اجتمع شرط وقسم.. فالجواب للمتقدم منهما، وجواب المتأخر محذوف، تقديره: إن أخرجتم.. نخرج معكم. وجملة الشرط مع جوابه معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿لَنَخْرُجَنَّ﴾: ﴿اللام﴾ لام القسم مؤكدة للأولى، ﴿نخرجن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على المنافقين، تقديره: نحن. ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف مضاف متعلق
171
بـ ﴿نخرجن﴾، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾.
﴿وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لا﴾: نافية، ﴿نُطِيعُ﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، ﴿فِيكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نُطِيعُ﴾ ولكنه على حذف مضاف؛ أي: في خذلانكم. ﴿أَحَدًا﴾: مفعول به، ﴿أَبَدًا﴾: ظرف للنفي، متعلق بـ ﴿نُطِيعُ﴾ أيضًا، والجملة الفعلية معطوفة على ﴿نخرجن﴾ على كونها جواب القسم. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنْ﴾: حرف شرط جازم، ﴿قُوتِلْتُمْ﴾: فعل، ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: ننصركم. وجملة الشرط - أيضًا - معترضة بين القسم المقدر قبلها وجوابه، لا محل لها من الإعراب. ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿ننصرن﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على المنافقين، و ﴿الكاف﴾: مفعول به، والجملة جواب للقسم المقدر قبل ﴿إن﴾ الشرطية، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على القسم المذكور قبله على كونه مقولًا لـ ﴿يَقُولونَ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَشْهَدُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَكَاذِبُونَ﴾: خبره، و ﴿اللام﴾ لام الابتداء مزحلقة عن محلها، ولأجلها كسرت همزة ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مفعول ﴿يَشْهَدُ﴾؛ لأنه في معنى القول.
﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١٢)﴾.
﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿أُخْرِجُوا﴾: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: إن أخرجوا.. لا يخرجون معهم. وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية معترضة بين القسم وجوابه. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَخرُجُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿مَعَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا
172
محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إنْ﴾ حرف شرط ﴿قُوتِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن قوتلوا.. لا ينصرونهم. وجملة الشرط معترض. ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَنْصُرُونَهُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول، والجملة جواب القَسم، وجملة القَسم معطوفة على القَسم المذكور قبله. ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿نَصَرُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: وإن نصروهم.. يولون الأدبار، وجملة الشرط معترضة، ﴿لَيُوَلُّنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿يُوَلُّنَّ﴾: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل، ﴿الْأَدْبَارَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم معطوفة على جملة القسم المذكور قبله. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُنْصَرُونَ﴾: فعل مضارع، ونائب فاعل مرفوع بالنون، معطوف على ﴿يُوَلُّنَّ﴾.
﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (١٣)﴾.
﴿لَأَنْتُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿أنتم﴾ مبتدأ، ﴿أشَدُّ﴾: خبره، ﴿رَهْبَةً﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾ صفة لرهبة، أو متعلق به، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَشَدُّ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: خبره، والجملة مستأنفة، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿قَوْمٌ﴾: خبره، وجملة ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٌ﴾، وجملة ﴿أنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم فقههم لمصالحهم الدينية والدنيوية.
﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (١٤)﴾.
﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل ومفعول به، وضمير الفاعل يعود على اليهود، والجملة مستأنفة. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من فاعل ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾؛ أي:
173
مجتمعين. ﴿إلا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿فِي قُرًى﴾: متعلق بـ ﴿يُقَاتِلُونَكُمْ﴾، ﴿مُحَصَّنَةٍ﴾: صفة لقرى، ﴿أو﴾ حرف عطف وتفصيل، ﴿مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على قوبه: ﴿فِي قُرًى﴾. ﴿بَأْسُهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿شَدِيدٌ﴾، و ﴿شَدِيدٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالهم. ﴿تَحْسَبُهُمْ﴾: فعل مضارع من أخوات ظن، وفاعل مستتر يعود على محمد مثلًا، ومفعول أول، ﴿جَمِيعًا﴾: مفعول ثان، والجملة مستأنفة، ﴿وَقُلُوبُهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قلوبهم﴾: مبتدأ، ﴿شَتَّى﴾: خبره، والجملة في محل النصب حال من الهاء في ﴿تَحْسَبُهُمْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: خبر، والجملة مستأنفة، ﴿أنهم﴾: ناصب واسمه، ﴿قَوْمٌ﴾ خبره، وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾: صفة قوم، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾، تقديره: ذلك كائن بسبب عدم عقلهم.
﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٥)﴾.
﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثلهم كائن كمثل الذين إلخ. والجملة مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: صلة ﴿الَّذِينَ﴾، ﴿قَرِيبًا﴾: ظرف متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾. ولك أن تعلقه بـ ﴿ذَاقُوا﴾ المذكور بعده. وعلقه الزمخشري بمضاف مقدر في الخبر؛ أي: كوجوه مثل الذين من قبلهم. أي: مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل كمثل أهل مكة فيما وقع لهم يوم بدر قريبًا من الهزيمة والقتل والأسر. ﴿ذَاقُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿الَّذِينَ﴾، أو من الضمير المستكن في الصلة. ﴿وَلَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لهم﴾: خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (١٦)﴾.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كائن ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ﴾، والجملة مستأنفة ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر. ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه
174
حال من ﴿مثل الشيطان﴾ كأنه بيان له. وجملة ﴿قَالَ﴾ في محل الخفض بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليه، ﴿لِلْإِنْسَانِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿اكْفُرْ﴾ مقول لـ ﴿قال﴾، ﴿فَلَمَّا كَفَرَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فكفر، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كَفَرَ﴾: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على الإنسان، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماضي، وفاعل مستتر يعود على الشيطان، والجملة جواب الشرط لـ ﴿لما﴾. وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك المحذوفة، ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾. وإن شئت قلت: ﴿إِنِّي بَرِيءٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، ﴿مِنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾: خبره ﴿رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾: صفة للجلالة أو بدل منه، وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ أيضًا.
﴿فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)﴾.
﴿فَكَانَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، ﴿عَاقِبَتَهُمَا﴾: خبرها المقدم؛ أي: عاقبة المناوي والمغوي. ﴿أَنَّهُمَا﴾: ناصب واسمه، ﴿فِي النَّارِ﴾: خبره، ﴿خَالِدَيْنِ﴾: حال من الضمير المستكن في خبر ﴿أن﴾. أعني: الجار والمجرور. وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على أنه اسم كان مؤخر، تقديره: فكان كونهما في النار خالدين فيها عاقبتهما، وجملة ﴿كان﴾ معطوفة على جملة ﴿لما﴾. وقرىء ﴿عاقبتُهما﴾ بالرفع على أنه هو الاسم. و ﴿أن﴾ وما في حيزها هو الخبر. ﴿فِيهَا﴾ متعلقان بـ: خالدين ﴿وَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ذلك﴾: مبتدأ، ﴿جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾: خبر، ومضاف إليه. والجملة مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة أي، وجملة النداء مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلْتَنْظُرْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: لام الأمر، ﴿تنظر﴾:
175
فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ﴿نَفْسٌ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿تنظر﴾ وجملة ﴿قَدَّمَتْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما قدمته. ﴿لِغَدٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدَّمَتْ﴾، وأطلق الغد على يوم القيامة تقريبًا له. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على اتقوا الأول. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبره، ﴿بِمَا﴾؛ متعلق بخبير، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة أو المصدرية. وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالتقوى.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (١٩) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكُونُوا﴾: فعل مضارع ناقص، واسمه مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿كَالَّذِينَ﴾: خبر تكونوا، وجملة النهي معطوفة على جملة ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، وجملة ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾: صلة الموصول، ﴿فَأَنْسَاهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أنساهم﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾ ومفعول به أول، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾؛ مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَسُوا اللَّهَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾ ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، ﴿الْفَاسِقُونَ﴾: خبر المبتدأ، أو خبر ﴿هُمُ﴾، والجملة خبر ﴿أُولَئِكَ﴾، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَسْتَوِي﴾: فعل مضارع، ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ فاعل، ومضاف إليه ﴿وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ معطوفة على ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، أو مبتدأ ثان، ﴿الْفَائِزُونَ﴾: خبر المبتدأ، أو خبر ﴿هُمُ﴾. والجملة مستأنفة.
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)﴾.
﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿هَذَا﴾: مفعول به، ﴿الْقُرْآنَ﴾: بدل منه، ﴿عَلَى جَبَلٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾، ﴿لَرَأَيْتَهُ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية، ﴿رأيته﴾، فعل وفاعل ومفعول، ﴿خَاشِعًا﴾: مفعول ثان أو حال؛ لأن الرؤية تحتمل القلبية والبصرية.
176
﴿مُتَصَدِّعًا﴾: نعت لـ ﴿خَاشِعًا﴾ أو حال ثانية ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿مُتَصَدِّعًا﴾، وجملة رأى جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَتِلْكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿تلك﴾: مبتدأ، ﴿الْأَمْثَالُ﴾: بدل، وجملة ﴿نَضْرِبُهَا﴾: خبر، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿نَضْرِبُهَا﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (٢٢)﴾.
﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿اللَّهُ﴾: خبر أول، والجملة مستأنفة، ﴿الَّذِي﴾: نعت للجلالة، ﴿لَا﴾: نافية لجنس الخبر تعمل عمل إن، ﴿إِلَهَ﴾: في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف جوازًا، تقديره: موجود، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع، بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾ المحذوف، وجملة إلا من اسمها، وخبرها صلة الذي. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾: خبر ثان لـ ﴿هو﴾. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف على ﴿الْغَيْبِ﴾، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿الرَّحْمَنُ﴾: خبر أول له، ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر ثان به. والجملة مستأنفة.
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)﴾.
﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿اللَّهُ﴾: خبر، ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. والجملة الابتدائية مستأنفة، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ صلة ﴿الَّذِي﴾. ﴿الْمَلِكُ﴾: خبر ثان لـ ﴿هو﴾، ﴿الْقُدُّوسُ﴾: خبر ثالث، ﴿السَّلَامُ﴾: خبر رابع، ﴿الْمُؤْمِنُ﴾: خبر خامس، ﴿الْمُهَيْمِنُ﴾: خبر سادس، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر سابع، ﴿الْجَبَّارُ﴾: خبر ثامن، ﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾: خبر تاسع، ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: أسبّح الله سبحانًا، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿سُبْحَانَ﴾، وجملة ﴿يُشْرِكُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: عن الذي يشركونه به، أو لما المصدرية. أي: عن إشراكهم. ﴿هُوَ اللَّهُ﴾: مبتدأ وخبر،
177
والجملة مستأنفة. كرره اعتناءً بالتوحيد، ﴿الْخَالِقُ﴾: خبر ثان لـ ﴿هُوَ﴾ ﴿الْبَارِئُ﴾: خبر ثالث، ﴿الْمُصَوِّرُ﴾: خبر رابع، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿الْأَسْمَاءُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْحُسْنَى﴾: صفة للأسماء. والحسنى ضد السوءى. والجملة مستأنفة. ﴿يُسَبِّحُ﴾: فعل مضارع، ﴿لَهُ﴾ متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿في السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوفة على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿هو﴾: مبتدأ، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول له، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾؛ أي: أظهروا غير ما أضمروا، وبالغوا في إخفاء عقائدهم. قال الراغب: النفق: الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ، ومنه: نافقاء اليربوع، وقد نافق اليربوع، ونفق، ومنه: النفاق، وهو: الدخول في الشرع في باب والخروج عنه من باب نبه على هذا بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الخارجون عن الشرع.
﴿لِإِخْوَانِهِمُ﴾: جمع أخ في الذين، أو الصداقة، أو المعاملة. وأما الأخ من النسب فجمعه: إخوة. ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾: و ﴿اللام﴾: فيه موطئة للقسم بصيغة اسم الفاعل المؤنث؛ أي: مؤذنة بأن الجواب بعدها مبني على قسم مقدر قبلها، لا مبني على الشرط المذكور تقديره: والله لئن أخرجتم إلخ. ومن ثم تسمى: اللام المؤذنة، والموطئة، والممهدة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم؛ أي: مهدته وهيأته له. ﴿وَإِنْ قُوتِلْتُمْ﴾: أصله، وإن قاتلوكم، ولما ضم أول الفعل لبنائه للمجهول قلبت الألف واوًا. ﴿لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾: أي لنعاوننكم. ﴿وَلَئِنْ قُوتِلُوا﴾: الواو فيه مبدلة من ألف فاعل، أصله: قاتلوا. فلما بني الفعل للمجهول وضم أوله قلبت الألف واوًا لمناسبة الضمة. ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾: أصله ليوليونن، بثلاث نونات: الأولى نون الرفع، ثم نون التوكيد الثقيلة التي بمنزلة نونين، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار اللفظ: ليوليون، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فصار: ليولين، فاستثقلت الضمة على الياء، ثم نقلت إلى ما قبلها، فالتقى ساكنان، فحذفت فصار وزنه: يفعن؛ أي: ليفرن هاربين. ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ والرهبة: مخافة مع تحزن واضطراب،
178
وهي هنا مصدر من رهب المبني للمفعول. أي: أشد مرهوبية. وذلك لأن ﴿أَنْتُمْ﴾ خطاب للمسلمين، والخوف ليس واقعًا منهم بل من المنافقين، فالمخاطبون مرهوبون غير خائفين.
﴿إِلَّا فِي قُرًى﴾: جمع قرية، وهي مجتمع الناس للتوطن، وأصله: قري، بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف وصلًا لالتقائها ساكنة بنون التنوين. ﴿مُحَصَّنَةٍ﴾؛ أي: محكمة بالدروب، والأبواب الواسعة، والخنادق، وما أشبه ذلك. أو محفوظة بالسوْر. ﴿أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾: جمع جدار، وهو كما مر كالحائط إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار يقال اعتبارًا بالنتو والارتفاع، ولذا قيل: حيدر الشجر، إذا خرج ورقه كأنه حمص، وجدر الصبي إذا خرج جدريه، تشبيهًا بجدر الشجر.
﴿وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾: جمع شتيت، كمرضى جمع مريض. يقال: ست يشت شتًا، وشتاتًا وشتيتًا: فرق وافترق كانشت وتشتت، وجاؤوا أشتاتًا؛ أي: متفرقين في النظام، والعامة في ﴿شَتَّى﴾ بلا تنوين؛ لأنها ألف تأنيث. ﴿ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ ﴿ذَاقُوا﴾ فيه القلب، أصله: ذوقوا، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح. قال الراغب: الوبل والوابل: المطر الثقيل القطار، ولمراعاة الثقل قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال. وطعام وبيل. ﴿أَمْرِهِمْ﴾: والأمر واحد الأمور لا الأوامر. أي: ذاقوا سوء عاقبة كفرهم. ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾ يقال: برىء يبرأ فهو بريء، وأصل البرء والبراءة، والتبري: التقصي مما يكره مجاورته.
﴿لِغَدٍ﴾؛ أي: ليوم القيامة سمي بذلك لقربه، فكل آت قريب، كما قال:
وَإِنَّ غَدًا لِنَاظِرِهِ قَرِيْبُ
وأصله: غدو، حذفوا الواو بلا عوض، واستشهد عليه بقول لبيد:
وَمَا النَّاسُ إلَّا كَالدِّيَارِ وَأَهْلِهَا بِهَا يَوْمَ حَلَّوُها وَغَدْوًا بَلاقِعُ
إذ جاء به على أصله، والبيت من أبيات العبرة.
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾: أصل ﴿تَكُونُوا﴾: تكونون، بوزن تفعلون، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت إثر ضمة فصارت حرف مد. ثم حذفت نون الرفع
179
للجازم. ﴿كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾: أصله: نسيوا، بوزن فعلوا، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم حذفت لما التقت ساكنة بواو الجماعة، وضمت السين لمناسبة الواو. ﴿فَأَنْسَاهُمْ﴾: فيه إعلال بالقلب، أصله: أنسيهم، بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: الألف في ﴿النَّارِ﴾ منقلبة عن واو لتصغيرها على نويرة.
﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾: جمع فائز، وفيه إعلال بالإبدال، أصله: الفاوزون، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على الفعل فاز في الإعلال، حيث أعلّ فاز بقلب الواو ألفًا. ﴿عَلَى جَبَلٍ﴾ من الجبال، وهو محركًا كل وتد للأرض عظم وطال، فإن انفرد.. فأكمة وقنة - بضم القاف - قيل: عدد جبال الدنيا ستة آلاف وست مئة وثلاثة وسبعون جبلًا سوى التلال، كما في "زهرة الرياض" ﴿لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا﴾؛ أي: خاضعًا منقادًا متذللًا. قال بعضم: الخشوع: انقياد الباطن للحق، والخضوع: انقياد الظاهر له. وقال بعضهم: الخضوع في البدن، والخشوع في الصوت والبصر. قال الراغب: الخشوع: الضراعة، وأكثر ما يستعمل فيما يوجد في الجوارح، والضراعة أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب. ولذلك قيل فيما روي: إذا ضرع القلب.. خشعت الجوارح. ﴿مُتَصَدِّعًا﴾؛ أي: متشققًا ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾؛ أي: من خوفه أن تعصيه فيعاقبه. والصدع: شق في الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد ونحوها، ومنه استعير الصداع، وهو: الانشقاق في الرأس من الوجع.
﴿الْغَيْبِ﴾: ما غاب عن الحس من العوالم التي لا نراها. ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها. ﴿الْقُدُّوسُ﴾: المنزه عن النقص. قال بعضهم: حقيقة القدس: الاعتلاء عن قبول التغير، ومنه: الأرض المقدسة؛ لأنها لا تتغير بملك الكافر كما يتغير غيرها من الأرضين. وأتبع هذا الاسم اسم الملك لما يعرض للملوك من تغير أحوالهم بالجور والظلم والاعتداء في الأحكام وفيما يترتب عليها. فإن ملكه تعالى لا يعرض له ما يغيره؛ لاستحالة ذلك في وصفه. ﴿السَّلَامُ﴾؛ أي: الذي سلم الخلق من ظلمه، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم. ﴿الْمُؤْمِنُ﴾؛ أي؛ واهب الأمن. فكل مخلوق يعيش في أمن، فالطائر في جوه، والحية في وكرها، والسمك في البحر تعيش كذلك، ولا يعيش قوم على الأرض ما
180
لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم، وإلا.. هلكوا. ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على أمره. قال بعضهم: مِنْ عز، إذا غلب، فمرجعه القدرة المتعالية عن المعارضة والممانعة. أو من عن عزازة، إذا قل، فالمراد: عدم المثل، كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
﴿الْجَبَّارُ﴾؛ أي: الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه أي: قهرهم وأكرههم عليه. أو جبر أحوالهم أي: أصلحها. فعلى هذا يكون الجبار من الثلاثي لا من الإفعال. وجبر بمعنى أجبر لغة تميم وكثير من الحجازيين. واستدل بورود الجبار من يقول: إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثي، فإنه من أجبره على كذا أي: قهره. وقال الفراء: لم أسمع فعالًا من أفعل إلا في جبار ودراك، فإنهما من أجبر وأدرك.
﴿الْمُتَكَبِّرُ﴾؛ أي: الذي تكبر وتعظم عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانًا، أو البليغ الكبرياء والعظمة. يعني: أن صيغة التفعل للتكلف بما لم يكن، فإذا قيل: تكبر وتسخى.. يدل على أنه يري ويظهر الكبر والسخاء، وليس بكبير ولا سخي. والتكلف بما لم يكن كان مستحيلًا في حق الله تعالى، وحمل على لازمه، وهو: أن يكون ما قام به من الفعل على أتم ما يكون وأكمله من غير أن يكون هناك تكلف واعتمال حقيقة. ومنه: ترحمت على إبراهيم؛ بمعنى: رحمته كمال الرحمة وأتممتها عليه. فإذا قيل: إنه تعالى متكبر.. كان المعنى: إنه البالغ في الكبر والعظمة أقصى المراتب.
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: تنزه ربنا عما يصفه به المشركون. ﴿الْخَالِقُ﴾؛ أي: المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة. ﴿الْبَارِئُ﴾؛ أي: المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له. ﴿الْمُصَوِّرُ﴾؛ أي: الموجد للأشياء على صورها، ومختلف أشكالها، وألوانها كما أراد. فالتصوير آخرًا، والتقدير أولًا، والبرء بينهما. اهـ. "كرخي". وفي "المختار": وبرأ الله الخلق، من باب قطع؛ أي: خلقها. وفي "المصباح": وأصل الخلق: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته له. اهـ.
﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾؛ أي: الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود. فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته،
181
وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف. ﴿الْحُسْنَى﴾: مؤنث الأحسن، الذي هو أفعل تفضيل، لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء. وفي "القاموس": ولا تقل رجل أحسن في مقابلة امرأة حسناء، وعكسه غلام أمرد، ولا يقال: جارية مرداء وإنما يقال: هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل، وجمعه: أحاسن. و ﴿الْحُسْنَى﴾: بضم الحاء والقصر: ضد السوءى. اهـ. وفي "البحر" في سورة الأعراف عند قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ ما نصه: قال الزمخشري: ولله الأسماء الحسنى التي هي أحسن الأسماء؛ لأنها تدل على معان حسنة، من تحميد وتقديس وغير ذلك. اهـ. فالحسنى هنا تأنيث الأحسن، ووَصَفَ الجَمْعَ الذي لا يَعقِلُ بما توصف به الواحدة، كقوله: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾، وهو فصيح، ولو جاء على المطابقة للجمع.. لكان التركيب: الحُسَنَ، على وزن الأُخَرَ؛ كقوله: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾. لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه، ويوصف بجمع المؤنث وإن كان المفرد مذكرًا. اهـ.
تتمة: ونقل صاحب "اللباب" عن الإِمام الرازي أنه قال: رأيت في بعض كتب الذِّكر أن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة، وألف منها في الإنجيل، وألف منها في الزبور. اهـ. فلعل كونها تسعة وتسعين بالنظر إلى الأشهر الأشرف الأجمع. وتعدد الأسماء لا يدل على تعدد المسمى؛ لأن الواحد يسمى أبًا من وجه، وجدًا من وجه، وخالًا من وجه، وعالمًا من وجه، وكريمًا من وجه، وشجاعًا من وجه وذاته متحدة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام التقريري التعجبي في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ﴾ للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته الماضية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ﴾؛ لأنه كناية عن الانهزام الملزوم لتولية الأدبار.
182
ومنها: الإطناب، بتكرار القسم في قوله: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ﴾ إلى آخر القسمات المذكورة هنا لغرض تأكيد الكلام.
ومنها: حذف جواب الشرط في كل القسمات المذكورة اختصارًا لدلالة جواب القسم عليه.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً﴾ لما فيه من إسناد ما للمفعول إلى الفاعل؛ لأن المخاطبين - وهم المسلمون - مرهوبون لا راهبون.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ﴾؛ لأن الظرف متعلق بـ ﴿شَدِيدٌ﴾، فتقديم المعمول على عامله يفيد الحصر.
ومنها: الطباق بين ﴿جَمِيعًا﴾ و ﴿شَتَّى﴾ في قوله: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾.
ومنها: ما في هذه الآية من اللطائف والنكت، وهو تشجيع قلوب المؤمنين على قتالهم، وتجسير لهم، وأن اللائق بهم الاتفاق والاتحاد صورة ومعنى، كما كان المؤمنون متفقين في عهد النبي - ﷺ -.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾؛ لأن الكفر مجاز عن الإغواء والإغراء، ففيه إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن الإغواء سبب للكفر.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾، حيث استعار الغد الذي هو اسم لليوم الذي بعد يومك ليوم القيامة بجامع القرب في كل، وإن كان القرب في يوم القيامة مجازيًا؛ لأن كل آتٍ قريب.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ﴾ وجه الشبه منتزع من أمور متعددة.
ومنها: الإتيان بضمير الفصل في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ إفادة للحصر؛ لأنه يستفاد منه: أن فسقهم كان بحيث إن فسق الغير كأنه ليس بفسق بالنسبة إليه.
ومنها: تقديم أصحاب النار في قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ على أصحاب الجنة للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء
183
من جهتهم لا من جهة مقابليهم، كما مر في مبحث التفسير مبسوطًا.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: نسوا حقوق الله تعالى، فأنساهم حظوظ أنفسهم.
ومنها: الطباق بين أصحاب النار وأصحاب الجنة في قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ إلخ، وبين الجنة والنار أيضًا، وبين الغيب والشهادة في قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ﴾؛ لأن لفظ المثل صار حقيقة عرفية في القول السائر، ثم استعير هنا لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشأن تشبيهًا له بالقول السائر في الغرابة؛ لأنه لا يخلو عن غرابة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
184
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من المقاصد والأغراض
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - تنزيه الله لنفسه عن كل نقص.
٢ - ذكر غلبة الله ورسوله لأعدائه.
٣ - تقسيم الفيء الذي أخذ من بني النضير مع ذكر المصارف التي يوضع فيها.
٤ - أخلاق المنافقين المضلين، وأخلاق أهل الكتاب الضالين مع ضرب المثل لهم.
٥ - ذكر نصائح للمؤمنين.
٦ - إعظام شأن القرآن، وإجلال قدره.
٧ - وصف الله سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تم تفسير هذه السورة الكريمة بعون الله وتوفيقه قبيل صلاة المغرب من اليوم التاسع والعشرين من شهر شوال، يوم الخميس من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمسة عشر من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
185
سورة الممتحنة
سورة الممتحنة مدنية، نزلت بعد الأحزاب، قال القرطبي: في قول الجميع، وأخرج (١) ابن الضريس والنحاس وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. والممتحنة - بكسر الحاء - اسم فاعل، أضيف الفعل إليها مجازًا، كما سميت: سورة براءة، والفاضحة؛ لكشفها عن عيوب المنافقين. وقيل: الممتحَنة - بفتح الحاء - اسم مفعول، أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ...﴾ الآية. وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، والدة إبراهيم بن عبد الرحمن. اهـ. "قرطبي". وفي "زاده": الممتحِنة - بكسر الحاء -: المختبرة، أضيفت السورة إلى الجماعة الممتحنة من حيث إنه ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء.. يكون المعنى: سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان. اهـ.
وآياتها: ثلاث عشرة آية، وكلماتها: ثلاث مئة وثمان وأربعون كلمة، وحروفها: ألف وخمس مئة وعشر.
تسميتها: تسمى سورة الممتحنة كما مرّ لذكر الامتحان فيها. وتسمى (٢) سورة براءة، وسورة المبعثرة، وسورة الفاضحة.
مناسبتها لما قبلها من وجهين (٣):
١ - أنه ذكر في السابقة موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر هنا نهي المؤمنين عن انخاذ الكفار أولياء لئلا يشبهوا المنافقين.
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
186
٢ - أنه ذكر في السابقة المعاهدين من أهل الكتاب، وذكر هنا المعاهدين من المشركين.
وعبارة أبي حيان هنا (١): ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودد إليهم. انتهت.
الناسخ والمنسوخ فيها: قال ابن حزم (٢): سورة الممتحنة فيها من المنسوخ ثلاث آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ...﴾ الآية (٨)، نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ...﴾ الآية (٩). وهذا مما نسخ فيه العموم بتفسير الخصوص.
الثانية: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ...﴾ الآية (١٠)، فنسخت بقوله تعالى: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ...﴾ الآية (١٠). وقيل: نسخت بقوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية.
الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ...﴾ إلى قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ...﴾ الآية (١١)، نسخت بآية السيف.
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما روي (٣) عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة الممتحنة.. كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاءَ يوم القيامة". ذكره "البيضاوي" ولكن هذا حديث لا أصل له.
فائدة: في ذكر تسمية هذه السورة بالممتحنة - بكسر الحاء - على صيغة اسم الفاعل: لعل (٤) هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى فيما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾. أمر الله المؤمنين هناك بالامتحان، فهم الممتحنون - بكسر الحاء - حقيقة، وأضيف الامتحان إلى السورة مجازًا، فسميت بسورة الممتحنة للمبالغة. ويحتمل أن يكون المراد الجماعة
(١) البحر المحيط.
(٢) ابن حزم.
(٣) البيضاوي.
(٤) روح البيان بتصرف.
187
الممتحنة؛ أي: المأمور بامتحانها. ويؤيده ما روي: أنه قد تفتح الحاء، فيكون المراد النساء المختبرة، فالإضافة بمعنى اللام التخصيصية؛ أي: السورة التي تذكر فها النساء الممتحنة؛ أي: المختبرة، مثل: سورة البقرة وأمثالها. ويحتمل أن يكون مصدرًا ميميًا بمعنى الامتحان، على ما هو المشهور من أن المصدر الميمي وأسماء المفعول والزمان والمكان فيما زاد على الثلاثي تكون على صيغة واحدة؛ أي: سورة الامتحان، مثل سورة الإسراء وغيرها. انتهى من "الروح".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
188

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)﴾.
المناسبة
قد سبق لك قريبًا بيان المناسبة بين هذه السورة والسابقة. وأما قوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ...﴾ الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى لما أنكر عليهم موالاتهم للكافرين، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك؛ كإخراجهم من الديار، وتمني الكفر لم، وصدهم عن هداية الدِّين، وكفرهم بالرسول وبما جاء به، وأنهم متى وجدوا سبيلًا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى.. أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم
(١) المراغي.
189
وأصحابه؛ إذ تبرؤوا من قومهم وعادوهم، وقالوا لهم: ﴿إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾. قال الفراء فكأنه يقول: أفلا تأسيت - يا حاطب - بإبراهيم حين تبرأ من أهله، ولتعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرا الإيمان.
قوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه حملهم ذلك على أن يظهروا براءتهم من أقربائهم والتشدد في معاداتهم ومقاطعتهم، وكان ذلك عزيزًا على نفوسهم ويتمنون أن يجدوا المخلص منه.. أردف ذلك سبحانه أنه سيغير من طباع المشركين ويغرس في قلوبهم محبة الإِسلام، فيتم التواد والتصافي بينكم وبينهم، وفي ذلك إزالة الوحشة من قلوب المؤمنين، وتطييب لقلوبهم. وقد أنجز الله وعده، فأتاح للمسلمين فتح مكة، فأسلم قومهم وتمّ لهم ما كانوا يريدون من التحاب والتواد. ثم رخص لهم في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يظاهروا على إخراجهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: أن سارة - التي كانت مغنية ونائحة بمكَّة - أتت المدينة تشكو الحاجة، فأمر رسول الله - ﷺ - بني عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها، فأعطوها نفقة وكسوة وحملوها، فجاءها حاطب بن أبي بلتعة - مولى عبد الله بن حميد بن عبد العزى - فأعطاها عشرة دنانير، وكتب معها كتابًا - إلى أهل مكة، هذا صورته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله - ﷺ - يريدكم، فخذوا حذركم. فأخبره جبرئيل به، فبعث إليها عليًا وعمارًا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرشد - وكانوا فرسانًا - وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ - موضع - فإن بها ظعينة امرأة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت.. فاضربوا عنقها. فأدركوها، فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع، فقال علي: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله - ﷺ -، وسل سيفه وقال لها: أخرجي الكتاب أو ألقي ما معك من الثياب، فأخرجته من
190
Icon